اسم المؤلف: د. وَهْبَة بن مصطفى الزُّحَيْلِيّ
المهنة:أستاذ ورئيس قسم الفقه الإسلاميّ وأصوله بجامعة دمشق - كلّيَّة الشَّريعة
الوفاة 8 أغسطس 2015 الموافق 23 شوال 1436 هـ
عدد الأجزاء: 10
التصنيف: الفقه المقارن
المحتويات
- المبحث الخامس - أركان الحج
- أركان الحج
- أركان العمرة
- المطلب الأول ـ الإحرام
- أولا - مايصير به الشخص محرما
- ثانيا ـ صفة الإحرام تعيينا وإطلاقا وإحالة واشتراطا
- تعليق الإحرام أو الإحرام بما أحرم به فلان أو إبهام الإحرام
- حكم نسيان ما عينه
- الاشتراط في الإحرام
- من أحرم بحجتين أو عمرتين
- ثالثا ـ مكان الإحرام وزمانه
- رابعا ـ ما يفعله مريد الإحرام
- خامسا ـ ما يحرم به من حج أو عمرة أو بهما
- المفرد بالحج
- المتمتع
- القارن
- الحنفية
- اختلف فقهاء المذاهب في الأفضل من هذه الأوجه
- المالكية والشافعية
- الحنابلة
- سادسا ـ إضافة الإحرام إلى الإحرام
- إضافة الإحرام إلى الإحرام
- قال الحنفية
- ١ - ضم الحج إلى العمرة
- ٢ - ضم الحج لحجة أخرى
- ٣ - ضم العمرة إلى العمرة
- ٤ - ضم العمرة إلى الحج
- رأي الجمهور في إدخال الحج على العمرة وبالعكس
- فسخ الحج إلى العمرة
- المطلب الثاني ـ الطواف
- أولا ـ أنواع الطواف وحكم كل نوع
- طواف القدوم
- طواف الإفاضة أوالزيارة
- طواف الوداع
- جزاء ترك الوداع
- شرائطه
- شرائط الوجوب
- شرطا صحة
- قدره وكيفيته وسننه
- وقته
- مكانه
- صلاة ركعتين، والوقوف في الملتزم والحطيم والدعاء وشرب ماء زمزم وتقبيل الحجر بعد طواف الوداع
- كيفية الرجوع
- أخذ شيء من الحرم
- ثانيا ـ شروط الطواف أو واجباته
- شروط الطواف عند الحنفية
- شروط الطواف عند المالكية
- واجبات الطواف عند الشافعية
- شروط الطواف عند الحنابلة
- خلاصة آراء الفقهاء في شروط الطواف
- حج المرأة الحائض
- ثالثا ـ سنن الطواف
- المطلب الثالث ـ السعي
- المطلب الرابع ـ الوقوف بعرفة
- أولا ـ حكم الوقوف بعرفة
- ثانيا ـ مكان الوقوف
- حد عرفة
- ثالثا ـ زمان الوقوف
- رابعا ـ مقدار الوقوف
- خامسا ـ حكم الحاج إذا فاته الوقوف
- سادسا ـ سنن الوقوف بعرفة وآدابه
- سنن الوقوف وآدابه
- العودة إلي الفقه الإسلامي وأدلته للزحيلي
المبحث الخامس - أركان الحج والعمرة:
أركان الحج:
عرفنا أن للحج عند الحنفية ركنين فقط هما: الوقوف بعرفة وطواف الإفاضة. وأركان
الحج عند المالكية والحنابلة أربعة: الإحرام والوقوف بعرفة، وطواف الإفاضة،
والسعي. وأركانه عند الشافعية خمسة: الإحرام، والوقوف بعرفة، والطواف والسعي،
والحلق أو التقصير.
أركان العمرة:
ركن العمرة عند الحنفية: الطواف بالبيت.
وللعمرة عند المالكية والحنابلة
أركان ثلاثة: الإحرام، والطواف، والسعي.
وأركانها عند الشافعية أربعة:
الإحرام والطواف والسعي والحلق أو التقصير.
ويلاحظ أن الحلق أو التقصير
عند الجمهور غير الشافعية واجب لا ركن.
وأبحث هذه الأمور تفصيلًا:
المطلب الأول - الإحرام:
حقيقته: الدخول في الحرمة، والمراد هنا نية الدخول في النسك من حج أو
عمرة، أو الدخول في حرمات مخصوصة أي التزامها. وإذا تم الإحرام لا يخرج عنه إلا
بعمل النسك الذي أحرم به، فإن أفسده وجب قضاؤه، وإن فاته الوقوف بعرفة أتمه
عمرة، وإن أحصر أي منع عن إكماله، ذبح هديًا وقضاه.
والكلام فيه يشمل ما
يصير به الشخص محرمًا، صفة الإحرام، والإحرام كإحرام فلان، مكان الإحرام
وزمانه، ومايفعله مريد الإحرام، ومايحرم به من
حج أو عمرة أو
بهما، وإضافة الإحرام إلى الإحرام، وإدخال العمرة على الحج وعلى العكس، وفسخ
الإحرام.
أولًا - مايصير به الشخص محرمًا:
لا خلاف في أنه إذا نوى حجًا أو عمرة، وقرن النية بقول أو فعل من خصائص
الإحرام، يصير محرمًا، بأن لبى ناويًا به الحج، أو العمرة، أو بهما معًا.
ولا
خلاف بين الشافعية والحنابلة وفي الأرجح عند المالكية أن الإحرام ينعقد بمجرد
النية، لكن يلزمه عند المالكية دم في ترك التلبية، والتجرد من المخيط ونحوه،
حين النية. أما قرن النية بقول أو فعل، فقال الحنفية:
لا يصيرشارعًا في
الإحرام بمجرد النية، ما لم يأتِ بالتلبية، أي أن الإحرام لايثبت بمجرد النية
ما لم يقترن بها قول أوفعل هو من خصائص الإحرام أو دلائله، والنية ليست بركن
عندهم، بل هي شرط، وإذا لبى ناويًا فقد أحرم عندهم.
وعبارة المالكية:
الإحرام: ينعقد بالنية المقترنة بقول أو فعل متعلق بالحج، كالتلبية والتوجه إلى
الطريق، لكن الأرجح أنه ينعقد بمجرد النية، ويلزمه دم في ترك التلبية والتجرد
من المخيط حين النية.
وعبارة الشافعية والحنابلة: الإحرام: بأن ينوي
الدخول في النسك، فلا ينعقد بدون النية، فإن اقتصر على النية، ولم يلب، أجزأه،
وإن لبى بلا نية لم ينعقد إحرامه ولا يشترط قرن النية بالتلبية؛ لأنها من
الأذكار، فلم تجب في الحج كسائر الأذكار.
والحاصل أن الإحرام ينعقد بالنية
عند الجمهور، ولا ينعقد بمجردها عند
الحنفية وإنما لا بد من
قرنه بقول أوفعل من خصائص الإحرام، كالتلبية أو التجرد من المخيط ونحوه (١).
ولا
يصح الإحرام إلا بالنية، لقوله ﷺ: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما
نوى» (٢) ولأنه عبادة محضة، فلم تصح من غير نية، كالصوم والصلاة.
ومحل
النية: القلب، والإحرام: النية بالقلب، والأفضل عند أكثر العلماء أن ينطق بما
نواه؛ لما روى أنس ﵁ قال: «سمعت رسول الله ﷺ يقول: لبيك بحجة وعمرة» (٣) ولأنه
إذا نطق به كان أبعد عن السهو.
فيقول: نويت الحج أو العمرة وأحرمت به أو
بها لله تعالى، أو يقول: اللهم إني أريد الحج أو العمرة، فيسره لي وتقبله مني.
وإن أراد القران قال: اللهم إني أريد العمرة والحج، ثم يجب أن يلبي عند الحنفية
عقيب صلاته، لأنه ﷺ «لبى في د ُبُر صلاته» ويستحب التلبية عند الجمهور بعد
الإحرام أي مع النية.
وإن حج أو اعتمر عن غيره قال: «نويت الحج أو العمرة
عن فلان وأحرمت به أو بها لله تعالى».
وإن كان مفردًا الإحرام بالحج نوى
بتلبيته الحج؛ لأنه عبادة، والأعمال بالنيات.
(١) البدائع: ١٦١/ ٢
ومابعدها، فتح القدير: ١٣٤/ ٢ ومابعدها، اللباب: ١٧٩/ ١ ومابعدها، القوانين
الفقهية: ص ١٣١، الشرح الصغير: ١٦/ ٢ وما بعدها، ٢٥، مغني المحتاج: ٤٧٦/ ١ -
٤٧٨، المهذب: ٢٠٤/ ١ ومابعدها، غاية المنتهى: ٣٦٥/ ١، المجموع: ٢٢٦/ ٧
ومابعدها، المغني: ٢٨١/ ٣ - ٢٨٨.
(٢) رواه البخاري ومسلم عن عمر ﵁.
(٣)
رواه مسلم، قيل: وقع الاشتباه لأنس، لا لمن دونه، في القران بين الحج
والعمرة.
والتلبية كما بينت في المبحث السابق أن يقول: «لبيك
اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والمُلْك، لا شريك لك»
وهي المنقولةعن رسول الله ﷺ. ولا ينبغي أن يخل بشيء من هذه الكلمات، لأنه هو
المنقول باتفاق الرواة، فلا ينقص عنه، فإن زاد عليها جاز بلا كراهة.
ثانيًا - صفة الإحرام تعيينًا وإطلاقًا وإحالة واشتراطًا (١):
الأفضل أن يعين المحرم ما أحرم به من حج أو عمرة أو هما معًا، فالتعيين
أفضل من الإطلاق؛ لأن النبي ﷺ أمر أصحابه بالإحرام بنسك معين، فقال فيما روته
عائشة: «من شاء منكم أن يهل بحج وعمرة فليهل، ومن أراد أن يهل بحج فليهل، ومن
أراد أن يهل بعمرة فليهل» (٢).
ورأى الحنفية: أنه لو أحرم بالحج، ولم يعين
حجة الإسلام، وعليه حجة الإسلام، يقع عنها استحسانًا؛ لأن الظاهر من حاله أنه
لا يريد بإحرام الحج حجة التطوع، ويبقي نفسه في عهدة الفرض، فيحمل على حجة
الإسلام بدلالة حاله، فكان الإطلاق فيه تعيينًا كما في صوم رمضان. ولو نوى
التطوع يقع عن التطوع؛ لأن دلالة حاله لا تفيد مع التعيين الصريح.
وكذلك
قال الشافعية: ليس التعيين شرطًا في انعقاد النسك، فلو أحرم بنسك نفل وعليه نسك
فرض، انصرف إلى الفرض.
(١) البدائع: ١٦٣/ ٢، الشرح الصغير: ٢٥/ ٢
ومابعدها، المهذب: ٢٠٥/ ١، مغني المحتاج: ١/ ٦٧٤ - ٨٧٤، المغني: ٢٨٤/ ٣ - ٤٨٧،
الشرح الكبير: ٢٦/ ٢ وما بعدها.
(٢) متفق عليه عن عائشة (نيل الأوطار:
٣٠٨/ ٤ ومابعدها) ومعنى الإهلال: رفع الصوت بالتلبية من قولهم: استهل الصبي:
إذا صاح، والأصل فيه: أنهم كانوا إذا رئي الهلال صاحوا، فيقال: استهل الهلال،
ثم قيل لكل صائح: مستهل.
وينعقد الإحرام معينًا: بأن ينوي
حجًا أو عمرة أو كليهما بالإجماع، ولحديث عائشة المتقدم، وينعقد أيضًا مطلقًا
بألا يزيد على الإحرام نفسه، بأن ينوي الدخول في النسك الصالح للأنواع الثلاثة،
أو يقتصر على قوله: «أحرمت»، بدليل ما روى الشافعي: «أنه ﷺ خرج هو وأصحابه
مهلِّين ينتظرون القضاء (أي نزول الوحي) فأمر من لا هدي معه أن يجعل إحرامه
عمرة، ومن معه هدي أن يجعله حجًا».
وفي حالة الإطلاق هذه قال الحنفية:
يمضي في أيهما شاء ما لم يطف بالبيت شوطًا، فإن طاف شوطًا، كان إحرامه عن
العمرة؛ لأن الطواف ركن في العمرة، وطواف القدوم سنة، فإيقاعه عن الركن أولى،
وتتعين العمرة بفعله كما تتعين بقصده.
وقال المالكية: إن أبهم نية الإحرام
بأن لم يعين شيئًا بأن نوى النسك لله تعالى من غير ملاحظة حج أو عمرة أو هما،
ندب صرفه أي تعيينه لحج فيكون مفردًا، والقياس صرفه لقران؛ لأنه أحوط لاشتماله
على النسكين كالناسي لما عينه.
وقال الشافعية والحنابلة: إن أحرم مطلقًا
في أشهر الحج، صرفه بالنية إلى ما شاء من الأنساك، ثم اشتغل بالأعمال، فلو طاف
ثم صرفه للحج وقع طوافه عند الشافعية عن القدوم، وإن أطلق الإحرام في غير أشهر
الحج، فالأصح عند الشافعية انعقاده عمرة، فلا يصرفه إلى الحج في أشهره.
والأولى
عند الحنابلة: صرف الإحرام إلى العمرة؛ لأنه إن كان في غير أشهر الحج، فالإحرام
بالحج مكروه أو ممتنع، والأول أرجح عندهم، وإن كان في أشهر الحج، فالعمرة أولى؛
لأن التمتع عندهم أفضل، وقد أمر النبي ﷺ أبا موسى حين أحرم بما أهل به رسول
الله ﷺ أن يجعله عمرة.
تعليق الإحرام أو الإحرام بما أحرم به فلان (١) أو إبهام الإحرام:
يصح إبهام الإحرام: وهو أن يحرم به بما أحرم به فلان، لما روى أبو موسى قال: «قدمت على رسول الله ﷺ، فقال: كيف أهللت؟ قال: قلت: لبيك بإهلال كإهلال رسول الله ﷺ، قال: أحسنت، فأمرني فطفت بالبيت وبالصفا والمروة، ثم قال: حل» (٢). فإن لم يكن فلان محرمًا، انعقد إحرامه مطلقًا، وإن كان محرمًا بنسك معين انعقد إحرامه كإحرامه، وإن تعذر معرفة إحرامه بموته كان حكمه كالناسي.
حكم نسيان ما عينه:
إذا أحرم بنسك، ثم نسي ما عينه، أهو حج أو عمرة أو هما، قبل الطواف، فله عند الحنابلة صرفه إلى أي نسك شاء. ويكون قرانًا عند المالكية والحنفية والشافعية في الجديد؛ لأنه تلبس بالإحرام يقينًا، فلا يتحلل إلا بيقين الإتيان بالمشروع فيه، فيعمل أعمال النسكين ليتحقق
الخروج عما شرع فيه، فتبرأ ذمته من الحج بعد إتيانه بأعماله، ولا تبرأ
ذمته من العمرة لاحتمال أنه أحرم بالحج، ويمتنع إدخالها عليه ولا دم عليه،
فيبرأ من الحج فقط، وعليه عند المالكية تجديد نية الحج.
ومنشأ الخلاف بين
الرأيين: هو فسخ الحج إلى العمرة، فإنه جائز عند الحنابلة، وغير جائز عند
الجمهور.
الاشتراط في الإحرام (٣):
أجاز الشافعية والحنابلة الاشتراط في الإحرام، وهو التحلل لمانع مرضي ونحوه،
ولا يجوز التحلل مع عدم الاشتراط، بدليل حديث ابن عباس: «أن ضُبَاعة بنت الزبير
قالت: يا رسول الله، إني امرأة
(١) هذا هو المراد بالإحالة أي بإحالة
الإحرام على إحرام فلان، وهو أن يحرم بإحرام كإحرام فلان، فيصير محرمًا مثل
إحرام فلان (شرح مسلم ١٩٨/ ٨ ومابعدها).
(٢) متفق عليه (شرح مسلم ١٩٨/ ٨
ومابعدها).
(٣) نيل الأوطار: ٤/ ٨٠٣، المغني: ٢٨٢/ ٣ وما بعدها.
ثقيلة
(١)، وإني أريد الحج، فكيف تأمرني؟ فقال: أَهِلِّي واشتراطي أن مَحِلِّي (٢)
حيث حبستني، قال: فأدْركَت» (٣).
وقال أبو حنيفة ومالك: لا يصح الاشتراط،
عملًا برأي ابن عمر، وقالا عن الأحاديث: إنها قصة عين، وإنها مخصوصة بضباعة.
ومنشأ الخلاف: هل خطابه ﷺ لواحد يكون غيره فيه مثله أو لا؟
من أحرم بحجتين أو عمرتين:
إن أحرم، انعقد بإحداهما، ولغت الأخرى عند الحنابلة؛ لأنهما عبادتان لا يلزمه
المضي فيهما، فلم يصح الإحرام بهما كالصلاتين، فلو أفسد حجته أو عمرته، لم
يلزمه إلا قضاؤها.
وقال أبو حنيفة ومالك والشافعي: ينعقد بهما، وعليه قضاء
إحداهما، لأنه أحرم بها ولم يتمها، وإن أفسد ما نواه يلزمه قضاؤهما معًا بناء
على صحة إحرامه بهما.
ثالثًا - مكان الإحرام وزمانه:
مكان الإحرام: هو المسمى بالميقات. وزمان الإحرام هو وقت الحج والعمرة وقد بحثت
الأمرين في المبحث الثالث.
وتبيَّن فيه أن وقت العمرة بالاتفاق: جميع
أجزاء السنة ما عدا يوم العيد (عيد النحر) وأيام التشريق عند الحنفية
والمالكية.
(١) في رواية عائشة «وجيعة».
(٢) أي مكان إحلالي.
(٣)
رواه الجماعة إلا البخاري، وللنسائي في رواية «فإن لكِ على ربِّك ما استثنيت»
(نيل الأوطار: ٣٠٧/ ٤) وله روايات أخرى: عن عائشة في المتفق عليه، وعن عكرمة
عند أحمد.
ووقت الحج في أشهر ثلاثة معينة: هي شوال وذو القعدة
وعشر من ذي الحجة عند الجمهور، وذو الحجة كله عند المالكية.
والناس في حق
المواقيت أصناف ثلاثة (١):
الصنف الأول - أهل الآفاق:
وهم الذين منازلهم خارج المواقيت التي وقَّت لهم رسول الله ﷺ وهي خمسة ثابتة في السنة، وهي ذو الحليفة لأهل المدينة، والجحفة لأهل الشام، وقرن المنازل لأهل نجد، ويلملم لأهل اليمن، وذات عرق لأهل العراق.
والصنف الثاني - أهل الحل:
وهم الذين منازلهم داخل المواقيت الخمسة خارج الحرم كأهل بستان بني عامر وغيرهم، وميقاتهم دويرة أهلهم، أو حيث شاؤوا من الحل الذي بين دويرة أهلهم وبين الحرم.
والصنف الثالث - أهل مكة الحرم:
وميقاتهم للحج الحرم، وللعمرة الحل، فيحرم المكي من دويرة أهله للحج، أو حيث شاء من الحرم، ويحرم للعمرة من الحل وهو التنعيم أوغيره.
رابعًا - ما يفعله مريد الإحرام:
إذا أراد الشخص الإحرام يفعل السنن المذكورة سابقًا في بحث أعمال الحج
وأهمها ما يأتي (٢). أما ما يجتنبه المحرم من اللباس والحذاء وغيرهما فيعرف في
بحث محظورات الإحرام.
(١) البدائع: ١٦٣/ ٢ - ١٦٧.
(٢) فتح القدير:
١٣٤/ ٢ - ١٤٠، اللباب: ١٧٩/ ١ ومابعدها، ١٨٨، القوانين الفقهية: ص ١٣١، الشرح
الصغير: ٢٩/ ٢ ومابعدها، مغني المحتاج: ٤٧٨/ ١ - ٤٨٢، ٥٠١، المهذب: ٢٠٤/ ١
ومابعدها، المجموع: ٢١١/ ٧ - ٢٢٦، المغني: ٢٧٠/ ٣ - ٢٧٥، ٢٨٨ - ٢٩٣، ٣٠١، ٣٢٥،
٤٣٠، غاية المنتهى: ٣٦٥/ ١ ومابعدها.
١ - يغتسل تنظفًا، أو
يتوضأ، والغسل أفضل؛ لأنه أتم نظافة، ولأنه ﵊ اغتسل لإحرامه (١)، وهو للنظافة
لا للطهارة، ولذا تفعله المرأة الحائض والنفساء، لما روى ابن عباس مرفوعًا إلى
النبي ﷺ: «أن النفساء والحائض تغتسل وتُحرم، وتقضي المناسك كلها، غير أن لا
تطوف بالبيت» (٢) وأمر النبي ﷺ أسماء بنت عميس، وهي نفساء أن تغتسل (٣).
فدل
على أن الاغتسال مشروع للنساء عند الإحرام، كما يشرع للرجال؛ لأنه نسك، وهو في
حق الحائض والنفساء آكد، لورود الخبر فيهما.
وهذا متفق عليه. فإن لم يجد
ماء تيمم عند الشافعية؛ لأن الغسل يراد للقربة والنظافة، فإذا تعذر أحدهما يبقى
الآخر، ولأن التيمم ينوب عن الغسل الواجب، فعن المندوب أولى. ولو وجد ماء لا
يكفيه للغسل ويكفيه للوضوء، توضأ به وتيمم عن الغسل.
ولا يسن له التيمم في
رأي ابن قدامة؛ لأنه غسل مسنون، فلم يستحب التيمم عند عدمه كغسل الجمعة، والفرق
بين الواجب والمسنون؛ أن الواجب يراد لإباحة الصلاة، والتيمم يقوم مقامه في
ذلك، والمسنون يراد للتنظيف وقطع الرائحة، والتيمم لا يحصِّل هذا، بل يزيد
شعثًا وتغييرًا، والراجح عند الحنابلة جواز التيمم كما في غاية المنتهى.
ويستحب
التنظيف أيضًا بأزالة الشَّعَث (الوسخ من غبار وغيره) وقطع
(١) رواه
الدارمي والترمذي وغيرهما عن زيد بن ثابت: أن رسول الله ﷺ اغتسل لإحرامه (نصب
الراية: ١٧/ ٣).
(٢) رواه أبو داود والترمذي عن ابن عباس (نيل الأوطار:
٣٠٣/ ٤).
(٣) رواه مسلم عن جابر.
الرائحة، ونتف الإبط،
وقص الشارب، وقلم الأظفار، وحلق العانة وترجيل الشعر؛ لأن الإحرام أمر يسن له
الاغتسال والطيب، فيسن له هذا كالجمعة.
٢ - يتجرد الذكر من المخيط، ويلبس
ثوبين نظيفين: إزارًا ورداءًا جديدين ثم مغسولين، ونعلين، لقوله ﷺ: «وليحرم
أحدكم في إزار ورداء ونعلين، فإن لم يجد نعلين فلْيلبَس خُفَّين، ولْيَقْطَعهما
أسفل من الكعبين» (١)، ولا يلزم قطعهما في المشهور عن أحمد، لحديث ابن عباس:
«ومن لم يجد نعلين فليلبس خفين» (٢).
والمرأة: إحرامها في كشف وجهها
باتفاق الفقهاء، فإن احتاجت إلى ستر وجهها لمرور الرجال قريبًا منها، فإنها عند
الحنابلة تسدل الثوب من فوق رأسها على وجهها؛ لفعل عائشة ومحرمات أخريات مع
رسول الله ﷺ (٣).
٣ - يتطيب في بدنه قبل الإحرام عند الجمهور، لا في الثوب
عند الحنفية والحنابلة، لأنه مباين له، وكذا في ثوبه في الأصح عند الشافعية،
لحديث عائشة: «كنت أطيِّب النبي ﷺ عند إحرامه بأطيبِ ما أجد» (٤) أي في وقت
إحرامه. ولابأس باستدامة أثر الطيب بعد الإحرام، لحديث الصحيحين عن عائشة:
«كأني أنظر إلى وبيص المسك في مفرق رسول الله ﷺ» والوبيص: هو البريق، والمفرق:
وسط الرأس.
(١) رواه أحمد عن ابن عمر، والكعبان: العظمان الناتئان عند
مفصل الساق والقدم (نيل الأوطار: ٣٠٥/ ٤).
(٢) متفق عليه، فيكون هذا
ناسخًا لحديث ابن عمر المتقدم (نيل الأوطار: ٤/ ٥).
(٣) رواه أبو داود
والأثرم عن عائشة.
(٤) رواه البخاري ومسلم، وللنسائي: حين أراد
الإحرام.
ولا يتطيب عند المالكية، ويكره الطيب قبل الغسل أو
بعده بما تبقى رائحته، لما روي أن رجلًا أتى النبي ﷺ فقال: يا رسول الله، كيف
ترى في رجل أحرم بعمرة وهو متضمخ بطيب؟ فسكت النبي ﷺ، يعني ساعة، ثم قال «:
اغسل الطيب الذي بك - ثلاث مرات - وانزع عنك الجبة، واصنع في عمرتك ما تصنع في
حجتك» (١)، ولأنه يمنع من ابتداء الطيب، فمنع استدامته كاللبس.
والظاهر
جواز التطيب قبل الإحرام؛ لأن قصة صاحب الجبة كانت عام حنين بالجعرانة سنة
ثمان، وحديث عائشة في حجة الوداع سنة عشر، فيكون ناسخًا للحديث الأول، وفعل
النبي ﷺ حجة على ابن عمر الذي كان ينهى عن الطيب عند الإحرام.
ويسن عند
الشافعية والحنابلة أن تخضب المرأة للإحرام يديها إلى الكوع (الرسغ) بالحناء،
لما روى ابن عمر أن ذلك من السنة.
٤ - يصلي صلاة ركعتي الإحرام بعد الغسل
وقبل الإحرام بالاتفاق، أو يكون الإحرام عند المالكية والحنابلة عقب صلاة
مفروضة، أما الأول فلما روى الشيخان أنه «ﷺ صلى بذي الحليفة ركعتين، ثم أحرم»
(٢). ويحرمان في وقت الكراهة في غير حرم مكة، ويسن أن يقرأ في الركعة الأولى:
﴿قل يا أيها الكافرون﴾ [الكافرون:١/ ١٠٩] وفي الثانية: (الإخلاص).
وأما
الإحرام عقب صلاة مكتوبة وهو الأولى عند الحنابلة، فلما روى أبو داود والأثرم
عن سعيد بن المسيب عن ابن عباس قال: «أوجب رسول الله ﷺ الإحرام حين فرغ من
صلاته ..».
(١) متفق عليه عن يعلى بن أمية.
(٢) نصب الراية: ٢٠/ ٣
ومابعدها.
ويجوز عند الحنابلة على السواء الإحرام عقيب
الصلاة، أو إذا استوت به راحلته، أو بدأ بالسير، فإذا استوى على راحلته لبى.
والأفضل
عند المالكية والشافعية أن يحرم إذا سارت به راحلته، لما رواه الشيخان، أو إذا
توجه لطريقه ماشيًا، لما روى مسلم عن جابر: «أمرنا رسول الله ﷺ لما أهللنا - أي
أردنا أن نهل - أن نحرم إذا توجهنا».
٥ - يلبي، والتلبية عقيب الصلاة عند
الحنفية، لأن النبي ﷺ «لبى في دُبُر صلاته» (١) وهو الأفضل، ويلبي بعد ما استوت
به راحلته، ثم ينوي، فإن كان مفردًا الإحرام بالحج، نوى بتلبيته الحج؛ لأنه
عبادة، والأعمال بالنيات.
ويلبي عند الشافعية مع النية، لخبر مسلم: «إذا
توجهتم إلى منى، فأهلوا بالحج» والإهلال: رفع الصوت بالتلبية، والعبرة بالنية
لا بالتلبية، فلو لبى بغير مانوى، فالعبرة بما نوى.
ويلبي عند المالكية
والحنابلة إذا استوى على راحلته، وأخذ في المشي، لما روى البخاري عن أنس وابن
عمر: «أن النبي ﷺ لما ركب راحلته، واستوت به أهلَّ» وقال ابن عباس: «أوجب رسول
الله ﷺ الإحرام حين فرغ من صلاته، فلما ركب راحلته، واستوت به قائمة، أهل» يعني
لبى، ومعنى الإهلال: رفع الصوت بالتلبية.
ويجدد التلبية عند كل هبوط
وصعود، وحدوث حادث ولقاء رفقة، وخلف الصلوات، وعند سماع من يلبي.
ويستحب
إكثار التلبية، ورفع الصوت بها أثناء إحرامه دون إسراف إلا
(١) أخرجه
الترمذي والنسائي عن ابن عباس (نصب الراية: ٢١/ ٣).
للنساء،
لقوله ﷺ:
«أفضل الحج: العج والثج» (١) فالعج: رفع الصوت بالتلبية، والثج:
إراقة الدم.
وصيغة التلبية كما سبق: (لبيك اللهم (٢) لبيك، لبيك لا شريك
لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك) والمستحب ألا يزيد عليها،
فإن زاد فيها، جاز.
فإذا لبى ناويًا فقد أحرم عند الحنفية.
متى يقطع التلبية؟
يقطع التلبية عند المالكية إذا أخذ في الطواف، ويعاودها بعد الفراغ من السعي،
إلى أن يقطعها إذا زالت الشمس من يوم عرفة، عملًا بما روي عن علي وأم سلمة:
أنهما كانا يلبيان حتى تزول الشمس يوم عرفة. ويقطع التلبية عند الجمهور (غير
المالكية) عند ابتداء الرمي لجمرة العقبة يوم العيد بأول حصاة يرميها؛ لأنه ﷺ
لم يزل ملبيًا حتى رماها (٣)، ولأنه يتحلل بالرمي.
هذا عند الحنفية إن رمى
قبل الحلق، فإن حلق قبل الرمي، قطع التلبية؛ لأنها لا تثبت مع التحلل.
أما
المعتمر فيقطع التلبية عند الشروع بالطواف.
خامسًا - ما يحرم به من حج أو عمرة أو بهما:
اتفق الفقهاء على أن أوجه أداء الحج والعمرة، أو ما يحرم به في الأصل،
(١)
رواه الترمذي وابن ماجه عن ابن عمر، ورواه الترمذي عن أبي بكر الصديق، ورواه
أبو القاسم الأصبهاني عن جابر، ورواه ابن أبي شيبة وأبو يعلى عن ابن مسعود (نصب
الراية: ٣٤/ ٣).
(٢) أصله يا الله، حذف حرف النداء، وعوض عنه الميم.
(٣)
رواه الشيخان من حديث الفضل بن عباس.
ثلاثة أنواع: الإفراد،
والتمتع، والقران، أي أداء الحج وحده، والعمرة وحدها، والعمرة مع الحج،
والأشخاص المحرمون ثلاثة: مفرد بالحج، ومفرد بالعمرة، وجامع بينهما، الأول: هو
المفرد، والثاني: المتمتع، والثالث: القارن.
والمفرد بالحج:
هو الذي يحرم بالحج لا غير، فيؤدي الحج أولًا، ثم يحرم بالعمرة.
والمتمتع:
هو الذي يحرم بالعمرة أولًا في أشهر الحج ويتمها، ثم يحرم بالحج في سنته
وأشهره.
والقارن:
هو الآفاقي (غير المكي) الذي يجمع بين إحرام العمرة وإحرام الحج قبل وجود ركن
العمرة وهو الطواف، فيأتي بالعمرة أولًا، ثم يأتي بالحج قبل أن يحل من العمرة
بالحلق أو التقصير، سواء جمع بين الإحرامين بكلام موصول أو مفصول، فلو أحرم
بالعمرة، ثم أحرم بالحج بعد ذلك قبل الطواف للعمرة (أو أكثره عند الحنفية) كان
قارنًا، لوجود معنى القران: وهو الجمع بين الإحرامين، ولو كان إحرامه للحج بعد
طواف العمرة أو أكثره لا يكون قارنًا، بل يكون متمتعًا، لوجود معنى التمتع: وهو
أن يكون إحرامه بالحج بعد وجود ركن العمرة كله عند الحنفية وهو الطواف، والسعي
بعده عند الجمهور، والحلق أو التقصير أيضًا عند الشافعية على المعتمد (١).
واختلف
فقهاء المذاهب في الأفضل من هذه الأوجه على أقوال ثلاثة:
القران (وهو الجمع بين إحرام العمرة والحج في سفر
(١) البدائع: ١٦٧/ ٢،
القوانين الفقهية: ص١٣٥، مغني المحتاج: ٥١٣/ ١ ومابعدها، غاية المنتهى: ٣٦٦/ ١
ومابعدها.
(٢) فتح القدير: ١٩٩/ ٢ ومابعدها، اللباب مع الكتاب: ١٩٢/ ١
ومابعدها، تبيين الحقائق: ٤٠/ ٢ ومابعدها.
واحد) أفضل من
التمتع والإفراد؛ لأن فيه استدامة الإحرام بهما من الميقات إلى أن يفرغ منهما،
ولا كذلك التمتع، فكان القران أولى منه، ولقوله ﷺ:
«أهلُّوا يا آل محمد
بعمرة في حجة» (١). وقال أنس: «سمعت رسول الله ﷺ يلبي بالحج والعمرة يقول: لبيك
عمرة وحجة» (٢).
٢ - وقال المالكية والشافعية (٣):
الإفراد بالحج أفضل من القران والتمتع، إن اعتمر عامه؛ لأنه لا يجب معه
هدي، ولأن النبي ﷺ حج مفردًا على الأصح، قالت عائشة: «خرجنا مع رسول الله ﷺ عام
حجة الوداع، فمنا من أهَلَّ بعمرة، ومنا من أّهل بحج وعمرة، وأهل رسول الله ﷺ
بالحج» (٤)، وروي الإفراد عن النبي ﷺ عن جابر بن عبد الله من طرق شتى متواترة
صحاح، وهو قول أبي بكر وعمر وعثمان وعائشة وجابر.
ثم القران عند المالكية
يلي الإفراد في الفضل، وللقران صورتان:
أولاهما - بأن ينوي القران أو
العمرة والحج بنية واحدة، ويجب تقديم العمرة في النية والملاحظة إن رتب بينهما،
ويندب تقديمها في اللفظ إن تلفظ.
والثانية - أن ينوي العمرة، ثم يبدو له
فيردف الحج عليها، ولا يصح إرداف عمرة على حج، لقوته، فلا يقبل غيره.
والتمتع
عند الشافعية بعد الإفراد، ثم القران؛ لأن المتمتع يأتي بعملين كاملين غير أنه
لا ينشئ لهما ميقاتين. وأما القارن فإنه يأتي بعمل واحد من ميقات واحد.
فالشافعية ينظرون لكثرة الأعمال.
(١) أخرجه الطحاوي عن أم سلمة (نصب
الراية: ٩٩/ ٣).
(٢) أخرجه البخاري ومسلم عن أنس (المرجع السابق).
(٣)
الشرح الصغير: ٣٤/ ٢، القوانين الفقهية: ص١٣٥، بداية المجتهد: ٣٢٤/ ١، مغني
المحتاج: ٥١٤/ ١، المهذب:٢٠٠/ ١ ومابعدها، المجموع: ١٣٧/ ٧ - ١٩٩، الشرح
الكبير: ٢٧/ ٢ - ٢٩.
(٤) رواه البخاري ومسلم.
٣ - وقال الحنابلة (١):
التمتع أفضل، فالإفراد،
فالقران، أي عكس الترتيب عند الشافعية بين الأول والثاني. والتمتع: أن يحرم
بعمرة في أشهر الحج، ثم يحرم بالحج في عامه من أين شاء بعد فراغه منها.
ودليلهم
أن النبي ﷺ كان متمتعًا، لما قال ابن عمر: «تمتع رسول الله ﷺ في عام حجة الوداع
بالعمرة إلى الحج، وأهدى وساق الهدي معه من ذي الحليفة» (٢).
وقال النبي
ﷺ: «لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي، ولجعلتها عمرة» (٣).
هذه
هي أقوال الفقهاء في بيان الأفضلية بين هذه الأنواع، والسبب في اختلافهم:
اختلافهم فيما فعل رسول الله ﷺ من ذلك، ولكل رأي ما يؤيده من الروايات الصحيحة،
وأرجح الرأي الثاني؛ لأن رواة أحاديثه أكثر، ولأن جابرًا منهم أقدم صحبة وأشد
عناية بضبط المناسك، وبالإجماع على أنه لا كراهة في الإفراد، وبأن التمتع
والقران يجب فيهما بالدم جبرًا للنقص، بخلاف الإفراد. قال النووي في المجموع
(٤): والصواب الذي نعتقده أنه ﷺ أحرم بحج، ثم أدخل عليه العمرة، فصار قارنًا،
وإدخال العمرة على الحج جائز على أحد القولين عندنا، وعلى الأصح لا يجوز لنا،
وجاز للنبي ﷺ تلك السنة للحاجة، وأمر به في قوله: «لبيك عمرة في حجة» (٥).
(١)
غاية المنتهى: ٣٦٦/ ١.
(٢) رواه البخاري ومسلم عن ابن عمر (نصب الراية:
١١٣/ ٣).
(٣) رواه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي عن جابر بن عبد الله
(جمع الفوائد: ٤٦٩/ ١ ومابعدها).
(٤) المجموع: ١٥٠/ ٧.
(٥) رواه مسلم
عن أنس.
سادسًا ـ إضافة الإحرام إلى الإحرام وإدخال الحج على العمرة وبالعكس وفسخ
الحج إلى العمرة:
إضافة الإحرام إلى الإحرام:
قال الحنفية (١):
إضافة الإحرام إلى الإحرام من المكي ونحوه جناية، وكذلك إضافة إحرام العمرة إلى إحرام الحج من الآفاقي جناية أيضًا توجب الدم. أما إضافة الحج إلى العمرة فجائز لا جناية فيه. وتفصيل الكلام كما يأتي:
١ - ضم الحج إلى العمرة:
إذا أحرم المكي بعمرة، فأدخل عليها إحرام حجة، فهناك ثلاثة احتمالات:
أـ
إما أن يدخله قبل أن يطوف، فترتفض عمرته اتفاقًا بين أئمة الحنفية، ولو فعل هذا
آفاقي (غير مكي) كان قارنًا.
ب - أو يدخله بعد أن يطوف أكثر الأشواط،
فترتفض حجته اتفاقًا، ولو فعل هذا آفاقي كان متمتعًا إن كان الطواف في أشهر
الحج.
جـ - أو يدخله بعد أن يطوف الأقل من الأشواط كثلاثة مثلًا، فهي محل
خلاف بين الإمام وصاحبيه، قال أبو حنيفة: يرفض الحج، لما يلزم رفض العمرة من
إبطال العمل، وقد تأكد إحرام العمرة بأداء شيء من أعمالها، وإحرام الحج لم
يتأكد، ورفض غير المتأكد أيسر.
وقال الصاحبان: ترفض العمرة، لأنها أدنى
حالًا، إذ ليس من جنسها فرض، بخلاف الحج، ولأن العمرة أقل أعمالًا، وأيسر قضاء
لعدم توقيتها وقلة أعمالها.
(١) فتح القدير: ٢٨٨/ ٢ - ٢٩٤، تبيين الحقائق:
٧٤/ ٢ - ٧٦.
ولو فعل هذا آفاقي كان قارنًا. وكل من رفض نسكًا
فعليه دم، لما روى أبو حنيفة عن عبد الملك بن عمير عن عائشة ﵂: «أن النبي ﷺ أمر
لرفضها العمرة بدم».
وفي رفض العمرة قضاؤها فقط، وفي رفض الحج قضاء الحج
والعمرة جميعًا، أما قضاء الحج فلأنه صح شروعه فيه ثم رفضه، وأما العمرة فهي في
معنى فائت الحج، وفائت الحج يتحلل بأفعال العمرة، وقد تعذر التحلل بأفعالها
ههنا؛ لأنه في العمرة، والجمع بين العمرتين منهي عنه، فيجب عليه قضاء الحج
والعمرة جميعًا.
وإذا لم يرفض المكي ومن بمعناه العمرة أو الحج، ومضى
عليهما وأداهما، أجزأه؛ لأنه أدى أفعالهما كما التزمهما، غير أنه منهي عنهما،
أي عن إحرام الحج وإحرام العمرة جميعًا؛ لأن الجمع بين إحرامي الحج أو إحرامي
العمرة بدعة، والنهي لا يمنع تحقق الفعل، وعليه دم لجمعه بينهما، لارتكابه
المنهي عنه ووجود النقصان في عمله.
٢ - ضم الحج لحجة أخرى:
من أحرم بالحج، ثم أحرم يوم النحر بحجة أخرى:
أـ فإن حلق في الحجة الأولى،
لزمته الأخرى ولا شيء عليه؛ لأنه حل من الأول وأحرم للثاني بعده.
ب - وإن
لم يحلق في الأولى، لزمته الأخرى ويقضيها، وعليه دم لصحة شروعه فيه سواء عند
أبي حنيفة حلق بعد الإحرام الثاني أو لم يحلق؛ لأنه إن حلق يكون جانيًا على
الإحرام الثاني، وإن لم يحلق يكون مؤخرًا للحلق في الحج الأول عن أيام النحر،
وهو يوجب الدم عنده.
وقال الصاحبان: إن لم يحلق أو يقصر بعد
ما أحرم بالحج الثاني، فلا شيء عليه؛ لأن تأخير الحلق عندهما عن أيام النحر لا
يوجب شيئًا عندهما، وإن حلق بعد الإحرام بالثاني يجب عليه الدم، لجنايته عليه.
٣ - ضم العمرة إلى العمرة:
من فرغ من عمرته إلا التقصير، فأحرم بأخرى، فعليه دم باتفاق الحنفية، لإحرامه قبل الوقت؛ لأن وقته بعد الحلق للإحرام الأول، ولم يوجد، ولأنه جمع بين إحرامي العمرة، وهكذا مكروه، فيلزمه دم، وهو دم جبر وكفارة.
٤ - ضم العمرة إلى الحج:
من أهل بالحج، ثم أحرم بالعمرة، لزمه الاثنان، لأن الجمع بينهما مشروع في حق
الآفاقي، فيصير قارنًا، لكنه أخطا السنة فيصير مسيئًا؛ لأن السنة إدخال الحج
على العمرة، لا إدخال العمرة على الحج، قال الله تعالى: ﴿فمن تمتع بالعمرة إلى
الحج ...﴾ [البقرة:٢/ ١٩٦] الآية، جعل الحج آخر الغايتين، لكن لما لم يؤد الحج
صح.
ومن أحرم بحج، ثم بعمرة، ثم وقف بعرفات قبل أن يدخل مكة، فقد رفض
عمرته بالوقوف، وإن لم يقف بعرفة لا يصير رافضًا؛ لأنه يصير قارنًا بالجمع بين
الحج والعمرة، وهو مشروع في حق الآفاقي، لكنه مسيء بتقديم إحرام الحج على إحرام
العمرة، لكونه أخطأ السنة؛ لأن السنة في القران: أن يحرم بهما معًا، أو يقدم
إحرام العمرة على إحرام الحج.
وإن طاف للحج طواف القدوم، ثم أحرم بعمرة،
ومضى عليهما بأن يقدم أفعال العمرة على أفعال الحج، وجب عليه دم، لجمعه بينهما؛
لأنه قارن، ولكنه أساء أكثر من الأول حيث أخر إحرام العمرة عن طواف الحج.
ويستحب أن يرفض عمرته؛ لأن إحرام الحج قد تأكد بشيء من أعماله، وإذا رفض عمرته
يقضيها لصحة الشروع فيها، وعليه دم لرفضها.
وإن أهلَّ الحاج
بعمرة يوم النحر أو في أيام التشريق، لزمته العمرة، ولزمه رفضها: لأنه قد أدى
ركن الحج، فيصير بانيًا أفعال العمرة على أفعال الحج من كل وجه، فكان خطأ محضًا
لكراهة العمرة في هذه الأيام تعظيمًا لأمر الحج، فترفض العمرة، وإذا رفضها وجب
عليه دم للتحلل منها قبل أوانه. ويجب عليه قضاؤها لصحة الشروع فيها. فإن مضى
على العمرة التي أحرم لها يوم النحر وأدى أفعالها أجزأه، وعليه دم لجمعه بين
أعمالها وأعمال الحج الباقية إن كان الإحرام بها بعد الحلق، أو لجمعه بينهما في
الإحرام إن كان الإحرام بها قبل الحلق.
ومن فاته الحج، فأحرم بعمرة أو
بحجة، فإنه يرفض التي أحرم بها؛ لأن فائت الحج يتحلل بأفعال العمرة، من غير أن
ينقلب إحرامه إحرام العمرة، فيصير جامعًا بين العمرتين في الأفعال، وهو بدعة،
فيرفضها، كما لو أحرم بحجتين، وعليه قضاؤها لصحة الشروع فيها، وعليه دم لرفضها
بالتحلل قبل أوانه.
رأي الجمهور في إدخال الحج على العمرة وبالعكس:
أجاز جمهور الفقهاء (١) إدخال الحج على العمرة بشرط أن يكون الإدخال قبل
الشروع في طواف العمرة، وبشرط كونه عند الحنفية قبل أداء أربعة أشواط من طواف
العمرة، ويكون قارنًا بلا خلاف. فإن أدخله على العمرة بعد الطواف فليس له ذلك
ولا يصير قارنًا؛ لأنه شارع في التحلل من العمرة، فلم يجز إدخال الحج عليها.
ودليلهم:
فعل ابن عمر الذي أحرم بعمرة، ثم جمع معها حجة، ثم قال: هكذا صنع النبي ﷺ
(٢).
(١) نيل الأوطار: ٣١٨/ ٤، الشرح الصغير: ٣٥/ ٢، المغني: ٤٨٤/ ٣،
اللباب: ١٩٣/ ١٠.
(٢) متفق عليه عن نافع (نيل الأوطار: ٣١٧/ ٤).
ولا
يجوز إدخال العمرة على الحج، كما أبنت في مذهب الحنفية، لكنه عندهم يصير
قارنًا، وعند الجمهور: لا يصح الإدخال ولا يصير قارنًا؛ لما رواه الأثرم أن
عليًا منع من أراد ذلك، ولأن إدخال العمرة على الحج لا يفيد إلا ما أفاده
الإحرام الأول كتكرر الاستئجار على عمل في المدة.
فسخ الحج إلى العمرة:
أي تحويل النية من الإحرام بالحج إلى العمرة. اتفق العلماء على أن رسول
الله ﷺ أمر أصحابه عام حجه بفسخ الحج إلى العمرة وقال: «أحلوا من إحرامكم،
فطوفوا بالبيت وبين الصفا والمروة، وقصِّروا وأقيموا حلالًا .. إلى أن قال:
لولا أني سُقْت الهدي، لفعلت مثل الذي أمرتكم به، ولكن لا يَحِلّ مني حَرام حتى
يبلغ الهدي مَحِلَّه» (١) والرواية المشهورة: «لو استقبلت من أمري ما استدبرت
لما سقت الهدي، ولجعلتها عمرة» فإنه ﵇ أمر من لم يسق الهدي من أصحابه أن يفسخ
إهلاله بالحج إلى العمرة. ثم اختلف العلماء في هذا الفسخ، هل هو خاص للصحابة في
تلك السنة خاصة، أم باق لهم ولغيرهم إلى يوم القيامة (٢)؟.
فقال الحنابلة
والظاهرية: ليس خاصًا، بل هو باق إلى يوم القيامة، فيجوز لكل من أحرم بحج، وليس
معه هدي أن يقلب إحرامه عمرة، ويتحلل بأفعالها.
وقال الجمهور، منهم
(المالكية والحنفية والشافعية): هو مختص بهم في تلك السنة، لا يجوز بعدها،
وإنما أمروا به تلك السنة ليخالفوا ما كانت عليه الجاهلية من تحريم العمرة في
أشهر الحج، بدليل حديث أبي ذر عند مسلم: «كانت المتعة في الحج لأصحاب محمد ﷺ»
يعني فسخ الحج إلى العمرة.
(١) هذا لفظ رواية مسلم عن موسى بن نافع (شرح
مسلم: ١٦٦/ ٨).
(٢) شرحُ مسلم: ١٦٧/ ٨، بداية المجتهد: ٣٢٢/ ١، المغني:
٢٨٧/ ٣.
وفي كتاب النسائي عن الحارث بن بلال عن أبيه قال:
قلت: يا رسول الله، فسخ الحج لنا خاصة أم للناس عامة؟ فقال: بل لنا خاصة.
وقال
عمر: متعتان على عهد رسول الله ﷺ أنا أنهى عنهما، وأعاقب عليهما: متعة النساء
(زواج المتعة)، ومتعة الحج.
وقال عثمان أيضًا: متعة الحج كانت لنا، وليست
لكم.
وقال أبو ذر: ما كان لأحد بعدنا أن يحرم بالحج، ثم يفسخه في عمرة.
ويؤكد
ذلك ظاهر قوله تعالى: ﴿وأتموا الحج والعمرة لله﴾ [البقرة:١٩٦/ ٢].
المطلب الثاني - الطواف أنواعه وحكم كل نوع، وشروطه (ومنها مكانه، وزمانه،
ومقداره) وسننه.
أولًا - أنواع الطواف وحكم كل نوع (١):
الأطوفة المشروعة في الحج ثلاثة: طواف القدوم، وطواف الإفاضة (أو
الزيارة، أو طواف الركن)، وطواف الوداع (أو طواف الصَّدَر) وهو طواف آخر العهد
بالبيت، سمي بذلك لأنه يودّع البيت ويصدُرُ به. وما زاد على هذه
(١)
البدائع:١٢٧/ ٢ ومابعدها، ١٤٢ ومابعدها، اللباب: ١٨٤/ ١، ١٨٩، ١٩١، شرح
المجموع: ١٢/ ٨ ومابعدها، القوانين الفقهية: ص ١٣٢، الشرح الكبير: ٣٣/ ٢ وما
بعدها، الشرح الصغير: ٤٢/ ٢، ٦٠، ٧٠، مغني المحتاج: ٤٨٤/ ١، ٥٠٣، ٥٠٩ ومابعدها،
المغني: ٣٧٠/ ٣، ٤٤٠، ٤٤٢، ٤٤٤، ٤٥٨ - ٤٦٥، حاشية الباجوري: ٣٣٤/ ١، كتاب
الإيضاح للنووي: ص ٧٦ - ٧٧، غاية المنتهى: ٣٩٥/ ١، ٤١٣، ٤١٦ ومابعدها، بداية
المجتهد: ٣٣٢/ ١.
الأطوفة فهو نفل. أما السعي فواحد، ولا يكون
السعي إلا بعد طواف، فإن سعى مع طواف القدوم لم يسْع بعده، وإن لم يسْع معه،
سعى مع طواف الزيارة.
هذا .. وقد أجمعوا على أن المكي ليس عليه إلا طواف
الإفاضة. كما أجمعوا على أنه ليس على المعتمر إلا طواف العمرة، فليس عليه طواف
قدوم. وأجمعوا على أن المتمتع عليه طوافان: طواف للعمرة لحله منها، وطواف للحج،
يوم النحر.
أما المفرد للحج فليس عليه إلا طواف واحد يوم النحر، ويجب عليه
عند المالكية القدوم أيضًا إن اتسع الوقت له، ويسن ذلك عند الجمهور.
وأما
القارن فيجزئه عند الجمهور طواف واحد وسعي واحد، عملًا بمذهب ابن عمر وجابر،
وقال الحنفية: على القارن طوافان وسعيان عملًا بمذهب علي وابن مسعود.
وأجمعوا
على أن الواجب من هذه الأطوفة الثلاثة الذي يفوت الحج بفواته: هو طواف الإفاضة،
لقوله تعالى: ﴿وليطوفوا بالبيت العتيق﴾ [الحج:٩٢/ ٢٢] وأنه لا يجزئ عنه دم.
وأجمعوا
ما عدا طائفة من المالكية على أنه لا يجزئ طواف القدوم عن طواف الإفاضة إذا نسي
طواف الإفاضة، لكونه قبل يوم النحر.
ورأى جمهور العلماء أن طواف الوداع
يجزئ عن طواف الإفاضة إن لم يكن طاف طواف الإفاضة؛ لأنه طواف بالبيت معمول في
وقت الوجوب الذي هو طواف الإفاضة، بخلاف طواف القدوم الذي هو قبل وقت طواف
الإفاضة.
والحاصل أن العمرة ليس فيها طواف قدوم، وإنما فيها طواف واحد،
يقال له
طواف الفرض وطواف الركن، وإذا طاف للعمرة أجزأه عن
طواف القدوم وطواف الفرض.
والقارن والمفرد بالحج يطوف ثلاثة أطوفة: طواف
القدوم، وطواف الإفاضة، وطواف الوداع. وهناك طواف رابع متطوع به غير ما ذكر،
ولا يكفي القارن عند الحنفية طواف واحد، بل عليه طوافان للعمرة وللحج وطواف
القدوم للمفرد والقارن إذا كانا قد أحرما من غير مكة ودخلاها قبل الوقوف بعرفة.
أما طواف القدوم:
فهو سنة عند جمهور الفقهاء لحاج دخل مكة قبل الوقوف بعرفة، سواء أكان مفردًا
أم قارنًا، وليس على أهل مكة طواف القدوم، لانعدام القدوم في حقهم، وأما غير
أهل مكة فسنة لهم بدليل الثابت في خبر الصحيحين، ولا يسن للحاج بعد الوقوف
بعرفة، ولا للمعتمر؛ لأنه دخل وقت طوافهما المفروض.
وعليه فيسقط طواف القد
وم عن ثلاثة: المكي ومن في حكمه وهو من كان منزله دون المواقيت، والمعتمر
والمتمتع ولو آفاقيًا، ومن قصد عرفة رأسًا للوقوف. وقال المالكية: يجب على من
أحرم من الحِلّ ولو كان مكيًا، وتجب الفدية على من قصد عرفة وترك طواف القدوم
وكان الوقت متسعًا، وقال الحنابلة: يطوف المتمتع للقدوم قبل طواف الإفاضة، ثم
يطوف طواف الإفاضة.
ويسن أيضًا عند الشافعية طواف القدوم للحلال (غير
المحرم) الداخل إلى مكة؛ لأنه يسمى طواف القادم والورود والوارد والتحية.
والحكمة
منه: أن الطواف تحية البيت، لا المسجد، فيبدأ به لا بصلاة تحية المسجد؛ لأن
القصد من إتيان المسجد البيت، وتحيته الطواف.
ولا يبدأ
بالطواف إذا خاف فوات الصلاة المفروضة، أو السنة المؤكدة، أو وجد جماعة قائمة،
أو تذكر فائتة مكتوبة، فإنه يقدم ذلك على الطواف.
ولو أقيمت الصلاة وهوفي
أثناء الطواف قطعه وصلى، وكذا لو حضرت جنازة قطعه إن كان نفلًا.
ويستحب
للمحرم أول دخوله مكة ألا يعرج على استئجار منزل أو غيره قبل أن يطوف طواف
القدوم.
لكن لو قدمت امرأة نهارًا هي ذات جمال أو شرف، وهي التي لا تبرز
للرجال، سنَّ لها أن تؤخره إلى الليل.
ولو دخل المسجد الحرام وقد منع
الناس من الطواف، صلى تحية المسجد.
ولا يفوت طواف القدوم بالجلوس في
المسجد، كما تفوت به تحية المسجد، لكنه يفوت بالوقوف بعرفة، لا بالخروج من
مكة.
ويطوف القارن عند الحنفية طواف القدوم بعد إنهاء أعمال العمرة، أي
بعد طواف العمرة والسعي بين الصفا والمروة.
وقال المالكية: يجب طواف
القدوم لمن دخل المسجد الحرام، وينوي وجوبه ليقع واجبًا، فإن نوى بطوافه نفلًا،
أعاده بنية الوجوب، وأعاد السعي الذي سعاه بعد النفل ليقع بعد واجب، وذلك ما لم
يخف فوتًا لحجه إن اشتغل بالإعادة، فإن خاف الفوات ترك الإعادة لطوافه وسعيه،
وأعاد السعي بعد الإفاضة، وعليه دم لفوات طواف القدوم إن كان الوقت متسعًا، فإن
خشي فوات الوقوف لو اشتغل بطواف القدوم سقط عنه ولا فدية عليه.
والحاصل:
أن طواف القدوم واجب عند المالكية بشروط ثلاثة: إن أحرم
المفرد
أو القارن من الحل ولو كان مقيمًا بمكة؛ ولم يزاحمه الوقت بحيث يخشى فوات الحج
إن اشتغل بالقدوم، فإن خشيه خرج لعرفة وتركه؛ ولم يُردف الحج على العمرة في
حرم. فإن اختل شرط من الثلاثة لم يجب عليه طواف القدوم ولادم عليه. ووجوب الدم
على من ترك طواف القدوم بشرطين: أولهما - أن يقدم السعي بعد ذلك الطواف على
الإفاضة. وثانيهما - ألا يعيد سعيه بعد الإفاضة حتى رجع لبلده. فإن أعاده بعد
الإفاضة، فلا دم عليه.
وأما طواف الإفاضة أوالزيارة (١):
فهو ركن باتفاق الفقهاء، لا يتم الحج إلا به، لقوله ﷿: ﴿وليطًّوفوا بالبيت
العتيق﴾ [الحج:٢٩/ ٢٢] قال ابن عبد البر: هو من فرائض الحج، لا خلاف في ذلك بين
العلماء. وقالت عائشة: «حججنا مع النبي ﷺ، فأفضنا يوم النحر، فحاضت صفية، فأراد
النبي ﷺ منها ما يريد الرجل من أهله، فقلت: يا رسول الله، إنها حائض، قال:
أحابستنا هي؟ قالوا: يا رسول الله، إنها قد أفاضت يوم النحر، قال: اخرجوا» (٢)
فدل على أن هذا الطواف لا بد منه، وأنه حابس لمن لم يأت به، ولأن الحج أحد
النسكين، فكان الطواف ركنًا كالعمرة.
فمن ترك طواف الزيارة، رجع من بلده
متى أمكنه محرمًا، لا يجزئه غير ذلك، لقصة صفية المتقدمة، فإنه ﷺ قال بعد أن
حاضت: «أحابستنا هي؟ قيل: إنها قد أفاضت يوم النحر، قال: فلتنفر إذًا». فهذا
يدل على أن هذا الطواف لا بد منه، وأنه حابس لمن لم يأت به، فإن نوى التحلل
ورفض إحرامه، لم يحل بذلك؛ لأن الإحرام لا يخرج منه بنية الخروج. وعلى هذا فإذا
فات طواف الإفاضة عن أيام النحر لا يسقط، بل يجب أن يأتي به؛ لأن سائر الأوقات
وقته.
(١) سمي طواف الإفاضة: لأنه يؤتى به عند الإفاضة من منى إلى مكة،
وسمي طواف الزيارة لأن الحاج يأتي من منى فيزور البيت ولا يقيم، وإنما يبيت
بمنى.
(٢) متفق عليه (نيل الأوطار: ٨٨/ ٥).
وأما طواف
الوداع (١) لمن أراد الخروج من مكة:
فهو مندوب عند المالكية؛ لكل من خرج من مكة
ولو كان مكيًا؛ لأنه لا يجب على الحائض والنفساء، ولو كان واجبًا لوجب عليهما
كطواف الزيارة.
وواجب عند باقي المذاهب يجبر تركه بدم، لما قال ابن عباس:
«أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت، إلا أنه خفف عن الحائض» (٢) وفي لفظ
لمسلم «كان الناس ينصرفون من كل وجه، فقال رسول الله ﷺ: لا ينفرن أحد، حتى يكون
آخر عهده بالبيت»، وأخرج الترمذي عن عمر: «من حج البيت فليكن آخر عهده بالبيت،
إلا الحيَّض، ورخص لهن رسول الله ﷺ» (٣)، وليس في سقوطه عن المعذور ما يجوِّز
سقوطه لغيره، كالصلاة تسقط عن الحائض، وتجب على غيرها، بل تخصيص الحائض بإسقاطه
عنها دليل على وجوبه على غيرها.
جزاء ترك الوداع:
إذا ثبت وجوبه، فإنه ليس بركن بغير خلاف، ويجبر تركه بدم كسائر الواجبات، فلو
خرج الحاج من مكة أو منى بلا وداع عامدًا أو ناسيًا أو جاهلًا بوجوبه، وعاد بعد
خروجه قبل مسافة القصر من مكة، وطاف للوداع، سقط وجوبه عند الشافعية والحنابلة؛
لأن من دون مسافة القصر في حكم الحاضر في أنه لا يقصر ولا يفطر، وهو معدود من
حاضري المسجد الحرام، وروي أن عمر «رد رجلًا من مَرّ الظهران إلى مكة ليكون آخر
عهده بالبيت» (٤) وعليه أن
(١) سمي بذلك لأنه لتوديع البيت، وسمي بطواف
الصدر لأنه عند صدور الناس من مكة ورجوعهم إلى وطنهم.
(٢) متفق عليه.
(٣)
قال الترمذي: حديث حسن صحيح، وكذلك رواه النسائي والحاكم، والشافعي وزاد فيه:
«فإن آخر النسك: الطواف بالبيت» (نصب الراية: ٨٩/ ٣).
(٤) رواه سعيد بن
منصور في سننه.
يرجع إن كان قريبًا من مكة، والقريب: هو الذي
بينه وبين مكة دون مسافة القصر، وإن كان بعيدًا بعث بدم، والبعيد: من بلغ مسافة
القصر.
شرائطه: لطواف الوداع
شرائط وجوب، وصحة أو جواز.
فمن أهم شرائط الوجوب اثنان:
١ - أن يكون من أهل الآفاق: فليس عند
الحنفية على أهل مكة ومن في حكمهم وهو من كان منزله داخل المواقيت طواف وداع
إذا حجوا؛ لأن هذا الطواف إنما وجب توديعًا للبيت. وقال الحنابلة: من كان منزله
في الحرم فهو كالمكي لا وداع عليه، ومن كان منزله خارج الحرم قريبًا منه فلا
يخرج حتى يودع، لعموم الحديث السابق: «لا ينفرن أحد حتى يكون آخر
عهده
بالبيت» (١) وقال الشافعية: يجب الوداع لكل من أراد الخروج من مكة لسفر ولو
مكيًا سواء أكان السفر طويلًا أم قصيرًا، لحديث ابن عباس المتقدم: «لا ينفرن
أحد ..». ولحديث أنس: «أنه ﷺ لما فرغ من أعمال الحج طاف للوداع» وهذا العموم
للمكي مندوب عند المالكية كما عرفنا.
٢ - الطهارة من الحيض والنفاس: فلا
يجب على الحائض والنفساء، ولا يجب عليهما الدم بتركه، للحديث السابق: «رخص
للحيَّض» ترك هذا الطواف، لا إلى بدل، فدل على أنه ليس واجبًا عليهن، إذ لو كان
واجبًا لما جاز تركه إلا إلى بدل، وهو الدم، فإذا حاضت المرأة قبل أن تودع،
خرجت ولا وداع عليها ولا فدية بالاتفاق، لحديث عائشة المتقدم: أن صفية حاضت،
فأمرها النبي ﷺ أن تنصرف بلا وداع.
(١) رواه أحمد ومسلم وأبو داود وابن
ماجه، وفي رواية متفق عليها: «أُمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت، إلا أنه
خُفّف عن المرأة الحائض»، وروى أحمد عن ابن عباس أن النبي ﷺ رخص للحائض أن تصدر
قبل أن تطوف بالبيت إذا كانت قد طافت في الإفاضة.
ولم يشترط
لوجوب هذا الطواف الطهارة عن الحدث والجنابة، وإنما يجب على المحدث والجنب؛
لأنه يمكنهما إزالة الحدث والجنابة.
وشرطا صحة طواف الوداع:
١ً - النية؛ لأنه عبادة، فلا بد له من النية. لكن تعيين النية ليس بشرط
عند الحنفية، فلو طاف بعد طواف الزيارة، دون أن يعين شيئًا، أو نوى تطوعًا، كان
طواف صدر؛ لأن الوقت تعين له، فينصرف مطلق النية إليه كصوم رمضان.
٢ً - أن
يكون بعد طواف الزيارة: فلو طاف بعد النفر من عرفات لا ينوي شيئًا، أو نوى
تطوعًا أو نوى طواف الصدر، وقع عن الزيارة لا عن الصدر؛ لأن الوقت له، وطواف
الصدر مرتب عليه.
ويتأدى طواف الوداع عند المالكية بطواف الإفاضة وطواف
العمرة، وحصل له ثوابه إن نواه بهما كتحية المسجد تؤدى بالفرض.
قدره
وكيفيته وسننه: كسائر الأطوفة التي سأذكرها.
وقته:
بعد فراغ المرء من جميع أمور الحج، وحين إرادته السفر من مكة، ليكون آخر
عهده بالبيت.
وهذا عند الحنفية بيان الوقت المستحب أو الأفضل، فلو أطال
الإقامة بمكة ولم يستوطنها صح طوافه وإن أقام سنة بعد الطواف، ويجوز طواف
الوداع عند الحنفية في أيام النحر وبعدها، ويكون أداء لا قضاء.
وقال
الجمهور (غير الحنفية): يكون طواف الوداع عند خروج الحاج ليكون آخر عهده
بالبيت، فإن طاف للوداع، ثم اشتغل بتجارة وإقامة، فعليه إعادته،
للحديث
المتقدم: «لا ينفرن أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت»، ولأنه إذا أقام بعده، خرج
عن أن يكون وداعًا في العادة، فلم يجزه، كما لو طافه قبل حل النفر.
فأما
إن قضى حاجة في طريقه، أو اشترى زادًا أو شيئًا لنفسه في طريقه، لم يعد؛ لأن
ذلك ليس بإقامة تخرج طوافه عن أن يكون آخر عهده بالبيت.
مكانه:
حول البيت، لا يجوز إلا به، لقوله ﷺ: «من حج هذا البيت، فليكن آخر عهده به
الطواف» والطواف بالبيت: هو الطواف حوله، فإن نفر ولم يطف، يجب عليه أن يرجع
ويطوف ما لم يجاوز الميقات عند الحنفية، ومن دون مسافة القصر عند الشافعية
والحنابلة؛ لأنه ترك طوافًا واجبًا، وأمكنه أن يأتي به من غير حاجة إلى تجديد
الإحرام. وإن جاوز الميقات عند الحنفية أو مسافة القصر عند الشافعية والحنابلة،
لا يجب عليه الرجوع، والأولى ألا يرجع، ويريق دمًا مكان الطواف؛ لأن هذا أنفع
للفقراء وأيسر عليه، لما فيه من دفع مشقة السفر، وضرر التزام الإحرام بعمرة،
لأنه إذا رجع أحرم بعمرة، فطاف طواف العمرة، وسعى، ثم يطوف الوداع، ولا شيء
عليه عند الحنفية، والحنابلة في الأصح، لتأخيره عن مكانه.
ولا يسقط عنه
الدم على الصحيح عند الشافعية والقاضي أبي يعلى الحنبلي. إن عاد بعد مسافة
القصر؛ لأنه قد استقرعليه الدم بالسفر الطويل، أي بلوغه مسافة القصر.
صلاة ركعتين، والوقوف في الملتزم والحطيم والدعاء وشرب ماء زمزم وتقبيل
الحجر بعد طواف الوداع:
إذا فرغ المودع من طوافه سبعًا ومن جميع أموره، صلى ركعتين كما فعل
النبي ﷺ، ويستحب أن يقف المودع في الملتزم (وهو ما بين الركن - الحجر الأسود
ـ
والباب قدر أربعة أذرع) فيلتزمه ملصقًا به صدره ووجهه ويبسط
يديه عليه، ويجعل يمينه نحو الباب ويساره نحو الحجر، ويدعو الله ﷿، كما فعل
النبي ﷺ (١).
ويأتي الحطيم أيضًا: وهو تحت الميزاب، ثم يشرب من زمزم،
ويستلم الحجر ويقبله.
قال منصور: سألت مجاهدًا إذا أردتُ الوداع كيف أصنع؟
قال: تطوف بالبيت سبعًا، وتصلي ركعتين خلف المقام، ثم تأتي زمزم، فتشرب من
مائها، ثم تأتي الملتزم ما بين الحجَر والباب، فتستلمه، ثم تد عو، ثم تسأل
حاجتك، ثم تستلم الحجر، وتنصرف.
وقال الفقهاء (٢): يقول في دعائه عند
الملتزم: «اللهم هذا بيتُك وأنا عبدك وابن عبدك، حملْتني على ما سخَّرت لي من
خلْقِك، وسيرتني في بلادك، حتى بلَّغتني بنعمتك إلى بيتك، وأعنْتَني على أداء
نُسُكي، فإن كنت رضيتَ عني، فازدد عني رضًا، وإلا فمُنَّ الآن قبل أن تنأى عن
بيتك داري، فهذا أوان انصرافي، إن أذنت لي، غير مستَبدِل بك ولا ببَيْتك، ولا
راغبٍ عنك ولا عن بيتك، اللهم فأصْحِبني العافيةَ في بدني، والصحة في جسمي،
والعصمة في ديني، وأحسن منقلبي، وارزقني طاعتك أبدًا ما أبقيتني، واجمع لي بين
خيري الدنيا والآخرة، إنك على كل شيء قدير».
أما المرأة إذا كانت حائضًا،
فلا تدخل المسجد، ووقفت على بابه، فدعت بذلك.
(١) رواه أبو داود عن عبد
الرحمن بن صفوان، وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده.
(٢) هو من كلام الإمام
الشافعي، أخرجه البيهقي.
كيفية الرجوع:
المذهب الصحيح عند الشافعية وباقي المذاهب: أن المودع يخرج ويولي ظهره إلى
الكعبة، ولا يمشي قهقرى، كما يفعله كثير من الناس، قالوا: بل المشي قهقرى
مكروه، فإنه ليس فيه سنة مروية ولا أثر محكي، وما لا أصل له لا يعرج عليه. قال
مجاهد: إذا كدت تخرج من باب المسجد، فالتفت، ثم انظر إلى الكعبة، ثم قل: اللهم
لا تجعله آخر العهد.
وكان النبي ﷺ إذا انصرف من حج أو عمرة أو غزو يقول:
«آيبون تائبون عابدون، لربنا حامدون، صدق الله وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب
وحده».
أخذ شيء من الحرم:
لا يجوز أخذ شيء من تراب الحرم وأحجاره معه إلى بلاده ولا إلى غيره من الحل،
ولا يجوز أخذ شيء من طيب الكعبة، لا للتبرك ولا لغيره، ومن أخذ شيئًا من ذلك
لزمه رده إليها؛ ولا يجوز قطع شيء من سترة الكعبة ولا نقله ولا بيعه ولا شراؤه
ولا وضعه بين أوراق المصحف، ومن حمل من ذلك شيئًا لزمه رده.
ويحرم إتلاف
صيد الحرم على الحلال والمحرم وتملكه وأكله.
ويجوز إخراج ماء زمزم من جميع
مياه الحرم ونقله إلى جميع البلدان؛ لأن الماء يستخلف، بخلاف التراب والحجر.
ثانيًا - شروط الطواف أو واجباته:
يشترط لصحة الطواف خمسة شروط عند الحنفية، وسبعة شروط عند المالكية، وثمانية شروط عند الشافعية، وأربعة عشر شرطًا عند الحنابلة:
أما شروط الطواف عند الحنفية، فهي ما يلي (١):
(١) البدائع: ١٢٨/ ٢ - ١٣٢، فتح القدير: ١٨٠/ ٢ - ١٨٢.
١ً
- نية الطواف: يشترط توافر أصل النية بالطواف دون حاجة لتعيين النية حال وجود
الطواف في وقته، فلو لم ينو أصلًا، بأن طاف هاربًا، أو طالبًا لغريم، لم يجز.
والفرق بين الطواف وبين الوقوف بعرفة في اشتراط النية للأول دون الثاني: هو أن
الوقوف ركن يقع في حال قيام الإحرام نفسه، فتكفيه النية السابقة وهي نية الحج،
كالركوع والسجود في الصلاة. أما الطواف فلا يؤتى به في حال قيام الإحرام نفسه،
لأنه يقع به التحلل من الحج، ولا إحرام حال وجود التحلل.
٢ً - أن يطوف
القادر ماشيًا، لا راكبًا إلا من عذر: فلو طاف راكبًا من غير عذر فعليه الإعادة
ما دام بمكة، وإن عاد إلى أهله يلزمه دم، لقوله تعالى: ﴿وليطوفوا بالبيت
العتيق﴾ [الحج:٢٩/ ٢٢] والراكب ليس بطائف حقيقة، فأوجب ذلك نقصًا فيه، فوجب
جبره بالدم.
٣ً - مكانه: أن يقع حول البيت في المسجد، لقوله تعالى:
﴿وليطوفوا بالبيت العتيق﴾ [الحج:٢٩/ ٢٢] والطواف بالبيت هو الطواف حوله، فيجوز
الطواف في المسجد الحرام قريبًا من البيت أو بعيدًا عنه، بشرط أن يكون في
المسجد، فلو طاف من وراء زمزم قريبًا من حائط المسجد، أجزأه، لوجود الطواف
بالبيت. ولو طاف حول المسجد وبينه وبين البيت حيطان المسجد، لم يجز؛ لأن حيطان
المسجد حاجزة، فلم يطف بالبيت، لعدم الطواف حوله.
ويطوف من خارج الحطيم؛
لأن الحطيم من البيت على لسان رسول الله ﷺ.
٤ً - زمانه: زمان طواف الإفاضة
يبدأ حين يطلع الفجر الثاني من يوم النحر، فلا يجوز قبله، وليس لآخره زمان معين
موقت به فرضًا، بل جميع الليالي والأيام وقته فرضًا، فلو أخره عن يوم النحر لا
شيء عليه، لإطلاق حديث: «افعل ولا حرج»، لكن عليه لتأخيره عن أيام النحر دم عند
أبي حنيفة. وإن رجع إلى أهله رجع إلى مكة بإحرامه الأول، ولا يحتاج إلى إحرام
جديد، وعليه دم لتأخيره.
وأما إنه لا يجوز قبل فجر النحر فلأن
ليلة النحر وقت ركن آخر وهو الوقوف بعرفة، فلا يكون وقتًا للطواف؛ لأن الوقت
الواحد لا يكون وقتًا لركنين.
٥ً - مقداره المفروض منه هو أكثر الأشواط:
وهو ثلاثة أشواط وأكثر الشوط الرابع، فأما الإكمال إلى سبعة أشواط فواجب، وليس
بفرض.
أما الطهارة عن الحدث والجنابة والحيض والنفاس فليست بشرط عند
الحنفية لجواز الطواف، وليست بفرض، بل واجبة، حتى يجوز الطواف بدونها، لقوله
تعالى: ﴿وليطوفوا بالبيت العتيق﴾ [الحج:٢٩/ ٢٢] أمر بالطواف مطلقًا عن شرط
الطهارة، ولايجوز تقييد مطلق الكتاب بخبر الواحد، فيحمل حديث: «الطواف صلاة إلا
أن الله تعالى أباح فيه الكلام» (١) على التشبيه، كما في قوله تعالى: ﴿وأزواجه
أمهاتهم﴾ [الأحزاب:٦/ ٣٣] أي كأمهاتهم، ومعناه الطواف كالصلاة، إما في الثواب،
أو في أصل الفرضية.
فإذا طاف من غير طهارة فما دام بمكة تجب عليه الإعادة،
لجبر الشيء بجنسه، وإن أعاد في أيام النحر فلا شيء عليه، وإن أخره عنها فعليه
دم عند أبي حنيفة. وإن لم يعد ورجع إلى أهله فعليه الدم، غير أنه إن كان محدثًا
فعليه شاة لكون النقصان يسيرًا، وإن كان جنبًا فعليه بدنة، لكون النقصان
فاحشًا.
وأما الموالاة في الطواف فليست بشرط عند الحنفية، فلو صلى الطائف
صلاة جنازة أو مكتوبة أو ذهب لتجديد الوضوء، ثم عاد، بنى على طوافه، ولا يلزمه
الاستئناف، لقوله تعالى: ﴿وليطوفوا بالبيت العتيق﴾ [الحج:٢٩/ ٢٢] مطلقًا عن شرط
الموالاة.
(١) رواه ابن حبان والحاكم عن ابن عباس بلفظ: «الطواف بالبيت
صلاة، إلا أن الله قد أحل فيه النطق، فمن نطق فيه فلا ينطق إلا بخير» وأخرجه
الترمذي بلفظ: «الطواف حول البيت مثل الصلاة» (نصب الراية: ٥٧/ ٣).
وليس
الابتداء من الحجر الأسود بشرط أيضًا عند الحنفية، بل هو سنة في ظاهر الرواية،
فلو افتتح من مكان آخر من غير عذر، أجزأه مع الكراهة، لقوله تعالى: ﴿وليطوفوا
بالبيت العتيق﴾ [الحج:٢٩/ ٢٢] مطلقًا عن شرط الابتداء بالحجر الأسود.
ولا
بأس أن يطوف وعليه خفاه أو نعلاه إذا كانا طاهرتين، لما روي عن النبي ﷺ أنه طاف
مع نعليه، كما ذكر الكاساني.
وشروط الطواف عند المالكية سبعة هي ما يلي (١):
١ً - الطهارة من الحدث والنجس وستر العورة كالصلاة، إلا أنه يباح فيه
الكلام.
٢ً - الموالاة بلا فصل كثير بين الأشواط، فإن فصل كثيرًا لحاجة أو
لغيرها ابتدأه من أوله.
ويجب أن يقطع طوافه لإقامة صلاة فريضة مع إمام
راتب: وهو إمام مقام إبراهيم، وهو المعروف بمقام الشافعي. ولا يقطعه مع إمام
غير راتب. وإذا أقيمت الصلاة أثناء شوط، ندب له كمال الشوط الذي هو فيه، بأن
ينتهي للحجَر ليبني على طوافه المتقدم من أول الشوط، فإن لم يكمله ابتدأ من
موضع خروجه، ويبني على ما فعله من طوافه بعد سلامه، وقبل تنفله.
والحاصل:
أن صلاة الفريضة لا تبطل الطواف، وتبطله النافلة والجنازة، ولايبطله الفصل لعذر
كرعاف، فإنه يبني على ما سبق بعد غسل الدم بشرط ألا يتعدى موضعًا قريبًا لأبعد
منه، وألا يبعد المكان في نفسه، وألا يطأ نجاسة.
(١) القوانين الفقهية: ص
١٣٢، الشرح الصغير: ٤٦/ ٢ - ٤٨،٦٠، بداية المجتهد: ٣٣٠/ ١ ومابعدها.
٣ً
- الترتيب: وهو أن يجعل البيت عن يساره ويبتدئ بالحجر الأسود.
٤ً - أن
يكون بجميع بدنه خارجًا عن البيت، فلا يمشي على الشاذروان ولا على الحِجْر.
٥ً
- أن يطوف بداخل المسجد: فلا يجزئ خارجه.
٦ً - كون الطواف سبعة أشواط من
الحجر الأسود إلى الحجر، فلا يجزئ أقل من سبعة، فلو اقتصر على ستة مثلًا لم
تجزه. فإن شك في عدد الأشواط هل طاف ثلاثة أو أربعة، بنى على الأقل.
٧ً -
صلاة ركعتين بعد الطواف.
أما المشي لقادر عليه: فهو واجب عند المالكية
كالمشي في السعي، فإن لم يمش بأن ركب أو حمل، فعليه دم إن لم يُعدْه وقد خرج من
مكة، فإن أعاده ماشيًا بعد رجوعه له من بلده، فلا دم عليه. ولا دم على العاجز
عن المشي ولا إعادة عليه.
وكذلك الابتداء من الحجر الأسود واجب عند
المالكية، فإن ابتدأ من غيره لزمه دم.
وأما وقت طواف الإفاضة عند المالكية
فهو من طلوع فجر يوم النحر، كما قال الحنفية، فلا يصح قبله، كما لا يصح رمي
جمرة العقبة قبل فجر النحر.
وواجبات الطواف عند الشافعية بما يشمل الشروط والأركان ثمان وهي ما يأتي
(١):
(١) مغني المحتاج: ٤٨٥/ ١ - ٤٨٧،٥٠٤.
١ً - ستر العورة
كسترها في الصلاة: لما في الصحيحين: «لا يطوف بالبيت عريان». فإن عجز عنها، طاف
عاريًا، وأجزأه كما لو صلى كذلك.
٢ً و٣ً - طهارة الحدث والنجس في الثوب
والبدن والمكان؛ لأن الطواف في البيت صلاة، كما نطق به الخبر المتقدم، فلو أحدث
أو تنجس بدنه أو ثوبه أو مطافه بغير معفو عنه، أو عري مع القدرة على الستر في
أثناء الطواف، تطهر وستر عورته، وبنى على طوافه، حتى وإن تعمد ذلك وطال الفصل،
إذ لا تشترط الموالاة فيه عندهم كالوضوء، ويسن الاستئناف.
لكن غلبة
النجاسة في المطاف أصبحت مما عمت به البلوى، فيعفى عما يشق الاحتراز عنه أيام
الموسم وغيره، بشرط ألا يتعمد المشي عليها، وألا يكون فيها رطوبة.
والأوجه
أن للمتيمم والعاجز عن الماء طواف الركن ليستفيدا به التحلل، ثم إن عادا إلى
مكة، لزمتهما إعادته.
٤ً - أن يجعل الطائف البيت عن يساره، مارًّا تلقاء
وجهه إلى جهة الباب، اتباعًا للسنة كما رواه مسلم، مع خبر: «خذوا عني مناسككم»
فإن خالف ذلك لم يصح طوافه لمعارضته الشرع. ولو طاف مستلقيًا على ظهره، أو على
وجهه، مع مراعاة كون البيت عن يساره، صح.
٥ً - الابتداء من الحجر الأسود:
اتباعًا للسنة كما رواه مسلم، ومحاذاته له بجميع بدنه، أي جميع شقه الأيسر بحيث
لا يتقدم من الشق الأيسر على جزء من الحجر، فلو لم يحاذه أو لم يحاذ بعضه بجميع
شقه، كأن جاوزه ببعض شقه إلى جهة الباب، لم يصح طوافه.
فإذا
انتهى إليه، ابتدأ منه.
ويشترط أن يكون الطواف خارج البيت وحجر إسماعيل
والشاذَرْوَان (١)، فلو مشى على الشاذَرْوَان أو مسّ الجدار الكائن في موازاته،
أوأدخل جزءًا منه في هواء الشاذروان أو دخل من إحدى فتحتي الحِجْر (٢) وخرج من
الفتحة الأخرى، أو خلف منه قدر الذي من البيت وهو ستة أذرع، واقتحم الجدار،
وخرج من الجانب الآخر، لم يصح طوافه. أما كون الطواف في غير الحجر، فلقوله
تعالى: ﴿وليطوفوا بالبيت العتيق﴾ [الحج:٢٩/ ٢٢] وإنما يكون طائفًا به إذا كان
خارجًا عنه، وإلا فهو طائف فيه.
وأما الحِجْر: فلأنه ﷺ إنما طاف خارجه،
وقال: «خذوا عني مناسككم» ولخبر مسلم عن عائشة ﵂: «سألت رسول الله عن الحِجْر،
أمن البيت هو؟ قال: نعم، قلت: فما بالهم لم يدخلوه في البيت؟ قال: إن قومك قصرت
بهم النفقة، قلت: فما شأن بابه مرتفعًا؟ قال: فعل ذلك قومك ليدخلوا من شاؤوا،
ويمنعوا من شاؤوا، ولولا أن قومك حديثو عهد بجاهلية، فأخاف أن تنكر قلوبهم أن
أدخل الجدار في البيت، وأن ألصق بابه بالأرض لفعلت» وظاهر الخبر أن الحِجرجميعه
من البيت، لكن الصحيح أنه ليس كذلك، بل الذي هو من البيت قدر ستة أذرع تتصل
بالبيت، ومع ذلك يجب الطواف خارجه؛ لأن الحج باب اتباع.
(١) هو القدر الذي
ترك من عرض الأساس خارجًا عن عرض الجدار، مرتفعًا عن وجه الأرض قدر ثلثي ذراع
أي هو الجدار القصير المسنم بين الركنين الغربي واليماني، تركته قريش لضيق
النفقة، وهو جزء من البيت.
(٢) هو ما بين الركنين الشاميين من جهة الشمال،
المحوط بجدار قصير بينه وبين كل من الركنين فتحة، والآن أغلقت الفتحة الغربية،
وهو قدر ستة أذرع.
وبعبارة أخرى: هو الجزء الأسفل اللاصق
لجدار البيت والذي هو محاذٍ لجدارها كالرصيف، وهو ما فضل منها عند بنائها.
ويلاحظ أن من قبَّل الحجر الأسود، فرأسه في حال التقبيل في جزء من البيت،
فيلزمه أن يقر قدميه في محلهما حتى يفرغ من التقبيل ويعتدل قائمًا.
٦ً -
أن يطوف بالبيت سبعًا ولو في الأوقات المنهي عن الصلاة فيها للاتباع، فلو ترك
من السبع شيئًا، وإن قل، لم يجزه، فلو شك في العدد أخذ بالأقل، كعدد ركعات
الصلاة.
٧ً - أن يكون الطواف داخل المسجد: للاتباع أيضًا، فلا يصح حوله
بالإجماع. ويصح داخل المسجد وإن وسِّع، وحال حائل بين الطائف والبيت كالسواري،
ويصح على سطح المسجد، وإن كان سقف المسجد أعلى من البيت، كالصلاة على جبل أبي
قبيس، مع ارتفاعه عن البيت، وهذا هو المعتمد.
٨ً - نية الطواف إن استقل:
بأن لم يشمله نسك كسائر العبادات، كالطواف المنذور والمتطوع به. أما الذي شمله
نسك وهو طواف الركن للحج أو العمرة وطواف القدوم، فلا يحتاج إلى نية، لشمول نية
النسك له.
ولا بد لطواف الوداع من نية؛ لأنه يقع بعد التحلل، ولأنه ليس من
المناسك عند الشيخين (الرافعي والنووي). ولا بد في النية من التعيين.
أما
وقت طواف الإفاضة ومثله رمي العقبة والذبح والحلق فيدخل بنصف ليلة النحر؛ لأنه
ﷺ «أرسل أم سلمة ليلة النحر فرمت قبل الفجر، ثم أفاضت» (١).
وأما المشي في
الطواف فليس عند الشافعية شرطًا بل هو سنة، كما رواه مسلم، ويسن أن يكون حافيًا
في طوافه عند عدم العذر.
وأما صلاة ركعتي الطواف فسنة عندهم. وللطواف
واجبات دينية: منها أن
(١) رواه أبو داود بإسناد صحيح على شرط مسلم عن
عائشة ﵂.
يصون نفسه عن كل مخالفة في وقت الطواف، ومنها - أن
يصون قلبه عن احتقار من يراه، ومنها - أن يلتزم الأدب، ومنها - أن يحفظ يده
وبصره عن كل معصية.
وشروط الطواف عند الحنابلة: أربعة عشر (١):
إسلام وعقل، ونية معينة، ودخول وقت، وستر عورة لقادر، وطهارة حدث لا
لطفل، وطهارة خبث، وتكميل السبْع يقينًا، فإن شك أخذ باليقين، ويقبل في بيان
عدد الأشواط قول عدلين، وجعل البيت عن يساره، غير متقهقر، ومشي لقادر،
وموالاته، وكونه داخل المسجد لا يخرج عنه، وأن يبتدئه من الحجر الأسود فيحاذيه،
وألا يدخل في شيء من البيت كالحِجْر والشاذروان.
أما وقت طواف الإفاضة:
فيدخل من نصف ليلة النحر، كما قال الشافعية.
وأما ركعتا الطواف فسنة كما
قرر الشافعية.
خلاصة آراء الفقهاء في شروط الطواف:
يمكن تلخيص ماسبق من بيان الآراء الفقهية في شروط الطواف على النحو
التالي:
١ - الطهارة عن الحدث والنجس ليست بشرط عند الحنفية، وإنما هي
واجب، وشرط عند باقي المذاهب.
٢ - نية الطواف: أصل النية لا تعيينها شرط
عند الحنفية، وليست بشرط عند المالكية، والنية مع التعيين شرط عند الشافعية إن
استقل الطواف عن نسك يشمله، والنية المعينة شرط عند الحنابلة.
(١) غاية
المنتهى: ٤٠٢/ ١، المغني: ٤٤٠/ ٣ ومابعدها.
٣ - المشي للقادر
شرط عند الحنفية والحنابلة، واجب عند المالكية، وليس بشرط عند الشافعية، وإنما
هو سنة.
٤ - كون الطواف في المسجد شرط بالاتفاق.
٥ - الابتداء بالحجر
الأسود: ليس بشرط وإنما هو واجب عند الحنفية، وعند المالكية، وشرط عند الشافعية
والحنابلة. وترك الواجب يوجب الدم فيما لو ابتدأ من غير الحجر.
٦ -
الترتيب أو جعل البيت عن يسار الطائف: واجب لدى الحنفية يلزم دم بتركه، وشرط
عند باقي المذاهب؛ لأن الطائف كالمؤتم بالكعبة، والواحد يقف عن يمين الإمام،
ويساره له.
٧ - الموالاة: ليست شرطًا عند الحنفية والشافعية، وشرط عند
المالكية والحنابلة.
٨ - كون الطواف سبعة أشواط: شرط عند الجمهور (غير
الحنفية) واجب لاشرط عن الحنفية، وإنما الفرض أكثر الأشواط.
٩ - زمان طواف
الإفاضة: بعد فجر يوم النحر في مذهبي الحنفية والمالكية، ويجوز بعد منتصف ليلة
النحر في مذهبي الشافعية والحنابلة.
١٠ - صلاة ركعتي الطواف: واجب عند
المالكية، وواجب في وقت مباح فيه الصلاة لا كراهة فيه، عند الحنفية. وسنة عند
الشافعية والحنابلة.
حج المرأة الحائض:
إذا حاضت المرأة أو نفست عند الإحرام اغتسلت للإحرام وأحرمت وصنعت كما
يصنعه الحاج، غير أنها لا تطوف بالبيت حتى تطهر، وإذا حاضت المرأة أو
نفست
فلا غسل عليها بعد الإحرام، وإنما يلزمها أن تشد الحفاظ الذي تضعه كل أنثى على
محل الدم، لمنع تسربه للخارج. ثم تفعل سائر مناسك الحج إلا الطواف بالبيت؛ لأن
رسول الله ﷺ أمر عائشة ﵂ أن تصنع ما يصنع الحاج غير الطواف بالبيت (١). وقال في
حديث صحيح لأسماء بنت عميس: «اصنعي ما يصنع الحاج غير ألا تطوفي بالبيت».
وعلى
هذا فلا تلزم بطواف القدوم ولا بقضائه؛ لأنه سنة عند الجمهور (غير المالكية)
وإذا كانت متمتعة ثم حاضت قبل الطواف للعمرة، لم يكن لها أن تطوف بالبيت؛ لأن
الطواف بالبيت صلاة، وهي ممنوعة من دخول المسجد، فإن خشيت فوات الحج أحرمت
بالحج مع عمرتها، وتصير قارنة عند الجمهور، وقال أبو حنيفة: ترفض العمرة وتهل
بالحج، عملًا بحديث عائشة عند مسلم: «انقضي رأسك، وامتشطي، وأهلي بالحج، ودعي
العمرة» ثم قال ﵇ لها بعد أن اعتمرت من التنعيم: «وهذه عمرة مكان عمرتك» فدل كل
هذا على أنها رفضت عمرتها وأحرمت بحج.
وحجة الجمهور: حديث جابر أنه ﷺ أمر
عائشة أن تهل بالحج، فأصبحت قارنة، حتى إذا طهرت طافت بالكعبة، وبالصفا
والمروة. ثم قال لها: «قد حللت من حجتك وعمرتك» والاعتمار من التنعيم لم يأمرها
به النبي ﷺ، وإنما فعلت ذلك زيارة زارت بها البيت، وإدخال الحج على العمرة جائز
بالإجماع من غير خشية الفوات، فمع خشية الفوات أولى. ولا يصح الخروج من الحج أو
العمرة بعد الإحرام بنية الخروج، وإنما يخرج منها بالتحلل بعد فراغها. ومعنى
«دعي
(١) متفق عليه عن جابر، وروى مسلم عن عائشة أن النبي ﷺ أمرها
بالإعراض عن أفعال العمرة، وأن تحرم بالحج، فتصير قارنة وتقف بعرفات، وتفعل
المناسك كلها إلا الطواف، فتؤخره حتى تطهر (شرح مسلم: ١٣٤/ ٨ - ١٤٠، نيل
الأوطار: ٣١٨/ ٤).
العمرة» أي ارفضي العمل فيها، وإتمام
أفعالها التي هي الطواف والسعي وتقصير شعر الرأس، فإنها تدخل في أفعال الحج.
وإذا
حاضت المرأة بعد الوقوف بعرفة وطواف الزيارة، انصرفت من مكة، ولاشيء عليها
لطواف الصدَر، فليس على المرأة الحائض وداع ولا فدية إذا حاضت قبل أن تودع،
باتفاق فقهاء الأمصار، بدليل حديث صفية المتقدم حين قالوا: «يارسول الله، إنها
حائض! فقال: أحابستنا هي؟ قالوا: يا رسول الله، إنها قد أفاضت يوم النحر، قال:
فلتنفر إذًا» ولم يأمرها بفدية ولا غيرها. وفي حديث ابن عباس السابق: «إلا أنه
- أي طواف الوداع - خفف عن المرأة الحائض» والنفساء مثل الحائض في الحكم؛ لأن
أحكام النفاس أحكام الحيض فيما يوجب ويسقط. وإذا اضطرت المرأة اضطرارًا شديدًا
لمغادرة مكة قبل انتهاء مدة الحيض أو النفاس، ولم تكن قد طافت طواف الإفاضة،
فتغتسل وتشد الحفاظ الموضوع في أسفل البطن شدًا محكمًا، ثم تطوف بالبيت سبعًا
طواف الإفاضة، ثم تسعى بين الصفا والمروة سبعًا، وعليها ذبح بدنة (وهي ما أتم
خمس سنين من الإبل أو أتم سنتين من البقر) وذلك تقليدًا للحنفية الذين يقولون
بصحة الطواف حينئذ، مع الحرمة، ووجوب إهداء البدنة (١).
ثالثًا - سنن الطواف: أبنت سنن الحج في كل مذهب على حدة، وألخص هنا منها
سنن الطواف (٢):
(١) راجع الموضوع في شرح مسلم: ١٣٩/ ٨ وما بعدها، بداية المجتهد:٣٣١/ ١،
فتح القدير: ٢٢٢/ ٢ - ٢٢٤، مغني المحتاج: ٥١٤/ ١، المغني: ٤٦١/ ٣، ٤٨١
ومابعدها.
(٢) الدر المختار: ٢٢٧/ ٢ - ٢٣٣، البدائع: ١٣١/ ٢، مراقي
الفلاح: ص ١٢٤، القوانين الفقهية: ص١٣٢، الشرح الصغير: ٤٨/ ٢ - ٥٢، الإيضاح: ص
٣٤ - ٤٤، مغني المحتاج: ٤٨٧/ ١ - ٤٩٢، غاية المنتهى: ٤٠٢/ ١، المغني: ٣٧٢/ ٣ -
٣٧٦،٣٧٩،٣٨٣.
١ - استلام الحجر الأسود (أي لمسه بيده اليمنى أو بكفيه) أول طوافه
وفي بدء كل شوط وتقبيله
بلا صوت، ووضع جبهته عليه عند الشافعية بلا إيذاء، إذا لم تكن زحمة، فإن لم
يتمكن من الاستلام باليد استلم بعود ونحوه مع استقباله بجميع بدنه، فإن عجز
أشار بيده، ثم وضع العود أو يده على فيه بعد اللمس بأحدهما بلا صوت، فإذا أظهر
الصوت جاز على الأرجح عند المالكية، وكره مالك السجود وتمريغ الوجه على الحجر،
ويسن عند الشافعية أن يكون التقبيل ووضع الجبهة ثلاثًا.
ويكبر ويهلل ويحمد
الله تعالى، ويصلي على النبي ﷺ.
ودليل التقبيل فعل الرسول ﷺ، كما رواه
الشيخان، ودليل وضع جبهته عليه اتباع السنة كما رواه البيهقي. ودليل الاستلام
باليد دون إيذاء: «أن النبي ﷺ قال: ياعمر، إنك رجل قوي، لا تزاحم على الحجر،
فتؤذي الضعيف، إن وجدت خلوة، وإلا فهلل وكبر (١)». ولأن ترك الإيذاء واجب،
وتقبيل ما استلمه به من يد أو نحو عصا، لخبر الصحيحين: «إذا أمرتكم بأمر فأتوا
منه ما استطعتم» ولما روى مسلم بن نافع قال: «رأيت ابن عمر يستلم الحجر بيده،
ويقول: ما تركته منذ رأيت رسول الله ﷺ يفعله».
وتكرار الاستلام والتقبيل
في كل طوفة من الطوفات السبع، لحديث «أنه ﷺ كان لا يدع أن يستلم الركن اليماني
والحجر الأسود في كل طوفة» (٢).
ولو استقبل الحجر مطلقًا، ونوى الطواف عند
من اشترط النية وهم الحنفية والحنابلة، كفى في تحقيق المقصود الذي هو الابتداء
من الحجر.
(١) رواه الشافعي وأحمد عن عمر ﵁.
(٢) رواه أبو داود
والنسائي عن ابن عمر ﵄.
ولا يستلم بيده الركنين الشاميين
(وهما اللذان عندهما الحِجْر) ولا يقبلهما، ويستلم الركن اليماني (وهو الذي
يسبق ركن الحجر) في آخر كل شوط، ولايقبله، لأنه لم ينقل، لما في الصحيحين عن
ابن عمر: «أنه ﷺ كان لا يستلم إلا الحَجَر والركن اليماني».
ويستحب للمرأة
عند الحنابلة إذا قدمت مكة نهارًا تأخير الطواف إلى الليل ليكون أستر لها، ولا
يستحب لها مزاحمة الرجال لاستلام الحجر، لكن تشير بيدها إليه كالذي لا يمكنه
الوصول إليه.
٢ - الدعاء:
وليس بمحدود ويدعو بما يشاء. وأفضله الدعاء المأثور، فيقول في أول كل
طوفة: (بسم الله والله أكبر، اللهم إيمانًا بك، وتصديقًا بكتابك ووفاء بعهدك
(١)، واتباعًا لسنة نبيك محمد ﷺ.
وليقل قبالة باب الكعبة: (اللهم إن البيت
بيتك، والحرمَ حرمك، والأمن أمنك، وهذا مقام العائذ بك من النار (٢».
وليقل
بين الركنين اليمانيين: (اللهم آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا
عذاب النار).
ومأثور الدعاء أفضل من قراءة القرآن، للاتباع، والقراءة أفضل
من غير مأثور الدعاء؛ لأن الموضع موضع ذكر، والقرآن أفضل الذكر، وفي الحديث
القدسي يقول الرب ﷾: «من شغله ذكري عن مسألتي، أعطيته أفضل ماأعطي السائلين،
وفضلُ كلام الله تعالى على سائر الكلام كفضل الله تعالى على سائر خلقه» (٣)،
لكن تكره القراءة عند المالكية.
(١) وهو الميثاق الذي أخذه الله تعالى
علينا بامتثال أمره واجتناب نهيه.
(٢) أي نفس الداعي: أي هذا الملتجئ
المستعيذ بك من النار.
(٣) رواه الترمذي وحسنه.
ويسن
الإسرار بالذكر والقراءة؛ لأنه أجمع للخشوع.
ويراعي ذلك أيضًا في كل طوفة
اغتنامًا للثواب، والدعاء في الأولى ثم في الأوتار آكد، كتقبيل الحجر واستلامه،
لحديث: «إن الله وتر يحب الوتر».
ويكره إنشاد الشعر، والتحدث في الطواف
للحديث السابق: «الطواف بالبيت صلاة فأقلوا في الكلام» وفي رواية «فمن نطق فيه
فلا ينطق إلا بخير» ولأن ذلك يشغله عن الدعاء.
٣ ً- الرَّمَل (١) للرجال أو الصبيان دون النساء في الأشواط الثلاثة الأُوَل،
وهو عند الحنفية والشافعية سنة في كل طواف يعقبه سعي بأن يكون بعد طواف
قدوم أو ركن يعقبه سعي، وهذا هو المشهور، ولا يرمل إذا كان طاف طواف القدوم أو
اللقاء، وسعى عقيبه. فإن كان لم يطف طواف القدوم أو كان قد طاف لكنه لم يسع
عقبيه، فإنه يرمل من طواف الزيارة، وطواف العمرة.
وقال المالكية: يسن
الرمل لمحرم بحج أو عمرة في طواف القدوم وطواف العمرة؛ لأن ما رمل فيه النبي ﷺ
كان للقدوم وسعى عقبه.
ومحل استنان الرمل إن أحرم بحج أو عمرة أو بهما من
الميقات بأن كان آفاقيًا أو كان من أهله، وإلا فيندب. أي يندب لمحرم بحج أو
عمرة من دون المواقيت كالتنعيم والجعرانة، وفي طواف الإفاضة لمن لم يطف طواف
القدوم لعذر أو نسيان، وأحرم من الميقات. ولا يندب الرمل في طواف تطوع
ووداع.
(١) الرمل أو الخبب: الإسراع في المشي دون الجري أو الإسراع في
المشي مع مقاربة الخطو من غير عدو فيه ولا وثب، وهذا الرمل مما زال سببه وبقي
حكمه، فإن سببه رفع التهمة عن أصحاب رسول الله ﷺ حين قدموا مكة بعمرة، فكان
كفار مكة يظنون فيهم الضعف بسبب حمى المدينة، وكانوا يقولون: قد أوهنتهم حمى
يثرب، فأمروا بالرمل في ابتداء الأشواط، لمنع تهمة الضعف.
وكذلك
قال الحنابلة مثل المالكية: لا يسن الرمل في غير طواف القدوم أو طواف
العمرة.
ويمشي في الأشواط الباقية من طوافه على هينته، لما رواه الشيخان
عن ابن عمر قال: «كان رسول الله ﷺ إذا طاف بالبيت الطواف الأول خبَّ ثلاثًا،
ومشى أربعًا» وروى مسلم عنه قال: «رمل النبي ﷺ من الحَجَر ومشى أربعًا».
فإن
طاف راكبًا أو محمولًا، حرك الدابة، ورمل به الحامل، ويكره ترك الرمل بلا عذر،
ولو تركه في شيء من الثلاثة، لم يقضه في الأر بعة الباقية؛ لأن هيئتها السكون،
فلا يغير، كما لو ترك الجهر في الركعتين الأوليين، فلا يقضى بعدهما لتفويت سنة
الإسرار.
وليقل في أثناء الرمل: «اللهم اجعله حجًا مبرورًا، وذنبًا
مغفورًا، وسعيًا مشكورًا».
٤ - الاضطباع عند الجمهور غير مالك:
وهو جعل وسط الرداء تحت كتفه اليمنى، ورد طرفيه على كتفه اليسرى، وإبقاء
كتفه اليمنى مكشوفة. لما روى يعلى ابن أمية: «أن النبي ﷺ طاف مضطبعًا» (١)،
وروى ابن عباس: «أن النبي ﷺ وأصحابه اعتمروا من الجِعْرانة، فرملوا بالبيت
وجعلوا أرديتهم تحت آباطهم، ثم قذفوها على عواتقهم اليسرى» (٢).
وهو سنة
عند الحنفية والشافعية والحنابلة كالرمل في جميع كل طواف يرمل فيه، ولا يسن في
طواف لا رمل فيه، وكذا يضطبع عند الشافعية على الصحيح في
(١) رواه أبو
داود بإسناد صحيح وابن ماجه، والترمذي وصححه (نيل الأوطار: ٣٨/ ٥).
(٢)
رواه أحمد وأبو داود، وقوله: تحت آباطهم: أن يجعله تحت عاتقه الأيمن، وقذفوها
أي طرحوا طرفيها، وعواتقهم جمع عاتق وهو المنكب (نيل الأوطار: ٣٨/ ٥).
السعي
قياسًا على الطواف بجامع قصد مسافة مأمور بتكريرها، سواء اضطبع في الطواف قبله
أم لا. ولا يستحب في الأصح في ركعتي الطواف، لكراهة الاضطباع في الصلاة، فيزيله
عند إرادتها، ويعيده عند إرادة السعي.
ولا يضطبع عند الحنفية والحنابلة في
غير الطواف، فإن فرغ من الطواف سوى رداءه؛ لأن الاضطباع غير مستحب في الصلاة،
ولا في السعي، لأن النبي ﷺ لم يضطبع فيه، والسنة في الاقتداء به.
ولا
ترمُل المرأة ولا تضطبع، أي لا يطلب منها ذلك؛ لأن بالرمل تتبين أعطافها،
وبالاضطباع ينكشف ما هو عورة منها.
وليس على أهل مكة رمل، عملًا بقول ابن
عباس وابن عمر.
٥ً - الدنو أو القرب من البيت للذكور:
لشرفه ولأنه المقصود، ولأنه أيسر في الاستلام والتقبيل. والأولى كما قال
بعضهم أن يجعل بينه وبين البيت ثلاث خطوات ليأمن مرور بعض جسده على
الشاذَرْوان. وإن تأذى غيره بنحو زحمة، فالبعد أولى.
أما المرأة والخنثى
فيكونان في حاشية المطاف، فإن طافا خاليين فكالرجل في استحباب القرب.
وهذا
مستحب عند الشافعية والحنابلة، لكن الرمل عند الشافعية مع البعد أولى من الدنو،
فإن كان لا يتمكن من الرمل أيضًا أو يخاف صدم النساء أو الاختلاط بهن، فالدنو
أولى.
ومن سنن الطواف المؤكدة أيضًا عند الشافعية والحنابلة: المشي لقادر
عليه، وصلاة ركعتي الطواف بعده خلف مقام إبراهيم، ثم في الحِجْر تحت الميزاب،
ثم في المسجد الحرام، ثم في الحرم حيث شاء من الأمكنة في أي زمان.
وهذان
واجبان عند المالكية والحنفية. وإذا صلى المكتوبة بعد طوافه أجزأته عن ركعتي
الطواف عند الحنابلة؛ لأنهما ركعتان شرعتا للنسك، فأجزأت عنهما المكتوبة كركعتي
الإحرام، ولا تجزئ عنهما المكتوبة عند الحنفية والمالكية كركعتي الفجر.
ومن
سننه أيضًا الموالاة بين الأشواط عند الحنفية والشافعية، وهي شرط عند المالكية
والحنابلة.
وتسن النية عند الشافعية في طواف النسك، وتجب في طواف لم يشمله
نسك وفي طواف وداع.
المطلب الثالث - السعي:
السعي واجب عند الحنفية، ركن عند باقي الأئمة، لقوله ﷺ: «اسعوا فإن الله
كتب عليكم السعي» و«كتب عليكم السعي فاسعوا» (١) وأما قوله تعالى: ﴿إن الصفا
والمروة من شعائر الله، فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطَّوف بهما﴾
[البقرة:١٥٨/ ٢] فهو لرفع الإثم على من تطوف بهما، ردًا على ما كان في الجاهلية
من التحرج من السعي بينهما، لأنه كان عليهما صنمان.
وأبحث هنا واجباته،
وسننه وحكم تأخره عن وقته الأصلي (٢).
أولًا - واجبات السعي
أو شروطه: للسعي بين الصفا
والمروة شروط أو واجبات هي:
(١) رواهما أحمد، الأول عن حبيبة بن أبي
تِجراة، والثاني عن صفية بنت شيبة (نيل الأوطار: ٥٠/ ٥).
(٢) البدائع:١٣٤/
٢ ومابعدها، الدر المختار:٢٣٤/ ٢، الشرح الصغير:٥٠/ ٢ ومابعدها، الشرح
الكبير:٤١/ ٢، القوانين الفقهية: ص١٣٢، مغني المحتاج:٤٩٣/ ١ ومابعدها،
الحضرمية: ص ١٢٨، الإيضاح: ص ٤٤ - ٤٧، غاية المنتهى: ٤٠٤/ ١ - ٤٠٦، المغني:٣٨٥
- ٣٨٩.
١ ً - أن يتقدمه طواف صحيح بحيث لا يتخلل بينهما
الوقوف بعرفة، اتباعًا للسنة، وقد قال ﷺ: «خذوا عني مناسككم» ولأن السعي تبع
للطواف. ومن سعى بعد طواف قدوم لم يُعده، والأفضل للقارن عند الحنفية تقديم
السعي.
وأجاز الحنفية أن يكون السعي بعد وجود أكثر الطواف قبل تمامه؛ لأن
للأكثر حكم الكل.
ويصح كونه بعد طواف مطلقًا ولو مسنونًا عند الجمهور، وأن
يكون بعد طواف ركن أو قدوم عند الشافعية.
٢ ً - الترتيب: بأن يبدأ بالصفا
ويختم بالمروة؛ لأنه ﷺ بدأ بالصفا، وقال:
«ابدؤوا بما بدأ الله به» (١)
وهو قوله تعالى: ﴿إن الصفا والمروة من شعائر الله﴾ [البقرة:١٥٨/ ٢] فإذا بدأ
بالمروة إلى الصفا لا يعتد بذلك الشوط.
٣ ً - أن يكون سبعة أشواط: بأن يقف
على الصفا أربع مرات، وعلى المروة أربعًا ويختم بها، ويحسب الذهاب إلى المروة
مرة، والعود منها إلى الصفا مرة أخرى. فإن شك في العدد بنى على الأقل. ودليل
هذا المقدار: إجماع الأمة، وفعل رسول الله ﷺ (٢).
٤ ً - استيعاب ما بين
الصفا والمروة: يجب أن يقطع جميع المسافة بين الصفا والمروة، فلو بقي منها بعض
خطوة لم يصح سعيه، اقتداء بفعل النبي ﷺ.
٥ ً - الموالاة بين الأشواط: شرط
عند المالكية والحنابلة، سنة عند غيرهم، كالطواف.
(١) رواه النسائي بإسناد
على شرط مسلم، وهو في مسلم بلفظ «أبدأ» على الخبر لا الأمر، ورواه أصحاب السنن
الأربعة بلفظ «نبدأ».
(٢) رواه الشيخان.
وأضاف الحنابلة
شروطًا أخرى فتصبح شروط السعي عندهم تسعة وهي:
إسلام، وعقل، ونية معينة،
ومشي لقادر.
وأما الطهارة عن الجنابة والحيض: فليست بشرط للسعي كالوقوف
بعرفة، فيجوز سعي الجنب والحائض بعد أن كان طوافه بالبيت في حال طهارة عن
الجنابة والحيض؛ لأن هذا نسك غير متعلق بالبيت.
ثانيًا - سنن السعي:
يسن للسعي بين الصفا والمروة ما يأتي:
١ً - استلام الحجر الأسود وتقبيله
بعد الانتهاء من الطواف وصلاة ركعتي الطواف، ثم الخروج من باب الصفا (وهو الباب
المقابل لما بين الركنين اليمانيين) للسعي بين الصفا والمروة، اتباعًا للسنة
كما رواه مسلم.
٢ً - اتصاله بالطواف: أي الموالاة بين الطواف والسعي، وكذا
الموالاة في مرات السعي. ويكره للساعي أن يقف أثناء سعيه لحديث أو غيره، فإن
طاف بيوم وسعى في آخر، جاز، ولا تسن عقبه صلاة.
٣ً - الطهارة له من الحدث
والخبث وستر العورة.
٤ً - المشي للقادر لا الركوب.
٥ً - الصعود للذكر
دون غيره على الصفا والمروة بحيث يرى الكعبة من الباب، وذلك بقدر قامة عند
الشافعية. ويسن الصعود للمرأة إن خلا الموضع من الرجال، وإلا وقفت أسفلهما.
٦ً
- الدعاء بما شاء والأذكار، وتكرارها ثلاثًا بعد كل مرة عند الشافعية، مستقبلًا
البيت، داعيًا بصوت مرتفع، رافعًا يديه إلى نحو السماء (١)، والدعاء بالمأثور
أفضل، فيكبر ويهلل ويصلي على النبي ﷺ ويقول:
«الله أكبر، الله أكبر، الله
أكبر ولله الحمد، الله أكبر على ما هدانا، والحمد لله على ما أولانا (٢)، لا
إله إلا الله وحده لا شريك له، له المُلْك وله الحمد، يحيي ويميت، بيده (٣)
الخير، وهو على كل شيء قدير. لا إله إلا الله وحده، أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم
الأحزاب وحده، لا إله إلا الله، ولا نعبد إلا إياه مخلصين له الدين ولو كره
الكافرون» اتباعًا للسنة كما رواه مسلم. «اللهم اجعل في قلبي نورًا وفي بصري
نورًا، اللهم اشرح لي صدري، ويسر لي أمري، اللهم لك الحمد كالذي نقول، وخيرًا
مما نقول».
ثم يدعو بما شاء من أمري الدين والدنيا، ويستحب فيه قراءة
القرآن.
٧ً - الإسراع (أو العَدْو) للذكور في وسط المسعى ما بين الميلين
الأخضرين الملاصقين لجدار المسجد، فوق الرمَل، ودون الجري (٤)، في ذهابه إلى
الصفا، وعودته من المروة، اتباعًا للسنة كما رواه مسلم. وأما الأنثى والخنثى
فتمشي في الكل.
ويقول الذكر في عدوه، وكذا المرأة والخنثى في محله: (رب
اغفر وارحم، وتجاوز عما تعلم، إنك أنت الأعز الأكرم) وإن كان راكبًا، حرك
المركوب من غير أن يؤذي أحدًا.
(١) ترفع الأيدي إلى الله ﵎ في سبعة مواطن:
في الإحرام بالصلاة، وأول ما ينظر إلى الكعبة، وعلى الصفا، وعلى المروة،
وبعرفات، وبالمزدلفة، وعند الجمرتين الأولى والوسطى.
(٢) من نعمه التي لا
تحصى.
(٣) أي قدرته.
(٤) وهذه هي الهرولة.
٨ً -
الأفضل - كما ذكر النووي - أن يتحرى زمن الخلوة لسعيه وطوافه، وإذا كثرت
الزحمة، فينبغي أن يتحفظ من إيذاء الناس، وترك هيئة السعي أهون من إيذاء المسلم
ومن تعريض نفسه إلى الأذى. وإذا عجز عن السعي الشديد في موضعه بين الميلين
للزحمة، تشبه في حركته بالساعي، كما هو الشأن في الرمل.
ثالثًا - حكم تأخير السعي عن وقته الأصلي:
إذا أخر السعي عن وقته الأصلي وهي أيام النحر، بعد طواف الزيارة (١):
أـ
فإن كان لم يرجع إلى أهله، فإنه يسعى، ولا شيء عليه؛ لأنه أتى بما وجب عليه،
ولا يلزمه بالتأخير شيء؛ لأنه فعله في وقته الأصلي: وهو ما بعد طواف الزيارة.
ولا يضره عند الحنفية إن كان قد جامع لوقوع التحلل بطوف الزيارة، إذ السعي ليس
بركن عندهم حتى يمنع التحلل.
ب - وإن كان رجع إلى أهله، فعليه عند الحنفية
دم، لتركه السعي بغير عذر، والسعي عندهم واجب لا ركن، وإن أراد أن يعود إلى
مكة، يعود بإحرام جديد؛ لأن إحرامه الأول قد ارتفع بطواف الزيارة لوقوع التحلل
به، فيحتاج إلى تجديد الإحرام، وإذا عاد وسعى، سقط عنه الدم؛ لأنه تدارك
الترك.
والسعي - كما بينت - ركن عند الجمهور لا يتم الحج إلا به، ولا يجبر
تركه بدم.
(١) البدائع:١٣٥/ ٢.
المطلب الرابع - الوقوف بعرفة:
حكمه، مكانه، زمانه، مقداره، سننه، حكمه إذا فات عن وقته (١).
أولًا - حكم الوقوف بعرفة:
أجمع العلماء على أنه الركن الأصلي من أركان الحج، لقوله ﷺ: «الحج عرفة»
(٢) أي الحج: الوقوف بعرفة، وأجمعت الأمة على كون الوقوف ركنًا في الحج، لا يتم
إلا به.
فمن فاته فعليه حج من عام قابل، والهدي في قول أكثرهم.
ثانيًا - مكان الوقوف:
عرفة كلها موقف، لقول النبي ﷺ: «قد وقفت ههنا، وعرفة كلها موقف» (٣) فمن وقف
بعرفة في أي مكان، والأفضل عند جبل الرحمة، فقد تم حجه مطلقًا من غير تعيين
موضع دون موضع. إلا أنه ينبغي ألا يقف في بطن عرنة؛ لأن النبي ﷺ نهى عن ذلك،
وأخبر أنه وادي الشيطان، قال النبي: «كل عرفة موقف وارفعوا عن بطن عرنة» (٤)
فليس وادي عُرَنة من الموقف، ولا يجزئ الوقوف قبل عرفة كنمرة مثلًا، قال ابن
عبد البر: أجمع العلماء عل أن من وقف به لا يجزئه.
(١) البدائع:١٢٥/ ٢ -
١٢٧، الدر المختار: ٢٣٧/ ٢ ومابعدها، اللباب: ١٩١/ ١ وما بعدها، الشرح الصغير:
٥٣/ ٢ - ٥٧، القوانين الفقهية: ص ١٣٣، بداية المجتهد: ٢٣٥/ ١ - ٣٣٧، مغني
المحتاج: ٤٩٦/ ١،٥١٣، الإيضاح: ص ٤٧، المغني: ٤٠٧/ ٣ - ٤١٦، غاية المنتهى:٤٠٨/
١.
(٢) رواه الترمذي وأبو داود وابن ماجه والنسائي.
(٣) رواه أبو
داود وابن ماجه.
(٤) رواه ابن ماجه.
وحد عرفة:
من الجبل المشرف على عرنة إلى الجبال المقابلة له إلى ما يلي حوائط بني عامر.
وهي الآن معروفة بحدود معينة، وليس منها عرنة ولا نَمِرة ومسجد إبراهيم ﵇، فإن
آخره منها وصدره عن عرنة.
والمستحب أن يقف عند الصخرات الكبار المفترشة في
أسفل جبل الرحمة، ويستقبل القبلة، لما جاء في حديث جابر المتقدم: «أن النبي ﷺ
جعل بطن ناقته القصواء إلى الصخرات، وجعل منها جبل المشاة بين يديه، واستقبل
القبلة».
ثالثًا - زمان الوقوف:
يقف الحاج بالاتفاق من حين زوال الشمس يوم عرفة إلى طلوع الفجر الثاني من يوم
النحر، لأن النبي ﷺ وقف بعرفة بعد الزوال وقال: خذوا عني مناسككم. وقال
الحنابلة: يبدأ وقت الوقوف من طلوع الفجر يوم عرفة إلى طلوع فجر يوم النحر،
لقوله ﷺ: «من شهد صلاتنا هذه، ووقف معنا حتى ندفع، وقد وقف بعرفة قبل ذلك ليلًا
أو نهارًا، فقد تم حجه، وقضى تفثه» (١).
فن وقف بعرفة قبل الزوال وأفاض
منها قبل الزوال لا يعتد بوقوفه بالإجماع، وفاته الحج إن لم يرجع فيقف بعد
الزوال أو جزءًا من ليلة النحر قبل طلوع الفجر.
ومن وقف بعرفات ولو مرورًا
أو نائمًا أو مغمى عليه، ولم يعلم أنها عرفة، في هذا الوقت، أجزأه ذلك عند
الحنفية عن الوقوف. قال عبد الرحمن بن يَعْمُر الديلي: «أتيت رسول الله ﷺ
بعرفة، فجاء نفر من أهل نجد، فقالوا: يارسول
(١) رواه الخمسةعن عروة بن
مضرس، والمشهور أن التفث: ما يصنعه المحرم عند حله من تقصير شعر أو حلقه وحلق
العانة ونتف الإبط وغيره من خصال الفطرة.
الله، كيف الحج؟
قال: الحج عرفة. فمن جاء قبل صلاة الفجر ليلة جَمْع، فقد تم حجه» (١).
واشترط
المالكية في المار شرطين وهما أن يعلم أنه عرفة، وأن ينوي الحضور الركن،
وأجازوا كون الواقف نائمًا أو مغمى عليه كالحنفية.
واشترط الشافعية
والحنابلة كون الواقف عاقلًا أهلًا للعبادة، سواء فيه الصبي والنائم وغيرهما؛
لأن النائم في حكم المستيقظ. وأما المغمى عليه والسكران فلا يصح وقوفهما؛
لأنهما ليسا من أهل العبادة، وكل منهما زائل العقل بغير نوم، فمن كان من أهل
العبادة وحصل في جزء يسير من أجزاء عرفات في لحظة لطيفة من وقت الوقوف المذكور
(وهو ما بين زوال شمس يوم عرفة إلى طلوع الفجر من يوم النحر عند الجمهور، ومن
طلوع فجر يوم عرفة عند الحنابلة) صح وقوفه، سواء حضر عمدًا أو وقف مع الغفلة،
أو مع البيع والشراء، أو التحدث واللهو، أو في حال النوم، أو اجتاز بعرفات
مارًا في وقت الوقوف، وهو جاهل لا يعلم أنها عرفات، ولم يلبث أصلًا، بل اجتاز
مسرعًا في طرف من أرضها المحدودة، أو اجتازها في طلب غريم هارب أو بهيمة شاردة
أو كان نائمًا على بعيره، فانتهى به البعير إلى عرفات، فمر بها البعير، أو غير
ذلك مما هو في معناه، يصح وقوفه في جميع ذلك، ولكن يفوته كمال الفضيلة.
ويجب
عند الجمهور (الحنفية والمالكية والحنابلة) الوقوف إلى غروب الشمس، ليجمع بين
الليل والنهار في الوقوف بعرفة، فإن النبي ﷺ وقف بعرفة حتى غابت الشمس، في حديث
جابر السابق. وفي حديث علي وأسامة: «أن النبي ﷺ دفع حين غابت الشمس» فإن دفع
قبل الغروب فحجه صحيح تام عند أكثر أهل العلم، وعليه دم.
(١) رواه أبو
داود وابن ماجه، وليلة جمع: هي ليلة المبيت بالمزدلفة (نيل الأوطار: ٥٩/ ٥).
وقال
الشافعية: يسن الجمع بين الليل والنهار فقط، اتباعًا للسنة، فلا دم على من دفع
من عرفة قبل الغروب، وإن لم يعد إليها بعده، لما في الخبر الصحيح: «أن من أتى
عرفة قبل الفجر ليلًا أو نهارًا، فقد تم حجه» (١) ولو لزمه دم لكان حجه ناقصًا،
نعم، يسن له دم، وهو دم ترتيب وتقدير، خروجًا من خلاف من أوجبه.
وقال
المالكية: الركن الحضور بعرفة ليلة النحر، على أي حالة كانت، ولو بالمرور بها،
إن علم أنه عرفة، ونوى الحضور، وهذان شرطان في المار فقط كما تقدم، أو كان مغمى
عليه. فمن وقف بعرفة بعد الزوال، ثم دفع منها قبل غروب الشمس، فعليه حج قابل،
إلا أن يرجع قبل الفجر. لكن إن دفع من عرفة قبل الإمام وبعد غروب الشمس أجزأه.
وبهذا يكون شرط صحة الوقوف عندهم: هو أن يقف ليلًا، ودليلهم أنه ﷺ وقف بعرفة
حين غربت الشمس، وروى ابن عمر: أن النبي ﷺ قال: «من أدرك عرفات بليل، فقد أدرك
الحج، ومن فاته عرفات بليل، فقد فاته الحج، فليحل بعمرة، وعليه الحج من
قابل».
ونوقش الدليل الأول بأن فعله ﵇ على جهة الأفضل؛ لأنه كان مخيرًا
بين ذلك. وأن الحديث الثاني هو بيان آخر وقت الوقوف.
والحاصل أن الجمهور
يقولون: يجزئ الوقوف ليلًا أو نهارًا بعد الزوال، وقال المالكية: الواجب الوقوف
ليلًا، فمن تركه فينجبر بالدم، كما أن الحنفية والحنابلة يوجبون الدم على من
ترك الوقوف ليلًا، والشافعية قالوا: يسن له الدم فقط.
(١) رواه الخمسة
(أحمد وأصحاب السنن الأربعة) وصححه الترمذي عن عروة بن مُضَرِّس بن أوس. وهو
حجة في أن نهار عرفة كله وقت للوقوف (نيل الأوطار: ٥٨/ ٥) لكن قرر العلماء على
أن المراد بقوله ﵇ في هذا الحديث «نهارًا» أنه بعد الزوال. ويلاحظ أن الحنابلة
أجازوا الوقوف من الفجر يوم عرفة، عملًا بظاهر هذا الحديث.
رابعًا - مقدار الوقوف:
اتفق العلماء على أنه يكفي الوقوف في جزء من أرض عرفة، ولو في لحظة
لطيفة، وأوجب المالكية الطمأنينة بعد الغروب في الوقوف أي الاستقرار بقدر
الجلسة بين السجدتين قائمًا أو جالسًا أو راكبًا. فالقدر المفروض من الوقوف: هو
وجوده بعرفة ساعة من هذا الوقت، سواء أكان عالمًا بها أم جاهلًا، نائمًا أم
يقظان مفيقًا، أم مغمى عليه أم سكران أم مجنونًا في رأي الحنفية والمالكية،
وسواء وقف بها أو مرَّ، وهو يمشي أو على الدابة، أو محمولًا؛ لأنه أتى بالقدر
المفروض: وهو وجوده كائنًا بها، للحديث السابق: «من وقف بعرفة، فقد تم حجه».
والمشي والسير لا يخلو عن وقفة، سواء نوى الوقوف أم لم ينو.
ولا خلاف في
أنه لا يشترط للوقوف طهارة ولا ستارة ولا استقبال القبلة ولانية، فيصح كون
الواقف محدثًا أو جنبًا أو حائضًا أو نفساء. قال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ
عنه من أهل العلم على أن من وقف الوقوف بعرفة غير طاهر مدرك للحج، ولا شيء
عليه.
بدليل قول النبي ﷺ لعائشة: «افعلي ما يفعله الحاج غير الطواف
بالبيت» ووقفت عائشة بعرفة حائضًا بأمر النبي، لكن يستحب كما سأبين أن يكون
طاهرًا.
خامسًا - حكم الحاج إذا فاته الوقوف:
إذا فات الوقوف بعرفة، فات الحج في تلك السنة، ولا يمكن استداركه فيها،
لأن ركن الشيء ذاته، وبقاء الشيء مع فوات ذاته محال.
وذكر النووي في
الإيضاح (ص ٥٤): إذا غلط الحجاج، فوقفوا في غير يوم عرفة نظر:
إن
غلطوا بالتأخير، فوقفوا في العاشر من ذي الحجة، أجزأهم وتم حجهم، ولا شيء
عليهم، سواء بان الغلط بعد الوقوف أو في حال الوقوف.
ولو غلطوا فوقفوا في
الحادي عشر، أو غلطوا في التقديم، فوقفوا في الثامن من ذي الحجة، أوغلطوا في
المكان، فوقفوا في غير أرض عرفات، فلا يصح حجهم بحال.
ولو وقع الغلط
بالوقوف في العاشر لطائفة يسيرة، لا للحجيج العام، لم يجزهم على الأصح.
ولو
شهد واحد أو عدد برؤية هلال ذي الحجة، فردت شهادتهم، لزم الشهود الوقوف في
التاسع عندهم، وإن كان الناس يقفون بعده.
سادسًا - سنن الوقوف بعرفة وآدابه:
يسن الاتجاه أو الرواح إلى منى في يوم التروية - الثامن من ذي الحجة -
والمكث أو المبيت بها إلى فجر عرفة، ثم الرواح إلى عرفات بعد طلوع الشمس، فيقيم
الحجاج بنمرة قرب عرفات اتباعًا للسنة كما روى مسلم، ولا يدخلون عرفات، وقال
الحنابلة: إن شاؤوا أقاموا بعرفة حتى تزول الشمس، ثم يخطب الإمام قبل صلاة
الظهر خطبتين كالجمعة، يعلم الناس فيها مناسكهم من موضع الوقوف ووقته والدفع من
عرفات، ومبيتهم بمزدلفة وأخذ الحصى لرمي الجمار، لحديث جابر المتقدم أن النبي ﷺ
فعل ذلك.
ثم يؤذن المؤذن، ويصلي الإمام بالناس الظهر والعصر جمع تقديم مع
قصرهما اتباعًا للسنة كما روى مسلم، بأذان وإقامتين وقراءة سرية، دون أن يفصل
بينهما بشيء، ولا يصلى عند الحنفية بعد أداء العصر في وقت الظهر.
وهذا
الجمع نسك من أعمال الحج عند الحنفية، فيشمل المقيم والمسافر، لكن لو كان
مقيمًا كإمام مكة صلى بهم صلاة المقيمين، ولا يجوز له القصر، ولا للحجاج
الاقتداء به.
ورأى المالكية أيضًا أنه يسن الجمع بين الظهرين جمع تقديم
حتى لأهل عرفة. ويسن قصرهما إلا لأهل عرفة بأذان ثان وإقامة للعصر من غير تنفل
بينهما، ومن فاته الجمع مع الإمام جمع في رحله.
وأجاز الحنابلة أيضًا
الجمع لكل من بعرفة من مكي وغيره، أما قصر الصلاة فلا يجوز لأهل مكة. والحاصل
أن الجمهور يرون جواز هذا الجمع لكل حاج، أما القصر فلا يجوز لأهل عرفة وأهل
مكة، وأجاز المالكية القصر لأهل مكة.
ورأى الشافعية: أن هذا الجمع والقصر
وفي المزدلفة أيضًا للسفر لا للنسك، فهما جائزان للمسافر فقط، ويختصان بسفر
القصر، فيأمر الإمام المكيين ومن لم يبلغ سفره مسافة القصر (٨٩كم) بالإتمام
وعدم الجمع، كأن يقول لهم بعد السلام: ياأهل مكة ومن سفره قصير أتموا، فإنا قوم
سَفْر. وإذا دخل الحجاج مكة ونووا أن يقيموا بها أربعة أيام لزمهم الإتمام،
فإذا خرجوا يوم التروية إلى منى، ونووا الذهاب إلى أوطانهم عنذ فراغ مناسكهم،
كان لهم القصر من حين خرجوا؛ لأنهم أنشؤوا سفرًا تقصر فيه الصلاة. ثم
بعد الفراغ من الصلاة يذهبون إلى الموقف، ويعجلون السير إليه،
وسنن الوقوف وآدابه: هي ما يأتي (١):
١ً - الاغتسال بنمرة.
(١) الإيضاح: ٥١ - ٥٤.
٢ً -
ألا يدخل أحد عرفات إلا بعد الزوال والصلاتين.
٣ً - أن يخطب الإمام خطبتين
ويجمع الصلاتين، كما تقدم.
٤ً - تعجيل الوقوف عقب الصلاتين.
٥ً -
الأفضل كون الوقوف عند الصخرات الكبار في أسفل جبل الرحمة.
٦ً - ينبغي أن
يبقى في الموقف حتى تغرب الشمس، فيجمع في وقوفه بين الليل والنهار، بل هو واجب
عند الجمهور غير الشافعية.
٧ً - الأفضل أن يقف راكبًا، وهو أفضل من
الماشي، اقتداء برسول الله ﷺ، ولأنه أعون على الدعاء، وهو المهم في هذا
الموضع.
٨ً - استقبال القبلة مع التطهير وستر العورة ونية الوقوف بعرفة
(١)، فلو وقف محدثًا أو جنبًا أو حائضًا أو عليه نجاسة، أو مكشوف العورة، صح
وقوفه، وفاتته الفضيلة.
٩ً - الأفضل للواقف ألا يستظل، بل يبرز للشمس، إلا
لعذر، بأن يتضرر أو أن ينقص دعاؤه واجتهاده.
١٠ً - أن يكون مفطرًا؛ لأن
الفطر أعون على الدعاء، وقد ثبت في الصحيح أن رسول الله ﷺ وقف مفطرًا.
١١ً
- أن يكون حاضر القلب، فارغًا من الشواغل عن الدعاء.
(١) سبب التفرقة عند
الحنفية والحنابلة بين الطواف والوقوف باشتراط النية في الطواف دون الوقوف: أن
النية عند الإحرام تضمنت جمبع ما يفعل فيه، والوقوف يفعل في حالة الإحرام، وأما
الطواف فيقع به التحلل، فاشترط فيه عند الحنفية أصل النية دون تعيينها.
١٢
- الحذر من المخاصمة والمشاتمة والمنافرة والكلام القبيح، بل ينبغي أن يحترز عن
الكلام المباح ما أمكنه، فإنه تضييع للوقت المهم فيما لا يعني.
١٣ -
الاستكثار من عمل الخير في يوم عرفة وسائر أيام ذي الحجة، لقوله ﷺ: «ما العمل
في أيام أفضل منه في هذه الأيام - يعني أيام العشر - قالوا: ولا الجهاد؟ قال:
ولا الجهاد، إلا رجل خرج يخاطر بماله ونفسه، فلم يرجع بشيء» (١).
١٤ -
الإكثار من الدعاء والتهليل وقراءة القرآن والاستغفار والتضرع والخشوع وإظهار
الضعف والافتقار، والإلحاح في الدعاء، وتكرار الدعاء ثلاثًا، والتسبيح والتحميد
والتكبير، ويكثر البكاء مع ذلك، فهنالك تسكب العبرات، وتقال العثرات.
وأفضل
ذلك ما رواه الترمذي وغيره عن رسول الله ﷺ أنه قال: «أفضل الدعاء يوم عرفة،
وأفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك
وله الحمد، وهو على كل شيء قدير».
وفي كتاب الترمذي عن علي ﵁ قال: أكثر ما
دعا به النبي ﷺ يوم عرفة في الموقف:
«اللهم لك الحمد كالذي نقول وخيرًا
مما نقول، اللهم لك صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي، وإليك مآبي، ولك ربي تراثي».
(١)
رواه البخاري عن ابن عباس. وأيام العشر: هي الأيام المعلومات. وأيام التشريق هي
المعدودات، وقال ابن جزي المالكي في قوانينه: ص١٤٣: الأيام المعلومات: هي أيام
النحر الثلاثة، والأيام المعدودات: هي أيام منى، وهي أيام التشريق: وهي الثلاثة
بعد يوم النحر، فيوم النحر معلوم غير معدود، والثاني والثالث معلومان معدودان،
والرابع معدود غير معلوم.
اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر
ووسوسة الصدر وشتات الأمر. اللهم إني أعوذ بك من شر ما تجيء به الريح.
ومن
الأدعية المختارة: (اللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب
النار. اللهم إني ظلمت نفسي ظلمًا كثيرًا، وإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر
لي مغفرة من عندك، وارحمني، إنك أنت الغفور الرحيم. اللهم اغفر لي مغفرة من
عندك تصلح بها شأني في الدارين، وارحمني رحمة منك أسعد بها في الدارين، وتب علي
توبة نصوحًا لا أنكثها أبدًا، وألزمني سبيل الاستقامة لا أزيغ عنها أبدًا،
اللهم انقلني من ذل المعصية إلى عز الطاعة، وأغنني بحلالك عن حرامك، وبطاعتك عن
معصيتك، وبفضلك عمن سواك، ونور قلبي وقبري، وأعذني من الشر كله، واجمع لي الخير
كله، استودعتك ديني وأمانتي وقلبي وبدني وخواتيم عملي، وجميع ما أنعمت به علي
وعلى جميع أحبائي والمسلمين أجمعين).
ويستحب أن يكثر من التلبية رافعًا
بها صوته، ومن الصلاة على رسول الله ﷺ.
وينبغي أن يأتي بهذه الأنواع كلها،
فتارة يدعو، وتارة يهلل، وتارة يكبر، وتارة يلبي، وتارة يصلي على النبي ﷺ،
وتارة يستغفر ويدعو منفردًا، ومع جماعة.
وليدع لنفسه ووالديه وأقاربه
وشيوخه وأصحابه وأحبابه وأصدقائه وسائر من أحسن إليه وسائر المسلمين.
ويستحب
الإكثار من الاستغفار والتلفظ بالتوبة من جميع المخالفات، مع
الاعتقاد
بالقلب، وأن يكثر من البكاء مع الذكر والدعاء، فهناك تسكب العبرات وتستقال
العثرات وترتجى الطلبات.
وإنه لمجمع عظيم وموقف جسيم يجتمع فيه خيار عباد
الله المخلصين وخواصه المقربين، وهو أعظم مجامع الدنيا، وثبت في صحيح مسلم عن
عائشة ﵂ أن رسول الله ﷺ قال: «ما من يوم أكثر من أن يعتق الله تعالى فيه عبدًا
من النار من يوم عرفة، وإنه يباهي بهم الملائكة، يقول: ما أراد هؤلاء».