اسم الكتاب الفِقْهُ الإسلاميُّ وأدلَّتُهُ الشَّامل للأدلّة الشَّرعيَّة والآراء المذهبيَّة وأهمّ النَّظريَّات الفقهيَّة وتحقيق الأحاديث النَّبويَّة وتخريجها
اسم المؤلف: د. وَهْبَة بن مصطفى الزُّحَيْلِيّ
المهنة:أستاذ ورئيس قسم الفقه الإسلاميّ وأصوله بجامعة دمشق - كلّيَّة الشَّريعة
الوفاة 8 أغسطس 2015 الموافق 23 شوال 1436 هـ
التصنيف: الفقه المقارن
المحتويات
- الباب الثاني: الصلاة
- صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم
- الفصل الأول: تعريف الصلاة، ومشروعيتها وحكمة تشريعها فرضيتها وفرائضها، حكم تارك الصلاة
- حقيقة الصلاة
- مشروعيتها
- تاريخها ونوع فرضيتها وفرائضها
- حكمة تشريع الصلاة
- فوائدها الدينية
- من فوائدها الشخصية
- من فوائدها الاجتماعية
- حكم تارك الصلاة
- وطريقة قتل تارك الصلاة عند الجمهور (غير الحنفية)
- دوام فرضية الصلاة طوال العمر
- الفصل الثاني: أوقات الصلاة
- الأوقات في السنة
- وقت الفجر
- وقت الظهر
- زوال الشمس
- يعرف الزوال
- وقت العصر
- وقت المغرب
- وقت العشاء
- وقت الوتر
- الوقت الأفضل أو المستحب
- متى تقع الصلاة أداء في الوقت؟
- الاجتهاد في الوقت
- تأخير الصلاة
- الأوقات المكروهة
- نوع الحكم المستفاد من النهي
- كراهة التنفل في أوقات أخرى
- الفصل الثالث: الأذان والإقامة
- معنى الأذان
- مشروعيته وفضله
- أولا ـ الأذان
- حكم الأذان
- عند الجمهور
- الأذان للفائتة وللمنفرد
- أكثر الحنابلة
- شروط الأذان
- دخول الوقت
- أن يكون باللغة العربية،
- يشترط في الأذان والإقامة إسماع بعض الجماعة، وإسماع نفسه إن كان منفردا.
- الترتيب والموالاة بين ألفاظ الأذان والإقامة
- كونه من شخص واحد
- أن يكون المؤذن مسلما عاقلا (مميزا)، رجلا،
- كيفية الأذان أو صيغته
- اختلفوا في الترجيع
- معاني كلمات الأذان
- سنن الأذان
- مكروهات الأذان
- إجابة المؤذن والمقيم
- ما يستحب بعد الأذان
- ثانيا ـ الإقامة
- صفة الإقامة أو كيفيتها
- أحكام الإقامة
- ملحق ـ الأذان لغير الصلاة
- العودة الي الفقه الإسلامي وأدلته للزحيلي
البَابُ الثَّاني: الصَّلاة (١)
وفيه عشرة فصول:
الفصل الأول - تعريف الصلاة، مشروعيتها وحكمة تشريعها، فرضيتها وفرائضها، حكم تارك الصلاة.
الفصل الثاني - أوقات الصلاة، وفيه بحث: متى تدرك الصلاة أداء؟
الفصل الثالث - الأذان والإقامة.
الفصل الرابع - شروط الصلاة (شروط التكليف بها أو الوجوب، وشروط بحث صلاة المريض.
الفصل الخامس - أركان الصلاة (أو فرائضها) وواجباتها عند الحنفية وفيه بحث صلاة المريض.
الفصل السادس - سنن الصلاة ومندوباتها وصفتها (كيفيتها) ومكروهاتها، والأذكار الواردة عقبها، وفيه بحث أمور مستقلة ثلاثة وهي: سترة المصلي، والقنوت، والوتر.
الفصل السابع - مفسدات أو مبطلات الصلاة.
الفصل الثامن - النوافل أو صلاة التطوع وترتيب أفضليتها.
الفصل التاسع - أنواع خاصة من السجود (سجود السهو، وسجدة التلاوة، وسجدة الشكر)، وقضاء الفوائت.
الفصل العاشر - أنواع الصلاة:
وفيه ثمانية مباحث:
المبحث الأول - صلاة الجماعة وأحكامها (الإمامة والاقتداء) وفيه بحث صلاة المسبوق، والاستخلاف والبناء على الصلاة.
المبحث الثاني - صلاة الجمعة وخطبتها.
المبحث الثالث - صلاة المسافر (الجمع والقصر).
المبحث الرابع - صلاة العيدين.
المبحث الخامس - صلاة الكسوف والخسوف.
المبحث السادس - صلاة الاستسقاء.
المبحث السابع - صلاة الخوف.
المبحث الثامن - صلاة الجنازة، وأحكام الجنائز والشهداء والقبور.
(١) الطهارة وسيلة، والصلاة مقصد وغاية، فتبحث
بعدها مباشرة.
صفة صلاة النبي ﷺ:
هذه صفة واضحة لصلاة النبي ﷺ، أثْبتها هنا قبل تفصيل الكلام عن الصلاة، كما رواها
المحدِّثون الثقات،
أخرج البخاري وأبو داود والترمذي عن محمد بن عمرو بن
عطاء قال: سمعت أبا حميد الساعديّ في عشرة من أصحاب رسول الله ﷺ منهم أبو قتادة -
قال أبو حميد:
أنا أعلمكم بصلاة رسول الله ﷺ، قالوا: فلِمَ؟ فوالله ما كنتَ
بأكثرنا له تَبَعًا، ولا أقدمنا له صحبةً، قال: بلى، قالوا: فاعرض، قال: كان رسول
الله ﷺ إذا قام إلى الصلاة، يرفع يديه حتى يُحاذِيَ بهما مَنْكِبيه، ثم يُكَبِّر
حتى يَقِرَّ كل عظم في موضعه معتدلًا، ثم يقرأ، ثم يكبر ويرفع يديه حتى يحاذي
بهما منكبيه معتدلًا، ثم يركع ويضع راحتيه على ركبتيه، ثم يعتدل ولا يَنْصِبُ
رأسه ولا يُقْنِعُ (١)، ثم يرفع رأسه فيقول: سمع الله لمن حمده، ثم يرفع يديه حتى
يحاذي بهما منكبيه معتدلًا، ثم يقول: الله أكبر، ثم يَهْوي (٢) إلى الأرض، فيجافي
يديه عن جنبيه، ثم يرفع أسه، ويُثْني رجله اليسرى فيقعد عليها (٣)، ويفتح أصابع
رجليه إذا سجد، ويسجد، ثم يقول: الله أكبر، ويرفع، ويُثْني رجله اليسرى فيقعد
عليها، حتى يرجع كل عظم إلى موضعه، ثم يصنع في الآخر مثل ذلك.
(١) يقنع: أي
لا يرفعه حتى يكون أعلى من ظهره.
(٢) الهويّ: السقوط من علو إلى أسفل.
(٣)
هذه تسمى قعدة الاستراحة.
ثم إذا قام من الركعتين، كبَّر ورفع
يديه حتى يحاذيَ بهما منكبيه، كما كبر عند افتتاح الصلاة، ثم يصنع ذلك في بقية
صلاته.
حتى إذا كانت السجدة التي فيها التسليم أخرَّ رجله، وقعد مُتَورِّكًا
(١) على شِقِّه الأيسر، قالوا: صدقت، هكذا كان يصلي ﷺ.
وفي رواية قال: «كنت
في مجلس من أصحاب رسول الله ﷺ، قال: اذكروا صلاته، فقال أبو حميد - فذكر بعض هذا
الحديث - فتذكر: فإذا ركع أمْكَن كفّيه من ركبتيه، وفرَّج بين أصابعه، وهَصَر (٢)
ظهره، غير مُقْنِع رأسه، ولا صافِحٍ بخدِّه (٣)، وقال: فإذا قعد في الركعتين، قعد
على بطن قدمه اليسرى، ونصب اليمنى، فإذا كان في الرابعة أفضى بوَرِكه اليسرى إلى
الأرض، وأخرج قدميه من ناحية واحدة».
وفي رواية أخرى: قال: «إذا سجد وضع
يديه غير مُفْترش (٤) ولا قابِضهما، واستقبل بأطراف أصابعه القبلة».
وفي
رواية قال: «ثم رفع رأسه - يعني من الركوع - فقال: سمع الله لمن حمده، اللهم ربنا
لك الحمد، ورفع يديه».
وأخرج أبو داود والترمذي والنسائي عن رفاعة بن رافع ﵁
حديثًا علَّم فيه النبي ﷺ رجلًا بدويًا كيفية الصلاة، حينما صلى فأخَفَّ صلاته،
فقال النبي ﷺ: «إنه لا تتم صلاةُ أحد من الناس حتى يتوضأ، فيضع الوضوء - يعني
(١)
التورك في الصلاة: القعود على الورك اليسرى، والوركان فوق الفخذين كالمنكبين فوق
العضدين.
(٢) هصر ظهره: أماله.
(٣) أي غير مُبْرز خده ولا مائل في أحد
الشِّقَّين.
(٤) الافتراش المنهي عنه: هو أن يبسط ذراعيه في السجود ولا
يرفعهما عن الأرض.
مواضعه - ثم يكبر، ويحمد الله ﷿، ويُثْني
عليه، ثم يقرأ بما شاء من القرآن، ثم يقول: الله أكبر، ثم يركع حتى تطمئن
مفاصلُه، ثم يرفع، ثم يقول: سمع الله لمن حمده، حتى يستوي قائمًا، ويقول: الله
أكبر، ثم يسجد، حتى تطمئن مفاصله، ثم يقول: الله أكبر، ويرفع رأسه حتى يستوي
قاعدًا، ثم يقول: الله أكبر، ثم يسجد حتى تطمئن مفاصلُه، ويرفع ثانية ليكبِّر،
فإذا فعل ذلك تمت صلاته».
الفَصْلُ الأوَّل: تعريف الصَّلاة، ومشروعيَّتها وحكمة تشريعها
فرضيَّتها وفرائضها، حكم تارك الصَّلاة
حقيقة الصلاة:
الصلاة لغة: الدعاء أو الدعاء بخير، قال تعالى: ﴿وصل عليهم إن صلاتك سَكَن لهم﴾ [التوبة:٩/ ٣٠١] أي ادع لهم. وشرعًا: هي أقوال وأفعال مخصوصة، مفتتحة بالتكبير، مختتمة بالتسليم.
مشروعيتها:
الصلاة واجبة بالكتاب والسنة والإجماع:
أما الكتاب: فقوله تعالى: ﴿وما أمروا
إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء، ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، وذلك دين
القيِّمة﴾ [البينة:٥/ ٨٩] وقوله سبحانه: ﴿فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة، واعتصموا
بالله هو مولاكم، فنعم المولى ونعم النصير﴾ [الحج:٢٢/ ٨٧]، مع آي كثيرة مثل: ﴿إن
الصلاة كانت على المؤمنين كتابًا موقوتًا﴾ [النساء:٤/ ٣٠١].
وأما السنة:
فأحاديث متعددة، منها: حديث ابن عمر عن النبي ﷺ أنه قال: «بني الإسلام على خمس،
شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، وإقامِ الصلاة، وإيتاء الزكاة،
وصوم رمضان، وحج البيت من استطاع إليه سبيلًا» (١)، وفي معناه حديث عمر بن الخطاب
﵁: «الإسلام: أن
(١) متفق عليه.
تشهد أن لا إله إلا الله،
وأن محمدًا رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن
استطعت إليه سبيلا» (١).
وأما الإجماع: فقد أجمعت الأمة على وجوب خمس صلوات
في اليوم والليلة.
تاريخها ونوع فرضيتها وفرائضها:
فرضت الصلاة ليلة الإسراء قبل الهجرة بنحو خمس سنين على المشهور بين أهل السير،
لحديث أنس، قال: «فرضت على النبي ﷺ الصلوات ليلة أسري به خمسين، ثم نقصت حتى جعلت
خمسًا، ثم نودي: يا محمد، إنه لا يبدل القول لدي، وإن لك بهذه الخمسة خمسين» (٢).
وقال بعض الحنفية: فرضت ليلة الإسراء قبل السبت سابع عشر من رمضان قبل الهجرة
بسنة ونصف. وجزم الحافظ ابن حجر بأنه ليلة السابع والعشرين من رجب، وعليه عمل أهل
الأمصار.
وهي فرض عين على كل مكلف (بالغ عاقل)، ولكن تؤمر بها الأولاد لسبع
سنين، وتضرب عليها لعشر، بيدٍ، لا بخشبة، لقوله ﷺ: «مُروا صبيانكم بالصلاة لسبع
سنين، واضربوهم عليها لعشر سنين، وفرِّقوا بينهم في المضاجع» (٣).
والصلوات
المكتوبات خمس في اليوم والليلة، ولا خلاف بين المسلمين في وجوبها، ولا يجب غيرها
إلا بنذر، للأحاديث السابقة، ولحديث الأعرابي:
(١) متفق عليه.
(٢) رواه
أحمد والنسائي وصححه الترمذي. وفي الصحيحين: «فرض الله على أمتي ليلة الإسراء
خمسين صلاة، فلم أزل أراجعه وأسأله التخفيف حتى جعلها خمسًا في كل يوم وليلة».
(٣)
رواه أحمد وأبو داود والحاكم والترمذي والدارقطني عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده
(نيل الأوطار:٢٩٨/ ١).
«خمس صلوات في اليوم والليلة» قال
الأعرابي: «هل علي غيرها؟ قال: «لا، إلا تطَّوع» (١) ولقوله ﷺ لمعاذ حين بعثه إلى
اليمن: «أخبرهم أن الله تعالى فرض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة» (٢).
وقال
أبو حنيفة ﵀: الوتر واجب، لقوله ﷺ: «إن الله قد زادكم صلاة، وهي الوتر» (٣) وهذا
يقتضي وجوبه، وقال ﵇: «الوتر واجب على كل مسلم» (٤).
حكمة تشريع الصلاة:
الصلاة أعظم فروض الإسلام
بعد الشهادتين، لحديث جابر: «بين الرجل وبين الكفر ترك الصلاة» (٥).
وقد
شرعت شكرًا لنعم الله تعالى الكثيرة، ولها فوائد دينية وتربوية على الصعيدين
الفردي والاجتماعي.
فمن فوائدها الدينية:
عقد الصلة بين العبد وربه، بما فيها من لذة المناجاة للخالق، وإظهار العبودية
لله، وتفويض الأمر له، والتماس الأمن والسكينة والنجاة في رحابه، وهي طريق الفوز
والفلاح، وتكفير السيئات والخطايا، قال تعالى: ﴿قد أفلح المؤمنون، الذين هم في
صلاتهم خاشعون﴾ [المؤمنون٢٣/ ١ - ٢]
(١) متفق عليه، تتمة الحديث: «فقال
الرجل: والذي بعثك بالحق لا أزيد عليها ولا أنقص منها، فقال الرسول: أفلح إن صدق»
(نيل الأوطار:٢٨٦/ ١).
(٢) متفق عليه عن ابن عباس: وكانت تلك البعثة سنة عشر
قبل حج النبي ﷺ (سبل السلام:١٢٠/ ٢).
(٣) ورواه ثمانية من الصحابة: خارجة بن
حذافة، وعمرو بن العاص، وعقبة بن عامر، وابن عباس، وأبو بصرة الغفاري، وعمرو بن
شعيب عن أبيه عن جده، وأبو سعيد الخدري، وكلها معلولة (نصب الراية:١٠٩/ ١).
(٤)
رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه وأحمد وابن حبان والحاكم عن أبي أيوب (نصب
الراية:١١٢/ ١).
(٥) رواه مسلم.
﴿إن الإنسان خلق هلوعًا،
إذا مسه الشر جزوعًا، وإذا مسه الخير منوعًا إلا المصلين﴾ [المعارج:٧٠/ ١٩ -
٢٠].
وقال ﷺ: «أرأيتم لو أن نَهَرًا بباب أحدكم، يغتسل فيه كل يوم خمس مرات،
هل يَبْقى من دَرَنه شيء؟ قالوا: لا يبقى من درنه شيء. قال: فكذلك مَثَل الصلوات
الخمس، يمحو الله بهن الخطايا» (١).
وفي حديث آخر عن أبي هريرة أيضًا أن
رسول الله ﷺ قال: «الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة كفارة لما بينهن، ما لم
تُغْشَ الكبائر» (٢). وعن عبد الله بن عمرو مرفوعًا: «إن العبد إذا قام يصلي،
أُتي بذنوبه فوضعت على رأسه أو على عاتقه، فكلما ركع أو سجد، تساقطت عنه» (٣) أي
حتى لا يبقى منها شيء إن شاء الله تعالى.
ومن فوائدها الشخصية:
التقرب بها إلى الله تعالى ومعراج النفس إلى ربها، قال الله تعالى: ﴿وما خلقت
الجن والإنس إلا ليعبدون﴾ [الذاريات:٥١/ ٥٦] وفيها تقوية النفس والإرادة،
والاعتزاز بالله تعالى دون غيره، والسمو عن الدنيا ومظاهرها، والترفع عن مغرياتها
وأهوائها، وعما يحلو في النفس مما لدى الآخرين من جاه ومال وسلطان، قال الله
تعالى: ﴿واستعينوا بالصبر والصلاة، وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين﴾ [البقرة:٢/
٤٥].
كما أن في الصلاة راحة نفسية كبيرة، وطمأنينة روحية، وبعدًا عن
الغفلة
(١) رواه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي من حديث أبي هريرة، ورواه
ابن ماجه من حديث عثمان (الترغيب والترهيب:٢٣٣/ ١).
(٢) رواه مسلم والترمذي
وغيرهما (المصدر السابق).
(٣) رواه ابن حبان في صحيحه.
التي
تصرف الإنسان عن رسالته السامية الخالدة في هذه الحياة، قال ﷺ: «حُبِّب إلي من
دنياكم: النساء والطيب، وجعلت قُرَّة عيني في الصلاة» (١)، وكان ﵇ فيما رواه أحمد
- إذا حَز به أمر (أي نزل به هم أو غم) قال: «أرحنا بها يا بلال» (٢).
وفي
الصلاة: تدرب على حب النظام والتزام التنظيم في الأعمال وشؤون الحياة، واحترا م
الوقت وتقديره لأدائها في أوقات منظمة، وبها يتعلم المرء خصال الحلم والأناة
والسكينة والوقار، ويتعود على حصر الذهن في المفيد النافع، لتركيز الانتباه في
معاني آي القرآن وعظمة الله تعالى ومعاني الصلاة.
كما أن الصلاة مدرسة خلقية
عملية انضباطية تربي فضيلة الصدق والأمانة، وتنهى عن الفحشاء والمنكر، قال الله
سبحانه: ﴿وأقم الصلاة، إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر﴾ [العنكبوت:٩٢/ ٥٤].
ومن فوائدها الاجتماعية:
إقرار العقيدة الجامعة لأفراد المجتمع، وتقويتها في نفسهم، وفي تنظيم
الجماعة في تماسكها حول هذه العقيدة، وفيها تقوية الشعور بالجماعة، وتنمية روابط
الانتماء للأمة، وتحقيق التضامن الاجتماعي، ووحدة الفكر والجماعة التي هي بمثابة
الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى.
وفي
صلاة الجماعة: فوائد عميقة وكثيرة، من أهمها إعلان مظهر المساواة، وقوة الصف
الواحد، ووحدة الكلمة، والتدرب على الطاعة في القضايا العامة أو المشتركة باتباع
الإمام فيما يرضي الله تعالى، والاتجاه نحو هدف واحد وغاية نبيلة سامية هي الفوز
برضوان الله تعالى.
(١) رواه أحمد والنسائي والحاكم والبيهقي عن أنس بن
مالك، وهو حديث حسن.
(٢) رواه أبو داود.
كما أن بها تعارف
المسلمين وتآلفهم، وتعاونهم على البر والتقوى، وتغذية الاهتمام بأوضاع وأحوال
المسلمين العامة، ومساندة الضعيف والسجين والملاحَق بتهمة والغائب عن أسرته
وأولاده. ويعد المسجد والصلاة فيه مقرًا لقاعدة شعبية منظمة متعاونة متآزرة،
تخرِّج القيادة، وتدعم السلطة الشرعية، وتصحح انحرافاتها وأخطاءها بالكلمة
الناصحة والموعظة الحسنة، والقول الليِّن، والنقد البناء الهادف؛ لأن «المؤمن
للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا» (١).
والصلاة تميِّز المسلم عن غيره، فتكون
طريقًا للثقة والائتمان، وبعث روح المحبة والمودة فيما بين الناس، جاء في الحديث:
«من استقبل قبلتنا، وصلى صلاتنا، وأكل ذبيحتنا، فهو المسلم، له ما للمسلم، وعليه
ما على المسلم» (٢).
حكم تارك الصلاة:
اتفق المسلمون على أن الصلاة واجبة على كل مسلم بالغ عاقل طاهر، أي غير ذي حيض أو
نفاس، ولا ذي جنون أو إغماء، وهي عبادة بدنية محضة لا تقبل النيابة أصلًا، فلا
يصح أن يصلي أحد عن أحد، كما لا يصح أن يصوم أحد عن أحد.
وأجمع المسلمون على
أن من جحد وجوب الصلاة، فهو كافر مرتد، لثبوت فرضيتها بالأدلة القطعية من القرآن
والسنة والإجماع، كما أبنت. ومن تركها تكاسلًا وتهاونًا فهو فاسق عاص، إلا أن
يكون قريب عهد بالإسلام، أو لم يخالط المسلمين مدة يبلغه فيها وجوب الصلاة.
وترك
الصلاة موجب للعقوبة الأخروية والدنيوية، أما الأخروية فلقوله تعالى: ﴿ما سلككم
في سَقَر؟ قالوا: لم نك من المصلين﴾ [المدثر:٧٤/ ٤٢ - ٤٣]
(١) رواه البخاري
ومسلم والترمذي والنسائي عن أبي موسى الأشعري ﵁.
(٢) أخرجه البخاري
والترمذي، وأبو داود والنسائي عن أنس ﵁ (جامع الأصول: ١٥٨/ ١ وما بعدها).
﴿فويل
للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون﴾ [الماعون:١٠٧/ ٤ - ٥]، ﴿فخلَف من بعدهم خَلْف
أضاعوا الصلاة، واتبعوا الشهوات، فسوف يلقون غيًّا﴾ [مريم:١٩/ ٥٩]. وقال ﷺ: «من
ترك الصلاة متعمدًا، فقد برئت منه ذمة الله ورسوله» (١).
وأما عقوبتها
الدنيوية لمن تركها كسلًا وتهاونًا، فلها أنماط عند الفقهاء.
فقال الحنفية
(٢): تارك الصلاة تكاسلًا فاسق يحبس ويضرب - على المذهب - ضربًا شديدًا حتى يسيل
منه الدم، حتى يصلي ويتوب، أو يموت في السجن ومثله تارك صوم رمضان، ولا يقتل حتى
يجحد وجوبهما، أو يستخف بأحدهما كإظهار الإفطار بلا عذر تهاونًا، بدليل قوله ﷺ:
«لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك
لدينه المفارق للجماعة» (٣).
وأضاف الحنفية: أنه يحكم بإسلام فاعل الصلاة
بشروط أربعة: أن يصلي الوقت، مع جماعة، أو يؤذن في الوقت، أو يسجد للتلاوة عند
سماع آية سجدة، ولا يحكم بإسلام الكافر في ظاهر الرواية إن صام أوحج أو أدى
الزكاة.
وقال الأئمة الآخرون (٤): تارك الصلاة بلا عذر ولو ترك صلاة واحدة.
يستتاب ثلاثة أيام كالمرتد (٥)، وإلا قتل إن لم يتب، ويقتل عند المالكية
والشافعية
(١) رواه أحمد بإسناده عن مكحول، وهو مرسل جيد.
(٢) الدر
المختار:٣٢٦/ ١، مراقي الفلاح: ص٦٠.
(٣) متفق عليه عن ابن مسعود ﵁.
(٤)
القوانين الفقهية: ص٤٢، بداية المجتهد:٨٧/ ١، الشرح الصغير:٢٣٨/ ١، مغني
المحتاج:٣٢٧/ ١ ومابعدها، المهذب:٥١/ ١، كشاف القناع:٢٦٣/ ١ ومابعدها،
المغني:٤٤٢/ ٢.
(٥) الاستتابة عند الشافعية والجمهور مندوبة هنا، أما
استتابة المرتد فواجبة لأن الردة تخلد في النار، فوجب إنقاذه منها، بخلاف ترك
الصلاة كسلًا لا يكفر.
حدًا، لا كفرًا، أي لا يحكم بكفره وإنما
يعاقب كعقوبة الحدود الأخرى على معاصي الزنى والقذف والسرقة ونحوها، وبعد الموت
يغسل ويصلى عليه، ويدفن مع المسلمين. ودليلهم على عدم تكفير تارك الصلاة قوله
تعالى: ﴿إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء﴾ [النساء:٤/ ٤٨]،
وأحاديث متعددة منها: حديث عبادة بن الصامت: «خمس صلوات كتبهن الله على العباد،
من أتى بهن لم يضيِّع منهن شيئًا استخفافًا بحقهن، كان له عند الله عهد أن يُدخله
الجنة، ومن لم يأت بهن فليس له عند الله عهد، إن شاء عذبه، وإن شاء غفَر له»
(١).
وحديث أبي هريرة: «إن أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة: الصلاة
المكتوبة، فإن أتمها، وإلا قيل: انظروا هل له من تطوع؟ فإن كان له تطوع، أُكملت
الفريضة من تطوعه، ثم يُفعل بسائر الأعمال المفروضة مثلُ ذلك» (٢) فلا يكفر بترك
الصلاة؛ لأن الكفر بالاعتقاد، واعتقاده صحيح، ويكفر إن تركها جاحدًا وجوبها.
وتأولوا الأحاديث الآتية التي استدل بها الحنابلة بأنها محمولة على المستحل أو
المستحق عقوبة الكافر وهي القتل.
وقال الإمام أحمد ﵀ (٣): يقتل تارك الصلاة
كفرًا أي بسبب كفره، لقوله تعالى: ﴿فإذا انسلخ الأشهر الحُرُم، فاقتلوا المشركين
حيث وجدتموهم، وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد، فإن تابوا وأقاموا الصلاة
وآتوا الزكاة، فخلوا سبيلهم، إن الله غفور رحيم﴾ [التوبة:٩/ ٥]، فمن ترك الصلاة،
لم يأت بشرط التخلية، فيبقى على إباحة القتل، فلا يخلى من لم يقم الصلاة.
(١)
رواه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه (نيل الأوطار:٢٩٤/ ١).
(٢) رواه
الخمسة، وهناك أحاديث أخرى في موضوع هذين الحديثين (نيل الأوطار:٢٩٥/ ١
ومابعدها).
(٣) المغني:٤٤٢/ ٢ - ٤٤٧.
ولقوله ﷺ: «بين الرجل
وبين الكفر: ترك الصلاة» (١) فهويدل على أن ترك الصلاة من موجبات الكفر.
ومثله
حديث بُرَيْدة: «العهد الذي بيننا وبينكم الصلاة، فمن تركها فقد كفر» (٢) وهو يدل
على أن تارك الصلاة يكفر.
ورجح الشوكاني هذا الرأي، فقال: والحق أنه كافر
يقتل. ولا يمنع بعض أنواع الكفر من المغفرة واستحقاق الشفاعة.
وإني أميل إلى
الرأي الأول وهو الحكم بعدم كفر تارك الصلاة، للأدلة الكثيرة القاطعة بعدم خلود
المسلم في النار بعد النطق بالشهادتين، قال ﷺ: «من قال: لا إله إلا الله، وكفر
بما يُعبد من دون الله، حرُم ماله ودمه، وحسابه على الله» (٣) وقال ﵇ أيضًا:
«يخرج من النار: من قال: لا إله إلا الله، وفي قلبه وزن شعيرة من خير، ويخرج من
النار: من قال: لا إله إلا الله، وفي قلبه وزن بُرَّة من خير، ويخرج من النار: من
قال: لا إله إلا الله، وفي قلبه مثقال ذرة من خير» (٤).
وطريقة قتل تارك الصلاة
عند الجمهور (غير الحنفية): هو ضرب عنقه بالسيف، إن لم يتب.
دوام فرضية الصلاة طوال العمر:
لا تسقط الصلاة بحال حضرًا أو سفرًا أو
(١) رواه الجماعة إلا البخاري
والنسائي (نيل الأوطار:٢٩١/ ١).
(٢) رواه الخمسة، وابن حبان والحاكم، وصححه
النسائي والعراقي، وهناك أحاديث أخرى في موضوعه (انظر نيل الأوطار:٢٩٣/ ١
ومابعدها).
(٣) أخرجه مسلم عن طارق الأشجعي ﵁ (جامع الأصول:١٦١/ ١).
(٤)
أخرجه البخاري عن أنس ﵁. والبرة مفرد البُرّ من القمح.
مرضًا،
فيلزم المسلم بالصلاة ما دام حيًا، ولم يصبح في حال غيبوبة أو فقد الوعي، وإنما
يسر الإسلام كيفية أداء الصلاة كما في صلاة الخوف، وصلاة المريض بحسب القدرة من
قيام أو قعود أو على جنب أواستلقاء أو بالرأس أو بالأعين أو إجراء الأركان على
القلب. ومن كان ملطخًا بالدم إثر عملية جراحية، أو مربوطًا بكيس يصب فيه الدم
مثلًا، أو مجبَّر الكسور، يصلي على هذه الحال بوضوء أو تيمم بحسب القدرة، ثم يعيد
الصلاة، بعد الشفاء احتياطًا.
الفَصْلُ الثَّاني: أوقاتُ الصَّلاة
الأوقات في السنة:
حددت السنة النبوية مواقيت الصلاة تحديدًا دقيقًا لأول الوقت (١) وآخره،
روى جابر بن عبد الله أن النبي ﷺ جاءه جبريل ﵇، فقال له: قم، فصلِّهْ، فصلى الظهر
حين زالت الشمس، ثم جاءه العصر، فقال: قم فصلِّه، فصلى العصر، حين صار ظل كل شيء
مثلَه، ثم جاءه المغرب، فقال: قم فصله، فصلى المغرب حين وَجَبت الشمس (غربت)، ثم
جاءه العشاء، فقال: قم فصله، فصلى العشاء حين غاب الشَّفَق، ثم جاءه الفجر، فقال:
قم فصله، فصلى الفجر حين بَرَق الفجر، أو قال: سطع الفجر.
ثم جاءه من الغد
للظهر، فقال: قم فصلِّهْ، فصلى الظهر، حين صار كل شيء مثله، ثم جاءه العصر، فقال:
قم فصلِّهْ، فصلى العصر حين صار ظل كل شيء مثليه، ثم جاءه المغرب وقتًا واحدًا،
لم يزُل عنه، ثم جاءه العشاء حين ذهب نصف الليل، أو قال: ثلث الليل، فصلى العشاء،
ثم جاءه حين أسفر جدًا، فقال: قم فصَلِّهْ، فصلى الفجر، ثم قال: ما بين هذين
الوقتين وقت» (٢) وهو يدل على أن للصلوات وقتين، إلا المغرب.
(١) الوقت: هو
الزمان المقدر للعبادة شرعًا، المختار.
(٢) رواه أحمد والنسائي، والترمذي
بنحوه، وقال البخاري: هو أصح شيء في المواقيت (نيل الأوطار:٣٠٠/ ١).
وهناك
حديث آخر في تحديد وقت المغرب عن عقبة بن عامر: أن النبي ﷺ قال: لا تزال أمتي
بخير، أو على الفطرة ما لم يؤخروا المغرب، حتى تشتبك النجوم» (١) وهو يدل على
استحباب المبادرة بصلاة المغرب، وكراهة تأخيرها إلى اشتباك النجوم.
وقد أوضح
الفقهاء بناء على ذلك وقت كل صلاة على النحو الآتي (٢)، وأجمع المسلمون على أن
الصلوات الخمس مؤقتة بمواقيت معلومة محدودة، ثبتت في أحاديث صحاح جياد، وتجب
الصلاة بأول الوقت وجوبًا موسعًا إلى أن يبقى من الوقت ما يسعها فيضيق الوقت
حينئذ. وفي المناطق القطبية ونحوها يقدرون الأوقات بحسب أقرب البلاد إليهم، أو
بميقات مكة المكرمة.
وقت الفجر
يبدأ من طلوع الفجر الصادق إلى طلوع الشمس. والفجر الصادق: هو البياض
المنتشر ضوءه معترضًا في الأفق. ويقابله الفجر الكاذب: وهو الذي يطلع مستطيلًا
متجهًا إلى الأعلى في وسط السماء، كذنب السِرْحان (٣)، أي الذئب، ثم تعقبُه
ظُلْمة. والأول: هو الذي تتعلق به الأحكام الشرعية كلها من بدء الصوم ووقت الصبح
وانتهاء وقت العشاء، والثاني: لا يتعلق به شيء من الأحكام،
(١) رواه أحمد
وأبو داود والحاكم في المستدرك (نيل الأوطار:٣/ ٢).
(٢) فتح القدير:١٥١/ ١ -
١٦٠، الدر المختار:٣٣١/ ١ - ٣٤٣، اللباب:٥٩/ ١ - ٦٢، القوانين الفقهية: ص٤٣
ومابعدها، الشرح الصغير:٢١٩/ ١ - ٢٣٨، الشرح الكبير:١٧٦/ ١ - ١٨١، مغني
المحتاج:١٢١/ ١ - ١٢٧، المهذب:٥١/ ١ - ٥٤، بجيرمي الخطيب:٣٥٤/ ١، المغني:٣٧٠/ ١ -
٣٩٥، كشاف القناع:٢٨٩/ ١ - ٢٩٨.
(٣) السرحان مشترك بين الذئب والأسد،
والمراد أنه يشبه ذنب السرحان الأسود، لأن الفجر الكاذب بياض مختلط بسواد،
والسرحان الأسود: لونه مظلم، وباطن ذنبه أبيض.
بدليل قوله ﵇:
«الفجر فجران: فجر يحرِّم الطعام وتحل فيه الصلاة، وفجر تحرم فيه الصلاة - أي
صلاة الصبح - ويحل فيه الطعام» (١).
وفي حديث عبد الله بن عمرو عند مسلم:
«ووقت صلاة الصبح من طلوع الفجر، ما لم تطلع الشمس» وما بعد طلوع الشمس إلى وقت
الظهر يعتبر وقتًا مهملًا لا فريضة فيه.
- وقت الظهر
من زوال الشمس إلى مصير ظل كل شيء مثله، سوى ظل أو فيء الزوال. وهذا رأي الصاحبين المفتى به عند الحنفية والأئمة الثلاثة. وظاهر الرواية وهو رأي أبي حنيفة: أن آخر وقت الظهر: أن يصير ظل كل شيء مِثْليْه، إلا أن هذا الوقت هو وقت العصر بالاتفاق، فتقدم الصلاة عن هذا الوقت؛ لأن الأخذ بالاحتياط في باب العبادات أولى.
وزوال الشمس:
هو ميلها عن وسط السماء، ويسمى بلوغ الشمس إلى وسط (أو كبد) السماء: حالة
الاستواء، وإذا تحولت الشمس من جهة المشرق إلى جهة المغرب حدث الزوال.
ويعرف الزوال:
بالنظر إلى قامة الشخص، أو إلى شاخص أو عمود منتصب في أرض مستوية (مسطحة)، فإذا
كان الظل ينقص فهو قبل الزوال، وإن وقف لايزيد ولا ينقص، فهو وقت الاستواء، وإن
أخذ الظل في الزيادة علم أن الشمس زالت.
فإذا زاد ظل الشيء على ظله حالة
الاستواء، أو مالت الشمس إلى جهة
(١) رواه ابن خزيمة والحاكم وصححاه (سبل
السلام:١١٥/ ١).
المغرب، بدأ وقت الظهر، وينتهي وقته عند
الجمهور بصيرورة ظل الشيء مثله في القدر والطول، مع إضافة مقدار ظل أو فيء
الاستواء، أي الظل الموجود عند الزوال.
ودليل الجمهور: أن جبريل ﵇ صلى
بالنبي ﷺ في اليوم التالي حين صار ظل كل شيء مثله، ولا شك أن هذا هو الأقوى.
ودليل أبي حنيفة قوله ﵇: «أبردوا بالظهر، فإن شدة الحر من فيح جهنم» (١). وأشد
الحر في ديارهم كان في هذا الوقت يعني إذا صار ظل كل شيء مثله. ودليل الكل على
بدء وقت الظهر قوله تعالى: ﴿أقم الصلاة لدلوك الشمس﴾ [الإسراء:١٧/ ٧٨] أي
زوالها.
- وقت العصر:
يبدأ من خروج وقت الظهر، على الخلاف بين القولين المتقدمين، وينتهي بغروب
الشمس، أي أنه يبدأ من حين الزيادة على مثل ظل الشيء، أدنى زيادة عند الجمهور، أو
من حين الزيادة على مثلي الظل عند أبي حنيفة، وينتهي الوقت بالاتفاق قبيل غروب
الشمس، لحديث: «من أدرك من الصبح ركعة قبل أن تطلع الشمس، فقد أدرك الصبح، ومن
أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس، فقد أدرك العصر» (٢).
ويرى أكثر
الفقهاء: أن صلاة العصر تكره في وقت اصفرار الشمس لقوله ﷺ: «تلك صلاة المنافق،
يجلس يرقُب الشمس، حتى إذا كانت بين قَرْني
(١) رواه البخاري من حديث أبي
هريرة بلفظ «إذا اشتد الحر، فأبردوا عن الصلاة، فإن شدة الحر من فيح جهنم» (نصب
الراية:٢٢٨/ ١).
(٢) رواه الأئمة الستة في كتبهم، وهذا اللفظ لمسلم من حديث
أبي هريرة (المرجع السابق).
الشيطان، قام فنَقَرها أربعًا، لا
يذكر الله إلا قليلًا» (١) وقوله ﵇: «وقت العصر مالم تصفر الشمس» (٢).
وصلاة
العصر: هي الصلاة الوسطى عند أكثر العلماء، بدليل ما روت عائشة عن النبي ﷺ أنه
قرأ: ﴿حافظوا على الصلوات، والصلاة الوسطى﴾ [البقرة:٢/ ٢٣٨]، والصلاة الوسطى:
صلاة العصر (٣) وعن ابن مسعود وسمرة قالا: قال النبي ﷺ: «الصلاة الوسطى: صلاة
العصر» (٤) وسميت وسطى لأنها بين صلاتين من صلاة الليل، وصلاتين من صلاة
النهار.
والمشهور عند مالك: أن صلاة الصبح هي الوسطى، لما روى النسائي عن
ابن عباس قال: «أدلج رسول الله ﷺ، ثم عرّس، فلم يستيقظ حتى طلعت الشمس أو بعضها،
فلم يصل حتى ارتفعت الشمس، فصلى وهي صلاة الوسطى، والرأي الأول أصح لصحة الأحاديث
فيه».
- وقت المغرب
من غروب الشمس بالإجماع، أي غياب قرصها بكامله، ويمتد عند الجمهور (الحنفية
والحنابلة والأظهر عند الشافعية وهو مذهب الشافعي القديم) إلى مغيب الشَّفَق،
لحديث: «وقت المغرب ما لم يغب الشفق» (٥).
(١) رواه الجماعة إلا البخاري
وابن ماجه. عن أنس ﵁ (نيل الأوطار:٣٠٧/ ١) وقوله بين قرني الشيطان إما حقيقة أو
مجاز عن سلطانه وغلبة أعوانه.
(٢) رواه مسلم عن عبد الله بن عمرو ﵁، وفي
معناه حديث آخر عن أبي هريرة، ويؤيده فعل النبي ﷺ في حديث بريدة «أن النبي ﷺ صلى
العصر في اليوم الثاني، والشمس بيضاء نقية لم تخالطها صفرة».
(٣) رواه أبو
داود والترمذي، وقال: حديث صحيح.
(٤) قال الترمذي: حسن صحيح. هذا وقد أورد
الشوكاني ستة عشر قولًا في بيان الصلاة الوسطى (نيل الأوطار:٣١١/ ١).
(٥)
رواه مسلم عن عبد الله بن عمرو (سبل السلام:١٠٦/ ١).
والشفق عند
الصاحبين والحنابلة والشافعية: هو الشفق الأحمر، لقول ابن عمر: «الشفق: الحمرة»
(١) والفتوى عند الحنفية على قول الصاحبين، وقد رجع الإمام إليه، وهو المذهب.
وعند
أبي حنيفة: هو البياض الذي يستمر في الأفق ويبقى عادة بعد الحمرة، ثم يظهر
السواد، وبين الشفقين تفاوت يقدر بثلاث درجات، والدرجة أربع دقائق.
ودليله
قوله ﵊: «وآخر وقت المغرب إذا اسود الأفق» (٢) وهو ما روي عن أبي بكر وعائشة
ومعاذ وابن عباس.
والمشهور عند المالكية ومذهب الشافعي الجديد غير الأظهر
المعمول به لدى الشافعية: أن وقت المغرب ينقضي بمقدار وضوء وستر عورة وأذان
وإقامة وخمس ركعات، أي أن وقته مضيق غير ممتد؛ لأن جبريل ﵇ صلى بالنبي ﵊ في
اليومين في وقت واحد، كما ذكر في حديث جابر المتقدم، فلو كان للمغرب وقت آخر
لبينه، كما بين وقت بقية الصلوات. ورد بأن جبريل إنما بين الوقت المختار، وهو
المسمى بوقت الفضيلة، وأما الوقت الجائز وهو محل النزاع فليس فيه تعرض له.
(١)
رواه الدارقطني وصححه ابن خزيمة، وغيره وقفه على ابن عمر، وتمام الحديث «فإذا غاب
الشفق وجبت الصلاة» وأخرجه ابن خزيمة في صحيحه من حديث ابن عمر مرفوعًا: «ووقت
صلاة المغرب إلى أن تذهب حمرة الشفق» (سبل السلام:١١٤/ ١) قال النووي: والصحيح
أنه موقوف على ابن عمر.
(٢) نص الحديث هو ما أخرجه الترمذي عن أبي هريرة:
«وإن آخر وقتها - أي المغرب - حين يغيب في الأفق» وغيبوبته بسقوط البياض الذي
يعقب الحمرة. لكنه حديث لم يصح سندًا (نصب الراية:٢٣٠/ ١) وروي عن ابن مسعود أنه
قال: «رأيت رسول الله ﷺ يصلي هذه الصلاة حين يسود الأفق».
- وقت العشاء
يبدأ في المذاهب من مغيب الشفق الأحمر على المفتى به عند الحنفية إلى طلوع الفجر
الصادق، أي قبيل طلوعه لقول ابن عمر المتقدم: «الشفق الحمرة، فإذا غاب الشفق وجبت
الصلاة» ولحديث أبي قتادة عند مسلم: «ليس في النوم تفريط، إنما التفريط على من لم
يصل الصلاة حتى يجيء وقت الصلاة الأخرى». فإنه ظاهر في امتداد وقت كل صلاة إلى
دخول وقت الصلاة الأخرى إلا الفجر، فإنها مخصوصة من هذا العموم بالإجماع.
وأما
الوقت المختار للعشاء فهو إلى ثلث الليل أو نصفه، لحديث أبي هريرة: «لولا أن أشق
على أمتي لأمرتُهم أن يؤخروا العشاء إلى ثلث الليل أو نصفه» (١)، وحديث أنس: «أخر
النبي ﷺ صلاة العشاء إلى نصف الليل ثم صلى» (٢) وحديث ابن عمرو: «وقت صلاة العشاء
إلى نصف الليل» (٣).
وأما حديث عائشة «أعتم النبي ﷺ ذات ليلة حتى ذهب عامة
الليل، حتى نام أهل المسجد، ثم خرج فصلى، فقال: إنه لوقتها لولا أن أشق على أمتي»
(٤) فهو وإن كان فيه إشعار بامتداد وقت اختيار العشاء إلى ما بعد نصف الليل.
ولكنه مؤول بأن المراد بعامة الليل: كثير منه، وليس المراد أكثره.
وأول وقت الوتر:
بعد صلاة العشاء، وآخر وقتها مالم يطلع الفجر.
(١) رواه أحمد وابن ماجه
والترمذي وصححه (نيل الأوطار:١١/ ٢).
(٢) متفق عليه (المرجع السابق:
ص١٢).
(٣) رواه أبو داود وأحمد ومسلم والنسائي (نيل الأوطار:٣٠٦/ ١).
(٤)
رواه مسلم والنسائي (المرجع السابق: ١٢/ ١) وأعتم: دخل في العتمة أي آخرها.
الوقت الأفضل أو المستحب:
للفقهاء آراء في بيان أفضل وقت كل صلاة أو الوقت المستحب، فقال الحنفية
(١): يستحب للرجال الإسفار بالفجر، لقوله ﷺ: «أسفروا بالفجر، فإنه أعظم للأجر»
(٢) والإسفار: التأخير للإضاءة. وحد الإسفار: أن يبدأ بالصلاة بعد انتشار البياض
بقراءة مسنونة، أي أن يكون بحيث يؤديها بترتيل نحو ستين أو أربعين آية، ثم يعيدها
بطهارة لو فسدت. ولأن في الإسفار تكثير الجماعة وفي التغليس تقليلها، وما يؤدي
إلى التكثير أفضل، وليسهل تحصيل ما ورد عن أنس من حديث حسن: «من صلى الفجر في
جماعة، ثم قعد يذكر الله تعالى حتى تطلع الشمس، ثم صلى ركعتين، كانت كأجر حجة
تامة، وعمرة تامة».
وأما النساء: فالأفضل لهن الغَلَس (الظلمة)؛ لأنه أستر،
وفي غير الفجر يَنْتَظِرْن فراغ الرجال من الجماعة. وكذلك التغليس أفضل للرجل
والمرأة لحاج بمزدلفة.
ويستحب في البلاد الحارة وغيرها الإبراد بالظهر في
الصيف، بحيث يمشي في الظل، لقوله ﷺ السابق: «أبردوا بالظهر، فإن شدة الحر من فيح
جهنم» ويستحب تعجيله في الشتاء والربيع والخريف، لحديث أنس عند البخاري: «كان
النبي ﷺ إذا اشتد البرد بكَّر بالصلاة، وإذا اشتد الحر أبرد بالصلاة» (٣).
ويستحب
تأخير العصر مطلقًا، توسعة لأداء النوافل، ما لم تتغير الشمس
(١) اللباب:٦١/
١ ومابعدها، فتح القدير والعناية:١٥٦/ ١ وما بعدها.
(٢) رواه سبعة من
الصحابة وهم رافع بن خديج عند أصحاب السنن الأربعة، وبلال، وأنس، وقتادة بن
النعمان، وابن مسعود، وأبو هريرة، وحواء الأنصارية. قال الترمذي: حديث حسن صحيح
(نصب الراية:٢٣٥/ ١).
(٣) نصب الراية:٢٤٤/ ١.
بذهاب ضوئها،
فلا يتحير فيها البصر، سواء في الشتاء أم الصيف، لما فيه من التمكن من تكثير
النوافل، لكراهتها بعد العصر.
ويستحب تعجيل المغرب مطلقًا، فلا يفصل بين
الأذان والإقامة إلا بقدر ثلاث آيات أو جلسة خفيفة؛ لأن تأخيرها مكروه لما فيه من
التشبه باليهود، ولقوله ﵇: «لا تزال أمتي بخير أو قال: على الفطرة، ما لم يؤخروا
المغرب إلى أن تشتبك النجوم» (١).
ويستحب تأخير العشاء إلى ما قبل ثلث الليل
الأول، في غير وقت الغيم، فيندب تعجيله فيه، للأحاديث السابقة: «لولا أن أشق على
أمتي لأمرتهم أن يؤخروا العشاء إلى ثلث الليل أو نصفه».
ويستحب في الوتر لمن
يألف صلاة الليل ويثق بالانتباه: أن يؤخر الوتر إلى آخر الليل، ليكون آخر صلاته
فيه، فإن لم يثق من نفسه بالانتباه أوتر قبل النوم، لقوله ﷺ: «من خاف ألا يقوم
آخر الليل، فليوتر أوله، ومن طمع أن يقوم آخر الليل، فليوتر آخره، فإن صلاة الليل
مشهودة، وذلك أفضل» (٢).
وقال المالكية (٣): أفضل الوقت مطلقًا لظهر أو
غيره، لفرد أو جماعة، في شدة الحر أو غيره أوله، فهو رضوان الله، لقوله ﷺ لمن
سأله: أي العمل أحب إلى الله؟ قال: الصلاة على وقتها» (٤) أو «الصلاة في أول
وقتها» وعن ابن عمر
(١) رواه أبو داود في سننه (نصب الراية:٢٤٦/ ١).
(٢)
أخرجه مسلم عن جابر بن عبد الله ﵁ (نصب الراية:٢٤٩/ ١).
(٣) الشرح
الصغير:٢٢٧/ ١ ومابعدها، الشرح الكبير والدسوقي:١٧٩/ ١ ومابعدها، القوانين
الفقهية: ص٤٣.
(٤) رواه البخاري والدارقطني وغيرهما عن ابن مسعود، وقال
الحاكم: إنه على شرط الشيخين، ولفظ الصحيحين: «الصلاة لوقتها».
مرفوعًا:
«الصلاة في أول الوقت: رضوان الله، وفي آخره عفو الله» (١) فالأفضل تقديم الصبح
والعصر والمغرب.
لكن الأفضل على المشهور تأخير الظهر لربع القامة بعد ظل
الزوال صيفًا وشتاء، أي التأخير بمقدار ذراع بأن يصيرظل الشخص بمقدار ربع قامته
زيادة على ظل الزوال، وندب التأخير لربع القامة لمن ينتظر أداء الصلاة جماعة أو
كثرتها، لتحصيل فضل الجماعة، وإذا كان الوقت وقت شدة الحر ندب تأخير الظهر
للإبراد، أي الدخول في وقت البرد.
كما أن الأفضل في قول ضعيف في المدونة
تأخير العشاء قليلًا في المساجد، والراجح كما حقق الدسوقي ندب تقديم العشاء
للجماعة مطلقًا.
والخلاصة: أن المبادرة في أول الوقت مطلقًا هو الأفضل، إلا
في حال انتظار الفرد جماعة للظهر وغيره، وفي حال الإبراد بالظهر أي لأجل الدخول
في وقت البرد.
وقال الشافعية (٢): يسن تعجيل الصلاة ولو عشاء لأول الوقت،
إلا الظهر، فيسن الإبراد بالظهر في شدة الحر، للأحاديث السابقة المذكورة في مذهب
المالكية، والحنفية، والأصح: اختصاص التأخير للإبراد ببلد حار، وجماعة مسجد ونحوه
كمدرسة، يقصدونه من مكان بعيد.
ويكره تسمية المغرب عشاء والعشاء عتْمة للنهي
عنه (٣)، ويكره النوم قبل
(١) رواه الترمذي: وقال الشافعي رضي الله تعالى
عنه: رضوان لله إنما يكون للمحسنين والعفو يشبه أن يكون للمقصرين.
(٢) مغني
المحتاج:١٢٥/ ١ وما بعدها، المهذب:٥٣/ ١.
(٣) أما النهي عن الأول في خبر
البخاري: «لا تغلبنكم الأعراب على اسم صلاتكم المغرب، وتقول الأعراب: هي العشاء»
وأما النهي عن الثاني ففي خبر مسلم: «لا تغلبنكم الأعراب على اسم صلاتكم، ألا
إنها العشاء، وهم يُعتمون بالإبل» وفي رواية «بحلاب الإبل» معناه أنهم يسمونها
العتمة لكونهم يعتمون بحلاب الإبل، أي يؤخرونه إلى شدة الظلام. وروى الحديث
الثاني أيضًا أحمد والنسائي وابن ماجه. (نيل الأوطار:١٦/ ٢).
صلاة
العشاء والحديث بعدها إلا في خير، لما رواه الجماعة عن أبي بَرْزة الأسلمي أن
النبي ﷺ «كان يستحب أن يؤخر العشاء التي يدعونها العَتْمة، وكان يكره النوم
قبلها، والحديث بعدها».
وقال الحنابلة (١): الصلاة في أول الوقت أفضل إلا
العشاء، والظهر في شدة الحر، والمغرب في حالة الغيم، أما العشاء فتأخيرها إلى آخر
وقتها المختار وهو ثلث الليل أو نصفه أفضل، ما لم يشق على المأمومين أو على
بعضهم، فإنه يكره، عملًا بقول النبي ﷺ السابق: «لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم أن
يؤخروا العشاء إلى ثلث الليل أو نصفه» ولأنه ﷺ «كان يأمر بالتخفيف رفقًا بهم».
وأما
الظهر فيستحب الإبراد به على كل حال في وقت الحر، ويستحب تعجيلها في وقت العشاء،
عملًا بالحديث السابق: «إذا اشتد الحر فأبردوا، فإن شدة الحر من فيح جهنم».
وأما
حالة الغيم: فيستحب تأخير الظهر والمغرب أثناءه، وتعجيل العصر والعشاء؛ لأنه وقت
يخاف منه العوارض من المطر والريح والبرد، فيكون في تأخير الصلاة الأولى من أجل
الجمع بين الصلاتين في المطر، وفي تعجيل الثانية دفع للمشقة التي قد تحصل بسبب
هذه العوارض.
ولا يستحب عند الحنابلة تسمية العشاء العتمة، وكان ابن عمر إذا
سمع رجلًا يقول (العتمة) صاح وغضب، وقال: (إنما هو العشاء).
والخلاصة: أن
الفقهاء اتفقوا على أن الوقت الأفضل هو أول وقت كل صلاة، واستحب الحنفية الإسفار
بصلاة الصبح، وقال الجمهور: التغليس بها
(١) المغني:٣٨٥/ ١ - ٣٩٥، كشاف
القناع: ٢٩١/ ١ - ٢٩٥.
أفضل، واستحب الكل الإبراد بالظهر،
واستحب الحنفية تأخير العصر، واستحب المالكية للفرد التأخير رجاء إدراك صلاة
الجماعة، واستحب الحنابلة تأخير العشاء، وتأخير الظهر والمغرب للجمع بين الصلاتين
في حالة الغيم بسبب المطر.
متى تقع الصلاة أداء في الوقت؟
من المعلوم أن الصلاة إذا أديت كلها في الوقت المخصص لها فهي أداء، وإن فعلت مرة
ثانية في الوقت لخلل غير الفساد فهي إعادة، وإن فعلت بعد الوقت فهي قضاء،
والقضاء: فعل الواجب بعد وقته.
أما إن أدرك المصلي جزءًا من الصلاة في الوقت
فهل تقع أداء؟ للفقهاء رأيان: الأول للحنفية، والحنابلة على الراجح، والثاني
للمالكية والشافعية.
الرأي الأول - للحنفية والحنابلة في أرجح الروايتين عن
أحمد (١): تدرك الفريضة أداء كلها بتكبيرة الإحرام في وقتها المخصص لها، سواء
أخرها لعذر كحائض تطهر، ومجنون يفيق، أو لغير عذر، لحديث عائشة: أن النبي ﷺ قال:
«من أدرك سجدة من العصر قبل أن تغرب الشمس، أو من الصبح قبل أن تطلع الشمس، فقد
أدركها» (٢) وللبخاري «فليتم صلاته» وكإدراك المسافر صلاة المقيم، وكإدراك
الجماعة، ولأن بقية الصلاة تبع لما وقع في الوقت.
الرأي الثاني - للمالكية،
والشافعية (٣) في الأصح: تعد الصلاة جميعها أداء في الوقت إن وقع ركعة بسجدتيها
في الوقت، وإلا بأن وقع أقل من ركعة فهي
(١) الدر المختار:٦٧٧/ ١، كشاف
القناع:٢٩٨/ ١، المغني:٣٧٨/ ١.
(٢) رواه مسلم وأحمد والنسائي وابن ماجه، لكن
ذكر مسلم: والسجدة إنما هي الركعة.
(٣) الشرح الصغير:٢٣١/ ١، القوانين
الفقهية: ص٤٦، مغني المحتاج:١٣٦/ ١، المهذب:٥٤/ ١، نهاية المحتاج:٢٨٠/ ١.
قضاء،
لخبر الصحيحين: «من أدرك ركعة من الصلاة، فقد أدرك الصلاة» (١) أي مؤداة. ومفهومه
أن من لم يدرك ركعة لا يدرك الصلاة مؤداة، والفرق بين الأمرين: أن الركعة مشتملة
على معظم أفعال الصلاة، وغالب ما بعدها كالتكرار لها، فكان تابعًا لها. وهذا
الرأي فيما يظهر أصح لأن المراد بالسجدة الركعة، بدليل ما ذكر مسلم، وبدليل ما
رواه الجماعة بلفظ «من أدرك من الصبح ركعة ...» الخ.
الاجتهاد في الوقت:
من جهل الوقت بسبب عارض غيم أو حبس في بيت مظلم (٢)، وعدم ثقة يخبره به عن
علم، ولم يكن معه ساعة تؤقت له، اجتهد بما يغلب على ظنه دخوله بوِرْد من قرآن
ودرس ومطالعة وصلاة ونحوه كخياطة وصوت ديك مجرَّب، وعمل على الأغلب في ظنه.
والاجتهاد
يكون واجبًا إن عجز عن اليقين بالصبر أو غيره كالخروج لرؤية الفجر أو الشمس
مثلًا، وجائزًا إن قدر عليه.
وإن أخبره ثقة من رجل أو امرأة بدخول الوقت عن
علم، أي مشاهدة، عمل به؛ لأنه خبر ديني يرجع في المجتهد إلى قول الثقة كخبر
الرسول ﷺ. أما إن أخبره عن اجتهاد فلا يقلده؛ لأن المجتهد لا يقلد مجتهدًا
آخر.
وإذا شك في دخول الوقت، لم يصل حتى يتيقن دخوله، أو يغلب على ظنه ذلك،
وحينئذ تباح له الصلاة، ويستحب تأخيرها قليلًا احتياطًا لتزداد غلبة ظنه، إلا أن
يخشى خروج الوقت.
(١) نيل الأوطار:١٥١/ ٣.
(٢) انظر مغني المحتاج:١٢٧/
١، المغني:٣٨٦/ ١،٣٩٥، بجيرمي الخطيب:٣٥٥/ ١ ومابعدها، نهاية المحتاج: ٢٨١/ ١
ومابعدها.
وإن تيقن أن صلاته وقعت قبل الوقت، ولو بإخبار عدل
مقبول الرواية عن مشاهدة، قضى في الأظهر عند الشافعية وعند أكثر العلماء، وإلا أي
إن لم يتيقن وقوعها قبل الوقت، فلا قضاء عليه. ودليل القضاء: ما روي عن ابن عمر
وأبي موسى أنهما أعادا الفجر؛ لأنهما صلياها قبل الوقت، ولأن الخطاب بالصلاة
يتوجه إلى المكلف عند دخول وقتها، فإن لم تبرأ الذمة منه بقي بحاله.
تأخير الصلاة:
يجوز تأخير الصلاة إلى آخر الوقت لقوله ﷺ فيما رواه الدارقطني عن جرير بن عبد الله: «أول الوقت رضوان الله وآخره عفو الله» ولأنا لو لم نجوز التأخير لضاق على الناس، فسمح لهم بالتأخير. لكن من أخر الصلاة عمدًا، ثم خرج الوقت وهو فيها، أثم وأجزأته (١).
الأوقات المكروهة:
ثبت في السنة النهي عن الصلاة في أوقات خمسة، ثلاثة منها في حديث، واثنان
منها في حديث آخر.
أما الثلاثة ففي حديث مسلم عن عقبة بن عامر الجُهَني:
«ثلاث ساعات كان رسول الله ﷺ ينهانا أن نصلِّي فيهن، وأن نقبُر فيهن موتانا: حين
تطلعُ الشمس بازغة حتى ترتفع (٢)، وحين يقوم قائم الظهيرة (٣) حتى تزول الشمس
(٤)، وحين تتضيَّف (٥) الشمس لغروب».
(١) المهذب:٥٣/ ١، المحرر في الفقه
الحنبلي:٢٨/ ١.
(٢) بين حديث عمرو بن عبسة قدر ارتفاعها بلفظ «وترتفع قَيْس
- أي قدر-رمح أو رمحين» رواه أبو داود والنسائي. وطول الرمح:٥٠،٢م أو سبعة أذرع
في رأي العين تقريبًا، وقال المالكية: اثنا عشر شبرًا.
(٣) ورد في حديث ابن
عبسة «حتى يعدل الرمح ظله» ومعنى قوله (قائم الظهيرة): قيام الشمس وقت
الاستواء.
(٤) أي تميل عن كبد السماء أي وسطها.
(٥) أي تميل (راجع
الحديثين في سبل السلام:١١١/ ١ وما بعدها).
وهذه الأوقات
الثلاثة تختص بأمرين: دفن الموتى والصلاة.
وأما الوقتان الآخران ففي حديث
البخاري ومسلم عن أبي سعيد الخدري قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: «لا صلاة بعد
الصبح حتى تطلع الشمس، ولا صلاة بعد العصر حتى تغيب الشمس» ولفظ مسلم: «لا صلاة
بعد صلاة الفجر» وهذان الوقتان يختصان بالنهي عن الصلاة فقط.
فالأوقات
الخمسة هي ما يأتي:
١ً - ما بعد صلاة الصبح حتى ترتفع الشمس كرُمح في رأي
العين.
٢ً - وقت طلوع الشمس حتى ترتفع قدر رُمح أي بعد طلوعها بمقدار ثلث
ساعة.
٣ً - وقت الاستواء (١) إلى أن تزول الشمس، أي يدخل وقت الظهر.
٤ً
- وقت اصفرار الشمس حتى تغرب.
٥ً - بعد صلاة العصر حتى تغرب الشمس.
والحكمة
من النهي عن الصلاة في هذه الأوقات وتحريم النوافل فيها: هي أن الأوقات الثلاثة
الأولى ورد تعليل النهي عن الصلاة فيها في حديث عمرو بن عبسة عند مسلم وأبي داود
والنسائي: وهو أن الشمس عند طلوعها تطلع بين قرني شيطان، فيصلي لها الكفار، وعند
قيام قائم الظهيرة تسجر (توقد) جهنم وتفتح أبوابها، وعند الغروب تغرب بين قرني
شيطان، فيصلي لها الكفار. فالحكمة هي إما التشبه بالكفار عبدة الشمس، أو لكون
الزوال وقت غضب.
(١) التعبير به أولى من التعبير بوقت الزوال؛ لأن وقت
الزوال لا تكره فيه الصلاة إجماعًا؛ لأن زوال الشمس يحدث عقب انتصاف النهار.
وأما
حكمة النهي عن النوافل بعد الصبح وبعد العصر فهي ليست لمعنى في الوقت، وإنما
الوقت كالمشغول حكمًا بفرض الوقت، وهو أفضل من النفل الحقيقي.
وأما نوع الحكم المستفاد من النهي:
فهو حرمة النافلة عند الحنابلة في الأوقات الخمسة، وعند المالكية في
الأوقات الثلاثة، والكراهة التنزيهية في الوقتين الآخرين.
والكراهة
التحريمية عند الحنفية في الأوقات الخمسة، وهو المعتمد عند الشافعية (١) في
الأوقات الثلاثة، والكراهة التنزيهية في مشهور مذهب الشافعية في الوقتين
الآخرين.
والحرمة أو الكراهة التحريمية (٢) تقتضي عدم انعقاد الصلاة على
الخلاف الآتي.
وأما نوع الصلاة المكروهة ففيها خلاف بين الفقهاء.
أولًا
- الأوقات الثلاثة (الشروق والغروب والاستواء) قال الحنفية (٣): يكره تحريمًا
فيها كل صلاة مطلقًا، فرضًا أو نفلًا، أو واجبًا، ولو قضاء لشيء واجب في الذمة،
أو صلاة جنازة أو سجدة تلاوة أو سهو، إلا يوم الجمعة على المعتمد المصحح، وإلا
فرض عصر اليوم أداء.
(١) مراقي الفلاح: ص٣١، الدر المختار:٣٤٣/ ١، الشرح
الصغير:٢٤١/ ١، مغني المحتاج:١٢٨/ ١، حاشية الباجوري:١٩٦/ ١، كشاف القناع:٥٢٨/ ١،
المغني:١٠٧/ ١ وما بعدها.
(٢) بالرغم من أن كلًا من الحرام والمكروه تحريمًا
يقتضي الإثم، إلا أن الحرام: هو ما ثبت بدليل قطعي لا يحتمل التأويل من كتاب أو
سنة أو إجماع أو قياس. وكراهة التحريم: ما ثبتت بدليل يحتمل التأويل.
(٣)
فتح القدير مع العناية:١٦١/ ١ - ١٦٦، مراقي الفلاح: ص٣١، الدر المختار:١/ ٣٤٣ -
٣٤٩.
والكراهة تقتضي عدم انعقاد الفرض وما يلحق به من الواجب
كالوتر، وينعقد النفل بالشروع فيه مع كراهة التحريم، فإن طرأ الوقت المكروه على
صلاة شرع فيها فتبطل إلا صلاة جنازة حضرت فيها، وسجدة تليت آيتها فيها، وعصر
يومه، والنفل والنذر المقيد بها، وقضاء ما شرع به فيها ثم أفسده، فتنعقد هذه
الستة بلا كراهة أصلًا، في الأولى منها، ومع الكراهة التنزيهية في الثانية،
والتحريمية في البواقي.
ودليلهم عموم النهي عن الصلاة في هذه الأوقات. وأما
عدم صحة القضاء؛ فلأن الفريضة وجبت كاملة فلا تتأدى بالناقص.
ولا يصح أداء
فجر اليوم عند الشروق، لوجوبه في وقت كامل فيبطل في وقت الفساد، إلا العوام فلا
يمنعون من ذلك؛ لأنهم يتركونها، والأداء الجائز عند البعض أولى من الترك.
ويصح
أداء العصر مع الكراهة التحريمية، لحديث أبي هريرة: «من أدرك ركعة من العصر قبل
أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر» (١).
ويصح مع الكراهة التنزيهية أداء سجدة
التلاوة المقروءة في وقت النهي أو أداء صلاة منذورة فيه أو نافلة شرع بأدائها
فيه، لوجوبها في هذا الوقت. كذلك تصح صلاة الجنازة إذا حضرت في وقت مكروه لحديث
الترمذي: «يا علي ثلاثة لا تؤخرها: الصلاة إذا أتت، والجنازة إذا حضرت، والأيّم
إذا وجدت لها كفؤًا».
(١) رواه الجماعة بلفظ «من أدرك من الصبح ركعة قبل أن
تطلع الشمس فقد أدرك الصبح، ومن أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس، فقد أدرك
العصر» (نيل الأوطار:٢١/ ٢)
وقد رد الحنفية على التفرقة بين
العصر والصبح مع أن هذا الحديث يسوي بينهما: بأن التعارض لما وقع بينه وبين النهي
عن الصلاة في الأوقات الثلاثة، رجعنا إلى القياس، كما هو حكم التعارض، فرجحنا حكم
هذا الحديث في صلاة العصر، وحكم النهي في صلاة الفجر (رد المحتار:٣٤٦/ ١) والحق
أن هذه التفرقة لدي غير مقبولة، لأنه يلزم عليها العمل ببعض الحديث وترك بعضه.
ودليل المصحح المعتمد، وهو قول أبي يوسف، في إباحة النفل يوم الجمعة وقت الزوال:
هو حديث أبي هريرة في مسند الشافعي ﵀: «أن رسول الله ﷺ نهى عن الصلاة نصف النهار
حتى تزول الشمس إلا يوم الجمعة» (١).
ثانيًا - الوقتان الآخران (بعد صلاتي
الفجر والعصر): يكره تحريمًا أيضًا التنفل فيهما، ولو بسنة الصبح أو العصر إذا لم
يؤدها قبل الفريضة أو بتحية مسجد، أو منذور، وركعتي طواف، وسجدتي سهو، وصلاة
جنازة؛ لأن الكراهة كانت لشغل الوقت بصاحب الفريضة الأصلية، فإذا أديت لم تبق
كراهة بشغله بفرض آخر أو واجب لعينه، لكن عدم الكراهة في القضاء بما بعد العصر
مقيد بما قبل تغير الشمس، أما بعده فلا يجوز فيه القضاء أيضًا، وإن كان قبل أن
يصلي العصر.
وقال المالكية (٢):
يحرم النفل لا الفرض في الأوقات
الثلاثة، ويجوز قضاء الفرائض الفائتة فيها وفي غيرها، ومن النفل عندهم: صلاة
الجنازة، والنفل المنذور، والنفل المفسد، وسجود السهو البعدي، لأن ذلك كله سنة،
عملًا بمقتضى النهي السابق الثابت في السنة.
ويكره تنزيهًا النفل في الوقتين
الآخرين (بعد طلوع الفجر وبعد أداء العصر) إلى أن ترتفع الشمس بعد طلوعها قدر رمح
(٣)، وإلى أن تصلي المغرب، إلا صلاة الجنازة وسجود التلاوة بعد صلاة الصبح قبل
إسفار الصبح، وما بعد العصر قبل
(١) لكن سنده ضعيف (سبل السلام:١١٣/ ١).
(٢)
الشرح الصغير:٢٤١/ ١ ومابعدها، القوانين الفقهية: ص٤٦، الشرح الكبير:١٨٦/ ١
ومابعدها.
(٣) المقصود رمح من رماح العرب،،وقدره اثنا عشر شبر بشبر
متوسط.
اصفرار الشمس فلا يكره بل يندب، وإلا ركعتي الفجر، فلا
يكرهان بعد طلوع الفجر، لأنهما رغيبة كما سيأتي.
ويقطع المتنفل صلاته وجوبًا
إن أحرم بوقت تحرم فيه الصلاة، وندبًا إن أحرم بوقت كراهة، ولا قضاء عليه.
وقال
الشافعية (١):
تكره صلاة النافلة تحريمًا على المعتمد في الأوقات الثلاثة،
وتنزيهًا (٢) في الوقتين الآخرين. ولا تنعقد الصلاة في الحالتين؛ لأن النهي إذا
رجع لذات العبادة أو لازمها اقتضى الفساد، سواء أكان للتحريم أم للتنزيه. ويأثم
الفاعل في الحالتين أيضًا؛ لأن الكراهة التنزيهية وإن كانت لا تقتضي الإثم
عمومًا، لكنها في هذه الحالة يأثم بها المصلي، بسبب التلبس بعبادة فاسدة. ويعزر
من صلى في الأوقات المنهي عنها.
واستثنى الشافعية حالات لا كراهة فيها وهي
ما يأتي:
١ً - يوم الجمعة: لا تكره الصلاة عند الاستواء يوم الجمعة،
لاستثنائه في خبر البيهقي عن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة قالا: «كان رسول الله ﷺ
ينهى عن الصلاة نصف النهار إلا يوم الجمعة» (٣) وخبر أبي داود عن أبي قتادة نحوه،
ولفظه: «وكره النبي ﷺ الصلاة نصف النهار إلا يوم الجمعة، وقال: إن جهنم تسجر إلا
يوم الجمعة» (٤).
(١) مغني المحتاج: ١٢٨/ ١ ومابعدها، حاشية الباجوري: ١٩٦/
١ ومابعدها.
(٢) الفرق بين كراهة التحريم وكراهة التنزيه: أن الأولى تقتضي
الإثم، والثانية لاتقتضيه.
(٣) لكنه ضعيف (سبل السلام:١١٣/ ١ ومابعدها).
(٤)
قال أبو داود: إنه مرسل، وفيه ليث بن أبي سليم، وهو ضعيف، إلا أنه أيده فعل أصحاب
النبي ﷺ، فإنهم كانوا يصلون نصف النهار يوم الجمعة، ولأنه ﷺ حث على التبكير
إليها، ثم رغب في الصلاة إلى خروج الإمام من غير تخصيص ولا استثناء (سبل السلام:
١١٤/ ١).
والأصح عندهم جواز الصلاة في هذا الوقت، سواء أحضر إلى
الجمعة أم لا.
٢ً - حرم مكة: الصحيح أنه لا تكره الصلاة في هذه الأوقات في
حرم مكة لخبر جبير بن مطعم قال: قال رسول الله ﷺ: «يا بني عبد مناف، لا تمنعوا
أحدًا طاف بهذا البيت، وصلى أية ساعة شاء من ليل أو نهار» (١) ولما فيه من زيادة
فضل الصلاة فلا تكره بحال، لكنها خلاف الأولى خروجًا من الخلاف.
٣ً - الصلاة
ذات السبب غير المتأخر، كفائتة، وكسوف، وتحية مسجد، وسنة الوضوء وسجدة شكر؛ لأن
الفائتة وتحية المسجد وركعتي الوضوء لها سبب متقدم، وأما الكسوف وصلاة الاستسقاء
وصلاة الجنازة وركعتا الطواف فلها سبب متقدم، وأما الكسوف وصلاة الاستسقاء وصلاة
الجنازة وركعتا الطواف فلها سبب مقارن. والفائتة فرضًا أو نفلًا تقضى في أي وقت
بنص الحديث: «من نام عن صلاة أو نسيها، فليصلها إذا ذكرها» (٢) وخبر الصحيحين
«أنه ﷺ صلى بعد العصر ركعتين، وقال: هما اللتان بعد الظهر» والكسوف وتحية المسجد
ونحوهما معرضان للفوات، وفي الصحيحين عن أبي هريرة «أنه ﷺ قال لبلال: حدثني بأرجى
عمل عملته في الإسلام، فإني سمعت دَفَّ نعليك (٣) بين يدي في الجنة؟ قال: ما عملت
عملًا أرجى عندي من أني لم أتطهر طهورًا في ساعة من ليل أو نهار، إلا صليت بذلك
الطهور ما كتب الله لي أن أصلي».
(١) رواه الخمسة وصححه الترمذي وابن حبان،
وأخرجه الشافعي والدارقطني وابن خزيمة والحاكم أيضًا (المصدر السابق).
(٢)
متفق عليه.
(٣) الدَّف: صوت النعل وحركته على الأرض والمراد: تحريكه كما قال
البخاري في صحيحه (٣٨٦/ ١ ط البغا).
وفي سجدة الشكر: ورد في
الصحيحين أيضًا توبة كعب بن مالك: «أنه سجد سجدة للشكر بعد صلاة الصبح قبل طلوع
الشمس».
أما ما له سبب متأخر كركعتي الاستخارة والإحرام: فإنه لا ينعقد،
كالصلاة التي لا سبب لها.
وقال الحنابلة (١):
يجوز قضاء الفرائض
الفائتة في جميع أوقات النهي وغيرها، لعموم الحديث السابق: «من نام عن صلاة أو
نسيها، فليصلها إذا ذكرها» ولحديث أبي قتادة: «ليس في النوم تفريط، وإنما التفريط
في اليقظة، فإذا نسي أحدكم صلاة أو نام عنها فليصلها إذا ذكرها» (٢).
ولو
طلعت الشمس وهو في صلاة الصبح أتمها، خلافًا للحنفية، للحديث السابق: «إذا أدرك
سجدة من صلاة الصبح قبل أن تطلع الشمس، فليتم صلاته».
ويجوز فعل الصلاة
المنذورة في وقت النهي، ولو كان نذرها فيه، خلافًا للحنفية؛ لأنها صلاة واجبة،
فأشبهت الفريضة الفائتة وصلاة الجنازة.
ويجوز فعل ركعتي الطواف، للحديث
السابق عند الشافعية: «يا بني عبد مناف، لا تمنعوا أحدًا طاف بهذا البيت وصلى في
أي ساعة شاء من ليل أو نهار».
وتجوز صلاة الجنازة في الوقتين (بعد الصبح
وبعد العصر) وهو رأي جمهور الفقهاء، ولا تجوز صلاة الجنازة في الأوقات الثلاثة
(الشروق والغروب والاستواء) إلا أن يخاف عليها فتجوز مطلقًا للضرورة، ودليلهم على
المنع قول
(١) المغني:١٠٧/ ٢ - ١٢٢، كشاف القناع:٥٢٨/ ١ - ٥٣١.
(٢)
رواه النسائي والترمذي وصححه، وأبو داود (نيل الأوطار:٢٧/ ٢). عقبة بن عامر
السابق: «ثلاث ساعات كان رسول الله ﷺ ينهانا أن نصلي فيهن، وأن نقبر فيهن
موتانا».
وتجوز إعادة جماعة في أي وقت من أوقات النهي بشرط أن
تقام وهو في المسجد، أو يدخل المسجد وهم يصلون، سواء أكان صلى جماعة أم وحده، لما
روى يزيد بن الأسود، قال: «صليت مع النبي ﷺ صلاة الفجر، فلما قضى صلاته، إذا هو
برجلين لم يصليا معه، فقال: ما منعكما أن تصليا معنا؟ فقالا: يا رسول الله، قد
صلينا في رحالنا، فقال: لا تفعلا، إذا صليتما في رحالكما، ثم أتيتما مسجد جماعة،
فصلِّيا معهم، فإنها لكم نافلة» (١) وهذ نص في الفجر، وبقية الأوقات مثله، ولأنه
متى لم يعد لحقته تهمة في حق الإمام.
ويحرم التطوع بغير الصلوات المستثناة
السابقة في شيء من الأوقات الخمسة، للأحاديث المتقدمة، سواء أكان التطوع مما له
سبب كسجود تلاوة وشكر وسنة راتبة كسنة الصبح إذا صلاها بعد صلاة الصبح، أو بعد
العصر، وكصلاة الكسوف والاستسقاء وتحية المسجد وسنة الوضوء، أم ليس له سبب كصلاة
الاستخارة، لعموم النهي، وإنما ترجح عمومها على أحاديث التحية وغيرها، لأنها
حاظرة وتلك مبيحة، والحاظر مقدم على المبيح، وأما الصلاة بعد العصر فمن خصائصه ﷺ.
لكن تجوز فقط تحية المسجد يوم الجمعة إذا دخل والإمام يخطب، فيركعهما، للحديث
السابق «أن النبي ﷺ نهى عن الصلاة نصف النهار إلا يوم الجمعة».
ويجوز في
الصحيح قضاء السنن الراتبة بعد العصر؛ لأن النبي ﷺ فعله، فإنه قضى الركعتين
اللتين بعد الظهر بعد العصر في حديث أم سلمة.
والصحيح
(١) رواه أبو
داود والترمذي وقال: حديث حسن صحيح.
في الركعتين قبل العصر أنها
لا تقضى، لما روت عائشة «أن النبيصلّى الله عليه وسلم صلاهما، فقلت له: أتقضيهما
إذا فاتتا؟ قال: لا» (١) ويجوز قضاء سنة الفجر بعد صلاة الفجر، إلا أن أحمد اختار
أن يقضيهما من الضحى خروجًا من الخلاف.
والمشهور في المذهب أنه لا يجوز قضاء
السنن في سائر أوقات النهي.
ولا فرق بين مكة وغيرها في المنع من التطوع في
أوقات النهي، لعموم النهي.
كما لا فرق في وقت الزوال بين الجمعة وغيرها، ولا
بين الشتاء والصيف، لعموم الأحاديث في النهي.
كراهة التنفل في أوقات أخرى:
كره الحنفية والمالكية التنفل في أوقات أخرى هي ما يأتي (٢)، علمًا بأن
الكراهة تحريمية عند الحنفية في كل ما يذكر هنا:
١ ً - ما بعد طلوع الفجر
قبل صلاة الصبح:
قال الحنفية: يكره تحريمًا التنفل حينئذ بأكثر من سنة
الفجر، وقال بعض الشافعية بكراهة التنزيه في هذا الوقت، والمشهور في المذهب
خلافه، كما أن الصحيح عند الحنابلة جواز التنفل في هذا الوقت؛ لأن أحاديث النهي
الصحيحة
(١) رواه ابن النجار في الجزء الخامس من حديثه.
(٢) الدر
المختار:٣٤٩/ ١ - ٣٥١، مراقي الفلاح: ص٣١، فتح القدير:١٦٦/ ١، القوانين الفقهية:
ص٤٦، الشرح الكبير: ١٨٧/ ١، الشرح الصغير:٢٤٢/ ١ ومابعدها، ٥١١، ٥١٣، ٥٣١، مغني
المحتاج:١٢٩/ ١ ومابعدها، ٣١٣، المحلي على المنهاج مع قليوبي وعميرة:١١٩/ ١،
الحضرمية:٣٢ ومابعدها، المغني:١١٦/ ٢ - ١١٩، ١٢٩، ١٣٥، ٣٨٧، كشاف القناع:٤٧/ ٢،
٦٣.
ليست صريحة في النهي قبل صلاة الفجر، وإنما فيه حديث ابن
عمر، وهو غريب، فيجوز بناء عليه صلاة الوتر قبل الفجر.
وقال المالكية: يكره
تنزيهًا الصلاة تطوعًا بعد الفجر قبل الصبح، ويجوز فيه قضاء الفوائت وركعتا
الفجر، والوتر، والوِرْد، أي ما وظفه من الصلاة ليلًا على نفسه.
ودليل
الحنفية والمالكية على الكراهة حديث ابن عمر: «لا صلاة بعد الفجر إلا الركعتين
قبل صلاة الفجر» (١).
٢ ً - ما قبل صلاة المغرب:
يكره التنفل عند
الحنفية والمالكية قبل صلاة المغرب، للعمومات الواردة في تعجيل المغرب، منها حديث
سلمة بن الأكوع: «أن رسول الله ﷺ كان يصلي المغرب إذا غَرَبَتْ الشمس وتوارت
بالحجاب» (٢) وحديث عقبة بن عامر: «لا تزال أمتي بخير أو على الفطرة، ما لم
يؤخروا المغرب حتى تشتبك النجوم» (٣) والتنفل يؤدي إلى تأخير المغرب، والمبادرة
إلى أداء المغرب مستحبة.
وقال الشافعية على المشهور: يستحب صلاة ركعتين قبل
المغرب، وهي سنة غير مؤكدة، وقال الحنابلة: إنهما جائزتان وليستا سنة، ودليلهم:
ما أخرجه ابن حبان من حديث عبد الله بن مغفل «أن النبي ﷺ صلى قبل المغرب ركعتين»
وقال
(١) رواه الطبراني في معجمه الوسط، لكن تفرد به عبد الله بن خراش، فهو
غريب كما قال الترمذي، ورواه الدارقطني بلفظ: «ليبلغ شاهدكم غائبكم أن لا صلاة
بعد الفجر إلا ركعتين». وفيه شخص مختلف فيه، ورواه أبو داود والترمذي بلفظ: «لا
صلاة بعد الفجر إلا سجدتين» لكنه حديث غريب (نصب الراية:٢٥٥/ ١ ومابعدها).
(٢)
رواه الجماعة إلا النسائي (نيل الأوطار: ٢/ ٢).
(٣) رواه أحمد وأبو داود
والحاكم (المصدر السابق: ٣/ ٢).
أنس: «كنا نصلي على عهد رسول
الله ﷺ ركعتين بعد غروب الشمس قبل صلاة المغرب» (١) وعن عبد الله بن مُغَفَّل أن
رسول الله ﷺ قال: «صلوا قبل المغرب ركعتين، ثم قال: صلوا قبل المغرب ركعتين، ثم
قال عند الثالثة: لمن شاء كراهية أن يتخذها الناس سنة» (٢).
قال الشوكاني:
والحق أن الأحاديث الواردة بشرعية الركعتين قبل المغرب مخصصة لعموم أدلة استحباب
التعجيل.
٣ ً - أثناء خطبة الإمام في الجمعة والعيد والحج والنكاح والكسوف
والاستسقاء:
يكره لدى الحنفية والمالكية التنفل عند خروج الخطيب حتى يفرغ من
الصلاة، لحديث أبي هريرة: «إذا قلت لصاحبك يوم الجمعة: أنصت، والإمام يخطب فقد
لغوت» (٣)، وأضاف المالكية أنه يكره التنفل بعد صلاة الجمعة أيضًا إلى أن ينصرف
الناس من المسجد.
وكذلك يكره التنفل تنزيهًا في هذه الحالة عند الشافعية
والحنابلة إلا تحية المسجد إن لم يخش فوات تكبيرة الإحرام، ويجب عليه أن يخففهما
بأن يقتصر على الواجبات، فإن لم يكن صلى سنة الجمعة القبلية نواها مع التحية إذ
لا يجوز له الزيادة على ركعتين، ولا تنعقد صلاة غير التحية عند الشافعية. ودليلهم
خبر الصحيحين: «إذا دخل أحدكم المسجد، فلا يجلس حتى يصلي ركعتين» فهو
(١)
رواه مسلم وأبو داود (المصدر السابق:٦/ ٢)
(٢) رواه أحمد والبخاري وأبو
داود. وفي رواية «بين كل أذانين صلاة، بين كل أذانين صلاة، ثم قال في الثالثة،
لمن شاء» رواه الجماعة (المصدر السابق: ص٧).
(٣) رواه الجماعة إلا ابن ماجه
(سبل السلام:٥٠/ ٢).
مخصص لخبر النهي. وروى جابر، قال: «جاء
سُلَيك الغطفاني، ورسول الله ﷺ يخطب، فقال: ياسليك قم، فاركع ركعتين، وتجوَّز
فيهما» (١) أي خفف فيهما.
٤ ً - ما قبل العيد وبعده:
يكره التنفل عند
الحنفية والمالكية والحنابلة قبل صلاة العيد وبعده، لحديث أبي سعيد الخدري قال:
«كان النبي ﷺ لا يصلي قبل العيد شيئًا، فإذا رجع إلى منزله، صلى ركعتين» (٢)
وأضاف الحنابلة: لا بأس بالتنفل إذا خرج من المصلى.
والكراهة عند الحنفية
والحنابلة سواء للإمام والمأموم، وسواء أكان في المسجد أم المصلى، وأما عند
المالكية فالكراهة في حال أدائها في المصلى لا في المسجد.
وقال الشافعية:
يكره التنفل للإمام قبل العيد وبعده، لاشتغاله بغير الأهم، ولمخالفته فعل النبي
ﷺ، فقد روى ابن عباس ﵄: «أن النبي ﷺ صلى يوم العيد ركعتين لم يصلّ قبلها ولا
بعدها» (٣).
ولا يكره النفل قبل العيد بعد ارتفاع الشمس لغير الإمام،
لانتفاء الأسباب المقتضية للكراهة، كذلك لا يكره النفل بعد العيد إن كان لا يسمع
الخطبة، فإن كان يسمع الخطبة كره له.
٥ ً - عند إقامة الصلاة المكتوبة:
قال
الحنفية: يكره تحريمًا التطوع عند إقامة الصلاة المفروضة، لحديث: «إذا
(١)
رواه مسلم. ورواية البخاري: «دخل رجل يوم الجمعة والنبي ﷺ يخطب، فقال: صَلَّيْتَ؟
قال: لا، قال: قم فصل ركعتين» (سبل السلام:٥١/ ٢).
(٢) رواه ابن ماجه بإسناد
حسن (سبل السلام:٦٧/ ٢) وأخرجه أيضًا الحاكم وأحمد، روى الترمذي عن ابن عمر
نحوه.
(٣) أخرجه السبعة (سبل السلام:٦٦/ ٢).
أقيمت الصلاة
فلا صلاة إلا المكتوبة» (١) إلا سنة الفجر إن لم يخف فوت جماعة الفرض ولو بإدراك
تشهده، فإن خاف تركها أصلًا، فيجوز الإتيان بسنة الفجر عند الإقامة، لشدة تأكدها،
والحث عليها، ومواظبة النبي ﷺ عليها، قال ﵇: «ركعتا الفجر خير من الدنيا وما
فيها» (٢) وقالت عائشة: «لم يكن النبي ﷺ على شيء من النوافل أشدَّ تعاهدًا منه
على ركعتي الفجر» (٣). وروى الطحاوي وغيره عن ابن مسعود: «أنه دخل المسجد، وأقيمت
الصلاة، فصلى ركعتي الفجر في المسجد إلى أسطوانة».
وكذلك يكره التطوع عند
ضيق وقت المكتوبة، لتفويته الفرض عن وقته.
وقال الشافعي والجمهور (٤): يكره
افتتاح نافلة بعد إقامة الصلاة، سواء أكانت راتبة كسنة الصبح والظهر والعصر، أم
غيرها كتحية المسجد.
وقد عنون النووي لهذا البحث بقوله: «باب كراهة الشروع
في نافلة بعد شروع المؤذن في إقامة الصلاة، سواء السنة الراتبة كسنة الصبح والظهر
وغيرها، سواء علم أنه يدرك الركعة مع الإمام أم لا» ودليل الجمهور على كراهة
افتتاح النافلة: قوله ﷺ: «إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة» وفي الرواية
الأخرى: «أن رسول الله ﷺ مر برجل يصلي، وقد أقيمت صلاة الصبح، فقال: يوشك أن يصلي
أحدكم الصبح أربعًا» ومعناه أنه لا يشرع بعد الإقامة للصبح إلا
(١) رواه
مسلم وأصحاب السنن الأربعة عن أبي هريرة، وهو صحيح.
(٢) رواه مسلم وأحمد
والترمذي والنسائي عن عائشة، وهو صحيح (نيل الأوطار:١٩/ ٣).
(٣) متفق عليه
(سبل السلام: ٤/ ٢).
(٤) شرح مسلم للنووي: ٢٢١/ ٥ ومابعدها، المجموع:٢٧٣/
٣،٥٥٠، المغني:٤٥٦/ ١.
الفريضة (١)،فإذا صلى ركعتين نافلة بعد
الإقامة، ثم صلى معهم الفريضة، صار في معنى «من صلى الصبح أربعًا» لأنه صلى بعد
الإقامة أربعًا.
والصحيح في حكمة النهي عن صلاة النافلة بعد الإقامة: أن
يتفرغ للفريضة من أولها، فيشرع فيها عقب شروع الإمام، وإذا اشتغل بنافلة فاته
الإحرام مع الإمام، وفاته بعض مكملات الفريضة، فالفريضة أولى بالمحافظة على
إكمالها. وفيه حكمة أخرى هو النهي عن الاختلاف على الأئمة.
إلا أن الإمام
مالك قال: إن لم يخف فوات الركعة ركعهما خارج المسجد.
(١) وفي هذا الرد على
الحنفية الذين أجازوا الشروع في صلاة ركعتي سنة الصبح بعد الإقامة في المسجد إن
لم يكن صلاهما.
الفَصْلُ الثَّالث: الأذان والإقامة
أولًا - الأذان: معنى الأذان:
الأذان لغة: الإعلام، ومنه قوله تعالى: ﴿وأذان من الله ورسوله إلى الناس﴾
[التوبة:٩/ ٣]، أي إعلام ﴿وأذِّن في الناس بالحج﴾ [الحج:٢٢/ ٢٧] أي أعلمهم.
وشرعًا:
قول مخصوص يعلم به وقت الصلاة المفروضة (١). أو هو الإعلام بوقت الصلاة بألفاظ
مخصوصة (٢).
مشروعيته وفضله:
دل القرآن والسنة والإجماع على شرعية الأذان؛ لأن فيه فضلًا كثيرًا وأجرًا
عظيمًا.
(١) مغني المحتاج:١٣٣/ ١.
(٢) نيل الأوطار:٣١/ ٢، اللباب شرح
الكتاب:٦٢/ ١، كشاف القناع:٢٦٦/ ١.
فمن القرآن: قوله تعالى:
﴿وإذا ناديتم إلى الصلاة ...﴾ [المائدة:٥/ ٥٨].
ومن السنة: أحاديث كثيرة،
منها خبر الصحيحين: «إذا حضرت الصلاة، فليؤذن لكم أحدكم، وليؤمّكم أكبركم» (١)،
ودل حديث عبد الله بن زيد على كيفية الأذان المعروف بالرؤيا التي أيده فيها عمر
بن الخطاب في حديث طويل، فقال النبي ﷺ: «إنها لرؤيا حق إن شاء الله، فقم مع بلال
فألق عليه ما رأيت، فإنه أندى صوتًا منك» (٢).
وليس مستند الأذان الرؤيا
فقط، بل وافقها نزول الوحي، فقد روى البزار: «أن النبي ﷺ أُري ليلة الإسراء،
وأسمعه مشاهدة فوق سبع سموات، ثم قدّمه جبريل، فأمَّ أهل السماء، وفيهم آدم ونوح
عليهم أفضل الصلاة والسلام، فأكمل له الله الشرف على أهل السموات والأرض، لكنه
حديث غريب، والخبر الصحيح أن بدء الأذان كان بالمدينة كما أخرجه مسلم عن ابن عمر
(٣). وعلى هذا كانت رؤيا الأذان في السنة الأولى من الهجرة، وأيده النبي ﷺ.
الأذان
وفي الأذان ثواب كبير، بدليل قوله ﷺ: «لو يعلم الناس ما في النداء، والصف
الأول، ثم لم يجدوا إلا أن يَسْتهموا عليه، لا ستهموا عليه» (٤) وقوله ﵇: «إذا
كنت في غنمك أو باديتك، فأذنت بالصلاة، فارفع صوتك بالنداء، فإنه لا يسمع صوت
المؤذن جن ولا إنس ولا شيء، إلا شهد له يوم القيامة» (٥).
(١) من رواية مالك
بن الحويرث (نيل الأوطار:٣٢/ ٢).
(٢) رواه أحمد وأبو داود (نيل الأوطار:٣٥/
٢ ومابعدها).
(٣) انظر نصب الراية:٢٦٠/ ١ ومابعدها.
(٤) متفق عليه عن
أبي هريرة، والنداء: هو الأذان، والصف الأول: يراد به المبادرة إلى الجماعة،
والاستهام: الاقتراع.
(٥) أخرجه البخاري عن أبي سعيد الخدري.
وفي
حديث آخر: «المؤذنون أطول الناس أعناقًا يوم القيامة» (١).
واعتبر الأذان مع
الإقامة عند الشافعي في الأصح والحنابلة أفضل من الإمامة، لقوله تعالى: ﴿ومن أحسن
قولًا ممن دعا إلى الله وعمل صالحًا﴾ [فصلت:٣٣/ ٤١] قالت عائشة: هم المؤذنون،
وللأخبار السابقة في فضيلته، ولقوله ﵊: «الإمام ضامن، والمؤذن مؤتمن، اللهم أرشد
الأئمة، واغفر للمؤذنين» (٢) والأمانة أعلى من الضمان، والمغفرة أعلى من الإرشاد،
ولم يتوله النبي ﷺ ولا خلفاؤه لضيق وقتهم عنه (٣).
وقال الحنفية: الإقامة
والإمامة أفضل من الأذان؛ لأن النبي ﷺ وخلفاءه تولوا الإمامة، ولم يتولوا
الأذان.
حكم الأذان:
الأذان والإقامة عند الجمهور (٤) (غير الحنابلة)
ومنهم الخرقي الحنبلي: سنة مؤكدة للرجال جماعة في كل مسجد للصلوات الخمس
والجمعة، دون غيرها، كالعيد والكسوف والتراويح وصلاة الجنازة، ويقال فيها عند
أدائها جماعة: «الصلاة جامعة» لما روى البخاري ومسلم عن عبد الله بن عمرو وقال:
«لما
(١) رواه مسلم وأحمد وابن ماجه عن معاوية (نيل الأوطار:٣٣/ ٢) وروى ابن
ماجه عن ابن عباس مرفوعًا: «من أذن سبع سنين محتسبًا، كتبت له براءة من
النار».
(٢) رواه الشافعي وأحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن حبان وابن
خزيمة عن أبي هريرة (المصدر السابق) وروى الحاكم بإسناد صحيح: «إن خيار عباد الله
الذين يراعون الشمس والقمر والنجوم والأظلة لذكر الله».
(٣) المغني:٤٠٣/ ١،
كشاف القناع:٢٦٧/ ١، مغني المحتاج:١٣٨/ ١.
(٤) فتح القدير:١٦٧/ ١،١٧٢،١٧٨،
الدر المختار:٣٥٦/ ١، البدائع:١٤٦/ ١ ومابعدها، اللباب:٦٢/ ١ - ٦٣، الشرح
الصغير:١٣٣/ ١ ومابعدها، المهذب:٥٥/ ١، بداية المجتهد: ١٠٣/ ١، نهاية
المحتاج:٣٠٠/ ١، المجموع:٨٢/ ٣، ١٣١.
انكسفت الشمس على عهد رسول
الله ﷺ، نودي: الصلاة جامعةٌ»
أما الأذان والإقامة، فلأن المقصود منهما
الإعلام بدخول وقت الصلاة المفروضة، والقيام إليها. ولاتسن للنافلة والمنذورة.
ودليلهم على السنية الحديث السابق: «لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول،
لاستهموا عليه» ولأنه ﷺ لم يأمر بهما في حديث الأعرابي، مع ذكر الوضوء والاستقبال
وأركان الصلاة. وبناء عليه: لم يأثم أهل بلدة بالاجتماع على ترك الأذان إذا قام
به غيرهم ولم يضربوا ولم يحبسوا.
وأضاف الشافعية والمالكية أنه يستحب
الإقامة وحدها لا الأذان للمرأة أو جماعة النساء، منعًا من خوف الفتنة برفع
المرأة الصوت به. وقال الحنفية: إنه تكره الإقامة كالأذان للنساء؛ لما روي عن أنس
وابن عمر من كراهتها لهن، ولأن مبنى حالهن على الستر، ورفع صوتهن حرام.
الأذان للفائتة وللمنفرد:
المعتمد عند الشافعي: أنه يستحب أيضًا الأذان والإقامة للمنفرد أيضًا أداء
أو قضاء بالرغم من سماع أذان الحي أو المسجد، ويرفع صوته بالأذان إلا إذا كان
بمسجد وقعت فيه جماعة، لئلا يتوهم السامعون دخول وقت صلاة أخرى، والأذان للفائتة
هو المذهب القديم للشافعي وهو الأظهر كما أبان النووي، لما ورد في فضل الأذان من
الأحاديث السابقة، ومنها ما رواه البخاري عن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي
صًعْصعة: «أن أبا سعيد الخدري قال له: إني أراك تحب الغنم والبادية، فإذا كنت في
غنمك أو باديتك، فأذنت للصلاة، فارفع صوتك بالنداء، فإنه لا يسمع مدى صوت المؤذن
جن ولا إنس ولا شيء، إلا شهد لك يوم القيامة، سمعته من رسول الله ﷺ» (١). وإن
اجتمع على المصلي فوائت، أو جمَع تقديمًا
(١) رواه أحمد والشافعي ومالك
والبخاري والنسائي وابن ماجه (نيل الأوطار:٤٥/ ٢).
أو تأخيرًا
أذن للأولى وحدها، لما روى البخاري ومسلم عن جابر ﵁: «أنه ﷺ جمع بين المغرب
والعشاء بمزدلفة بأذان وإقامتين» والمستحب عند الشافعي أن يكون للجمعة أذان واحد
بين يدي الإمام عند المنبر؛ لأنه لم يكن يؤذن يوم الجمعة للنبي ﷺ إلا بلال.
هذا
مذهب الشافعية في الفوائت. وقال الحنفية: يؤذن المصلي للفائتة ويقيم؛ لأنها
بمنزلة الحاضرة، فإن فاتته صلوات أذن للأولى وأقام، وكان مخيرًا في الباقية
بعدها: إن شاء أذن وأقام لكل واحدة، وهو أولى؛ لأن ما سن للصلاة في أذانها، سن في
قضائها كسائر المسنونات. وإن شاء اقتصر فيما بعد الأولى على الإقامة؛ لأن الأذان
للاستحضار، وهم حضور، والأولى الأذان والإقامة لكل فريضة، بدليل حديث ابن مسعود
عند أبي يعلى حينما شغل المشركون رسول الله ﷺ يوم الأحزاب عن الصلوات: الظهر
والعصر والمغرب والعشاء، فأمر النبي بلالًا بالأذان والإقامة لكل صلاة (١).
وقال
مالك: إنه يقيم ولا يؤذن، لما روى أبو سعيد قال: «حبسنا يوم الخندق عن الصلاة،
حتى كان بعد المغرب بهوى من الليل، قال: فدعا رسول الله ﷺ بلالًا، فأمره فأقام
الظهر فصلاها، ثم أمره فأقام العصر فصلاها» ولأن الأذان للإعلام بالوقت، وقد فات.
وعلى هذا قال المالكية: يكره الأذان لفائتة، ولصلاة ذات وقت ضروري (أي المجموعة
مع غيرها جمع تقديم أو تأخير) ولصلاة جنازة ونافلة كعيد وكسوف.
وقيد
المالكية سنية الأذان في كل مسجد ولو تلاصقت المساجد: بجماعة
(١) مجمع
الزوائد: ٤/ ٢ ورواه أحمد والنسائي والترمذي وقال: ليس بإسناده بأس إلا أن أبا
عبيدة لم يسمع من عبد الله بن مسعود (نيل الأوطار:٦٠/ ٢).
طلبت
غيرها، سواء في حضر أو سفر، ولا يسن لمنفرد أو جماعة لم تطلب غيرها، بل يكره لهم
إن كانوا في حضر. ويندب لمنفرد أو لجماعة لا تطلب غيرها في أثناء السفر، ولو
لمسافة دون مسافة القصر (٨٩ كم).
أما أكثر الحنابلة (١) فقالوا:
الأذان والإقامة فرضا كفاية للصلوات الخمس المؤداة والجمعة دون غيرها، للحديث
السابق: «إذا حضرت الصلاة، فليؤذن لكم أحدكم، وليؤمكم أكبركم» والأمر يقتضي
الوجوب على أحدهم، وعن أبي الدرداء مرفوعًا: «ما من ثلاثة لا يؤذنون، ولا تقام
فيهم الصلاة إلا استحوذ عليهم الشيطان» (٢)، ولأنهما من شعائر الإسلام الظاهرة،
فكانا فرضي كفاية كالجهاد، فإذا قام به البعض، سقط عن الباقين، وبناء عليه يقاتل
أهل بلد تركوهما.
ويكره ترك الأذان والإقامة للصلوات الخمس، ولا يعيد
المصلي.
ويكفي أذان واحد في المصر، ويكتفي بقية المصلين بالإقامة.
وهو
رأي الحنفية والمالكية أيضًا، خلافًا للشافعية كما بينت، ودليلهم أن ابن مسعود
وعلقمة والأسود صلوا بغير أذان، قال سفيان: كفتهم إقامة المصر، لكن قال الحنفية:
من صلى في بيته في المصر يصلي بأذان وإقامة ليكون الأداء على هيئة الجماعة، وإن
تركهما جاز، لقول ابن مسعود: «أذان الحي يكفينا» لكنه غريب كما قال الزيلعي.
ومن
فاتته صلوات، أو جمع بين صلاتين في وقت أولاهما: استحب له أن يؤذن للأولى، ثم
يقيم لكل صلاة إقامة، وهو موافق لقول الشافعية. ودليلهم على
(١) كشاف
القناع: ٢٦٨/ ١،٢٧٨، المغني:٤١٧/ ١ - ٤٢٢، غاية المنتهى: ٨٧/ ١.
(٢) رواه
أحمد وأبو داود والنسائي والطبراني وابن حبان، والحاكم وقال: صحيح الإسناد (نيل
الأوطار:٣١/ ٢).
ذلك حديث أبي سعيد المتقدم: «إذا كنت في غنمك
..» وحديث أبي قتادة «أنهم كانوا مع النبي ﷺ، فناموا حتى طلعت الشمس، فقال النبي
ﷺ: يا بلال، قم فأذن الناس بالصلاة» (١).
ومن دخل مسجدًا قد صلي فيه، فإن
شاء أذن وأقام، لما روى الأثرم وسعيد ابن منصور عن أنس: «أنه دخل مسجدًا قد صلوا
فيه، فأمر رجلًا فأذن وأقام، فصلى بهم في جماعة» وإن شاء صلى من غير أذان ولا
إقامة.
وليس على النساء أذان ولا إقامة، خلافًا للشافعية والمالكية في
الإقامة، لما روى النجاد بإسناده عن أسماء بنت بريد، قالت: سمعت رسول الله ﷺ
يقول: «ليس على النساء أذان ولا إقامة».
والخلاصة: أنه يؤذن للفائتة عند
الجمهور، ويكره ذلك عند المالكية، ويسن الأذان للرجال دون النساء، بالاتفاق، وتسن
الإقامة للمرأة سرًا عند الشافعية والمالكية، وتكره عند الحنفية، ولا تشرع عند
الحنابلة. ويكفي عند الجمهور أذان الحي، ولا يكفي عند الشافعية.
شروط الأذان:
يشترط في الأذان والإقامة ما يأتي (٢):
(١) متفق عليه، ورواه عمران
بن حصين أيضًا، قال: «فأمر بلالًا، فأذن فصلينا ركعتين، ثم أمره فأقام، فصلينا»
متفق عليه.
(٢) الدر المختار:٣٦٢/ ١ - ٣٦٥، البدائع:١٤٩/ ١ - ١٥١، فتح
القدير:١٧٠/ ١،١٧٦ ومابعدها، مراقي الفلاح: ص٣٢، اللباب:٦٤/ ١، الشرح الصغير:
٢٥١/ ١ ومابعدها، القوانين الفقهية: ص٤٧ ومابعدها، بداية المجتهد:١٠٤/ ١
ومابعدها، مغني المحتاج:١٣٧/ ١ - ١٣٩، الحضرمية: ص٣٤، المهذب:٥٥/ ١، ٥٧، المغني:
٤٠٩/ ١، ٤١١، ٤١٣ - ٤١٥، ٤٢٤ ومابعدها، كشاف القناع:٢٧١/ ١ - ٢٧٩، غاية
المنتهى:٨٧/ ١، الشرح الكبير مع الدسوقي:١٩٤/ ١ ومابعدها، ١٩٨، المهذب: ٥٧/ ١
ومابعدها، تحفة الطلاب: ص٥٤، المجموع:١٣٦/ ٣.
- دخول الوقت:
فلا يصح الأذان ويحرم باتفاق الفقهاء قبل دخول وقت الصلاة، فإن فعل أعاد في
الوقت؛ لأن الأذان للإعلام، وهو قبل دخول الوقت تجهيل. ولذا يحرم الأذان قبل
الوقت لما فيه من التلبيس والكذب بالإعلام بدخول الوقت، كما يحرم تكرير الأذان
عند الشافعية، وليس منه أذان المؤذنين المعروف في كل مسجد.
لكن أجاز الجمهور
غير الحنفية، وأبو يوسف: الأذان للصبح بعد نصف الليل، ويندب بالسَّحَر وهو سدس
الليل الأخير، ثم يعاد استنانًا عند طلوع الفجرالصادق (١)، لخبر الصحيحين عن عبد
الله بن عمرو: «إن بلالًا يؤذن بليل، فكلوا واشربوا حتى تسمعوا أذان ابن أم
مكتوم» زاد البخاري: «وكان رجلًا أعمى لا ينادي حتى يقال: أصبحت أصبحت» لكن ينبغي
لمن يؤذن قبل الوقت أن يؤذن في وقت واحد في الليالي كلها، منعًا للالتباس على
الناس. ويشترط في المرتب (الموظف) للأذان علمه بالمواقيت، أما غير الموظف فلا
يشترط علمه بالمواقيت، فمن أذن لنفسه أو لجماعة مرة، أو كان أعمى، صح أذانه إذا
علم من غيره دخول الوقت.
ً - أن يكون باللغة العربية،
فلا يصح بغيرها إن أذن لجماعة، فإن أذن غير العربي لنفسه وهو لا يحسن
العربية، جاز عند الشافعية، ولم يجز مطلقًا عند الحنابلة والحنفية لوروده بلسان
عربي كالقرآن.
(١) ما سوى التأذين قبل الفجر ويوم الجمعة من التسبيح والنشيد
ورفع الصوت بالدعاء ونحو ذلك في المآذن أو غيرها، فليس بمسنون، وما أحد من
العلماء قال: إنه يستحب، بل هو من جملة البدع المكروهة، لأنه لم يكن في عهده ﷺ
ولا عهد أصحابه، وليس له أصل (كشاف القناع:٢٨١/ ١، غاية المنتهى:٩١/ ١).
- يشترط في الأذان والإقامة إسماع بعض الجماعة، وإسماع نفسه إن كان
منفردًا.
٤ ً - الترتيب والموالاة بين ألفاظ الأذان والإقامة:
اتباعًا للسنة كما روى مسلم وغيره، ولأن ترك الموالاة بين كلمات الأذان يخل
بالإعلام، فلا يصح الأذان إلا مرتبًا، كما لا يصح بغير المتوالي ويعاد غير المرتب
وغير المتوالي، ولا يضر فاصل يسير بنوم أو إغماء أو سكوت أو كلام، ويبطل بالردة
عند الفقهاء، فإن ارتد بعد انتهاء الأذان لم يبطل. وهذا شرط عند الشافعية
والحنابلة. وقال الحنفية والمالكية: يسن ترتيب كلمات الأذان والإقامة، والموالاة
بينها، ويصح بغير الترتيب والموالاة، مع الكراهة، والأفضل أن يعيد الأذان
والإقامة.
ويرى بعض الحنابلة أن الأذان يبطل بالكلام المحرم ولو يسيرًا
كالسب ونحوه، وفي وجه آخر لا يبطل كالكلام المباح.
ً - كونه من شخص واحد:
فلو أذن مؤذن ببعضه، ثم أتمه غيره لم يصح، كما لايصح إذا تناوبه اثنان بحيث يأتي
كل واحد بجملة غير التي يأتي بها الآخر؛ لأن الأذان عبادة بدنية، فلا يصح من
شخصين يبني أحدهما على الآخر.
أما اجتماع جماعة على الأذان، بحيث يأتي كل
واحد بأذان كامل، فهو صحيح. وأضاف المالكية: أنه يكره اجتماع مؤذنين بحيث يبني
بعضهم على ما يقول الآخر. ويكره تعدد الأذان لصلاة واحدة.
ويلاحظ أن أول من
أحدث أذانين اثنين معًا هم بنو أمية، والأذان الجماعي غير مكروه كما حقق ابن
عابدين.
ً - أن يكون المؤذن مسلمًا عاقلًا (مميزًا)، رجلًا،
فلا يصح أذان الكافر، والمجنون والصبي غير المميز والمغمى عليه والسكران؛ لأنهم
ليسوا أهلًا للعبادة، ولا يصح أذان المرأة؛ لحرمة أذانها ولأنه لا يشرع لها
الأذان، فلا تصح إمامتها للرجال، ولأنه يفتتن بصوتها؛ ولا يصح أذان الخنثى، لأنه
لا يعلم كونه رجلًا.
وهذا شرط عند المالكية والشافعية والحنابلة. ويقرب منهم
مذهب الحنفية، لأنهم قالوا: يكره تحريمًا أذان هؤلاء الذين لم تتوافر فيهم هذه
الشروط، ويستحب إعادته. وعلى هذا: يسن عند الحنفية: أن يكون المؤذن رجلًا عاقلًا
تقيًا عالمًا بالسنة وبأوقات الصلاة. ولا يشترط عند الجمهور (غير المالكية)
البلوغ والعدالة، فيصح أذان الصبي المميز، والفاسق، لكن يستحب أن يكون المؤذن
بالغًا أمينًا، لأنه مؤتمن يرجع إليه في الصلاة والصيام، فلا يؤمن أن يغرهم أذانه
إذا لم يكن كذلك.
وقال الحنفية: يكره أذان الفاسق ويستحب إعادته.
وقال
المالكية: يشترط العدالة والبلوغ في المؤذن، فلا يصح أذان الفاسق، والصبي المميز
إلا إذا اعتمد في دخول الوقت على بالغ.
واشتراطهم العدالة لحديث ابن عباس:
«ليؤذن لكم خياركم، ويؤمكم قراؤكم» (١).
ولا يشترط النية عند الحنفية،
والشافعية في الأصح، لكن يشترط الصرف (أي عدم قصد غير الأذان) فلو قصد به تعليم
غيره، لم يعتد به.
وتشترط النية عند الفقهاء الآخرين، فإن أتى بالألفاظ
المخصوصة بدون قصد الأذان لم يصح.
ولا يشترط في الأذان والإقامة
عند جمهور الفقهاء: الطهارة، واستقبال القبلة، والقيام، وعدم الكلام في أثنائه،
وإنما يندب ذلك، ويكره الأذان عند الجمهور للمحدث، وللجنب أشد كراهة، والإقامة
أغلظ، والكراهة تحريمية عند الحنفية بالنسبة للجنب، ويعاد أذانه عندهم وعند
الحنابلة، ولا يكره عند الحنفية أذان المحدث على المذهب.
------------------------------
(١)
رواه أبو داود وابن ماجه والطبراني في معجمه (نصب الراية:٢٧٩/ ١)
ودليل ندب
الطهارة حديث: «لا يؤذن إلا متوضئ» (١). ويكره الأذان قاعدًا، مستدبرًا القبلة،
كما يكره الكلام فيه.
ويسن عند المالكية والحنفية والشافعية والحنابلة أن
يتولى الإقامة من تولى الأذان، اتباعًا للسنة (٢)، فإن أقام غير المؤذن جاز؛ لأن
بلالًا أذن، وعبد الله بن زيد الذي رأى الأذان في المنام أقام، بأمر النبي ﷺ (٣).
وبناء على هذه الشروط: يبطل الأذان والإقامة بردة وسكر وإغماء ونوم طويل وجنون
وترك كلمة منهما، ووجود فاصل طويل من سكوت أو كلام. والمذهب عند الشافعية أنه إن
ارتد في الأذان، ثم رجع إلى الإسلام في الحال، فله أن يبني على أذانه السابق.
كيفية الأذان أو صيغته:
اتفق الفقهاء على الصيغة الأصلية للأذان المعروف الوارد بكيفية متواترة من
غير زيادة ولا نقصان وهو مثنى مثنى، كما اتفقوا على التثويب، أي الزيادة في أذان
الفجر بعد الفلاح وهي (الصلاة خير من النوم) مرتين، عملًا بما ثبت في السنة عن
بلال (٤)، ولقوله ﷺ لأبي محذورة - فيما رواه أحمد وأبو داود - «فإذا كان أذان
(١)
رواه الترمذي عن أبي هريرة (نصب الراية:٢٩٢/ ١) وهو ضعيف (سبل السلام:١٢٩/ ١).
(٢)
روى الترمذي عن زياد بن الحارث الصُدائي (إن أخا صداء أذن، ومن أذن فهو يقيم»
لكنه ضعيف وأخرج الأثرم أن أبا محذورة أذن ثم أقام (سبل السلام:١٢٩/ ١،
المغني:٤١٦/ ١).
(٣) رواه أحمد وأبو داود، لكن قال الحاكم: هذا في متنه ضعف
(سبل السلام:١٢٩/ ١، نيل الأوطار:٥٧/ ٢، المغني:٤١٥/ ١ - ٤١٦).
(٤) رواه
الطبراني وغيره (نصب الراية:٢٦٤/ ١).
الفجر، فقل: الصلاة خير من
النوم مرتين»
واختلفوا في الترجيع:
وهو أن يأتي بالشهادتين سرًا قبل أن يأتي بهما جهرًا، فأثبته المالكية والشافعية،
وأنكره الحنفية والحنابلة، لكن قال الحنابل: لو أتى بالترجيع لم يكره.
قال
الحنفية والحنابلة على المختار (١): الأذان خمس عشرة كلمة، لا ترجيع فيه، كما جاء
في خبرعبد الله بن زيد (٢) السبق، وهي: «الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله
أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمدًا رسول
الله، أشهد أن محمدًا رسول الله، حي على الصلاة، حي على الصلاة، حي على الفلاح،
حي على الفلاح، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله».
وذلك - كما جاء في
البدائع ومراقي الفلاح - بجزم الراء في التكبير، وتسكين كلمات الأذان، والإقامة
كما قال المالكية. وجاء في الدر المختار: بفتح راء «أكبر» (٣) كما قال الشافعية،
أي أنه يجمع كل تكبيرتين بنَفَس ويفتح الراء في الأولى في قوله (الله أكبر الله
أكبر) ويسكِّن في الثانية. وقال بعض الشافعية: يسن الوقف على أواخر الكلمات في
الأذان؛ لأنه روي موقوفًا.
وقال المالكية والشافعية (٤): إن كلمات الأذان
مشهورة، وعدتها بالترجيع
(١) اللباب شرح الكتاب:٦٢/ ١ ومابعدها،
البدائع:١٤٧/ ١، فتح القدير:١٦٧/ ١ ومابعدها، الدر المختار:٣٥٨/ ١ ومابعدها،
المغني: ٤٠٤/ ١ كشاف القناع:٢٧٣/ ١.
(٢) وهو حديث أذان الملك النازل من
السماء، رواه أبو داود في سننه (نصب الراية:٢٥٩/ ١).
(٣) الأصل إسكان الراء
فحركت فتحة الألف من اسم الله تعالى في اللفظة الثانية لسكون الراء قبلها
ففتحت.
(٤) الشرح الصغير:٢٤٨/ ١ - ٢٥٠، القوانين الفقهية: ص٤٧، مغني
المحتاج:١٣٥/ ١ ومابعدها، المهذب:٥٥/ ١ ومابعدها، المجموع: ٩٧/ ٣.
تسع
عشرة كلمة، عملًا بالأذان المسنون وهو أذان أبي محذورة (١)، وفيه الترجيع: أي أن
يذكر الشهادتين مرتين مرتين.
معاني كلمات الأذان:
معنى ألفاظ الأذان: هو أن قوله (الله أكبر) أي من كل شي، أو أكبر من أن
ينسب إليه ما لا يليق بجلاله، أو هو بمعنى كبير.
وقوله: (أشهد) أي أعلم.
وقوله (حي على الصلاة) أي أقبلوا إليها، أو أسرعوا. والفلاح: الفوز والبقاء؛ لأن
المصلي يدخل الجنة إن شاء الله، فيبقى فيها ويخلَّد. والدعوة إلى الفلاح معناها:
هلموا إلى سبب ذلك. وختم بـ (لا إله إلا الله) ليختم بالتوحيد وباسم الله تعالى،
كما ابتدأ به (٢).
سنن الأذان:
يسن في الأذان ما يأتي (٣):
١ً - أن يكون المؤذن صيِّتًا (عالي
الصوت)، حسن الصوت، يرفع صوته بالأذان، على مكان مرتفع وبقرب المسجد، لقوله ﷺ في
خبر عبد الله بن زيد
(١) رواه الجماعة عن أبي محذورة، وفي بعض ألفاظه: علمه
الأذان تسع عشرة كلمة، وذكرها بتربيع الشهادتين كتربيع التكبير (نصب الراية:٢٦٣/
١، نيل الأوطار:٤٣/ ٢).
(٢) كشاف القناع: ٢٧٣/ ١.
(٣) البدائع:١٤٩/ ١ -
١٥٢، الدر المختار: ٣٥٩/ ١ - ٣٦١، فتح القدير:١٧٠/ ١ - ١٧٦، اللباب:٦٣/ ١، مراقي
الفلاح: ص٣٢، الشرح الصغير:٢٥٢/ ١ ومابعدها، الشرح الكبير:١٩٥/ ١ - ١٩٨، القوانين
الفقهية: ص٤٧ ومابعدها، مغني المحتاج:١٣٨/ ١، المهذب:٥٧/ ١،٥٩، المغني:٤٠٧/ ١،
٤١٢، ٤١٥، ٤٢٢، ٤٢٦،٤٢٩، كشاف القناع:٢٧٠/ ١ - ٢٨٢، المجموع:١٠٥/ ٣ - ١١٧،١٢٦،
١٢٩ومابعدها، الحضرمية: ص٣٥.
المتقدم: «ألقه على بلال، فإنه
أندى منك صوتًا» أي أبعد، ولزيادة الإبلاغ، وليرقّ قلب السامع، ويميل إلى
الإجابة، ولأن الداعي ينبغي أن يكون حلو المقال، وروى الدارمي وابن خزيمة: أن
النبي ﷺ أمر عشرين رجلًا، فأذنوا، فأعجبه صوت أبي محذورة، فعلّمه الأذان.
أما
رفع الصوت: فليكون أبلغ في إعلامه، وأعظم لثوابه، كما ذكر حديث أبي سعيد: «إذا
كنت في غنمك ..» ولما رواه الخمسة إلا الترمذي عن أبي هريرة أن النبي ﷺ قال:
«المؤذن يغفر له مدَّ صوته، ويشهد له كل رطب ويابس»، ولكن لا يجهد نفسه في رفع
صوته زيادة على طاقته، لئلا يضر بنفسه، وينقطع صوته. ويسن رفع الصوت بالأذان
لمنفرد فوق ما يسمع نفسه، ولمن يؤذن لجماعة فوق ما يسمع واحدًا منهم، ويخفض صوته
في مصلى أقيمت فيه جماعة.
وكونه على مرتفع، ليكون أيضًا أبلغ لتأدية صوته،
روى أبو داود عن عروة ابن الزبير عن امرأته من بني النجار، قالت: «كان بيتي من
أطول بيت حول المسجد، وكان بلال يؤذن عليه الفجر، فيأتي بسحَر (وهو السدس الأخير
من الليل)، فيجلس على البيت ينظر إلى الفجر، فإذا صلى رآه تمطى، ثم قال: اللهم
إني أستعينك وأستعديك على قريش: أن يقيموا دينك، قالت: ثم يؤذن» (١) وكونه بقرب
المسجد؛ لأنه دعاء إلى الجماعة وهي فيه أفضل (٢)
(١) نصب الراية: ٢٩٢/ ١.
(٢)
وقال ابن سعد بالسند إلى أم زيد بن ثابت: كان بيتي أطول بيت حول المسجد، فكان
بلال يؤذن فوقه من أول ماأذن، إلى أن بنى رسول الله ﷺ مسجده، فكان يؤذن بعد، على
ظهر المسجد، وقد رفع له شيء فوق ظهره.
وأول من رقى منارة مصر للأذان: شرحبيل
بن عامر المرادي. وبنى سلمة المناير للأذان بأمر معاوية، ولم تكن قبل ذلك (رد
المحتار:٣٦٠/ ١).
٢ً - أن يؤذن قائمًا على حائط أو منارة
للإسماع: قال ابن المنذر: أجمع كل من أحفظ عنه من أهل العلم أن السنة أن يؤذن
قائمًا. وجاء في حديث أبي قتادة أن النبي ﷺ قال لبلال: «قم فأذن» (١)، وكان مؤذنو
رسول الله ﷺ يؤذنون قيامًا. فإن كان له عذر كمرض، أذن قاعدًا. كذلك يسن أن يقيم
قائمًا.
٣ً - أن يكون المؤذن حرًا بالغًا أمينًا صالحًا عالمًا بأوقات
الصلاة، لحديث ابن عباس السابق: «ليؤذن لكم خياركم ويؤمكم قراؤكم». وهذا سنة عند
الجمهور غير المالكية، أما المالكية فيشترطون العدالة، كما أن الشافعية يشترطون
في موظف الأذان العلم بالوقت.
٤ً - أن يكون متوضئًا طاهرًا، للحديث السابق:
«لا يؤذن إلا متوضئ، وفي حديث ابن عباس: «إن الأذان متصل بالصلاة فلا يؤذن أحدكم
إلا وهو طاهر» (٢).
٥ً - أن يكون المؤذن بصيرًا؛ لأن الأعمى لا يعرف الوقت،
فربما غلط، فإن أذن الأعمى صح أذانه، فإن ابن مكتوم كان يؤذن للنبي ﷺ، قال ابن
عمرو فيما روى البخاري: «كان رجلًا أعمى لا ينادي حتى يقال له: أصبحت، أصبحت»
وقال المالكية: يجوز أذان الأعمى إن كان تبعًا لغيره أو قلد ثقة في دخول
الوقت.
٦ً - أن يجعل أصبعيه في أذنيه، لأنه أرفع للصوت، ولما روى أبو حنيفة
«أن بلالًا أذن، ووضع إصبعيه في أذنيه» (٣)، وعن سعد مؤذن رسول الله ﷺ «أن رسول
الله ﷺ أمر بلالًا أن يجعل إصبعيه في أذنيه، وقال: إنه أرفع لصوتك» (٤).
(١)
متفق عليه وانظر نصب الراية:٢٩٢/ ١.
(٢) سبل السلام:١٢٩/ ١.
(٣) متفق
عليه.
(٤) أخرجه ابن ماجه والحاكم والطبراني وابن عدي (نصب الراية:٢٧٨/
١).
٧ً - أن يترسَّل (يتمهل أو يتأنى) في الأذان بسكتة بين كل
كلمتين، ويحدُر (يسرع) في الإقامة، بأن يجمع بين كل كلمتين، لقول النبي ﷺ لبلال
﵁: «إذا أذنت فترسَّل، وإذا أقمت فاحدر» (١)، ولأن الأذان لإعلام الغائبين بدخول
الوقت، والإعلام بالترسل أبلغ، أما الإقامة فلإعلام الحاضرين بالشروع في الصلاة،
ويتحقق المقصود بالحدر.
٨ً - أن يستقبل القبلة في الأذان والإقامة: لأن
مؤذني النبي ﷺ كانوا يؤذنون مستقبلي القبلة ولأن فيه مناجاة فيتوجهه بها إلى
القبلة.
ويستحب في الحيعلتين (حي على الصلاة، حي على الفلاح): أن يدير أو
يحول وجهه يمينًا في الأولى، وشمالًا في الثانية، من غير أن يحول قدميه؛ لأن فيه
مناداة فيتوجه به إلى من على يمينه وشماله، ولما روى أبو جحيفة قال: «رأيت بلالًا
يؤذن، فجعلت أتَتبَّع فاه ههنا وههنا يمينًا وشمالًا، يقول: حي على الصلاة، حي
على الفلاح، وأصبعاه في أذنيه» (٢) وفي لفظ قال: «أتيت رسول الله ﷺ وهو في قبة
حمراء من أَدَم (جلد) فخرج بلال، فأذن، فلما بلغ: حي على الصلاة، حي على الفلاح،
التفت يمينًا وشمالًا، ولم يستدر» (٣) ويصح عند الشافعية الإدارة في المنارة
واستدبار القبلة إن احتيج إليه، وعند الحنابلة في ذلك روايتان عن أحمد: إحداهما -
لا يدور للخبر السابق في استقبال القبلة، والثانية - يدور في مجالها، لأنه لا
يحصل الإعلام بدونه. والرواية الثانية هي الصواب.
(١) أخرجه الترمذي،
وإسناده مجهول (نصب الراية:٢٧٥/ ١).
(٢) أصله متفق عليه في الصحيحين، ورواه
أيضًا أحمد والترمذي وصححه (سبل السلام:١٢٢/ ١، نيل الأوطار:٤٦/ ٢).
(٣)
رواه أبو داود (المرجعان السابقان).
ويستحب بعد انتهاء الأذان:
أن يفصل بين الأذان والإقامة بقدر ما يحضر المصلون، مع مراعاة الوقت المستحب، وفي
المغرب بقدر قراءة ثلاث آيات قصار. ودليل هذا الاستحباب قوله ﵇: «يا بلال، اجعل
بين أذانك وإقامتك نَفَسًا يفرغ الآكل من طعامه في مهل، ويقضي حاجته في مهل»
(١).
ولأن الذي رآه عبد الله بن زيد في المنام أذن، وقعد قعدة أي لانتظار
الجماعة، حتى يتحقق المقصود من النداء.
وقال الحنفية: يستحب بعد الأذان في
الأصح أن يثوِّب في جميع الأوقات، كأن يقول: الصلاة الصلاة يامصلين، لظهور
التواني في الأمور الدينية.
وقال الشافعية: يسن أن يقول المؤذن بعد الأذان
أو الحيعلتين في الليلة الممطرة أو ذات الريح أو الظلمة: (ألا صلوا في
الرحال).
٩ً - أن يؤذن محتسبًا، ولا يأخذ على الأذان والإقامة أجرًا باتفاق
العلماء.
ولا يجوز أخذ الأجرة على ذلك عند الحنفية، والحنابلة في ظاهر
المذهب؛ لأنه استئجار على الطاعة، وقربة لفاعله، والإنسان في تحصيل الطاعة عامل
لنفسه، فلا تجوز الإجار ة عليه كالإمامة غيرها، ولأن النبي ﷺ قال لعثمان بن أبي
العاص: «واتخذ مؤذنًا لا يأخذ على أذانه أجرًا» (٢).
وأجاز المالكية
والشافعية في الأصح الاستئجار على الأذان؛ لأنه عمل معلوم يجوز أخذ الأجر عليه
كسائر الأعمال. وأفتى متأخرو الحنفية وغيرهم - كما سيأتي
(١) رواه أحمد
بإسناده عن أبي بن كعب، وروى أبو داود والترمذي عن جابر أن رسول الله ﷺ قال
لبلال: «اجعل بين أذانك وإقامتك قدر ما يفرغ الآكل من أكله، والشارب من شربه،
والمعتصر إذا دخل لقضاء حاجته».
(٢) رواه أبو داود وابن ماجه والترمذي،
وقال: حديث حسن.
في بحث الإجارة - بجواز أخذ الأجرة على القربات
الدينية، ضمانًا لتحصيلها بسبب انقطاع المكافآت المخصصة لأهل العلم من بيت
المال.
كما أن الحنابلة قالوا: إن لم يوجد متطوع بالأذان والإقامة، أعطي من
يقوم بهما من مال الفيء المعد للمصالح العامة.
١٠ً - يستحب عند الجمهور غير
الحنفية أن يكون للجماعة مؤذنان، لا أكثر؛ لأن النبي ﷺ «كان له مؤذنان: بلال وابن
أم مكتوم» (١)، ويجوز الاقتصار على مؤذن واحد للمسجد، والأفضل أن يكون مؤذنان
لهذا الحديث، فإن احتاج إلى الزيادة عليهما، جاز إلى أربعة؛ لأنه كان لعثمان ﵁
أربعة مؤذنين، ويجوز إلى أكثر من أربعة بقدر الحاجة والمصلحة عند الحنابلة
والشافعية.
وإذا تعدد المؤذنون فالمستحب أن يؤذن واحد بعد واحد؛ كما فعل
بلال وابن أم مكتوم، كان أحدهما يؤذن بعد الآخر، ولأن ذلك أبلغ في الإعلام.
ويصح
في حالة تعدد المؤذنين: إما أن يؤذن كل واحد في منارة، أو ناحية، أو يؤذنوا دفعة
واحدة في موضع واحد.
١١ً - يستحب أن يؤذن المؤذن في أول الوقت ليعلم الناس،
فيستعدوا للصلاة، وروى جابر بن سمرة قال: «كان بلال لا يؤخر الأذان عن الوقت،
وربما أخر الإقامة شيئًا» (٢) وفي رواية قال: «كان بلال يؤذن إذا مالت الشمس لا
يؤخر، ثم لا يقيم، حتى يخرج النبي ﷺ، فإذا خرج أقام حين يراه» (٣).
(١) حديث
صحيح رواه البخاري ومسلم.
(٢) رواه ابن ماجه.
(٣) رواه أحمد في
المسند.
١٢ً - يجوز استدعاء الأمراء إلى الصلاة، لما روت عائشة
﵄ أن بلالًا جاء، فقال: السلام عليك يا رسول الله وبركاته، الصلاة يرحمك الله،
فقال النبي ﷺ: مروا أبا بكر فليصل بالناس. وكان بلال يسلم على أبي بكر وعمر ﵄،
كما كان يسلم على رسول الله ﷺ.
١٣ً - يستحب ألا يقوم الإنسان قبل فراغ
المؤذن من أذانه، بل يصبر قليلًا إلى أن يفرغ أو يقارب الفراغ؛ لأن في التحرك عند
سماع الأذان تشبهًا بالشيطان.
مكروهات الأذان:
للأذان مكروهات هي ما يأتي (١):
١ً - يكره الأذان إذا لم تتوافر
السنن السابقة، وقد عدد الحنفية أحوال الكراهة إذا لم تتحقق السنن، فقالوا:
يكره
تحريمًا أذان جنب وإقامته، ويعاد أذانه، وإقامة المحدث على المذهب، وأذان مجنون
ومعتوه وصبي لا يعقل، وامرأة وخنثى، وفاسق، وسكران، وقاعد إلا إذا أذن لنفسه،
وراكب إلا المسافر.
٢ً - يكره التلحين وهو التطريب أو التغني أو التمديد
الذي يؤدي إلى تغيير كلمات الأذان، أو الزيادة والنقص فيها، أما تحسين الصوت بدون
التلحين فهو مطلوب. ويصح أذان ملحَّن على الراجح عند الحنابلة، لحصول المقصود منه
كغير الملحن. ويكره أيضًا اللحن أو الخطأ في النحو أو الإعراب.
(١) فتح
القدير:١٧٦/ ١، الدر المختار:٢٦٤/ ١ ومابعدها، مراقي الفلاح: ص٣٢، القوانين
الفقهية: ص٤٨، الشرح الصغير: ٢٤٨/ ١، الشرح الكبير: ١٩٤/ ١،١٩٦، ١٩٨، مغني
المحتاج:١٣٨/ ١، المهذب:٥٧/ ١ ومابعدها، المغني:٤٠٨/ ١،٤١١، ٤١٤، ٤٢٤،٤٢٨، ٤٣٠،
كشاف القناع:٢٧٦/ ١، ٢٧٩،٢٨١،٢٨٣.
٣ً - يكره المشي فيه؛ لأنه قد
يخل بالإعلام، والكلام في أثنائه، حتى ولو بردّ السلام، ويكره السلام على المؤذن
(١) ويجب عليه أن يرد عليه بعد فراغه من الأذان. ولا يبطله الكلام اليسير، ويبطله
الكلام الطويل، لأنه يقطع الموالاة المشروطة في الأذان عند الجمهور غير الحنفية.
وأشار الحنابلة: أنه يجوز رد السلام في أثناء الأذان والإقامة.
٤ً - يكره
التثويب في غير الفجر، سواء ثوب في الأذان أو بعده، لما روي عن بلال أنه قال:
«أمرني رسول الله ﷺ أن أثوب في الفجر، ونهاني أن أثوب في العشاء» (٢)، ولأن
التثويب مناسب لصلاة الفجر حيث يكون الناس نيامًا، فاحتيج إلى قيامهم إلى الصلاة
عن نوم.
٥ً - قال الحنابلة: يحرم ولا يجوز الخروج من المسجد بعد الأذان إلا
لعذر، لعمل أصحاب النبي ﷺ، قال أبو الشعثاء: «كنا قعودًا مع أبي هريرة في المسجد،
فأذن المؤذن، فقام رجل من المسجد يمشي، فأتبعه أبو هريرة بصره حتى خرج من المسجد،
فقال أبو هريرة: أما هذا فقد عصى أبا القاسم ﷺ (٣)، وقال عثمان بن عفان: قال رسول
الله ﷺ: «من أدركه الأذان في المسجد، ثم خرج، لم يخرج لحاجة، وهو لا يريد الرجعة،
فهو منافق» (٤).
أما الخروج لعذر فمباح، بدليل أن ابن عمر خرج من أجل
التثويب في غير حينه.
(١) قال المالكية: ويكره السلام أيضًا على ملب في حج
أو عمرة، وقاضي حاجة، ومجامع، وأهل بدع، ومشتغل بلهو وأهل المعاصي، وشابة، فإن
كان أهل المعصية في حال المعصية أو شابة يخشى فتنتها حرم السلام، ولا يكره على
مصل ومتطهر وآكل وقارئ قرآن (الشرح الكبير: ١٩٨/ ١).
(٢) رواه ابن ماجه.
(٣)
رواه أبو داود والترمذي، وقال: حديث حسن صحيح.
(٤) رواه ابن ماجه.
وقال
الشافعية: يكره الخروج من المسجد بعد الأذان من غير صلاة إلا لعذر.
٦ً - قال
الحنابلة: يكره الأذان قبل الفجر في شهر رمضان مقتصرًا عليه، لئلا يغتر الناس به،
فيتركوا السحور. ويحتمل ألا يكره في حق من عرف عادته بالأذان في الليل؛ لأن
بلالًا كان يفعل ذلك، بدليل قوله ﷺ: «إن بلالًا يؤذن بليل، فكلوا واشربوا حتى
يؤذن ابن أم مكتوم» وقوله ﵇: «لا يمنعكم من سحوركم أذان بلال، فإنه يؤذن بليل
لينبه نائمكم، ويرجع قائمكم». ويكره عندهم القول قبل الإقامة: اللهم صل على محمد،
ولا بأس بنحنحة قبلها، كما يكره عندهم النداء بالصلاة بعد الأذان في الأسواق
وغيرها، مثل أن يقول: الصلاة، أو الإقامة، أو الصلاة رحمكم الله. وقال النووي:
تسن الصلاة على النبي ﷺ قبل الإقامة.
إجابة المؤذن والمقيم:
يجب في الراجح عند الحنفية لمن سمع الأذان وندبًا لمن سمع الإقامة، ويسن
عند غيرهم لمن سمع المؤذن أو المقيم: أن يقول مثلما يقول مثنى مثنى عقب كل جملة،
إلا في الحيعلتين، فيحوقل فيقول: (لا حول ولا قوة إلا بالله) ومعنى ذلك: أنه لا
حول عن معصية الله إلا بعصمة الله، ولا قوة على طاعة الله إلا بمعونته، كما قال
ابن مسعود.
وإلا في التثويب، فيقول: (صدقتَ وبررت) فالإجابة إنما هي باللسان
وهو الظاهر عند الحنفية (١).
(١) البدائع:١٥٥/ ١، فتح القدير:١٧٣/ ١، الدر
المختار:٣٦٧/ ١ ومابعدها، الشرح الصغير:٢٥٣/ ١، الشرح الكبير:١٩٦/ ١، القوانين
الفقهية: ص٤٨، المجموع:١٢٤/ ٣، مغني المحتاج:١٤٠/ ١ ومابعدها، المهذب:٥٨/ ١، كشاف
القناع:٢٨٤/ ١ ومابعدها، المغني:٤٢٦/ ١ - ٤٢٨.
وقال بعض
الحنفية: بالقدم أي بالمشي إلى الصلاة، وهو مشكل لأنه يلزم عليه وجوب الأداء في
أول الوقت في المسجد.
واكتفى المالكية بأن يقول السامع لمنتهى الشهادتين،
ولو كان في صلاة نفل، ويكره ولا يحاكي المؤذن في بقية الأذان (على الراجح المشهور
المعتمد)، ولا في قوله (الصلاة خير من النوم) قطعًا، ولا في قوله (صدقت وبررت) أي
صرت ذا بر أي خير كثير، إلا في الإقامة، فيقول بعدها: (أقامها الله وأدامها).
والدليل
على الإجابة: ما روى أبو سعيد أن رسول الله ﷺ قال: «إذا سمعتم النداء، فقولوا مثل
ما يقول المؤذن» (١) لكن قال المالكية: المتبادر من قوله «سمعتم»: ولو البعض،
خصوصًا وقد قال: فقولوا مثل ما يقول، ولم يقل: مثل ما قال. وهذا في تقديري تعسف
واضح في التأويل، والظاهر كما قال بعض المالكية: أن يحكي الأذان كله. والأمر في
الحديث عند الحنفية للوجوب وعند غيرهم للندب كالأمر بالدعاء عقب الصلاة.
وروى
مسلم عن عمر في فضل القول كما يقول المؤذن كلمة كلمة سوى الحيعلتين (حي على
الصلاة، حي على الفلاح) فيقول: «لا حول ولا قوة إلا بالله» (٢) وروى ابن خزيمة:
عن أنس ﵁ قال: «من السنة إذا قال المؤذن في الفجر: حي على الفلاح، قال: الصلاة
خير من النوم» (٣).وأخرج أبو داود عن بعض أصحاب النبي ﷺ «أن بلالًا أخذ في
الإقامة، فلما أن قال: قد قامت
(١) متفق عليه رواه الجماعة عن جماعة من
الصحابة، منهم أبو هريرة، وعمرو بن العاص، وابنه، وأم حبيبة. وروى مسلم وأبو داود
عن عمر كيفية الإجابة (نيل الأوطار:٥١/ ٣،٥٣).
(٢) سبل السلام:١٢٦/ ١.
(٣)
المصدر السابق:١٢٠/ ١.
الصلاة، قال النبي ﷺ: أقامها الله
وأدامها» (١) وفي التثويب ورد خبر أيضًا كما قال ابن الرفعة، ولكن لا يعرف من
قاله.
ويستحب لمن كان يقرأ ولو قرآنًا أن يقطع القراءة، ليقول مثلما يقول
المؤذن أو المقيم، لأنه يفوت، والقراءة لا تفوت، لكن إن سمعه في الصلاة، لم يقل
مثل قوله، لئلا يشتغل عن الصلاة بما ليس منها، وقد روي «إن في الصلاة لشغلًا»
وعلى هذا ينبغي عند الحنفية ألا يتكلم ولا يشتغل بشيء حال الأذان أو الإقامة.
وتشمل
الإجابة عند الجمهور كل سامع، ولو كان جنبًا أو حائضًا أو نفساء، أو كان في طواف
فرضًا أو نفلًا، ويجيب بعد الجماع والخلاء والصلاة ما لم يطل الفصل بينه وبين
الأذان.
وقال الحنفية: تشمل الإجابة من سمع الأذان ولو كان جنبًا، لا حائضًا
ونفساء وسامع خطبة وفي صلاة جنازة، وجماع، ومستراح في بيت الخلاء، وأكل، وتعليم
علم وتعلمه، لكن في أثناء قراءة القرآن يجيب لأنه لا يفوت، وتكرار القراءة
للأجر.
ويندب عند الحنفية القيام عند سماع الأذان، والأفضل أن يقف الماشي
للإجابة ليكون في مكان واحد.
ويجيب المؤذن سواء سمع الآذان كله أم بعضه. فإن
لم يسمعه لبعد أو صمم لا تسن له الإجابة.
(١) المصدر السابق:١٢٧/ ١ وفي خبر
آخر عند أبي داود بسند ضعيف يقول: «أقامها الله وأدامها ما دامت السموات والأرض»
ويروى عن النبي ﷺ أيضًا أنه يقول: «اللهم أقمها وأدمها واجعلني من صالح
أهلها».
وينبغي تدارك إجابة المؤذن إن لم يطل الفصل، وإن طال
فلا (١).
وإذا تكرر الأذان أجاب - كما ذكر في الدر المختار - الأول، سواء
أكان مؤذن مسجده أم غيره، لكن قال ابن عابدين: ويظهر لي إجابة الكل بالقول، لتعدد
السبب وهو السماع، كما اعتمده بعض الشافعية. وقال النووي في المجموع: وإذا سمع
مؤذنًا بعد مؤذن، فالمختار أن أصل الفضيلة في الإجابة شامل للجميع، إلا أن الأول
متأكد يكره تركه (٢).
قال الشافعية والحنابلة: وإذا دخل المسجد، والمؤذن قد
شرع في الأذان، لم يأت بتحية ولا بغيرها، بل يجيب المؤذن واقفًا حتى يفرغ من
أذانه ليجمع بين أجر الإجابة والتحية.
وقال الحنفية: إذا دخل المسجد،
والمؤذن يؤذن أو يقيم، قعد حتى ينتهي الأذان أو الإقامة، ويقوم الإمام إلى
مصلاه.
ما يستحب بعد الأذان:
يستحب بعد الأذان وبعد الإقامة ما يأتي (٣):
١ - أن يصلي على النبي
ﷺ، وذلك عند الشافعية والحنابلة مسنون بعد الفراغ من الأذان لكل من المؤذن
والسامع، للحديث الآتي. وقد استحدث الصلاة على النبي بعد الأذان في أيام صلاح
الدين الأيوبي سنة (٧٨١ هـ) في عشاء ليلة الاثنين، ثم يوم الجمعة، ثم بعد عشر
سنين حدث في الكل إلا المغرب، ثم فيها مرتين، قال الفقهاء: وهو بدعة حسنة.
(١)
رد المحتار:٣٦٨/ ١، مغني المحتاج:١٤٠/ ١.
(٢) رد المحتار:٣٦٩/ ١، مغني
المحتاج:١٤٠/ ١.
(٣) فتح القدير:٧٤/ ١ ومابعدها، الدر المختار:٣٦٢/ ١، مراقي
الفلاح: ص٣٣، القوانين الفقهية: ص٤٨، مغني المحتاج:١٤١/ ١، المهذب:٥٨/ ١،
المغني:٤٢٧/ ١، كشاف القناع:٢٨٦/ ١.
٢ - أن يدعو بالدعاء
المأثور: (اللهم رب هذه الدعوة التامة، والصلاة القائمة آت محمدًا الوسيلة
والفضيلة، وابعثه مقامًا محمودًا الذي وعدته) لقوله ﷺ: «إذا سمعتم المؤذن، فقولوا
مثل ما يقول، ثم صلوا علي، فإن من صلى علي صلاة، صلى الله عليه بها عشرًا، ثم
سلوا الله لي الوسيلة، فإنها منزلة في الجنة، لا ينبغي أن تكون إلا لعبد من عباد
الله، وأرجو أن أكون أنا هو، فمن سأل لي الوسيلة، حلَّت عليه الشفاعة» (١).
وعن
سعد بن أبي وقاص قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: من قال حين يسمع النداء: وأنا أشهد
أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا رسول الله، رضيت بالله ربًا،
وبالإسلام دينًا، وبمحمد ﷺ رسولًا، غفر له ذنبه» (٢).
وعن جابر قال: قال
رسول الله ﷺ: «من قال حين يسمع النداء: اللهم رب هذه الدعوة التامة، والصلاة
القائمة، آت محمدًا الوسيلة والفضيلة، وابعثه مقامًا محمودًا الذي وعدته، حلت له
شفاعتي يوم القيامة» (٣).
وإذا كان الأذان للمغرب قال: «اللهم هذا إقبال
ليلك، وإدبار نهارك،
(١) رواه الجماعة إلا البخاري وابن ماجه عن ابن عمرو
مرفوعًا. ومعنى الحديث: اللهم أصله: يا الله، حذف منه (يا) وعوض عنه الميم ولهذا
لا يجمع بينهما. الدعوة التامة: دعوة التوحيد؛ لأنه لا يدخلها تغيير ولا تبديل،
بل هي باقية إلى يوم القيامة، أو هي دعوة الأذان والإقامة، سميت تامة لكمالها
وعظمةموقعها وسلامتها من نقص يتطرق إليها. الصلاة القائمة: التي ستقوم، وتفعل
بصفاتها. والوسيلة: القرب من الله تعالى، وقيل: هي منزلة في الجنة، كما ثبت في
صحيح مسلم، والمتعين هذا المعنى لتفسيرها بنص الحديث. والفضيلة: المرتبة الزائدة
على سائر الخلائق. والمقام المحمود: الشفاعة العظمى في يوم القيامة، لأنه يحمده
فيه الأولون والآخرون، لقوله تعالى: ﴿عسى أن يبعثك ربك مقامًا محمودا ً﴾
[الإسراء:٧٩/ ١٧]. والحكمة في سؤال ذلك مع كونه واجب الوقوع بوعد الله تعالى:
إظهاركرامته، وعظم منزلته (نيل الأوطار: ٢/ ٥٥).
(٢) رواه مسلم.
(٣)
رواه الجماعة إلا مسلمًا (نيل الأوطار:٥٤/ ٢ ومابعدها).
وأصوات
دعاتك، وحضور صلواتك، فاغفر لي»؛ لأن النبي ﷺ أمر أم سلمة أن تقول ذلك (١) ويقول
بعد الصبح: (اللهم هذا إقبال نهارك وإدبار ليلك وأصوات دعاتك فاغفر لي).
٣ -
يدعو عند فراغ الأذان بينه وبين الإقامة، وسأل الله تعالى العافية في الدنيا
والآخرة لقوله ﷺ: «الدعاء لا يرد بين الأذان والإقامة قالوا: فما نقول يا رسول
الله؟ قال: سلوا الله العفو والعافية في الدنيا والآخرة (٢).
والمستحب أن
يقعد المؤذن بين الأذان والإقامة قعدة ينتظر فيها الجماعة، كما أبنت في سنن
الأذان.
ثانيًا - الإقامة: صفة الإقامة أو كيفيتها:
الإقامة سنة مؤكدة في الفرائض الوقتية والفائتة، على المنفرد والجماعة،
للرجال والنساء عند المالكية والشافعية. أما الحنابلة والحنفية فقالوا: ليس على
النساء أذان وإقامة.
واختلف العلماء في صفة الإقامة على آراء ثلاثة (٣):
فقال الحنفية: الإقامة مثنى مثنى مع تربيع التكبير مثل الأذان، إلا أنه
يزيد
(١) رواه أبو داود والترمذي، وانظر المهذب:٥٩/ ١.
(٢) حديث صحيح
رواه أحمد وأبو داود والترمذي وحسنه، والنسائي وابن خزيمة وابن حبان والضياء في
المختارة، عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه (نيل الأوطار:٥٥/ ٢، سبل
السلام:١٣٠/ ١).
(٣) البدائع:١٤٨/ ١، الدر المختار:٣٦٠/ ١، اللباب:٦٣/ ١،
فتح القدير:١٦٩/ ١، الشرح الصغير:٢٥٦/ ١، القوانين الفقهية: ص٤٨، بداية
المجتهد:١٠٧/ ١، مغني المحتاج:١٣٣/ ١،١٣٦، المهذب:٥٤/ ١،٥٧، المغني:٤٠٦/ ١، كشاف
القناع:٢٦٧/ ١.
فيها بعد الفلاح: (قد قامت الصلاة مرتين) فتكون
كلماتها عندهم سبع عشرة كلمة، بدليل ما روى ابن أبي شيبة، قال: حدثنا أصحاب محمد
ﷺ أن عبد الله ابن زيد الأنصاري جاء إلى النبي ﷺ، فقال: «يا رسول الله، رأيت في
المنام، كأن رجلًا قام وعليه بُردان أخضران، فقام على حائط، فأذن مثنى مثنى،
وأقام مثنى مثنى» (١).
وروى الترمذي عن عبد الله بن زيد، قال: «كان أذان
رسول الله ﷺ شفعًا شفعًا في الأذان والإقامة» (٢).
وعن أبي محذورة قال:
«علمني رسول الله ﷺ الأذان تسع عشرة كلمة، والإقامة سبع عشرة كلمة» (٣).
وقال
المالكية: الإقامة عشر كلمات، تقول: «قد قامت الصلاة» مرة واحدة، لما روى أنس
قال: «أمر بلال أن يشفع الأذان، ويوتر الإقامة» (٤).
وقال الشافعية
والحنابلة: الإقامة فرادى، إحدى عشرة كلمة، إلا لفظ الإقامة: «قد قامت الصلاة»
فإنها تكرر مرتين، لما روى عبد الله بن عمر أنه قال: «إنما كان الأذان على عهد
رسول الله ﷺ مرتين مرتين، والإقامة مرة مرة، غير أنه يقول: قد قامت الصلاة، قد
قامت الصلاة» (٥). ويظهر لي أن هذا أصح الآراء،
(١) رجاله رجال الصحيح، وهو
متصل لأن الصحابة عدول، وجهالة أسمائهم لاتضر، ورواه البيهقي. وروي مثله عند أبي
داود وغيره (نصب الراية:٢٦٦/ ١ - ٢٦٧).
(٢) نصب الراية:٢٦٧/ ١. أما الأذان
فهو عندهم١٥ كلمة.
(٣) أخرجه الخمسة، وقال الترمذي حديث حسن صحيح (المصدر
السابق، نيل الأوطار:٤٣/ ٢) وكون الأذان (١٩) أي بالترجيع، والإقامة (١٧) أي بلفظ
الإقامة.
(٤) رواه الجماعة عن أنس (نيل الأوطار:٤٠/ ٢).
(٥) رواه أحمد
والنسائي وأبو داود، والشافعي وأبو عوانة والدارقطني وابن خزيمة وابن حبان
والحاكم (نيل الأوطار:٤٣/ ٢).
أو أن الأمر على التخيير بين هذا
الرأ ي ورأي الحنفية. وأما حديث أنس فمقيد بحديث ابن عمر.
أحكام الإقامة:
أحكام الإقامة كأحكام الأذان السابقة، ويزاد عليها ما يأتي (١):
١ً -
يسن إدراج الإقامة أو حدرها: أي الإسراع بها مع بيان حروفها، فيجمع بين كل كلمتين
منها بصوت، والكلمة الأخيرة بصوت، عملًا بالحديث السابق عن جابر: «إذا أذَّنت
فترسّل - أي تمهل - وإذا أقمت فاحدُر، واجعل بين أذانك وإقامتك مقدار ما يفرُغ
الآكل من أكله».
٢ً - الأفضل في المذاهب الأربعة أن يتولى الإقامة من أذَّن،
اتباعًا للسنة: (من أذن فهو يقيم)، كما تقدم في شروط الأذان، فإذا أذن واحد وأقام
غيره جاز.
لكن قال الحنفية: يكره أن يقيم غير من أذن إن تأذى بذلك؛ لأن
اكتساب أذى المسلم مكروه، ولا يكره إن كان لا يتأذى به.
٣ً - يستحب عند
الحنابلة أن يقيم في موضع أذانه؛ لأن الإقامة شرعت للإعلام، فشرعت في موضعه،
ليكون أبلغ في الإعلام، إلا أن يؤذن في المنارة أو مكان بعيد من المسجد، فيقيم في
غير موضعه، لئلا يفوته بعض الصلاة.
وقال الشافعية: يستحب أن تكون الإقامة في
غير موضع الأذان، وبصوت أخفض من الأذان.
(١) الدر المختار:٣٦١/ ١،٣٧١، فتح
القدير:١٧٠/ ١، البدائع:١٥١/ ١، بداية المجتهد:١٤٥/ ١، الشرح الصغير:٢٥٥/ ١
ومابعدها، المهذب:٥٩/ ١، مغني المحتاج:١٣٦/ ١،١٣٨ ومابعدها، المغني:٤١٥/ ١ -
٤١٧،٤٥٨ ومابعدها، كشاف القناع:٢٧٥/ ١ ومابعدها،٢٧٩،٢٨١.
ولا
يقيم حتى يأذن له الإمام، فإن بلالًا كان يستأذن النبي ﷺ، وفي حديث زياد بن
الحارث الصدائي قال: «فجعلت أقول للنبي ﷺ أقيم أقيم؟» وقال ﷺ: «المؤذن أملك
بالأذان، والإمام أملك بالإقامة» (١).
٤ً - لا يقوم المصلون للصلاة عند
الإقامة حتى يقوم الإمام أو يقبل؛ لقوله ﵊: «إذا أقيمت الصلاة فلا تقوموا حتى
تروني» (٢).
وأما تعيين وقت قيام المؤتمين إلى الصلاة: فقال المالكية: يجوز
للمصلي القيام حال الإقامة أو أولها أو بعدها، فلا يطلب له تعيين حال، بل بقدر
الطاقة للناس، فمنهم الثقيل والخفيف. وقال الحنفية: يقوم عند «حي على الفلاح»
وبعد قيام الإمام.
وقال الحنابلة: يستحب أن يقوم عند قول المؤذن (قد قامت
الصلاة) لما روي عن أنس «أنه كان يقوم إذا قال المؤذن: قد قامت الصلاة».
وقال
الشافعية: يستحب أن يقوم المصلي بعد انتهاء الإقامة إذا كان الإمام مع المصلين في
المسجد (٣)، وكان يقدر على القيام بسرعة، بحيث يدرك فضيلة تكبيرة الإحرام، وإلا
قام قبل ذلك بحيث يدركها.
٥ً - يسن كما في الأذان أن يقيم قائمًا متطهرًا،
مستقبل القبلة، ولا يمشي في أثناء إقامته، ولا يتكلم، ويشترط ألا يفصل بين
الإقامة والصلاة بفاصل طويل،
(١) رواه ابن عدي وهو الحافظ الكبير أبو أحمد
عبد الله بن عدي الجرجاني، ويعرف بابن القصار، صاحب كتاب الكامل في الجرح
والتعديل (٢٧٩ - ٣٦٥هـ) (سبل السلام:١٣٠/ ١).
(٢) متفق عليه.
(٣) سبل
السلام:١٣١/ ١، الحضرمية: ص٧٤، المجموع:٢٣٧/ ٣، المغني: ٤٥٨/ ١، الدر
المختار:٤٤٧/ ١.
وينبغي إن طال الفصل أو وجد ما يعد قاطعًا كأكل
أن تعاد الإقامة. ويسن أن يحرم الإمام عقب فراغ الإقامة، ولا يفصل إلا بمندوب
كأمر الإمام بتسوية الصفوف. ولا تجزئ إقامة المرأة للرجال. ويسن عند الشافعية لمن
كان أهلًا أن يجمع بين الأذان والإقامة. وكذلك قال الحنفية: الأفضل كون الإمام هو
المؤذن، لأنه ﵇ كما في الضياء - أذن في سفر بنفسه وأقام وصلى الظهر.
ولا يسن
في الإقامة كونها في مكان مرتفع، ولا وضع الأصبع في الأذن، ولا الترجيع فيها
والترتيل.
٦ً- إذا أذن المؤذن وأقام، لم يستحب لسائر الناس أن يؤذن كل منهم
أو يقيم، وإنما يقول مثل ما يقول المؤذن،؛ لأن السنة وردت بهذا.
٧ً - يستحب
للإمام تسوية الصفوف، يلتفت عن يمينه وشماله، فيقول: استووا رحمكم الله، قال رسول
الله ﷺ: «سووا صفوفكم، فإن تسوية الصف من تمام الصلاة» (١).
ملحق - الأذان لغير الصلاة.
هذا ويندب الأذان لأمور غير الصلاة:
منها الأذان في أذُن المولود
اليمنى عند ولادته، كما تندب الإقامة في اليسرى لأنه ﷺ ْذَّن في أذ ُن الحسن حين
ولدته فاطمة (٢).
ومنها الأذان وقت الحريق ووقت الحرب، وخلف المسافر.
(١)
متفق عليه.
(٢) رواه الترمذي، وقال: حديث صحيح.
ومنها
الأذان في أذن المهموم المصروع وللغضبان ولمن ساء خلقه من إنسان أو بهيمة، وإذا
تغولت الغيلان (١) أي سحرة الجن والشياطين، وذلك لدفع شرها بالأذان، فإن الشيطان
إذا سمع الأذان أدبر.
ولا يسن عند إدخال الميت القبر على المعتمد عند
الشافعية.
(١) أي تلونت في صور.