اسم الكتاب الفِقْهُ الإسلاميُّ وأدلَّتُهُ الشَّامل للأدلّة الشَّرعيَّة والآراء المذهبيَّة وأهمّ النَّظريَّات الفقهيَّة وتحقيق الأحاديث النَّبويَّة وتخريجها
اسم المؤلف: د. وَهْبَة بن مصطفى الزُّحَيْلِيّ
المهنة:أستاذ ورئيس قسم الفقه الإسلاميّ وأصوله بجامعة دمشق - كلّيَّة الشَّريعة
الوفاة 8 أغسطس 2015 الموافق 23 شوال 1436 هـ
عدد الأجزاء: 10
التصنيف: الفقه المقارن
- المبحث الثاني عشر ـ الفوات
- الفوات
- الإحصار
- شرط التحلل
- ثانيا ـ أحكام الإحصار
- ثالثا - زوال الإحصار
- المبحث الثالث عشر ـ الهدي
- أولا ـ معنى الهدي
- ثانيا ـ أنواع الهدي وصفته
- هدي التطوع
- الهدي الواجب
- جزاء الصيد
- إن عدم المتمتع الدم
- فدية دفع الأذى
- دم الإحصار
- المقيس على المنصوص عليه
- ثالثا ـ شروط هدي التمتع
- الأول ـ أن يحرم بالعمرة في أشهر الحج
- الثاني ـ أن يحج من عامه
- الثالث ـ ألا يسافر بين العمرة والحج
- الرابع ـ أن يحل من إحرام العمرة قبل إحرامه بالحج
- الخامس ـ ألايكون من حاضري المسجد الحرام
- من هم حاضرو المسجد الحرام؟
- الصيام بدل دم المتعة
- رابعا ـ الأكل من الهدي
- يرى الحنفية
- قرر المالكية
- قال الشافعية
- قال الحنابلة
- خامسا ـ مكان ذبح الهدي وزمانه
- سادسا ـ ذابح الهدي
- سابعا ـ التصدق بلحم الهدي
- ثامنا ـ الانتفاع بالهدي
- تاسعا ـ تقليد الهدي وإشعاره
- عاشرا ـ عطب الهدي في الطريق
- العودة إلي الفقه الإسلامي وأدلته للزحيلي
المبحث الثاني عشر ـ الفوات والإحصار:
الفوات: ما يفوت به الحج، وحكم الفوات (١):
ما يفوت به الحج:
من أحرم بالحج مطلقًا فرضًا أو نفلًا، صحيحًا أوفاسدًا، ثم فاته الوقوف
بعرفة حتى طلع الفجر من يوم النحر، فقد فاته الحج؛ لأن وقت الوقوف يمتد
إليه، ولأن الحج عرفة.
قال ابن جزي المالكي: وكذلك يفوت الحج بفوات
أعماله كلها، وإذا أقام بعرفة حتى طلع الفجر من يوم النحر، سواء أكان وقف
بها أم لم يقف. والعمرة لا تفوت؛ لأنها غير مؤقتة بوقت.
قال الحنفية: من فاته الحج وجب عليه أن يتحلل بأفعال العمرة: بأن يطوف
ويسعى من غير إحرام جديد لها، ويحلق أو يقصر، ثم يقضي الحج من عام قابل،
ولا دم عليه؛ لأن التحلل وقع بأفعال العمرة، فكانت في حق فائت الحج
بمنزله الدم في حق المحصَر، فلا يجمع بينهما، فلو كان الفوات سببًا للزوم
الهدي للزم المحرم هديان: للفوات والإحصار.
وقال الجمهور: من فاته
الحج تحلل بعمرة من طواف وسعي وحلق أوتقصير، وقضى على الفور من عام قابل،
ولزمه الهدي في وقت القضاء، وسقط عنه ما بقي من المناسك كالنزول بمزدلفة
والوقوف بالمشعر الحرام والرمي والمبيت بمنى.
أما دليل الفوات:
فهو أن آخر الوقوف آخر ليلة النحر، فمن لم يدرك الوقت حتى طلع الفجر
يومئذ، فاته الحج، بلا خلاف بين العلماء؛ لقول جابر:
«لا
(١)
البدائع: ٢٢٠/ ٢ ومابعدها، فتح القدير: ٣٠٣/ ٢ ومابعدها، اللباب: ٢١٤/ ١
ومابعدها، الشرح الصغير: ١٣٠/ ٢ ومابعدها، القوانين الفقهية: ص ١٤٢،
المهذب: ٢٣٣/ ١، المغني: ٥٢٦/ ٣ - ٥٣٠، مغني المحتاج: ٥٣٧/ ١، حاشية
الشرقاوي: ٥١١/ ١ ومابعدها.
يفوت الحج حتى يطلع الفجر
من ليلة جَمْع، قال أبو الزبير، فقلت له: أقال رسول الله ذلك؟ قال: نعم»
(١)، وقول النبي ﷺ: «الحج عرفة، فمن جاءقبل صلاة الفجر ليلة جَمْع، فقد
تم حجه»: يدل على فواته بخروج ليلة جمع أي ليلة المزدلفة.
وقال
النبي ﷺ: «من وقف بعرفات بليل فقد أدرك الحج، ومن فاته عرفات بليل، فليحل
بعمرة، وعليه الحج من قابل» (٢).
ودليل التحلل بعمرة: هو ما روي عن
الصحابة كعمر وابن عمر (٣) وغيرهما، ولأنه يجوز فسخ الحج إلى العمرة من
غير فوات، فمع الفوات أولى.
ودليل لزوم القضاء من قابل، سواء أكان
الفائت واجبًا أم تطوعًا: هو ما روي عن الصحابة: عمر وابنه وابن عباس
وابن الزبير ومروان، وقال ﷺ: «من فاته عرفات فاته الحج، فليحل بعمرة،
وعليه الحج من قابل» (٤)، ولأن الحج يلزم بالشروع فيه، فيصير كالمنذور،
بخلاف سائر التطوعات.
وأما لزوم الهدي عند الجمهور خلافًا للحنفية:
فلقول الصحابة المذكورين، ولما روى عطاء: أن النبي ﷺ قال: «من فاته الحج
فعليه دم، وليجعلها عمرة، وليحج من قابل» (٥)، ولأنه حل من إحرامه قبل
إتمامه فلزمه هدي، كالمحرم لم يفت حجه، فإنه يحل قبل فواته.
(١)
رواه الأثرم بإسناده.
(٢) رواه الدارقطني عن ابن عمر، وضعفه.
(٣)
رواه الشافعي في مسنده، وروى مالك في الموطأ بإسناد صحيح عن هبار بن
الأسود أن عمر ﵁ أفتى بوجوب القضاء والدم، واشتهر في الصحابة.
(٤)
رواه الدارقطني عن ابن عباس.
(٥) رواه النجاد بإسناده.
بقاء الفائت محرمًا لعام آخر:
إن اختار من فاته الحج البقاء إحرامه ليحج من قابل، فله ذلك؛ لأن تطاول المدة بين الإحرام وفعل النسك لا يمنع إتمامه، كالعمرة، والمحرم بالحج في غير أشهره.
صفة القضاء:
قال الجمهور: إذا فات القارن الحج حل، وعليه مثل ما أهل به من
قابل؛ لأن القضاء يجب على حسب الأداء في صورته ومعناه، ويلزمه هديان: هدي
للقران، وهدي فواته.
وقال الحنفية: يطوف ويسعى لعمرته، ثم لا يحل
حتى يطوف ويسعى لحجه.
الخطأ في وقت الوقوف:
إذا أخطأ الناس،
فوقفوا في اليوم الثامن أو في اليوم العاشر أي في غير ليلة عرفة، أجزأهم
ذلك، ولم يجب عليهم القضاء، لقوله ﷺ: «يوم عرفة الذي يعرّف فيه الناس»
(١)، ولأن الخطأ نجم عن شهادة الشاهدين برؤية الهلال قبل الشهر بيوم،
فوقفوا يوم الثامن، أو غم عليهم الهلال، فوقفوا يوم العاشر، ومثل هذا لا
يؤمن في القضاء، فسقط.
فإن اختلفوا فأصاب بعض، وأخطأ بعض، وقت
الوقوف، لم يجزئهم؛ لأنهم غير معذورين في هذا.
(١) رواه الدارقطني
عن عبد العزيز بن عبد الله بن خالد بن أسيد، وروى الدارقطني أيضًا وغيره
عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال: «فطركم يوم تفطرون، وأضحاكم يوم
تضحون».
الإحصار:
معناه، أحكامه ومنها مكان ذبح دم الإحصار ووقته، ما يقضيه المحصر،
زوال الإحصار (١).
أولًا - معنى الإحصار:
الإحصار لغة: المنع، وشرعًا عند الحنفية: منع المحرم عن أداء
الركنين (الوقوف والطواف). وعند الجمهور: منع المحرم من جميع الطرق عن
إتمام الحج أو العمرة.
والمنع عند الحنفية: إما بعدو أو مرض أو ضياع
نفقة أو حبس أو كسر أو عرج وغيرها من الموانع التي تمنع المحرم من إتمام
ما أحرم به حقيقة أو شرعًا. ومن أحصر بمكة وهو ممنوع من الركنين: الوقوف
والطواف، كان محصرًا؛ لأنه تعذر عليه الإتمام، فصار كما إذا أحصر في
الحل، وإن قدر على أحد الركنين، فليس بمحصر؛ لأنه إن قدر على الطواف تحلل
به، وإن قدر على الوقوف فقد تم حجه، فليس بمحصر.
والمنع الذي يعدّ
به المحرم محصرًا عند الجمهور: هو ما يكون بعدو، فالإحصار بعدو بعد
الإحرام مبيح للتحلل إجماعًا. ولا يجوز التحلل بعذر المرض أوالحبس في
دَين يتمكن من أدائه، أو ذهاب نفقة، فمن مرض يصبر حتى يبرأ، فإذا برئ أتم
ما أحرم به من حج أو عمرة. وعلى المدين أن يؤدي الدين ويمضي في
(١)
البدائع: ١٧٥/ ٢ - ١٨٢، فتح القدير: ٢٩٥/ ٢ - ٣٠٢، اللباب: ٢١٢/ ١ - ٢١٤،
بداية المجتهد: ٣٤٢/ ١ - ٣٤٦، القوانين الفقهية: ص١٤١، الشرح الصغير:
١٣٣/ ٢ - ١٣٦، الشرح الكبير: ٩٣/ ٢ - ٩٨، مغني المحتاج: ٥٣٢/ ١ - ٥٣٧،
المجموع: ٢٤٢/ ٨ - ٢٦٨، المهذب: ٢٣٣/ ١ - ٢٣٥، المغني: ٣٥٦/ ٣ - ٣٦٤،
كشاف القناع: ٦٠٧/ ٢ - ٦١٤، الإيضاح: ص ٩٧ - ٩٨.
حجه،
فإن فاته الحج في الحبس لزمه المسير إلى مكة، ويتحلل بعمل عمرة، ويلزمه
القضاء. ومن ذهبت نفقته بعث بهدي إن كان معه ليذبحه بمكة، وكان على
إحرامه حتى يقدر على الوصول إلى البيت. وعليه، فكل من تعذر عليه الوصول
إلى البيت بغير حصر العدو من مرض أو عرج أو ذهاب نفقة وضياع طرق ونحوه،
لا يجوز له التحلل بذلك، بل يصبر حتى يزول عذره.
المحصر بمكة:
من حصر بمكة عن البيت بعدو أو مرض أو حبس ولو بحق، ووقف بعرفة، فقد أدرك الحج، ولا يحل إلا بطواف الإفاضة، ولو بعد سنين.
شرط التحلل:
لكن إن شرط المحرم التحلل بمرض، تحلل به، لما في الصحيحين عن عائشة ﵂
قالت: «دخل رسول الله ﷺ على ضُبَاعة بنت الزبير، فقال لها: أردت الحج،
فقالت: والله، ما أجدني إلا وجعة، فقال: حجي واشترطي، وقولي: اللهم
مَحِلِّي حيث حبستني» ويقاس عليه غيره. ولا يسقط عنه الدم عند الحنفية
والشافعية إذا شرط عند الإحرام أنه يتحلل إذا أحصر.
وقال الحنابلة:
لاشيء عليه، لاهدي ولا قضاء ولاغيره، فإن للشرط تأثيرًا في العبادات.
الأدلة:
استدل الحنفية: على عموم أسباب الإحصار بعموم قوله تعالى: ﴿فإن
أحصرتم فما استيسر من الهدي﴾ [البقرة:١٩٦/ ٢] والمنع كما يكون من العدو،
يكون من المرض وغيره، والعبرة بعموم اللفظ لابخصوص السبب، إذ الحكم يتبع
اللفظ لا السبب. وعن الكسائي وأبي معاذ أن الإحصار من المرض، والحصر من
العدو، فعلى هذا كانت الآية خاصة في الممنوع بسبب المرض.
واستدل
الجمهور: بأن آية الإحصار المذكورة: ﴿فإن أحصرتم ..﴾ [البقرة:١٩٦/ ٢]
نزلت في أصحاب رسول الله ﷺ حين أحصروا من العدو، وفي آخر الآية الشريفة
دليل عليه، وهو قوله ﷿: ﴿فإذا أمنتم﴾ [البقرة:١٩٦/ ٢] والأمان: من العدو
يكون (١).
وروي عن ابن عباس وابن عمر ﵄ أنهما قالا: «لا حصر إلا من
عدو».
شروط التحلل عند المالكية:
يرى المالكية أن للمحصر خمس حالات يصح له الإحلال في أربع منها:
وهي أن يكون العذر طارئًا بعد الإحرام، أو متقدمًا ولم يعلم به، أو علم
وكان يرى أنه لا يصده، وأن يشرط الإحلال فيما إذا شك هل يصدونه أو لا؟
ويمتنع
الإحلال في حالة واحدة، هي إن صد عن طريق، وهو قادر على الوصول من
غيره.
رفض الإحرام:
إن قال المحرم: أنا أرفض الإحرام وأحل، فلبس الثياب، وذبح الصيد، وعمل ما
يعمله الحلال، يظل محرمًا، ويكون الإحرام باقيًا في حقه، تلزمه أحكامه،
ويلزمه جزاء كل جناية جناها عليه، فعليه في كل فعل فعله دم، وإن وطئ
فعليه أيضًا للوطء بدنة، مع ما يجب عليه من الدماء، ويفسد حجه. وليس عليه
لرفضه الإحرام شيء؛ لأنه مجرد نية لم تؤثر شيئًا.
(١) لكن قال ابن
رشد في (بداية المجتهد: ٣٤٥/ ١): الأظهر أن قوله سبحانه: ﴿فإذا أمنتم فمن
تمتع بالعمرة إلى الحج﴾ [البقرة:١٩٦/ ٢] أنه في غير المحصر، بل هو في
التمتع الحقيقي، فكأنه قال: فإذا لم تكونوا خائفين، لكن تمتعتم بالعمرة
إلى الحج، فما استيسر من الهدي، ويدل على هذا التأويل قوله سبحانه: ﴿ذلك
لمن لَمْ يكن أهله حاضري المسجد الحرام﴾ [البقرة:١٩٦/ ٢] والمحصر يستوي
فيه حاضر المسجد الحرام وغيره بإجماع.
تحليل الزوجة من حج تطوع:
ذكر الشافعية والحنفية أن للزوج تحليل زوجته، كما له منعها ابتداء من حج أو عمرة تطوع أو فرض في الأظهر لم يأذن فيه، لئلا يتعطل حقه من الاستمتاع، كما له أن يخرجها من صوم النفل، وإن أذن لها، لم يجز لرضاه بالضرر. وتحليلها في الحال من غير ذبح هدي عند الحنفية، ومع الهدي عند الشافعية. والمراد بتحليله إياها: أن يأمرها بالتحلل، وتحللها كتحلل المحصر. فإن لم يأمرها، لم يجز لها التحلل. وليس للزوج تحليل الرجعية أو البائن، بل يحبسها للعدة، فإن انقضت عدتها أتمت عمرتها أو حجها إن بقي الوقت، وإلا تحللت بعمرة، ولزمها القضاء ودم الفوات.
ثانيًا - أحكام الإحصار:
يتعلق بالمحصر أحكام، لكن الأصل فيه حكمان: أحدهما - جواز التحلل عن
الإحرام، والثاني - وجوب قضاء ما أحرم به بعد التحلل.
أما جواز
التحلل من الإحرام وهو الحكم الأول: فيقتضي بيان معنى التحلل ودليل
جوازه، وما يتحلل به، ومكان وزمان ذبح الهدي.
أما معنى التحلل:
فهو فسخ الإحرام والخروج منه بالطريق الموضوع له شرعًا. وأما دليل جوازه
فقوله تعالى: ﴿فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي﴾ [البقرة:١٩٦/ ٢] وفيه
إضمار، ومعناه: فإن أحصرتم عن إتمام الحج والعمرة، وأردتم أن تحلوا،
فاذبحوا ما تيسر من الهدي، إذ الإحصار نفسه لا يوجب الهدي.
وأما ما
يتحلل به: فإن أمكنه الوصول إلى البيت، تحلل بعمل عمرة، وإن تعذر عليه
ذلك ذبح الهدي، فيبعث عند الحنفية بالهدي أو بثمنه ليشتري به هديًا،
فيذبح عنه، وما لم يذبح لا يحل، سواء عند الحنفية شرط الشخص عند الإحرام
الإحلال بغير ذبح عند الإحصار أو لم يشترط.
والهدي:
بدنة أو بقرة أو شاة.
ورأي الجمهور: أن من أحصر تحلل بهدي، سواء
أكان حاجًا أم معتمرًا أم قارنًا، للآية السابقة: ﴿فإن أحصرتم فما استيسر
من الهدي﴾ [البقرة:١٩٦/ ٢] والآية نزلت بالحديبية حين صدّ المشركون النبي
ﷺ عن البيت، وكان معتمرًا، فنحر ثم حلق، وقال لأصحابه: «قوموا فانحروا،
ثم احلقوا» (١).
وإن كان قارنًا فعليه عند الشافعية والحنابلة دم
واحد، وعند الحنفية دمان، بناء على أصل أن القارن عند الحنفية محرم
بإحرامين، فلا يحل إلا بهذين، وعند الآخرين محرم بإحرام واحد، ويدخل
إحرام العمرة في الحجة، فيكفيه دم واحد.
فإن لم يكن مع المحصر هدي،
وعجز عنه، انتقل عند الحنابلة إلى صوم عشرة أيام: ثلاثة في الحج وسبعة
إذا رجع إلى أهله، لأنه دم واجب للإحرام، فكان له بدل كدم التمتع والطيب
واللباس، ويبقى على إحرامه حتى يصوم أو ينحر الهدي؛ لأنهما أقيما مقام
أفعال الحج، فلم يحل قبلهما. وانتقل عند الشافعية في الأصح إلى الإطعام،
فتقوَّم الشاة دراهم، ويخرج بقيمتها طعامًا، فإن عجز صام عن كل مد يومًا،
وإذا انتقل إلى الصوم، له التحلل في الحال في الأظهر.
وقال الحنفية
والمالكية: ليس للهدي الواجب بالإحصار بدل؛ لأنه لم يذكر في القرآن.
والتحلل
عند الشافعية والحنابلة يكون بثلاثة أشياء: ذبح، ونية التحلل بالذبح،
وحلق أو تقصير، لحديث «إنما الأعمال بالنيات» ولأن النبي ﷺ حلق يوم
الحديبية، وفعله في النسك دال على الوجوب.
(١) رواه البخاري وأحمد
عن ابن عمر (نيل الأوطار: ٩/ ٥).
والحلق شرط أيضًا عند
المالكية، وليس بشرط للتحلل، وإنما يحل المحصر بالذبح بدون الحلق في قول
أبي حنيفة ومحمد، لإطلاق نص الآية السابقة: ﴿فإن أحصرتم فما استيسر من
الهدي﴾ [البقرة:١٩٦/ ٢] فمن أوجب الحلق فقد جعله بعض الموجب، وهذا خلاف
النص، ولأن الحلق للتحلل عن أفعال الحج، والمحصر لا يأتي بأفعال الحج،
فلا حلق عليه، والحديث في الحلق بالحديبية محمول على الندب
والاستحسان.
وقال المالكية: المحصر بعدو أو فتنة في حج أو عمرة
يتربص ما رجا كشف ذلك، فإذا يئس تحلل بموضعه حيث كان من الحرم وغيره، ولا
هدي أو دم عليه. فإن كان معه هدي نحره وتحلل بالنية والحلق بشرطين:
أولهما - إن لم يعلم بالمانع عند إرادة إحرامه. وثانيهما - أن ييأس من
زوال المانع قبل الوقوف بعرفة، والمعتمد عند أشياخ المالكية أنه لا يتحلل
إلا بحيث لو سار إلى عرفة من مكانه، لم يدرك الوقوف، فإن علم أو ظن أو شك
أنه يزول المانع قبل الوقوف، فلا يتحلل حتى يفوت، فإن فات الوقوف فعل
عمرة.
وأما مكان ذبح الهدي عند الحنفية:
فهو الحرم، لقوله تعالى: ﴿ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله﴾ [البقرة:٢/ ١٩٦] ولو كان كل موضع محلًا له، لم يكن لذكر المحل فائدة، ولأنه ﷿ قال: ﴿ثم مَحِلّها إلى البيت العتيق﴾ [الحج:٣٣/ ٢٢] أي إلى البقعة التي فيها البيت. فلا يجوز عندهم ذبح دم الإحصار إلا في الحرم، فيبعث شاة تذبح في الحرم، ويواعد من يحملها يومًا بعينه يذبحها فيه، ثم يتحلل، أي يحل له ما كان محظورًا. ويجوز للمحصر بالعمرة أن يذبح متى شاء. أما الصدقة والصوم فيجزيان في أي مكان شاء.
وأما زمان ذبح الهدي:
فيجوز عند أبي حنيفة ذبح الهدي قبل يوم النحر،
لإطلاق
النص، ولأنه لتعجيل التحلل. وقال الصاحبان: لا يجوز الذبح للمحصر بالحج
إلا في يوم النحر كدم المتعة والقران. وعلى الرأي الأول وهو الراجح: يكون
زمان ذبح الهدي مطلق الوقت، لا يتوقف بيوم النحر، سواء أكان الإحصار عن
الحج أم عن العمرة.
وحكم التحلل أي أثره:
صيرورته حلالًا يباح له تناول جميع ما حظره الإحرام لارتفاع الحاظر،
فيعود حلالًا كما كان قبل الإحرام.
وقال الجمهور غير الحنفية: من
تحلل ذبح شاة حيث أحصر في حل أو حرم وقت حصره، لإطلاق الآية السابقة:
﴿فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي﴾ [البقرة:١٩٦/ ٢] ولأن النبي ﷺ حينما
منعه كفار قريش نحر هديه وحلق رأسه بالحديبية، قبل يوم النحر، فله النحر
في موضعه كما فعل النبي.
لكن وإن جاز التحلل قبل يوم النحر،
فالمستحب له عند الشافعية والحنابلة وأبي حنيفة مع ذلك الإقامة على
إحرامه، رجاء زوال الحصر، فمتى زال قبل تحلله، فعليه المضي لإتمام نسكه،
بغير خلاف.
والخلاصة ألا هدي على المحصر إن لم يكن معه عند
المالكية، وعليه الهدي عند الجمهور.
وأما ما يقضيه المحصر
وهو الحكم الثاني فهو مايأتي:
قال الحنفية: إذا تحلل المحصر
بالحج، فعليه حجة وعمرة قضاء عما فاته؛ لأنه في معنى فائت الحج الذي
يتحلل بأفعال العمرة، فإن لم يأت بها قضاها. هذا إذا لم يحج من عامه، فإن
حج منه فلا عمرة عليه؛ لأنه ليس في معنى فائت الحج.
وعلى
المحصر بالعمرة القضاء لما شرع فيه، وعلى المحصر القارن حجة وعمرتان، أما
الحج وإحدى العمرتين: فلما تبين أنه في معنى فائت الحج، وأما الثانية:
فلأنه خرج منها بعد صحة الشروع فيها.
والحاصل أنه يجب عند الحنفية
على المحصر قضاء ما أحرم به بعد التحلل:
أـ فإن كان أحرم بالحجة
لاغير: فإن بقي وقت الحج عند زوال الإحصار وأراد أن يحج من عامه ذلك،
أحرم وحج، وليس عليه نية القضاء، ولا عمرة عليه. وإن مضت السنة فعليه
قضاء حجة وعمرة، ولا تسقط عنه تلك الحجة إلا بنية القضاء.
ب - وإن
كان إحرامه بالعمرة لا غير، قضاها، لوجوبها بالشروع في أي وقت شاء؛ لأنه
ليس لها وقت معين.
جـ - وإن كان قارنًا فأحرم بالعمرة والحجة: فعليه
قضاء حجة وعمرتين، أما قضاء حجة وعمرة فلوجوبها بالشروع، وأما العمرة
الأخرى فلفوات الحج في عامه ذلك؛ لأن العمرة تتعين بالإحصار، لأنها أقل
الواجبين، وهو شيء متيقن.
ودليلهم في الجملة على وجوب القضاء: أن
النبي ﷺ لما تحلل زمن الحديبية قضى من قابل، وسميت عمرة القضاء، ولأنه حل
من إحرامه قبل إتمامه، فلزمه القضاء، كما لو فاته الحج.
وقال
المالكية: على المتحلل بفعل عمرة أو بالنية حجة الفريضة، ولا تسقط عنه
بالتحلل المذكور. أما حجة التطوع: فيقضيها إذا كان التحلل لمرض أو خطأ
عدد أو حبس بحق، وأما لو كان التحلل لعدو أو فتنة أو حبس ظلمًا، فلا
يطالب بالقضاء.
وقال الشافعية: لا قضاء على المحصر
المتطوع إن تحلل من إحصار عام أو خاص، لعدم وروده، وقد أحصر مع النبي ﷺ
في الحديبية ألف وأربع مئة، ولم يعتمر معه في العام القابل إلا نفر يسير،
أكثر ما قيل: إنهم سبع مئة.
وإن لم يكن تطوعًا نظر: إن كان نسكه
فرضًا مستقرًا عليه، كحجة الإسلام فيما بعد السنة الأولى من سني الإمكان،
أو كانت قضاء أو نذرًا، بقي في ذمته، كما لو شرع في صلاة فرض ولم يتمها،
فإنها تبقى في ذمته. وإن كان غير مستقر كحجة الإسلام في السنة الأولى من
سني الإمكان، اعتبرت الاستطاعة بعد زوال الإحصار، إن وجدت وجب الحج، وإلا
فلا.
وكذلك قال الحنابلة في الصحيح من المذهب: لا قضاء على المحصر
إن تحلل ولم يجد طريقًا أخرى إلا أن يكون واجبًا، يفعله بالوجوب السابق؛
لأنه تطوع جاز التحلل منه مع صلاح الوقت له، فلم يجب قضاؤه، كما لو دخل
في الصوم يعتقد أنه واجب، فلم يكن. وأما خبر قضاء العمرة الذي احتج به
الحنفية، فلم ينقل إلينا أن النبي ﷺ أمر أحدًا بالقضاء، والذين اعتمروا
مع النبي ﷺ كانوا نفرًا يسيرًا، كما تقدم في مذهب الشافعية.
والخلاصة:
إن الحنفية يوجبون القضاء، والجمهور لايوجبونه.
ثالثًا - زوال الإحصار:
قال الحنفية: إذا زال الإحصار قبل التحلل، فإن قدر على إدراك
الهدي الذي بعثه، ليذبح في الحرم، وعلى الحج، لم يجز له التحلل، ولزمه
المضي، لزوال العجز قبل حصول المقصود بالخلف، ويفعل بهديه مايشاء؛ لأنه
ملكه، وقد كان مخصصًا لمقصود استغنى عنه.
وإن قدر على
إدراك الهدي دون الحج، تحلل، لعجزه عن الأصل. وإن قدر على إدراك الحج دون
الهدي، جاز له التحلل استحسانًا، لئلا يضيع عليه ماله مجانًا، إلا أن
الأفضل التوجه لأداء الحج.
وقال الجمهور: متى زال الحصر قبل تحلله،
فعليه المضي لإتمام نسكه، وهذا لا خلاف فيه. وإن زال الحصر بعد فوات
الحج، تحلل بعمل عمرة، فإن فات الحج قبل زوال الحصر، تحلل بهدي.
ووجوب
المضي لإتمام النسك فيما إذا كانت حجته حجة الإسلام، أو كانت الحجة
واجبة؛ لأن الحج عند الأكثرين غير الشافعية يجب على الفور، فإن لم تكن
الحجة واجبة، فلا شيء عليه، كمن لم يحرم.
المبحث الثالث عشر - الهدي:
معنى الهدي، أنواعه وشروط دم التمتع، صفته، الأكل منه، مكان ذبحه
وزمانه، ذابح الهدي، التصدق بلحمه، الانتفاع به، تقليد الهدي وإشعاره،
عطب الهدي في الطريق (١).
أولًا - معنى الهدي:
الهدي في اللغة: اسم لما يهدي أن يبعث وينقل، وفي الشرع:
(١) فتح
القدير: ٣٢١/ ١ - ٣٢٦، ٣٣٣، الكتاب مع اللباب: ٢١٥/ ١ - ٢٢٠، الشرح
الصغير: ١١٩/ ٢ - ١٢٩، بداية المجتهد: ٣٦٣/ ١ - ٣٦٧، القوانين الفقهية: ص
١٣٩ ومابعدها، المهذب: ٢٣٥/ ١ - ٢٣٧، مغني المحتاج: ٥١٥/ ١، المغني: ٤٧٠/
٣ ومابعدها، ٤٨٠، ٥٣٤ - ٥٥٤، كشاف القناع: ٦١٥/ ٢ - ٦١٩، شرح مسلم: ١٣٨/
٨، البدائع: ١٧٢/ ٢ - ١٧٥، ١٧٩، المجموع: ٢٦٩/ ٨ - ٢٩٦.
هو
ما يهدى إلى الحرم من الأنعام (الإبل والبقر والغنم). وسوق الهدي سنة لمن
أراد أن يحرم بحج أو عمرة.
ثانيًا - أنواع الهدي وصفته:
الهدي: بدنة أو بقرة أو شاة، وأدناه شاة. وقد يطلق الدم أو النسك
على الهدي، والمراد بالنسك أو الدم هو الذبيحة وهي الشاة، لإجماع
المسلمين على أن الشاة مجزئة في الفدية عن حلق الشعر أو قلم الظفر ونحو
ذلك.
وأفضل الهدي: البدنة ثم البقرة، ثم الضأن، ثم المعز، لما روي
أن رسول الله ﷺ لما أحصر بالحديبية، نحر البدن، وكان يختار من الأعمال
أفضلها.
والمجزئ من الهدي بالاتفاق: ما يجزئ في الأضحية، وهو
الثَّني فصاعدًا، وهو عند الحنفية مثلًا: من الإبل ما تم له خمس سنين،
ومن البقر: سنتان، ومن الغنم سنة ومن المعز ما له سنتان، لكن يجزئ عندهم
وعند الحنابلة الجذع من الضأن: وهو ما دون الثني، وهو ماله ستة أشهر،
لحديث: «يجزئ الجذع من الضأن: أضحية» (١) والهدي مثله.
ولا يجزئ في
الهدي مقطوع الأذن أو أكثرها، ولا مقطوع الذَّنَب، ولا اليد ولا الرجل
ولا الذاهبة العين، ولا العجفاء (كثيرة الهزال)، ولا العرجاء التي لا
تمشي إلى المَنْسك (الموضع الذي تذبح النسائك فيه)؛ لأنها عيوب بينة.
والذكر
والأنثى في الهدي سواء، لأن الله تعالى قال: ﴿والبدنَ جعلناها لكم من
شعائر الله﴾ [الحج:٣٦/ ٢٢] ولم يذكر ذكرًا ولا أنثى.
(١) رواه ابن
ماجه، والفرق بين جذع الضأن وجذع المعز: أن الأول ينزو فيلقح، بخلاف
الثاني، ويعرف كونه أجذع بنمو الصوف على ظهره.
نوعا
الهدي شرعًا: الهدي نوعان: واجب وتطوع.
أما هدي التطوع:
فهو ما يقدمه الإنسان قربة إلى الله تعالى بدون إيجاب سابق. ويستحب لمن
قصد مكة حاجًا أو معتمرًا أن يهدي إليها من بهيمة الأنعام، وينحره
ويفرقه، لما روي «أن رسول الله ﷺ أهدى مئة بدنة» (١). والأفضل عند
الجمهور سوق الهدي من بلده، فإن لم يكن، فمن طريقه من الميقات أو غيره أو
من مكة أو منى، ولا يشترط أن يجمع الهدي بين الحل والحرم، ولا أن يقفه
بعرفة، ولكن يستحب ذلك. وقال مالك: أحب للقارن أن يسوق هديه من حيث يحرم،
فإن ابتاعه من دون ذلك مما يلي مكة بعد أن يقفه بعرفة، جاز، وقال في هدي
المجامع: إن لم يكن ساقه فليشتره من مكة، ثم ليخرجه إلى الحل، وليسقه إلى
مكة.
والمستحب أن يكون مايهديه سمينًا حسنًا، لقوله ﷿: ﴿ومن يعظم
شعائر الله فإنها من تقوى القلوب﴾ [الحج:٣٢/ ٢٢] (٢) قال ابن عباس في
تفسيرها: الاستسمان والاستحسان والاستعظام.
والهدي الواجب نوعان:
واجب بالنذر في ذمته للمساكين أو على الإطلاق، فإن نذر وجب عليه؛ لأنه
قربة، فلزمه بالنذر.
وواجب بغير النذر، كدم التمتع والقران، والدماء
الواجبة تكون بترك واجب أو فعل محظور. وقد عرفنا أن الواجب بغير النذر
عند المالكية خمسة أنواع:
هدي المتعة والقران، وكفارة الوطء، وجبر
ما تركه من الواجبات كرمي الجمار والمبيت بمنى والمزدلفة وغير ذلك، وهدي
الفوات،
وجزاء الصيد.
(١) حديث صحيح رواه البخاري ومسلم.
(٢) الشعائر لغة:
العلائم، وشعائر الله: معالم دينه.
الهدي الواجب بغير
النذر: ينقسم الهدي الواجب بغير النذر عند الشافعية والحنابلة قسمين:
منصوص عليه في القرآن، ومقيس على المنصوص (١).
أما المنصوص
عليه: فهو أربعة أنواع: دم التمتع، وجزاء الصيد، وفدية دفع الأذى كحلق،
وفدية الإحصار.
ف إن عدم المتمتع الدم،
فعليه صيام ثلاثة
أيام في الحج، وسبعة إذا رجع إلى أهله، للآية السابقة: ﴿فمن لم يجد فصيام
ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم﴾ [البقرة:١٩٦/ ٢] والعبرة بالعدم في
محل الذبح، وإن كان له مال غائب عن ذلك المحل. ولا يجب عليه تحصيل الدم
بأكثر من ثمن المثل.
وإن فاته صوم الثلاثة الأيام في الحج، فرق
بينها وبين السبعة، بقدر تفريقه بينهما في الأداء، وهو أربعة أيام، ومدة
إمكان السير إلى وطنه، على العادة الغالبة.
وجزاء الصيد: إن كان له
مثل خير بين أمور ثلاثة: إخراج مثله، بأن يذبحه ويتصدق به على مساكين
الحرم، أو تقويمه بدراهم يشتري بها مثلًا طعامًا يجزئ في الفطرة، ويتصدق
به على مساكين الحرم، لكل مسكين مد، أو أن يصوم عن كل مد يومًا، لآية:
﴿فجزاءٌ مثلُ ما قتل من النعم﴾ [المائدة:٩٥/ ٥] وهو صوم التعديل، لقوله
تعالى: ﴿أوعدل ذلك صيامًا﴾ [المائدة:٩٥/ ٥] وإن لم يكن له مثل خير بين
أمرين: تقويمه وشراء طعام به والتصدق به، أو صوم يوم عن كل مد. والمعتبر
في قيمة غير المثلي: بمحل الإتلاف، لا بمكة، وفي قيمة المثلي بمكة، لا
بمحل الإتلاف.
(١) حاشية الشرقاوي: ٥٠٨/ ١ - ١٥٠، المغني: ٥٤٣/ ٣
ومابعدها.
وفدية دفع الأذى كحلق وتقليم أظفار:
يخير بين أمور ثلاثة: ذبح شاة بصفة الأضحية والتصدق بلحمها على
مساكين الحرم، وصوم ثلاثة أيام، وتصدق باثني عشر مدًا على ستة مساكين في
الحرم، لكل مسكين مدان، لقوله تعالى: ﴿فمن كان منكم مريضًا أو به أذى من
رأسه - أي فحلق - ففدية من صيام أو صدقة أو نسك﴾ [البقرة:١٩٦/ ٢].
ودم الإحصار:
شاة بصفة الأضحية، لقوله تعالى: ﴿فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي﴾ [البقرة:٢/ ١٩٦] فإن عدمها وقت الإخراج، فيجب عند الشافعية بدلها كدم التمتع وغيره، وهو طعام بقيمتها، فإن عجز عنه صام عن كل مد يومًا، قياسًا على الدم الواجب بترك مأمور به، وعند الحنابلة: لا إطعام فيه وينتقل إلى صيام عشرة أيام، وقال مالك وأبو حنيفة: لا بدل له؛ لأنه لم يذكر في القرآن.
وأما المقيس على المنصوص عليه فهو نوعان:
أحدهما - لترك نسك يجبر تركه وهو خمسة: ترك الإحرام من الميقات
والمبيت بمزدلفة، وبمنى، والرمي وطواف الوداع، ويقاس على دم التمتع،
ويقاس عليه أيضًا دم الفوات، وهو ذبح شاة، فإن عجز صام عشرة أيام.
والثاني
- الترفه: وهو خمسة أيضًا: الوطء في فرج أو غيره، واللمس بشهوة، والقبلة،
والتطيب، واللباس، ويقاس على فدية الأذى: صيام أو صدقة أو نسك.
ثالثًا - شروط هدي التمتع:
من اعتمر في أشهر الحج، فطاف وسعى، ثم أحرم بالحج من عامه، ولم
يكن
خرج من مكة إلى ما تقصر فيه الصلاة، فهو متمتع، عليه دم بالإجماع، لقوله
تعالى: ﴿فمن تمتع بالعمرة إلى الحج، فما استيسر من الهدي، فمن لم يجد
فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم، تلك عشرة كاملة، ذلك لمن لم
يكن أهله حاضري المسجد الحرام﴾ [البقرة:١٩٦/ ٢].
ويمكن تلخيص شروط
وجوب الدم على المتمتع بما يأتي وهي خمسة:
الأول - أن يحرم بالعمرة في أشهر الحج:
فإن أحرم بها في غير أشهره لم يكن متمتعًا، سواء وقعت أفعالها في أشهر الحج أو في غير أشهره. وهذا لا خلاف فيه إلا في شذوذ عن طاوس والحسن، إلا أن أبا حنيفة قال: إن طاف للعمرة أربعة أشواط في غير أشهر الحج، فليس بمتمتع، وإن طاف الأربعة في أشهر الحج، فهو متمتع؛ لأن العمرة صحت في أشهر الحج.
الثاني - أن يحج من عامه:
فإن اعتمر في أشهر الحج، ولم يحج ذلك العام، بل حج من العام القابل، فليس بمتمتع، وهذا لا خلاف فيه إلا في قول شاذ عن الحسن؛ لأن الله تعالى قال: ﴿فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي﴾ [البقرة:١٩٦/ ٢] وهذا يقتضي الموالاة بينهما.
الثالث - ألا يسافر بين العمرة والحج سفرًا بعيدًا تقصر في مثله
الصلاة.
وهذا رأي الحنابلة: لقول عمر: «إذا اعتمر في أشهر الحج، ثم أقام،
فهو متمتع، فإن خرج ورجع فليس بمتمتع».
وقال الشافعي وأحمد: إن رجع
إلى الميقات فلا دم عليه.
وقال الحنفية: إن رجع إلى مصره، بطلت
متعته، وإلا فلا.
وقال المالكية: إن رجع إلى مصره أو
إلى غيره مما هو أبعد منه، بطلت متعته، وإلا فلا.
الرابع - أن يحل من إحرام العمرة قبل إحرامه بالحج:
فإن أدخل الحج على العمرة قبل حله منها، كما فعل النبي ﷺ والذين كان معهم
الهدي من أصحابه، فهذا يصير قارنًا، ولا يلزمه دم المتعة، لأمر النبي ﷺ
في الحديث المتفق عليه عن عائشة التي حاضت بالإهلال بالحج وترك العمرة،
ولم يوجب عليها هديًا ولا صومًا ولاصدقة.
ولكن عليه حينئذ دم
للقران؛ لأنه صار قارنًا، وترفه بسقوط أحد السفرين.
الخامس - ألايكون من حاضري المسجد الحرام:
وهذا متفق عليه، فلا يجب دم المتعة على حاضري المسجد الحرام، بنص القرآن الكريم: ﴿ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام﴾ [البقرة:١٩٦/ ٢] ولأن حاضر المسجد الحرام ميقاته مكة، فلم يحصل له الترفه بترك أحد السفرين، ولأنه أحرم بالحج من ميقاته، فأشبه المفرد.
من هم حاضرو المسجد الحرام؟
وحاضرو المسجد الحرام عند الحنفية: من دون الميقات، لأنه موضع شرع فيه
النسك، فأشبه الحرم. وعند المالكية: هم أهل مكة وذي طوى. وعند الشافعية
في الأصح: هم من دون مرحلتين (مسافة القصر) من الحرم؛ لأن كل موضع ذكر
الله فيه المسجد الحرام فهو الحرم، إلا قوله تعالى: ﴿فول وجهك شطر المسجد
الحرام﴾ [البقرة:١٤٩/ ٢] فهو الكعبة نفسها، فإلحاق هذا بالأعم الأغلب
أولى. والقريب من الشيء يقال: إنه حاضره.
وعند
الحنابلة: هم أهل الحرم، ومن بينه وبين مكة دون مسافة القصر؛ لأن حاضر
الشيء: من دنا منه، ومن دون مسافة القصر قريب في حكم الحاضر، كما قال
الشافعية، بدليل أن من قصده لا يترخص رخص السفر.
وإذا كان للمتمتع
قريتان: قريبة وبعيدة، فهو من حاضري المسجد الحرام؛ لأن له أن يحرم من
القريبة، فلم يكن بالتمتع مترفهًا بترك أحد السفرين.
وعليه: إن دخل
الآفا قي مكة متمتعًا ناويًا الإقامة بها، بعد تمتعه، فعليه دم
المتعة.
وإذا ترك الآفاقي الإحرام من الميقات، ثم نوى العمرة وحل
منها، وأحرم بالحج من مكة من عامه، فهو متمتع، عليه دمان: دم المتعة، ودم
ترك الإحرام من الميقات.
الصيام بدل دم المتعة:
إن لم يجد المتمتع
الهدي، ينتقل إلى صيام ثلاثة أيام في الحج، وسبعة إذا رجع إلى وطنه.
وتعتبر القدرة على الهدي في موضعه، فمتى عدمه في موضعه، جاز له الانتقال
إلى الصيام، وإن كان قادرًا علىه في بلده؛ لأن وجوبه موقت، وما كان وجوبه
موقتًا اعتبرت القدرة عليه في موضعه، كالماء في الطهارة إذا عدمه في
مكانه، انتقل إلى التراب. ولا يجب التتابع في أيام الصوم، وإنما يندب.
وإذا
لم يصم المتمتع الأيام الثلاثة في الحج، فإنه يصومها بعد ذلك عند الجمهور
غير الحنفية، وتعين عليه الدم عند الحنفية، ولا يجزيه الصوم في وطنه،
والأظهر عند الشافعية أنه يلزمه أن يفرق في قضائها بينها وبين السبعة.
ومن
شرع في الصيام، ثم قدر على الهدي، لم يكن عليه عند الحنابلة
والمالكية
والشافعية الخروج من الصوم إلى الهدي، إلا إذا شاء، لأنه صوم دخل فيه
لعدم الهدي.
والمرأة إذا أحرمت متمتعة، فحاضت قبل طواف العمرة، لم
يكن لها أن تطوف بالبيت؛ لأن الطواف بالبيت صلاة، ولأنها ممنوعة من دخول
المسجد. فإن خشيت فوات الحج، أحرمت بالحج مع عمرتها، وتصير قارنة. وهذا
قول الجمهور، بدليل رواية مسلم لقصة عائشة التي حاضت، فإنها حجت أولًا،
ثم اعتمرت من التنعيم.
وقال أبو حنيفة: ترفض العمرة، وتهل بالحج،
بدليل حديث عائشة المتقدم حينما حاضت، أهلت بالحج، وتركت العمرة، بدليل
أمور ثلاثة: قوله ﵇ لها: «دعي عمرتك» وقوله: «انقضي رأسك وامتشطي» وقوله:
«هذه عمرة مكان عمرتك».
رابعًا - الأكل من الهدي:
يرى الحنفية (١)
أنه يجوز الأكل من
هدي التطوع والمتعة والقران، إذا بلغ الهدي مَحِلَّه؛ لأنه دم نُسُك،
فيجوز الأكل منه بمنزلة الأضحية. وما جاز لصاحبه الأكل منه، جاز للغني
الأكل منه أيضًا. واشتراط بلوغ المحل، لأنه إذا لم يبلغ الحرم لا يحل
الانتفاع منه لغير الفقير.
ولا يجوز الأكل من بقية الهدايا كدماء
الكفارات والنذور وهدي الإحصار، والتطوع إذا لم يبلغ مَحِلَّه، ومحله:
منى أو مكة.
(١) اللباب: ٢١٧/ ١.
وقرر المالكية (١)
أن صاحب الهدايا يأكل منها كلها إلا من أربعة: جزاء الصيد، ونسك
الأذى، ونذر المساكين أي (النذر المعين للمساكين وهدي التطوع للمساكين)
وهدي التطوع إذا عَطِب قبل محله (منى أو مكة)، بأن عطب فنحره؛ لأنه يتهم
بأنه تسبب في عطبه ليأكل منه، وليس عليه بدله. فإن أكل من هذه الأربعة،
فعليه بدل البهيمة، إلا النذر المعين للمساكين يضمن فقط بقدر أكله
منه.
وكل ما يمنع الأكل منه، يختص بالمساكين.
وما سوى هذه
الأربعة يجوز لصاحبها الأكل منها مطلقًا؛ قبل المحل وبعده، وهو كل هدي
وجب في حج أو عمرة، كهدي التمتع والقران، وتجاوز الميقات، وترك طواف
القدوم أو الحلق، أو المبيت بمنى أو النزول بمزدلفة، أو الواجب بسبب
المذي ونحوه، أو نذر مضمون لغير المساكين.
ويأكل منها أيضًا الغني
والقريب. ويعد رسول صاحب الهدي غير الفقير كصاحبه في الأكل وعدمه، أما
الفقير فيجوز له الأكل مما لا يجوز لصاحبه الأكل منه.
وقال الشافعية (٢):
الهدي نوعان: واجب ومتطوع به، أما الهدي الواجب: وهو ما يجب بفعل حرام،
أو ترك واجب من واجبات الحج، أو بنذر، فلا يجوز للمهدي الأكل منه، بل يجب
ذبحه في محله، وتفرقة جميعه على أهله من مكة أو غيرها، ويملكهم جملته ولو
قبل سلخه. أما ما يقع الآن من ذبح الهدي ورميه، فلايجزئ ولا يقع
هديًا.
(١) الشرح الصغير: ١٢٥/ ٢ - ١٢٨، القوانين الفقهية: ص ١٤٠،
الشرح الكبير: ٨٩/ ٢.
(٢) حاشية الشرقاوي على تحفة الطلاب:٥٠٦/ ١
وما بعدها، الايضاح: ص ٦٣.
كذلك لا يجوز الأكل لمن تلزم
المهدي نفقته، ورفقته ولو فقراء قافلته، وإن كبرت كالحج المصري، ولا
للأغنياء مطلقًا.
ومحل عدم جواز الأكل من الهدي المنذور إذا كانت
صيغة النذر صحيحة، كقوله: لله علي أن أهدي شاة للحرم. أما مايقع الآن من
نذر شيء لسيدي أحمد البدوي وغيره، فيجوز لصاحبه الأكل منه، لعدم صحة
نذره، لكن إن نذر ذلك لمجاوريه أو خدامه، ووجدوا في ذلك المكان، كان
نذرًا صحيحًا يمتنع الأكل منه (١).
والخلاصة: لا يأكل من واجب؛ لأنه
هدي وجب بالإحرام، فلم يجز الأكل منه كدم الكفارة، فلا يجوز الأكل من
الهدي الواجب، وهدي القران والتمتع والمنذور ودم الجناية.
وأما
المتطوع به: فيجوز لصاحبه كالأضحية الأكل منه، ويلزمه التصدق بقدر ما
ينطلق عليه الاسم: وهو أقل متمول. والأفضل إذا أراد تقسيمه أن يأكل منه
ثلثه، ويهدي للأغنياء ثلثه، ويتصدق بثلثه، لقوله تعالى: ﴿فكلوا منها
وأطعموا القانع والمعتر﴾ [الحج:٣٦/ ٢٢] والقانع: السائل أو الراضي بما
عنده وبما يعطاه بلا سؤال، والمعتر: المتعرض للسؤال.
وقال الحنابلة (٢):
لا يأكل الإنسان من كل واجب كالواجب بنذر أو بتعيين كأن يقول: هذا هدي أو
يقلده أو يشعره، إلا من هدي التمتع والقران دون ما سواهما؛ لأن أزواج
النبي ﷺ تمتعن معه في حجة الوداع، وأدخلت عائشة الحج على العمرة، فصارت
قارنة، ثم ذبح عنهن النبي ﷺ البقرة، فأكلن من لحومها،
(١) ومثله نذر
الشمعة للوقود: فإن كان في المكان المنذور له من ينتفع بضوئها، جاز وإلا
فلا.
(٢) المغني: ٥٣٧/ ٣، ٥٤١ - ٥٤٨، غاية المنتهى: ٣٨٨/ ١.
ولأن
دم المتعة والقران دم نسك، فأشبه التطوع. ولا يجوز أن يأكل من غير دم
التمتع والقران؛ لأنه يجب بفعل محظور، فأشبه جزاء الصيد. ويستحب أن يأكل
من هدي التطوع: وهو ما أوجبه بالتعيين ابتداء من غير أن يكون عن واجب في
ذمته، وما نحره تطوعًا من غير أن يوجبه، لقوله تعالى: ﴿فكلوا منها﴾
[الحج:٣٦/ ٢٢] وأقل أحوال هذا الأمر الأمر بالاستحباب، ولأن النبي ﷺ أكل
من بُدْنه (١)، ويجوز التزود منه، لقول جابر: «كنا لا نأكل من بدننا فوق
ثلاث، فرخص لنا النبي ﷺ، فقال: كلوا وتزودوا، فأكلنا وتزودنا» (٢).
وإن
لم يأكل فلا بأس، فإن النبي ﷺ لما نحر البدنات الخمس، قال: «من شاء
اقتطع» ولم يأكل منهن شيئًا.
والمحتسب أن يأكل اليسير منها، كما فعل
النبي ﷺ، وله الأكل كثيرًا والتزود، كما جاء في حديث جابر، وتجزئه الصدقة
باليسير منها كما في الأضحية. فإن أكلها، ضمن المشروع للصدقة منها، كما
في الأضحية.
وإن أكل مما منع من أكله أو أعطى الجازر منها شيئًا أو
باع شيئًا منها أو أتلفه، ضمنه بمثله لحمًا. وإن أطعم غنيًا مما يجوز له
الأكل منه على سبيل الهدية جاز، كما يجوز له ذلك في الأضحية؛ لأن ما ملك
أكله ملك هديته.
والخلاصة: يجوز الأكل من دم التمتع والقران عند
الجمهور، ولا يجوز عند الشافعية، ولا يجوز الأكل من المنذور ودم الجزاء
اتفاقًا، ويجوز الأكل من المتطوع به بالاتفاق.
(١) رواه مسلم.
(٢)
رواه البخاري.
خامسًا - مكان ذبح الهدي وزمانه:
سبق بيان الكلام عن هذا الموضوع فيما يخص دم الإحصار، وأوضحه هنا بصفة عامة.
قال الحنفية (١):
لا يجوز ذبح هدي المتعة والقران إلا في يوم النحر لأنه دم نسك، والصحيح
أن يجوز ذبح دم التطوع قبل يوم النحر، وذبحه يوم النحر أفضل؛ لأن القربة
في التطوعات باعتبار أنها هدايا، وذلك يتحقق ببلوغها إلى الحرم، فإذا وجد
ذلك جاز ذبحها في غير يوم النحر، وفي أيام النحر أفضل؛ لأن معنى القربة
في إراقة الدم فيه أظهر.
ويجوز ذبح بقية الهدايا أيّ وقت شاء؛ لأنها
دماء كفارات، فلا تختص بيوم النحر، لأنها وجبت لجبر النقصان.
ولا
يجوز ذبح الهدايا إلا في الحرم؛ لأن الهدي اسم لما يهدى إلى مكان، ومكانه
الحرم.
وقال المالكية (٢):
يجب على المعتمد نحر
الهدي بمنى بشروط ثلاثة: إن سيق الهدي في إحرامه بحج، ووقف به (٣) بعرفة
كوقوفه هو في كونه بجزء من الليل، وكان النحر في أيام النحر. فإن انتفت
هذه الشروط أو بعضها، بأن لم يقف به بعرفة، أو لم يسق في حج، بأن سيق في
عمرة، أو خرجت أيام النحر، فمحل ذبحه مكة.
فكان محل الذبح إما منى
بالشروط الثلاثة، وإما مكة لا غير عند فقدها.
(١) الكتاب مع اللباب:
٢١٧/ ١ ومابعدها.
(٢) الشرح الصغير: ٩٢/ ٢ - ٩٣، ١٢٠، الشرح الكبير:
٨٦/ ٢.
(٣) أو وقف به نائبه، فلا يكفي إذا اشتراه صبيحة عرفة من
التجار الواقفين به جزءًا من الليل للبيع.
والأفضل فيما
ذبح بمنى أن يكون عند الجمرة الأولى، ولو ذبح في أي موقع منها كفى وخالف
الأفضل. ونحر الهدي يوم النحر.
أما فدية المحظور من لبس أو طيب
ونحوهما: وهي الشاة أو إطعام ستة مساكين من غالب قوت البلد الذي أخرجها
فيه، أو صيام ثلاثة أيام ولو أيام منى (وهي ثاني يوم النحر وتالياه) فلا
تختص بأنواعها الثلاثة بمكان أو زمان، فيجوز تأخيرها لبلده أو غيره في أي
وقت شاء.
وقال الشافعية (١):
وقت ذبح الهدي إن كان تطوعًا أو بنذر: وقت أضحية، أما إن كان بسبب فعل حرام أو ترك واجب، فلا يختص بوقت. ومكان الذبح للمحصر مكان حصره أو الحرم، ولغير المحصر: جميع الحرم، فالحرم كله منحر حيث نحر منه أجزأه في الحج والعمرة، لكن الأفضل للحاج ولو متمتعًا الذبح في منى، ولمعتمر غير متمتع الذبح في مكة عند المروة؛ لأنهما مكان تحللهما.
وقال الحنابلة (٢):
فدية الأذى بحلق رأس أو غيره: في الموضع الذي حلق فيه؛ لأن النبي ﷺ «أمر
كعب بن عجرة بالفدية بالحديبية» ولم يأمره ببعثه إلى الحرم. وما عدا فدية
الشعر من الدماء يكون بمكة، وأما جزاء الصيد فهو لمساكين الحرم، لقوله
تعالى: ﴿هديًا بالغ الكعبة﴾ [المائدة:٩٥/ ٥] وأما الصيام فيجزئه في كل
مكان، بلا خلاف.
والأفضل نحر ما وجب بحج بمنى، وما وجب بعمرة
بالمروة، لما رواه أبو داود من قولهصلّى الله عليه وسلم: «كل منى منحر،
وكل فجاج مكة منحر وطريق»، والعاجز عن إيصاله للحرم، حتى بوكيله، ينحره
حيث قدر، ويفرقه بمنحره، ويجزئ ما وجب
(١) حاشية الشرقاوي: ٥٠٦/ ١،
الإيضاح: ص ٦٣.
(٢) المغني: ٤٣٢/ ٣ - ٤٣٤، ٥٤٥/ ٣ - ٥٤٨، غاية
المنتهى: ٣٨٨/ ١ ومابعدها.
بفعل محظور غير صيد: خارج
الحرم، ولو بلا عذر، حيث وجد السبب، وبالحرم أيضًا.
ويدخل وقت ذبح
فدية المحظور من حين فعله، وقبله بعد وجود سببه المبيح ككفارة يمين.
ويكون وقت جزاء الصيد بعد جرحه، ووقت ترك الواجب عند تركه. ويجزئ دم
إحصار حيث أحصر، وصوم وحلق بكل مكان، ووقت نحر الهدي والأضحية ثلاثة
أيام: يوم النحر ويومان بعده.
سادسًا - ذابح الهدي:
الأفضل عند الجمهور في البدن: النحر، وفي البقر والغنم، الذبح، والأولى
بالاتفاق (١) أن يتولى الإنسان ذبح الهدي بنفسه إن كان يحسن ذلك؛ لأنه
قربة، والعمل بنفسه في القربات أولى لما فيه من زيادة الخشوع، إلا أنه
يقف عند الذبح إذا لم يذبح بنفسه؛ لأن النبي ﷺ نحر هديه بيده.
وقال
جابر: «نحر رسول الله ﷺ ثلاثًا وستين بدنة بيده، ثم أعطى عليًا، فنحر ما
غبر».
وإن ذبح الهدي غير صاحبه أجزأه، والمستحب أن يشهد ذبحه، لما
روي أن النبي ﷺ قال لفاطمة: «احضري أضحيتك يغفر لك بأول قطرة من
دمها».
والأفضل أن يتولى تفريق اللحم بنفسه؛ لأنه أحوط وأقل للضرر
على المساكين، وإن خلى بينه وبين المساكين جاز، لقوله ﵇: «من شاء
اقتطع».
ويباح للفقراء الأخذ من الهدي إذا لم يدفع إليهم، إما
بالإذن الصريح لفظًا لحديث «من شاء اقتطع» أو بالإذن دلالة كالتخلية
بينهم وبينه.
(١) اللباب: ٢١٨/ ١، الشرح الصغير: ١٢٩/ ٢، الشرح
الكبير: ٨٧/ ٢، المغني: ٥٤١/ ٣.
سابعًا - التصدق بلحم الهدي:
أجاز الحنفية (١) أن يتصدق بلحم الهدي على مساكين الحرم وغيرهم؛ لأن
الصدقة قربة معقولة، والصدقة على كل فقير قربة، وعلى مساكين الحرم أفضل،
إلا أن يكون غيرهم أحوج.
ويتصدق بجلال الهدايا وخطامها (٢)، ولا
يعطي الجزارة أجرة منها، لقوله ﷺ لعلي ﵁: «تصدَّق بجلالها وخُطُمها ولا
تُعط الجزار منها».
وقال المالكية (٣) كالحنفية: يوزع لحم الهدي
والخِطام والجِلال على المساكين.
ويرى الشافعية (٤): أن جزاء الصيد،
وفدية الأذى كحلق وتقليم أظفار ودم التمتع والقران يذبح ويتصدق به على
مساكين الحرم، لقوله تعالى: ﴿ثم محلها إلى البيت العتيق﴾ [الحج:٣٣/
٢٢].
وأما رأي الحنابلة (٥): فهو أن كل هدي أو إطعام لترك نسك أو
فوات أو فعل محظور لمساكين الحرم، إن قدر على إيصاله إليهم، إلا أن فدية
الأذى توزع على المساكين في الموضع الذي حلق فيه، لما تقدم من أمر كعب بن
عجرة بالفدية في الحديبية، ولقول ابن عباس: «الهدي والطعام بمكة، والصوم
حيث شاء»، ولأنه نسك يتعدى نفعه إلى المساكين، فاختص بالحرم كالهدي.
ويصح
تفرقة اللحم أو إعطاؤه لمساكين الحرم ميتًا أو حيًا لينحروه، وإلا استرده
ونحره، فإن أبى أو عجز، ضمنه.
(١) الكتاب مع اللباب: ٢١٨/ ١.
(٢)
الجلال: جمع جُلّ، وهو كالكساء يقي الحيوان والبرد، وخطامها: زمامها.
(٣)
الشرح الصغير مع حاشية الصاوي: ١٢٨/ ٢.
(٤) حاشية الشرقاوي: ٥٠٩/
١.
(٥) المغني: ٤٣٣/ ٣، ٥٤٥ ومابعدها، غاية المنتهى: ٣٨٨/ ١.
ومساكين
الحرم: من كان فيه من أهله، أو وارد إليه من الحاج وغيرهم، وهم الذين
يجوز دفع الزكاة إليهم، ويجوز إباحة الذبيحة لهم، لما روى أبو داود عن
أنس: «أن النبي ﷺ نحر خمس بدنات، ثم قال: من شاء فليقتطع».
وما جاز
تفريقه بغير الحرم، لم يجز دفعه إلى فقراء أهل الذمة في رأي الجمهور؛ لأن
الذمي كافر فلم يجز الدفع إليه كالحربي. وأجاز الحنفية دفعه لأهل الذمة
كالأضحية.
ثامنًا - الانتفاع بالهدي:
يجوز الانتفاع بالهدي عند الضرورة أو الحاجة، فقال المالكية (١): يجوز
له ركوبه إن احتاج إليه، ويندب عدم ركوبه والحمل عليه بلا عذر، بل يكره،
فإن اضطر لركوبه لم يكره، ولا يشرب من اللبن وإن فضل عن الفصيل.
وقال
الحنفية (٢): من ساق بَدَنة، فاضطر إلى ركوبها أو حمل متاعه عليها، ركبها
وحملها، وإن استغنى عن ذلك لم يركبها، لأنه جعلها خالصًا لله، فلا ينبغي
أن يصرف لنفسه شيئًا من عينها أو منافعها إلى أن تبلغ محلها، ولقوله ﷺ:
«اركبها بالمعروف إذا ألجئت إليها حتى تجد ظهرًا» (٣). وإذا ركبها أو
حملها، فانتقصت فعليه ضمان ما انتقص منها. وإن كان لها لبن لم يحلبها؛
لأن اللبن متولد منها، وينضح ضَرْعها بالماء البارد حتى ينقطع اللبن
عنها، إن قرب محلها، وإلا حلبها وتصدق بلبنها كيلا يضر ذلك بها، وإن صرفه
لنفسه، تصدق بمثله أو قيمته؛ لأنه مضمون عليه.
(١) القوانين
الفقهية: ص ١٤٠، الشرح الكبير: ٩٢/ ٢.
(٢) اللباب: ٢١٨/ ١
ومابعدها.
(٣) رواه أبو داود.
وقال الحنابلة (١):
له ركوب الهدي على وجه لايضر به، لما روى أبو هريرة وأنس: «أن رسول الله
ﷺ رأى رجلًا يسوق بدنة، فقال: اركبها، فقال: يا رسول الله، إنها بدنة،
فقال: اركبها، ويلك - في الثانية أو الثالثة» (٢) وللمهدي شرب لبن الهدي؛
لأن بقاءه في الضرع يضرُّ به، فإذا كان ذا ولد لم يشرب إلا ما فضل عن
ولده. وهذا هو الراجح لدي.
وقال الشافعية (٣): للمحتاج دون غيره أن
يركب الهدي المنذور ويشرب من لبنه ما فضل عن ولده، ولو تصدق به، كان
أفضل، ولو كان عليه صوف لا منفعةله في جزه، ولا ضرر عليه في تركه، لم يجز
له جزه، وإن كان عليه في بقائه ضرر، جاز له جزه، وينتفع به، فلو تصدق به
كان أفضل.
تاسعًا - تقليد الهدي وإشعاره: التقليد:
أن يعلق في عنق
الهدي قلادة، مضفورة من حبل أو غيره، ويعلق بها نعلان أو نعل.
والإشعار:
أن يشق سنام البدنة الأيمن عند الشافعية والحنابلة، أو الأيسر عند
المالكية، ويقول حينئذ: «بسم الله والله أكبر». والتقليد: هو المستحب
بالاتفاق، أما الإشعار فمختلف فيه.
فقال الحنفية (٤): الإشعار
مكروه، لأنه مُثْلة، فكان غير جائز؛ لأن النبي ﷺ نهى عن تعذيب الحيوان،
ولأنه إيلام فهو كقطع عضو منه وهذا هو الحق.
(١) المغني: ٥٤٠/ ٣.
(٢)
رواه البخاري ومسلم وأحمد.
(٣) الإيضاح: ص ٦٢، شرح المجموع: ٢٧٨/ ٨،
٢٨١.
(٤) الكتاب مع اللباب: ٢١٨/ ١، ٢٢٠.
ولا يجب
التعريف بالهدايا: وهو إحضارها عرفة، فإن عرَّف بهدي المتعة والقران
والتطوع، فحسن؛ لأنه يتوَّقت بيوم النحر، فعسى ألا يجد من يُمسكه، فيحتاج
إلى أن يعرّف به، ولأنه دم نسك، ومبناه على التشهير، بخلاف دماء
الكفارات، فإنه يجوز ذبحها قبل يوم الجناية، فالستر بها أليق.
ويُقلَّد
هدي التطوع والمتعة والقران إذا كان من الإبل والبقر؛ لأنه دم نسك، فيليق
به الإظهار والشهرة، تعظيمًا لشعائر الإسلام. وأما الغنم فلا يقلد، وكل
ما يقلد يخرج به إلى عرفات، وما لا فلا.
ولا يقلد دم الإحصار؛ لأنه
لرفع الإحرام، ولا دم الجنايات؛ لأنه دم جبر، فالأولى إخفاؤها وعدم
إشهارها.
وقال المالكية (١): يستحب تقليد الهدي وإشعاره، وتجليله:
وهو أن تكسى بجل من أرفع ما يقدر عليه من الثياب، ويشق فيه موضع السنام،
ويساق كذلك إلى موضع النحر، فيزال عنه الجل، وينحر قائمًا وذلك يوم
النحر. ويتصدق بالجل والخطام، وتترك القلادة في الدم.
والإشعار
والتقليد والتجليل كله في الإبل، وأما البقر فتقلد وتشعر، ولا تجلل، وأما
الغنم فلا تقلد ولا تشعر ولا تجلل.
وقال الشافعية (٢): إن ساق هديًا
تطوعًا ومنذورًا، فإن كان بدنة أو بقرة، استحب له أن يقلدها نعلين لهما
قيمة ليتصدق بهما، وأن يشعرها أيضًا؛ لما روى ابن عباس ﵄: «أن النبي ﷺ
صلى الظهر في ذي الحليفة، ثم أتى ببدنة، فأشعرها على صفحة سنامها الأيمن،
ثم سلت الدم عنها، ثم قلدها
(١) القوانين الفقهية: ص ١٣٩ - ١٤٠،
الشرح الصغير: ١٢٢/ ٢ ومابعدها.
(٢) المهذب: ٢٣٥/ ١ ومابعدها،
الإيضاح للنووي: ص ٦١، شرح المجموع:٢٦٩/ ٨.
نعلين» (١)،
ولأنه ربما اختلط بغيره، فإذا أشعر وقلد تميز، وربما ندَّ (هرب) فيعرف
بالإشعار والتقليد، فيرد.
وإن ساق غنمًا قلدها خُرَب القُرَب: وهي
عراها وآذانها، لما روت عائشة ﵂ أن النبي ﷺ: «أهدى مرة غنمًا مقلدة» (٢)
ولأن الغنم يثقل عليها حمل النعال. ولا يشعرها؛ لأن الإشعار لا يظهر في
الغنم لكثرة شعرها وصوفها، ولأنها ضعيفة.
ويكون تقليد الجميع
والإشعار وهي مستقبلة القبلة، والبدنة باركة.
وإذا قلد النعم
وأشعرها، لم تصر هديًا واجبًا، على المذهب الصحيح المشهور، كما لو كتب
الوقف على باب داره.
وقال الحنابلة (٣) كالشافعية: يسن تقليد الهدي،
سواء أكان إبلًا أم بقرًا أم غنمًا، لحديث عائشة السابق بلفظ: «كنت أفتل
القلائد للنبي ﷺ، فيقلد الغنم، ويقيم في أهله حلالًا».
ويسن إشعار
الإبل والبقر، لحديث عائشة المتفق عليه: «فتلت قلائد هد ي النبي ﷺ، ثم
أشعرها وقلدها».
والخلاصة: إن الإشعار عند الجمهور للإبل والبقر،
وهو مكروه عند الحنفية، ولا تقلد الغنم عند المالكية والحنفية، وإنما
تقلد الإبل والبقر، ويقلد الكل عند الشافعية والحنابلة.
(١) رواه
مسلم بلفظه.
(٢) رواه مسلم بلفظه، والبخاري بمعناه.
(٣)
المغني: ٥٤٩/ ٣.
عاشرًا - عطب الهدي في الطريق:
قال الحنفية (١): من ساق هديًا فعَطِب (أي هلك)، فإن كان تطوعًا فليس
عليه غيره، وإن كان عن واجب، فعليه أن يقيم غيره مُقامه؛ لأن الواجب باق
في ذمته حيث لم يقع موقعه، فصار كهلاك الدراهم المعدة للزكاة قبل
أدائها.
وإن أصابه عيب كبير، أقام غيره مقامه، لبقاء الواجب في
ذمته، وصنع بالمعيب ما شاء.
وإذا عطبت البدنة في الطريق (أي قاربت
العطب): فإن كان تطوعًا نحرها، وصَبَغ نعلها (أي قلادتها) بدمها، وضرب
بقلادتها المصبوغة بدمها صفحتها (أي أحد جانبيها)، ولم يأكل منها صاحبها،
ولا غيره من الأغنياء، ليعلم الناس أنه هدي، فيأكل منه الفقراء دون
الأغنياء.
وإن كانت البدنة واجبة، أقام غيرها مُقامها، وصنع بها ما
شاء؛ لأنها ملكه كسائر أملاكه.
وقال المالكية (٢): إذا عطب هدي
التطوع قبل محله، ينحره، ويخلي بينه وبين الناس، ولا يأكل منه، فإن أكل
منه، فعليه بدله.
وأما ولد الهدي المولود: فإن ولد قبل التقليد
فيستحب نحره، ولا يجب حمله إلى مكة. وإن ولد بعد التقليد أو الإشعار،
فيجب حمله إلى مكة على غير أمه، إن لم يمكن سوقه.
وكذلك قال
الشافعية (٣): إن عطب الهدي وخاف أن يهلك، نحره وغمس
(١) الكتاب:
٢١٩/ ١.
(٢) الشرح الكبير: ٩١/ ٢ - ٩٢.
(٣) المهذب: ١/ ٦٣٢،
المجموع: ٢٧٨/ ٨، ٢٨١ - ٢٨٩.
نعله التي قلده إياها في
دمه، وضرب به صفحته وتركه موضعه، ليعلم من مر به أنه هدي، فيأكله. لما
روى أبو قبيصة أن رسول الله ﷺ كان يبعث بالهدي، ثم يقول:
«إن عطب
منها شيء، فخشيت عليه موتًا، فانحرها، ثم اغمس نعلها في دمها، ثم اضرب
صَفْحتها، ولا تطعمها أنت، ولا أحد من رفقتك» (١).
فإن كان تطوعًا:
فله أن يفعل به ماشاء من بيع وذبح وأكل وإطعام لغيره، وتركه وغير ذلك؛
لأنه ملكه، ولا شيء في كل ذلك.
وإن كان منذورًا: لزمه ذبحه، فإن
تركه حتى هلك، لزمه ضمانه، كما لو فرط في حفظ الوديعة حتى تلفت.
ولا
يجوز للمهدي ولا لسائق هذا الهدي وقائده الأكل منه، بلا خلاف للحديث
السابق، ولا يجوز للأغنياء الأكل منه بلا خلاف؛ لأن الهدي مستحق للفقراء،
فلا حق للأغنياء منه، ويجوز للفقراء من غير رفقة صاحب الهدي الأكل منه
بالإجماع، لحديث ناجية الأسلمي أن رسول الله ﷺ: «بعث معه بهدي، فقال: إن
عطب فانحره، ثم اصبغ نعله في دمه، ثم خل بينه وبين الناس» (٢). والأصح
أنه لا يجوز للفقراء من رفقة صاحب الهدي الأكل منه.
وإذا أتلف
المهدي الهدي، لزمه على المذهب ضمانه بأكثر الأمرين من قيمته ومثله، كما
لو باع الأضحية المعينة وتلفت عند المشتري.
وإن أتلف الهدي أجنبي،
وجبت عليه القيمة، ويشترى بها المثل.
وإذا اشترى هديًا، ثم نذر
إهداءه، ثم وجد به عيبًا، لم يجز له رده بالعيب، لأنه تعلق به حق الله
تعالى، فلا يجوز إبطاله.
(١) رواه مسلم في صحيحه.
(٢) رواه أبو
داود والترمذي والنسائي وابن ماجه، قال الترمذي: حديث حسن صحيح.
نعله
التي قلده إياها في دمه، وضرب به صفحته وتركه موضعه، ليعلم من مر به أنه
هدي، فيأكله. لما روى أبو قبيصة أن رسول الله ﷺ كان يبعث بالهدي، ثم
يقول: «إن عطب منها شيء، فخشيت عليه موتًا، فانحرها، ثم اغمس نعلها في
دمها، ثم اضرب صَفْحتها، ولا تطعمها أنت، ولا أحد من رفقتك» (١).
فإن
كان تطوعًا: فله أن يفعل به ماشاء من بيع وذبح وأكل وإطعام لغيره، وتركه
وغير ذلك؛ لأنه ملكه، ولا شيء في كل ذلك.
وإن كان منذورًا: لزمه
ذبحه، فإن تركه حتى هلك، لزمه ضمانه، كما لو فرط في حفظ الوديعة حتى
تلفت.
ولا يجوز للمهدي ولا لسائق هذا الهدي وقائده الأكل منه، بلا
خلاف للحديث السابق، ولا يجوز للأغنياء الأكل منه بلا خلاف؛ لأن الهدي
مستحق للفقراء، فلا حق للأغنياء منه، ويجوز للفقراء من غير رفقة صاحب
الهدي الأكل منه بالإجماع، لحديث ناجية الأسلمي أن رسول الله ﷺ: «بعث معه
بهدي، فقال: إن عطب فانحره، ثم اصبغ نعله في دمه، ثم خل بينه وبين الناس»
(٢). والأصح أنه لا يجوز للفقراء من رفقة صاحب الهدي الأكل منه.
وإذا
أتلف المهدي الهدي، لزمه على المذهب ضمانه بأكثر الأمرين من قيمته ومثله،
كما لو باع الأضحية المعينة وتلفت عند المشتري.
وإن أتلف الهدي
أجنبي، وجبت عليه القيمة، ويشترى بها المثل.
وإذا اشترى هديًا، ثم
نذر إهداءه، ثم وجد به عيبًا، لم يجز له رده بالعيب، لأنه تعلق به حق
الله تعالى، فلا يجوز إبطاله.
وإذا أتلف الهدي قبل بلوغ المنسك، أو
بعده وقبل التمكين من ذبحه، فلاشيء عليه، لأنه أمانة لم يفرط فيها، كما
لو ماتت أو سرقت الأضحية المعينة أو المنذورة المعينة قبل تمكنه من ذبحها
يوم النحر.
وإن ذبح الهدي أجنبي بغير إذن صاحبه، أجزأه عن النذر؛
لأن ذبحه لا يحتاج إلى قصده، ويلزم الذابح أرش نقصه: وهو ما بين قيمته
حيًا ومذبوحًا؛ لأنه لو أتلفه ضمنه، فإذا ذبحه ضمن نقصانه كشاة اللحم.
وإذا
ذبح الهدي المعين قبل المنسك، لزم التصدق بلحمه، ولزم البدل في وقته، كما
لو ذبح الأضحية المعينة أو المنذورة قبل يوم النحر، يلزم التصدق بلحمها،
ولا يجوز له أكل شيء منها، ويلزمه ذبح مثلها يوم النحر بدلًا عنها.
وإذا
ولد الهدي أو الأضحية المتطوع بهما، فالولد ملك لصاحبه كالأم، يتصرف فيه
بما شاء من بيع وغيره كالأم. وأما ولد المنذور فيتبع الأم بلا خلاف.
ومذهب
الحنابلة (٣) كالشافعية إجمالًا: إن كان الهدي تطوعًا، وخاف عطبه أو عجز
عن المشي وصحبة الرفاق، نحره بموضعه، وخلى بينه وبين المساكين، ولم يبح
له أكل شيء منه، ولا لأحد من صحابته، وإن كانوا فقراء.
وليس عليه
بدل عنه، لحديث أبي قبيصة السابق.
وإن كان نذرًا فعليه البدل، لقوله
ﷺ: «من أهدى تطوعًا، ثم ضلت، فليس عليه البدل، إلا أن يشاء، فإن كان
نذرًا فعليه البدل» (٤).
فإن أكل صاحب الهدي أو السائق أو رفقته
منه، أو باع أو أطعم غنيًا أو رفقته
(١) رواه مسلم في صحيحه.
(٢)
رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه، قال الترمذي: حديث حسن
صحيح.
(٣) المغني: ٣/ ٥٣٧ - ٥٣٩.
(٤) رواه الدارقطني عن ابن
عمر.
منها، ضمنه بمثله لحمًا. وإن أتلفه أو تلف بتفريطه
أو خاف عطبه، فلم ينحره حتى هلك، فعليه ضمانه بما يوصله إلى فقراء الحرم.
وإن أطعم منه فقيرًا أو أمره بالأكل منه، فلا ضمان عليه؛ لأنه أوصله إلى
المستحق.
وإن تعيب بفعل آدمي، فعليه ما نقصه من القيمة يتصدق به.