اسم الكتاب الفِقْهُ الإسلاميُّ وأدلَّتُهُ الشَّامل للأدلّة الشَّرعيَّة والآراء المذهبيَّة وأهمّ النَّظريَّات الفقهيَّة وتحقيق الأحاديث النَّبويَّة وتخريجها
اسم المؤلف: د. وَهْبَة بن مصطفى الزُّحَيْلِيّ
المهنة:أستاذ ورئيس قسم الفقه الإسلاميّ وأصوله بجامعة دمشق - كلّيَّة الشَّريعة
الوفاة 8 أغسطس 2015 الموافق 23 شوال 1436 هـ
التصنيف: الفقه المقارن
المحتويات
- المبحث الثالث ـ صلاة المسافر (القصر والجمع)
- المطلب الأول ـ قصر الصلاة الرباعية
- أولا ـ مشروعية القصر، وهل القصر عزيمة أو رخصة؟
- الأحكام المتعلقة بالسفر
- حكم القصر أو هل القصر رخصة أو عزيمة واجب؟
- ثانيا ـ سبب مشروعية القصر
- الموضوع الأول - المسافة التي يجوز فيها القصر
- الثاني ـ نوع السفر الذي تقصر فيه الصلاة
- الثالث ـ الموضع الذي يبدأ منه المسافر بالقصر ـ أول السفر
- الرابع ـ مقدار الزمان الذي يقصر فيه إذا أقام المسافر في موضع
- ثالثا ـ شروط القصر
- خلاصة آراء الفقهاء في شروط القصر
- مذهب الحنفية
- مذهب المالكية
- مذهب الشافعية
- مذهب الحنابلة
- رابعا ـ اقتداء المسافر بالمقيم
- اقتداء المسافر بالمقيم
- اقتداء المقيم بالمسافر
- خامسا ـ ما يمنع القصر
- ١ - أن ينوي المسافر الإقامة مدة معينة
- اختلف الفقهاء في تقدير المدة
- الحنفية
- المالكية
- الشافعية
- الحنابلة
- ٢ - العودة إلى محل الإقامة الدائمة، أو نية العودة
- قال الحنفية
- متى يتم المسافر الصلاة عادة؟
- متى يتم المسافر الصلاة ومتى يقصر حالة الانتقال عن الوطن؟
- قال المالكية
- قال الشافعية
- قال الحنابلة
- خلاصة آراء المذاهب في الحالات التي يمتنع فيها القصر ويصبح المسافر فيها في حكم المقيم
- الحنفية
- المالكية
- الشافعية
- الحنابلة
- سادسا ـ قضاء الصلاة الفائتة في السفر
- سابعا ـ صلاة السنن في السفر
- المطلب الثاني ـ الجمع بين الصلاتين
- أولا ـ مشروعية الجمع
- ثانيا ـ أسباب الجمع بين الصلاتين وشروطه
- المالكية
- الشافعية
- يشترط لجمع التقديم ستة شروط
- يشترط لجمع التأخير شرطان فقط
- أما سنة الصلاة
- الحنابلة
- العودة الي الفقه الإسلامي وأدلته للزحيلي
المبحث الثالث - صلاة المسافر (القصر والجمع)
وفيه مطلبان: الأول - قصر الصلاة، مشروعيته، وسببه، وشروطه، حالة اقتداء المسافر
بالمقيم وبالعكس، ما يمنع القصر، قضاء الصلاة الفائتة في السفر، وصلاة السنن في
السفر.
الثاني - الجمع بين الصلاتين، أسبابه، وشروطه.
المطلب الأول - قصر الصلاة الرباعية:
الثاني - الجمع بين الصلاتين، أسبابه، وشروطه.
المطلب الأول - قصر الصلاة الرباعية:
القصر جائز بالقرآن والسنة والإجماع (١).
أما القرآن: فقوله تعالى: ﴿وإذا ضربتم في الأرض، فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة، إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا﴾ [النساء:١٠١/ ٤] والقصر جائز سواء في حالة الخوف أم الأمن، لكن تعليق القصر على الخوف في الآية، كان لتقرير الحالة الواقعة؛ لأن غالب أسفار النبي ﷺ لم تخل منه. قال يعلى بن أمية لعمر بن الخطاب: «ما لنا نقصر وقد أمنا؟ فقال: سألت النبي ﷺ فقال: صدقة تصدق الله بها عليكم، فاقبلوا صدقته» (٢).
(١) المغني: ٢٥٤/ ٢، كشاف القناع: ٥٩٣/ ١ ومابعدها، مغين المحتاج: ٢٦٢/ ١ ومابعدها.
(٢) رواه مسلم.
وأما السنة: فقد تواترت الأخبار أن رسول الله ﷺ كان يقصر في أسفاره حاجًا ومعتمرًا وغازيًا محاربًا، وقال ابن عمر: «صحبت النبي ﷺ، فكان لا يزيد في السفر على ركعتين، وأبو بكر وعمر وعثمان كذلك» (١).
وأجمع أهل العلم على أن من سافر سفرًا تقصر في مثله الصلاة، سواء كان السفر واجبًا كسفر الحج إلى المسجد الحرام والجهاد والهجرة والعمرة، أو مستحبًا كالسفر لزيارة الإخوان، وعيادة المرضى، وزيارة أحد المسجدين: مسجد المدينة والأقصى، وزيارة الوالدين أو أحدهما، أو مباحًا كالسفر لنزهة أو فرجة أو تجارة، أو مكرهًا على السفر، كأسير أوزانٍ مغرَّب: وهو الزاني غير المحصن الذي ينفى سنة بعد الجلد، أو مكروهًا كسفر المنفرد بنفسه دون جماعة.
والقصر: هو اختصار الصلاة الرباعية إلى ركعتين.
والذي يقصر إجماعًا (٢): هو الصلاة الرباعية من ظهر وعصر وعشاء، دون الفجر والمغرب؛ لأنه إذا قصر الفجر، بقي منه ركعة، ولا نظير لها في الفرض، وإذا قصر المغرب الذي هو وتر النهار، بطل كونه وترًا.
روى أحمد عن عائشة ﵂: «فرضت الصلاة ركعتين، إلا المغرب، فإنه وتر النهار، ثم زيدت في الحضر، وأقرت في السفر على ما كانت عليه». وروى علي بن عاصم عن عائشة حديثًا يتضمن استثناء صلاة المغرب وصلاة الغداة (الصبح) وصلاة الجمعة من جواز القصر.
والأحكام المتعلقة بالسفر:
أما القرآن: فقوله تعالى: ﴿وإذا ضربتم في الأرض، فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة، إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا﴾ [النساء:١٠١/ ٤] والقصر جائز سواء في حالة الخوف أم الأمن، لكن تعليق القصر على الخوف في الآية، كان لتقرير الحالة الواقعة؛ لأن غالب أسفار النبي ﷺ لم تخل منه. قال يعلى بن أمية لعمر بن الخطاب: «ما لنا نقصر وقد أمنا؟ فقال: سألت النبي ﷺ فقال: صدقة تصدق الله بها عليكم، فاقبلوا صدقته» (٢).
(١) المغني: ٢٥٤/ ٢، كشاف القناع: ٥٩٣/ ١ ومابعدها، مغين المحتاج: ٢٦٢/ ١ ومابعدها.
(٢) رواه مسلم.
وأما السنة: فقد تواترت الأخبار أن رسول الله ﷺ كان يقصر في أسفاره حاجًا ومعتمرًا وغازيًا محاربًا، وقال ابن عمر: «صحبت النبي ﷺ، فكان لا يزيد في السفر على ركعتين، وأبو بكر وعمر وعثمان كذلك» (١).
وأجمع أهل العلم على أن من سافر سفرًا تقصر في مثله الصلاة، سواء كان السفر واجبًا كسفر الحج إلى المسجد الحرام والجهاد والهجرة والعمرة، أو مستحبًا كالسفر لزيارة الإخوان، وعيادة المرضى، وزيارة أحد المسجدين: مسجد المدينة والأقصى، وزيارة الوالدين أو أحدهما، أو مباحًا كالسفر لنزهة أو فرجة أو تجارة، أو مكرهًا على السفر، كأسير أوزانٍ مغرَّب: وهو الزاني غير المحصن الذي ينفى سنة بعد الجلد، أو مكروهًا كسفر المنفرد بنفسه دون جماعة.
والقصر: هو اختصار الصلاة الرباعية إلى ركعتين.
والذي يقصر إجماعًا (٢): هو الصلاة الرباعية من ظهر وعصر وعشاء، دون الفجر والمغرب؛ لأنه إذا قصر الفجر، بقي منه ركعة، ولا نظير لها في الفرض، وإذا قصر المغرب الذي هو وتر النهار، بطل كونه وترًا.
روى أحمد عن عائشة ﵂: «فرضت الصلاة ركعتين، إلا المغرب، فإنه وتر النهار، ثم زيدت في الحضر، وأقرت في السفر على ما كانت عليه». وروى علي بن عاصم عن عائشة حديثًا يتضمن استثناء صلاة المغرب وصلاة الغداة (الصبح) وصلاة الجمعة من جواز القصر.
والأحكام المتعلقة بالسفر:
هي القصر، والجمع، والمسح على الخف ثلاثة أيام، وإباحة الفطر في رمضان، وهذه
الأربعة تختص بالسفر الطويل، وحرمة
(١) متفق عليه، وروي مثله في الصحيحين عن ابن مسعود، وأنس.
(٢) كشاف القناع: ٥٩٥/ ١، المغني: ٢٦٧/ ٢.
خروج المرأة بغير محرم، وسقوط الجمعة والعيدين والأضحية، وإباحة أكل الميتة للمضطر، والصلاة على الراحلة، والتيمم وإسقاط الفرض به، وهذه متعلقة بالسفر القصير، إلا أن أكل الميتة والتيمم لا يختصان بالسفر (١).
حكم القصر أو هل القصر رخصة أو عزيمة واجب؟
(١) متفق عليه، وروي مثله في الصحيحين عن ابن مسعود، وأنس.
(٢) كشاف القناع: ٥٩٥/ ١، المغني: ٢٦٧/ ٢.
خروج المرأة بغير محرم، وسقوط الجمعة والعيدين والأضحية، وإباحة أكل الميتة للمضطر، والصلاة على الراحلة، والتيمم وإسقاط الفرض به، وهذه متعلقة بالسفر القصير، إلا أن أكل الميتة والتيمم لا يختصان بالسفر (١).
حكم القصر أو هل القصر رخصة أو عزيمة واجب؟
وبعبارة أخرى: هل المسافر ملزم شرعًا بالقصر، أم أنه مخير بينه وبين الإتمام،
وأيهما أفضل: القصر أم الإتمام؟
تتردد أقوال الفقهاء المعتمدة بين آراء ثلاثة: إنه فرض، إنه سنة، إنه رخصة مخير فيها المسافر (٢).
قال الحنفية: القصر واجب - عزيمة، وفرض المسافر في كل صلاة رباعية ركعتان، لا تجوز له الزيادة عليهما عمدًا، ويجب سجود السهو إن كان سهوًا، فإن أتم الرباعية وصلى أربعًا، وقد قعد في الركعة الثانية مقدار التشهد، أجزأته الركعتان عن فرضه، وكانت الركعتان الأخريان له نافلة، ويكون مسيئًا، وإن لم يقعد في الثانية مقدار التشهد، بطلت صلاته، لاختلاط النافلة بها قبل إكمالها.
ودليلهم أحاديث ثابتة، منها حديث عائشة: «فرضت الصلاة ركعتين ركعتين، فأقرت صلاة السفر، وزيد في صلاة الحضر» (٣) وحديث ابن عباس:
(١) اللباب شرح الكتاب: ١٠٦/ ١، كشاف القناع: ٦٠٨/ ١، مغني المحتاج: ٢٧٥/ ١، المغني: ٢٦١/ ٢ ومابعدها.
(٢) الدر المختار: ٧٣٥/ ١، مراقي الفلاح: ص٧٢، الكتاب مع اللباب: ١٠٧/ ١، بداية المجتهد: ١٦١/ ١، القوانين الفقهية: ص٨٤، الشرح الكبير: ٣٥٨/ ١، مغني المحتاج: ٢٧١/ ١، المهذب: ١٠١/ ١، كشاف القناع: ٦٠١/ ١، المغني: ٢٦٧/ ٢ - ٢٧٠.
(٣) أخرجه الشيخان في الصحيحين، وفي لفظ: «فرض الله الصلاة حين فرضها ركعتين، فأتمها في الحضر، وأقرت صلاة السفر على الفريضة الأولى» (نصب الراية: ١٨٨/ ٢).
«فرض الله الصلاة على لسان نبيكم في الحضر أربع ركعات، وفي السفر ركعتين، وفي الخوف ركعة» (١).
وقال المالكية على المشهور الراجح: القصر سنة مؤكدة؛ لفعل النبيصلّى الله عليه وسلم، فإنه لم يصح عنه في أسفاره أنه أتم الصلاة قط، كما في الحديث المتقدم عن ابن عمر وغيره.
وقال الشافعية والحنابلة: القصر رخصة على سبيل التخير، فللمسافر أن يتم أو يقصر، والقصر أفضل من الإتمام مطلقًا عند الحنابلة؛ لأنه ﷺ داوم عليه، وكذا الخلفاء الراشدون من بعده، وهو عند الشافعية على المشهور أفضل من الإتمام إذا وجد في نفسه كراهة القصر، أو إذا بلغ ثلاث مراحل عند الحنفية تقدر بـ ٦٩ كم اتباعًا للسنة، وخروجًا من خلاف من أوجبه كأبي حنيفة. لكن الصوم في السفر أفضل من الفطر إن لم يتضرر به لقوله تعالى: ﴿وأن تصوموا خير لكم﴾ [البقرة:١٨٤/ ٢].
ودليلهم:
١ً - الآية السابقة: ﴿فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة﴾ [النساء:١٠١/ ٤]، وهذا يدل على أن القصر رخصة مخير بين فعله وتركه كسائر الرخص.
٢ً - والحديث السابق عن عمر: «صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته» وقوله ﷺ: «إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه» (٢).
(١) أخرجه مسلم، ورواه الطبراني بلفظ «افترض رسول الله ﷺ ركعتين في السفر، كما افترض في الحضر أربعًا» (نصب الراية: ١٨٩/ ٢).
(٢) رواه أحمد والبيهقي عن ابن عمر، والطبراني عن ابن عباس مرفوعًا، وعن ابن مسعود بنحوه موقوفًا على الأصح، وذكره أحمد عن ابن مسعود بلفظ: «إن الله يحب أن تؤتى رخصه، كما يكره أن تؤتى معصيته» وهو ضعيف.
٣ً - وثبت في صحيح مسلم وغيره أن الصحابة كانوا يسافرون مع رسول الله ﷺ، فمنهم القاصر، ومنهم المتم، ومنهم الصائم ومنهم المفطر، لا يعيب بعضهم على بعض (١).
٤ً - وقالت عائشة: «خرجت مع النبي ﷺ في عُمْرة في رمضان، فأفطر وصُمتُ، وقصر وأتممت، فقلت: بأبي وأمي، أفطرتَ وصمتُ، وقصرتَ وأتممتُ، فقال: أحسنت ياعائشة» (٢).
يظهر من هذه الأدلة الأربعة أن القصر رخصة، وهو الراجح المتبادر للذهن.
ثانيًا - سبب مشروعية القصر:
تتردد أقوال الفقهاء المعتمدة بين آراء ثلاثة: إنه فرض، إنه سنة، إنه رخصة مخير فيها المسافر (٢).
قال الحنفية: القصر واجب - عزيمة، وفرض المسافر في كل صلاة رباعية ركعتان، لا تجوز له الزيادة عليهما عمدًا، ويجب سجود السهو إن كان سهوًا، فإن أتم الرباعية وصلى أربعًا، وقد قعد في الركعة الثانية مقدار التشهد، أجزأته الركعتان عن فرضه، وكانت الركعتان الأخريان له نافلة، ويكون مسيئًا، وإن لم يقعد في الثانية مقدار التشهد، بطلت صلاته، لاختلاط النافلة بها قبل إكمالها.
ودليلهم أحاديث ثابتة، منها حديث عائشة: «فرضت الصلاة ركعتين ركعتين، فأقرت صلاة السفر، وزيد في صلاة الحضر» (٣) وحديث ابن عباس:
(١) اللباب شرح الكتاب: ١٠٦/ ١، كشاف القناع: ٦٠٨/ ١، مغني المحتاج: ٢٧٥/ ١، المغني: ٢٦١/ ٢ ومابعدها.
(٢) الدر المختار: ٧٣٥/ ١، مراقي الفلاح: ص٧٢، الكتاب مع اللباب: ١٠٧/ ١، بداية المجتهد: ١٦١/ ١، القوانين الفقهية: ص٨٤، الشرح الكبير: ٣٥٨/ ١، مغني المحتاج: ٢٧١/ ١، المهذب: ١٠١/ ١، كشاف القناع: ٦٠١/ ١، المغني: ٢٦٧/ ٢ - ٢٧٠.
(٣) أخرجه الشيخان في الصحيحين، وفي لفظ: «فرض الله الصلاة حين فرضها ركعتين، فأتمها في الحضر، وأقرت صلاة السفر على الفريضة الأولى» (نصب الراية: ١٨٨/ ٢).
«فرض الله الصلاة على لسان نبيكم في الحضر أربع ركعات، وفي السفر ركعتين، وفي الخوف ركعة» (١).
وقال المالكية على المشهور الراجح: القصر سنة مؤكدة؛ لفعل النبيصلّى الله عليه وسلم، فإنه لم يصح عنه في أسفاره أنه أتم الصلاة قط، كما في الحديث المتقدم عن ابن عمر وغيره.
وقال الشافعية والحنابلة: القصر رخصة على سبيل التخير، فللمسافر أن يتم أو يقصر، والقصر أفضل من الإتمام مطلقًا عند الحنابلة؛ لأنه ﷺ داوم عليه، وكذا الخلفاء الراشدون من بعده، وهو عند الشافعية على المشهور أفضل من الإتمام إذا وجد في نفسه كراهة القصر، أو إذا بلغ ثلاث مراحل عند الحنفية تقدر بـ ٦٩ كم اتباعًا للسنة، وخروجًا من خلاف من أوجبه كأبي حنيفة. لكن الصوم في السفر أفضل من الفطر إن لم يتضرر به لقوله تعالى: ﴿وأن تصوموا خير لكم﴾ [البقرة:١٨٤/ ٢].
ودليلهم:
١ً - الآية السابقة: ﴿فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة﴾ [النساء:١٠١/ ٤]، وهذا يدل على أن القصر رخصة مخير بين فعله وتركه كسائر الرخص.
٢ً - والحديث السابق عن عمر: «صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته» وقوله ﷺ: «إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه» (٢).
(١) أخرجه مسلم، ورواه الطبراني بلفظ «افترض رسول الله ﷺ ركعتين في السفر، كما افترض في الحضر أربعًا» (نصب الراية: ١٨٩/ ٢).
(٢) رواه أحمد والبيهقي عن ابن عمر، والطبراني عن ابن عباس مرفوعًا، وعن ابن مسعود بنحوه موقوفًا على الأصح، وذكره أحمد عن ابن مسعود بلفظ: «إن الله يحب أن تؤتى رخصه، كما يكره أن تؤتى معصيته» وهو ضعيف.
٣ً - وثبت في صحيح مسلم وغيره أن الصحابة كانوا يسافرون مع رسول الله ﷺ، فمنهم القاصر، ومنهم المتم، ومنهم الصائم ومنهم المفطر، لا يعيب بعضهم على بعض (١).
٤ً - وقالت عائشة: «خرجت مع النبي ﷺ في عُمْرة في رمضان، فأفطر وصُمتُ، وقصر وأتممت، فقلت: بأبي وأمي، أفطرتَ وصمتُ، وقصرتَ وأتممتُ، فقال: أحسنت ياعائشة» (٢).
يظهر من هذه الأدلة الأربعة أن القصر رخصة، وهو الراجح المتبادر للذهن.
ثانيًا - سبب مشروعية القصر:
الحكمة من القصر: هو دفع المشقة والحرج الذي قد يتعرض له المسافر غالبًا،
والتيسير عليه في حقوق الله تعالى، والترغيب في أداء الفرائض، وعدم التنفير من
القيام بالواجب، فلا يبقى لمقصر أو مهمل حجة أوذريعة في ترك فرض الصلاة.
وسبب مشروعية القصر: هو السفر الطويل، المباح عند الجمهور غير الحنفية. والكلام عن السفر المبيح للقصر الذي تتغير به الأحكام الشرعية يتطلب بحث أمور أربعة وهي: المسافة التي يجوز فيها القصر، نوع السفر الذي تقصر فيه الصلاة: المباح أم أي سفر، الموضع الذي يبدأ منه المسافر بالقصر (أول السفر)، مقدار الزمان الذي يقصر فيه إذا أقام المسافر في موضع.
(١) قاله النووي في شرح مسلم، لكن ليس في صحيح مسلم قوله: «فمنهم القاصر ومنهم المتم».
(٢) رواه الدارقطني، وقال: هذا إسناد حسن (نيل الأوطار: ٣/ ٢٠٢).
الموضوع الأول - المسافة التي يجوز فيها القصر:
اختلف الفقهاء في تقدير مسافة السفر التي يقصر فيها، فقال الحنفية (١): أقل ما تقصر فيه الصلاة مسيرة ثلاثة أيام ولياليها من أقصر أيام السنة في البلاد المعتدلة (٢)، بسير الإبل ومشي الأقدام، ولا يشترط سفر كل يوم إلى الليل، بل أن يسافر في كل يوم منها من الصباح إلى الزوال (الظهر)، فالمعتبر هو السير الوسط مع الاستراحات العادية، فلو أسرع وقطع تلك المسافة من أقل من ذلك كما في وسائل المواصلات الحديثة، جاز له القصر. فإذا قصد الإنسان موضعًا بينه وبين مقصده مسيرة ثلاثة أيام، جاز له القصر، فإن لم يقصد موضعًا، وطاف الدنيا من غير قصد إلى قطع مسيرة ثلاثة أيام لا يترخص بالقصر.
والتقدير بثلاث مراحل قريب من التقدير بثلاثة أيام؛ لأن المعتاد من السير في كل يوم مرحلة واحدة، خصوصًا في أقصر أيام السنة. ولا يصح القصر في أقل من هذه المسافة، كما لا يصح التقدير عندهم بالفراسخ (٣) على المعتمد الصحيح، ودليلهم القياس على مدة المسح على الخف المقدرة بالسنة، وهي نص حديث: «يمسح المقيم كمال يوم وليلة، والمسافر ثلاثة أيام ولياليها» (٤).
والمعتبر في البحر والجبل: مايناسبه أو ما يليق بحاله لقطع المسافة، ففي البحر تعتبر تلك المسافة بحسب اعتدال الريح، لا ساكنة ولا عالية، وفي الجبل يعتبر
(١) الدر المختار ورد المحتار: ٧٣٢/ ١ - ٧٣٥، فتح القدير: ٣٩٢/ ١ - ٣٩٤، اللباب:١٠٦/ ١، مراقي الفلاح: ص٧١.
(٢) أي البلاد التي يمكن قطع المرحلة المذكورة في معظم اليوم من أقصر أيامها، فلا يرد أن أقصر أيام السنة في بلاد البلغار قد يكون ساعة أو أكثر أو أقل.
(٣) الفرسخ: ثلاثة أميال، والميل أربعة آلاف ذراع.
(٤) رواه ابن أبي شيبة عن علي (نصب الراية: ١٨٣/ ٢).
السير فيه بثلاثة أيام ولياليها بحسب طبيعته، وإن كانت تلك المسافة في السهل تقطع بما دونها.
ومجموع مدة الثلاثة الأيام بالساعات يختلف بحسب كل بلد، ففي مصر وما ساواها من العرض عشرون ساعة وربع، في كل يوم سبع ساعات إلا ربعًا، ومجموع الثلاثة الأيام في الشام عشرون ساعة إلا ثلث ساعة تقريبًا في كل يوم ست ساعات وثلثي ساعة إلا درجة ونصفًا.
وقال الجمهور غير الحنفية (١): السفر الطويل المبيح للقصر المقدر بالزمن: يومان معتدلان أو مرحلتان بسير الأثقال ودبيب الأقدام، أي سير الإبل المثقلة بالأحمال على المعتاد من سير وحط وترحال وأكل وشرب وصلاة كالمسافة بين جدة ومكة أو الطائف ومكة أو من عُسفان إلى مكة، ويقدر بالمسافة ذهابًا: بأربعة بُر ُد أو ستة عشر فرسخًا، أو ثمانية وأربعين ميلًا هاشميًا، والميل: ستة آلاف ذراع (٢)، كما ذكر الشافعية والحنابلة، وقال المالكية على الصحيح: الميل ثلاثة آلاف وخمس مئة ذراع، وتقدر بحوالي (٨٩ كم) وعلى وجه الدقة:٨٨.٧٠٤ كم ثمان وثمانين كيلو وسبع مئة وأربعة أمتار، ويقصر حتى لو قطع تلك المسافة بساعة واحدة، كالسفر بالطائرة والسيارة ونحوها؛ لأنه صدق عليه أنه سافر أربعة برد.
والمسافة في البحر كالمسافة في البر.
ودليلهم: قول النبي ﷺ: «يا أهل مكة، لا تقصروا في أقل من أربعة برد،
(١) بداية المجتهد:١٦٢/ ١، الشرح الصغير: ٤٧٤/ ١ ومابعدها، الشرح الكبير:٣٥٨/ ١ - ٣٦١، المهذب:١٠٢/ ١، المغني: ٢٥٥/ ٢ ومابعدها، المجموع: ٢١٣/ ٤ ومابعدها.
(٢) الذراع: أربعة وعشرون أصبعًا كما ذكر الشافعية والحنابلة، أو ٣٢ أصبعًا كما بينا في جدول المقاييس، والذراع: ٢،٤٦ سم، والإصبع: ست شعيرات معتدلات، وتساوي ٩٢٥،١سم.
من مكة إلى عُسْفان» (١) وما روي عن ابن عمر وابن عباس ﵄: كانا يصليان ركعتين ويفطران في أربعة بُرُد، فما فوق، ولأن في هذا القدر تتكرر مشقة الشد والترحال، وفيما دونه لا تتكرر.
وهذه المسافة عند الشافعية محددة تمامًا، فيضر نقص المسافة مهما قل. وهي تقريبًا لا تحديدًا عند الحنابلة والمالكية، فلا يضر عند الحنابلة نقصان المسافة عن هذا المقدار بشيء قليل كميل أو ميلين، ولا يضر عند المالكية نقصان ثمانية أميال.
واستثنى المالكية خلافًا لغيرهم (الجمهور) من هذه المسافة أهل مكة ومنى ومزدلفة والمُحَصَّب إذا خرجوا في الحج للوقوف بعرفة، فإنه عملًا بالسنة يسن لهم القصر في الذهاب والإياب إذا بقي عليهم شيء من أعمال الحج التي تؤدى في غير وطنهم، وإلا بأن وصلوا وطنهم أتموا الصلاة.
وناقش ابن قدامة (٢) أدلة الجمهور: بأنه روي عن ابن عباس وابن عمر خلاف المذكور، وأنه معارض لظاهر القرآن؛ لأن ظاهره إباحة القصر لكل من ضرب في الأرض بدون تحديد مسافة، وأنه مخالف لسنة النبي ﷺ، قال أنس: «إن رسول الله ﷺ كان إذا خرج مسيرة ثلاثة أميال، أو ثلاثة فراسخ، صلى ركعتين» (٣)،وقال ابن قدامة في نهاية نقاشه: الحجة مع من أباح القصر لكل مسافر، إلا أن ينعقد الإجماع على خلافه.
(١) رواه الدارقطني عن ابن عباس، وروي موقوفًا على ابن عباس، قال الخطابي: هو أصح الروايتين عن ابن عمر. وقول الصحابي عند الحنابلة حجة، خصوصًا إذا خالف القياس.
(٢) المغني: ٢٥٧/ ٢ ومابعدها.
(٣) رواه أحمد ومسلم وأبو داود عن شعبة عن يحيى بن يزيد الهنائي أنه سأل أنسًا .. والتردد بين الأميال والفرسخ شك من الراوي: شعبة (نيل الأوطار: ٢٠٥/ ٣).
الثاني - نوع السفر الذي تقصر فيه الصلاة:
قال الحنفية (١): يجوز القصر في كل سفر، سواء أكان قربة أم مباحًا أم معصية، فيجوز القصر لقاطع الطريق ونحوه ممن كان عاصيًا بسفره؛ لأن القبح المجاور لشيء مشروع لا يعدم المشروعية، والقبح المجاور: هو ما يقبل الانفكاك كالبيع وقت النداء لصلاة الجمعة، فإنه قبُح لترك السعي، وهو قابل للانفكاك، إذ قد يوجد ترك السعي للجمعة، بدون البيع، وبالعكس، فكذا السفر، فإنه يمكن قطع الطريق والسرقة مثلًا بلا سفر، وبالعكس. أما القبح لعينه كالكفر، أو القبح شرعًا كبيع الحر، فإنه يعدم المشروعية. ودليلهم بعبارة أخرى على أن العاصي والمطيع في سفرهما سواء في الرخصة: هو إطلاق النصوص وهو: ﴿وإذا ضربتم في الأرض ..﴾ [النساء:١٠١/ ٤] ولأن نفس السفر ليس بمعصية، وإنما المعصية ما يكون بعده أو يجاوره، فلا يؤثر على رخصة القصر.
وقال الجمهور غير الحنفية (٢): لا تباح الرخص المختصة بالسفر من القصر والجمع والفطر والمسح ثلاثًا والصلاة على الراحلة تطوعًا في سفر المعصية كالإباق، وقطع الطريق، والتجارة في الخمر والمحرمات، وهذا هو العاصي بسفره أي الذي أنشأ سفرًا لأجل المعصية أو يقصد محلًا لفعل محرم، فلا يقصر الصلاة، ويحرم عليه القصر؛ لأن السفر سبب الرخصة، فلا تناط بالمعصية، فيكون المبدأ عندهم: (الرخص لا تناط بالمعاصي) حتى أكل الميتة، لقوله تعالى: ﴿فمن اضطر غير باغ ولا عاد، فلا إثم عليه﴾ [البقرة:١٧٣/ ٢]، أباح الأكل إن لم يكن عاديًا ولا باغيًا، فلا يباح لباغ ولاعاد، ولأن الترخص شرع للإعانة على تحصيل المقصد
(١) الدر المختار: ٧٣٣/ ١، ٧٣٦، تبيين الحقائق: ٢١٥/ ١ ومابعدها، فتح القدير: ٤٠٥/ ١ ومابعدها.
(٢) بداية المجتهد: ١٦٣/ ١، الشرح الصغير: ٤٧٧/ ١، مغني المحتاج: ٢٦٨/ ١، المهذب: ١٠٢/ ١، المغني: ٢٦١/ ٢ ومابعدها، ٥٩٧/ ٨، كشاف القناع: ٥٩٦/ ١،١٩٤/ ٦.
المباح توصلًا إلى المصلحة، فلو شرع ههنا، لشرع إعانة على المحرم، تحصيلًا للمفسدة، والشرع منزه عن هذا.
وذكر المالكية أنه يكره القصر للاهٍ بالسفر.
أما العاصي في السفر: وهو الذي قصد سفرًا لغرض مشروع، لكنه ارتكب في أثناء السفر معصية كزنا أو سرقة أو غصب، أو قذف أو غيبة، فيجوز له الترخص من قصر وغيره؛ لأنه لم يقصد السفر لذلك أي للمعصية، وإنما لغرض مشروع، فهو كالمقيم العاصي.
قال النووي الشافعي: لو أنشأ امرؤ سفرًا مباحًا ثم جعله معصية فلا ترخص في الأصح، ولو أنشأه عاصيًا ثم تاب، فمنشئ للسفر من حين التوبة.
الثالث - الموضع الذي يبدأ منه المسافر بالقصر - أول السفر:
لا تكفي نية السفر لقصر الصلاة قبل مباشرة السفر وتجاوز حدود البلد، بل لا بد من مباشرة السفر حتى يحق له القصر والفطر، وقد اتفق الفقهاء (١) على أن أول السفر الذي يجوز به القصر ونحوه: هو أن يخرج المسافر من بيوت البلد التي خرج منها ويجعلها وراء ظهره، أو يجاوز العمران من الجانب الذي خرج منه، وإن لم يجاوزها من جانب آخر؛ لأن الإقامة تتعلق بدخولها، فيتعلق السفر بالخروج عنها، لقوله تعالى: ﴿وإذا ضربتم في الأرض، فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة﴾ [النساء:١٠١/ ٤] ولا يكون ضاربًا في الأرض حتى يخرج. وسيأتي تفصيل المذاهب في هذا الموضوع.
(١) الكتاب مع اللباب: ١٠٧/ ١، مراقي الفلاح: ص٧١، فتح القدير: ٣٩٦/ ١، بداية المجتهد: ١٦٣/ ١، الشرح الصغير: ٤٧٦/ ١ ومابعدها، مغني المحتاج: ٢٦٣/ ١ ومابعدها، المهذب: ١٠٢/ ١، المغني: ٢٥٩/ ٢ - ٢٦١.
ولا يُتم صلاته حتى يدخل أول بيوت البلد الذي يقصده للإقامة فيه.
ولا يزال المسافر على حكم السفر حتى ينوي الإقامة مدة معينة سنذكرها.
الرابع - مقدار الزمان الذي يقصر فيه إذا أقام المسافر في موضع:
يظل للمسافر حق القصر ما لم ينو الإقامة في بلد مدة معينة، وقد اختلف الفقهاء على رأيين في تقدير هذه المدة (١).
فقال الحنفية: يصير المسافر مقيمًا، ويمتنع عليه القصر إذا نوى الإقامة في بلد خمسة عشر يومًا، فصاعدًا، فإن نوى تلك المدة، لزمه الإتمام، وإن نوى أقل من ذلك قصر.
ودليلهم: القياس على مدة الطهر للمرأة؛ لأنهما مدتان موجبتان العودة إلى الأصل، فإن مدة الطهر توجب إعادة ما سقط بالحيض، والإقامة توجب إعادة ما سقط بالسفر، فكما قدر مدة الطهر بخمسة عشر يومًا، فكذلك يقدر أدنى مدة الإقامة. وهذا التقرير مأثور عن ابن عباس وابن عمر، قالا: إذا دخلت بلدة وأنت مسافر، وفي عزمك أن تقيم بها خمسة عشر يومًا، فأكمل الصلاة، وإن كنت لا تدري متى تظعن فاقصر.
وإن كان ينتظر قضاء حاجة معينة، له القصر ولو طال الترقب سنين، فمن دخل بلدًا، ولم ينو أن يقيم فيه خمسة عشر يومًا، وإنما يترقب السفر، ويقول: أخرج غدًا أو بعد غد مثلًا، حتى بقي على ذلك سنين، صلى ركعتين أي قصر؛
(١) فتح القدير مع العناية: ٣٩٧/ ١ ومابعدها، اللباب: ١٠٧/ ١ ومابعدها، بداية المجتهد: ٦٣/ ١ ومابعدها، الشرح الصغير: ٤٨١/ ١، مغني المحتاج: ٢٦٤/ ١ ومابعدها، المهذب: ١٠٣/ ١، كشاف القناع: ٦٠٥/ ١، القوانين الفقهية: ص٨٥، الشرح الكبير: ٣٦٤/ ١.
لأن ابن عمر أقام بأذربيجان ستة أشهر، وكان يقصر، وروي عن جماعة من الصحابة مثل ذلك.
وإذا دخل العسكر أرض الحرب، فنووا الإقامة بها خمسة عشر يومًا، أو حاصروا فيها مدينة أو حصنًا، قصروا، ولم يتموا الصلاة، لعدم صحة النية؛ لأن الداخل قلق غير مستقر، فهو متردد بين أن يَهزِم العدو فيَقر، أو يُهزَم من عدوه فيفر. وهذا موافق لمذهب المالكية أيضًا.
وقال المالكية والشافعية: إذا نوى المسافر إقامة أربعة أيام بموضع، أتم صلاته؛ لأن الله تعالى أباح القصر بشرط الضرب في الأرض، والمقيم والعازم على الإقامة غير ضارب في الأرض، والسنة بينت أن ما دون الأربع لا يقطع السفر، ففي الصحيحين: «يقيم المهاجر بعد قضاء نسكه ثلاثًا» وأقام النبي ﷺ بمكة في عمرته ثلاثًا يقصر (١).
وقدر المالكية المدة المذكورة بعشرين صلاة في مدة الإقامة، فإذا نقصت عن ذلك قصر.
ولم يحسب المالكية والشافعية يومي الدخول والخروج على الصحيح عند الشافعية؛ لأن في الأول حط الأمتعة، وفي الثاني الرحيل، وهما من أشغال السفر.
وقال الحنابلة: إذا نوى أكثر من أربعة أيام أو أكثر من عشرين صلاة، أتم، لحديث جابر وابن عباس أن النبي ﷺ قدم مكة صبيحة رابعة ذي الحجة، فأقام بها
(١) راجع نيل الأوطار: ٢٠٧/ ٣ ومابعدها.
أما حديث الصحيحين فهو أن النبي ﷺ حرم الإقامة بمكة على المهاجرين، ثم رخص لهم أن يقيموا ثلاثة أيام (المجموع: ٢٤٣/ ٤). الرابع والخامس والسادس، وصلى الصبح في اليوم الثامن، ثم خرج إلى منى، وكان يقصر الصلاة في هذه الأيام، وقال أنس: «أقمنا بمكة عشرًا نقصر الصلاة» (١)، قال ابن حجر في الفتح: ولاشك أنه خرج من مكة صبح الرابع عشر، فتكون مدة الإقامة بمكة ونواحيها عشرة أيام بلياليها، كما قال أنس، وتكون مدة إقامته بمكة أربعة أيام، لا سواها، لأنه خرج منها في اليوم الثامن، فصلى بمنى.
ويحسب من المدة عند الحنابلة يوم الدخول والخروج.
فإن كان ينتظر قضاء حاجة يتوقعها كل وقت أو يرجونجاحها أو جهاد عدو أو على أهبة السفر يومًا فيومًا، جاز له القصر عند المالكية والحنابلة، مهما طالت المدة، ما لم ينو الإقامة، كما قرر الحنفية.
وقال الشافعية: له القصر ثمانية عشر يومًا غير يومي الدخول والخروج؛ لأنهصلّى الله عليه وسلم أقامها بمكة عام الفتح لحرب هوازن، يقصر الصلاة (٢).
ثالثًا - شروط القصر:
وسبب مشروعية القصر: هو السفر الطويل، المباح عند الجمهور غير الحنفية. والكلام عن السفر المبيح للقصر الذي تتغير به الأحكام الشرعية يتطلب بحث أمور أربعة وهي: المسافة التي يجوز فيها القصر، نوع السفر الذي تقصر فيه الصلاة: المباح أم أي سفر، الموضع الذي يبدأ منه المسافر بالقصر (أول السفر)، مقدار الزمان الذي يقصر فيه إذا أقام المسافر في موضع.
(١) قاله النووي في شرح مسلم، لكن ليس في صحيح مسلم قوله: «فمنهم القاصر ومنهم المتم».
(٢) رواه الدارقطني، وقال: هذا إسناد حسن (نيل الأوطار: ٣/ ٢٠٢).
الموضوع الأول - المسافة التي يجوز فيها القصر:
اختلف الفقهاء في تقدير مسافة السفر التي يقصر فيها، فقال الحنفية (١): أقل ما تقصر فيه الصلاة مسيرة ثلاثة أيام ولياليها من أقصر أيام السنة في البلاد المعتدلة (٢)، بسير الإبل ومشي الأقدام، ولا يشترط سفر كل يوم إلى الليل، بل أن يسافر في كل يوم منها من الصباح إلى الزوال (الظهر)، فالمعتبر هو السير الوسط مع الاستراحات العادية، فلو أسرع وقطع تلك المسافة من أقل من ذلك كما في وسائل المواصلات الحديثة، جاز له القصر. فإذا قصد الإنسان موضعًا بينه وبين مقصده مسيرة ثلاثة أيام، جاز له القصر، فإن لم يقصد موضعًا، وطاف الدنيا من غير قصد إلى قطع مسيرة ثلاثة أيام لا يترخص بالقصر.
والتقدير بثلاث مراحل قريب من التقدير بثلاثة أيام؛ لأن المعتاد من السير في كل يوم مرحلة واحدة، خصوصًا في أقصر أيام السنة. ولا يصح القصر في أقل من هذه المسافة، كما لا يصح التقدير عندهم بالفراسخ (٣) على المعتمد الصحيح، ودليلهم القياس على مدة المسح على الخف المقدرة بالسنة، وهي نص حديث: «يمسح المقيم كمال يوم وليلة، والمسافر ثلاثة أيام ولياليها» (٤).
والمعتبر في البحر والجبل: مايناسبه أو ما يليق بحاله لقطع المسافة، ففي البحر تعتبر تلك المسافة بحسب اعتدال الريح، لا ساكنة ولا عالية، وفي الجبل يعتبر
(١) الدر المختار ورد المحتار: ٧٣٢/ ١ - ٧٣٥، فتح القدير: ٣٩٢/ ١ - ٣٩٤، اللباب:١٠٦/ ١، مراقي الفلاح: ص٧١.
(٢) أي البلاد التي يمكن قطع المرحلة المذكورة في معظم اليوم من أقصر أيامها، فلا يرد أن أقصر أيام السنة في بلاد البلغار قد يكون ساعة أو أكثر أو أقل.
(٣) الفرسخ: ثلاثة أميال، والميل أربعة آلاف ذراع.
(٤) رواه ابن أبي شيبة عن علي (نصب الراية: ١٨٣/ ٢).
السير فيه بثلاثة أيام ولياليها بحسب طبيعته، وإن كانت تلك المسافة في السهل تقطع بما دونها.
ومجموع مدة الثلاثة الأيام بالساعات يختلف بحسب كل بلد، ففي مصر وما ساواها من العرض عشرون ساعة وربع، في كل يوم سبع ساعات إلا ربعًا، ومجموع الثلاثة الأيام في الشام عشرون ساعة إلا ثلث ساعة تقريبًا في كل يوم ست ساعات وثلثي ساعة إلا درجة ونصفًا.
وقال الجمهور غير الحنفية (١): السفر الطويل المبيح للقصر المقدر بالزمن: يومان معتدلان أو مرحلتان بسير الأثقال ودبيب الأقدام، أي سير الإبل المثقلة بالأحمال على المعتاد من سير وحط وترحال وأكل وشرب وصلاة كالمسافة بين جدة ومكة أو الطائف ومكة أو من عُسفان إلى مكة، ويقدر بالمسافة ذهابًا: بأربعة بُر ُد أو ستة عشر فرسخًا، أو ثمانية وأربعين ميلًا هاشميًا، والميل: ستة آلاف ذراع (٢)، كما ذكر الشافعية والحنابلة، وقال المالكية على الصحيح: الميل ثلاثة آلاف وخمس مئة ذراع، وتقدر بحوالي (٨٩ كم) وعلى وجه الدقة:٨٨.٧٠٤ كم ثمان وثمانين كيلو وسبع مئة وأربعة أمتار، ويقصر حتى لو قطع تلك المسافة بساعة واحدة، كالسفر بالطائرة والسيارة ونحوها؛ لأنه صدق عليه أنه سافر أربعة برد.
والمسافة في البحر كالمسافة في البر.
ودليلهم: قول النبي ﷺ: «يا أهل مكة، لا تقصروا في أقل من أربعة برد،
(١) بداية المجتهد:١٦٢/ ١، الشرح الصغير: ٤٧٤/ ١ ومابعدها، الشرح الكبير:٣٥٨/ ١ - ٣٦١، المهذب:١٠٢/ ١، المغني: ٢٥٥/ ٢ ومابعدها، المجموع: ٢١٣/ ٤ ومابعدها.
(٢) الذراع: أربعة وعشرون أصبعًا كما ذكر الشافعية والحنابلة، أو ٣٢ أصبعًا كما بينا في جدول المقاييس، والذراع: ٢،٤٦ سم، والإصبع: ست شعيرات معتدلات، وتساوي ٩٢٥،١سم.
من مكة إلى عُسْفان» (١) وما روي عن ابن عمر وابن عباس ﵄: كانا يصليان ركعتين ويفطران في أربعة بُرُد، فما فوق، ولأن في هذا القدر تتكرر مشقة الشد والترحال، وفيما دونه لا تتكرر.
وهذه المسافة عند الشافعية محددة تمامًا، فيضر نقص المسافة مهما قل. وهي تقريبًا لا تحديدًا عند الحنابلة والمالكية، فلا يضر عند الحنابلة نقصان المسافة عن هذا المقدار بشيء قليل كميل أو ميلين، ولا يضر عند المالكية نقصان ثمانية أميال.
واستثنى المالكية خلافًا لغيرهم (الجمهور) من هذه المسافة أهل مكة ومنى ومزدلفة والمُحَصَّب إذا خرجوا في الحج للوقوف بعرفة، فإنه عملًا بالسنة يسن لهم القصر في الذهاب والإياب إذا بقي عليهم شيء من أعمال الحج التي تؤدى في غير وطنهم، وإلا بأن وصلوا وطنهم أتموا الصلاة.
وناقش ابن قدامة (٢) أدلة الجمهور: بأنه روي عن ابن عباس وابن عمر خلاف المذكور، وأنه معارض لظاهر القرآن؛ لأن ظاهره إباحة القصر لكل من ضرب في الأرض بدون تحديد مسافة، وأنه مخالف لسنة النبي ﷺ، قال أنس: «إن رسول الله ﷺ كان إذا خرج مسيرة ثلاثة أميال، أو ثلاثة فراسخ، صلى ركعتين» (٣)،وقال ابن قدامة في نهاية نقاشه: الحجة مع من أباح القصر لكل مسافر، إلا أن ينعقد الإجماع على خلافه.
(١) رواه الدارقطني عن ابن عباس، وروي موقوفًا على ابن عباس، قال الخطابي: هو أصح الروايتين عن ابن عمر. وقول الصحابي عند الحنابلة حجة، خصوصًا إذا خالف القياس.
(٢) المغني: ٢٥٧/ ٢ ومابعدها.
(٣) رواه أحمد ومسلم وأبو داود عن شعبة عن يحيى بن يزيد الهنائي أنه سأل أنسًا .. والتردد بين الأميال والفرسخ شك من الراوي: شعبة (نيل الأوطار: ٢٠٥/ ٣).
الثاني - نوع السفر الذي تقصر فيه الصلاة:
قال الحنفية (١): يجوز القصر في كل سفر، سواء أكان قربة أم مباحًا أم معصية، فيجوز القصر لقاطع الطريق ونحوه ممن كان عاصيًا بسفره؛ لأن القبح المجاور لشيء مشروع لا يعدم المشروعية، والقبح المجاور: هو ما يقبل الانفكاك كالبيع وقت النداء لصلاة الجمعة، فإنه قبُح لترك السعي، وهو قابل للانفكاك، إذ قد يوجد ترك السعي للجمعة، بدون البيع، وبالعكس، فكذا السفر، فإنه يمكن قطع الطريق والسرقة مثلًا بلا سفر، وبالعكس. أما القبح لعينه كالكفر، أو القبح شرعًا كبيع الحر، فإنه يعدم المشروعية. ودليلهم بعبارة أخرى على أن العاصي والمطيع في سفرهما سواء في الرخصة: هو إطلاق النصوص وهو: ﴿وإذا ضربتم في الأرض ..﴾ [النساء:١٠١/ ٤] ولأن نفس السفر ليس بمعصية، وإنما المعصية ما يكون بعده أو يجاوره، فلا يؤثر على رخصة القصر.
وقال الجمهور غير الحنفية (٢): لا تباح الرخص المختصة بالسفر من القصر والجمع والفطر والمسح ثلاثًا والصلاة على الراحلة تطوعًا في سفر المعصية كالإباق، وقطع الطريق، والتجارة في الخمر والمحرمات، وهذا هو العاصي بسفره أي الذي أنشأ سفرًا لأجل المعصية أو يقصد محلًا لفعل محرم، فلا يقصر الصلاة، ويحرم عليه القصر؛ لأن السفر سبب الرخصة، فلا تناط بالمعصية، فيكون المبدأ عندهم: (الرخص لا تناط بالمعاصي) حتى أكل الميتة، لقوله تعالى: ﴿فمن اضطر غير باغ ولا عاد، فلا إثم عليه﴾ [البقرة:١٧٣/ ٢]، أباح الأكل إن لم يكن عاديًا ولا باغيًا، فلا يباح لباغ ولاعاد، ولأن الترخص شرع للإعانة على تحصيل المقصد
(١) الدر المختار: ٧٣٣/ ١، ٧٣٦، تبيين الحقائق: ٢١٥/ ١ ومابعدها، فتح القدير: ٤٠٥/ ١ ومابعدها.
(٢) بداية المجتهد: ١٦٣/ ١، الشرح الصغير: ٤٧٧/ ١، مغني المحتاج: ٢٦٨/ ١، المهذب: ١٠٢/ ١، المغني: ٢٦١/ ٢ ومابعدها، ٥٩٧/ ٨، كشاف القناع: ٥٩٦/ ١،١٩٤/ ٦.
المباح توصلًا إلى المصلحة، فلو شرع ههنا، لشرع إعانة على المحرم، تحصيلًا للمفسدة، والشرع منزه عن هذا.
وذكر المالكية أنه يكره القصر للاهٍ بالسفر.
أما العاصي في السفر: وهو الذي قصد سفرًا لغرض مشروع، لكنه ارتكب في أثناء السفر معصية كزنا أو سرقة أو غصب، أو قذف أو غيبة، فيجوز له الترخص من قصر وغيره؛ لأنه لم يقصد السفر لذلك أي للمعصية، وإنما لغرض مشروع، فهو كالمقيم العاصي.
قال النووي الشافعي: لو أنشأ امرؤ سفرًا مباحًا ثم جعله معصية فلا ترخص في الأصح، ولو أنشأه عاصيًا ثم تاب، فمنشئ للسفر من حين التوبة.
الثالث - الموضع الذي يبدأ منه المسافر بالقصر - أول السفر:
لا تكفي نية السفر لقصر الصلاة قبل مباشرة السفر وتجاوز حدود البلد، بل لا بد من مباشرة السفر حتى يحق له القصر والفطر، وقد اتفق الفقهاء (١) على أن أول السفر الذي يجوز به القصر ونحوه: هو أن يخرج المسافر من بيوت البلد التي خرج منها ويجعلها وراء ظهره، أو يجاوز العمران من الجانب الذي خرج منه، وإن لم يجاوزها من جانب آخر؛ لأن الإقامة تتعلق بدخولها، فيتعلق السفر بالخروج عنها، لقوله تعالى: ﴿وإذا ضربتم في الأرض، فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة﴾ [النساء:١٠١/ ٤] ولا يكون ضاربًا في الأرض حتى يخرج. وسيأتي تفصيل المذاهب في هذا الموضوع.
(١) الكتاب مع اللباب: ١٠٧/ ١، مراقي الفلاح: ص٧١، فتح القدير: ٣٩٦/ ١، بداية المجتهد: ١٦٣/ ١، الشرح الصغير: ٤٧٦/ ١ ومابعدها، مغني المحتاج: ٢٦٣/ ١ ومابعدها، المهذب: ١٠٢/ ١، المغني: ٢٥٩/ ٢ - ٢٦١.
ولا يُتم صلاته حتى يدخل أول بيوت البلد الذي يقصده للإقامة فيه.
ولا يزال المسافر على حكم السفر حتى ينوي الإقامة مدة معينة سنذكرها.
الرابع - مقدار الزمان الذي يقصر فيه إذا أقام المسافر في موضع:
يظل للمسافر حق القصر ما لم ينو الإقامة في بلد مدة معينة، وقد اختلف الفقهاء على رأيين في تقدير هذه المدة (١).
فقال الحنفية: يصير المسافر مقيمًا، ويمتنع عليه القصر إذا نوى الإقامة في بلد خمسة عشر يومًا، فصاعدًا، فإن نوى تلك المدة، لزمه الإتمام، وإن نوى أقل من ذلك قصر.
ودليلهم: القياس على مدة الطهر للمرأة؛ لأنهما مدتان موجبتان العودة إلى الأصل، فإن مدة الطهر توجب إعادة ما سقط بالحيض، والإقامة توجب إعادة ما سقط بالسفر، فكما قدر مدة الطهر بخمسة عشر يومًا، فكذلك يقدر أدنى مدة الإقامة. وهذا التقرير مأثور عن ابن عباس وابن عمر، قالا: إذا دخلت بلدة وأنت مسافر، وفي عزمك أن تقيم بها خمسة عشر يومًا، فأكمل الصلاة، وإن كنت لا تدري متى تظعن فاقصر.
وإن كان ينتظر قضاء حاجة معينة، له القصر ولو طال الترقب سنين، فمن دخل بلدًا، ولم ينو أن يقيم فيه خمسة عشر يومًا، وإنما يترقب السفر، ويقول: أخرج غدًا أو بعد غد مثلًا، حتى بقي على ذلك سنين، صلى ركعتين أي قصر؛
(١) فتح القدير مع العناية: ٣٩٧/ ١ ومابعدها، اللباب: ١٠٧/ ١ ومابعدها، بداية المجتهد: ٦٣/ ١ ومابعدها، الشرح الصغير: ٤٨١/ ١، مغني المحتاج: ٢٦٤/ ١ ومابعدها، المهذب: ١٠٣/ ١، كشاف القناع: ٦٠٥/ ١، القوانين الفقهية: ص٨٥، الشرح الكبير: ٣٦٤/ ١.
لأن ابن عمر أقام بأذربيجان ستة أشهر، وكان يقصر، وروي عن جماعة من الصحابة مثل ذلك.
وإذا دخل العسكر أرض الحرب، فنووا الإقامة بها خمسة عشر يومًا، أو حاصروا فيها مدينة أو حصنًا، قصروا، ولم يتموا الصلاة، لعدم صحة النية؛ لأن الداخل قلق غير مستقر، فهو متردد بين أن يَهزِم العدو فيَقر، أو يُهزَم من عدوه فيفر. وهذا موافق لمذهب المالكية أيضًا.
وقال المالكية والشافعية: إذا نوى المسافر إقامة أربعة أيام بموضع، أتم صلاته؛ لأن الله تعالى أباح القصر بشرط الضرب في الأرض، والمقيم والعازم على الإقامة غير ضارب في الأرض، والسنة بينت أن ما دون الأربع لا يقطع السفر، ففي الصحيحين: «يقيم المهاجر بعد قضاء نسكه ثلاثًا» وأقام النبي ﷺ بمكة في عمرته ثلاثًا يقصر (١).
وقدر المالكية المدة المذكورة بعشرين صلاة في مدة الإقامة، فإذا نقصت عن ذلك قصر.
ولم يحسب المالكية والشافعية يومي الدخول والخروج على الصحيح عند الشافعية؛ لأن في الأول حط الأمتعة، وفي الثاني الرحيل، وهما من أشغال السفر.
وقال الحنابلة: إذا نوى أكثر من أربعة أيام أو أكثر من عشرين صلاة، أتم، لحديث جابر وابن عباس أن النبي ﷺ قدم مكة صبيحة رابعة ذي الحجة، فأقام بها
(١) راجع نيل الأوطار: ٢٠٧/ ٣ ومابعدها.
أما حديث الصحيحين فهو أن النبي ﷺ حرم الإقامة بمكة على المهاجرين، ثم رخص لهم أن يقيموا ثلاثة أيام (المجموع: ٢٤٣/ ٤). الرابع والخامس والسادس، وصلى الصبح في اليوم الثامن، ثم خرج إلى منى، وكان يقصر الصلاة في هذه الأيام، وقال أنس: «أقمنا بمكة عشرًا نقصر الصلاة» (١)، قال ابن حجر في الفتح: ولاشك أنه خرج من مكة صبح الرابع عشر، فتكون مدة الإقامة بمكة ونواحيها عشرة أيام بلياليها، كما قال أنس، وتكون مدة إقامته بمكة أربعة أيام، لا سواها، لأنه خرج منها في اليوم الثامن، فصلى بمنى.
ويحسب من المدة عند الحنابلة يوم الدخول والخروج.
فإن كان ينتظر قضاء حاجة يتوقعها كل وقت أو يرجونجاحها أو جهاد عدو أو على أهبة السفر يومًا فيومًا، جاز له القصر عند المالكية والحنابلة، مهما طالت المدة، ما لم ينو الإقامة، كما قرر الحنفية.
وقال الشافعية: له القصر ثمانية عشر يومًا غير يومي الدخول والخروج؛ لأنهصلّى الله عليه وسلم أقامها بمكة عام الفتح لحرب هوازن، يقصر الصلاة (٢).
ثالثًا - شروط القصر:
اشترط الفقهاء لصحة القصر الشروط الآتية (٣):
(١) متفق عليهما (المصدر السابق).
(٢) رواه أبو داود عن عمران بن حصين، والترمذي وحسنه، وإن كان في سنده ضعيف؛ لأن له شواهد تجبره كما قال ابن حجر. ورويت روايات أخرى أصحها أنها تسعة عشر، كما قال البيهقي، وقدمت رواية الثمانية عشر على التسعة عشر مع كونها أصح، لأن الأولى عن عمران سليمة من الاضطراب، والأخرى عن ابن عباس مضطربة، ففيها تسعة عشر، وسبعة عشر.
(٣) تبيين الحقائق: ٢٠٩/ ١ - ٢١٦، القوانين الفقهية: ص٨٤ - ٨٥، الشرح الصغير: ٤٨٦/ ١، مغني المحتاج: ٢٦٦/ ١ - ٢٧١، المهذب: ١٠١/ ١ - ١٠٣، الحضرمية: ص٧٦ ومابعدها، كشاف القناع: ٥٩٣/ ١ - ٦٠٣، مراقي الفلاح: ص٧١.
١ - أن يكون السفر طويلًا مقدرًا بمسيرة مرحلتين أو يومين أو ستة عشر فرسخًا عند الجمهور، أو ثلاث مراحل أو ثلاثة أيام بلياليها عند الحنفية، على الخلاف السابق بيانه.
٢ - أن يكون السفر مباحًا غير محرم أو محظور كالسفر للسرقة أو لقطع الطريق، ونحو ذلك، في رأي الجمهور غير الحنفية. فإن قصر المرء في سفر المعصية لا تنعقد صلاته عند الشافعية والحنابلة؛ لأنه فعل ما يعتقد تحريمه كمن صلى وهو يعتقد أنه محدث، ويصح القصر مع الإثم عند المالكية.
ولا يقصر عند الحنابلة لسفر مكروه، ويقصر عند المالكية والشافعية.
ويرى الحنفية: أنه يجوز القصر في السفر المحرم والمكروه والمباح كما بينا ويقصر لسفر التجارة والتنزه والتفرج، ولزيارة المساجد والآثار، والقبور، وهو الصحيح عند الحنابلة في زيارة القبور.
٣ - مجاوزة العمران من موضع إقامته: كما بينا، وللفقهاء تفريعات في توضيح هذا الشرط.
فقال الحنفية (١): أن يجاوز بيوت البلد التي يقيم فيها من الجهة التي خرج منها، وإن لم يجاوزها من جانب آخر. وأن يجاوز كل البيوت ولو كانت متفرقة متى كان أصلها من البلد، وأن يجاوز ما حول البلد من مساكن، والقرى المتصلة بالبلد. ويشترط أن يجاوز الساحة (الفناء) المتصلة بموضع إقامته: وهو المكان المعد لصالح السكان كركض الدواب ودفن الموتى وإلقاء التراب.
ولا يشترط أن تغيب البيوت عن بصره، ولا مجاوزة البيوت الخربة، ولا
(١) رد المحتار: ٧٣٢/ ١ ومابعدها.
مجاوزة البساتين؛ لأنها لا تعتبر من العمران، وإن اتصلت بالبناء أو سكنها أهل البلدة.
وإذا كان ساكنًا في الأخبية (الخيام) فلا بد من مجاوزتها، وإذا كان مقيمًا على ماء أو محتطب فلا بد من مفارقته، ما لم يكن المحتطب واسعًا جدًا، والنهر بعيد المنبع أو المصب، وإلا فالعبرة بمجاوزة العمران.
وقال المالكية (١): المسافر إما حضري، أو بدوي، أو جبلي.
فالحضري: الساكن في مدينة أو بلد أو قرية ولولا جمعة فيها، لا يقصر إلا إذا جاوز بنيانها والفضاء الذي حولها والبساتين المتصلة بها ولو حكمًا: بأن يرتفق أو ينتفع سكانها بها بنار أو خبز أو طبخ، والمسكونة بأهلها ولو في بعض العام. ولا يشترط مجاوزة المزارع والبساتين المنفصلة، أو غير المسكونة في وقت من العام.
والبدوي: ساكن البادية أو الخيام، لا يقصر إلا إذا جاوز جميع خيام أو بيوت القبيلة أو القبائل المتعاونة فيما بينها، ولو كانت متفرقة، حيث جمعهم اسم الحي والدار (٢)، أو الدار فقط.
والجبلي: ساكن الجبال يقصر إذا جاوز محله أو مكانه.
وساكن القرية التي لا بساتين فيها مسكونة: يقصر إذا جاوز بيوت القرية والأبنية الخرا ب التي في طرفها.
وساكن البساتين: يقصر بمجرد انفصاله عن مسكنه، سواء أكانت تلك البساتين متصلة بالبلد أم منفصله عنها.
(١) الشرح الكبير مع الدسوقي: ٣٥٩/ ١ ومابعدها.
(٢) المراد بالحي: القبيلة، والمراد بالدار: المنزل الذي ينزلون فيه، والحلة والمنزل بمعنى واحد.
وقال الشافعية (١): إن كان للبلد أو القرية سور، فأول السفر مجاوزة السور، وإن كان وراءه عمارة في الأصح.
وإن لم يكن للبلد أو القرية سور: فأول السفر مجاوزة آخر العمران، وإن تخلله نهر أو بستان أو خراب، حتى لا يبقى بيت متصل أو منفصل عن محل الإقامة، ولا يشترط مجاوزة الخراب المهجور الخارج عن العمران؛ لأنه ليس محل إقامة، كما لا يشترط مجاوزة البساتين والمزارع، وإن اتصلت بما سافر منه. ولا بد من مجاوزة المقابر المتصلة بالقرية التي لا سور لها.
وساكن الخيام: يقصر إن جاوز الحِلَّة، أي البيوت التي يجتمع أهلها فيها للسمر، ويستعير بعضهم من بعض، سواء أكانت مجتمعة أم متفرقة، وجاوز أيضًا مرافق الخيام كمطرح الرماد وملعب الصبيان ومرابط الخيل؛ لأنها معدودة من مواضع إقامتهم.
ويعتبر مع مجاوزة المرافق عرض الوادي إن سافر في عرضه، ومجاوزة المهبط إن كان في ربوة (مرتفع)، والمصعد إن كان في وَهْدة (منخفض)، هذا إن اعتدلت الثلاثة (الوادي والمهبط والمصعد)، فإن اتسعت اكتفي بمجاوزة الحلة عرفًا.
وساكن غير الأبنية والخيام يبتدئ سفره بمجاوزة محل رحله ومرافقه. هذا كله في سفر البر، أما السفر في البحر: فيبتدئ من أول تحرك أو جري السفينة أو الزورق، فإن جرت السفينة محاذية للأبنية التي في البلدة فلا بد من مجاوزة تلك الأبنية.
(١) مغني المحتاج: ٢٦٣/ ١ ومابعدها.
وينتهي السفر بوصوله سور وطنه، أو عمرانه إن كان غير مسور.
وقال الحنابلة (١): يقصر المسافر إذا فارق خيام قومه، أو بيوت قريته العامرة، سواء أكانت داخل السور أم خارجه، بما يعد مفارقة عرفًا؛ لأن الله تعالى إنما أباح القصر لمن ضرب في الأرض، وسواء اتصل بها بيوت خربة أو صحراء، فإن اتصل بالبيوت الخربة بيوت عامرة أو بساتين يسكنها أهلها ولو ضيفًا مثلًا وقت النزهة، فلا يقصر إلا بمفارقة الجميع من الخراب والعامر والبساتين المسكونة.
ولو كان للبلد محال، كل محلة منفردة عن الأخرى، كبغداد في الماضي، فمتى خرج من محلته، أبيح له القصر إذا فارق أهله. وإن كان بعضها متصلًا ببعض كاتصال أحياء المدن المعاصرة، لم يقصر حتى يفارقها جميعها.
ولو كانت قريتان متدانيتين (متقاربتين)، واتصل بناء إحداهما بالأخرى، فهما كالواحدة، وإن لم يتصل بناؤهما، فلكل قرية حكم نفسها.
والملاح الذي يسير بسفينته وليس له بيت سوى سفينته، فيها أهله وتنوره وحاجته، لا يباح له الترخص.
٤ - أن يقصد من ابتداء السفر موضعًا معينًا، ويعزم أن يقطع مسافة القصر من غير تردد فلا قصر ولا فطر لهائم: وهو من خرج على وجهه لا يدري أين يتوجه، ولا لمن خرج يطلب آبقًا أو حيوانًا هاربًا، أو غريمًا يرجع متى وجده، ولا لسائح لا يقصد مكانًا معينًا، كما لا قصر لمن طاف الأرض كلها من غير قصد إلى قطع مسافة القصر المطلوبة؛ لأنه لم يقصد قطع المسافة، وكذلك لا يقصر عند الجمهور إذا نوى قطع المسافة ونوى الإقامة أثناءها بما يقطع السفر، كما سنبين.
(١) المغني:٢٦١/ ٢، كشاف القناع: ٥٩٨/ ١.
وقال الحنفية: له أن يقصر حتى يقيم بالفعل، ولا تضر نية الإقامة السابقة، وهذا هو المعقول الأولى بالاتباع.
٥ - الاستقلال بالرأي: فمن كان تابعًا غيره ممن هو مالك أمره كالزوجة مع زوجها، والجندي مع أميره، والخادم مع سيده والطالب مع أستاذه، ولا يعرف كل واحد منهم مقصده، لا يقصر؛ لأن شرط قصد موضع معين لم يتحقق. وهذا الشرط عند الشافعية مقيد بما قبل قطع مسافة القصر، فإن قطعوا مسافة القصر، قصروا، وإن لم يقصر المتبوعون لتيقن طول سفرهم.
وأضاف الشافعية: أن التابع إن نوى الرجوع من سفره متى تخلص من التبعية، كالجندي إذا شطب اسمه، والخادم إذا ترك الخدمة، لا يقصر حتى يقطع مسافة القصر وهي المرحلتان أو اليومان.
أما عند الحنفية فهذا الشرط مطلق، فليس للتابع القصر ما لم ينو متبوعه السفر. ولا يلزم التبع بإتمام الصلاة إلا إن علم بنية المتبوع الإقامة في الأصح، فلو صلى مخالفًا له قبل علمه صحت في الأصح.
٦ - ألا يقتدي من يقصر بمقيم أو بمسافر يتم الصلاة، أو بمشكوك السفر عند الشافعية والحنابلة: فإن فعل ذلك وجب عليه إتمام الصلاة، ولو اقتدى به في التشهد الأخير.
لكن الحنفية لم يجيزوا اقتداء المسافر بالمقيم إلا في الوقت، فيتم صلاته؛ لأن فرضه يتغير من اثنين إلى أربع. أما بعد خروج الوقت فلا يجوز له الاقتداء بالمقيم؛ لأن فرضه استقر في ذمته ركعتين فقط، فلا يتغير فرضه إلى أربع بعد خروج الوقت، فإن خالف واقتدى به بطلت صلاته.
٧ - أن ينوي القصر عند الإحرام بالصلاة: وهذا شرط عند الشافعية والحنابلة؛ لأن الأصل الإتمام، وإطلاق النية ينصرف إليه، فكان لا بد من نية القصر.
واكتفى المالكية باشتراط نية القصر في أول صلاة يقصرها في السفر، ولا يلزم تجديدها فيما بعدها من الصلوات كنية الصيام أول رمضان، فإنها تكفي عن باقي الشهر.
أما الحنفية: فاكتفوا بنية السفر قبل الصلاة، فمتى نوى السفر، كان فرضه القصر ركعتين، فلا ينويه عند الإحرام لكل صلاة.
٨ - البلوغ: شرط عند الحنفية، فلا يقصر الصبي الصلاة في السفر. ولم يشترطه جمهور الفقهاء، فيصح للصبي القصر؛ لأن كل من له قصد صحيح، ونوى سفرًا يبلغ المسافة المقررة يقصر.
٩ - اشترط الشافعية أن يدوم سفره من أول الصلاة إلى آخرها: فإن انتهت به سفينته إلى محل إقامته، أو سارت به منها، أو شك هل نوى الإقامة، أو هل هذه البلدة التي وصلها هي بلده أو لا، وهو في أثناء الصلاة في الجميع، أتم صلاته، لزوال سبب الرخصة، أو الشك في زواله.
خلاصة آراء الفقهاء في شروط القصر:
(١) متفق عليهما (المصدر السابق).
(٢) رواه أبو داود عن عمران بن حصين، والترمذي وحسنه، وإن كان في سنده ضعيف؛ لأن له شواهد تجبره كما قال ابن حجر. ورويت روايات أخرى أصحها أنها تسعة عشر، كما قال البيهقي، وقدمت رواية الثمانية عشر على التسعة عشر مع كونها أصح، لأن الأولى عن عمران سليمة من الاضطراب، والأخرى عن ابن عباس مضطربة، ففيها تسعة عشر، وسبعة عشر.
(٣) تبيين الحقائق: ٢٠٩/ ١ - ٢١٦، القوانين الفقهية: ص٨٤ - ٨٥، الشرح الصغير: ٤٨٦/ ١، مغني المحتاج: ٢٦٦/ ١ - ٢٧١، المهذب: ١٠١/ ١ - ١٠٣، الحضرمية: ص٧٦ ومابعدها، كشاف القناع: ٥٩٣/ ١ - ٦٠٣، مراقي الفلاح: ص٧١.
١ - أن يكون السفر طويلًا مقدرًا بمسيرة مرحلتين أو يومين أو ستة عشر فرسخًا عند الجمهور، أو ثلاث مراحل أو ثلاثة أيام بلياليها عند الحنفية، على الخلاف السابق بيانه.
٢ - أن يكون السفر مباحًا غير محرم أو محظور كالسفر للسرقة أو لقطع الطريق، ونحو ذلك، في رأي الجمهور غير الحنفية. فإن قصر المرء في سفر المعصية لا تنعقد صلاته عند الشافعية والحنابلة؛ لأنه فعل ما يعتقد تحريمه كمن صلى وهو يعتقد أنه محدث، ويصح القصر مع الإثم عند المالكية.
ولا يقصر عند الحنابلة لسفر مكروه، ويقصر عند المالكية والشافعية.
ويرى الحنفية: أنه يجوز القصر في السفر المحرم والمكروه والمباح كما بينا ويقصر لسفر التجارة والتنزه والتفرج، ولزيارة المساجد والآثار، والقبور، وهو الصحيح عند الحنابلة في زيارة القبور.
٣ - مجاوزة العمران من موضع إقامته: كما بينا، وللفقهاء تفريعات في توضيح هذا الشرط.
فقال الحنفية (١): أن يجاوز بيوت البلد التي يقيم فيها من الجهة التي خرج منها، وإن لم يجاوزها من جانب آخر. وأن يجاوز كل البيوت ولو كانت متفرقة متى كان أصلها من البلد، وأن يجاوز ما حول البلد من مساكن، والقرى المتصلة بالبلد. ويشترط أن يجاوز الساحة (الفناء) المتصلة بموضع إقامته: وهو المكان المعد لصالح السكان كركض الدواب ودفن الموتى وإلقاء التراب.
ولا يشترط أن تغيب البيوت عن بصره، ولا مجاوزة البيوت الخربة، ولا
(١) رد المحتار: ٧٣٢/ ١ ومابعدها.
مجاوزة البساتين؛ لأنها لا تعتبر من العمران، وإن اتصلت بالبناء أو سكنها أهل البلدة.
وإذا كان ساكنًا في الأخبية (الخيام) فلا بد من مجاوزتها، وإذا كان مقيمًا على ماء أو محتطب فلا بد من مفارقته، ما لم يكن المحتطب واسعًا جدًا، والنهر بعيد المنبع أو المصب، وإلا فالعبرة بمجاوزة العمران.
وقال المالكية (١): المسافر إما حضري، أو بدوي، أو جبلي.
فالحضري: الساكن في مدينة أو بلد أو قرية ولولا جمعة فيها، لا يقصر إلا إذا جاوز بنيانها والفضاء الذي حولها والبساتين المتصلة بها ولو حكمًا: بأن يرتفق أو ينتفع سكانها بها بنار أو خبز أو طبخ، والمسكونة بأهلها ولو في بعض العام. ولا يشترط مجاوزة المزارع والبساتين المنفصلة، أو غير المسكونة في وقت من العام.
والبدوي: ساكن البادية أو الخيام، لا يقصر إلا إذا جاوز جميع خيام أو بيوت القبيلة أو القبائل المتعاونة فيما بينها، ولو كانت متفرقة، حيث جمعهم اسم الحي والدار (٢)، أو الدار فقط.
والجبلي: ساكن الجبال يقصر إذا جاوز محله أو مكانه.
وساكن القرية التي لا بساتين فيها مسكونة: يقصر إذا جاوز بيوت القرية والأبنية الخرا ب التي في طرفها.
وساكن البساتين: يقصر بمجرد انفصاله عن مسكنه، سواء أكانت تلك البساتين متصلة بالبلد أم منفصله عنها.
(١) الشرح الكبير مع الدسوقي: ٣٥٩/ ١ ومابعدها.
(٢) المراد بالحي: القبيلة، والمراد بالدار: المنزل الذي ينزلون فيه، والحلة والمنزل بمعنى واحد.
وقال الشافعية (١): إن كان للبلد أو القرية سور، فأول السفر مجاوزة السور، وإن كان وراءه عمارة في الأصح.
وإن لم يكن للبلد أو القرية سور: فأول السفر مجاوزة آخر العمران، وإن تخلله نهر أو بستان أو خراب، حتى لا يبقى بيت متصل أو منفصل عن محل الإقامة، ولا يشترط مجاوزة الخراب المهجور الخارج عن العمران؛ لأنه ليس محل إقامة، كما لا يشترط مجاوزة البساتين والمزارع، وإن اتصلت بما سافر منه. ولا بد من مجاوزة المقابر المتصلة بالقرية التي لا سور لها.
وساكن الخيام: يقصر إن جاوز الحِلَّة، أي البيوت التي يجتمع أهلها فيها للسمر، ويستعير بعضهم من بعض، سواء أكانت مجتمعة أم متفرقة، وجاوز أيضًا مرافق الخيام كمطرح الرماد وملعب الصبيان ومرابط الخيل؛ لأنها معدودة من مواضع إقامتهم.
ويعتبر مع مجاوزة المرافق عرض الوادي إن سافر في عرضه، ومجاوزة المهبط إن كان في ربوة (مرتفع)، والمصعد إن كان في وَهْدة (منخفض)، هذا إن اعتدلت الثلاثة (الوادي والمهبط والمصعد)، فإن اتسعت اكتفي بمجاوزة الحلة عرفًا.
وساكن غير الأبنية والخيام يبتدئ سفره بمجاوزة محل رحله ومرافقه. هذا كله في سفر البر، أما السفر في البحر: فيبتدئ من أول تحرك أو جري السفينة أو الزورق، فإن جرت السفينة محاذية للأبنية التي في البلدة فلا بد من مجاوزة تلك الأبنية.
(١) مغني المحتاج: ٢٦٣/ ١ ومابعدها.
وينتهي السفر بوصوله سور وطنه، أو عمرانه إن كان غير مسور.
وقال الحنابلة (١): يقصر المسافر إذا فارق خيام قومه، أو بيوت قريته العامرة، سواء أكانت داخل السور أم خارجه، بما يعد مفارقة عرفًا؛ لأن الله تعالى إنما أباح القصر لمن ضرب في الأرض، وسواء اتصل بها بيوت خربة أو صحراء، فإن اتصل بالبيوت الخربة بيوت عامرة أو بساتين يسكنها أهلها ولو ضيفًا مثلًا وقت النزهة، فلا يقصر إلا بمفارقة الجميع من الخراب والعامر والبساتين المسكونة.
ولو كان للبلد محال، كل محلة منفردة عن الأخرى، كبغداد في الماضي، فمتى خرج من محلته، أبيح له القصر إذا فارق أهله. وإن كان بعضها متصلًا ببعض كاتصال أحياء المدن المعاصرة، لم يقصر حتى يفارقها جميعها.
ولو كانت قريتان متدانيتين (متقاربتين)، واتصل بناء إحداهما بالأخرى، فهما كالواحدة، وإن لم يتصل بناؤهما، فلكل قرية حكم نفسها.
والملاح الذي يسير بسفينته وليس له بيت سوى سفينته، فيها أهله وتنوره وحاجته، لا يباح له الترخص.
٤ - أن يقصد من ابتداء السفر موضعًا معينًا، ويعزم أن يقطع مسافة القصر من غير تردد فلا قصر ولا فطر لهائم: وهو من خرج على وجهه لا يدري أين يتوجه، ولا لمن خرج يطلب آبقًا أو حيوانًا هاربًا، أو غريمًا يرجع متى وجده، ولا لسائح لا يقصد مكانًا معينًا، كما لا قصر لمن طاف الأرض كلها من غير قصد إلى قطع مسافة القصر المطلوبة؛ لأنه لم يقصد قطع المسافة، وكذلك لا يقصر عند الجمهور إذا نوى قطع المسافة ونوى الإقامة أثناءها بما يقطع السفر، كما سنبين.
(١) المغني:٢٦١/ ٢، كشاف القناع: ٥٩٨/ ١.
وقال الحنفية: له أن يقصر حتى يقيم بالفعل، ولا تضر نية الإقامة السابقة، وهذا هو المعقول الأولى بالاتباع.
٥ - الاستقلال بالرأي: فمن كان تابعًا غيره ممن هو مالك أمره كالزوجة مع زوجها، والجندي مع أميره، والخادم مع سيده والطالب مع أستاذه، ولا يعرف كل واحد منهم مقصده، لا يقصر؛ لأن شرط قصد موضع معين لم يتحقق. وهذا الشرط عند الشافعية مقيد بما قبل قطع مسافة القصر، فإن قطعوا مسافة القصر، قصروا، وإن لم يقصر المتبوعون لتيقن طول سفرهم.
وأضاف الشافعية: أن التابع إن نوى الرجوع من سفره متى تخلص من التبعية، كالجندي إذا شطب اسمه، والخادم إذا ترك الخدمة، لا يقصر حتى يقطع مسافة القصر وهي المرحلتان أو اليومان.
أما عند الحنفية فهذا الشرط مطلق، فليس للتابع القصر ما لم ينو متبوعه السفر. ولا يلزم التبع بإتمام الصلاة إلا إن علم بنية المتبوع الإقامة في الأصح، فلو صلى مخالفًا له قبل علمه صحت في الأصح.
٦ - ألا يقتدي من يقصر بمقيم أو بمسافر يتم الصلاة، أو بمشكوك السفر عند الشافعية والحنابلة: فإن فعل ذلك وجب عليه إتمام الصلاة، ولو اقتدى به في التشهد الأخير.
لكن الحنفية لم يجيزوا اقتداء المسافر بالمقيم إلا في الوقت، فيتم صلاته؛ لأن فرضه يتغير من اثنين إلى أربع. أما بعد خروج الوقت فلا يجوز له الاقتداء بالمقيم؛ لأن فرضه استقر في ذمته ركعتين فقط، فلا يتغير فرضه إلى أربع بعد خروج الوقت، فإن خالف واقتدى به بطلت صلاته.
٧ - أن ينوي القصر عند الإحرام بالصلاة: وهذا شرط عند الشافعية والحنابلة؛ لأن الأصل الإتمام، وإطلاق النية ينصرف إليه، فكان لا بد من نية القصر.
واكتفى المالكية باشتراط نية القصر في أول صلاة يقصرها في السفر، ولا يلزم تجديدها فيما بعدها من الصلوات كنية الصيام أول رمضان، فإنها تكفي عن باقي الشهر.
أما الحنفية: فاكتفوا بنية السفر قبل الصلاة، فمتى نوى السفر، كان فرضه القصر ركعتين، فلا ينويه عند الإحرام لكل صلاة.
٨ - البلوغ: شرط عند الحنفية، فلا يقصر الصبي الصلاة في السفر. ولم يشترطه جمهور الفقهاء، فيصح للصبي القصر؛ لأن كل من له قصد صحيح، ونوى سفرًا يبلغ المسافة المقررة يقصر.
٩ - اشترط الشافعية أن يدوم سفره من أول الصلاة إلى آخرها: فإن انتهت به سفينته إلى محل إقامته، أو سارت به منها، أو شك هل نوى الإقامة، أو هل هذه البلدة التي وصلها هي بلده أو لا، وهو في أثناء الصلاة في الجميع، أتم صلاته، لزوال سبب الرخصة، أو الشك في زواله.
خلاصة آراء الفقهاء في شروط القصر:
مذهب الحنفية:
يقصر من نوى السفر، وقصد موضعًا معينًا، ولو عاصيًا بسفره، متى جاوز بيوت محل
إقامته، وجاوز ما اتصل به من فناء البلد، والفناء: المكان المعد لمصالح البلد،
كركض الدواب ودفن الموتى. كما يشترط أن يجاوز ربض البلد: وهو ماحول المدينة من
بيوت ومساكن، فإنه في حكم المصر، وكذا يشترط في الصحيح مجاوزة القرى المتصلة بربض
البلد.
ويشترط لصحة نية السفر ثلاثة أمور:
الاستقلال بالحكم على الأوضاع من إقامة وسفر، والبلوغ، وعدم نقصان السفر عن ثلاثة أيام.
مذهب المالكية: شروط القصر ستة:
طول السفر وهي ثمانية وأربعون ميلًا على المشهور، وأن يعزم من أول سفره على قطع المسافة من غير تردد، وأن يقصد جهة معينة، وأن يكون السفر مباحًا، وأن يجاوز البلد وما يتصل به من الأبنية والبساتين المعمورة، وألا يعزم في خلال سفره على إقامة أربعة أيام بلياليها.
مذهب الشافعية: شروط القصر ثمانية:
أن يكون السفر طويلًا وهو ثمانية وأربعون ميلًا هاشمية (١)، أو مرحلتان وهما سير يومين بلا ليلة معتدلين، أو ليلتين بلا يوم معتدلتين، أو يوم وليلة معتدلين، بسير الأثقال، والبحر كالبر؛ وقصد موضع معين أول سفره ليعلم أنه طويل، فيقصر أو لا؛ وأن يكون السفر مباحًا فلا قصر لعاص بسفره، ولا لناشزة من زوجها؛ والعلم بجواز القصر، فلو قصر جاهلًا به لم تصح صلاته لتلاعبه؛ وأن ينوي القصر في الإحرام للصلاة؛ وأن يتحرز عما ينافي نية القصر في أثناء دوام الصلاة، كنية الإتمام، فلو نواه بعد نية القصر أتم؛ وألا يقتدي ولو لحظة بمتم ولا بمشكوك السفر ولا بإمام محدث، فإن اقتدى به في أي جزء من صلاته، لزمه الإتمام، لخبر الإمام أحمد بإسناد صحيح عن ابن عباس: «سئل: ما بال المسافر يصلي ركعتين إذا انفرد، وأربعًا إذا ائتم بمقيم؟ فقال: تلك السنة».
(١) الهاشمية: هي المنسوبة لبني أمية.
ويشترط أخيرًا كونه مسافرًا في جميع صلاته، فلو نوى الإقامة فيها، أو بلغت سفينته دار إقامته، أتم.
مذهب الحنابلة: شروط القصر ثمانية:
إذا كان السفر طويلًا وهو ثمانية وأربعون ميلًا هاشمية، وواجبًا أو مباحًا؛ وأن يجاوز بيوت قريته، ويجعلها وراء ظهره بما يعد مفارقة عرفًا، وأن ينوي سفرًا يبلغ تلك المسافة، والمعتبر نية المسافر سفر المسافة، لا حقيقتها، فمن نوى ذلك قصر، ولو رجع قبل استكمال المسافة؛ وأن يقصد موضعًا معينًا في ابتداء السفر؛ وأن ينوي القصر عند أول الصلاة؛ وألا يقتدي بمقيم ولا بمشكوك في سفره ولا بمن تلزمه إعادة الصلاة كمن يقتدي بمقيم يحدث في أثناء الصلاة، فيلزمه إعادتها تامة؛ لأنها وجبت عليه تامة في الابتداء، فلا يجوز أن تعاد مقصورة؛ وكونه مسافرًا في جميع الصلاة، كما قال الشافعية.
ويرى ابن تيمية في مقدار السفر عدم تحديده بمسافة معينة، فكل ما يسمى سفرًا عن الأماكن في عادات الناس يجوز فيه القصر، وليس للسفر حد مقدر في الشرع ولا في اللغة، بل ما سموه سفرًا فهو سفر (١).
رابعًا ـ اقتداء المسافر بالمقيم وعلى العكس:
ويشترط لصحة نية السفر ثلاثة أمور:
الاستقلال بالحكم على الأوضاع من إقامة وسفر، والبلوغ، وعدم نقصان السفر عن ثلاثة أيام.
مذهب المالكية: شروط القصر ستة:
طول السفر وهي ثمانية وأربعون ميلًا على المشهور، وأن يعزم من أول سفره على قطع المسافة من غير تردد، وأن يقصد جهة معينة، وأن يكون السفر مباحًا، وأن يجاوز البلد وما يتصل به من الأبنية والبساتين المعمورة، وألا يعزم في خلال سفره على إقامة أربعة أيام بلياليها.
مذهب الشافعية: شروط القصر ثمانية:
أن يكون السفر طويلًا وهو ثمانية وأربعون ميلًا هاشمية (١)، أو مرحلتان وهما سير يومين بلا ليلة معتدلين، أو ليلتين بلا يوم معتدلتين، أو يوم وليلة معتدلين، بسير الأثقال، والبحر كالبر؛ وقصد موضع معين أول سفره ليعلم أنه طويل، فيقصر أو لا؛ وأن يكون السفر مباحًا فلا قصر لعاص بسفره، ولا لناشزة من زوجها؛ والعلم بجواز القصر، فلو قصر جاهلًا به لم تصح صلاته لتلاعبه؛ وأن ينوي القصر في الإحرام للصلاة؛ وأن يتحرز عما ينافي نية القصر في أثناء دوام الصلاة، كنية الإتمام، فلو نواه بعد نية القصر أتم؛ وألا يقتدي ولو لحظة بمتم ولا بمشكوك السفر ولا بإمام محدث، فإن اقتدى به في أي جزء من صلاته، لزمه الإتمام، لخبر الإمام أحمد بإسناد صحيح عن ابن عباس: «سئل: ما بال المسافر يصلي ركعتين إذا انفرد، وأربعًا إذا ائتم بمقيم؟ فقال: تلك السنة».
(١) الهاشمية: هي المنسوبة لبني أمية.
ويشترط أخيرًا كونه مسافرًا في جميع صلاته، فلو نوى الإقامة فيها، أو بلغت سفينته دار إقامته، أتم.
مذهب الحنابلة: شروط القصر ثمانية:
إذا كان السفر طويلًا وهو ثمانية وأربعون ميلًا هاشمية، وواجبًا أو مباحًا؛ وأن يجاوز بيوت قريته، ويجعلها وراء ظهره بما يعد مفارقة عرفًا، وأن ينوي سفرًا يبلغ تلك المسافة، والمعتبر نية المسافر سفر المسافة، لا حقيقتها، فمن نوى ذلك قصر، ولو رجع قبل استكمال المسافة؛ وأن يقصد موضعًا معينًا في ابتداء السفر؛ وأن ينوي القصر عند أول الصلاة؛ وألا يقتدي بمقيم ولا بمشكوك في سفره ولا بمن تلزمه إعادة الصلاة كمن يقتدي بمقيم يحدث في أثناء الصلاة، فيلزمه إعادتها تامة؛ لأنها وجبت عليه تامة في الابتداء، فلا يجوز أن تعاد مقصورة؛ وكونه مسافرًا في جميع الصلاة، كما قال الشافعية.
ويرى ابن تيمية في مقدار السفر عدم تحديده بمسافة معينة، فكل ما يسمى سفرًا عن الأماكن في عادات الناس يجوز فيه القصر، وليس للسفر حد مقدر في الشرع ولا في اللغة، بل ما سموه سفرًا فهو سفر (١).
رابعًا ـ اقتداء المسافر بالمقيم وعلى العكس:
اقتداء المسافر بالمقيم:
اتفق الفقهاء (٢) على أنه
يجوز اقتداء المسافر بالمقيم، مع الكراهة عند المالكية، لمخالفة المسافر سنته من
القصر، وعلى أنه إذا اقتدى
(١) فتاوى ابن تيمية ١٢/ ٢٤ - ١٨، ١٣٥.
(٢) الكتاب مع اللباب: ١٠٩/ ١، مراقي الفلاح: ص٧٢، الدر المختار: ٧٤٠/ ١ ومابعدها، فتح القدير: ٣٩٩/ ١، الشرح الصغير: ٤٨٢/ ١، القوانين الفقهية: ص ٨٤، المهذب:١٠٣/ ١، مغني المحتاج: ٢٦٩/ ١، كشاف القناع: ٦٠٢/ ١، المغني: ٢٨٤/ ٢، المجموع:٢٣٦/ ٤ - ٢٤٢.
المسافر بالمقيم، يجب عليه إتمام الصلاة أربعًا، متابعة للإمام، ويتغير فرضه عند الحنفية إلى الأربع، كما يتغير بنية الإقامة.
واشترط الحنفية لجواز الاقتداء بقاء الوقت، ولو قدر ما يسع التحريمة، أما عند خروج الوقت فلا يصح اقتداء المسافر بالمقيم؛ لأن فرضه لا يتغير بعد الوقت، لانقضاء السبب، كما لا يتغير عندهم بنية الإقامة.
والدليل على وجوب الإتمام من السنة: هو ما ذكرناه عن ابن عباس أنه قيل له: «ما بال المسافر يصلي ركعتين في حال الانفراد، وأربعًا إذا ائتم بمقيم؟ فقال: تلك السنة» (١)، وقال نافع: «كان ابن عمر إذا صلى مع الإمام، صلاها أربعًا، وإذا صلى وحده صلاها ركعتين» (٢)، وقال النبي ﷺ: «إنما جعل الإمام ليؤتم به، فلا تختلفوا عليه».
وأضاف الشافعية والحنابلة: أنه لو رَعَف الإمام المسافر، واستخلف غيره، أتم المقتدون دون الإمام.
اقتداء المقيم بالمسافر:
(١) فتاوى ابن تيمية ١٢/ ٢٤ - ١٨، ١٣٥.
(٢) الكتاب مع اللباب: ١٠٩/ ١، مراقي الفلاح: ص٧٢، الدر المختار: ٧٤٠/ ١ ومابعدها، فتح القدير: ٣٩٩/ ١، الشرح الصغير: ٤٨٢/ ١، القوانين الفقهية: ص ٨٤، المهذب:١٠٣/ ١، مغني المحتاج: ٢٦٩/ ١، كشاف القناع: ٦٠٢/ ١، المغني: ٢٨٤/ ٢، المجموع:٢٣٦/ ٤ - ٢٤٢.
المسافر بالمقيم، يجب عليه إتمام الصلاة أربعًا، متابعة للإمام، ويتغير فرضه عند الحنفية إلى الأربع، كما يتغير بنية الإقامة.
واشترط الحنفية لجواز الاقتداء بقاء الوقت، ولو قدر ما يسع التحريمة، أما عند خروج الوقت فلا يصح اقتداء المسافر بالمقيم؛ لأن فرضه لا يتغير بعد الوقت، لانقضاء السبب، كما لا يتغير عندهم بنية الإقامة.
والدليل على وجوب الإتمام من السنة: هو ما ذكرناه عن ابن عباس أنه قيل له: «ما بال المسافر يصلي ركعتين في حال الانفراد، وأربعًا إذا ائتم بمقيم؟ فقال: تلك السنة» (١)، وقال نافع: «كان ابن عمر إذا صلى مع الإمام، صلاها أربعًا، وإذا صلى وحده صلاها ركعتين» (٢)، وقال النبي ﷺ: «إنما جعل الإمام ليؤتم به، فلا تختلفوا عليه».
وأضاف الشافعية والحنابلة: أنه لو رَعَف الإمام المسافر، واستخلف غيره، أتم المقتدون دون الإمام.
اقتداء المقيم بالمسافر:
اتفق الفقهاء (٣) أيضًا على
أنه يجوز اقتداء المقيم بالمسافر، مع الكراهة عند المالكية، لمخالفة نية إمامه،
فإذا صلى المسافر بالمقيمين ركعتين سلم، ثم أتم المقيمون صلاتهم. ويستحب للمسافر
الإمام أن يقول عقب التسليمتين: أتموا صلاتكم، فإني مسافر، لدفع توهم أنه سها،
ولئلا يشتبه على الجاهل عدد ركعات الصلاة، فيظن أن الرباعية ركعتان.
(١) رواه أحمد في المسند. وقوله «السنة» ينصرف إلى سنة رسول الله ﷺ.
(٢) رواه مسلم.
(٣) المراجع السابقة، الكتاب، مراقي، الدر، فتح القدير: ص٤٠١، القوانين، الشرح الصغير: ص٤٨٢، ٤٨٤، المغني: ص٢٨٦.
وذكر الحنفية أنه ينبغي أن يقول ذلك قبل شروعه في الصلاة، وإلا فبعد سلامه.
ودليل الجواز: ما رواه عمران بن حصين قال: «ما سافر رسول الله ﷺ سَفَرًا إلا صلى ركعتين، حتى يرجع، وإنه أقام بمكة زمن الفتح ثمان عشرة ليلة، يصلي بالناس ركعتين ركعتين، إلا المغرب، ثم يقول: يا أهل مكة، قوموا فصلوا ركعتين أخريين، فإنا قوم سَفْر» (١).
وإذا قام الإمام للإتمام سهوًا أو جهلًا بعد نية القصر، سبّح له المأموم، بأن يقول: سبحان الله، فإن رجع سجد لسهوه، وإن لم يرجع فلا يتبعه، بل يجلس حتى يسلم إمامه.
خامسًا - ما يمنع القصر:
(١) رواه أحمد في المسند. وقوله «السنة» ينصرف إلى سنة رسول الله ﷺ.
(٢) رواه مسلم.
(٣) المراجع السابقة، الكتاب، مراقي، الدر، فتح القدير: ص٤٠١، القوانين، الشرح الصغير: ص٤٨٢، ٤٨٤، المغني: ص٢٨٦.
وذكر الحنفية أنه ينبغي أن يقول ذلك قبل شروعه في الصلاة، وإلا فبعد سلامه.
ودليل الجواز: ما رواه عمران بن حصين قال: «ما سافر رسول الله ﷺ سَفَرًا إلا صلى ركعتين، حتى يرجع، وإنه أقام بمكة زمن الفتح ثمان عشرة ليلة، يصلي بالناس ركعتين ركعتين، إلا المغرب، ثم يقول: يا أهل مكة، قوموا فصلوا ركعتين أخريين، فإنا قوم سَفْر» (١).
وإذا قام الإمام للإتمام سهوًا أو جهلًا بعد نية القصر، سبّح له المأموم، بأن يقول: سبحان الله، فإن رجع سجد لسهوه، وإن لم يرجع فلا يتبعه، بل يجلس حتى يسلم إمامه.
خامسًا - ما يمنع القصر:
ينتهي سفر المسافر، ويمتنع القصر، ويجب الإتمام بنية الإقامة في موضع أثناء
سفره مدة معينة بيناها (٥١ يومًا عند الحنفية، و٤ أيام عند المالكية والشافعية،
وأكثر من ٤ أيام عند الحنابلة)، وبالرجوع فعلًا إلى محل إقامته المعتادة، وبغيرها
من حالات أخرى مقررة في المذاهب.
١ - أن ينوي المسافر الإقامة مدة معينة:
لما روي عن أبي هريرة أنه «صلى مع النبي ﷺ إلى مكة في المسير والمُقام بمكة إلى أن رجعوا ركعتين» (٢) وبما أنه لم يحدد النص مدة الإقامة
١ - أن ينوي المسافر الإقامة مدة معينة:
لما روي عن أبي هريرة أنه «صلى مع النبي ﷺ إلى مكة في المسير والمُقام بمكة إلى أن رجعوا ركعتين» (٢) وبما أنه لم يحدد النص مدة الإقامة
فقد اختلف الفقهاء في تقدير المدة:
(١) رواه أحمد وأبو داود، والترمذي وحسنه، والبيهقي، وفي إسناده ضعيف، وإنما حسن الترمذي حديثه لشواهده، كما قال الحافظ ابن حجر. وروى مالك في الموطأ مثله عن عمر، ورجال إسناده أئمة ثقات (نيل الأوطار: ١٦٦/ ٣).
(٢) رواه أبو داود الطيالسي في مسنده (نيل الأوطار: ٢٠٧/ ٣).
فقال الحنفية (١):
يمتنع القصر بنية الإقامة ولو في الصلاة ما لم يخرج وقتها ولم يكن لاحقًا مدة نصف ظهر (١٥ يومًا) كاملة فأكثر، فإن نوى الإقامة أقل من هذه المدة ولو بساعة، أو نواها بعد أن خرج الوقت وهو فيها، أو كان لاحقًا مدركًا الإمام أول الصلاة، والإمام مسافر، فأحدث أو نام، فانتبه بعد فراغ الإمام، ونوى الإقامة، لم يتم الصلاة، وإنما يقصرها ولو بقي سنين مسافرًا؛ لأن الإقامة لا تتحقق بأقل من نصف الشهر، ولأن الواجب بعد خروج الوقت استقر في الذمة كما هو في الوقت، ولأن اللاحق في الحكم كأنه خلف الإمام.
ولا تمنع نية الإقامة القصر إلا بشروط أربعة:
الأول - أن يترك السير بالفعل: فلو نوى الإقامة وهو ما يزال مسافرًا يسيرًا، لايكون مقيمًا، ويجب عليه القصر.
الثاني - أن يكون موضع الإقامة صالحًا لها كمدينة أو قرية لكل الناس، أو برية لأهل الخيام، فلو نوى الإقامة في موضع غير صالح كبحر أو جزيرة مهجورة أو صحراء خالية من الناس، قصر.
الثالث - أن يكون الموضع واحدًا غير متعدد: فلو نوى الإقامة خمسة عشر يومًا ببلدتين مستقلتين كمكة ومنى، لم تصح نيته ويقصر؛ إذ لا بد من نية الإقامة تلك المدة في موضع واحد.
الرابع - أن يكون ناوي الإقامة مستقلًا بالرأي: أما لو كان تابعًا لغيره كالمرأة والخادم وإن نوى الإقامة، فيقصر ولا يتم، إلا إن علم نية متبوعه الإقامة في الأصح، فيتم الصلاة مثله، كما سبق.
(١) الدر المختار ورد المحتار: ٧٣٦/ ١ - ٧٣٨، الكتاب مع اللباب: ١٠٧/ ١ - ١٠٨.
ومن ترقب السفر غدًا أو بعده، أو انتظر قادمًا أو قافلة مثلًا ما لم يعلم تأخرها نصف شهر، أو كان مع العسكر الذين نووا الإقامة في دار الحرب، أو حاصر حصنًا في دار الحرب، قصر الصلاة، ولم يتمها، كما بينا سابقًا.
وقال المالكية (١):
يمتنع القصر بنية الإقامة أربعة أيام صحاح غير يومي الدخول والخروج، تستلزم عشرين صلاة، وإلا فلا، أو العلم بإقامة الأربعة الأيام عادة في محل ما، بأن كانت عادةالقافلة أن تقيم في ذلك المحل أربعة أيام، فإنه يتم. فإن لم تجب عليه العشرون صلاة، كأن دخل بلدًا قبل فجر السبت مثلًا، ونوى الإقامة إلى غروب يوم الثلاثاء، وخرج قبل العشاء، قصر، ولم ينقطع حكم سفره؛ لأنه وإن كانت الأربعة الأيام صحاحًا، إلا أنه لم يجب عليه عشرون صلاة.
وإن لم يقم أربعة أيام كأن دخل بلدًا قبل العصر، ولم يكن صلى الظهر، ونوى الارتحال بعد صبح اليوم الخامس، لم ينقطع حكم سفره؛ لأنه وإن وجب عليه عشرون صلاة، إلا أنه لم يقم إلا ثلاثة أيام صحاح.
فلا بد من الأمرين أو الشرطين معًا: إقامة أربعة أيام صحاح، ووجوب عشرين صلاة.
ومن أقام لحاجة متى قضيت سافر، فلا ينقطع القصر، ولو طالت المدة، إلا إذا علم أنها لا تقضى حاجته إلا بعد الأربعة الأيام. ومثله من لم ينو الإقامة وأقام مدة طويلة، له أن يقصر.
ومن نوى الإقامة وهو في الصلاة، قطع الصلاة، وندب أن يشفع إن صلى
(١) الشرح الكبير: ٣٦٤/ ١، الشرح الصغير: ٣٦٤/ ١، القوانين الفقهية: ص ٨٥.
ركعة بسجدتيها، ولا تجزئ صلاة تامة إن أتمها، ولا مقصورة إن قصرها. وإن نوى الإقامة بعد الفراغ من الصلاة، أعادها بوقت اختياري أي وقتها المعتاد.
ولا يشترط في محل الإقامة: أن يكون صالحًا للإقامة فيه. ويستثنى من نية الإقامة حالة العسكر في دار الحرب الذي ينوي إقامة أربعة أيام فأكثر، فلا ينقطع حكم سفره، ويقصر.
وقال الشافعية (١):
يمتنع القصر إذا نوى المسافر إقامة أربعة أيام تامة بلياليها، أو نوى الإقامة مطلقًا، غير يومي الدخول والخروج، على الصحيح، بموضع صالح للإقامة أو غير صالح كصحراء على الأصح، فإن نوى أقل من أربعة أيام، قصر. وإن كانت له حاجة وجزم بأنها لا تقضى في أربعة أيام، أتم ولم يقصر، سواء نوى الإقامة أم لا.
أما إن أقام ببلد بنية أن يرحل إذا تحققت حاجة يتوقعها كل وقت، فله القصر إلى ثمانية عشر يومًا، كما ذكرت.
وقال الحنابلة (٢):
يمتنع القصر لو نوى المسافر إقامة مطلقة بأن لم يحدها بزمن معين، ولو في مكان غير صالح للإقامة كبادية ودار حرب، أو نوى إقامة أكثر من عشرين صلاة، أو أكثر من أربعة أيام مع يومي الدخول والخروج، وأتم صلاته.
لكن إن أقام لحاجة يتوقع قضاءها، فله القصر، ولو استمر سنين، وهذا هو رأي الجمهور، وقصره الشافعية على ثمانية عشر يومًا كما بينا.
(١) مغني المحتاج: ٢٦٤/ ١ ومابعدها.
(٢) كشاف القناع: ٦٠٥/ ١.
٢ - العودة إلى محل الإقامة الدائمة، أو نية العودة:
سأبحث هذه الحالة في ضوء المصطلحات الحديثة للإقامة والوطن بالاعتماد على اصطلاح الفقهاء في الماضي، والاصطلاحات الحديثة هي ما يلي:
أـ الوطن: هو إقليم الدولة التي ينتمي إليها ويحمل جنسيتها بحسب التقسيم الإقليمي للدول المعاصرة. وهذا المفهوم لا صلة له ببحثنا.
ب - محل الإقامة الدائمة: هو محل العمل الذي يسكن فيه، أو محل المعيشة.
جـ - محل الميلاد: هو البلد الذي ولد ونشأ فيه، وفيه أهله وعشيرته، ويشمل هذين الاثنين عند الحنفية: الوطن الأصلي إذ هو موطن الولادة، أو التزوج، أو التوطن.
د - محل الإقامة المؤقتة: هو المكان الذي يقيم فيه لفترة زمنية مؤقتة أو لمهمة قد تطول وقد تقصر، ويقابله عند الحنفية «وطن الإقامة» إذا كانت نصف شهر فأكثر، ووطن السكنى إذا أقام دون نصف شهر.
هـ - بلد الزوجة: هو البلد الذي له فيه زوجة إما الزوجة الوحيدة أو الثانية ويدخل تحت مفهوم الوطن الأصلي.
وبحثنا يتردد بين هذه المصطلحات الأربعة الأخيرة.
قال الحنفية (١):
الوطن ثلاثة أنواع:
(١) اللباب: ١٠٩/ ١، مراقي الفلاح: ص ٧٣، الدر المختار ورد المحتار: ٧٣٦/ ١، ٧٤٢ ومابعدها، فتح القدير: ٤٠٣/ ١ ومابعدها.
الوطن الأصلي: هو الذي ولد فيه أو تزوج، أو لم يتزوج وقصد التعيش فيه، لا الارتحال عنه.
ووطن الإقامة: موضع نوى الإقامة فيه نصف شهر فما فوقه.
ووطن السكنى: هو ما ينوي الإقامة فيه دون نصف شهر، وهذا لم يعتبره المحققون في حالة تغيير الموطن.
متى يتم المسافر الصلاة عادة؟
(١) رواه أحمد وأبو داود، والترمذي وحسنه، والبيهقي، وفي إسناده ضعيف، وإنما حسن الترمذي حديثه لشواهده، كما قال الحافظ ابن حجر. وروى مالك في الموطأ مثله عن عمر، ورجال إسناده أئمة ثقات (نيل الأوطار: ١٦٦/ ٣).
(٢) رواه أبو داود الطيالسي في مسنده (نيل الأوطار: ٢٠٧/ ٣).
فقال الحنفية (١):
يمتنع القصر بنية الإقامة ولو في الصلاة ما لم يخرج وقتها ولم يكن لاحقًا مدة نصف ظهر (١٥ يومًا) كاملة فأكثر، فإن نوى الإقامة أقل من هذه المدة ولو بساعة، أو نواها بعد أن خرج الوقت وهو فيها، أو كان لاحقًا مدركًا الإمام أول الصلاة، والإمام مسافر، فأحدث أو نام، فانتبه بعد فراغ الإمام، ونوى الإقامة، لم يتم الصلاة، وإنما يقصرها ولو بقي سنين مسافرًا؛ لأن الإقامة لا تتحقق بأقل من نصف الشهر، ولأن الواجب بعد خروج الوقت استقر في الذمة كما هو في الوقت، ولأن اللاحق في الحكم كأنه خلف الإمام.
ولا تمنع نية الإقامة القصر إلا بشروط أربعة:
الأول - أن يترك السير بالفعل: فلو نوى الإقامة وهو ما يزال مسافرًا يسيرًا، لايكون مقيمًا، ويجب عليه القصر.
الثاني - أن يكون موضع الإقامة صالحًا لها كمدينة أو قرية لكل الناس، أو برية لأهل الخيام، فلو نوى الإقامة في موضع غير صالح كبحر أو جزيرة مهجورة أو صحراء خالية من الناس، قصر.
الثالث - أن يكون الموضع واحدًا غير متعدد: فلو نوى الإقامة خمسة عشر يومًا ببلدتين مستقلتين كمكة ومنى، لم تصح نيته ويقصر؛ إذ لا بد من نية الإقامة تلك المدة في موضع واحد.
الرابع - أن يكون ناوي الإقامة مستقلًا بالرأي: أما لو كان تابعًا لغيره كالمرأة والخادم وإن نوى الإقامة، فيقصر ولا يتم، إلا إن علم نية متبوعه الإقامة في الأصح، فيتم الصلاة مثله، كما سبق.
(١) الدر المختار ورد المحتار: ٧٣٦/ ١ - ٧٣٨، الكتاب مع اللباب: ١٠٧/ ١ - ١٠٨.
ومن ترقب السفر غدًا أو بعده، أو انتظر قادمًا أو قافلة مثلًا ما لم يعلم تأخرها نصف شهر، أو كان مع العسكر الذين نووا الإقامة في دار الحرب، أو حاصر حصنًا في دار الحرب، قصر الصلاة، ولم يتمها، كما بينا سابقًا.
وقال المالكية (١):
يمتنع القصر بنية الإقامة أربعة أيام صحاح غير يومي الدخول والخروج، تستلزم عشرين صلاة، وإلا فلا، أو العلم بإقامة الأربعة الأيام عادة في محل ما، بأن كانت عادةالقافلة أن تقيم في ذلك المحل أربعة أيام، فإنه يتم. فإن لم تجب عليه العشرون صلاة، كأن دخل بلدًا قبل فجر السبت مثلًا، ونوى الإقامة إلى غروب يوم الثلاثاء، وخرج قبل العشاء، قصر، ولم ينقطع حكم سفره؛ لأنه وإن كانت الأربعة الأيام صحاحًا، إلا أنه لم يجب عليه عشرون صلاة.
وإن لم يقم أربعة أيام كأن دخل بلدًا قبل العصر، ولم يكن صلى الظهر، ونوى الارتحال بعد صبح اليوم الخامس، لم ينقطع حكم سفره؛ لأنه وإن وجب عليه عشرون صلاة، إلا أنه لم يقم إلا ثلاثة أيام صحاح.
فلا بد من الأمرين أو الشرطين معًا: إقامة أربعة أيام صحاح، ووجوب عشرين صلاة.
ومن أقام لحاجة متى قضيت سافر، فلا ينقطع القصر، ولو طالت المدة، إلا إذا علم أنها لا تقضى حاجته إلا بعد الأربعة الأيام. ومثله من لم ينو الإقامة وأقام مدة طويلة، له أن يقصر.
ومن نوى الإقامة وهو في الصلاة، قطع الصلاة، وندب أن يشفع إن صلى
(١) الشرح الكبير: ٣٦٤/ ١، الشرح الصغير: ٣٦٤/ ١، القوانين الفقهية: ص ٨٥.
ركعة بسجدتيها، ولا تجزئ صلاة تامة إن أتمها، ولا مقصورة إن قصرها. وإن نوى الإقامة بعد الفراغ من الصلاة، أعادها بوقت اختياري أي وقتها المعتاد.
ولا يشترط في محل الإقامة: أن يكون صالحًا للإقامة فيه. ويستثنى من نية الإقامة حالة العسكر في دار الحرب الذي ينوي إقامة أربعة أيام فأكثر، فلا ينقطع حكم سفره، ويقصر.
وقال الشافعية (١):
يمتنع القصر إذا نوى المسافر إقامة أربعة أيام تامة بلياليها، أو نوى الإقامة مطلقًا، غير يومي الدخول والخروج، على الصحيح، بموضع صالح للإقامة أو غير صالح كصحراء على الأصح، فإن نوى أقل من أربعة أيام، قصر. وإن كانت له حاجة وجزم بأنها لا تقضى في أربعة أيام، أتم ولم يقصر، سواء نوى الإقامة أم لا.
أما إن أقام ببلد بنية أن يرحل إذا تحققت حاجة يتوقعها كل وقت، فله القصر إلى ثمانية عشر يومًا، كما ذكرت.
وقال الحنابلة (٢):
يمتنع القصر لو نوى المسافر إقامة مطلقة بأن لم يحدها بزمن معين، ولو في مكان غير صالح للإقامة كبادية ودار حرب، أو نوى إقامة أكثر من عشرين صلاة، أو أكثر من أربعة أيام مع يومي الدخول والخروج، وأتم صلاته.
لكن إن أقام لحاجة يتوقع قضاءها، فله القصر، ولو استمر سنين، وهذا هو رأي الجمهور، وقصره الشافعية على ثمانية عشر يومًا كما بينا.
(١) مغني المحتاج: ٢٦٤/ ١ ومابعدها.
(٢) كشاف القناع: ٦٠٥/ ١.
٢ - العودة إلى محل الإقامة الدائمة، أو نية العودة:
سأبحث هذه الحالة في ضوء المصطلحات الحديثة للإقامة والوطن بالاعتماد على اصطلاح الفقهاء في الماضي، والاصطلاحات الحديثة هي ما يلي:
أـ الوطن: هو إقليم الدولة التي ينتمي إليها ويحمل جنسيتها بحسب التقسيم الإقليمي للدول المعاصرة. وهذا المفهوم لا صلة له ببحثنا.
ب - محل الإقامة الدائمة: هو محل العمل الذي يسكن فيه، أو محل المعيشة.
جـ - محل الميلاد: هو البلد الذي ولد ونشأ فيه، وفيه أهله وعشيرته، ويشمل هذين الاثنين عند الحنفية: الوطن الأصلي إذ هو موطن الولادة، أو التزوج، أو التوطن.
د - محل الإقامة المؤقتة: هو المكان الذي يقيم فيه لفترة زمنية مؤقتة أو لمهمة قد تطول وقد تقصر، ويقابله عند الحنفية «وطن الإقامة» إذا كانت نصف شهر فأكثر، ووطن السكنى إذا أقام دون نصف شهر.
هـ - بلد الزوجة: هو البلد الذي له فيه زوجة إما الزوجة الوحيدة أو الثانية ويدخل تحت مفهوم الوطن الأصلي.
وبحثنا يتردد بين هذه المصطلحات الأربعة الأخيرة.
قال الحنفية (١):
الوطن ثلاثة أنواع:
(١) اللباب: ١٠٩/ ١، مراقي الفلاح: ص ٧٣، الدر المختار ورد المحتار: ٧٣٦/ ١، ٧٤٢ ومابعدها، فتح القدير: ٤٠٣/ ١ ومابعدها.
الوطن الأصلي: هو الذي ولد فيه أو تزوج، أو لم يتزوج وقصد التعيش فيه، لا الارتحال عنه.
ووطن الإقامة: موضع نوى الإقامة فيه نصف شهر فما فوقه.
ووطن السكنى: هو ما ينوي الإقامة فيه دون نصف شهر، وهذا لم يعتبره المحققون في حالة تغيير الموطن.
متى يتم المسافر الصلاة عادة؟
إذا دخل المسافر بلده أي محل إقامته الدائمة، أتم الصلاة، وإن لم ينو
الإقامة فيه، كأن دخله لقضاء حاجة؛ لأنه معين للإقامة، وقد زال سبب الرخصة وهو
السفر. هذا إن سار مدة السفر (٣ أيام بلياليها)، وإلا بأن رجع إلى بلده قبل قطع
مسافة السفر، أتم بمجرد نية العودة، لعدم تحقق السفر المجيز للقصر. وإذن فيجب
عليه الإتمام في هاتين الحالتين: العودة للوطن، ونية العودة قبل قطع مسافة القصر،
فإن عاد بعد قطع مسافة القصر، يقصر حتى يعود لبلده بالفعل.
متى يتم المسافر الصلاة ومتى يقصر حالة الانتقال عن الوطن؟
أـ الانتقال عن الوطن الأصلي: يتم الصلاة إذا انتقل من محل الإقامة الدائمة كمركز الوظيفة اليوم إلى موطن آخر له فيه زوجة، أو إلى محل الميلاد الذي بقي له فيه أهل أي زوجة، كالريف، فمن كان موظفًا في دمشق مثلًا ثم سافر إلى قريته الأصلية في الريف لزيارة الأهل (الزوجة)، أتم الصلاة، سواء أكانت المسافة بين مقر العمل أو الوظيفة وبين الريف مسافة القصر أم لا؛ لأنه في هذه الحالة يكون له موطنان، وكل منهما وطن أصلي له.
فإن لم يبق له أهل في الريف، وإن بقي فيه عقار (أرض أو دار)، قصر
الصلاة؛ لأن محل الميلاد وإن كان وطنًا أصليًا له، إلا أنه بطل بمثله وهو مقر عمله، وبه يتبين أن الوطن الأصلي للإنسان يبطل إذا هاجر بنفسه وأهله ومتاعه إلى بلد آخر، فإن عاد إلى بلده الأول لعمل مثلًا، وجب عليه قصر الصلاة.
كذلك يقصر الصلاة إن عاد إلى بلد مقر الوظيفة، بعد أن انتقل عنها بكل أهله، واستوطن بلدًا غيرها؛ لأنه لم يبق له وطنًا، إذ إن الوطن الأصلي يبطل بمثله، دون السفر عنه، بدليل أنه ﵇ بعد الهجرة عد نفسه بمكة من المسافرين، أما لو سافر عنه إلى بلد آخر مدة مؤقتة كأن ترك دمشق إلى حلب، ثم عاد إليه فيتم الصلاة؛ لأن الوطن الأصلي لا يبطل حكمه بوطن الإقامة ولا بالسفر؛ لأن الشيء لا يبطل بما هو دونه، بل بما هو مثله أو فوقه.
ب - الانتقال عن محل الإقامة المؤقتة (وطن الإقامة): من تنقل في البلدان فأقام في بلد نصف شهر مثلًا، ثم عاد إليه، قصر الصلاة فيه مالم ينو الإقامة مجددًا نصف شهر؛ لأن وطن الإقامة يبطل حكمه بمثله، وبالسفر عنه أي بإنشاء السفر منه، كما يبطل بالوطن الأصلي.
ولا يبطل وطن الإقامة بإنشاء السفر من غيره، مادام المسافر يمرّ عليه، ومادامت المسافة بينه وبين المكان الذي أنشأ السفر منه دون مسافة القصر.
وقال المالكية (١):
يمتنع القصر على المسافر وعليه الإتمام إن عاد إلى بلدته الأصلية التي نشأ فيها وينتسب إليها، أو مرّ فيها، أو إلى البلد التي نوى فيها إقامة دائمة، أو إلى بلد الزوجة التي دخل بها وكانت غير ناشز وإن لم ينو إقامة أربعة أيام، أو إلى البلد
(١) الشرح الكبير: ٣٦٢/ ١ ومابعدها، الشرح الصغير: ٤٨٠/ ١ ومابعدها.
التي نوى فيها الإقامة أربعة أيام فأكثر. أما دخول بلد الزوجة التي لم يدخل بها أو كانت ناشزًا، فلا يمنع القصر.
أما في أثناء الرجوع، فإن الرجوع في حقه سفر مستقل، فإن كان هناك مسافة قصر، قصر الصلاة، وإلا فلا، ويتم الصلاة حينئذ.
ويمتنع القصر أيضًا بنية دخوله وطنه أو مكان زوجته في أثناء الطريق، إن لم يكن بينه وبين المحل المنوي دخوله مسافة القصر الشرعية.
وقال الشافعية (١):
الوطن: هو محل الإقامة الدائمة صيفًا وشتاءً. ويمتنع القصر برجوعه إلى وطنه، وإلى موضع نوى الإقامة فيه مطلقًا، أو أربعة أيام صحيحة، أو لحاجة لا تنقضي إلا في المدة المذكورة، كما يمتنع القصر بنية الرجوع إلى وطنه أو بالتردد فيه وهو ماكث غير سائر، ومستقل غير تابع، ولو بمحل لا يصلح للإقامة كمفازة، من دون مسافة القصر، فإن نوى الرجوع وهو سائر أو تابع لغيره كالزوجة لزوجها فيقصر حتى يرجع فعلًا.
وكذلك يقصر إذا كان قاصدًا المرور بوطنه فقط دون الإقامة، كما أنه يقصر في بلد أقام فيها إن كان يتوقع قضاء حاجة كل وقت إلى ثمانية عشر يومًا، ويقصر أيضًا بالرجوع إلى غير وطنه (وهو غير محل الإقامة الدائمة) وإن كان له فيه أهل أو عشيرة، ولا يقصر بنية الرجوع إلى غير وطنه إذا كان الرجوع لغير حاجة، فإن كان لحاجة كتطهر فيقصر.
(١) مغني المحتاج: ٢٦٤/ ١.
وقال الحنابلة (١):
من رجع إلى الوطن الذي سافر منه، أو نوى الرجوع قبل قطع مسافة القصر، فلا يقصر وإنما يتم الصلاة، كما إنه يتمها إذا مرّ (أي مسافر) بوطنه، ولو لم يكن له حاجة سوى المرور؛ لأنه في حكم المقيم إذ ذاك.
أو مر ببلد له فيه امرأة، ولو لم يكن وطنه، حتى يفارقه، لأنه كما سبق في حكم المقيم إذ ذاك.
أو مر ببلد تزوج فيه، حتى يفارقه، لحديث عثمان، سمعت النبي ﷺ يقول: «من تأهل في بلد، فليصل صلاة المقيم» (٢) وظاهره: ولو بعد فراق الزوجة، أما لو كان له به أقارب كأم وأب أو ماشية أو مال، لم يمتنع عليه القصر، إذا لم يكن مما سبق.
خلاصة آراء المذاهب في الحالات التي يمتنع فيها القصر ويصبح المسافر فيها في حكم المقيم:
الحنفية (٣):
يمتنع القصر بنية الإقامة نصف شهر ببلد أو قرية واحدة، لا ببلدتين لم يعين المبيت
بإحداهما، وبالعودة إلى وطنه (محل إقامته الدائمة)، إن قطع مسافة القصر عن بلده،
وباقتداء المسافربالمقيم، وبعدم الاستقلال بالرأي، وبعدم قصد جهة معينة.
المالكية (٤): يقطع القصر أحد أمور خمسة:
(١) كشاف القناع:٦٠٠/ ١.
(٢) رواه أحمد.
(٣) اللباب شرح الكتاب: ١٠٧/ ١ - ١٠٨، مراقي الفلاح: ص٧٢، الدر المختار: ٧٣٦/ ١ - ٧٣٨.
(٤) الشرح الكبير: ٣٦٢/ ١ - ٣٦٤، الشرح الصغير: ٤٨٠/ ١ - ٤٨١.
الأول - دخول بلدِه الراجع هو إليه، سواء أكانت وطنه أم لا، وإن لم ينو إقامة أربعة أيام إلا مقيمًا ببلد إقامة مؤقتة تركه ناويًا السفر، ثم عاد إليه، فله القصر.
والمراد ببلده الذي سافر منه: هو وطنه أو محل زوجته الكائن في أثناء المسافة. وإنما كان دخول البلد قاطعًا للقصر؛ لأن دخول البلد مظنة للإقامة، فإذا كفت نية الإقامة في قطع القصر، ففعل الإقامة أولى.
الثاني - الرجوع إلى وطنه أو محل زوجته المدخول بها قبل أن يقطع مسافة القصر، ومجرد الأخذ في الرجوع يقطع حكم السفر.
الثالث - دخول وطنه أثناء المرور عليه، بأن كان بمحل آخر غير وطنه، وسافر منه إلى بلد آخر.
الرابع - نية الإقامة أربعة أيام صحاح تستلزم عشرين صلاة، أو العلم مسبقًا بإقامة الأربعة الأيام عادة في محل، اعتادت القافلة أن تقيم فيه.
الخامس - دخول مكان زوجة دخل بها فقط؛ لأنه في حكم الوطن. أما دخول مكان الأقارب كأم أو أب، فلا يقطع السفر ولا يمنع القصر.
الشافعية (١):
يمتنع القصر بنية الإقامة أربعة أيام صحيحة، وبالعودة لوطنه (محل الإقامة
الدائمة)، وباقتداء المسافر بالمقيم أو بمشكوك السفر، وبعدم قصد جهة معينة، وبعدم
الاستقلال بالرأي دون مسافة القصر، وبسفر المعصية، وبانقطاع السفر أثناء الصلاة،
وبعدم نية القصر أثناء الإحرام.
الحنابلة (٢): يمنع القصر ويجب الإتمام في إحدى وعشرين صورة:
(١) مغني المحتاج: ٢٦٧/ ١ - ٢٧١.
(٢) كشاف القناع: ٦٠٠/ ١ - ٦٠٥.
الأولى - مرور المسافر بوطنه ولو لم يكن له حاجة سوى المرور عليه.
الثانية - المرور ببلد له فيه امرأة، ولو لم يكن وطنه.
الثالثة - المرور ببلد تزوج فيه، وقد سبق ذكر هذه الحالات قريبًا.
الرابعة - إن أحرم مقيمًا في حضر، ثم سافر.
الخامسة - إن دخل عليه وقت صلاة في الحضر، ثم سافر.
السادسة - إن أحرم بالصلاة الرباعية في سفر، ثم أقام، كراكب سفينة وصلت إلى وطنه أثناء الصلاة، تغليبًا لحكم الحضر.
السابعة والثامنة - إن ذكر صلاة حضر في سفر، أوعكسه: أي صلاة سفر في حضر، لزمه أن يتم؛ لأنه الأصل، فغلِّب حكم الحضر.
التاسعة والعاشرة - ائتم بمقيم أو بمن يلزمه الإتمام.
الحادية عشرة - ائتم بمن يشك في كونه مسافرًا، أو بمن يغلب على ظنه أنه مقيم، ولو بان بعدئذ كونه مسافرًا، لعدم الجزم بكونه مسافرًا عند الإحرام.
الثانية عشرة - أحرم بصلاة يلزمه إتمامها، ففسدت وأعادها: كمن يقتدي بمقيم فيحدث في أثناء الصلاة، فيلزمه إعادتها تامة؛ لأنها وجبت عليه أولًا تامة، فلا يجوز أن تعاد مقصورة.
الثالثة عشرة - إن لم ينو القصر عند دخوله الصلاة أي عند إحرامه، فيلزمه أن يتم؛ لأنه الأصل، وإطلاق النية ينصرف إليه.
الرابعة عشرة - إن شك في الصلاة: هل نوى القصر أم لا، ولو تذكر بعدئذ في أثناء الصلاة، لزمه أن يتم، لوجود ما أوجب الإتمام في بعضها، فغلب؛ لأنه الأصل.
الخامسة عشرة - إن تعمد ترك صلاة أو بعضها في سفر، بأن أخرها بلا عذر، حتى خرج وقتها، فيلزمه أن يتم، قياسًا على السفر المحرَّم، لأنه صار عاصيًا بتأخيرها متعمدًا من غير عذر.
السادسة عشرة - العزم على قلب السفر لمعصية كقطع الطريق، ونية الرجوع في مكان بينه وبين موطنه دون مسافة القصر.
السابعة عشرة - إن تاب في الصلاة من سفر المعصية، لزمه أن يتم، وكذلك يتم إن قصر معتقدًا تحريم القصر، ولو أنه مخطئ في اعتقاده.
الثامنة عشرة - إن نوى المسافر في الصلاة الإتمام، بعد أن نوى القصر، أتم وجوبًا؛ لأنه رجع إلى الأصل.
التاسعة عشرة - إن نوى إقامة مطلقة: بأن لم يحدها بزمن، في بلد، ولو في دار حرب، أو في بادية لا يقام فيها، لزوال السفر المبيح للقصر بنية الإقامة.
العشرون - إن نوى إقامة أكثر من عشرين صلاة، أتم.
الحادية والعشرون - إن شك في نيته: هل نوى إقامة ما يمنع القصر أم لا، أتم؛ لأن الإتمام هو الأصل، فلا ينتقل عنه مع الشك في مبيح الرخصة.
سادسًا - قضاء الصلاة الفائتة في السفر:
سبق بيانه في بحث قضاء الفوائت، وأوجز هنا آراء الفقهاء فيه:
قال الحنفية والمالكية (١):
من فاتته صلاة في السفر قضاها في الحضر ركعتين، كما فاتته في السفر،
(١) فتح القدير: ٤٠٥/ ١، مراقي الفلاح: ص٧٢، اللباب: ١١٠/ ١، القوانين الفقهية: ص٧١، الشرح الكبير: ٢٦٣/ ١.
ومن فاتته صلاة في الحضر قضاها في السفر أربعًا؛ لأنه بعدما تقرر لا يتغير؛ ولأن القضاء بحسب الأداء.
وقال الشافعية والحنابلة (١):
الصلاة الفائتة في الحضر، تقضى أربعًا سواء في السفر أم في الحضر؛ لأن القصر رخصة من رخص السفر، فيبطل بزواله كالمسح ثلاثة أيام، ولأنها ثبتت في ذمته تامة، وفائتة السفر تقضى مقصورة في السفر دون الحضر، في الأظهر عند الشافعية؛ لأنها وجبت في السفر، فينظر إلى وجود السبب.
وقد تعادل في نظري الرأيان، وللمرء الأخذ بأحدهما، ويختار بحسب ما يراه أحوط دينًا.
سابعًا - صلاة السنن في السفر:
قال الحنفية والمالكية (١):
من فاتته صلاة في السفر قضاها في الحضر ركعتين، كما فاتته في السفر،
(١) فتح القدير: ٤٠٥/ ١، مراقي الفلاح: ص٧٢، اللباب: ١١٠/ ١، القوانين الفقهية: ص٧١، الشرح الكبير: ٢٦٣/ ١.
ومن فاتته صلاة في الحضر قضاها في السفر أربعًا؛ لأنه بعدما تقرر لا يتغير؛ ولأن القضاء بحسب الأداء.
وقال الشافعية والحنابلة (١):
الصلاة الفائتة في الحضر، تقضى أربعًا سواء في السفر أم في الحضر؛ لأن القصر رخصة من رخص السفر، فيبطل بزواله كالمسح ثلاثة أيام، ولأنها ثبتت في ذمته تامة، وفائتة السفر تقضى مقصورة في السفر دون الحضر، في الأظهر عند الشافعية؛ لأنها وجبت في السفر، فينظر إلى وجود السبب.
وقد تعادل في نظري الرأيان، وللمرء الأخذ بأحدهما، ويختار بحسب ما يراه أحوط دينًا.
سابعًا - صلاة السنن في السفر:
قال النووي (٢): قد اتفق الفقهاء على استحباب النوافل المطلقة في السفر، واختلفوا
في استحباب النوافل الراتبة، فتركها ابن عمر وآخرون، واستحبها الشافعي وأصحابه
والجمهور.
ودليلهم أولًا - الأحاديث العامة الواردة في ندب مطلق الرواتب، وحديث صلاته ﷺ الضحى في يوم الفتح، وركعتي الصبح، حين ناموا حتى طلعت الشمس، وأحاديث أخر ذكرها أصحاب السنن.
وثانيًا - القياس على النوافل المطلقة.
(١) مغني المحتاج: ٢٦٣/ ١، المغني: ٢٨٢/ ٢ ومابعدها.
(٢) نيل الأوطار: ٢١٩/ ٣ ومابعدها.
وأما ما في الصحيحين عن ابن عمر، أنه قال: صحبت النبي ﷺ، فلم أره يُسبِّح - أي يتنفل - في السفر، وفي رواية: صحبت رسول الله ﷺ، وكان لا يزيد في السفر على ركعتين، وأبا بكروعمر وعثمان كذلك، فقال النووي: لعل النبي ﷺ كان يصلي الرواتب في رحله، ولا يراه ابن عمر، فإن النافلة في البيت أفضل، ولعله تركها في بعض الأوقات تنبيهًا على جواز تركها.
وقال الحنفية (١): ويأتي المسافر بالسنن الرواتب إن كان في حال أمن وقرار أي نازلًا مستقرًا، وإلا بأن كان في حال خوف وفرار، أي في السير، لا يأتي بها، وهو المختار.
وحرر ابن تيميمة الموضوع قائلًا: فعل السنن الرواتب في السفر جائز، فمن شاء فعلها، ومن شاء تركها باتفاق الأئمة، والفعل أحيانًا أفضل لحاجة الإنسان إليها، والترك أحيانًا أفضل إذا اشتغل الإنسان بما هو أفضل منها، لكن النبي ﷺ لم يكن يصلي من الرواتب إلا ركعتي الفجر والوتر. أما الصلاة قبل الظهر وبعدها، وبعد المغرب، فلم ينقل أحد عن النبي ﷺ أنه فعل ذلك في السفر (٢).
المطلب الثاني - الجمع بين الصلاتين:
ودليلهم أولًا - الأحاديث العامة الواردة في ندب مطلق الرواتب، وحديث صلاته ﷺ الضحى في يوم الفتح، وركعتي الصبح، حين ناموا حتى طلعت الشمس، وأحاديث أخر ذكرها أصحاب السنن.
وثانيًا - القياس على النوافل المطلقة.
(١) مغني المحتاج: ٢٦٣/ ١، المغني: ٢٨٢/ ٢ ومابعدها.
(٢) نيل الأوطار: ٢١٩/ ٣ ومابعدها.
وأما ما في الصحيحين عن ابن عمر، أنه قال: صحبت النبي ﷺ، فلم أره يُسبِّح - أي يتنفل - في السفر، وفي رواية: صحبت رسول الله ﷺ، وكان لا يزيد في السفر على ركعتين، وأبا بكروعمر وعثمان كذلك، فقال النووي: لعل النبي ﷺ كان يصلي الرواتب في رحله، ولا يراه ابن عمر، فإن النافلة في البيت أفضل، ولعله تركها في بعض الأوقات تنبيهًا على جواز تركها.
وقال الحنفية (١): ويأتي المسافر بالسنن الرواتب إن كان في حال أمن وقرار أي نازلًا مستقرًا، وإلا بأن كان في حال خوف وفرار، أي في السير، لا يأتي بها، وهو المختار.
وحرر ابن تيميمة الموضوع قائلًا: فعل السنن الرواتب في السفر جائز، فمن شاء فعلها، ومن شاء تركها باتفاق الأئمة، والفعل أحيانًا أفضل لحاجة الإنسان إليها، والترك أحيانًا أفضل إذا اشتغل الإنسان بما هو أفضل منها، لكن النبي ﷺ لم يكن يصلي من الرواتب إلا ركعتي الفجر والوتر. أما الصلاة قبل الظهر وبعدها، وبعد المغرب، فلم ينقل أحد عن النبي ﷺ أنه فعل ذلك في السفر (٢).
المطلب الثاني - الجمع بين الصلاتين:
أولًا - مشروعية الجمع:
يجوز عند الجمهور غير الحنفية (٣) الجمع بين الظهر والعصر تقديمًا في وقت
الأولى، وتأخيرًا في وقت الثانية، والجمعة كالظهر في جمع التقديم، وبين المغرب
والعشاء تقديمًا وتأخيرًا أيضًا في السفر الطويل كما في القصر (٨٩كم).
(١) الدر المختار: ٧٤٢/ ١.
(٢) فتاوى ابن تيمية ٢٧٩/ ٢٢ - ٢٨٠.
(٣) الشرح الكبير:٣٦٨/ ١، مغني المحتاج:٢٧١/ ١ ومابعدها، المهذب: ١٠٤/ ١، كشاف القناع: ٣/ ٢، المغني: ٢٧١/ ٢.
فالصلوات التي تجمع: الظهر والعصر، والمغرب والعشاء في وقت إحداهما ويسمى الجمع في وقت الصلاة الأولى: جمع التقديم، والجمع في وقت الصلاة الثانية: جمع التأخير. والأفضل عدم الجمع خروجًا من الخلاف، ولعدم مداومة النبي ﷺ عليه، ولو كان أفضل لأدامه كالقصر.
ودليل جمع التأخير: الثابت في الصحيحين عن أنس وابن عمررضي الله عنهما، أما حديث الأول، فقال أنس: كا ن رسول الله ﷺ إذا رحل قبل أن تزيغ - تميل ظهرًا - الشمس، أخر الظهر إلى وقت العصر، ثم نزل يجمع بينهما، فإن زاغت قبل أن يرتحل صلى الظهر، ثم ركب (١).
وأما حديث ابن عمر فهو: أنه استُغيث على بعض أهله، فجدَّ به السير، فأخر المغرب حتى غاب الشَّفَق، ثم نزل، فجمع بينهما، ثم أخبرهم أن رسول الله ﷺ كان يفعل ذلك إذا جدَّ به السير (٢).
ودليل جمع التقديم: الصحيح من حديث معاذ ﵁: أن النبي ﷺ كان في غزوة تبوك إذا ارتحل بعد المغرب عجل العشاء فصلاها مع المغرب» (٣).
وقال الحنفية (٤): لا يجوز الجمع إلا في يوم عرفة للمحرم بالحج جمع تقديم بين الظهر والعصر بأذان واحد وإقامتين؛ لأن العصر يؤدى قبل وقته المعهود، فيفرد بالإقامة إعلامًا للناس. وفي ليلة المزدلفة جمع تأخير بين المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامة واحدة؛ لأن العشاء في وقتها فلم تحتج للإعلام.
(١) متفق عليه (نيل الأوطار: ٢١٢/ ٣).
(٢) رواه الترمذي بهذا اللفظ، ومعناه عند الجماعة إلا ابن ماجه. وروي حديث جمع التأخير أيضًا عن معاذ بن جبل وابن عباس ﵄ (نيل الأوطار: ٢١٣/ ٣ومابعدها).
(٣) رواه أحمد وأبو داود والترمذي وحسنه، والدارقطني والحاكم، والبيهقي وابن حبان وصححاه (المصدر السابق).
(٤) اللباب: ١٨٥/ ١، ١٨٧.
واحتجوا بأن مواقيت الصلاة تثبت بالتواتر، فلا يجوز تركها بخبر الواحد.
وقال ابن مسعود فيما يرويه الشيخان: «والذي لا إله غيره، ما صلى رسول الله ﷺ صلاة قط إلا لوقتها، إلا صلاتين، جمع بين الظهر والعصر بعرفة، وبين المغرب والعشاء بجَمْع» أي بالمزدلفة.
والحق: جواز الجمع لثبوته بالسنة، والسنة مصدر تشريعي كالقرآن.
ثانيًا - أسباب الجمع بين الصلاتين وشروطه:
(١) الدر المختار: ٧٤٢/ ١.
(٢) فتاوى ابن تيمية ٢٧٩/ ٢٢ - ٢٨٠.
(٣) الشرح الكبير:٣٦٨/ ١، مغني المحتاج:٢٧١/ ١ ومابعدها، المهذب: ١٠٤/ ١، كشاف القناع: ٣/ ٢، المغني: ٢٧١/ ٢.
فالصلوات التي تجمع: الظهر والعصر، والمغرب والعشاء في وقت إحداهما ويسمى الجمع في وقت الصلاة الأولى: جمع التقديم، والجمع في وقت الصلاة الثانية: جمع التأخير. والأفضل عدم الجمع خروجًا من الخلاف، ولعدم مداومة النبي ﷺ عليه، ولو كان أفضل لأدامه كالقصر.
ودليل جمع التأخير: الثابت في الصحيحين عن أنس وابن عمررضي الله عنهما، أما حديث الأول، فقال أنس: كا ن رسول الله ﷺ إذا رحل قبل أن تزيغ - تميل ظهرًا - الشمس، أخر الظهر إلى وقت العصر، ثم نزل يجمع بينهما، فإن زاغت قبل أن يرتحل صلى الظهر، ثم ركب (١).
وأما حديث ابن عمر فهو: أنه استُغيث على بعض أهله، فجدَّ به السير، فأخر المغرب حتى غاب الشَّفَق، ثم نزل، فجمع بينهما، ثم أخبرهم أن رسول الله ﷺ كان يفعل ذلك إذا جدَّ به السير (٢).
ودليل جمع التقديم: الصحيح من حديث معاذ ﵁: أن النبي ﷺ كان في غزوة تبوك إذا ارتحل بعد المغرب عجل العشاء فصلاها مع المغرب» (٣).
وقال الحنفية (٤): لا يجوز الجمع إلا في يوم عرفة للمحرم بالحج جمع تقديم بين الظهر والعصر بأذان واحد وإقامتين؛ لأن العصر يؤدى قبل وقته المعهود، فيفرد بالإقامة إعلامًا للناس. وفي ليلة المزدلفة جمع تأخير بين المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامة واحدة؛ لأن العشاء في وقتها فلم تحتج للإعلام.
(١) متفق عليه (نيل الأوطار: ٢١٢/ ٣).
(٢) رواه الترمذي بهذا اللفظ، ومعناه عند الجماعة إلا ابن ماجه. وروي حديث جمع التأخير أيضًا عن معاذ بن جبل وابن عباس ﵄ (نيل الأوطار: ٢١٣/ ٣ومابعدها).
(٣) رواه أحمد وأبو داود والترمذي وحسنه، والدارقطني والحاكم، والبيهقي وابن حبان وصححاه (المصدر السابق).
(٤) اللباب: ١٨٥/ ١، ١٨٧.
واحتجوا بأن مواقيت الصلاة تثبت بالتواتر، فلا يجوز تركها بخبر الواحد.
وقال ابن مسعود فيما يرويه الشيخان: «والذي لا إله غيره، ما صلى رسول الله ﷺ صلاة قط إلا لوقتها، إلا صلاتين، جمع بين الظهر والعصر بعرفة، وبين المغرب والعشاء بجَمْع» أي بالمزدلفة.
والحق: جواز الجمع لثبوته بالسنة، والسنة مصدر تشريعي كالقرآن.
ثانيًا - أسباب الجمع بين الصلاتين وشروطه:
اتفق مجيزو الجمع تقديمًا وتأخيرًا على جوازه في أحوال ثلاثة: هي السفر،
والمطر ونحوه من الثلج والبرد، والجمع بعرفة والمزدلفة، واختلفوا فيما سواها، وفي
شروط صحة الجمع.
فقال المالكية (١):
أسباب الجمع بين الظهر والعصر، والمغرب والعشاء تقديمًا وتأخيرًا ستة: هي
السفر، والمطر، والوحل مع الظلمة، والمرض كالإغماء ونحوه، وجمع عرفة، ومزدلفة،
وكلها يرخص لها الجمع جوازًا للرجل أو المرأة، إلا جمع عرفة ومزدلفة، فهو سنة.
أما السفر: فيجوز فيه الجمع مطلقًا، سواء أكان طويلًا أم قصيرًا في مسافة القصر، إذا كان في البرّ لا في البحر، قصرًا للرخصة على موردها، وكان غير عاص بالسفر وغير لاه.
ويشترط لجواز جمع التقديم في السفر شرطان:
١ً - أن تزول عليه الشمس (يدخل الظهر) وهو مسافر في مكان نزوله للاستراحة.
(١) الشرح الصغير: ٤٨٧/ ١ - ٤٩٢، الشرح الكبير: ٣٦٨/ ١ - ٣٧٢، القوانين الفقهية: ص٨٢، بداية المجتهد: ١٦٥، ١٦٧.
٢ً - أن ينوي الارتحال قبل وقت العصر، والنزول للاستراحة بعد غروب الشمس فإن نوى الاستراحة قبل اصفرار الشمس، صلى الظهر فقط، وأخر العصر وجوبًا لوقتها الاختياري، فإن قدمه أجزأته الصلاة.
وإن نوى الاستراحة بعد الاصفرار وقبل الغروب، صلى الظهر في وقته، وخُيِّر في العصر إن شاء قدمها، وإن شاء أخَّرها حتى ينزل للاستراحة.
وإن دخل وقت الظهر (أي بزوال الشمس) وهو سائر: فإن نوى النزول وقت الاصفرار أو قبله، أخر الظهر، وجمعها مع العصر جمع تأخير، وإن نوى النزول بعد الغروب، فيجمع بين الصلاتين جمعًا صوريًا، فيصلي الظهر في آخر وقتها الاختياري، والعصر في أول وقتها الاختياري.
والمغرب والعشاء له حكم هذا التفصيل، مع ملاحظة أن غروب الشمس ينزل منزلة الزوال عند الظهر، وطلوع الفجر كالغروب، وابتداء الثلثين الأخيرين من الليل كاصفرار الشمس.
وأما المرض كالمبطون أوغيره فيجيز الجمع الصوري: بأن يصلي الفرض المتقدم في آخر وقته الاختياري، والفرض الثاني في أول وقته الاختياري، وفائدته عدم الكراهة. أما الصحيح فله الجمع الصوري مع الكراهة.
ومن خاف إغماء أو دَوْخة أو حمى عند دخول وقت الصلاة الثانية (العصر أو العشاء) فله تقديم الثانية عند الأولى؛ جوازًا على الراجح.
والخلاصة: إن المريض يجمع إن خاف أن يغيب على عقله أو إن كان الجمع أرفق به، ووقته في وقت الأولى.
وأما المطر أو البرد أو الثلج، أو الطين مع الظلمة الواقع أو المتوقع: فيجيز
جمع التقديم فقط لمن يصلي العشاءين (المغرب والعشاء) بجماعة في المسجد، إذا كان المطر غزيرًا يحمل أوساط الناس على تغطية رؤوسهم، والوحل أو الطين كثيرًا يمنع أواسط الناس من لبس المداس. ولا يجوز الجمع إلا باجتماع الوحل مع الظلمة، لا بأحدهما فقط.
ولو انقطع المطر بعد الشروع في الجمع، جاز الاستمرار فيه.
والمشهور أن يكون هذا الجمع بأذان وإقامة لكل واحدة من الصلاتين ويكون الأذان الأول للمغرب على المنارة بصوت مرتفع والثاني بصوت منخفض في المسجد، لا على المنارة، ويؤخر البدء بالمغرب ندبًا بعد الأذان بقدر ثلاث ركعات، ثم ينصرف الناس إلى منازلهم من غير تنفل في المسجد؛ لأن النفل حينئذ مكروه، فلا نفل بعد الجمع في المسجد، ولا وتر حتى يغيب الشفق.
ولا يتنفل بين الصلاتين، والنفل مكروه لا يمنع صحة الجمع، ولا يجوز هذا الجمع لجار المسجد، ولو كان مريضًا يشق عليه الخروج للمسجد، أو كان امرأة ولا يخشى منها الفتنة.
وكذلك لا يجوز هذا الجمع لمن صلى منفردًا في المسجد إلا أن يكون إمامًا راتبًا له منزل ينصرف إليه، فإنه يجمع وحده، وينوي الجمع والإمامة؛ لأنه ينزل منزلة الجماعة.
وتجب نية الجمع في الصلاة الأولى كنية الإمامة.
وأما الجمع في الحج فهو سنة اتفاقًا، فيسن للحاج أن يجمع بين الظهر والعصر جمع تقديم بعرفة، سواء أكان من أهلها أم أهل غيرها من أماكن النسك كمنى ومزدلفة، أو من أهل الآفاق، ويقصر من لم يكن من أهل عرفة للسنة، وإن لم تكن المسافة مسافة قصر.
ويسن أيضًا للحاج أن يصلي المغرب والعشاء جمع تأخير بمزدلفة، ويسن قصر العشاء لغير أهل مزدلفة؛ لأن القاعدة أن الجمع سنة لكل حاج، والقصر خاص بغير أهل المكان الذي فيه وهو عرفة ومزدلفة.
الشافعية (١):
أما السفر: فيجوز فيه الجمع مطلقًا، سواء أكان طويلًا أم قصيرًا في مسافة القصر، إذا كان في البرّ لا في البحر، قصرًا للرخصة على موردها، وكان غير عاص بالسفر وغير لاه.
ويشترط لجواز جمع التقديم في السفر شرطان:
١ً - أن تزول عليه الشمس (يدخل الظهر) وهو مسافر في مكان نزوله للاستراحة.
(١) الشرح الصغير: ٤٨٧/ ١ - ٤٩٢، الشرح الكبير: ٣٦٨/ ١ - ٣٧٢، القوانين الفقهية: ص٨٢، بداية المجتهد: ١٦٥، ١٦٧.
٢ً - أن ينوي الارتحال قبل وقت العصر، والنزول للاستراحة بعد غروب الشمس فإن نوى الاستراحة قبل اصفرار الشمس، صلى الظهر فقط، وأخر العصر وجوبًا لوقتها الاختياري، فإن قدمه أجزأته الصلاة.
وإن نوى الاستراحة بعد الاصفرار وقبل الغروب، صلى الظهر في وقته، وخُيِّر في العصر إن شاء قدمها، وإن شاء أخَّرها حتى ينزل للاستراحة.
وإن دخل وقت الظهر (أي بزوال الشمس) وهو سائر: فإن نوى النزول وقت الاصفرار أو قبله، أخر الظهر، وجمعها مع العصر جمع تأخير، وإن نوى النزول بعد الغروب، فيجمع بين الصلاتين جمعًا صوريًا، فيصلي الظهر في آخر وقتها الاختياري، والعصر في أول وقتها الاختياري.
والمغرب والعشاء له حكم هذا التفصيل، مع ملاحظة أن غروب الشمس ينزل منزلة الزوال عند الظهر، وطلوع الفجر كالغروب، وابتداء الثلثين الأخيرين من الليل كاصفرار الشمس.
وأما المرض كالمبطون أوغيره فيجيز الجمع الصوري: بأن يصلي الفرض المتقدم في آخر وقته الاختياري، والفرض الثاني في أول وقته الاختياري، وفائدته عدم الكراهة. أما الصحيح فله الجمع الصوري مع الكراهة.
ومن خاف إغماء أو دَوْخة أو حمى عند دخول وقت الصلاة الثانية (العصر أو العشاء) فله تقديم الثانية عند الأولى؛ جوازًا على الراجح.
والخلاصة: إن المريض يجمع إن خاف أن يغيب على عقله أو إن كان الجمع أرفق به، ووقته في وقت الأولى.
وأما المطر أو البرد أو الثلج، أو الطين مع الظلمة الواقع أو المتوقع: فيجيز
جمع التقديم فقط لمن يصلي العشاءين (المغرب والعشاء) بجماعة في المسجد، إذا كان المطر غزيرًا يحمل أوساط الناس على تغطية رؤوسهم، والوحل أو الطين كثيرًا يمنع أواسط الناس من لبس المداس. ولا يجوز الجمع إلا باجتماع الوحل مع الظلمة، لا بأحدهما فقط.
ولو انقطع المطر بعد الشروع في الجمع، جاز الاستمرار فيه.
والمشهور أن يكون هذا الجمع بأذان وإقامة لكل واحدة من الصلاتين ويكون الأذان الأول للمغرب على المنارة بصوت مرتفع والثاني بصوت منخفض في المسجد، لا على المنارة، ويؤخر البدء بالمغرب ندبًا بعد الأذان بقدر ثلاث ركعات، ثم ينصرف الناس إلى منازلهم من غير تنفل في المسجد؛ لأن النفل حينئذ مكروه، فلا نفل بعد الجمع في المسجد، ولا وتر حتى يغيب الشفق.
ولا يتنفل بين الصلاتين، والنفل مكروه لا يمنع صحة الجمع، ولا يجوز هذا الجمع لجار المسجد، ولو كان مريضًا يشق عليه الخروج للمسجد، أو كان امرأة ولا يخشى منها الفتنة.
وكذلك لا يجوز هذا الجمع لمن صلى منفردًا في المسجد إلا أن يكون إمامًا راتبًا له منزل ينصرف إليه، فإنه يجمع وحده، وينوي الجمع والإمامة؛ لأنه ينزل منزلة الجماعة.
وتجب نية الجمع في الصلاة الأولى كنية الإمامة.
وأما الجمع في الحج فهو سنة اتفاقًا، فيسن للحاج أن يجمع بين الظهر والعصر جمع تقديم بعرفة، سواء أكان من أهلها أم أهل غيرها من أماكن النسك كمنى ومزدلفة، أو من أهل الآفاق، ويقصر من لم يكن من أهل عرفة للسنة، وإن لم تكن المسافة مسافة قصر.
ويسن أيضًا للحاج أن يصلي المغرب والعشاء جمع تأخير بمزدلفة، ويسن قصر العشاء لغير أهل مزدلفة؛ لأن القاعدة أن الجمع سنة لكل حاج، والقصر خاص بغير أهل المكان الذي فيه وهو عرفة ومزدلفة.
الشافعية (١):
أجازوا الجمع فقط في السفر والمطر والحج بعرفة ومزدلفة.
أما الجمع بسبب المطر أو الثلج والبرد الذائبين: فالأظهر جوازه تقديمًا لمن صلى بجماعة في مسجد بعيد، وتأذى بالمطر في طريقه، والمذهب الجديد منع جمع التأخير فيه؛ لأن استدامة المطر غير متيقنة فقد ينقطع، فيؤدي إلى إخراج الصلاة عن وقتها من غير عذر.
ودليلهم على جواز جمع التقديم: ما في الصحيحين عن ابن عباس «صلى بنا رسول الله ﷺ بالمدينة الظهر والعصر جميعًا، والمغرب والعشاء جميعًا» زاد مسلم «من غير خوف ولا سفر». وشرط جواز التقديم: وجود المطر عند السلام من الصلاة الأولى، ليتصل المطر بأول الثانية، فلا بد من امتداده بينهما، ولا يضر انقطاعه فيما عدا ذلك.
ويجمع العصر مع الجمعة في المطر جمع تقديم، وإن لم يكن موجودًا حال الخطبة؛ لأنها ليست من الصلاة.
والمشهور في المذهب عدم جواز الجمع بسبب الوحل والريح والظلمة والمرض لحديث مواقيت الصلاة، ولايجوز مخالفته إلا بنص صريح.
و«لأن النبي ﷺ مرض أمراضًا كثيرة، ولم ينقل جمعة بالمرض صريحًا».
(١) المجموع: ٢٥٣/ ٤،٢٦٩ المهذب: ١٠٤/ ١ ومابعدها، مغني المحتاج: ٢٧١/ ١ - ٢٧٥.
ولأن من كان ضعيفًا ومنزله بعيدًا عن المسجد بعدًا كثيرًا، لا يجوز له الجمع، مع المشقة الظاهرة، فكذا المريض.
ويندب جمع التقديم للحاج بعرفة، وجمع التأخير بمزدلفة، كما قال المالكية.
وأما الجمع بسبب السفر فيجوز تقديمًا وتأخيرًا إذا كان السفر طويلًا كما في القصر.
ويشترط لجمع التقديم ستة شروط:
الأول - نية الجمع: أي أن ينوي جمع التقديم، في أول الصلاة الأولى، وتجوز في أثنائها في الأظهر، ولو مع السلام منها.
الثاني - الترتيب أي البُداءة بالأولى صاحبة الوقت: وهو أن يقدم الأولى، ثم يصلي الثانية؛ لأن الوقت للأولى، وإنما يفعل الثانية تبعًا للأولى، فلا بد من تقديم المتبوع، فلو صلاهما مبتدئًا بالأولى، فبان فسادها بفوات شرط أو ركن، فسدت الثانية أيضًا، لانتفاء شرطها من البداءة بالأولى، ولكن تنعقد الثانية نافلة على الصحيح.
الثالث - الموالاة أي التتابع بألا يفصل بينهما فاصل طويل؛ لأن الجمع يجعلهما كصلاة واحدة، فوجب الولاء كركعات الصلاة أي فلا يفرق بينهما، كما لا يجوز أن يفرق بين الركعات في صلاة واحدة، فإن فصل بينهما بفصل طويل ولو بعذر كسهو وإغماء، بطل الجمع، ووجب تأخير الصلاة الثانية إلى وقتها، لفوات شرط الجمع، وإن فصل بينهما بفصل يسير، لم يضر، كالفصل بينهما بالأذان والإقامة والطهارة، لما في الصحيحين عن أسامة: «أن النبي ﷺ لما جمع بنمرة، أقام للصلاة بينهما».
ويعرف طول الفصل بالعرف؛ لأنه لا ضابط له في الشرع ولا في اللغة.
وللمتيمم الجمع بين الصلاتين على الصحيح، كالمتوضئ، فلايضر تخلل طلب خفيف للماء؛ لأن ذلك من مصلحة الصلاة، فأشبه الإقامة، بل أولى؛ لأنه شرط دونها.
ويلاحظ أن هذه الشروط الثلاثة (نية الجمع، والترتيب والموالاة) لا تجب في جمع التأخير على الصحيح.
الرابع - دوام السفر إلى الإحرام بالصلاة الثانية، حتى ولو انقطع سفره بعد ذلك أثناءها. أما إذا نقطع سفره قبل الشروع في الثانية، فلا يصح الجمع، لزوال السبب.
الخامس - بقاء وقت الصلاة الأولى يقينًا إلى عقد الصلاة الثانية.
السادس - ظن صحة الصلاة الأولى: فلو جمع العصر مع الجمعة في مكان تعددت فيه لغير حاجة، وشك في السبق والمعية، لا يصح جمع العصر معها جمع تقديم.
ويشترط لجمع التأخير شرطان فقط:
الأول - نية التأخير قبل خروج وقت الصلاة الأولى، ولو بقدر ركعة: أي بزمن لو ابتدئت فيه، كانت أداء. وإلا فيعصي، وتكون قضاء. ودليل اشتراط النية: أنه قد يؤخر للجمع، وقد يؤخر لغيره، فلا بد من نية يتميز بها التأخير المشروع عن غيره.
الثاني - دوام السفر إلى تمام الصلاة الثانية، فإن لم يدم إلى ذلك بأن أقام ولو في أثنائها، صارت الأولى (وهي الظهر أو المغرب) قضاء؛ لأنها تابعة للثانية في الأداء للعذر، وقد زال قبل تمامها.
أما الترتيب: فليس بواجب؛ لأن وقت الثانية وقت الأولى، فجاز البداية بما شاء منهما. وأما التتابع: فلا يجب أيضًا؛ لأن الأولى مع الثانية كصلاة فائتة مع صلاة حاضرة، فجاز التفريق بينهما. وإنما الترتيب والتتابع سنة، وليس بشرط.
أما سنة الصلاة:
أما الجمع بسبب المطر أو الثلج والبرد الذائبين: فالأظهر جوازه تقديمًا لمن صلى بجماعة في مسجد بعيد، وتأذى بالمطر في طريقه، والمذهب الجديد منع جمع التأخير فيه؛ لأن استدامة المطر غير متيقنة فقد ينقطع، فيؤدي إلى إخراج الصلاة عن وقتها من غير عذر.
ودليلهم على جواز جمع التقديم: ما في الصحيحين عن ابن عباس «صلى بنا رسول الله ﷺ بالمدينة الظهر والعصر جميعًا، والمغرب والعشاء جميعًا» زاد مسلم «من غير خوف ولا سفر». وشرط جواز التقديم: وجود المطر عند السلام من الصلاة الأولى، ليتصل المطر بأول الثانية، فلا بد من امتداده بينهما، ولا يضر انقطاعه فيما عدا ذلك.
ويجمع العصر مع الجمعة في المطر جمع تقديم، وإن لم يكن موجودًا حال الخطبة؛ لأنها ليست من الصلاة.
والمشهور في المذهب عدم جواز الجمع بسبب الوحل والريح والظلمة والمرض لحديث مواقيت الصلاة، ولايجوز مخالفته إلا بنص صريح.
و«لأن النبي ﷺ مرض أمراضًا كثيرة، ولم ينقل جمعة بالمرض صريحًا».
(١) المجموع: ٢٥٣/ ٤،٢٦٩ المهذب: ١٠٤/ ١ ومابعدها، مغني المحتاج: ٢٧١/ ١ - ٢٧٥.
ولأن من كان ضعيفًا ومنزله بعيدًا عن المسجد بعدًا كثيرًا، لا يجوز له الجمع، مع المشقة الظاهرة، فكذا المريض.
ويندب جمع التقديم للحاج بعرفة، وجمع التأخير بمزدلفة، كما قال المالكية.
وأما الجمع بسبب السفر فيجوز تقديمًا وتأخيرًا إذا كان السفر طويلًا كما في القصر.
ويشترط لجمع التقديم ستة شروط:
الأول - نية الجمع: أي أن ينوي جمع التقديم، في أول الصلاة الأولى، وتجوز في أثنائها في الأظهر، ولو مع السلام منها.
الثاني - الترتيب أي البُداءة بالأولى صاحبة الوقت: وهو أن يقدم الأولى، ثم يصلي الثانية؛ لأن الوقت للأولى، وإنما يفعل الثانية تبعًا للأولى، فلا بد من تقديم المتبوع، فلو صلاهما مبتدئًا بالأولى، فبان فسادها بفوات شرط أو ركن، فسدت الثانية أيضًا، لانتفاء شرطها من البداءة بالأولى، ولكن تنعقد الثانية نافلة على الصحيح.
الثالث - الموالاة أي التتابع بألا يفصل بينهما فاصل طويل؛ لأن الجمع يجعلهما كصلاة واحدة، فوجب الولاء كركعات الصلاة أي فلا يفرق بينهما، كما لا يجوز أن يفرق بين الركعات في صلاة واحدة، فإن فصل بينهما بفصل طويل ولو بعذر كسهو وإغماء، بطل الجمع، ووجب تأخير الصلاة الثانية إلى وقتها، لفوات شرط الجمع، وإن فصل بينهما بفصل يسير، لم يضر، كالفصل بينهما بالأذان والإقامة والطهارة، لما في الصحيحين عن أسامة: «أن النبي ﷺ لما جمع بنمرة، أقام للصلاة بينهما».
ويعرف طول الفصل بالعرف؛ لأنه لا ضابط له في الشرع ولا في اللغة.
وللمتيمم الجمع بين الصلاتين على الصحيح، كالمتوضئ، فلايضر تخلل طلب خفيف للماء؛ لأن ذلك من مصلحة الصلاة، فأشبه الإقامة، بل أولى؛ لأنه شرط دونها.
ويلاحظ أن هذه الشروط الثلاثة (نية الجمع، والترتيب والموالاة) لا تجب في جمع التأخير على الصحيح.
الرابع - دوام السفر إلى الإحرام بالصلاة الثانية، حتى ولو انقطع سفره بعد ذلك أثناءها. أما إذا نقطع سفره قبل الشروع في الثانية، فلا يصح الجمع، لزوال السبب.
الخامس - بقاء وقت الصلاة الأولى يقينًا إلى عقد الصلاة الثانية.
السادس - ظن صحة الصلاة الأولى: فلو جمع العصر مع الجمعة في مكان تعددت فيه لغير حاجة، وشك في السبق والمعية، لا يصح جمع العصر معها جمع تقديم.
ويشترط لجمع التأخير شرطان فقط:
الأول - نية التأخير قبل خروج وقت الصلاة الأولى، ولو بقدر ركعة: أي بزمن لو ابتدئت فيه، كانت أداء. وإلا فيعصي، وتكون قضاء. ودليل اشتراط النية: أنه قد يؤخر للجمع، وقد يؤخر لغيره، فلا بد من نية يتميز بها التأخير المشروع عن غيره.
الثاني - دوام السفر إلى تمام الصلاة الثانية، فإن لم يدم إلى ذلك بأن أقام ولو في أثنائها، صارت الأولى (وهي الظهر أو المغرب) قضاء؛ لأنها تابعة للثانية في الأداء للعذر، وقد زال قبل تمامها.
أما الترتيب: فليس بواجب؛ لأن وقت الثانية وقت الأولى، فجاز البداية بما شاء منهما. وأما التتابع: فلا يجب أيضًا؛ لأن الأولى مع الثانية كصلاة فائتة مع صلاة حاضرة، فجاز التفريق بينهما. وإنما الترتيب والتتابع سنة، وليس بشرط.
أما سنة الصلاة:
فإذا جمع الظهر والعصر قدم سنة الظهر التي قبلها، وله تأخيرها، سواء أجمع تقديمًا
أم تأخيرًا، ولو توسيطها إن جمع تأخيرًا، سواء قدم الظهر أم العصر. وإذا جمع
المغرب والعشاء، أخر سنتهما، وله توسيط سنة المغرب إن جمع تأخيرًا، وقدم المغرب،
وتوسيط سنة العشاء إن جمع تأخيرًا وقدم العشاء. وما سوى ذلك ممنوع.
الحنابلة (١): يجوز جمع التقديم والتأخير في ثمان حالات:
إحداها - السفر الطويل المبيح للقصر، أي قصر الصلاة الرباعية: بأن يكون السفر غير حرام ولا مكروه، ويبلغ مسافة يومين، لأنه أي الجمع رخصة تثبت لدفع المشقة في السفر، فاختصت بالطويل كالقصر والمسح ثلاثًا.
الثانية - المرض: الذي يؤدي إلى مشقة وضعف بترك الجمع، لأن النبي ﷺ «جمع من غير خوف ولا مطر» وفي رواية «من غير خوف ولا سفر» (٢)، ولا عذر بعد ذلك إلا المرض، واحتج أحمد بأن المرض أشد من السفر. والمريض مخير في التقديم والتأخير كالمسافر، فإن استوى عنده الأمران فالتأخير أولى.
الثالثة - الإرضاع: يجوز الجمع لمرضع، لمشقة تطهير النجاسة لكل صلاة، فهي كالمريضة.
(١) كشاف القناع: ٣/ ٢ - ٨، المغني: ٢٧٣/ ٢ - ٢٨١.
(٢) رواهما مسلم من حديث ابن عباس.
الرابعة - العجز عن الطهارة بالماء أو التيمم لكل صلاة: يجوز الجمع لعاجز عنهما، دفعًا للمشقة؛ لأنه كالمسافر والمريض.
الخامسة - العجز عن معرفة الوقت: يجوز الجمع لعاجز عن ذلك كالأعمى.
السادسة - الاستحاضة ونحوها: يجوز الجمع لمستحاضة ونحوها كصاحب سلس بول أو مذي أو رعاف دائم ونحوه، لما جاء في حديث حَمْنة السابق حين استفتت النبي ﷺ في الاستحاضة، حيث قال فيه: «فإن قويت على أن تؤخري الظهر، وتعجلي العصر، فتغتسلين وتجمعين بين الصلاتين، فافعلي» (١) ومن به سلس البول ونحوه في معناها.
السابعة والثامنة: العذر أو الشغل: يجوز لمن له شغل، أو عذر يبيح ترك الجمعة والجماعة، كخوف على نفسه أو حرمته أو ماله، أو تضرر في معيشة يحتاجها بترك الجمع ونحوه. وهذا منفذ يلجأ إليه العمال وأصحاب المزارع للسقي في وقت النوبة (أو الدور).
والجمع للمطر: جائز بين المغرب والعشاء، كما قال المالكية، لما قال أبو سلمة ابن عبد الرحمن: «إن من السنة إذا كان يوم مطير أن يجمع بين المغرب والعشاء» (٢) وهذا ينصرف إلى سنة رسول الله ﷺ.
ولا يجوز الجمع بين الظهر والعصر، لقول أبي سلمة السابق، فلم يرد إلا في المغرب والعشاء. والجمع للمطر يكون في وقت الأولى، لفعل السلف، ولأن تأخير الأولى إلى وقت الثانية يفضي إلى لزوم المشقة والخروج في الظلمة، أو طول الانتظار في المسجد إلى دخول وقت العشاء. وإن اختار الناس تأخير الجمع جاز. والمطر المبيح للجمع: هو ما يبل الثياب، وتلحق المشقة بالخروج فيه.
(١) رواه أحمد وأبو داودوالترمذي وصححه.
(٢) رواه الأثرم.
والثلج والبرد كالمطر في ذلك. أما الطل والمطر الخفيف الذي لا يبل الثياب فلا يبيح.
وأما الوحل بمجرده فهو عذر في الأصح؛ لأن المشقة تلحق بذلك في النعال والثياب، كما تلحق بالمطر؛ لأن الوحل يلوث الثياب والنعال، ويعرض الإنسان للزلق فيتأذى به بنفسه وثيابه، وذلك أعظم من البلل.
وأما الريح الشديدة في الليلة المظلمة الباردة: فيبيح الجمع في الأصح؛ لأن ذلك عذر في الجمعة والجماعة، روى نافع عن ابن عمر، قال: «كان رسول الله ﷺ ينادي مناديه في الليلة المطيرة أو الليلة الباردة ذات الريح: صلوا في رحالكم» (١).
وهذه الأعذار كلها تبيح الجمع تقديمًا وتأخيرًا، حتى لمن يصلي في بيته، أو يصلي في مسجد ولو كان طريقه مسقوفًا، ولمقيم في المسجد ونحوه كمن بينه وبين المسجد خطوات يسيرة، ولو لم ينله إلا مشقة يسيرة.
وفعل الأرفق من جمع التقديم أو التأخير لمن يباح له أفضل بكل حال، لحديث معاذ السابق، المتضمن التخيير بحسب الحاجة بين التقديم والتأخير (٢)، وروى مالك عن معاذ: «وأخر النبي ﷺ الصلاة يومًا في غزوة تبوك، ثم خرج فصلى الظهر والعصر جميعًا، ثم دخل ثم خرج، فصلى المغرب والعشاء جميعًا» (٣)، فإن استويا فالتأخير أفضل لأنه أحوط، وفيه خروج من الخلاف، وعمل بالأحاديث كلها.
(١) رواه ابن ماجه.
(٢) رواه أحمد وأبو داود والترمذي. وروى الشافعي وأحمد نحوه عن ابن عباس (نيل الأوطار: ٢١٣/ ٣).
(٣) قال ابن عبد البر: هذا حديث ثابت الإسناد.
قال ابن تيمية: جمع رسول الله ﷺ بين الصلاتين في السفر والحضر أيضًا لئلا يحرج أمته، روى مسلم وغيره عن ابن عباس أنه قال: «صلى رسول الله ﷺ الظهر والعصر جميعًا، والمغرب والعشاء جميعًا من غير خوف ولا سفر» (١).
لكن الجمع في أثناء الحج يكون تقديمًا بين الظهر والعصر في عرفة، وتأخيرًا في المزدلفة بين المغرب والعشاء، لفعله ﷺ، لاشتغاله وقت العصر بعرفة بالدعاء، ووقت المغرب ليلة المزدلفة بالسير إليها.
شروط الجمع: يشترط لصحة الجمع مطلقًا تقديمًا وتأخيرًا: مراعاة الترتيب بين الصلوات، فيقدم الأولى على الثانية، ولا يسقط - على الصحيح في المذهب - الترتيب هنا بالنسيان، كما يسقط في قضاء الفوائت.
ويشترط لصحة جمع التقديم شروط أربعة أخرى:
الأول - نية الجمع عند الإحرام بالصلاة الأولى: لحديث «إنما الأعمال بالنيات».
الثاني - الموالاة: فلا يفرق بين المجموعتين إلا بقدر الإقامة والوضوء الخفيف؛ لأن معنى الجمع المتابعة والمقارنة، ولا يحصل ذلك مع التفريق الطويل، والخفيف أمر يسير وهو معفو عنه، وهما من مصالح الصلاة.
الثالث - وجود العذر المبيح للجمع من سفر أو مرض ونحوه عند افتتاح الصلاتين المجموعتين، وعند سلام الأولى؛ لأن افتتاح الأولى من موضع النية وفراغها، وافتتاح الثانية موضع الجمع، فلو انقطع المطر، ولم يوجد وحل بعده قبل ذلك، بطل الجمع.
(١) فتاوى ابن تيمية ٦٤/ ٢٤،٧٢ ومابعدها.
الرابع - دوام العذر إلى فراغ الثانية شرط في السفر والمرض: فلو انقطع السفر قبل ذلك، بطل الجمع. ولا يشترط دوام العذر إلى فراغ الثانية في جمع مطر ونحوه كثلج وبرد إن خلفه وحل.
ويشترط لجمع التأخير شرطان:
الأول - نية الجمع في وقت الصلاة الأولى ما لم يضق وقتها عن فعلها، فإن ضاق وقت الأولى عن فعلها، لم يصح الجمع؛ لأن تأخيرها إلى القدر الذي يضيق عن فعلها حرام، ويأثم بالتأخير.
الثاني - استمرار العذر إلى دخول وقت الثانية؛ لأن المجوِّز للجمع العذر، فإذا لم يستمر، وجب ألا يجوز، لزوال المقتضي، كالمريض يبرأ، والمسافر يقدم، والمطر ينقطع. ولا أثر لزوال العذر بعد دخول وقت الثانية؛ لأنهما صارتا واجبتين في ذمته، فلا بد له من فعلهما.
ويشترط الترتيب في كل من الجمعين، كما قدمنا. ولا تشترط الموالاة في جمع التأخير، فلا بأس بالتطوع بينهما، كما لا تشترط نية الجمع في الثانية؛ لأنها مفعولة في وقتها، فهي أداء بكل حال.
ولا يشترط في نوعي الجمع اتحاد إمام ولا مأموم، فلو تنوع الإمام في صلاتي الجمع، أو نوى الجمع إمامًا بمن لا يجمع، صح الجمع؛ لأن لكل صلاة حكم نفسها، وهي منفردة بنيتها.
وإذا بان فساد الأولى بعد الجمع بنسيان ركن أو غيره، بطلت الأولى والثانية.
السنن: إذا جمع في وقت الأولى: فله أن يصلي سنة الثانية منهما، ويوتر قبل دخول وقت الثانية؛ لأن سنتها تابعة لها، فيتبعها في فعلها ووقتها. وبما أن وقت الوتر: ما بين صلاة العشاء إلى صلاة الصبح، وقد صلى العشاء، فإن وقته يدخل بعد صلاة العشاء جمعًا.