اسم الكتاب الفِقْهُ الإسلاميُّ وأدلَّتُهُ الشَّامل للأدلّة الشَّرعيَّة والآراء المذهبيَّة وأهمّ النَّظريَّات الفقهيَّة وتحقيق الأحاديث النَّبويَّة وتخريجها
اسم المؤلف: د. وَهْبَة بن مصطفى الزُّحَيْلِيّ
المهنة:أستاذ ورئيس قسم الفقه الإسلاميّ وأصوله بجامعة دمشق - كلّيَّة الشَّريعة
الوفاة 8 أغسطس 2015 الموافق 23 شوال 1436 هـ
التصنيف: الفقه المقارن
المحتويات
- البَابُ الثَّالث: الصِّيامُ والاعتكاف وفيه فصلان: الأول عن الصيام، والثاني عن الاعتكاف
- الفصل الأول: الصيام
- -تعريف الصوم
- المبحث الأول ـ تعريف الصوم وزمنه وفوائده، وفضل رمضان وليلة القدر، وأهم الأحداث التاريخية في رمضان
- المطلب الأول ـ تعريف الصوم، وركنه وزمنه وفوائده
- -ركن الصوم
- -زمن الصوم
- -فوائد الصيام
- المطلب الثاني ـ فضل رمضان وليلة القدر
- -ليلة القدر
- -الحكمة في إخفائها
- -علاماتها
- المطلب الثالث ـ أهم الأحداث التاريخية الواقعة في رمضان
- -١ - معركة بدر الكبرى
- -٢ - فتح مكة
- -٣ - وقعت بعض أحداث غزوة تبوك
- -٤ - انتشر الإسلام في اليمن
- -٦ - قدم في السنة التاسعة في رمضان وفد ثقيف
- -٧ - في صبيحة يوم الجمعة في ٢٥ من رمضان٤٧٩ هـ حدثت موقعة الزلاقة
- -٨ - موقعة عين جالوت
- -٩ - فتح الأندلس
- المبحث الثاني ـ فرضية الصيام وأنواعه
- -فرضية الصيام وتاريخها
- أنواع الصيام
- -النوع الأول ـ الواجب
- النوع الثاني ـ الصوم الحرام
- -الحنفية
- -- صيام المرأة نفلا
- - صوم يوم الشك
- -المالكية
- -الشافعية
- -الحنابلة
- -- صوم عيد الفطر والأضحى وأيام التشريق بعده
- -- صوم الحائض والنفساء
- -- قال الشافعية: يحرم صوم النصف الأخير من شعبان
- -- صيام من يخاف على نفسه الهلاك بصومه.
- النوع الثالث ـ الصوم المكروه
- -الحنفية
- -المالكية
- -الشافعية
- -الحنابلة
- النوع الرابع ـ صوم التطوع أو الصوم المندوب
- آراء المذاهب في الصوم المندوب
- -قال الحنفية
- -قال المالكية
- -ذكر الشافعية
- -سرد الحنابلة
- -هل يلزم التطوع بالشروع فيه؟
- المبحث الثالث ـ متى يجب الصوم، وكيفية إثبات هلال الشهر واختلاف المطالع؟
- -المطلب الأول ـ متى يجب الصوم؟
- المطلب الثاني ـ كيفية إثبات هلال رمضان وهلال شوال
- -الحنفية
- -المالكية
- -الشافعية
- -الحنابلة
- -طلب رؤية الهلال
- المطلب الثالث ـ اختلاف المطالع
- -قال الحنفية
- -قال المالكية
- -قال الحنابلة
- -الشافعية
- الأدلة
- -أدلة الشافعية
- -أدلة الجمهور
- المبحث الرابع ـ شروط الصوم
- المطلب الأول ـ شروط وجوب الصوم
- -١ - الإسلام
- -٢ - ٣ - البلوغ والعقل
- -٤ - ٥ - القدرة (أو الصحة من المرض)، والإقامة
- المطلب الثاني ـ شروط صحة الصوم
- -شرط الطهارة
- أما النية فأذكر في الصوم تعريفها وهل هي شرط أو ركن، ومحلها، وشروطها، وصفتها، وأثرها
- -تعريف النية
- -هل النية شرط أو ركن؟
- -محل النية
- شروط النية
- ١ - تبييت النية
- -الحنفية
- -المالكية
- -الشافعية
- -الحنابلة
- -٢ - تعيين النية في الفرض
- ٣ - الجزم بالنية
- -نية الفرضية
- -٤ - تعدد النية بتعدد الأيام
- -صفة النية وأثرها
- خلاصة آراء المذاهب في شروط الصوم
- -الحنفية
- -المالكية
- -الشافعية
- -الحنابلة
- المبحث الخامس ـ سنن الصوم وآدابه ومكروهاته
- -المطلب الأول ـ سنن الصوم وآدابه
- المطلب الثاني ـ مكروهات الصيام
- -قال الحنفية
- -قال المالكية
- -قال الشافعية
- -قال الحنابلة
- المبحث السادس - الأعذار المبيحة للفطر
- -١ - السفر
- -٢ - المرض
- -٣ - ٤ - الحمل والرضاع
- -٥ - الهرم
- -٦ - إرهاق الجوع والعطش
- -٧ - الإكراه
- -صاحب العمل الشاق
- -إنقاذ الغريق ونحوه
- صوم التطوع
- -الحنفية
- الإمساك بعد الفطر بعذر
- -المالكية
- -الشافعية
- -الحنابلة
- المبحث السابع ـ ما يفسد الصوم وما لا يفسده
- الحنفية
- -أولا ـ مايفسد الصوم ويوجب القضاء فقط دون الكفارة
- -ثانيا ـ ما يفسد الصوم ويوجب القضاء والكفارة معا
- -ما لا يفسد الصوم عند الحنفية
- المالكية
- -الأول ـ ما يفسد الصوم ويوجب القضاء فقط
- -الثاني ـ ما يفسد الصوم ويوجب القضاء والكفارة معا بالفطر في رمضان فقط دون غيره
- -ما لا يفسد الصوم
- الشافعية
- -الأول ـ ما يفسد الصوم ويوجب القضاء فقط
- -الثاني - ما يوجب القضاء والكفارة والتعزير
- -ما لا يفسد الصوم عند الشافعية
- الحنابلة
- -الأول ـ ما يفسد الصوم ويوجب القضاء فقط
- -الثاني ـ ما يوجب القضاء والكفارة معا
- -مالا يفسد الصوم
- المبحث الثامن ـ قضاء الصوم وكفارته وفديته
- المطلب الأول ـ قضاء الصوم
- -أولا ـ لوازم الإفطار
- ثانيا ـ حكم القضاء
- -وقت قضاء رمضان
- -تتابع القضاء
- -صوم الولي عن الميت قضاء
- -وهل يجب الإطعام عنه من التركة؟
- المطلب الثاني ـ الكفارة
- -موجبها
- -حكمها
- -دليل إيجابها
- -أنواع الكفارة
- -تعدد الكفارة أو تداخلها بتعدد الإفطار في أيام
- -طروء العذر بعد الإفطار عمدا
- المطلب الثالث ـ الفدية
- -حكم الفدية
- -سببها
- -تكرر الفدية
- -باقي لوازم الإفطار
- -قطع التتابع
- -قطع النية
- -ملحق ـ ما يلزم الوفاء به من منذور الصوم والصلاة وغيرهما
- الفصل الثاني: الاعتكاف
- المبحث الأول ـ تعريف الاعتكاف ومشروعيته والهدف منه، ومكانه وزمانه
- -تعريفه
- -أدلة مشروعيته
- -الهدف منه
- -زمانه
- -مكانه
- المبحث الثاني ـ حكم الاعتكاف وما يوجبه النذر على المعتكف
- -المطلب الأول ـ حكم الاعتكاف
- -المطلب الثاني ـ ما يوجبه النذر على المعتكف
- -المبحث الثالث ـ شروط الاعتكاف
- المبحث الرابع: ما يلزم المعتكف وما يجوز له
- -الخروج المباح في الاعتكاف الواجب أربعة أنواع
- المبحث الخامس ـ آداب المعتكف ومكروهات الاعتكاف ومبطلاته
- -آـ آداب المعتكف
- -ب ـ مكروهات الاعتكاف
- -جـ ـ مبطلات الاعتكاف
- المبحث السادس ـ حكم الاعتكاف إذا فسد
- -قال الحنفية
- -قال المالكية
- -قال الشافعية
- -قال الحنابلة
- العودة الي الفقه الإسلامي وأدلته للزحيلي
البَابُ الثَّالث: الصِّيامُ والاعتكاف وفيه فصلان: الأول عن الصيام، والثاني عن الاعتكاف
الفَصْلُ الأوَّل: الصِّيام وفيه ثمانية مباحث:
المبحث الأول ـ تعريف الصوم، وركنه وزمنه وفوائده، وفضل رمضان، وليلة القدر، وأهم الأحداث التاريخية الواقعة في رمضان.
المبحث الثاني - فرضية الصيام وأنواعه (الصوم المفروض وصوم التطوع).
المبحث الثالث - متى يجب الصوم؟ وكيفية إثبات الشهر واختلاف المطالع.
المبحث الرابع - شروط الصوم - شروط الوجوب وشروط الصحة.
المبحث الخامس - سنن الصوم وآدابه ومكروهاته.
المبحث السادس - الأعذار المبيحة للفطر.
المبحث السابع - ما يفسد الصوم ومالا يفسده.
المبحث الثامن - قضاء الصوم وكفارته وفديته.
ملحق - ما يلزم الوفاء به من المنذور.
وأبدأ بالأول فالأول فيما يأتي:
المبحث الأول - تعريف الصوم وزمنه وفوائده، وفضل رمضان وليلة القدر، وأهم الأحداث التاريخية في رمضان:
وفيه ثلاثة مطالب:
المطلب الأول - تعريف الصوم، وركنه وزمنه وفوائده:
تعريف الصوم: الصوم لغة: الإمساك والكف عن الشيء، قال: صام عن الكلام، أي أمسك عنه، قال تعالى إخبارًا عن مريم: ﴿إني نذرت للرحمن صومًا﴾ [مريم:٢٦/ ١٩] أي صمتًا وإمساكًا عن الكلام، وقال العرب: صام النهار: إذا وقف سير الشمس وسط النهار عند الظهيرة (١).
وشرعًا: هو الإمساك نهارًا عن المفطِّرات بنية من أهله من طلوع الفجر إلى غروب الشمس (٢). أي أن الصوم امتناع فعلي عن شهوتي البطن والفرج، وعن كل شيء حسي يدخل الجوف من دواء ونحوه، في زمن معين: وهو من طلوع الفجر الثاني أي الصادق إلى غروب الشمس، من شخص معين أهل له: وهو المسلم العاقل غير الحائض والنفساء، بنية وهي عزم القلب على إيجاد الفعل جزمًا بدون تردد، لتمييز العبادة عن العادة.
وركن الصوم: الإمساك عن شهوتي البطن والفرج، أو الإمساك عن المفطرات، وزاد المالكية والشافعية ركنًا آخر وهو النية ليلًا.
(١) وقال الشاعر:
خيل صيام وخيل غير صائمة تحت العجاج واخرى تعلك اللجما
وأراد بالصائمة الممسكة عن الصهيل.
(٢) اللباب: ١٦٢/ ١، الشرح الصغير: ٦٨١/ ١ - ٦٩٨، مغني المحتاج: ٤٢٠/ ١، المغني: ٨٤/ ٣، كشاف القناع: ٣٤٨/ ٢ ومابعدها.
وزمن الصوم: من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، ويؤخذ في البلاد التي يتساوى الليل والنهار فيها، أو في حالة طول النهار أحيانًا كبلغاريا بتقدير وقت الصوم بحسب أقرب البلاد منها، أو بتوقيت مكة. ودليله قوله تعالى: ﴿وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر﴾ [البقرة:١٨٧/ ٢] وعبر بالخيط مجازًا، يعني بياض النهار من سواد الليل، وهذا يحصل بطلوع الفجر. قال ابن عبد البر: في قول النبي ﷺ: «إن بلالًا يؤذن بليل، فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم» دليل على أن الخيط الأبيض هو الصباح، وأن السحور لا يكون الا قبل الفجر، بالإجماع.
وفوائد الصيام كثيرة من الناحيتين الروحية والمادية:
فالصوم طاعة لله تعالى، يثاب عليها المؤمن ثوابًا مفتوحًا لا حدود له، لأنه لله سبحانه، وكرم الله واسع، وكرم الله واسع، وينال بها رضوان الله، واستحقاق دخول الجنان من باب خاص أعد للصائمين يقال له الريان (١) ويبعد نفسه عن عذاب الله تعالى بسبب ما قد يرتكبه من معاص، فهو كفارة للذنوب من عام لآخر، وبالطاعة يستقيم أمر المؤمن على الحق الذي شرعه الله ﷿، لأن الصوم يحقق التقوى التي هي امتثال للأوامر الإلهية واجتناب النواهي، قالله تعالى: ﴿يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم، لعلكم تتقون﴾ [البقرة:١٨٣/ ٢].
والصوم مدرسة خلقية كبرى يتدرب فيها المؤمن على خصال كثيرة، فهو جهاد للنفس، ومقاومة للأهواء ونزعات الشيطان التي قد تلوح له، ويتعود به
(١) روى البخاري ومسلم والنسائي والترمذي عن سهل بن سعد عن النبي ﷺ قال: «إن في الجنة بابًا يقال له الريان، يدخل منه الصائمون يوم القيامة، لا يدخل منه أحد غيرهم، فإذا دخلوا أغلق فلم يدخل منه أحد» (الترغيب والترهيب: ٨٢/ ٢ - ٨٣).
الإنسان خلق الصبر على ما قد يُحرَم منه، وعلى الأهواء والشدائد التي قد يتعرض لها، إذ يجد الطعام الشهي يطبخ أمامه، والروائح تهيج عصارات معدته، والماء العذب البارد يترقرق في ناظريه، فيمتنع منه، منتظرًا وقت الإذن الرباني بتناوله.
والصوم يعلِّم الأمانة ومراقبة الله تعالى في السر والعلن؛ إذ لا رقيب على الصائم في امتناعه عن الطيبات إلا الله وحده.
والصوم يقوي الإرادة، ويشحذ العزيمة، ويعلِّم الصبر، ويساعد على صفاء الذهن، واتقاد الفكر، وإلهام الآراء الثاقبة إذا تخطى الصائم مرحلة الاسترخاء، وتناسى ما قد يطرأ له من عوارض الارتخاء والفتور أحيانًا، قال لقمان لابنه: «يا بني، إذا امتلأت المعدة نامت الفكرة، وخرست الحكمة، وقعدت الأعضاء عن العبادة».
والصوم يعلِّم النظام والانضباط؛ لأنه يجبر الصائم على تناول الطعام والشراب في وقت محدد وموعد معين. والصوم يشعر بوحدة المسلمين الحسية في المشارق والمغارب، فهم جميعًا يصومون ويفطرون في وقت واحد؛ لأن ربهم واحد، وعبادتهم موحدة.
وينمي الصوم في الإنسان عاطفة الرحمة والأخوة، والشعور برابطة التضامن والتعاون التي تربط المسلمين فيما بينهم، فيدفعه إحساسه بالجوع والحاجة مثلًا إلى صلة الآخرين، والمساهمة في القضاء على غائلة الفقر والجوع والمرض، فتتقوى أواصر الروابط الاجتماعية بين الناس، ويتعاون الكل في معالجة الحالات المرضية في المجتمع.
والصوم فعلًا يجدد حياة الإنسان بتجدد الخلايا وطرح ماشاخ منها، وإراحة المعدة وجهاز الهضم، وحمية الجسد، والتخلص من الفضلات المترسبة والأطعمة
غير المهضومة، والعفونات أو الرطوبات التي تتركها الأطعمة والأشربة، قال النبي ﷺ: «صوموا تصحوا» (١)، وقال طبيب العرب: الحارث بن كَلْدة: «المعدة بيت الداء، والحِمْية رأس كل دواء».
والصيام جهاد للنفس، وتخليصها مما علق بها من شوائب الدنيا وآثامها، وكسر حدة الشهوة والأهواء، وتهذيبها وضبطها في طعامها وشرابها، بدليل قول النبي ﷺ: «يا معشر الشباب: من استطاع منكم الباءة، فليتزوج، فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء» (٢) وقال الكمال بن الهمام (٣): الصوم ثالث أركان الإسلام بعد «لا إله إلا الله، محمد رسول الله» والصلاة، شرعه سبحانه لفوائد أعظمها كونه موجبًا أشياء:
منها: سكون النفس الأمارة، وكسر سورتها في الفضول المتعلقة بجميع الجوارح من العين واللسان والأذن والفرج، فإن به تضعف حركتها في محسوساتها، ولذا قيل: إذا جاعت النفس شبعت جميع الأعضاء، وإذا شبعت جاعت كلها.
ومنها: كونه موجبًا للرحمةوالعطف على المساكين، فإنه لما ذاق ألم الجوع في بعض الأوقات، ذكر من هذا حاله في عموم الأوقات، فتسارع إليه الرقة عليه، فينال بذلك ما عند الله تعالى من حسن الجزاء.
ومنها: موافقة الفقراء بتحمل ما يتحملون أحيانًا، وفي ذلك رفع حاله عند الله تعالى.
(١) رواه ابن السني وأبو نعيم في الطب عن أبي هريرة، وهو حديث حسن.
(٢) رواه الجماعة عن ابن مسعود (نيل الأوطار: ٩٩/ ٦) والباءة: مؤن الزواج وتكاليفه، والوجاء: أي يضعف شهوة النكاح، تشبيهًا بقطع السيف.
(٣) فتح القدير: ٤٣/ ٢ ومابعدها.
وقال في الإيضاح: اعلم أن الصوم من أعظم أركان الدين وأوثق قوانين الشرع المتين، به قهر النفس الأمارة بالسوء، وإنه مركب من أعمال القلب، ومن المنع عن المآكل والمشارب والمناكح عامة يومه، وهو أجمل الخصال، غير أنه أشق التكاليف على النفوس (١)، وقد مدحه الله بآية ﴿إن المسلمين والمسلمات﴾ ... ﴿والخاشعين والخاشعات والمتصدقين والمتصدقات والصائمين والصائمات﴾ [الأحزاب:٣٥/ ٣٣].
المطلب الثاني - فضل رمضان وليلة القدر:
رمضان سيد الشهور، فيه بدأ نزول القرآن، وهو شهر الطاعة والقربة والبر والإحسان، وشهر المغفرة والرحمة والرضوان، فيه ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر، وبه عون المؤمن على أمر دينه وطلب إصلاح دنياه، وهو موسم تكثر فيه مناسبات إجابة الدعاء.
وقد ورد في السنة النبوية ما يدل على فضل رمضان وفضل الصوم فيه.
من ذلك ما يأتي:
١ً - «سيد الشهور شهر رمضان، وسيد الأيام يوم الجمعة» (٢) «ولو يعلم العباد ما في شهر رمضان لتمنى العباد أن يكون شهر رمضان سنة» (٣). وروى الطبراني عن عبادة بن الصامت أن رسول الله ﷺ قال يومًا وقد حضر رمضان:
(١) حاشية ابن عابدين: ١٠٩/ ٢.
(٢) رواه الطبراني في الكبير عن عبد الله بن مسعود، وفيه انقطاع (مجمع الزوائد: ١٤٠/ ٣).
(٣) رواه الطبراني في الكبير وابن خزيمة في صحيحه والبيهقي من طريقه عن أبي مسعود الغفاري، وفي راو من سنده كلام (الترغيب والترهيب: ١٠٢/ ٢، مجمع الزوائد: ١٤١/ ٣).
«أتاكم رمضان شهر بركة، يغشاكم الله فيه، فيُنزل الرحمة، ويحُطُّ الخطايا، ويستجيب فيه الدعاء، ينظر الله تعالى إلى تنافسكم فيه، ويباهي بكم ملائكته، فأروا الله من أنفسكم خيرًا، فإن الشقي من حرم فيه رحمة الله ﷿».
٢ً - «إذا جاء رمضان فتِّحت أبواب الجنة، وغلِّقت أبواب النار، وصُفِّدت الشياطين» (١).
٣ً - «الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان مكفِّرات ما بينهن إذا اجتنبت الكبائر» (٢).
٤ً - «كل عمل ابن آدم يضاعف، الحسنةُ بعشر أمثالها إلى سبع مئة ضَعْف، قال الله تعالى: إلا الصوم، فإنه لي وأنا أجزي به، يدع شهوته وطعامه من أجلي، للصائم فرحتان: فرحة عند فطره، وفرحة عند لقاء ربه، ولخُلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك» (٣).
وفي رواية للترمذي، قال رسول الله ﷺ: إن ربكم يقول: «كل حسنة بعشر أمثالها إلى سبع مئة ضِعْف، والصوم لي وأنا أجزي به، والصوم جُنَّة (٤) من النار، ولخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، وإن جَهِل على أحدكم جاهل وهو صائم، فليقل: إني صائم، إني صائم».
(١) رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة (الترغيب والترهيب: ٩٧/ ٢).
(٢) رواه مسلم عن أبي هريرة (الترغيب والترهيب: ٩٢/ ٢).
(٣) رواه مسلم عن أبي هريرة. والخلوف: تغير رائحة الفم (الترغيب والترهيب: ٨١/ ٢).
(٤) الجُنة: ما يستر ويقي مما يخاف منه، ومعنى الحديث: إن الصوم يستر صاحبه، ويحفظه من الوقوع في المعاصي.
٥ً - «من قام رمضان إيمانًا واحتسابًا، غفر له ما تقدم من ذنبه» (١) أي من أحيا لياليه بصلاة التراويح أوغيرها بالذكر والاستغفار وتلاوة القرآن تصديقًا لما وعده الله على ذلك من أجر، محتسبًا ومدخرًا أجره عند الله تعالى لا غيره، بخلوص عمله لله، لم يشرك به غيره، غفرت له ذنوبه غير حقوق العباد، فتتوقف على إبراء الذمة، أو المسامحة.
٦ً - عن سلمان ﵁ قال: خطبنا رسول الله ﷺ في آخر يوم من شعبان، قال: «يا أيها الناس قد أظلكم شهر عظيم مبارك، شهر فيه ليلة خير من ألف شهر، شهر جعل الله صيامه فريضة، وقيام ليله تطوّعًا، من تقرب فيه بخصلة من الخير، كان كمن أدى فريضة فيما سواه، ومن أدى فريضة فيه، كان كمن أدى سبعين فريضة فيما سواه.
وهو شهر الصبر، والصبر ثوابه الجنة، وشهر المواساة، وشهر يزاد في رزق المؤمن فيه، من فطَّر فيه صائمًا، كان مغفرة لذنوبه وعتقَ رقبته من النار، وكان له مثل أجره من غير أن ينقص من أجره شيء.
قالوا: يا رسول الله، ليس كلُّنا يجدُ ما يفطر الصائم؟ فقال رسول الله ﷺ يعطي الله هذا الثواب من فطر صائمًا على تمرة، أو على شَرْبة ماء، أو مَذْقة (٢) لبن.
وهو شهر أوله رحمة، وأوسطه مغفرة، وآخره عتق من النار، من خفف عن مملوكه فيه غفر الله له، وأعتقه من النار.
(١) متفق عليه عند البخاري وغيره (أصحاب الكتب الستة) عن أبي هريرة. واحتسابًا: أي طلبًا لوجه الله تعالى وثوابه. والاحتساب من الحَسْب كالاعتداد من العد، أي يعتد عمله.
(٢) مزيج خليط.
واستكْثِروا فيه من أربع خصال: خصلتين ترضون بهما ربكم، وخصلتين لا غِنَاء بكم عنهما، فأما الخصلتان اللتان تُرضون بهما ربكم: فشهادة أن لا إله إلا الله، وتستغفرونه. وأما الخصلتان اللتان لا غناء بكم عنهما: فتسألون الله الجنة، وتعوذون به من النار.
ومن سقى صائمًا، سقاه الله من حوضي شَرْبة لا يظمأ حتى يدخل الجنة» (١).
ليلة القدر: يستحب طلب ليلة القدر؛ لأنها ليلة شريفة مباركة معظمة مفضلة، ترجى إجابة الدعاء فيها، وهي أفضل الليالي حتى ليلة الجمعة (٢)، قال تعالى: ﴿ليلة القدر خير من ألف شهر﴾ [القدر:٣/ ٩٧] أي قيامها والعمل فيها خير من العمل في ألف شهر خالية منها، وقال ﷺ: «من قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا، غفر له ما تقدم من ذنبه» (٣) وعن عائشة أن النبي كان إذا دخل العشر الأواخر أحيا الليل، وأيقظ أهله وشد المئزر» (٤) أي اعتزل النساء، ولأحمد ومسلم: كان يجتهد في العشر الأواخر ما لا يجتهد في غيرها.
وهي مختصة بالعشر الأواخر في ليالي الوترمن رمضان، لقوله ﷺ: «التمسوها في العشر الأواخر من شهر رمضان، في كل وتر» (٥).
وأرجح الأقوال عند العلماء أنها في ليلة السابع والعشرين من رمضان، قال
(١) رواه ابن خزيمة في صحيحه، ثم قال: صح الخبر، ورواه من طريق البيهقي، ورواه أبو الشيخ ابن حيان في الثواب باختصار عنهما (الترغيب والترهيب: ٩٤/ ٢ ومابعدها).
(٢) المهذب: ١٨٩/ ١، المجموع: ٤٩٢/ ٦ - ٥٠٣، المغني: ١٧٨/ ٣ - ١٨٣، كشاف القناع: ٤٠١/ ٢ - ٤٠٤.
(٣) رواه البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي عن أبي هريرة.
(٤) متفق عليه (نيل الأوطار: ٢٧٠/ ٤).
(٥) متفق عليه من حديث أبي سعيد الخدري، وأبي ذر.
أبي بن كعب: «والله لقد علم ابن مسعود أنها في رمضان، وأنها في ليلة سبع وعشرين، ولكن كره أن يخبركم فتتكلوا» (١)، وعن معاوية «أن النبي ﷺ قال في ليلة القدر: ليلة سبع وعشرين» (٢) ويرجحه قول ابن عباس: «سورة القدر: ثلاثون كلمة، السابعة والعشرون فيها: هي» (٣) وروى أحمد بإسناد صحيح عن ابن عمر حديثًا نصه: «من كان متحرّيها فليتحرها ليلة سبع وعشرين، أو قال: تحروها ليلة سبع وعشرين».
والحكمة في إخفائها: أن يجتهد الناس في طلبها، ويجدّوا في العبادة طمعًا في إدراكها، كما أخفيت ساعة الإجابة يوم الجمعة، وأخفي اسمه الأعظم في أسمائه، ورضاه في الحسنات، إلى غير ذلك.
والمستحب أن يدعو المؤمن فيها بأن يقول: «اللهم إنك عفو، تحب العفو، فاعف عني» لما روت عائشة ﵂ قالت: يا رسول الله، أرأيت إن وافقت ليلة القدر، ماذا أقول فيها؟ قال: «قولي: اللهم إنك عفو تحب العفو، فاعف عني» (٤).
وأما علاماتها: فالمشهور فيها ما ذكره أبي بن كعب عن النبي ﷺ: «إن الشمس تطلع في صبيحة يومها بيضاء لا شعاع لها» (٥) وفي بعض الأحاديث:
(١) رواه الترمذي وصححه.
(٢) رواه أبو داود مرفوعًا، والراجح وقفه على معاوية، وله حكم الرفع (سبل السلام: ١٧٦/ ٢).
(٣) قال ابن حجر في فتح الباري: وقد اختلف في تعيينها على أربعين قولًا، وأرجحهما كلها أنها في وتر العشر الأواخر، وأنها تنتقل. وقال الصنعاني: وأظهر الأقوال أنها في السبع الأواخر (المصدر السابق).
(٤) رواه الخمسة (أحمد وأصحاب السنن) غير أبي داود، وصححه الترمذي والحاكم (المصدر السابق).
(٥) رواه أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي وصححه (نيل الأوطار: ٢٧٢/ ٤).
«
بيضاء مثل الطست» وروي أيضًا عنه ﷺ: «إن أمارة ليلة القدر: أنها ليلة صافية بلجة، كأن فيها قمرًا ساطعًا، ساكنة ساجية، لا برد فيها ولاحر، ولا يحل لكوكب أن يرمى به فيها حتى تصبح، وإن أمارتها أن الشمس صبيحتها تخرج مستوية، ليس فيها شعاع، مثل القمر ليلة البدر، لايحل للشيطان أن يخرج معها يومئذ» وروى ابن خزيمة من حديث ابن عباس مرفوعًا: «ليلة القدر طلقة لا حارّة ولا باردة، تصبح الشمس يومها حمراء ضعيفة» ولأحمد من حديث عبادة: «لا حر فيها ولا برد، وإنها ساكنة صاحية، وقمرها ساطع»، وورد في علامتها أحاديث منها عن جابر بن سمرة عند ابن أبي شيبة، وعن جابر بن عبد الله عند ابن خزيمة، وعن أبي هريرة عنده، وعن ابن مسعود عند ابن أبي شيبة وعن غيرهم (١).
المطلب الثالث - أهم الأحداث التاريخية الواقعة في رمضان:
إن أهم حدث في رمضان هو نزول القرآن الكريم في ليلة الخامس والعشرين. ثم وقعت أحداث تاريخية فاصلة كبرى في شهر رمضان، تدل على أن الإسلام يقدر الأمور حق قدرها، وأن شعار الصوم هو القوة والجهاد والعمل، لا الضعف والهروب والفتور والكسل، فالمسلم يتفاعل مع واقع الحياة، ويتكيف مع الظروف، فلا يثنيه واجب ديني عن واجب معيشي أو حياتي، ولا تحد من عزيمته وهمته أهواء الدنيا، ومغريات الطعام والشراب، ولا يصح لمسلم أن يقول: إن الصوم يعطل الأعمال، ويؤخر المجتمعات، فسبيل الإسلام معروف وهو الجهاد، ودين الله وشرعه يسر لا عسر، فقد أباح الفطر وحضَّ عليه في السفر والحرب، وحكم بأن الصائمين حينئذ متنطعون متشددون، وبأن المفطرين في الجهاد ذهبوا
(١) نيل الأوطار: ٢٧٥/ ٤.
بالأجر كله، كما بيَّن النبي ﷺ في فتح مكة، وكان أول المفطرين. ودليل ما نقول: هذه الأحداث الكبرى التي وقعت في رمضان ونكتفي بذكر أشهرها، للاستدلال على أن النصر مرتبط بتطهير النفوس وصفائها وسموها وترفعها عن أدران المادة، وأن أيام رمضان مباركة ينتهز فيها الخير والنصر والفضل الإلهي، إذا توجهت القلوب لرب الأرض والسماء، قال الله تعالى:: ﴿وما النصر إلا من عند الله﴾ [آل عمران:١٢٦/ ٣].
١ - معركة بدر الكبرى: وهي يوم الفرقان الذي فرق الله فيه بين الحق والباطل، فانتصر فيه الإسلام - رمز القيم العليا في التوحيد والتفكير والحياة السوية والأخلاق الصحيحة - واندحر الشرك والوثنية - رمز الانحدار والتخلف والتعقيد وإهدار الكرامة الإنسانية. والمعركة حدثت في يوم الجمعة في السابع عشر من شهر رمضان من السنة الثانية للهجرة، قال تعالى: ﴿ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة، فاتقوا الله لعلكم تشكرون﴾ [آل عمران:١٢٣/ ٣]، وقال ابن عباس: كانت يوم الجمعة السابع عشر من شهر رمضان، وفيها قتل فرعون الأمة أبو جهل أكبر أعداء الإسلام.
٢ - فتح مكة: وهو الفتح الأكبر لقوله تعالى: ﴿إنا فتحنا لك فتحًا مبينًا﴾ [الفتح:١/ ٤٨] حدث في يوم الجمعة في العشرين أو الحادي والعشرين من رمضان من السنة الثامنة للهجرة، وقد تم به القضاء على فلول الوثنية، وتم به تحطيم الأصنام حول الكعبة. وفي رمضان من السنة الخامسة كان استعداد المسلمين لغزوة الخندق التي وقعت في شوال من العام نفسه.
٣ - وقعت بعض أحداث غزوة تبوك في رمضان سنة ٩هـ، وفي رمضان كانت معركة القادسية، ومعركة البويب، وفتح رودس.
٤ - انتشر الإسلام في اليمن في السنة العاشرة في رمضان، وأرسل النبي ﷺ علي بن أبي طالب على رأس سرية إلى اليمن، وحمل معه كتابًا إليهم.
٥ - هدم خالد بن الوليد لخمس بقين من رمضان في السنة الثامنة البيت الذي كانت تعبد فيه العزى في نخلة، وقال للرسول ﷺ: «تلك العزى ولا تعبد أبدًا» (١). ووجه الرسول ﷺ السرايا لهدم الأصنام.
٦ - قدم في السنة التاسعة في رمضان وفد ثقيف من الطائف إلى رسول الله ﷺ يريدون الإسلام، وهدم فيها صنم اللات الذي كانت تعبده ثقيف (٢).
٧ - في صبيحة يوم الجمعة في ٢٥ من رمضان٤٧٩ هـ حدثت موقعة الزلاَّقة (سهل يقع على مقربة من البرتغال الحالية) أو يوم العروبة والإسلام، وانتصر فيها جيش المرابطين المسلمين في الأندلس بقيادة يوسف بن تاشفين على جيش الفرنجة البالغ ثمانين ألف مقاتل بقيادة الفونس السادس ملك قشتالة.
٨ - موقعة عين جالوت: (قرية بين بيسان ونابلس) حدثت في صبيحة يوم الجمعة في الخامس عشر من رمضان سنة ٦٥٨ هـ الموافق ٣ أيلول (سبتمبر) ١٢٦٠م، بقيادة السلطان قُطُز سلطان المماليك في مصر، بعد أن صاح بأعلى صوته «وإسلاماه»، وانتصر فيها على المغول الذين ولوا الأدبار لا يلوون على شيء (٣)، وتم فيها توحيد مصر وبلاد الشام (٤). وإنقاذ الإسلام والمسلمين من
(١) البداية والنهاية لابن كثير: ٣١٦/ ٤.
(٢) المرجع السابق: ٣١٦/ ٥.
(٣) الحركة الصليبية للدكتور سعيد عبد الفتاح عاشور: ١١٣٦/ ٢، ط ثانية، مكتبة الأنجلو المصرية.
(٤) أما موقعة حطين شمال طبرية سنة ٥٨٣ هـ/١١٨٧م فقد وقعت في يوم السبت ١٤ ربيع الآخر الموافق ٤ تموز، ولكن دخل صلاح الدين الأيوبي القدس في ليلة السابع والعشرين من رجب في ذكرى الإسراء والمعراج في ١٢ أكتوبر (تشرين الأول) سنة ١١٨٧م (الحركة الصليبية: ٨٠٨/ ٢ - ٨١١،٨٢٢).
همجية المغول، كما أن البطل صلاح الدين خاض معارك حاسمة ضد الصليبيين في رمضان.
٩ - فتح الأندلس: في رمضان كانت معركة طريف تمهيدًا لفتح الأندلس، وكانت معركة الزلاَّقة، ثم حدث فتح الأندلس في ٢٨ رمضان سنة ٩٢هـ/١٩ يوليو (تموز) ٧١١ م بقيادة طارق بن زياد بعد أن هزم روذريق قائد القوط في موقعة حاسمة تعرف بـ «موقعة البحيرة» بعد أن استولى على مضيق جبل طارق وأحرق سفنه، وقال كلمته المشهورة: «البحر من ورائكم والعد ومن أمامكم»، ثم تم بعدها فتح قرطبة وغرناطة وطليطلة العاصمة السياسية للأندلس (١).
وفي رمضان كانت آخر المعارك مع الصليبيين لتطهير أرضنا وديارنا من أرجاسهم. وفي العاشر من رمضان سنة ١٣٩٣هـ/١٩٧٣م كانت معركة العبور، أي عبور القوات المصرية المسلحة قناة السويس من الضفة الغربية إلى الضفة الشرقية، بعد احتلال اليهود لها مدة نحو سبع سنوات في الخامس من شهر حزيران سنة ١٩٦٧م، ووصلت في العاشر من شهر رمضان القوات السورية إلى شواطئ بحيرة طبرية. ولقّن الفلسطينيون العدو الصهيوني في رمضان في معركة الكرامة في نيسان (أبريل) سنة ١٩٦٨م درسًا لا ينساه مع قلتهم وتمكن العدو في موقع استراتيجي رائع.
المبحث الثاني - فرضية الصيام وأنواعه:
فرضية الصيام وتاريخها: صوم شهر رمضان ركن من أركان الإسلام وفرض
(١) التاريخ السياسي للدولة العربية، للدكتور عبد المنعم ماجد: ٢٠٤/ ٢).
من فروضه (١)، بدليل القرآن والسنة والإجماع:
أما القرآن: فقوله تعالى: ﴿يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام، كما كتب على الذين من قبلكم، لعلكم تتقون﴾ [البقرة:١٨٣/ ٢] إلى قوله تعالى: ﴿فمن شهد منكم الشهر فليصمه﴾ [البقرة:١٨٥/ ٢].
وأما السنة: فقول النبي ﷺ: «بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت من استطاع إليه سبيلًا» (٢)، وعن طلحة بن عبيد الله أن رجلًا جاء إلى النبي ﷺ ثائر الرأس فقال: يا رسول الله، أخبرني ماذا فرض الله عليّ من الصيام؟ قال: شهررمضان، قال: هل علي غيره؟ قال: لا، إلا أن تطوع شيئًا. قال: فأخبرني ماذا فرض الله علي من الزكاة؟ فأخبره رسول الله ﷺ بشرائع الإسلام، قال: والذي أكرمك لا أتطوع شيئًا، ولا أنقص مما فرض الله علي شيئًا، فقال النبي ﷺ: «أفلح إن صدق، أو دخل الجنة إن صدق» (٣).
وأجمع المسلمون على وجوب صيام شهر رمضان.
وفُرض صوم رمضان بعد صرف القبلة إلى الكعبة لعشر من شعبان في السنة الثانية من الهجرة بسنة ونصف إجماعًا، وصام النبي ﷺ تسعة رمضانات في تسع سنين، وتوفي النبي ﷺ في شهر ربيع الأول سنة إحدى عشرة من الهجرة (٤).
(١) الفرق بين الركن والفرض: أن الركن يجب اعتقاده ولا يتم العمل إلا به، سواء أكان فرضًا أم نفلًا، والفرض: ما يعاقب على تركه، وأركان الإسلام: أي جوانبه التي يبنى عليها، فمتى فقد ركن منها لم يتم الإسلام.
(٢) رواه البخاري ومسلم من طرق كثيرة عن ابن عمر.
(٣) متفق عليه بين البخاري ومسلم.
(٤) المجموع: ٢٧٣/ ٦ ومابعدها، الدر المختار: ١٠٩/ ٢، كشاف القناع: ٣٤٩/ ٢، بداية المجتهد: ٢٧٤/ ١، المغني: ٨٤/ ٣.
وجاحد وجوب صوم رمضان كافر يعامل كالمرتد، فيستتاب، فإن تاب قبل منه، وإلا قتل حدًا إذا لم يكن قريب عهد بالإسلام أو نشأ بعيدًا عن العلماء. أما تارك الصيام كسلًا بغير عذر،،ولم يكن جاحدًا لوجوبه، فهو فاسق، وليس بكافر.
أنواع الصيام:
الصوم أنواع: واجب، وتطوع، وحرام، ومكروه (١).
وقال الحنفية: الصوم ثمانية أنواع: فرض معين كصوم رمضان أداء، وغير معين كقضاء رمضان وصوم الكفارات، وواجب معين كنذر معين، وغير معين كالنذر المطلق، ونفل مسنون كصوم عاشوراء وتاسوعاء، ونفل مندوب أو مستحب كأيام البيض من كل شهر، ومكروه تحريمًا كصوم العيدين، ومكروه تنزيهًا كعاشوراء وحده، وسبت وحده، ونيروز ومهرجان.
النوع الأول - الواجب:
وهو ثلاثة أقسام: منه ما يجب للزمان نفسه وهو صوم شهر رمضان، ومنه ما يجب لعلة وهو صيام الكفارات، ومنه ما يجب بإيجاب الإنسان ذلك على نفسه، وهو صيام النذر.
والصوم اللازم عند الحنفية نوعان: فرض وواجب. والفرض نوعان: معين
(١) اللباب: ١٦٢/ ١،١٧٣، فتح القدير: ٤٣/ ٢ ومابعدها، ٥٤، الدر المختار وحاشيته: ١١٢/ ٢ - ١١٦، مراقي الفلاح: ص١٠٥ ومابعدها، بداية المجتهد: ٢٧٤/ ١، ٣٠٠، الشرح الصغير: ٦٨٧/ ١،٧٢٢، القوانين الفقهية: ص١١٤، مغني المحتاج: ٤٢٠/ ١، ٤٣٣، ٤٤٥ - ٤٤٩، كشاف القناع: ٣٤٩/ ٢، ٣٩٣ ومابعدها، ٣٩٨، المغني: ٨٩/ ٣، ١٤٢، ١٦٣.
كصوم أداء، وغير معين كصوم رمضان قضاء، وصوم الكفارات، ولكنه أي الأخير فرض عملًا، لا اعتقادًا، ولذا لايكفر جاحده.
والواجب نوعان: معين كالنذر المعين، وغير المعين كالنذر المطلق، وكقضاء ما أفسده من صوم النفل.
النوع الثاني - الصوم الحرام عند الجمهور أو المكروه تحريمًا عند الحنفية: وهو ما يأتي:
١ً - صيام المرأة نفلا ًبغير إذن زوجها أو علمها برضاه إلا إذا لم يكن محتاجًا لها كأن كان غائبًا أو محرمًا بحج أو عمرة أو معتكفًا، لخبر الصحيحين: «لا يحل لامرأة أن تصوم، وزوجها شاهد إلا بإذنه» ولأن حق الزوج فرض، لا يجوز تركه لنفل، فلوصامت بغير إذنه صح، وإن كان حرامًا كالصلاة في دار مغصوبة، وللزوج أن يفطرها، لقيام حقه واحتياجه. وهذا الصوم مكروه تنزيهًا عند الحنفية.
٢ً - صوم يوم الشك: وهو يوم الثلاثين من شعبان إذا تردد الناس في كونه من رمضان، وللفقهاء عبارات متقاربة في تحديده، واختلفوا في حكمه، مع اتفاقهم على عدم الكراهة وإباحة صومه إن صادف عادة للمسلم بصوم تطوع كيوم الاثنين أو الخميس.
فقال الحنفية (١): هو آخر يوم من شعبان يوم الثلاثين إذا شك بسبب الغيم أمن رمضان هو أم من شعبان. فلو كانت السماء صحوًا ولم ير هلال أحد فليس بيوم شك.
وحكمه: أنه مكروه تحريمًا إذا نوى أنه من رمضان أو من واجب آخر. ويكره
(١) فتح القدير: ٥٣/ ١ وما بعدها، الدر المختار: ١١٩/ ٢ وما بعدها، مراقي الفلاح، ص ١٠٧.
أيضًا صوم ما قبل رمضان بيوم أو يومين، لحديث: «لا تَقدَّموا رمضان بصوم يوم أو يومين، إلا رجل كان يصوم صومًا، فيصومه» (١) فيكره صومه إلا أن يوافق صومًا كان يصومه المسلم، خوفًا من أن يظن أنه زيادة على صوم رمضان، ولا يكره صوم نفل جزم به بلا ترديد بينه وبين صوم آخر، فلا يصام يوم الشك إلا تطوعًا.
وقال المالكية على المشهور (٢): إنه يوم الثلاثين من شعبان إذا كان بالسماء في ليلته (أي ليلة الثلاثين) غيم، ولم ير هلال رمضان. فإن كانت السماء صحوًا لم يكن يوم شك؛ لأنه إذا لم تثبت رؤية هلال رمضان، كان اليوم من شعبان جزمًا. وهذا كمذهب الحنفية.
والراجح عند الدردير والدسوقي وغيرهما أن يوم الشك: صبيحة الثلاثين من شعبان إذا كانت السماء صحوًا أو غيمًا، وتحدث بالرؤية من لا تقبل شهادته كعبد أو امرأة أو فاسق. أما يوم الغيم فهو من شعبان جزمًا؛ لخبر الصحيحين: «فإن غم عليكم، فأكملوا عدة شعبان ثلاثين».
وحكمه: أنه يكره صومه للاحتياط على أنه من رمضان، ولا يجزئه صومه عن رمضان، فمن أصبح فلم يأكل ولم يشرب، ثم تبين له أن ذلك اليوم من رمضان، لم يجزه، وجاز صومه لمن اعتاد الصوم تطوعًا سردًا أو يومًا معينًا كيوم الخميس مثلًا، فصادف يوم الشك، كما جاز صومه تطوعًا، وقضاء عن رمضان سابق، وكفارة عن يمين أوغيره، ولنذر يوم معين أو يوم قدوم شخص مثلًا، فصادف يوم الشك. ويندب الإمساك (الكف عن المفطر) يوم الشك ليتحقق الحال، فإن ثبت رمضان وجب الإمساك لحرمة الشهر، ولو لم يكن أمسك أولًا.
(١) رواه الأئمة الستة في كتبهم عن أبي هريرة (نصب الراية: ٤٤٠/ ٢).
(٢) الشرح الكبير: ٥١٣/ ١، الشرح الصغير: ٦٨٦/ ١ وما بعدها، القوانين الفقهية: ص١١٥، شرح الرسالة: ٢٩٣/ ١ - ٢٩٥.
وقال الشافعية (١): يوم الشك: هو يوم الثلاثين من شعبان في حال الصحو، إذا تحدث الناس برؤية الهلال ليلته، ولم يعلم من رآه، ولم يشهد برؤيته أحد، أو شهد بها صبيان أو عبيد أو فسقة أو نساء، وظن صدقهم، أو شهد شخص عدل ولم يكتف به. وليس إطباق الغيم بشك، كما أنه إذا لم يتحدث أحد من الناس بالرؤية فليس بشك، بل هو يوم من شعبان، وإن أطبق الغيم، لخبر الصحيحين المتقدم: «فإن غم عليكم، فأكملوا عدة شعبان ثلاثين».
وحكمه: أنه يحرم ولا يصح التطوع بالصوم يوم الشك، ولقول عمار بن ياسر ﵁: «من صام يوم الشك، قد عصى أبا القاسم ﷺ» (٢). وحكمة التحريم: توفير القوة على صوم رمضان، وضبط زمن الصوم وتوحيده بين الناس، دون زيادة. وكذلك يحرم صوم يوم أو يومين قبل رمضان، والأظهر أنه يلزم الإمساك من أكل يوم الشك، ثم ثبت كونه من رمضان، لأن صومه واجب عليه، إلا أنه جهله.
ويجوز صوم يوم الشك عن القضاء والنذر والكفارة، ولموافقة عادة تطوعه، ونحوه مما له سبب يقتضي الصوم، على الأصح مسارعة لبراءة الذمة، فيما عدا الاعتياد، وعملًا في الاعتياد بالحديث المتقدم: «... إلا رجل كان يصوم صومًا، فليصمه» ويجب الإمساك على من أصبح يوم الشك مفطرًا، ثم تبين أنه من رمضان، ثم يقضيه بعد رمضان فورًا، وإن صامه مترددًا بين كونه نفلًا من شعبان أو فرضًا من رمضان، لم يصح فرضًا ولا نفلًا إن ظهر أنه من رمضان.
(١) مغني المحتاج: ٤٣٣/ ١،٤٣٨.
(٢) رواه أصحاب السنن الأربعة، وصححه الترمذي وغيره.
وقال الحنابلة (١): يوم الشك: هو يوم الثلاثين من شعبان إذا لم ير الهلال ليلته، مع كون السماء صحوًا لا علة فيها من غيم أو قَتَر ونحوهما، أو شهد برؤية الهلال من ردت شهادته لفسق ونحوه، فهم في تحديده كالشافعية.
وحكمه كما قال المالكية: يكره ويصح صوم يوم الشك بنية الرمضانية احتياطًا، ولا يجزئ إن ظهر منه، إلا إذا وافق عادة له، أو وصله بصيام قبله، فلا كراهة، للحديث المتقدم: «لا تقدموا رمضان بصوم يوم أو يومين، إلا رجل كان يصوم صومًا، فليصمه» وإلا أن يصومه عن قضاء أو نذر أو كفارة، فلا كراهة؛ لأن صومه واجب إذًا. وإن صامه موافقة لعادة ثم تبين أنه من رمضان، فلا يجزئه عنه، ويجب عليه الإمساك فيه، وقضاء يوم بعده. والخلاصة: إن صوم يوم الشك مكروه عند الجمهور، حرام عند الشافعية.
٣ً - صوم عيد الفطر والأضحى وأيام التشريق بعده: مكروه تحريمًا عن الحنفية، حرام لا يصح عند باقي الأئمة (٢)، سواء أكان الصوم فرضًا أم نفلًا، ويكون عاصيًا إن قصد صيامها، ولا يجزئه عن الفرض لما روى أبو هريرة: «أن رسول الله ﷺ نهى عن صيام يومين: يوم فطر، ويوم أضحى» (٣) والنهي عند غير الحنفية يقتضي فساد المنهي عنه وتحريمه. وروى مسلم في صحيحه عن النبي ﷺ: «أيام منى أيام أكل وشرب وذكْر الله تعالى». وقصر المالكية تحريم صوم التشريق على يومين بعد الأضحى، وقال الجمهور: ثلاثة أيام بعده، وأما صوم اليوم الرابع عند المالكية فمكروه فقط.
(١) المغني: ٨٩/ ٣، كشاف القناع: ٣٥٠/ ٢ - ٣٥١،٣٩٨ ومابعدها.
(٢) الدر المختار: ١١٤/ ٢، مراقي الفلاح: ص١٠٦، القوانين الفقهية: ص١١٤، مغني المحتاج: ٤٣٣/ ١، المهذب: ١٨٩/ ١، المغني: ١٦٣/ ٣، كشاف القناع: ٣٩٩/ ٢.
(٣) متفق عليه، وعن أبي سعيد الخدري عند الشيخين (البخاري ومسلم) مثله.
وتحريم الصوم في أيام العيدين عند الشافعية، ولو لمتمتع بالحج والعمرة، للنهي عن صيامها كما رواه أبو داود بإسناد صحيح. واستثنى الجمهور (الحنفية والمالكية والحنابلة) حالة الحج للمتمتع والقارن، فأجازوا لهما صيامهما، لقول ابن عمر وعائشة:
«لم يرخص في أيام التشريق أن يُصَمْنَ إلا لمن لم يجد الهدي» (١).
٤ً - صوم الحائض والنفساء حرام ولا يصح ولا ينعقد، كما أبنت في مبحث الحيض والنفاس، وعليهما قضاء الصوم دون الصلاة.
٥ً - قال الشافعية: يحرم صوم النصف الأخير من شعبان الذي منه يوم الشك، إلا لوِرْد بأن اعتاد صوم الدهر أو صوم يوم وفطر يوم أو صوم يوم معين كالاثنين فصادف ما بعد النصف، أو نذر مستقر في ذمته، أو قضاء لنفل أو فرض، أو كفارة، أو وصل صوم ما بعد النصف بما قبله، ولو بيوم النصف.
ودليلهم حديث: «إذا انتصف شعبان، فلا تصوموا» (٢) ولم يأخذ به الحنابلة وغيرهم لضعف الحديث في رأي أحمد.
٦ً - صيام من يخاف على نفسه الهلاك بصومه. النوع الثالث - الصوم المكروه:
هو كصوم الدهر (٣)، وإفراد يوم الجمعة بالصوم، وإفراد يوم السبت،
(١) رواه البخاري.
(٢) رواه أحمد وأصحاب السنن الأربعة عن أبي هريرة، وهو حسن، كما ذكر السيوطي وصححه ابن حبان وغيره (سبل السلام: ١٧١/ ٢).
(٣) الدهر: الأبد المحدود، وأما قوله ﷺ: «لا تسبوا الدهر، فإن الدهر هو الله» فمعناه أن ما أصابك من الدهر فالله فاعله، ليس الدهر، فإذا سببت به الدهر، فكأنك أردت الله سبحانه (مغني المحتاج: ٤٤٨/ ١).
وصوم يوم الشك وصوم يوم أو يومين قبل رمضان عند الجمهور، ويحرم الأخيران عند الشافعية، والراجح عند المالكية عدم كراهة صوم الدهر وإفراد الجمعة بالصوم. والكراهة فيهما عند غير المالكية تنزيهية. وللفقهاء تفصيلات في بيان الصوم المكروه:
فقال الحنفية (١): الصوم المكروه قسمان: مكروه تحريمًا، ومكروه تنزيهًا. والمكروه تحريمًا: هو صوم أيام العيدين والتشريق وصوم يوم الشك، لورود النهي السابق عن صيامها، فإذا صامها انعقد صومه مع الإثم، ولا يلزم القضاء لمن شرع في صومه وأفسده، لأن المبدأ الأصولي عندهم هو أن النهي المتوجه إلى وصف من أوصاف العمل اللازم له يقتضي فساد الوصف فقط، ويبقى أصل العمل على مشروعيته.
والمكروه تنزيهًا: هو إفراد صيام يوم عاشوراء (العاشر من المحرم) عن التاسع أوعن الحادي عشر، وإفراد يوم الجمعة في قول البعض، ويوم السبت، ويوم النيروز (يوم في طرف الربيع) والمهرجان (يوم في طرف الخريف) بالصوم إلا أن يوافق ذلك عادته، فتزول علة الكراهة، أما الجمعة فلقوله ﷺ: «لا تختصوا ليلة الجمعة بقيام من بين الليالي، ولا تختصوا يوم الجمعة بصيام من بين الأيام إلا أن يكون في صوم يصومه أحدكم» (٢). وأما السبت: فلقوله ﷺ: «لا تصوموا يوم السبت إلا فيما افترض عليكم، فإن لم يجد أحدكم إلا لحاء عنبة أو عود شجرة، فليمضغه» (٣). وأما النيروز والمهرجان فلأن فيه تعظيم أيام نهينا عن تعظيمها.
(١) الدر المختار: ١١٤/ ٢ ومابعدها، مراقي الفلاح: ص١٠٦.
(٢) رواه مسلم، ورواه الجماعة عن أبي هريرة بلفظ «لا تصوموا يوم الجمعة إلا وقبله يوم أو بعده يوم» (نيل الأوطار: ٢٤٩/ ٤).
(٣) رواه أحمد وأصحاب السنن إلا النسائي عن عبد الله بن بُسْر عن أخته الصماء (نيل الأوطار: ٢٥١/ ٤).
ويكره تنزيهًا أيضًا صوم الدهر؛ لأنه يضعفه، ولحديث «لا صام من صام الأبد» (١) ويكره صوم الصمت: وهو أن يصوم ولا يتكلم بشيء، وعليه أن يتكلم بخير وبحاجة دعت إليه. ويكره صوم الوصال ولو بين يومين فقط، وهو ألا يفطر بعد الغروب أصلًا حتى يتصل صوم الغد بالأمس، للنهي عنه، قال ﷺ: «إياكم والوصال» (٢) وقالت عائشة: «نهاهم النبي ﷺ عن الوصال رحمة لهم، فقالوا: إنك تواصل؟ قال: إني لست كهيئتكم، إني يطعمني ربي ويسقيني» (٣).
ويكره صوم المسافر إذا أجهده الصوم، وصوم المرأة تطوعًا بغير رضا زوجها، وله أن يفطرها، لقيام حقه واحتياجه، إلا أن يكون مريضًا أو صائمًا أو محرمًا بحج أو عمرة.
وقال المالكية (٤): قال العلامة خليل: يندب صوم الدهر ولا يكره، للإجماع على لزومه لمن نذره، ولو كان مكروهًا أو ممنوعًا لما لزم على القاعدة، ويندب صوم يوم الجمعة ولا يكره لأن محل النهي عن ذلك على خوف فرضه، وقد انتفت هذه العلة بوفاته ﵊، وقال ابن جزي: المكروه: صوم الدهر، وصوم يوم الجمعة خصوصًا إلا أن يصوم يومًا قبله، أو يومًا بعده، وصوم السبت خصوصًا، وصوم يوم عرفة بعرفة، وصوم يوم الشك: وهو آخر يوم من شعبان احتياطًا إذا لم يظهر الهلال. وصوم اليوم الرابع من النحر، إلا لقارن أو متمتع أو لمن لزمه هدي لنقص في الحج، أو في حالة النذر والكفارات، فلا يكره.
(١) متفق عليه بين أحمد والشيخين عن عبد الله بن عمرو (نيل الأوطار: ٢٥٤/ ٤).
(٢) متفق عليه عن أبي هريرة (نيل الأوطار: ٢١٩/ ٤).
(٣) متفق عليه (نيل الأوطار: ٢١٩/ ٤).
(٤) القوانين الفقهية: ص ١١٥،١١٩، الشرح الصغير: ٦٨٦/ ١،٦٩٢ - ٦٩٤،٧٢٢ - ٧٢٣، الشرح الكبير مع الدسوقي: ٥٣٤/ ١.
ويكره صوم التطوع لمن عليه صوم واجب كالقضاء، وصوم الضيف بدون إذن المضيف، وصوم يوم المولد النبوي، لأنه شبيه بالأعياد.
ويكره نذر صوم يوم مكرر ككل خميس، لأن التزام يوم متكرر أو دائم يؤدي إلى التثاقل والندم، فيكون لغير الطاعة أقرب. ويكره تطوع بصوم قبل صوم واجب غير معيَّن، كقضاء رمضان وكفارة. أما المعين فلا يكره التطوع فيه. ويكره تعيين صوم الثلاثة البيض من كل شهر وهي الثالث عشر وتالياه، فرارًا من التحديد، كما يكره صوم ستة من شوال إن وصلها بالعيد مظهرًا لها، ولا يكره إن فرقها أو أخرها أو صامها سرًا، لانتفاء علة اعتقاد الوجوب.
وقال الشافعية (١): يكره إفراد الجمعة بالصوم، وإفراد السبت والأحد بالصوم، وصوم الدهر غير العيد والتشريق لمن خاف به ضررًا أو فوت حق واجب أو مستحب، للنهي المتقدم عنها في الأحاديث السابقة، ولخبر البخاري: «إن لربك عليك حقًا، ولأهلك عليك حقًا، ولجسدك عليك حقًا»، وعليه حمل خبر الصحيحين: «لا صام من صام الأبد».
ويستحب صوم الدهر لمن لم يخف ضررًا أو فوت حق، لإطلاق الأدلة، ولأنه ﷺ قال: «من صام الدهر ضيقت عليه جهنم هكذا، وعقد تسعين» (٢).
وهذا موافق لمذهب الحنابلة أيضًا.
ويكره صوم المريض والمسافر والحامل والمرضع والشيخ الكبير إذا خافوا مشقة
(١) مغني المحتاج: ٤٤٧/ ١ ومابعدها، المهذب: ١٨٨/ ١ ومابعدها.
(٢) رواه البيهقي وأحمد، ومعنى «ضيقت عليه» أي عنه، فلم يدخلها، أو لا يكون له فيها موضع (نيل الأوطار: ٢٥٥/ ٤)
ورأى الجمهور أن الحديث في صوم الدهر على ظاهره، وحملوه على من صام الأيام المنهي عنها. شديدة، وقد يحرم صومهم إذا خافوا الهلاك أو تلف عضو بترك الغذاء. ولا يكره صوم يوم النيروز والمهرجان.
وقال الحنابلة (١): مثل الشافعية؛ وزادوا أنه يكره صوم الوصال: وهو ألا يفطر بين اليومين، وتزول الكراهة بأكل تمرة ونحوها، ويكره صوم بسفر قصر ولو بلا مشقة، فلو سافر ليفطر حرم السفر والفطر. ويكره إفراد رجب بالصوم؛ لأن النبي ﷺ «نهى عن صيامه» (٢)، ولأن فيه إحياء لشعار الجاهلية بتعظيمه، وتزول الكراهة بفطره فيه، ولو يومًا، أو بصومه شهرًا آخر من السنة، ولايكره إفراد شهر غير رجب بالصوم.
ويكره إفراد يوم نيروز (اليوم الرابع من الربيع) ويوم مهرجان (اليوم التاسع عشر من الخريف) بالصوم، وهما عيدان للكفار، لما فيه من موافقة الكفار في تعظيمهما.
ويكره أيضًا صوم يوم الشك، كما سبق، وتقدم رمضان بصوم يوم أو يومين، ولا يكره تقدمه بأكثر من يومين.
النوع الرابع - صوم التطوع أو الصوم المندوب:
التطوع: التقرب إلى الله تعالى بما ليس بفرض من العبادات، مأخوذ من قوله تعالى: ﴿ومن تطوع خيرًا﴾ [البقرة:١٥٨/ ٢]، وقد يعبر عنه بالنافلة كما في الصلاة، لقوله تعالى: ﴿ومن الليل فتهجد به نافلة لك﴾ [الإسراء:٧٩/ ١٧]. ولا
(١) كشاف القناع: ٣٩٧/ ٢ - ٣٩٩، غاية المنتهى: ٣٣٤/ ١.
(٢) رواه ابن ماجه عن ابن عباس، وهو ضعيف. وكل حديث روي في فضل صوم رجب أو الصلاة فيه فكذب باتفاق أهل العلم.
شك أن الصوم - كما أبنت - من أفضل العبادات، ففي الصحيحين: «من صام يومًا في سبيل الله، باعد الله تعالى وجهه عن النار سبعين خريفًا» وفي الحديث المتقدم: «كل عمل ابن آدم له، إلا الصوم فإنه لي، وأنا أجزي به».
وأيام صوم التطوع بالاتفاق ما يلي:
١ - صوم يوم وإفطار يوم: أفضل صوم التطوع صيام يوم، وإفطار يوم، لخبر الصحيحين: «أفضل الصيام صوم داود، كان يصوم يومًا، ويفطر يومًا» وفيه «لاأفضل من ذلك» (١).
٢ - صوم ثلاثةأيام من كل شهر، والأفضل أن تكون الأيام البيض أي أيام الليالي البيض، وهي الثالث عشر، والرابع عشر، والخامس عشر، وسميت بيضًا لابيضاضها ليلًا بالقمر، نهارًا بالشمس، وأجرها كصوم الدهر، بتضعيف الأجر، الحسنة بعشر أمثالها من غير حصول المضرة أو المفسدة التي في صيام الدهر. ودليلها ما روى أبو ذر أن النبي ﷺ قال له: «إذا صمت من الشهر ثلاثة أيام، فصم ثالث عشرة، ورابع عشرة، وخامس عشرة» (٢) وروي «أن النبي ﷺ كان يصوم عدة ثلاثة أيام من كل شهر» (٣).
(١) متفق عليه من حديث عبد الله بن عمرو، ولفظه: «صم يومًا وأفطر يومًا، فذلك صيام داود، وهو أفضل الصيام، قلت: فإني أطيق أفضل من ذلك، فقال: لا أفضل من ذلك» (نيل الأوطار: ٢٥٤/ ٤).
(٢) رواه الترمذي وحسنه، والنسائي وابن حبان في صحيحه، وأحمد (نيل الأوطار: ٢٥٢/ ٤ ومابعدها، سبل السلام: ١٦٨/ ٢).
(٣) رواه أصحاب السنن وصححه ابن خزيمة من حديث ابن مسعود، وأخرج مسلم من حديث عائشة «كان رسول الله ﷺ يصوم من كل شهر ثلاثة أيام، ما يبالي في أي الشهر صام» (سبل السلام: ١٦٨/ ٢).
٣ - صوم يوم الاثنين والخميس من كل أسبوع، لقول أسامة بن زيد إن النبي ﷺ كان يصوم يوم الاثنين والخميس، فسئل عن ذلك فقال: «إن أعمال الناس تعرض يوم الاثنين ويوم الخميس» (١)، وفي لفظ: «وأحب أن يُعْرَض عملي وأنا صائم».
٤ - صوم ستة أيام من شوال، ولو متفرقة، ولكن تتابعها أفضل عقب العيد مبادرة إلى العبادة، ويحصل له ثوابها ولو صام قضاء أو نذرًا أو غير ذلك، فمن صامها بعد أن صام رمضان، فكأنما صام الدهر فرضًا، لما روى أبو أيوب «من صام رمضان، ثم أتبعه ستًا من شوال، فذاك صيام الدهر» (٢) وروى ثوبان: «صيام شهر بعشرة أشهر، وصيام ستة أيام بشهرين، فذلك سنة» (٣) يعني أن الحسنة بعشر أمثالها، الشهر بعشرة أشهر، والستة بستين، فذلك سنة كاملة.
٥ - صوم يوم عرفة: هو تاسع ذي الحجة لغير الحاج، لخبر مسلم: «صيام يوم عرفة أحتسب على الله أنه يكفر السنة التي قبلها، والسنة التي بعده» وهو أفضل الأيام لخبر مسلم: «ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه من النار من يوم عرفة»، وأما قوله ﷺ: «خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة» فمحمول على غير يوم عرفة بقرينة ما ذكر (٤).
أما الحاج فلا يسن له صوم يوم عرفة، بل يسن له فطره وإن كان قويًا، ليقوى على الدعاء، واتباعًا للسنة، كما روى الشيخان، فصومه له خلاف الأولى، قال
(١) رواه أبو داود.
(٢) رواه الجماعة إلا البخاري والنسائي، ورواه أحمد من حديث جابر (نيل الأوطار: ٢٣٧/ ٤).
(٣) رواه سعيد بن منصور بإسناده عن ثوبان.
(٤) قيل: المكفر الصغائر دون الكبائر، ورد عليه: وهذا تحكم يحتاج إلى دليل، والحديث عام، وفضل الله واسع لا يحجر.
أبو هريرة ﵁: «نهى رسول الله ﷺ عن صوم يوم عرفة بعرفات» (١). ولا بأس بصومه للحاج عند الحنفية إذا لم يضعفه الصوم.
٦ - صوم الأيام الثمانية من ذي الحجة قبل يوم عرفة للحاج وغيره، لقول حفصة: «أربع لم يكن يدعُهنَّ رسول الله ﷺ: صيام عاشوراء، والعشر، وثلاثة أيام من كل شهر، والركعتين قبل الغداة» (٢) وقد تقدم في بحث «صلاة العيدين» أحاديث تدل على فضيلة العمل في عشر ذي الحجة عمومًا، والصوم مندرج تحتها.
٧ - صوم تاسوعاء وعاشوراء: وهما التاسع والعاشر من شهر المحرم، ويسن الجمع بينهما، لحديث ابن عباس مرفوعًا: «لئن بقيت إلى قابل لأصومن التاسع والعاشر» (٣) ويتأكد صيام عاشوراء لقوله ﷺ فيه: «أحتسب على الله تعالى أن يكفر السنة التي قبله» (٤)، وإنما لم يجب صومه لخبر الصحيحين: «إن هذا اليوم يوم عاشوراء، ولم يكتب عليكم صيامه، فمن شاء فليصم، ومن شاء فليفطر» وحملوا الأخبار الواردة بالأمر بصومه على تأكد الاستحباب.
والحكمة من صيام عاشوراء: ما بينه ابن عباس، قائلًا: «قدم النبي ﷺ،
(١) رواه أحمد وابن ماجه (نيل الأوطار: ٢٣٩/ ٤).
(٢) رواه أحمد وأبو داود والنسائي (نيل الأوطار: ٢٣٨/ ٤).
(٣) رواه الخلال بإسناد جيد، واحتج به أحمد، وروى مسلم: «لئن بقيت إلى قابل لأصومن اليوم التاسع».
(٤) روى الجماعة إلا البخاري والترمذي عن أبي قتادة قال: قال رسول الله ﷺ: «صوم يوم عرفة يكفر سنتين ماضية ومستقبلة، وصوم يوم عاشوراء يكفر سنة ماضية» وحكمة التفرقة: أن عرفة يوم محمدي: يعني أن صومه مختص بأمة محمد ﷺ، وعاشوراء يوم موسوي، ونبينا محمد ﷺ أفضل الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين (نيل الأوطار: ٢٣٨/ ٤)، وأحتسب: أطلب الأجر والثواب.
فرأى اليهود تصوم عاشوراء، فقال: ما هذا؟ قالوا: يومٌ صالح، نجَّى الله فيه موسى وبني إسرائيل من عدوهم، فصامه موسى، فقال: أنا أحق بموسى منكم، فصامه، وأمر بصيامه» (١).
فإن لم يصم مع عاشوراء تاسوعاء، سن عند الشافعية أن يصوم معه الحادي عشر، بل نص الشافعي في الأم والإملاء على استحباب صوم الثلاثة. وذكر الحنابلة أنه إن اشتبه على المسلم أول الشهر، صام ثلاثة أيام، ليتيقن صومها. وتاسوعاء وعاشوراء آكد شهر الله المحرم.
ولا يكره عند الجمهور غير إفراد العاشر بالصوم.
٨ - صيام الأشهر الحرم - وهي أربع: ثلاثة متوالية؛ وهي ذو القعدة وذو الحجة والمحرَّم، وواحد منفرد وهو رجب، وهي أفضل الشهور للصوم بعد رمضان، وأفضل الأشهر الحرم: المحرم، ثم رجب، ثم باقي الحرم، ثم بعد الحرم شعبان.
واستحباب صوم هذه الأشهر هو عند المالكية والشافعية (٢)، واكتفى الحنابلة باستحباب صوم المحرم، فهو عندهم أفضل الصيام بعد صيام شهر رمضان، لقوله ﷺ: «أفضل الصلاة بعد المكتوبة جوف الليل، وأفضل الصيام بعد رمضان شهر الله المحرَّم» (٣)، وأفضل المحرم يوم عاشوراء، كما تقدم. وقال الحنفية: المندوب في الأشهر الحرم أن يصوم ثلاثة أيام من كل منها، وهي الخميس والجمعة والسبت.
(١) متفق عليه (نيل الأوطار: ٢٤١/ ٤).
(٢) القوانين الفقهية: ص ١١٤، الحضرمية: ص ١١٨.
(٣) رواه مسلم وغيره من حديث أبي هريرة.
٩ - صوم شعبان: لحديث أم سلمة: أن النبي ﷺ لم يكن يصوم من السنة شهرًا تامًا إلا شعبان يصل به رمضان (١)، وعن عائشة قالت: «لم يكن النبي ﷺ يصوم أكثر من شعبان، فإنه كان يصومه كله» (٢) وكره قوم صوم النصف الآخر من شعبان، وقال الشافعية: لا يصح صومه، للحديث المتقدم: «إذا انتصف شعبان فلا تصوموا».
آراء المذاهب في الصوم المندوب:
للفقهاء تصنيفات لأيام الصوم المتطوع بها، هي ما يأتي:
قال الحنفية (٣): صوم التطوع أنواع ثلاثة: مسنون، ومندوب، ونفل: والمسنون: هو ما واظب عليه النبي ﷺ، والمندوب أو المستحب: هو مالم يواظب عليه ﷺ، وإن لم يفعله بعدما رغب إليه. والنفل: ما سوى ذلك وهو ما رغب فيه الشرع من مطلق الصوم.
أما المسنون: فهو صوم عاشوراء مع التاسع.
وأما المندوب: فهو صوم ثلاثة أيام من كل شهر، ويندب كونها الأيام البيض: وهي الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر، وصوم الاثنين والخميس، وصوم ست من شوال ولا يكره التتابع على المختار، وكل صوم ثبت طلبه والوعد عليه بالسنة كصوم داود ﵇. ومنه صوم يوم الجمعة ولو منفردًا، فلا بأس بصيامه عند أبي حنيفة ومحمد، لما روي عن ابن عباس أنه كان يصومه ولا يفطر.
(١) رواه الخمسة (أحمد وأصحاب السنن) ولفظ ابن ماجه، «كان يصوم شهري شعبان ورمضان» (نيل الأوطار: ٢٤٥/ ٤).
(٢) متفق عليه (المصدر والمكان السابق).
(٣) الدر المختار ورد المحتار: ١١٣/ ٢ - ١١٦، ١٧١، مراقي الفلاح: ص ١٠٥ ومابعدها.
ومنه صوم يوم عرفة، ولو لحاج لم يضعفه عن الوقوف بعرفات، ولا يخل بالدعوات، فلو أضعفه كره.
وأما النفل: فهو ما سوى ذلك مما لم يثبت كراهيته.
وذكر الحنفية تصنيفًا آخر، فقالوا:
أنواع الصوم اللازم ثلاثة عشر: سبعة متتابعة: وهي رمضان، وكفارة ظهار وقتل، ويمين، وإفطار رمضان بلا عذر، ونذر معين، وصوم اعتكاف واجب، وستة يخير فيها بين التتابع والتفريق وهي: صوم النفل، وقضاء رمضان، وصوم القران والتمتع في الحج إذا عجز عن الذبح، وفدية حلق، وجزاء صيد، ونذر مطلق عن التقييد بشهر كذا وعن التتابع أو نيته.
وقال المالكية (١): التطوع ثلاثة أنواع: سنة ومستحب ونافلة، فهم كالحنفية.
فالسنة: صيام يوم عاشوراء: وهو عاشر المحرم.
والمستحب: صيام الأشهر الحرم وشعبان والعشر الأول من ذي الحجة، ويوم عرفة، وستة أيام من شوال، وثلاثة أيام من كل شهر، ويوم الاثنين والخميس.
والنافلة: كل صوم لغير وقت ولا سبب في غير الأيام التي يجب أو يمنع.
وذكر الشافعية (٢): أن صوم التطوع المؤكد قسمان: قسم لا يتكرر كصوم الدهر. وقسم يتكرر، وهو أنواع ثلاثة:
الأول - ما يتكرر بتكرر السنين: وهو صوم يوم عرفة لغير الحاج والمسافر،
(١) القوانين الفقهية: ص ١١٤، بداية المجتهد: ٢٩٨/ ١ - ١١٨.
(٢) مغني المحتاج: ٤٤٦/ ١ ومابعدها، الحضرمية: ص ١١٨.
وعشر ذي الحجة، وعاشوراء وتاسوعاء، والحادي عشر من المحرم، وست من شوال ويسن تواليها واتصالها بالعيد. وسن صوم الأشهر الحرم (وهي ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب) وكذا يسن صوم شعبان.
الثاني - مايتكرر بتكرر الشهور: وهي الأيام البيض: وهي الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر من كل شهر، والأيام السود: وهي الثامن والعشرون وتالياه، وعند نقص الشهر يعوض عنه أول الشهر، ويسن أن يصوم معها السابع والعشرين احتياطًا.
وخصت أيام البيض وأيام السود بذلك لتعميم ليالي الأولى بالنور والثانية بالسواد، فناسب صوم الأولى شكرًا، والثانية لطلب كشف السواد، ولأن الشهر ضيف قد أشرف على الرحيل، فناسب تزويده بذلك.
الثالث - ما يتكرر بتكرر الأسابيع: وهو الاثنين والخميس.
وسرد الحنابلة (١) أوقات صوم التطوع فقالوا:
أفضل صوم التطوع يوم ويوم، ولا يكره صوم الدهر إلا لخائف ضررًا أو فوت حق. وسن ثلاثة من كل شهر، وكونها أيام البيض أفضل: وهي الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر،
وذلك كصيام الدهر، فإن الحسنة بعشر أمثالها.
ويسن صوم الاثنين والخميس، وستة من شوال، والأولى تتابعها وعقب العيد، إلا لمانع كقضاء، ومن صامها مع رمضان، كأنما صام الدهر.
(١) كشاف القناع: ٣٩٣/ ٢ - ٣٩٦، غاية المنتهى: ٣٣٤/ ١ ومابعدها.
ويسن صوم المُحرَّم، وهو أفضل الصيام بعد رمضان، وآكده عاشوراء وهو كفارة سنة (١)، ثم تاسوعاء، ولا يكره إفراد العاشر بالصوم. ويسن صوم أيام عشر ذي الحجة، وهي أفضل من العشر الأخير من رمضان، وآكده يوم عرفة، وهو كفارة سنتين، والمراد كفارة الصغائر، فإن لم تكن رُجي تخفيف الكبائر، فإن لم تكن فرفع درجات.
ولا يستحب صيام يوم عرفة لمن كان بعرفة من الحاج، بل فطره أفضل، لما روت أم الفضل بنت الحارث «أنها أرسلت إلى النبي ﷺ بقدح لبن، وهو واقف على بعيره بعرفة، فشرب» (٢)، وأخبر ابن عمر أنه «حج مع النبي ﷺ، ثم أبي بكر، ثم عمر، ثم عثمان، فلم يصمه أحد منهم» ولأنه يُضعف عن الدعاء، فكان تركه أفضل.
ويكره إفراد رجب بالصوم، لما تقدم سابقًا في الصوم المكروه. ولا يكره إفراد شهر غير رجب بالصوم؛ لأنه ﷺ «كان يصوم شعبان ورمضان» أي أحيانًا، إذ لم يداوم على غير رمضان.
هل يلزم التطوع بالشروع فيه؟ للفقهاء نظريتان في هذا الموضوع، الأولى للحنفية والمالكية، والثانية للشافعية والحنابلة:
(١) وينبغي فيه التوسعة على العيال، قال إبراهيم بن محمد بن المنتشر، وكان أفضل أهل زمانه، أنه بلغه «من وسع على عياله يوم عاشوراء، وسَّع الله عليه سائر سنته».
(٢) متفق عليه.
قال الفريق الأول (١): من دخل في صوم التطوع أو في صلاة التطوع، لزمه إتمامه، فإن أفسده قضاه وجوبًا، كما أنه إذا سافر عمدًا فأفطر لسفره، فعليه القضاء، لأن المؤدى قربة وعمل صار لله تعالى، فتجب صيانته بالمضي فيه عن الإبطال، ولا سبيل إلى صيانة ما أداه إلا بلزوم الباقي، وإذا وجب المضي وجب القضاء، ولأن الوفاء بالعقد مع الله واجب، وحله حرام في كل عبادة يتوقف أولها على آخرها، لقوله تعالى: ﴿ولا تبطلوا أعمالكم﴾ [محمد:٣٣/ ٤٧] وقال مالك: لا ينبغي أن يفطر من صام متطوعًا، إلا من ضرورة، وبلغني أن ابن عمر قال: من صام متطوعًا، ثم أفطر من غير ضرورة، فذلك الذي يلعب بدينه، وقياسًا على النذر، فإن النفل ينقلب واجبًا بالنذر، ويجب أداؤه، لكن ذكر الحنفية أنه إذا شرع متطوعًا في خمسة أيام: يومي العيدين وأيام التشريق، فلا يلزمه قضاؤها في ظاهر الرواية.
وقال الفريق الثاني (٢): من دخل في تطوع غير حج وعمرة كأن شرع في صوم أو صلاة أو اعتكاف أو طواف أو وضوء أو قراءة سورة الكهف ليلة الجمعة أو يومها، أو التسبيحات عقب الصلاة، فلا يلزمه إتمامه، وله قطعه، ولا قضاء عليه، ولا مؤاخذة في قطعه لكن يستحب له إتمامه، لأنه تكميل العبادة، وهو مطلوب، ويكره الخروج منه بلا عذر، لظاهر قوله تعالى: ﴿ولا تبطلوا أعمالكم﴾ [محمد:٣٣/ ٤٧] وللخروج من خلاف من أوجب إتمامه، ولما فيه من تفويت الأجر.
(١) اللباب شرح الكتاب: ١٧١/ ١ ومابعدها، فتح القدير: ٨٥/ ٢، ١٠٥، الدر المختار: ١٦٤/ ٢، شرح الرسالة لابن أبي زيد القيرواني: ٢٩٦/ ١، فواتح الرحموت: ١١٤/ ١، كشف الأسرار: ٦٣٢/ ١.
(٢) مغني المحتاج: ٤٣٧/ ١، ٤٤٨، كشاف القناع: ٤٠٠/ ٢، المغني: ١٥١/ ٣ ومابعدها، شرح المحلي على جمع الجوامع: ٦٩/ ١، غاية الوصول للأنصاري: ص ١٢، أصول الفقه الإسلامي للمؤلف، ١ص ٧٩ ومابعدها، ط ثانية بدار الفكر.
فإن وجد عذر كمساعدة ضيف في الأكل إذا عز عليه امتناع مضيفه منه، أو عكسه، فلا يكره الخروج منه، بل يستحب لخبر: «وإن لزَوْرك عليك حقًا» والزور: الزائرون، وخبر «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليكرم ضيفه» (١).
ودليلهم على عدم لزوم النفل بالشروع فيه في الصوم: قوله ﷺ: «الصائم المتطوع أمير نفسه، إن شاء صام، وإن شاء أفطر» (٢) وتقاس الصلاة وبقية النوافل غير الحج والعمرة على الصوم، ولأن أصل مشروعية النفل غير لازم، والقضاء يتبع المقضي عنه، فإذا لم يكن واجبًا، لم يكن القضاء واجبًا، بل يستحب، وروي جواز قطع صوم التطوع عن ابن عمر وابن عباس وابن مسعود.
أما التطوع بالحج أو العمرة فيحرم قطعه، لمخالفته غيره في لزوم الإتمام، والكفارة بالجماع، لأن الوصول إليهما لا يحصل في الغالب إلا بعد كلفة عظيمة، ومشقة شديدة، وإنفاق مال كثير، ففي إبطالهما تضييع لماله، وإبطال لأعماله الكثيرة.
المبحث الثالث - متى يجب الصوم، وكيفية إثبات هلال الشهر واختلاف المطالع؟:
وفيه مطالب ثلاثة:
المطلب الأول - متى يجب الصوم؟ يجب الصوم بأحد أمور ثلاثة (٣).
(١) رواهما الشيخان.
(٢) رواه أحمد وصححه من حديث أم هانئ، وقال الحاكم: صحيح الإسناد، وضعفه البخاري.
(٣) الدر المختار ورد المحتار: ١١١/ ٢، مغني المحتاج: ٤٢٠/ ١، الشرح الكبير: ٥٠٩/ ١، كشاف القناع: ٣٤٩/ ٢.
الأول - النذر: بأن ينذر المرء صوم يوم أو شهر تقربًا إلى الله تعالى، فيجب عليه بإيجابه على نفسه، ويكون سبب صوم المنذور هو النذر، فلو عين شهرًا أو يومًا، وصام شهرًا أو يومًا قبله عنه، أجزأه، لوجود السبب، ويلغو التعيين.
الثاني - الكفارات: عن معصية ارتكبها المرء، كالقتل الخطأ، وحنث اليمين، وإفطار رمضان بالجماع نهارًا، والظهار، ويكون سبب الصوم هو القتل أو الحنث أو الإفطار، أو المظاهرة.
الثالث - شهود جزء من شهر رمضان من ليل أو نهار على المختار عند الحنفية، فيكون السبب شهود الشهر.
ويجب صوم رمضان: إما برؤية هلاله إذا كانت السماء صحوًا، أو بإكمال شعبان ثلاثين يومًا إذا وجد غيم أوغبار ونحوهما، لقوله تعالى: ﴿فمن شهد منكم الشهر فليصمه﴾ [البقرة:١٨٥/ ٢] وقوله ﷺ: «صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته، فإن غمّ عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين» (١) وفي لفظ البخاري: «الشهر تسع وعشرون ليلة، فلا تصوموا حتى تروه، فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين» وفي لفظ لمسلم: «أنه ذكر رمضان، فضرب بيده، فقال: الشهر هكذا وهكذا وهكذا، ثم عقد إبهامه في الثالثة، صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته، فإن غم عليكم فاقدُروا ثلاثين» وقد يقع نقص الشهر أي تسعة وعشرين يومًا مدة شهرين أو ثلاثة أو أربعة فقط، كما في شرح مسلم للنووي، ولا تثبت بقية توابع رمضان كصلاة التراويح ووجوب الإمساك على من أصبح مفطرًا إلا برؤية الهلال، أو إكمال شعبان ثلاثين يومًا.
(١) رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة، ورواه البخاري عن ابن عمر، ورواه مسلم والنسائي وابن ماجه عن ابن عمر أيضًا بلفظ آخر، ورواه أحمد والنسائي عن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب، ورواه أحمد والنسائي والترمذي بمعناه وصححه عن ابن عباس، وروي عن آخرين (نيل الأوطار: ١٨٨/ ٤ - ١٩٢).
المطلب الثاني - كيفية إثبات هلال رمضان وهلال شوال:
تتردد أقوال الفقهاء في طريق إثبات هلال رمضان وشوال بين اتجاهات ثلاثة: رؤية جمع عظيم، ورؤية مسلمين عدلين، ورؤية رجل عدل واحد.
أما الحنفية (١) فقالوا:
أـ إذا كانت السماء صحوًا: فلا بد من رؤية جمع عظيم لإثبات رمضان، والفطر أو العيد، ومقدار الجمع: من يقع العلم الشرعي (أي غلبة الظن) بخبرهم، وتقديرهم مفوض إلى رأي الإمام في الأصح؛ واشتراط الجمع لأن المَطْلع متحد في ذلك المحل، والموانع منتفية، والأبصار سليمة، والهمم في طلب الهلال مستقيمة، فالتفرد في الرؤية من بين الجم الغفير - مع ذلك - ظاهر في غلط الرأي.
ولا بد من أن يقول الواحد منهم في الإدلاء بشهادته: «أشهد».
ب - وأما إذا لم تكن السماء صحوًا بسبب غيم أو غبار ونحوه، فيكتفي الإمام في رؤية الهلال بشهادة مسلم واحد عدل عاقل بالغ، (والعدل: هو الذي غلبت حسناته سيئاته) أو مستور الحال في الصحيح، رجلًا كان أو امرأة، حرًا أم غيره، لأنه أمر ديني، فأشبه رواية الأخبار. ولا يشترط في هذه الحالة أن يقول: «أشهد» وتكون الشهادة في مصر أمام القاضي، وفي القرية في المسجد بين الناس.
وتجوز الشهادة على الشهادة، فتصح الشهادة أمام القاضي بناء على شهادة شخص آخر رأى الهلال.
ومن رأى الهلال وحده، صام، وإن لم يقبل الإمام شهادته، فلو أفطر وجب عليه القضاء دون الكفارة.
(١) رسائل ابن عابدين: ٢٥٣/ ١، الدر المختار: ١٢٣/ ٢ - ١٣٠، مراقي الفلاح: ص١٠٨ ومابعدها، اللباب: ١٦٤/ ١.
ولا يعتمد على ما يخبر به أهل الميقات والحساب والتنجيم، لمخالفته شريعة نبينا عليه أفضل الصلاة والتسليم؛ لأنه وإن صح الحساب أو الرصد، فلسنا مكلفين شرعًا إلا بالرؤية العادية.
وقال المالكية (١): يثبت هلال رمضان بالرؤية على أوجه ثلاثة هي ما يأتي:
١ً - أن يراه جماعة كثيرة وإن لم يكونوا عدولًا: وهم كل عدد يؤمن في العادة تواطؤهم على الكذب. ولا يشترط أن يكونوا ذكورًا أحرارًا عدولًا.
٢ً - أن يراه عَدْلان فأكثر: فيثبت بهما الصوم والفطر في حالة الغيم أو الصحو. والعدل: هو الذكر الحر البالغ العاقل الذي لم يرتكب معصية كبيرة ولم يصر على معصية صغيرة، ولم يفعل ما يخل بالمروءة. فلا يجب الصوم في حالة الغيم برؤية عدل واحد أو امرأة أو امرأتين على المشهور، ويجب الصوم قطعًا على الرائي في حق نفسه. وتجوز الشهادة بناء على شهادة العدلين إذا نقل الخبر عن كل واحد اثنان، ولا يكفي نقل واحد. ولا يشترط في إخبار العدلين أو غيرهم لفظ «أشهد».
٣ً - أن يراه شاهد واحد عدل: فيثبت الصوم والفطر له في حق العمل بنفسه أو في حق من أخبره ممن لا يعتني بأمر الهلال، ولا يجب على من يعتني بأمر الهلال الصوم برؤيته، ولا يجوز الإفطار بها، فلا يجوز للحاكم أن يحكم بثبوت الهلال برؤية عدل فقط. ولا يشترط في الواحد الذكورة ولا الحرية. فإن كان الإمام هو الرائي وجب الصوم والإفطار.
ويجب على العدل أو العدلين رفع الأمر للحاكم أنه رأى الهلال ليفتح باب الشهادة، ولأنه قد يكون الحاكم ممن يرى الثبوت بعدل.
(١) القوانين الفقهية: ص١١٥ ومابعدها، الشرح الصغير: ٦٨٢/ ١ ومابعدها، الشرح الكبير: ٥٠٩/ ١ ومابعدها.
أما هلال شوال: فيثبت برؤية الجماعة الكثيرة التي يؤمن تواطؤها على الكذب ويفيد خبرها العلم أو برؤية العدلين كما هو الشأن في إثبات هلال رمضان.
ولا يثبت الهلال بقول منجّم أي حاسب يحسب سير القمر، لا في حق نفسه ولا غيره؛ لأن الشارع أناط الصوم والفطر والحج برؤية الهلال، لا بوجوده إن فرض صحة قوله، فالعمل بالمراصد الفلكية وإن كانت صحيحة لا يجوز، ولايطلب شرعًا، كما تقدم.
وقال الشافعية (١): تثبت رؤية الهلال لرمضان أو شوال أو غيرهما بالنسبة إلى عموم الناس برؤية شخص عدل، ولو مستور الحال، سواء أكانت السماء مصحية أم لا، بشرط أن يكون الرائي عدلًا مسلمًا بالغًا عاقلًا حرًا ذكرًا، وأن يأتي بلفظ «أشهد» فلا تثبت برؤية الفاسق والصبي والمجنون والعبد والمرأة. ودليلهم: أن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما رأى الهلال، فأخبر رسول الله ﷺ بذلك، فصام وأمر الناس بصيامه (٢). وعن ابن عباس ﵄، قال: «جاء أعرابي إلى رسول الله ﷺ فقال: إني رأيت هلال رمضان، فقال: أتشهد أن لا إله إلا الله؟ قال: نعم، قال: تشهد أن محمدًا رسول الله؟ قال: نعم، قال: يا بلال، أذن في الناس، فليصوموا غدًا» (٣) والمعنى في ثبوته بالواحد الاحتياط للصوم.
أما الرائي نفسه فيجب عليه الصوم، ولو لم يكن عدلًا (أي فاسقًا) أو كان صبيًا أو امرأة أو كافرًا، أو لم يشهد عند القاضي، أو شهد ولم تسمع شهادته، كما يجب الصوم على من صدقه ووثق بشهادته.
(١) المهذب: ١٧٩/ ١، مغني المحتاج: ٤٢٠/ ١ - ٤٢٢.
(٢) رواه أبو داود وصححه ابن حبان، ورواه الحاكم وقال: على شرط مسلم.
(٣) صححه ابن حبان والحاكم ورواه أبو داود والترمذي.
وإذا صمنا برؤية عدل، ولم نر الهلال ثلاثين، أفطرنا في الأصح، وإن كانت السماء صحوًا، لكمال العدد بحجة شرعية.
وقال الحنابلة (١): يقبل في إثبات هلال رمضان قول مكلف عدل واحد ظاهرًا وباطنًا ذكرًا أو أنثى حرًا أو عبدًا، ولو لم يقل: أشهد أو شهدت أني رأيته، فلا يقبل قول مميز ولا مستور الحال لعدم الثقة بقوله في الغيم والصحو، ولو كان الرائي في جمع كثير ولم يره منهم غيره. ودليلهم الحديث المتقدم أنه ﷺ صوَّم الناس بقول ابن عمر، ولقبوله خبر الأعرابي السابق به، ولأنه خبر ديني وهو أحوط، ولا تهمة فيه، بخلاف آخر الشهر، ولاختلاف حال الرائي والمرئي، فلو حكم حاكم بشهادة واحد، عمل بها وجوبًا. ولا يعتبر لوجوب الصوم لفظ الشهادة، ولايختص بحاكم، فيلزم الصوم من سمعه من عدل. ولا يجب على من رأى الهلال إخبار الناس أو أن يذهب إلى القاضي أو إلى المسجد. ويجب الصوم على من ردت شهادته لفسق أو غيره، لعموم الحديث: «صوموا لرؤيته» ولا يفطر إلا مع الناس؛ لأن الفطر لا يباح إلا بشهادة عدلين. وإن رأى هلال شوال وحده لم يفطر لحديث أبي هريرة يرفعه قال: «الفطر يوم يفطرون، والأضحى يوم يضحون» (٢) ولاحتمال خطئه وتهمته، فوجب الاحتياط. وتثبت بقية الأحكام إذا ثبتت رؤية هلال رمضان بواحد من وقوع الطلاق المعلق به، وحلول آجال الديون المؤجلة إليه، وغيرها كانقضاء العدة والخيار المشروط ومدة الإيلاء ونحوها تبعًا للصوم.
ولا يجب الصوم - كما تقدم - بالحساب والنجوم ولو كثرت إصابتها، لعدم استناده لما يعول عليه شرعًا.
(١) كشاف القناع: ٣٥٢/ ٢ - ٣٥٨، المغني: ١٥٦/ ٣ - ١٦٣.
(٢) رواه الترمذي، وقال: حسن صحيح غريب.
ولا يقبل في إثبات بقية الشهور كشوال (من أجل العيد) وغيره إلا رجلان عدلان، بلفظ الشهادة؛ لأن ذلك مما يطلع عليه الرجال غالبًا، وليس بمال ولا يقصد به المال.
وإنما ترك ذلك في إثبات رمضان احتياطًا للعبادة. وإذا صام الناس بشهادة اثنين: ثلاثين يومًا، فلم يروا الهلال، أفطروا، سواء في حال الغيم أو الصحو، لحديث عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب السابق أن النبي ﷺ: «وإن شهد شاهدان فصوموا وأفطروا» (١).
ولا يفطروا إن صاموا الثلاثين يومًا بشهادة واحد، لأنه فطر، فلا يجوز أن يستند إلى واحد، كما لو شهد بهلال شوال.
وإن صاموا ثمانية وعشرين يومًا، ثم رأوا الهلال، قضوا يومًا فقط. وإن صاموا لأجل غيم ونحوه كقَتر ودخان، لم يفطروا؛ لأن الصوم إنما كان احتياطًا، فمع موافقته، للأصل: وهو بقاء رمضان، أولى. وإن رأى هلال شوال عدلان، ولم يشهدا عند الحاكم، جاز لمن سمع شهادتهما الفطر إذا عرف عدالتهما، وجاز لكل واحد منهما أن يفطر بقولهما إذا عرف عدالة الآخر، لقوله ﷺ: «فإن شهد شاهدان فصوموا وأفطروا» فإن لم يعرف أحدهما عدالة الآخر، لم يجز له الفطر لاحتمال فسقه إلا أن يحكم بذلك حاكم، فيزول اللبس.
وإن شهد شاهدان عند الحاكم برؤية هلال شوال: فإن رد الحاكم شهادتهما، لجهله بحالهما، فلمن علم عدالتهما الفطر؛ لأن رده ههنا ليس بحكم منه بعدم قبول شهادتهما، إنما هو توقف لعدم علمه بحالهما، فهو كالتوقف عن الحكم انتظارًا للبينة، فلو ثبتت عدالتهما بعد ذلك ممن زكاهما حكم بها، لوجود المقتضي، وأما إن رد الحاكم شهادتهما لفسقهما، فليس لهما ولا لغيرهما الفطر بشهادتهما.
(١) رواه النسائي وأحمد.
وإذا اشتبهت الأشهر على أسير أو سجين أو من بمفازة أو بدار حرب ونحوهم، اجتهد وتحرى في معرفة شهر رمضان وجوبًا؛ لأنه أمكنه تأدية فرضه بالاجتهاد، فلزمه كاستقبال القبلة، فإن وافق ذلك شهر رمضان أو ما بعد رمضان، أجزأه. وإن تبين أن الشهر الذي صامه ناقص، ورمضان الذي فاته كامل تمام، لزمه قضاء النقص؛ لأن القضاء يجب أن يكون بعدد المتروك. وإن وافق صومه شهرًا قبل رمضان كشعبان لم يجزئه؛ لأنه أتى بالعبادة قبل وقتها، فلم يجزئه، كالصلاة، فلو وافق بعضه رمضان، فما وافقه أوبعده، أجزأه، دون ما قبله.
وإن صام من اشتبهت عليه الأشهر، بلا اجتهاد، فكمن خفيت عليه القبلة، لا يجزيه مع القدرة على الاجتهاد.
والخلاصة: إن الحنفية يشترطون لإثبات هلال رمضان وشوال رؤية جمع عظيم إذا كانت السماء صحوًا، وتكفي رؤية العدل الواحد في حال الغيم ونحوه. ولا بد عند المالكية من رؤية عدلين أو أكثر، وتكفي رؤية العدل الواحد عندهم في حق من لا يهتم بأمر الهلال.
وتكفي رؤية عدل واحد عند الشافعية والحنابلة، ولو مستور الحال عند الشافعية، ولا يكفي المستور عند الحنابلة، كما لا بد عند الحنابلة والمالكية من رؤية هلال شوال من عدلين لإثبات العيد.
وتقبل شهادة المرأة عند الحنفية والحنابلة، ولا تقبل عند المالكية والشافعية.
طلب رؤية الهلال: قال الحنفية (١): يجب للناس أن يلتمسوا الهلال في اليوم التاسع والعشرين من شعبان، وكذا هلال شوال لأجل إكمال العدة، فإن
(١) اللباب شرح الكتاب: ١٦٣/ ١.
رأوه صاموا، وإن غم عليهم، أكملوا عدة شعبان ثلاثين يومًا، ثم صاموا؛ لأن الأصل بقاء الشهر، فلا ينتقل عنه إلا بدليل، ولم يوجد.
وقال الحنابلة (١): يستحب ترائي الهلال احتياطًا للصوم، وحذارًا من الاختلاف، قالت عائشة: «كان النبي ﷺ يتحفظ في شعبان ما لا يتحفظ في غيره، ثم يصوم لرؤية رمضان» (٢) وروى أبو هريرة مرفوعًا: «أحصوا هلال شعبان لرمضان» (٣).
ويسن إذا رأى المرء الهلال كبَّر ثلاثًا، وقال: «اللهم أهلّه علينا باليُمن والإيمان، والأمن والأمان، ربي وربك الله» ويقول ثلاث مرات: «هلال خير ورشد» ويقول: «آمنت بالذي خلقك» ثم يقول: «الحمد لله الذي ذهب بشهر كذا، وجاء بشهر كذا» وروى الأثرم عن ابن عمر، قال: «كان النبي ﷺ إذا رأى الهلال قال: الله أكبر، اللهم أهلّه علينا بالأمن والإيمان، والسلامة والإسلام، والتوفيق لما تحب وترضى، ربي وربك الله».
وإذا رئي الهلال يكره عند الحنفية أن يشير الناس إليه، لأنه من عمل الجاهلية.
المطلب الثالث - اختلاف المطالع:
اختلف الفقهاء على رأيين في وجوب الصوم وعدم وجوبه على جميع المسلمين في المشارق والمغارب في وقت واحد، بحسب القول باتفاق مطالع القمر
(١) كشاف القناع: ٣٤٩/ ٢.
(٢) رواه الدارقطني بإسناد صحيح.
(٣) رواه الترمذي.
أو اختلاف المطالع، ففي رأي الجمهور: يوحد الصوم بين المسلمين، ولا عبرة باختلاف المطالع. وفي رأي الشافعية يختلف بدء الصوم والعيد بحسب اختلاف مطالع القمر بين مسافات بعيدة. ولا عبرة في الأصح بما قاله بعض الشافعية: من ملاحظة الفرق بين البلد القريب والبعيد بحسب مسافة القصر (٨٩ كم).
هذا مع العلم بأن اختلاف المطالع نفسه لانزاع فيه، فهو أمر واقع بين البلاد البعيدة كاختلاف مطالع الشمس، ولا خلاف في أن للإمام الأمر بالصوم بما ثبت لديه؛ لأن حكم الحاكم يرفع الخلاف،
وأجمعوا أنه لا يراعى ذلك في البلدان النائية جدًا كالأندلس والحجاز، وأندونيسيا والمغرب العربي (١).
وأذكر أولًا عبارات الفقهاء في هذا الموضوع المهم.
قال الحنفية (٢): اختلاف المطالع، ورؤية الهلال نهارًا قبل الزوال وبعده غير معتبر، على ظاهر المذهب، وعليه أكثر المشايخ، وعليه الفتوى، فيلزم أهل المشرق برؤية أهل المغرب، إذا ثبت عندهم رؤية أولئك، بطريق موجب، كأن يتحمل اثنان الشهادة، أو يشهدا على حكم القاضي، أو يستفيض الخبر، بخلاف ما إذا أخبر أهل بلدة كذا رأوه؛ لأنه حكاية.
وقال المالكية (٣): إذا رئي الهلال، عمَّ الصوم سائر البلاد، قريبًا أو بعيدًا، ولا يراعى في ذلك مسافة قصر، ولا اتفاق المطالع، ولا عدمها، فيجب الصوم
(١) رد المحتار لابن عابدين: ١٣١/ ٢، مجموعة رسائل ابن عابدين: ٢٥٣/ ١، تفسير القرطبي: ٢٩٦/ ٢، فتح الباري: ٨٧/ ٤، المجموع: ٣٠٠/ ٦، بداية المجتهد: ٢٧٨/ ١، القوانين الفقهية: ص١١٦.
(٢) الدر المختار ورد المحتار: ١٣١/ ٢ - ١٣٢، مراقي الفلاح: ص١٠٩.
(٣) الشرح الكبير: ٥١٠/ ١، بداية المجتهد: ٢٧٨/ ١ ومابعدها، القوانين الفقهية: ص١١٦.
على كل منقول إليه، إن نقل ثبوته بشهادة عدلين أو بجماعة مستفيضة، أي منتشرة.
وقال الحنابلة (١): إذا ثبتت رؤية الهلال بمكان، قريبًا كان أو بعيدًا، لزم الناس كلهم الصوم، وحكم من لم يره حكم من رآه.
وأما الشافعية فقالوارين فرسخًا (٢): إذا رئي الهلال ببلد لزم حكمه البلد القريب لا البعيد، بحسب اختلاف المطالع في الأصح، واختلاف المطالع لا يكون في أقل من أربعة وعشرين فرسخًا (٣).
وإذا لم نوجب على البلد الآخر وهو البعيد، فسافر إليه من بلد الرؤية من صام به، فالأصح أنه يوافقهم وجوبًا في الصوم آخرًا، وإن كان قد أتم ثلاثين؛ لأنه بالانتقال إلى بلدهم، صار واحدًا منهم، فيلزمه حكمهم، وروي أن ابن عباس أمر كُرَيْبًا بذلك كما سيأتي.
ومن سافر من البلد الآخر الذي لم ير فيه الهلال إلى بلد الرؤية، عيَّد معهم وجوبًا، لأنه صار واحدًا منهم، سواء أصام ثمانية وعشرين يومًا، أم تسعة وعشرين بأن كان رمضان تامًا عندهم، وقضى يومًا إن صام ثمانية وعشرين؛ لأن الشهر لا يكون كذلك.
ومن أصبح معيِّدًا، فسارت سفينته أو طائرته إلى بلدة بعيدة أهلها صيام، فالأصح أن يمسك بقية اليوم وجوبًا؛ لأنه صار واحدًا منهم.
(١) كشاف القناع: ٣٥٣/ ٢.
(٢) المجموع: ٢٩٧/ ٦ - ٣٠٣، مغني المحتاج: ٤٢٢/ ١ - ٤٢٣.
(٣) الفرسخ (٥٥٤٤ م) وهذه المسافة تساوي ٥٥٤٤×٢٤=٠٥٦،١٣٣ كم، انظر جدول المقاييس، علمًا بأن مسافة القصر (٨٩كم): هي أربعة برد أو ستة عشرة فرسخًا، والفرسخ ثلاثة أميال والميل أربعة آلاف خطوة، والخطوة: ثلاثة أقدام، والقدمان: ذراع، والذراع: أربعة وعشرون إصبعًا معترضات.
الأدلة:
أدلة الشافعية: استدلوا على اعتبار اختلاف المطالع بالسنة والقياس والمعقول:
١ً - السنة: استدلوا بحديثين: أولهما حديث كُرَيب، وثانيهما حديث ابن عمر:
أ - حديث كريب: أن أم الفضل بعثته إلى معاوية بالشام، فقال: فقدمتُ الشام، فقضيت حاجتها، واستُهلَّ علي رمضان ُ وأنا بالشام، فرأيت الهلال ليلة الجمعة، ثم قدمتُ المدينةفي آخر الشهر، فسألني عبد الله بن عباس، ثم ذكر الهلال، فقال: متى رأيتم الهلال؟ فقلت: رأيناه ليلة الجمعة، فقال: أنت رأيتَه؟ فقلت: نعم، ورآه الناس وصاموا، وصام معاوية، فقال: لكنا رأيناه ليلة السبت، فلا نزال نصوم حتى نُكْمِل ثلاثين أو نراه، فقلت: ألا نكتفي برؤية معاوية وصيامه؟ فقال: لا، هكذا أمَرَنا رسول الله ﷺ (١).
فدل على أن ابن عباس لم يأخذ برؤية أهل الشام، وأنه لا يلزم أهل بلد العمل برؤية أهل بلد آخر.
ب - حديث ابن عمر: أن رسول الله ﷺ قال: «إنما الشهر تسع وعشرون، فلا تصوموا حتى تروه، ولا تفطروا حتى تروه، فإن غُمّ عليكم فاقدُروا له» (٢) وهو يدل على أن وجوب الصوم منوط بالرؤية، لكن ليس المراد رؤية كل واحد، بل رؤية البعض.
(١) رواه الجماعة إلا البخاري وابن ماجه (نيل الأوطار: ١٩٤/ ٤).
(٢) رواه مسلم وأحمد (نيل الأوطار: ١٨٩/ ٤ وما بعدها).
٢ً - القياس: قاسوا اختلاف مطالع القمر على اختلاف مطالع الشمس المنوط به اختلاف مواقيت الصلاة.
٣ً - المعقول: أناط الشرع إيجاب الصوم بولادة شهر رمضان، وبدء الشهر يختلف باختلاف البلاد وتباعدها، مما يقتضي اختلاف حكم بدء الصوم تبعًا لاختلاف البلدان.
أدلة الجمهور: استدلوا بالسنة والقياس.
أما السنة: فهو حديث أبي هريرة وغيره: «صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته، فإن غم عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين» (١) فهو يدل على أن إيجاب الصوم على كل المسلمين معلق بمطلق الرؤية، والمطلق يجري على إطلاقه، فتكفي رؤية الجماعة أو الفرد المقبول الشهادة.
وأما القياس: فإنهم قاسوا البلدان البعيدة على المدن القريبة من بلد الرؤية، إذ لا فرق، والتفرقة تحكُّم، لا تعتمد على دليل.
هذا ... وقد ذكر ابن حجر في الفتح ستة أقوال في الموضوع، وقال الصنعاني: والأقرب لزوم أهل بلد الرؤية وما يتصل بها من الجهات التي على سَمْتها (٢) أي على خط من خطوط الطول: وهي ما بين الشمال إلى الجنوب إذ بذلك تتحد المطالع، وتختلف المطالع بعدم التساوي في طول البلدين أو باختلاف درجات خطوط العرض.
وقال الشوكاني: إن الحجة إنما هي في المرفوع من رواية ابن عباس، لا في
(١) رواه البخاري ومسلم (نيل الأوطار: ١٩١/ ٤).
(٢) سبل السلام: ١٥١/ ٢.
اجتهاده الذي فهم عنه الناس، والمشار إليه بقوله: «هكذا أمرنا رسول الله ﷺ» وقوله: «فلا نزال نصوم حتى نكمل الثلاثين».
والأمر الوارد في حديث ابن عمر، لا يختص بأهل ناحية على جهة الانفراد، بل هو خطاب لكل من يصلح له من المسلمين، فالاستدلال به على لزوم رؤية أهل بلد لغيرهم من أهل البلاد، أظهر من الاستدلال به على عدم اللزوم؛ لأنه إذا رآه أهل بلد، فقد رآه المسلمون، فيلزم غيرهم ما لزمهم.
والذي ينبغي اعتماده هو ماذهب إليه المالكية وجماعة من الزيدية واختاره المهدي منهم، وحكاه القرطبي عن شيوخه: أنه إذا رآه أهل بلد، لزم أهل البلاد كلها (١).
وهذا الرأي (رأي الجمهور) هو الراجح لدي توحيدًا للعبادة بين المسلمين، ومنعًا من الاختلاف غير المقبول في عصرنا، ولأن إيجاب الصوم معلق بالرؤية، دون تفرقة بين الأقطار.
والعلوم الفلكية تؤيد توحيد أول الشهر الشرعي بين الحكومات الإسلامية، لأن أقصى مدة بين مطلع القمر في أقصى بلد إسلامي وبين مطلعه في أقصى بلد إسلامي آخر هو نحو ٩ ساعات، فتكون بلاد الإسلام كلها مشتركة في أجزاء من الليل تمكنها من الصيام عند ثبوت الرؤية والتبليغ بها برقيًا أو هاتفيًا (٢).
والاحتياط هو الاكتفاء بتوحيد الأعياد في حدود البلاد العربية بدءًا من عمان في الشرق إلى المغرب الأقصى.
(١) نيل الأوطار: ١٩٥/ ٤.
(٢) كتاب الشيخ محمد أبو العلا البنا مدرس الفلك بكلية الشريعة بالأزهر المشار إليه في بحث الشيخ المرحوم محمد السايس، في بحوث المؤتمر الثالث لمجمع البحوث الإسلامية: ص ٩٩ ومابعدها.
المبحث الرابع - شروط الصوم:
فيه مطلبان: الأول - في شروط الوجوب، والثاني - في شروط صحة الأداء.
المطلب الأول - شروط وجوب الصوم:
اشترط الفقهاء لوجوب الصوم شروطًا خمسة هي ما يأتي (١):
١ - الإسلام: شرط وجوب عند الحنفية: شرط صحة عند الجمهور، فلا يجب الصوم على الكافر، ولا يطالب بالقضاء عند الأولين، ولا يصح صوم الكافر بحال ولو مرتدًا عند الآخرين، وليس عليه القضاء عندهم أيضًا. ومنشأ الخلاف: مخاطبة الكفار بفروع الشريعة، فعند الحنفية: إن الكفار غير مخاطبين بفروع الشريعة التي هي عبادات، وعند الجمهور: الكفار مخاطبون بفروع الشريعة في حال كفرهم بمعنى أنه يجب عليهم الإسلام، ثم الصوم، إذ لا يصح الصوم لأنه عبادة بدنية محضة تفتقر إلى النية، فكان من شرطه الإسلام كالصلاة، ويزاد في عقوبتهم في الآخرة بسبب ذلك؛، ولكن لا يطالبون بفعلها في حال كفرهم، فتنحصر ثمرة الخلاف في مضاعفة العذاب في الآخرة، فعند الحنفية: العذاب واحد على الكفر، وعند الجمهور يضاعف العذاب على الكفر وعلى ترك التكاليف الشرعية (٢).
(١) البدائع: ٨٧/ ٢ - ٨٩، فتح القدير: ٨٧/ ٢ - ٩٣، الدر المختار: ١٤٥/ ٢ ومابعدها، اللباب: ١٧٢/ ١ ومابعدها، الشرح الصغير: ٦٨١/ ١ ومابعدها، القوانين الفقهية: ص١١٣ ومابعدها، المهذب: ١٧٧/ ١ ومابعدها، مغني المحتاج: ٤٣٢/ ١ - ٤٣٨، المغني: ١٥٣/ ٣ - ١٥٦، كشاف القناع: ٣٥٩/ ٢ - ٣٦٤، شرح الرسالة: ٣٠٠/ ١ ومابعدها، ٣٠٦، بداية المجتهد: ١٨٨/ ١ ومابعدها، المغني: ٩٨/ ٣ ومابعدها.
(٢) انظر كتابي أصول الفقه الإسلامي ٧٩/ ١ ومابعدها، ط دار الفكر.
فإن أسلم الكافر في شهر رمضان، صام ما يستقبل من بقية شهره، وليس عليه قضاء ما سبق بالاتفاق، لقوله تعالى: ﴿قل للذين كفروا: إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف﴾ [الأنفال:٣٨/ ٨]، ولأن في إيجاب قضاء ما فات في حال الكفر تنفيرًا عن الإسلام. والردة تمنع صحة الصوم، لقوله تعالى: ﴿لئن أشركت ليحبطن عملك﴾ [الزمر:٦٥/ ٣٩].
أما إن أسلم الكافر في أثناء النهار، فيلزمه عند الحنابلة إمساك بقية اليوم، وقضاؤه، لأنه أدرك جزءًا من وقت العبادة، فلزمته، كما لو أدرك جزءًا من وقت الصلاة، ويستحب الكف عن الأكل عندالحنفية والمالكية والشافعية مراعاة لحرمة أو لحق الوقت بالتشبه بالصائمين، كما يستحب القضاء عند المالكية، ولا يلزم عند الحنفية. ولا قضاء عليه في الأصح عند الشافعية لعدم التمكن من زمن يسع الأداء، ولا يلزمه إمساك بقية النهار في الأصح؛ لأنه أفطر لعذر فأشبه المسافر والمريض. لكن إن أسلم المرتد، وجب عليه عند الشافعية والحنابلة قضاء ما تركه في حال الكفر؛ لأنه التزم ذلك بالإسلام، فلم يسقط ذلك بالردة كحقوق الآدميين.
٢ - ٣ - البلوغ والعقل: فلا يجب الصوم على صبي ومجنون ومغمى عليه وسكران، لعدم توجه الخطاب التكليفي لهم بعدم الأهلية للصوم، المفهوم من قوله ﷺ: «رفع القلم عن ثلاث: عن الصبي حتى يبلغ، وعن المجنون حتى يفيق، وعن النائم حتى يستيقظ» فمن زال عقله غير مخاطب بالصوم في حال زوال العقل، ولا يصح الصوم من المجنون والمغمى عليه والسكران لعدم إمكان النية منه.
ويصح الصوم من الصبي المميز أو المميزة كالصلاة، ويجب عند الشافعية
والحنفية والحنابلة على وليه أمره به إذا أطاقه بعد بلوغه سبع سنين، وضربه حينئذ على الصوم بعد بلوغه عشر سنين، إذا تركه ليعتاده، كالصلاة، إلا أن الصوم أشق، فاعتبرت له الطاقة، لأنه قد يطيق الصلاة من لا يطيق الصيام.
وقال المالكية: لا يؤمر الصبيان بالصوم بخلاف الصلاة، فلا صيام على الصبيان حتى يحتلم الغلام وتحيض الفتاة، وبالبلوغ لزمتهم أعمال الأبدان فريضة.
فإذا بلغ الصبي أثناء اليوم أمسك عند الحنفية بقية اليوم، كما لو أسلم الكافر، وصام ما بعده من الأيام، لتحقق السببية والأهلية، ولم يقض اليوم الذي تأهل فيه، ولا ما مضى قبله من الشهر، لعدم الخطاب بعدم الأهلية له. ومن أغمي عليه في رمضان، لم يقض عند الحنفية اليوم الذي حدث فيه الإغماء، لوجود الصوم، وهو الإمساك المقرون بالنية، إذ الظاهر وجودها منه؛ لأن ظاهر حال المسلم في ليالي رمضان عدم الخلو عن النية. وقضى ما بعده من الأيام لانعدام النية. وإن أغمي عليه أول ليلة قضاه كله غير يوم تلك النية، لأن ظاهر حال المسلم نية الصوم.
ومن أغمي عليه رمضان كله، قضاه؛ لأنه نوع مرض يُضعف القُوى، ولا يزيل الحجا، فيصير عذرًا في التأخير، لا في الإسقاط.
وإذا أفاق المجنون في بعض رمضان، قضى ما مضى منه؛ لأن السبب - وهو شهود الشهر - قد وجد، وأهلية نفس الوجوب بالذمة وهي متحققة بلا مانع، فإذا تحقق الوجوب بلا مانع، تعين القضاء. وإن استوعب الجنون جميع ما يمكنه فيه إنشاء الصوم، لا يقضي للحرج، بخلاف الإغماء؛ لأنه لا يستوعب الوقت عادة، وامتداده نادر، ولا حرج في ترتيب الحكم على ما هو من النوادر.
والخلاصة: إن الإغماء والجنون المتقطع لا يمنع إيجاب الصوم وقضاءه، وأما الجنون المستوعب لجميع الشهر، فلا قضاء على صاحبه، وأما الإغماء ففيه القضاء، والسكر كالإغماء.
وقال المالكية: لا يصح صوم المجنون، ويجب عليه القضاء مطلقًا في المشهور، لقوله ﷺ: «وعن المجنون حتى يفيق» قال ابن رشد: وفيه ضعف، ولا يصح أيضًا صوم المغمى عليه مطلقًا، ويجب عليه القضاء إن بقي مغمى عليه يومًا فأكثر، فإن أغمي عليه يسيرًا كنصف اليوم فأقل بعد الفجر، لم يقض.
وإن أغمي عليه ليلًا، فأفاق بعد طلوع الفجر، فعليه قضاء الصوم، لفوات محل النية، وهو ليس بعاقل، ولا يقضي من الصلوات إلا ما أفاق في وقتها، ويختلف الإغماء عن النوم لكونه بين رتبتي الجنون والنوم.
ولا يقضي النائم مطلقًا ولو نام كل النهار، والسكر كالإغماء إلا أنه يلزمه الإمساك في يومه، ومن سكر ليلًا وأصبح ذاهب العقل، لم يجز له الفطر، ويلزمه القضاء.
وقال الشافعية: إذا بلغ الصبي أو أفاق المجنون في أثناء النهار، فكما لو أسلم الكافر، لا قضاء عليهم في الأصح، ولا يلزمهم إمساك بقية النهار في الأصح.
ويجب قضاء ما فات بالإغماء والردة والسكر، دون الكفر الأصلي والصِّبا والجنون إلا إذا كان متعديًا بجنونه بأن تناول ليلًا عامدًا شيئًا أزال عقله نهارًا، فعليه قضاء ما جن فيه من الأيام، فلا يجب قضاء ما فات على الكافر، لما في وجوبه من التنفير عن الإسلام، ولقوله تعالى ﴿قل للذين كفروا: إن ينتهوا يُغفر لهم ما قد سلف﴾ [الأنفال:٣٨/ ٨]، ولا على الصبي والمجنون لارتفاع قلم التكليف عنهما.
ولو ارتد، ثم جن أو سكر، فالأصح قضاء جميع أيام الجنون، وأيام السكر، لأن حكم الردة مستمر، بخلاف السكر. ويجب القضاء على الحائض والمفطر بلا عذر، وتارك النية، والمسافر والمريض، كما سيأتي.
وقال الحنابلة: إن بلغ الصغير صائمًا ذكرًا كان أو أنثى في أثناء نهار رمضان بتمام سن الخامسة عشرة أو باحتلام (أي إنزال مني بسبب حلم)، أتم صومه بغير خلاف، ولاقضاء عليه إن كان نوى ليلًا، ولا مانع أن يكون أول الصيام نفلًا وباقيه فرضًا، كنذر إتمام نفل.
وإذا أفاق المجنون في أثناء الشهر، فعليه صوم ما بقي من الأيام بغير خلاف، ولا يلزمه سواء أكان متعديًا بجنونه أم لا قضاء ما مضى خلافًا للمالكية، وخلافًا للحنفية إن أفاق في أثناء الشهر؛ لأن الجنون معنى يزيل التكليف، فلم يجب القضاء في زمانه كالصغر والكبر.
وأما قضاء اليوم الذي أسلم فيه الكافر أو بلغ الصغير أو أفاق فيه المجنون، وإمساكه فيه، ففيه روايتان، أصحهما لزوم إمساك ذلك اليوم وقضاؤه، لحرمة الوقت، ولقيام البينة فيه بالرؤية، ولإدراكه جزءًا من وقته كالصلاة. وكذا يلزم الإمساك والقضاء على كل من أفطر لغير عذر، ومن أفطر ظانًا أن الفجر لم يطلع وقد كان طلع، أو ظن الشمس قد غابت ولم تغب، أو الناسي النية، أو طهرت الحائض والنفساء، أو تعمدت مكلفة الفطر، ثم حاضت أو نفست، أو تعمد الفطر مقيم ثم سافر، أو قدم مسافر أو أقام مدة تمنع القصر، أو برئ مريض مفطر. أما النوم فلا يؤثر في الصوم، سواء وجد في بعض النهار أو جميعه.
والخلاصة: أن الجنون المستمر لا يوجب القضاء عند الجمهور، ويوجبه عند المالكية على المشهور. أما الإغماء فيوجب القضاء بالاتفاق. ويصح صوم المغمى عليه عند الشافعية والحنابلة إن أفاق لحظة من النهار، فإن أطبق الإغماء جميع
النهار لم يصح الصوم، ويصح صوم المغمى عليه مطلقًا عند الحنفية، ولا يصح صومه عند المالكية إلا إذا أغمي يسيرًا كنصف اليوم فأقل.
٤ - ٥ - القدرة (أو الصحة من المرض)، والإقامة: فلا يجب الصوم على المريض والمسافر، ويجب عليهما القضاء إن أفطرا إجماعًا، ويصح صومهما إن صاما، والدليل قوله تعالى: ﴿أيامًا معدودات، فمن كان منكم مريضًا أو على سفر، فعدة من أيام أخر، وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين، فمن تطوع خيرًا فهو خير له، وأن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون﴾ [البقرة:١٨٤/ ٢] وإذا قدم المسافر أمسك عن الطعام والشراب بقية يومه، كما إذا طهرت الحائض في بعض النهار.
كما لايجب الصوم على من لم يطقه للكبر، ولا على نحو حائض لعجزها شرعًا، ولا على حامل أو مرضع لعجزهما حسًا. ويشترط لعدم وجوب الصوم على المسافر أن يكون السفر سفر قصر، وأن يكون عند الجمهور (غير الحنفية) مباحًا؛ لأن الرخص لا تناط بالمعاصي، ولا يشترط كونه مباحًا عند الحنفية؛ لأن سبب وجود الترخص وهو السفر قائم، وأن يكون السفر عند الجمهور (غير الحنابلة) قبل الفجر، فلو أصبح المقيم صائمًا، فسافر، فلا يفطر؛ لأن الصوم عبادة اجتمع فيها الحضر والسفر، فغلب جانب الحضر؛ لأنه الأصل. لكن لو أصبح صائمًا فمرض، أفطر لوجود المبيح للإفطار، ولو أقام المسافر، وشفي المريض، حرم الفطر.
ولم يشترط الحنابلة هذا الشرط، لكن الأفضل لمن سافر في أثناء يوم نوى صيامه إتمام الصوم، خروجًا من خلاف من لم يبح له الفطر، تغليبًا لحكم الحضر، كالصلاة.
وأضاف الحنفية شرطًا آخر لوجوب الصوم وهو مفهوم أصوليًا: وهو العلم بالوجوب لمن أسلم بدار الحرب، أو الكون بدار الإسلام لمن نشأ فيها.
المطلب الثاني - شروط صحة الصوم:
اشترط الحنفية (١) لصحة الصوم شروطًا ثلاثة: هي النية، والخلو عما ينافي الصوم من حيض ونفاس، وعما يفسده. فإذا حاضت المرأة أفطرت وقضت.
واشترط المالكية (٢) أربعة شروط هي النية، والطهارة عن الحيض والنفاس، والإسلام، والزمان القابل للصوم، فلا يصح في يوم العيد، واشترطوا أيضًا لصحة الصوم: العقل: فلا يصح من مجنون ولا مغمى عليه، ولا يجب عليهما أيضًا.
واشترط الشافعية (٣) أربعة شروط أيضًا: وهي الإسلام، والعقل، والنقاء عن الحيض والنفاس جميع النهار، وكون الوقت قابلًا للصوم، فلا يصح صوم الكافر والمجنون والصبي غير المميز والحائض والنفساء. أما النية فهي ركن عندهم.
واشترط الحنابلة (٤) شروطًا ثلاثة: هي الإسلام، والنية، والطهارة عن الحيض والنفاس. ويظهر من ذلك أن الفقهاء اتفقوا على اشتراط النية، والطهارة من الحيض والنفاس جميع النهار. وأما الإسلام فهو شرط صحة عند الجمهور وشرط وجوب عند الحنفية كما بينا. وسنبحث شرط النية تفصيلًا.
(١) مراقي الفلاح: ص ١٠٥، الدر المختار: ١١٦/ ٢ ومابعدها.
(٢) القوانين الفقهية: ص ١١٣، الشرح الصغير: ٦٨١/ ١ ومابعدها، ٦٩٥ ومابعدها، الشرح الكبير: ٥٢٢/ ١.
(٣) مغني المحتاج: ٤٢٣/ ١،٤٣٢، المهذب: ١٧٧/ ١.
(٤) كشاف القناع: ٣٥٩/ ٢،٣٦٦،٣٧٦، المغني: ١٣٧/ ٣ ومابعدها.
شرط الطهارة: اتفق الفقهاء على أنه لا يشترط الخلو عن الجنابة، حتى يتمكن من إزالتها، ولضرورة حصولها ليلًا وطروء النهار، ولما روت عائشة وأم سلمة: أن النبي ﷺ كان يصبح جُنُبًا من جماع غير احتلام، ثم يصوم في رمضان (١). وعن أم سلمة قالت: كان رسول الله ﷺ يصبح جنبًا من جماع لا حُلُم، ثم لا يفطر ولا يقضي (٢). فمن أصبح جنبًا ولم يتطهر، أو امرأة حائض طهرت قبل الفجر، فلم يغتسلا إلا بعد الفجر، أجزأهما صوم ذلك اليوم.
أما النية فأذكر في الصوم تعريفها وهل هي شرط أو ركن، ومحلها، وشروطها، وصفتها، وأثرها.
تعريف النية: القصد وهو اعتقاد القلب فعل شيء وعزمه عليه، من غير تردد. والمراد بها هنا: قصد الصوم، فمتى خطر بقلبه في الليل أن غدًا من رمضان وأنه صائم فيه، فقد نوى.
هل النية شرط أو ركن؟ اتفق الفقهاء على أن النية مطلوبة في كل أنواع الصيام، فرضًا كان أوتطوعًا، إما على سبيل الشرطية أو الركنية، علمًا بأن الشرط: ما كان خارج ماهية أو حقيقة الشيء، والركن عند الحنفية: ما كان جزءًا من الماهية. لقوله ﷺ: «إنما الأعمال بالنيات» (٣) وقوله أيضًا: «من لم يُجمع الصيام قبل الفجر، فلا صيام له» (٤) وعن
(١) متفق عليه (نيل الأوطار: ٢١٢/ ٤).
(٢) رواه الشيخان (المصدر السابق).
(٣) رواه البخاري ومسلم عن عمر ﵁.
(٤) رواه الخمسة (أحمد وأصحاب السنن) عن حفصة ﵂ (نيل الأوطار: ١٩٥/ ٤).
عائشة مرفوعًا إلى النبي ﷺ: «من لم يبيت الصيام قبل طلوع الفجر، فلا صيام له» (١) ولأن الصوم عبادة محضة، فافتقر إلى النية كالصلاة.
واعتبرها الحنفية والحنابلة وكذا المالكية على الراجح، شرطًا (٢)؛ لأن صوم رمضان وغيره عبادة، والعبادة: اسم لفعل يأتيه العبد باختياره خالصًا لله تعالى بأمره، والاختيار والإخلاص لا يتحققان بدون النية، فلا يصح أداء الصوم إلا بالنية، تمييزًا للعبادات عن العادات.
وهي عند الشافعية (٣) ركن كالإمساك عن المفطرات.
ومحل النية: القلب، ولا تكفي باللسان قطعًا، ولا يشترط التلفظ بها قطعًا (٤). لكن يسن عند الجمهور (غير المالكية) التلفظ بها، والأولى عند المالكية ترك التلفظ بها.
شروط النية: يشترط في النية ما يأتي:
١ - تبييت النية: أي إيقاعها ليلًا، وهو شرط متفق عليه (٥)، للحديث السابق: «من لم يبيت الصيام قبل طلوع الفجر، فلا صيام له» ولأن النية عند ابتداء العبادة كالصلاة.
لكن تساهل بعض الفقهاء أحيانًا في تحديد وقت النية لبعض أنواع الصيام.
(١) رواه الدارقطني، وقال: إسناده كلهم ثقات، وفي لفظ «من لم يبيت الصيام من الليل فلا صيام له».
(٢) البدائع:٨٣/ ٢، كشاف القناع: ٣٦٦/ ٢، الشرح الكبير مع الدسوقي: ٥٢٠/ ١.
(٣) مغني المحتاج: ٤٢٣/ ١.
(٤) مغني المحتاج، المكان السابق.
(٥) البدائع: ٨٥/ ٢، الشرح الكبير: ٥٢٠/ ١، الشرح الصغير: ٦٩٥/ ١، مغني المحتاج: ٤٢٣/ ١، كشاف القناع: ٣٦٦/ ٢، المغني: ٩١/ ٣.
فقال الحنفية (١): الأفضل في الصيامات كلها أن ينوي وقت طلوع الفجر إن أمكنه ذلك، أو من الليل؛ لأن النية عند طلوع الفجر تقارن أول جزء من العبادة حقيقة، ومن الليل تقارنه تقديرًا.
وإن نوى بعد طلوع الفجر: فإن كان الصوم دينًا، لا يجوز بالإجماع، وإن كان عينًا وهو صوم رمضان، وصوم التطوع خارج رمضان، والمنذور المعين، يجوز.
فالصوم نوعان:
أـ نوع يشترط له تبييت النية وتعيينها: وهو ما يثبت في الذمة: وهو قضاء رمضان، وقضاء ما أفسده من نفل، وصوم الكفارات بأنواعها ككفارة اليمين وصوم التمتع والقران، والنذر المطلق، كقوله: إن شفى الله مريضي، فعلي صوم يوم مثلًا، فحصل الشفاء. فلا يجوز صوم ذلك إلا بنية من الليل.
ب - ونوع لا يشترط في تبييت النية وتعيينها: وهو ما يتعلق بزمان بعينه، كصوم رمضان، والنذر المعين زمانه، والنفل كله مستحبه ومكروهه، يصح بنية من الليل إلى ما قبل نصف النهار على الأصح، ونصف النهار: من طلوع الفجر إلى وقت الضحوة الكبرى.
وقال المالكية (٢): يشترط لصحة النية إيقاعها في الليل من الغروب إلى آخر جزء منه، أو إيقاعها مع طلوع الفجر، ولايضر في الحالة الأولى ماحدث بعد النية
(١) البدائع: ٨٥/ ٢، فتح القدير: ٤٣/ ٢ - ٥٠،٦٢، مراقي الفلاح: ص١٠٦ ومابعدها، الكتاب مع اللباب: ١٦٣/ ١.
(٢) الشرح الصغير: ٦٩٥/ ١ ومابعدها، الشرح الكبير: ٥٢٠/ ١، القوانين الفقهية: ص١١٥،١١٧، بداية المجتهد:٢٨٤/ ١.
من أكل أو شرب أو جماع، أو نوم، بخلاف الإغماء والجنون، فيبطلانها إن استمرا للفجر، وإلا فلا. فلو نوى نهارًا قبل الغروب لليوم المستقبل، أو قبل الزوال لليوم الذي هو فيه، لم تنعقد ولو نفلًا.
وقال الشافعية (١): يشترط لفرض الصوم من رمضان، أو غيره كقضاء أو نذر تبييت النية ليلًا، والصحيح أنه لا يشترط النصف الآخر من الليل، وأنه لا يضر الأكل والجماع بعدها، وأنه لا يجب تجديد النية إذا نام ثم تنبه.
ويصح صوم النفل بنية قبل الزوال؛ لأنه ﷺ قال لعائشة يومًا: «هل عندكم من غداء؟ قالت: لا، قال: فإني إذن أصوم، قالت: وقال لي يومًا آخر: أعندكم شيء؟ قلت: نعم، قال: إذن أفطر، وإن كنت فرضت الصوم» (٢) واختص بما قبل الزوال للخبر، إذ الغداء: اسم لما يؤكل قبل الزوال، والعشاء: اسم لما يؤكل بعده، ولأنه مضبوط بيِّن، ولإدراك معظم النهار به. وبدهي أنه يشترط لصحة الصوم الامتناع عن المفطرات من أول النهار.
وقال الحنابلة (٣) كالشافعية: الصوم الواجب أو الفرض لا يصح إلا بنية من الليل، للحديث المتقدم: «من لم يجمع الصيام قبل الفجر، فلا صيام له»، وأما صوم التطوع فيصح بنية قبل النهار، وبعده خلافًا للشافعية، إذا لم يكن طعم بعد الفجر، لحديث عائشة المتقدم، قالت: «دخل علي النبي ﷺ ذات يوم، فقال: هل عندكم شيء؟ فقلنا: لا، قال: فإني إذًا صائم» (٤) ويدل عليه أيضًا حديث عاشوراء: «هذا يوم عاشوراء، ولم يكتب الله عليكم صيامه، وأنا صائم، فمن
(١) مغني المحتاج:٤٢٣/ ١ ومابعدها.
(٢) رواه الدارقطني وصحح إسناده.
(٣) المغني:٩١/ ٣،٩٦، كشاف القناع: ٣٦٦/ ٢ - ٣٦٩.
(٤) رواه مسلم وأبو داود والنسائي.
شاء فليصم، ومن شاء فليفطر» (١)، ولأن الصلاة خفف نفلهاعن فرضها، بدليل أنه لا يشترط القيام لنفلها، وتجوز الصلاة في السفر على الراحلة إلى غير القبلة، فكذا الصيام، ولما فيه من تكثيره لكونه يَعنّ له، فعفي عنه. وهذا قول أبي الدرداء وأبي طلحةومعاذ وابن مسعود وحذيفة وسعيد بن المسيب وسعيد بن جبير والنخعي وأصحاب الرأي.
ويبدو لي أنه الرأي الأرجح، وحديث عائشة مخصص لحديث «لا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل» بل الحديث الأول أصح من الثاني، كما قال ابن قدامة.
٢ - تعيين النية في الفرض: هذا شرط عند الجمهور، وليس بشرط عند الحنفية. قال الحنفية (٢)
كما تقدم في الشرط السابق: لا يشترط تعيين النية في الصوم، المتعلق بزمان معين كصوم رمضان ونذر معين زمانه ونفل مطلق، لأن الزمن المخصص له وهو شهر رمضان ونحوه من نذر يوم محدد بذاته وقت مضيق أو معيار، لا يسع إلاصوم رمضان.
ويصح أداء رمضان بنية واجب آخر لمن كان صحيحًا مقيمًا، أما المسافر فإنه يقع عما نواه من الواجب. وأما المريض: فكذلك يقع عما نواه عند أبي حنيفة إذا نوى واجبًا آخر؛ لأنه شغل الوقت بالأهم لتحتمه للحال، وتخيره في صوم رمضان إلى إدراك العدة. ورجح هذا الرأي صاحب «الهداية» وأكثر مشايخ بخارى، لعجزه المقدور. ولا فرق بين المسافر والمقيم والصحيح والسقيم عند أبي يوسف ومحمد في وقوع صومه عن رمضان إذا نوى عن واجب آخر؛ لأن الرخصة إنما ثبتت حتى لاتلزم المعذور مشقة، فإذا تحملها التحق بغير المعذور.
(١) متفق عليه عن معاوية.
(٢) المراجع السابقة، فتح القدير: ٥٠/ ٢.
وقال الجمهور (١): يجب تعيين النية في الصوم الواجب: وهو أن يعتقد أنه يصوم غدًا من رمضان، أو من قضائه، أو من كفارته، أو نذره. فلا يجزئ نية الصوم المطلق؛ لأن الصوم (٢) عبادة مضافة إلى وقت، فوجب التعيين في نيتها كالصلوات الخمس، والقضاء.
وإن نوى في رمضان صيام غيره، لم يجزه عن واحد منهما.
٣ - الجزم بالنية: هذا شرط أيضًا عند الجمهور، وليس بشرط عند الحنفية. أما الحنفية (٣): فيرون أنه لا يشترط في الصوم المقيد بزمن معين أن تكون النية جازمة، فإن نوى الصوم ليلة الثلاثين من شعبان، على أنه إن ظهر كونه من رمضان، أجزأ عن رمضان ماصامه بأي نية كانت، إلا أن يكون مسافرًا أو نواه عن واجب آخر، فيقع عما نواه عنه.
ويكره تحريمًا عندهم كما أبنت، في يوم الشك كل صوم من فرض وواجب، وصوم تردد فيه بين نفل وواجب، إلا صوم نفل جزم به، بلا ترديد بينه وبين صوم آخر، فإنه لا يكره.
ورأى الجمهور (٤) أنه لا بد أن تكون النية جازمة، فلو نوى ليلة الشك إن كان غدًا من رمضان، فأنا صائم فرضًا، وإلا فهو نفل، أو واجب آخر عينه بنيته، كأن ينويه عن نذر أو كفارة، لم يجزئه عن واحد منهما، لعدم جزمه بالنية لأحدهما، إذ لم يعين الصوم من رمضان جزمًا.
(١) القوانين الفقهية: ص ١١٧، الدسوقي على الشرح الكبير: ٥٢٠/ ١، بداية المجتهد: ٢٨٣/ ١، مغني المحتاج: ٢٤٢/ ١ - ٦٢٤، المغني:٩٤/ ٣ ومابعدها، كشاف القناع:٣٦٧/ ٢ ومابعدها.
(٢) ومثله طواف الزيارة، فإنه يحتاج إلى التعيين، فلو طاف ينوي به الوداع، أو طاف بنية الطواف مطلقًا، لم يجزئه عن طواف الزيارة.
(٣) مراقي الفلاح: ص١٠٧.
(٤) المراجع السابقة.
ومن قال: أنا صائم غدًا إن شاء الله، فإن قصد بالمشيئة الشك والتردد في العزم والقصد، فسدت نيته لعدم الجزم بها، وإن لم يقصد ذلك بل نوى التبرك أو لم ينو شيئًا، لم تفسد نيته، إذ قصده أن فعله للصوم بمشيئة الله وتوفيقه وتيسيره. كما لايفسد الإيمان بقوله: أنا مؤمن إن شاء الله، وكذا سائر العبادات لا تفسد بذكر المشيئة في نيتها.
لكن لا يضر التردد بعد حصول الظن باستصحاب كآخر رمضان، أو حصول الظن بشهادة أو باجتهاد كالأسير، فلو نوى ليلة الثلاثين من رمضان صوم غد إن كان من رمضان، أجزأه وصح صومه إن كان منه، لأن الأصل بقاء رمضان، وصومه مبني على أصل لم يثبت زواله، ولا يؤثر تردده لأنه حكم صومه مع الجزم، بخلاف ما إذا نواه ليلة الثلاثين من شعبان؛ لأنه لا أصل معه يبنى عليه.
ومن نوى الصوم غدًا معتقدًا كونه من رمضان بشهادة موثوقة، صح صومه.
ولو اشتبه رمضان على أسير أو محبوس أو نحوه، صام شهرًا بالاجتهاد، كما يجتهد للصلاة في القبلة والوقت، وذلك بأمارة كالربيع والخريف والحر والبرد، فلو صام بلا اجتهاد، فوافق رمضان، لم يجزئه لتردده في النية. فلو اجتهد وتحير، فلم يظهر له شيء، فيرى النووي في المجموع أنه لا يلزمه أن يصوم.
أما نية الفرضية: فليست بشرط باتفاق المذاهب، وهو المعتمد عند الشافعية (١) بخلاف المقرر في الصلاة؛ لأن صوم رمضان من البالغ لا يقع إلا فرضًا، بخلاف الصلاة، فإن المعادة نفل.
(١) مغني المحتاج:٤٢٥/ ١، كشاف القناع: ٣٦٧/ ٢.
وكذلك لا يشترط بالاتفاق تعيين السنة، ولا الأداء، ولا الإضافة إلى الله تعالى، وهو الصحيح عند الشافعية؛ لأن المقصود متحقق بنية الصوم، والتعيين بجزئ عن ذلك.
٤ - تعدد النية بتعدد الأيام: هذا شرط عند الجمهور، وليس بشرط عند المالكية (١)، فيشترط عند الجمهور النية لكل يوم من رمضان على حدة؛ لأن صوم كل يوم عبادة على حدة، غير متعلقة باليوم الآخر، بدليل أن ما يفسد أحدهما لا يفسد الآخر، فيشترط لكل يوم منه نية على حدة.
وقال المالكية: تجزئ نية واحدة لرمضان في أوله، فيجوز صوم جميع الشهر بنية واحدة، وكذلك في صيام متتابع مثل كفارة رمضان وكفارة قتل أو ظهار ما لم يقطعه بسفر أو مرض أو نحوهما، أو لم يكن على حالة يجوز له الفطر كحيض ونفاس وجنون، فيلزمه استئناف النية، أي تجديدها فلا تكفي النية الواحدة، وإن لم يجب استئناف الصوم، فالصوم السابق صحيح لا ينقطع تتابعه، ولكن تجدد النية، وتندب النية كل ليلة فيما تكفي فيه النية الواحدة. ودليلهم أن الواجب صوم الشهر، لقوله تعالى: ﴿فمن شهد منكم الشهر فليصمه﴾ [البقرة:١٨٥/ ٢]، والشهر: اسم لزمان واحد، فكان الصوم من أوله إلى آخره عبادة واحدة، كالصلاة والحج، فيتأدى بنية واحدة.
صفة النية وأثرها:
قال الحنفية (٢): يصح صوم رمضان ونحوه كالنذر المعين زمانه بمطلق النية، وبنية النفل، وبنية واجب آخر، كما أبنت، ولا يجب تبييت نية صوم رمضان.
(١) البدائع:٨٥/ ٢، الشرح الصغير:٦٩٧/ ١، بداية المجتهد: ٢٨٢/ ١ ومابعدها، القوانين الفقهية: ص ١١٧، مغني المحتاج: ٤٢٤/ ١، المغني:٩٣/ ٣.
(٢) مراقي الفلاح: ص ١٠٦ ومابعدها.
وقال المالكية (١): صفة النية: أن تكون معينة مبيتة جازمة.
وقال الشافعية (٢): كمال النية في رمضان: أن ينوي صوم غد عن أداء فرض رمضان هذه السنة لله تعالى. والمعتمد أنه لا يجب في التعيين نية الفرضية.
وقال الحنابلة (٣): من خطر باله أنه صائم غدًا، فقد نوى، ويجب تعيين النية بأن يعتقد أنه يصوم غدًا من رمضان أو من قضائه أو من نذره أو كفارته، ولا يجب مع التعيين نية الفريضة.
واتفق غير الحنفية على وجوب تبييت النية، كما اتفق غير الشافعية على أن الأكل والشرب بنية الصوم أو التسحر نية، إلا أن ينوي معه عدم الصيام. ولا يقوم مقام النية عند الشافعية التسحر في جميع أنواع الطعام، إلا إذا خطر له الصوم عند التسحر ونواه، كأن يتسحر بنية الصوم، أو امتنع من الأكل عند الفجر خوف الإفطار.
وأثر النية: هو تحقيق الثواب، فيحكم بالصوم الشرعي المثاب عليه من وقت النية؛ لأن ما قبله لم يوجد فيه قصد القربة، فلا يقع عبادة، لقوله ﷺ: «وإنما لكل امرئ ما نوى»، فيصح تطوع حائض أو نفساء طهرت في يوم بصوم بقيته، وتطوع كافر أسلم في يوم بصوم بقية اليوم، ولم يكن كل من الحائض والكافر قد أكلا من طلوع الفجر (٤).
(١) القوانين الفقهية: ص١١٧، بداية المجتهد: ٢٨٣/ ١.
(٢) مغني المحتاج: ٤٢٥/ ١.
(٣) كشاف القناع: ٣٦٧/ ٢.
(٤) كشاف القناع: ٣٧٠/ ٢.
خلاصة آراء المذاهب في شروط الصوم:
الحنفية (١): شروط الصوم عندهم ثلاثة أنواع: شروط وجوب، وشروط وجوب الأداء، وشروط صحة الأداء.
أما شروط الوجوب، فهي أربعة: الإسلام، والعقل، والبلوغ، والعلم بالوجوب لمن أسلم بدار الحرب، أو الكون بدار الإسلام، ومن جن رمضان كله لم يقضه، وإن أفاق المجنون في بعضه قضى ما مضى، أما من أغمي عليه في رمضان كله قضاه، ومن أغمي عليه في أثناء يوم في رمضان لم يقضه لوجود الصوم فيه وهو الإمساك المقرون بالنية، وقضى ما بعده.
وأما شروط وجوب الأداء، فهي اثنان: الصحة من مرض وحيض ونفاس، فلا يجب الأداء على المريض، والإقامة، فلا يجب الأداء على مسافر، ولكن يجب عليهما القضاء.
وأما شروط صحة الأداء، فهي ثلاثة: النية فلا يصح أداء الصوم إلا بالنية، والخلو عن ما نع الحيض والنفاس، فلا يصح أداء الصوم منهما، وعليهما القضاء، والخلو عما يفسد الصوم بطروء مفسد عليه.
المالكية (٢): شروط الصوم أنواع ثلاثة: شروط وجوب، وشروط صحة، وشروط وجوب وصحة معًا، ومجموعها سبعة: الإسلام، والبلوغ، والعقل، والطهارة من دم الحيض والنفاس، والصحة، والإقامة، والنية.
(١) مراقي الفلاح: ص١٠٥، فتح القدير: ٨٧/ ٢ - ٩٠، البدائْع: ٨٧/ ٢ - ٨٩.
(٢) القوانين الفقهية: ص ١١٣ ومابعدها، بداية المجتهد: ٢٨٢/ ١ ومابعدها، شرح الرسالة: ٣٠١/ ١، الشرح الصغير: ٦٨١/ ١ ومابعدها، ٦٩٥، ٧٠١، الشرح الكبير: ٥٢٠/ ١،
ويلاحظ أن النية شرط على الراجح كما في حاشية الدسوقي، واعتبرها الدردير في الشرح الصغير ركنًا، وما قد يذكر من أن النية ركن فهو تسامح. أما شروط الوجوب فهي ثلاثة: البلوغ، والصحة، والإقامة، فلا يجب الصوم على صبي ولو كان مراهقًا، ولكن يجوز صيامه، ولا يندب، ولا يجب على الولي أمره به، ولا يجب على المريض أوالعاجز ومنه المكره، ولا على المسافر ويجب عليهما القضاء.
وأما شروط الصحة: فهي اثنان: الإسلام، فلا يصح من الكافر، وإن كان واجبًا عليه، ويعاقب على تركه زيادة على عقاب الكفر، والزمان القابل للصوم، فلا يصح في يوم العيد.
وأما شروط الوجوب والصحة معًا فهي ثلاثة:
الأول - الطهارة من دم الحيض والنفاس: فلا يجب عليهما، ولا يصح منهما، وعليهما القضاء بعد زوال المانع. ويجب عليهما المباشرة في الأداء بمجرد الطهارة.
والثاني - العقل: لأن من زال عقله غير مخاطب بالصوم في حال العقل، فلا يجب على المجنون والمغمى عليه، ولا يصح منهما. أما القضاء فيجب على المجنون مطلقًا في المشهور إذا أفاق من جنونه، وعلى المغمى عليه إن استمر إغماؤه يومًا فأكثر، أو أغمي عليه معظم اليوم، ولا يجب عليه إن أغمي عليه يسيرًا بعد الفجر بأن دام نصف اليوم فأقل. والسكران كالمغمى عليه في وجوب القضاء، إلا أنه يلزمه الإمساك بقية يومه.
وأما النائم: فلا يجب عليه قضاء ما فاته مطلقًا، متى بيت النية أول الشهر.
والثالث - النية: فهي شرط صحة الصوم على الراجح الأظهر؛ لأن النية القصد إلى الشيء، ومعلوم أن القصد للشيء خارج عن ماهية الشيء، وتكفي نية
واحدة لكل صوم يجب تتابعه كرمضان وكفارته وكفارة قتل أو ظهار إذا لم ينقطع تتابعه بنحو مرض أو سفر، وندبت كل ليلة فيما تكفي فيه النية الواحدة.
والخلاصة: أن الصوم يسقط وجوبه عن اثني عشر: الصبي، والمجنون، والحائض، والنفساء، والمغمى عليه، والمسافر، والصحيح الضعيف البنية العاجز عن القيام به، والمتعطش، والمريض، والحامل، والمرضع، والشيخ الكبير.
الشافعية (١): شروط الصوم لديهم نوعان: شروط وجوب وشروط صحة. أما شروط الوجوب فأربعة هي ما يأتي:
١ً - الإسلام: فلا يجب على الكافر الأصلي وجوب مطالبة في الدنيا كالصلاة، وإنما يعاقب في الآخرة على تركه، ويجب على المرتد وجوب مطالبة أي قضاء مافاته بعد إسلامه.
٢ً - البلوغ: فلا يجب على الصبي لا أداء ولا قضاء، ويؤمر به لسبع، ويضرب على تركه لعشر.
٣ً - العقل: فلا يجب على المجنون لا أداء ولاقضاء إلا إذا زال عقله بتعديه، فيلزمه قضاؤه. ومثله السكران المتعدي بسكره يلزمه القضاء، أما غير المتعدي بسكره، كما في حالة الغلط، فلا يطالب بقضاء زمن السكر.
٤ً - الإطاقة: فلا يجب على العاجز بنحو هرم أو مرض لا يرجى برؤه، ولا على حائض لعجزها شرعًا. وضابط المرض: هو ما يبيح التيمم وهو ما يصعب معه الصوم أو يناله به ضرر شديد.
وأما شروط الصحة فأربعة أيضًا، هي ما يأتي:
(١) مغني المحتاج: ٤٢٧/ ١، ٤٣٢ ومابعدها، ٤٣٦ ومابعدها، الحضرمية: ص١١٠ - ١١٣.
١ً - الإسلام حال الصيام: فلا يصح من كافر أصلي أو مرتد.
٢ً - التمييز: أو العقل في جميع النهار: فلا يصح صوم الطفل غير المميز، والمجنون، لفقدان النية، ويصح من صبي مميز. ولا يصح من سكران أو مغمى عليه، لكن لا يضر في الأظهر السكر والإغماء إن أفاق لحظة في النهار. وكذلك لا يضر النوم المستغرق لجميع النهار على الصحيح، لبقاء أهلية الخطاب.
٣ً - النقاء عن الحيض والنفاس في جميع النهار: فلا يصح صوم الحائض والنفساء بالإجماع، ولو طرأ في أثناء النهار حيض أونفاس أو ردة أو جنون، بطل الصوم.
٤ً - كون الوقت قابلًا للصوم: فلا يصح صوم العيدين، ولا أيام التشريق، وكذلك لا يصح صوم يوم الشك، ولا النصف الأخير من شعبان إلا لورد بأن اعتاد صوم الدهر أو صوم يوم وفطر يوم معين كالاثنين، فصادف ما بعد النصف أو يوم الشك، وإلا إذا صام فيهما لنذر أو قضاء أو كفارة أو وصل ما بعد النصف بما قبله.
وأما النية: فهي ركن، وتشترط لكل يوم، ويجب التبييت في الفرض دون النفل، فتجزئه نيته قبل الزوال، ويجب التعيين أيضًا، ولا تجب نية الفرضية في الفرض.
وكذلك الإمساك عن الجماع عمدًا وعن الاستمتاع وعن الاستقاءة وعن دخول عين جوفًا ركن أيضًا، كما سأبين في مبطلات الصوم.
الحنابلة (١): شروط الصوم عندهم نوعان: شروط وجوب، وشروط صحة. أما شروط الوجوب فهي أربعة:
(١) كشاف القناع: ٣٥٩/ ٢ - ٣٦٧، غاية المنتهى: ٣٢٢/ ١ - ٣٢٦
١ - الإسلام: فلا يجب الصوم على كافر ولو مرتدًا، لأنه عبادة بدنية تفتقر إلى النية، فكان من شرطه الإسلام كالصلاة، ولا يصح منه أيضًا، فلو ارتد في يوم وهو صائم فيه، بطل صومه، لقوله تعالى: ﴿لئن أشركت ليحبطن عملك﴾ [الزمر:٦٥/ ٣٩] فإن عاد إلى الإسلام قضى ذلك اليوم.
٢ - البلوغ: فلا يجب الصوم على صبي ولو كان مراهقًا، لحديث «رفع القلم عن ثلاث». ويجب على ولي المميز أمره به إذا أطاقه، وضربه عليه إذا تركه، ليعتاده كالصلاة.
٣ - العقل: فلا يجب الصوم على مجنون، للحديث السابق «رفع القلم عن ثلاث» ولا يصح منه، لعدم إمكان النية منه. ولا يجب على الصبي غير المميز، ويصح من المميز كالصلاة. ومن جن في أثناء اليوم، لزمه إمساك ذلك اليوم وقضاؤه لحرمة الوقت، ولإدراكه جزءًا من وقته كالصلاة. أما إذا جن يومًا كاملًا فأكثر، فلا يجب عليه قضاؤه، بخلاف المغمى عليه، فإنه يجب عليه القضاء، ولو طال زمن الإغماء، لأنه مرض غير رافع للتكليف، ويصح الصوم ممن جن أو أغمي عليه إذا أفاق جزءًا من النهار، حيث نوى ليلًا، وكذا يصح ممن نام كل النهار، فمن نام جميع النهار، صح صومه، لأنه معتاد ولا يزيل الإحساس بالكلية، ويجب القضاء على السكران، سواء أكان متعديًا بسكره أم لا.
٤ - القدرة على الصوم: فلا يجب على العاجز عنه لكبر أو مرض لا يرجى برؤه، لأنه عاجز عنه، فلا يكلف به، لقوله تعالى: ﴿لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها﴾ [البقرة:٢٨٦/ ٢]. وأما المرض الذي يرجى برؤه فيوجب أداء الصوم إذا برأ منه، وقضاء ما فاته من رمضان.
وأما شروط الصحة فهي أربعة أيضًا:
١ - النية: أي النية المعينة لما يصومه من الليل لكل يوم واجب، ولا تسقط بسهو أوغيره، ولا يضر لو أتى بعدها ليلًا بأكل أو شرب أو جماع ونحوه، ولا تجب نية الفرضية في الفرض، ولا الوجوب في الواجب، لأن التعيين يجزئ عن ذلك، وتصح النية نهارًا في النفل ولو بعد الزوال إذا كان ممسكًا عن المفطر من طلوع الفجر.
٢ - الطهارة من الحيض والنفاس، فلا يصح صوم الحائض والنفساء ويحرم فعله، ويجب عليهما الأداء بمجرد انقطاع الدم ليلًا، والقضاء لما فاتهما.
٣ - الإسلام: فلا يصح من الكافر ولو كان مرتدًا.
٤ - العقل أي التمييز: فلا يصح من غير المميز وهو الذي لم يبلغ سبع سنين.
المبحث الخامس - سنن الصوم وآدابه ومكروهاته:
فيه مطلبان:
المطلب الأول - سنن الصوم وآدابه:
يستحب للصائم ما يأتي (١): ....
١ً - السحور على شيء وإن قل ولو جرعة ماء، وتأخيره لآخر الليل، أما السحور: فللتقوي به على الصوم، كما دل عليه خبر الصحيحين: «تسحروا فإن في السَّحور بركة» وخبر الحاكم في صحيحه: «استعينوا بطعام السحر على صيام
(١) البدائع: ١٠٥/ ٢ - ١٠٨، مراقي الفلاح: ص١١٥، الدر المختار: ١٥٧/ ٢، الشرح الكبير: ٥١٥/ ١، الشرح الصغير: ٦٨٩/ ١ ومابعدها، القوانين الفقهية: ص١١٥، مغني المحتاج: ٤٣٤/ ١ - ٤٣٦، الحضرمية: ص١١٣ - ١١٥، كشاف القناع: ٣٨٥/ ٢ - ٣٨٨، المغني: ١٠٣/ ٣، ١٦٩ - ١٧١،١٧٨.
النهار، وبقيلولة النهار على قيام الليل» وخبر أحمد ﵀: «السحور بركة، فلا تدَعوه، ولو أن يجرع أحدكم جرعة ماء، فإن الله وملائكته يصلون على المتسحرين» (١). وأما تأخير السحور ما لم يقع في شك في الفجر، فلحديث الطبراني: «ثلاث من أخلاق المرسلين: تعجيل الإفطار، وتأخير السحور، ووضع اليمين على الشمال في الصلاة» ولخبر الإمام أحمد: «لا تزال أمتي بخير ما عجلوا الفطر وأخروا السحور» (٢) وحديث: «دع ما يريبك إلى ما لايريبك».
٢ً - تعجيل الفطرعند تيقن الغروب وقبل الصلاة، ويندب أن يكون على رطب، فتمر، فحلو، فماء، وأن يكون وترًا ثلاثة فأكثر لحديث: «لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر» (٣)، والفطر قبل الصلاة أفضل، لفعله ﷺ (٤). وكونه وترًا، لخبر أنس: «كان رسول الله ﷺ يفطر على رُطَبات قبل أن يصلي، فإن لم تكن رطبات فتَمَرات، فإن لم تكن تمرات، حَسَا حَسَوات من ماء» (٥)، ويمكن التعجيل في غير يوم غيم، وفي حالة الغيم ينبغي تيقن الغروب والاحتياط حفظًا للصوم عن الإفساد، ورأى الشافعية أنه يحرم الوصال في الصوم: وهو صوم يومين فأكثر من غير أن يتناول بينهما في الليل مفطرًا، للنهي عنه في الصحيحين، وعلة ذلك: الضعف، مع كون الوصال من خصوصياته ﷺ.
٣ً - الدعاء عقب الفطر بالمأثور: بأن يقول: «اللهم إني لك صمت، وعلى
(١) وفيه ضعف.
(٢) رواه أحمد عن أبي ذر (نيل الأوطار: ٢٢١/ ٤).
(٣) متفق عليه عن سهل بن سعد، وروى أحمد والترمذي عن أبي هريرة أن النبي ﷺ قال: «يقول الله ﷿: إن أحب عبادي إلي أعجلُهم فطرًا» (نيل الأوطار:٢١٧/ ٤).
(٤) رواه مسلم من حديث عائشة، وابن عبد البر عن أنس.
(٥) رواه أحمد وأبو داود والترمذي، وروى الخمسة إلا النسائي عن سلمان بن عامر: «إذا أفطر أحدكم، فليفطر على تمر، فإن لم يجد فليفطر على ماء، فإنه طهور» (نيل الأوطار: ٢٢٠/ ٤).
رزقك أفطرت، وعليك توكلت، وبك آمنت، ذهب الظمأ، وابتلت العروق، وثبت الأجر إن شاء الله تعالى. يا واسع الفضل اغفر لي، الحمد لله الذي أعانني فصمت، ورزقني فأفطرت».
وسنية الدعاء؛ لأن للصائم دعوة لا ترد، لحديث: «للصائم عند فطره دعوة لاتُرد» (١)، وصيغة الدعاء ثابتة هكذا في السنة (٢).
٤ً - تفطير صائمين ولو على تمرة أو شربة ماء أوغيرهما، والأكمل أن يشبعهم، لقوله ﷺ: «من فطَّر صائمًا كان له مثل أجره، غير أنه لا ينقُص من أجر الصائم شيء» (٣).
٥ً - الاغتسال عن الجنابة والحيض والنفاس قبل الفجر، ليكون على طهر من أول الصوم، وليخرج من خلاف أبي هريرة حيث قال: لا يصح صومه، وخشيةمن وصول الماء إلى باطن أذن أو دبر أو نحوه. وبناء عليه: يكره عند الشافعية للصائم دخول الحمام من غير حاجة، لجواز أن يضره، فيفطر، ولأنه من الترفه الذي لايناسب حكمة الصوم. فلو لم يغتسل مطلقًا صح صومه، وأثم من حيث الصلاة.
ولو طهرت الحائض أو النفساء ليلًا، ونوت الصوم وصامت، أو صام الجنب
(١) رواه ابن ماجه من حديث عبد الله بن عمرو.
(٢) فقوله «اللهم لك صمت وعلى رزقك أفطرت» رواه أبو داود مرسلًا، وروى أيضًا «ذهب الظمأ ... إلخ» وروى الدارقطني من حديث أنس وابن عباس: أن النبي ﷺ قال: «اللهم لك صمنا، وعلى رزقك أفطرنا، فتقبل منا، إنك أنت السميع العليم» وروى الدارقطني أيضًا عن ابن عمر «ذهب الظمأ ...» الحديث.
(٣) رواه الترمذي وصححه، والنسائي وابن ماجه وابن خزيمة وابن حبان في صحيحهما عن زيد بن خالد الجهني (الترغيب والترهيب: ١٤٤/ ٢).
بلا غسل، صح الصوم، لقوله تعالى: ﴿فالآن باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم﴾ [البقرة:١٨٧/ ٢] ولخبر الصحيحين المتقدم: «كان النبي ﷺ يصبح جنبًا من جماع، غير احتلام، ثم يغتسل، ويصوم» وأما خبر البخاري: «من أصبح جنبًا فلا صوم له» فحملوه على من أصبح مجامعًا واستدام الجماع.
٦ً - كف اللسان والجوارح عن فضول الكلام والأفعال التي لا إثم فيها. وأما الكف عن الحرام كالغيبة والنميمة والكذب فيتأكد في رمضان، وهو واجب في كل زمان، وفعله حرام في أي وقت، وقال ﵇: «من لم يدع قول الزور والعمل به، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه» (١)، «رب صائم حظه من صيامه الجوع والعطش، ورب قائم حظه من قيامه السهر» (٢) فإن شتم، سن في رمضان قوله جهرًا: إني صائم، لحديث الصحيحين عن أبي هريرة مرفوعًا: «إذا كان يوم صوم أحدكم، فلا يرفث ولا يصخب، فإن شاتمه أحد أو قاتله، فليقل: إني صائم» أما في غير رمضان فيقوله سرًا يزجر نفسه بذلك، خوف الرياء.
٧ً - ترك الشهوات المباحة التي لا تبطل الصوم من التلذذ بمسموع ومبصر وملموس ومشموم كشم ريحان ولمسه والنظر إليه، لما في ذلك من الترفه الذي لايناسب حكمة الصوم، ويكره له ذلك كله، كدخول الحمام.
٨ً - يسن عند الشافعية: ترك الفصد والحجامة لنفسه ولغيره خروجًا من خلاف من فطَّر بذلك، ويسن بالاتفاق ترك مضغ البان (العلك غير المصحوب بسكر) وغيره لأنه يجمع الريق، ويؤدي للعطش، وترك ذوق الطعام أو غيره خوف وصول شيء إلى الحلق، وترك القبلة، وتحرم القبلة إن خشي فيها الإنزال.
(١) رواه البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه من حديث أبي هريرة (الترغيب والترهيب: ١٤٦/ ٢).
(٢) رواه الطبراني في الكبير عن ابن عمر، وإسناده لا بأس به (المصدر السابق: ص ١٤٨).
أما كون الحجامة لا تفطر عند الشافعية فلأنه ﷺ احتجم وهو صائم (١). وأما حديث: «أفطر الحاجم والمحجوم» (٢) فهو منسوخ، وتفطر الحجامة عند الحنابلة.
٩ً - التوسعة على العيال (الأسرة) والإحسان إلى الأرحام، والإكثار من الصدقة على الفقراء والمساكين، لخبر الصحيحين: «أنه ﷺ كان أجود الناس بالخير، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل» والحكمة في ذلك تفريغ قلوب الصائمين والقائمين للعبادة بدفع حاجاتهم.
١٠ً - الاشتغال بالعلم وتلاوة القرآن ومدارسته، والأذكار والصلاة على النبي ﷺ، كلما تيسر له ذلك ليلًا أو نهارًا. لخبر الصحيحين: «كان جبريل يلقى النبي ﷺ في كل ليلة من رمضان، فيدارسه القرآن» ومثله كل أعمال الخير؛ لأن الصدقة في رمضان تعدل فريضة فيما سواه، فتضاعف الحسنات به.
١١ً - الاعتكاف لا سيما في العشر الأواخر من رمضان، لأنه أقرب إلى صيانة النفس عن المنهيات، وإتيانها بالمأمورات، ولرجاء أن يصادف ليلة القدر إذ هي منحصرة فيه، وروى مسلم أنه ﷺ كان يجتهد في العشر الأواخر ما لا يجتهد في غيره. وقالت عائشة: «كان النبي ﷺ إذا دخل العشر الأواخر أحيا الليل، وأيقظ أهله، وشد المئزر» (٣) أي اعتزل النساء.
والسنة في ليلة القدر كما أبنت أن يقول: «اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني» ويكتمها ويحييها ويحيي يومها كليلتها.
(١) رواه أبو داود وابن ماجه والترمذي وصححه عن ابن عباس (نيل الأوطار: ٢٠٢/ ٤).
(٢) رواه أحمد والترمذي عن رافع بن خديج، ولأحمد وأبي داود وابن ماجه مثله من حديث ثوبان وشداد بن أوس (نيل الأوطار:٢٠٠/ ٤).
(٣) متفق عليه (نيل الأوطار: ٢٧٠/ ٤) ورواه أيضًا عبد الرزاق عن الثوري، وابن أبي شيبة عن أبي بكر ابن عياش.
هذه هي سنن الصوم، أفاض في بيانها الشافعية والحنابلة وغيرهم، واقتصر الحنفية على القول باستحباب ثلاثة أمور: السحور، وتأخيره، وتعجيل الفطر في غير يوم غيم.
وقال المالكية: سننه السحور وتعجيل الفطر، وتأخير السحور، وحفظ اللسان والجوارح، والاعتكاف في آخر رمضان.
وفضائله: عمارته بالعبادة، والإكثار من الصدقة، والفطر على حلال دون شبهة، وابتداء الفطر على التمر أو الماء، وقيام لياليه وخصوصًا ليلة القدر.
المطلب الثاني - مكروهات الصيام:
يكره في الصوم ما يأتي:
١ً - صوم الوصال: وهو ألا يفطر بين اليومين بأكل وشرب، وهو مكروه عند أكثر العلماء (١)، ومحرم عند الشافعية، كما تقدم، إلا للنبي ﷺ فمباح له، لحديث ابن عمر: «واصل رسول الله ﷺ في رمضان، فواصل الناس، فنهى رسول الله ﷺ عن الوصال، فقالوا: إنك تواصل؟ قال: إني لست كأحدكم، إني أظل يطعمني ربي ويسقيني» (٢) وهذا يقتضي اختصاصه بذلك، ومنع إلحاق غيره به. ولا يحرم عند الجمهور؛ لأن النهي وقع رفقًا ورحمة، ولهذا واصل رسول الله ﷺ بهم، وواصلوا بعده. ويحرم عند الشافعية للنهي عنه، كما سبق.
٢ً - القبلة، ومقدمات الجماع ولو فكرًا أو نظرًا، لأنه ربما أداه للفطر بالمني، وهذا إن علمت السلامة من ذلك وإلا حرم.
(١) المغني: ١٧١/ ٣، كشاف القناع:٣٩٩/ ٢.
(٢) متفق عليه، وروي مثله أيضًا حديثان آخران متفق عليهما عن أبي هريرة وعائشة، وروى البخاري وأبو داود عن أبي سعيد (نيل الأوطار: ٢١٩/ ٤).
٣ً - الترفه بالمباحات كالتطيب نهارًا وشم الطيب والحمام.
٤ً - ذوق الطعام والعلك، خوفًا من وصول شيء إلى الجوف بالذوق، ولأن العلك يجمع الريق، فإن ابتلعه أفطر في رأي، وإن ألقاه عطشه.
خلاصة المكروهات في المذاهب:
قال الحنفية (١): يكره للصائم سبعة أمور:
١ً - ذوق شيء ومضغه بلا عذر، لما فيه من تعريض الصوم للفساد.
٢ً - مضغ العلك غير المصحوب بسكر (٢)؛ لأنه يتهم بالإفطار بمضغه، سواء المرأة والرجل.
٣ً و٤ً - القبلة، والمس والمعانقة والمباشرة الفاحشة، إن لم يأمن فيها على نفسه الإنزال أو الجماع، في ظاهر الرواية، لما في ذلك من تعريض الصوم للفساد بعاقبة الفعل. ويكره التقبيل الفاحش بمضغ شفتها. وإن أمن المفسد لا بأس.
٥ً - ٦ً - جمع الريق في الفم قصدًا، ثم ابتلاعه، تحاشيًا له عن الشبهة.
٧ً - ما ظن أنه يضعفه كالفصد والحجامة.
ولا يكره للصائم تسعة أمور:
١، ٢ - القبلة والمباشرة مع الأمن من الإنزال والوقاع، لما روت عائشة أنه ﵊ كان يقبل ويباشر، وهو صائم (٣).
(١) الدر المختار: ١٥٣/ ٢ - ١٥٥، مراقي الفلاح: ص١١٤ ومابعدها.
(٢) وهو المصطكى، وقيل: اللبان.
(٣) رواه الشيخان.
٣، ٤ - دهن الشارب بالطيب، والكحل.
٥، ٦ - الحجامة والفصد إذا لم يضعفه كل منهما عن الصوم.
٧ - السواك آخر النهار، بل هو سنة في أول النهار وآخره، ولو كان رطبًا أو مبلولًا بالماء.
٨ - المضمضة والاستنشاق لغير وضوء.
٩ - الاغتسال والالتفاف بثوب مبتل للتبرد، على المفتى به.
وقال المالكية (١): يكره للصائم ما يأتي:
١ - إدخال الفم كل رطب له طعم وإن مجه، وذوق شيء له طعم كملح وعسل وخل، لينظر حاله، ولو لصانعه، مخافة أن يسبق لحلقه شيء منه.
٢ - مضغ عِلْك كلبان وتمرة لطفل، فإن سبقه شيء منهما لحلقه فيجب القضاء.
٣ - الدخول على المرأة والنظر إليها، ومقدمة جماع ولو فكرًا أو نظرًا؛ لأنه ربما أداه للفطر بالمذي أو المني، وهذا إن علمت السلامة من ذلك، وإلا حرم.
٤ - تطيب نهارًا وشم الطيب نهارًا.
٥ - الوصال في الصوم.
٦ - المبالغة في المضمضة والاستنشاق.
٧ - مداواة نخر الأسنان نهارًا إلا لخوف ضرر في تأخيره لليل بحدوث مرض أو زيادته أو شدة تألم. فإن ابتلع من الدواء شيئًا قهرًا، قضى اليوم.
(١) الشرح الصغير: ٦٩٢/ ١ - ٦٩٥، الشرح الكبير: ٥١٧/ ١ وما بعدها، القوانين الفقهية: ص ١١٥، ١١٩.
٨ - الإكثار من النوم بالنهار.
٩ - فضول القول والعمل.
١٠ - الحجامة.
وقال الشافعية (١):
تكره الحجامة والفصد، والقبلة وتحرم إن خشي فيها الإنزال، ويكره ذوق الطعام، والعلك، ودخول الحمام، والتلذذ بمسموع ومبصر وملموس ومشموم كشم الريحان ولمسه، والنظر إليه، لما في ذلك من الترفه الذي لا يناسب حكمة الصوم. والأصح أن كراهة القبلة إن حركت شهوته تحريمية.
ويكره أيضًا السواك بعد الزوال إلى الغروب، للخبر الصحيح المتقدم: «لخُلوف فم الصائم يوم القيامة أفضل عند الله من ريح المسك» أي التغير، واختص بما بعد الزوال؛ لأن التغير ينشأ غالبًا قبله من أثر الطعام وبعده من أثر العبادة. ومعنى أطيبيته عند الله تعالى: ثناؤه تعالى عليه، ورضاه به. وتكره المبالغة في المضمضة والاستنشاق، مخافة وصول شيء إلى الحلق.
وقال الحنابلة (٢): يكره للصائم ما يأتي:
١ - أن يجمع ريقه ويبتلعه، لأنه قد اختلف في الفطر به، فإن فعله قصدًا لم يفطر، لأنه يصل إلى جوفه من معدنه. وإن أخرجه لما بين شفتيه أو انفصل عن فمه، ثم ابتلعه، أفطر؛ لأنه فارق معدنه، مع إمكان التحرز منه في العادة. ولا بأس بابتلاع الصائم ريقه بحسب المعتاد، بغير خلاف؛ لأنه لا يمكن التحرز منه
(١) مغني المحتاج: ٤٣١/ ١، ٤٣٦.
(٢) كشاف القناع: ٣٨٣/ ٢ - ٣٨٦، المغني: ١٠٦/ ٣ - ١١٠، غاية المنتهى: ٣٣١/ ١.
كغبار الطريق. ويحرم على الصائم بلع نخامة، ويفطر بها إذا بلعها، سواء أكانت من جوفه أم صدره أم دماغه، بعد أن تصل إلى فمه، لأنها من غير الفم كالقيء.
٢ - المبالغة في المضمضة والاستنشاق، لقوله ﷺ للقيط بن صبرة: «وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائمًاَ» وقد تقدم في الوضوء. ولا يفطر بالمضمضة والاستنشاق المعتادين بلا خلاف، سواء كان في الطهارة أوغيرها.
٣ - ذوق طعام بلا حاجة؛ لأنه لا يأمن أن يصل إلى حلقه، فيفطره، فإن وجد طعم المذوق في حلقه، أفطر لإطلاق الكراهة.
٤ - مضغ العلك الذي لا يتحلل منه أجزاء؛ لأنه يجمع الريق، ويجلو الفم، ويورث العطش، فإن وجد طعمه في حلقه أفطر، لوصول شيء أجنبي يمكن التحرز منه. ويحرم مضغ ما يتحلل منه أجزاء من علك وغيره، ولو لم يبتلع ريقه إقامة للمظِنة مقام المئِنة.
٥ - القبلة لمن تحرك شهوته فقط، لقول عائشة السابق: «كان النبي ﷺ يُقبِّل، وهو صائم، ويباشر وهو صائم، وكان أملككم لإربه» (١) «ونهى النبي ﷺ عنها شابًا ورخص لشيخ» (٢).
وإن ظن الإنزال مع القبلة لفرط شهوته، حرم بغير خلاف. ولا تكره القبلة، ولا مقدمات الوطء كلها من اللمس وتكرار النظر ممن لا تحرك شهوته.
٦ - ترك الصائم بقية طعام بين أسنانه، خشية أن يجري ريقه بشيء منه إلى جوفه.
(١) متفق عليه. والإرب: الشهوة والحاجة.
(٢) حديث حسن رواه أبو داود من حديث أبي هريرة، ورواه سعيد عن أبي هريرة وأبي الدرداء، وكذا عن ابن عباس بإسناد صحيح.
٧ - شم ما لا يأمن أن تجذبه أنفاسه إلى حلقه، كسحيق مسك، وكافور ودهن وبخور وعنبر ونحوها.
ولا بأس أن يغتسل الصائم، لأن النبي ﷺ كان يغتسل من الجنابة ثم يصوم (١)، ولا بأس بالسواك للصائم، قال عامر بن ربيعة: رأيت النبي ﷺ ما لا أحصي يتسوك وهو صائم (٢).
المبحث السادس - الأعذار المبيحة للفطر:
يباح الفطرلأعذار أهمها سبع أو تسع هي ما يأتي (٣)، وقد نظمها بعضهم بقوله:
وعوارض الصوم التي قد يغتفر للمرء فيها الفطر تسع تستطر
حبل وإرضاع وإكراه سفر مرض جهاد جَوْعةعطش كبر
١ - السفر: لقوله تعالى: ﴿فمن كان منكم مريضًا أو على سفر فعدة من أيام أخر﴾ [البقرة:١٨٥/ ٢] والسفر في عرف اللغة: عبارة عن خروج يُتكلف فيه مؤنة، ويفصل فيه بُعْد في المسافة. ولم يرد فيه من الشارع نص، لكن ورد فيه تنبيه، وهو قوله ﵇ في الصحيح: «لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر مسيرة يوم وليلة إلا معها ذو مَحْرم منها».
(١) متفق عليه عن عائشة وأم سلمة.
(٢) قال الترمذي: هذا حديث حسن.
(٣) الدر المختار:١٥٨/ ٢ - ١٦٨، مراقي الفلاح: ص١١٥ - ١١٧، البدائع: ٩٤/ ٢ - ٩٧، الشرح الكبير: ٥٣٤/ ١، القوانين الفقهية: ص١٢٠ - ١٢٢، الشرح الصغير: ٦٨٩/ ١ - ٦٩١، بداية المجتهد: ٢٨٥/ ١ - ٢٨٨، مغني المحتاج: ٤٣٧ - ٤٤٠، المهذب:١٧٨/ ١ ومابعدها، غاية المنتهى: ٣٣٣/ ١، المغني: ٩٩/ ٣ ومابعدها، كشاف القناع: ٣٦١/ ٢ - ٣٦٥.
أـ والسفر المبيح للفطر: هو السفر الطويل الذي يبيح قصر الصلاة الرباعية وذلك لمسافة تقدر بحوالي ٨٩ كم، وبشرط عند الجمهور: أن ينشئ السفر قبل طلوع الفجر ويصل إلى مكان يبدأ فيه جواز القصر وهو بحيث يترك البيوت وراء ظهره، إذ لا يباح له الفطر بالشروع في السفر بعد ما أصبح صائمًا، تغليبًا لحكم الحضر على السفر إذا اجتمعا. فإذا شرع بالسفر بأن جاوز عمران بلدة قبل طلوع الفجر، جاز له الإفطار، وعليه القضاء. وإن شرع في الصوم، ثم تعرض لمشقة شديدة لا تحتمل عادة، أفطر وقضى، لحديث جابر: «أن رسول الله ﷺ خرج إلى مكة عام الفتح، فصام حتى بلغ كُرَاع الغميم (١)، وصام الناس معه، فقيل له: إن الناس قد شق عليهم الصيام، وإن الناس ينظرون فيما فعلت، فدعا بقدح من ماء بعد العصر، فشرب والناس ينظرون إليه، فأفطر بعضهم، وصام بعضهم، فبلغه أن ناسًا صاموا، فقال: أولئك العصاة» (٢) قال الشوكاني: فيه دليل على أنه يجوز للمسافر أن يفطر بعد أن نوى الصيام من الليل، وهو قول الجمهور.
وأجاز الحنابلة للمسافر الإفطار ولو سافر من بلده في أثناء النهار ولو بعد الزوال، لأن السفر معنى لو وجد ليلًا واستمر في النهار، لأباح الفطر، فإذا وجد في أثنائه أباحه كالمرض، وعملًا بما رواه أبو داود عن أبي بصرة الغفاري الذي أفطر بعد شروعه في السفر، وقال: إنها سنة رسول الله ﷺ.
واشترط الشافعية شرطًا ثالثًا: وهو ألا يكون الشخص مديمًا للسفر، فإن كان مديمًا له كسائقي السيارات، حرم عليه الفطر، إلا إذا لحقه بالصوم مشقة، كالمشقة التي تبيح التيمم: وهي الخوف على نفس أو منفعة عضو من التلف، أو الخوف من طول مدة المرض، أو حدوث شين قبيح في عضو ظاهر: وهو ما لا يعد كشفه هتكًا للمروءة، بأن يبدو في المهنة غالبًا.
(١) كراع الغميم: اسم واد أمام عسفان، وهو من أراضي أعالي المدينة.
(٢) رواه مسلم والنسائي والترمذي وصححه (نيل الأوطار: ٢٦٦/ ٤).
وهناك شرطان آخران عند الجمهور غير الحنفية: أن يكون السفر مباحًا، وألا ينوي إقامة أربعة أيام في خلال سفره، وأضاف المالكية شرطًا آخر: هو أن يبيِّت الفطر قبل الفجر في السفر، فإن السفر لا يبيح قصرًا ولا فطرًا إلا بالنية والفعل، كما سيأتي في الفقرة التالية. وأجاز الحنفية الفطر في السفر ولو بمعصية.
والخلاصة: أن المالكية يبيحون الفطر بسبب السفر بأربعة شروط: أن يكون السفر سفر قصر، وأن يكون مباحًا، وأن يشرع قبل الفجر إذا كان أول يوم، وأن يبيت الفطر.
ب - ولو أصبح المسافر صائمًا، ثم بدا له أن يفطر، جاز له ذلك ولا إثم عليه عند الشافعية والحنابلة، عملًا بحديث صحيح متفق عليه عن ابن عباس، ولأن النبي ﷺ أفطر في أثناء فتح مكة (١). ويحرم الفطر ويأثم عند الحنفية والمالكية، وعليه القضاء فقط عند الجمهور، والقضاء والكفارة عند المالكية، لأنه أفطر في صوم رمضان، فلزمه ذلك، كما لو كان مقيمًا أو حاضرًا.
والصوم عند الحنفية والمالكية والشافعية أفضل للمسافر إن لم يتضرر، أو لم تكن عند الحنفية عامة رفقته مفطرين، ولا مشتركين في النفقة، فإن كانوا مشتركين في النفقة أو مفطرين، فالأفضل فطره موافقة للجماعة، ويجب الفطر ويحرم الصوم في حال الضرر. ودليلهم عموم قوله تعالى دون تقييده بحال الكبير الذي لايطيق الصوم: ﴿وأن تصوموا خير لكم﴾ [البقرة:١٨٤/ ٢] والتضرر: هو الخوف من التلف أو تلف عضو منه أو تعطيل منفعة.
وقال الحنابلة: يسن الفطر ويكره الصوم في حالة سفر القصر، ولو بلا مشقة؛ لأن النبي ﷺ قال عن الصائمين عام الفتح: «أولئك العصاة» ولقوله ﷺ
(١) وأفطر تبعًا له بعض الناس، وصام بعضهم، فقال عنهم النبي: «أولئك العصاة» رواه مسلم.
في الصحيحين: «ليس من البر الصوم في السفر». والرأي الأول هو المعقول عملًا بظاهر الآية: ﴿وأن تصوموا خير لكم﴾ [البقرة:١٨٤/ ٢] ولأن الفطر عام الفتح من أجل القتال.
جـ - وليس للمسافر أن يصوم في رمضان عن غيره كالنذر والقضاء؛ لأن الفطر أبيح رخصة عنه، فإذا لم يرد التخفيف عن نفسه، لزمه أن يأتي بالأصل.
فإن نوى المسافر أو المريض صومًا غير رمضان، لم يصح صومه عند الجمهور لا عن رمضان ولا عما نواه؛ لأنه أبيح له الفطر للعذر، فلم يجز له أن يصومه عن غير رمضان كالمريض. وقال الحنفية: يقع عما نواه إذا كان واجبًا، لا تطوعًا؛ لأنه زمن أبيح له فطره، فكان له صومه عن واجب عليه كغير شهر رمضان.
د - وإن صام المسافر ومثله المريض أجزأه باتفاق المذاهب الأربعة عن فرضه، وقال الظاهرية: لا يجزيه. ومنشأ الاختلاف هو المفهوم من قوله تعال: ﴿فمن كان منكم مريضًا أو على سفر، فعدة من أيام أخر﴾ [البقرة:١٨٥/ ٢] فقال الجمهور: الكلام محمول على المجاز، وتقديره: (فأفطر فعدة من أيام أخر) وهذا الحذف هو المعروف بلحن الخطاب. وقال الظاهرية: الكلام محمول على الحقيقة، لا المجاز، وفرض المسافر هو عدة من أيام أخر، فمن قدر وأفطر، ففرضه عدة من أيام أخر إذا أفطر.
وتأيد مذهب الجمهور بحديث أنس: «كنا نسافر مع رسول الله ﷺ، فلم يعب الصائم على المفطر، ولا المفطر على الصائم» (١).
وتأيد مذهب أهل الظاهر بما ثبت عن ابن عباس: «أن رسول الله ﷺ خرج
(١) متفق عليه (نيل الأوطار: ٢٢٢/ ٤) وروى مسلم عن أبي سعيد مثله.
إلى مكة عام الفتح في رمضان، فصام حتى بلغ الكَديد (وهو ماء بين عُسْفان وقُديد) فأفطر، وأفطروا» (١) وكانوا يأخذون بالأحدث فالأحدث أو بالآخر فالآخر من أمر رسول الله ﷺ.
٢ - المرض: معنى يوجب تغير الطبيعة إلى الفساد، وهو يجيز الفطر كالسفر، للآية السابقة: ﴿فمن كان منكم مريضًا أو على سفر، فعدة من أيام أخر﴾ [البقرة:١٨٥/ ٢].
أـ وضابط المرض المبيح الفطر: هوالذي يشق معه الصوم مشقة شديدة أو يخاف الهلاك منه إن صام، أو يخاف بالصوم زيادة المرض أو بطء البرء أي تأخره (٢). فإن لم يتضرر الصائم بالصوم كمن به جرب أو وجع ضرس أو إصبع أو دمل ونحوه، لم يبح له الفطر.
والصحيح الذي يخاف المرض أوالضعف بغلبة الظن بأمارة أو تجربة أو بإخبار طبيب حاذق مسلم مستور العدالة، كالمريض عند الحنفية. والصحيح الذي يظن الهلاك أو الأذى الشديد كالمريض عند المالكية.
وليس الصحيح كالمريض عند الشافعية والحنابلة.
وإن غلب على الظن الهلاك بسبب الصوم، أو الضرر الشديد كتعطيل حاسة من الحواس، وجب الفطر.
(١) متفق عليه (المصدر السابق).
(٢) يرى الأطباء أن الأمراض المبيحة للفطر هي مثل: مرض القلب الشديد، والسل (التدرن) والتهابات الرئة، والورم الرئوي، والسرطانات، والتهاب الكلية الحاد، والمصاب بحصاة في المجاري البولية مع اختلاطات والتهابات، وتصلب الشرايين، والقرحة، والسُّكري الشديد، ومرض الفتق الحجابي، والقرحة الاثني عشرية والأمراض الخبيثة أو الإنتانية في الجهاز الهضمي، والأمراض الكبدية المزمنة مثل تشمع الكبد، وأمراض سوء الامتصاص، وحالات الإسهال الشديدة والتهاب البنكرياس الحاد والحصيات المرارية والتهابات الكولون المزمنة.
وأضاف الحنفية أن المحارب الذي يخاف الضعف عن القتال، وليس مسافرًا، له الفطر قبل الحرب، ومن له نوبة حمى أو عادة حيض، لابأس بفطره على ظن وجوده.
فالجهاد ولو بدون سفر سبب من أسباب إباحة الفطر، للتقوي على لقاء العدو، وعملًا بالثابت في السنة عام فتح مكة.
ب - ولا يجب عند الجمهور على المريض أن ينوي الترخص بالفطر، ويجب ذلك عند الشافعية وإلا كان آثمًا. وإن صام المريض في مرضه، أجزأه صومه؛ لصدوره من أهله في محله، كما لو أتم المسافر.
جـ - وللفقهاء آراء في فطر المريض: فقال الحنفية والشافعية: المرض يبيح الفطر. وقال الحنابلة: يسن الفطر حالة المرض ويكره الصوم، لآية ﴿فمن كان منكم مريضًا أو على سفر، فعدة من أيام أخر﴾ [البقرة:١٨٥/ ٢]، أي فليصم عدد ما أفطره. وقال المالكية: للمريض أحوال أربعة:
الأولى: ألا يقدر على الصوم بحال، أو يخاف الهلاك من المرض أو الضعف إن صام، فالفطر عليه واجب.
الثانية: أن يقدر على الصوم بمشقة فالفطر له جائز، فهم كالحنفية والشافعية، وقال ابن العربي: يستحب (١).
الثالثة: أن يقدر بمشقة ويخاف زيادة المرض، ففي وجوب فطره قولان.
الرابعة: ألا يشق عليه ولا يخاف زيادة المرض، فلا يفطر عند الجمهور، خلافًا لابن سيرين.
(١) أحكام القرآن: ٧٧/ ١.
د - إذا أصبح المريض أو المسافر على نية الصيام، ثم زال عذره، لم يجز له الفطر. وإن أصبح على نية الفطر ثم زال عذره، جاز له الأكل بقية يومه، وكذلك من أصبح مفطرًا لعذر مبيح، ثم زال عذره في بقية يومه، عند الجمهور خلافًا لأبي حنيفة.
هـ - لا يصح بالاتفاق لمريض ولا لمسافر أن يصوم تطوعًا في رمضان. وكذا لا يصح عند الجمهور أن يصوم واجبًا آخر، ويصح ذلك عند الحنفية على الراجح، كما تبين في عذر السفر.
وعلى المريض والمسافر في رأي الشافعية الكفارة مع القضاء إذا جاء رمضان آخر، ولم يقض، والكفارة: هي إطعام مد من غالب قوت البلد عن كل يوم.
وتتكرر الكفارة بتكرر السنين. لكن إن استمر العذر حتى دخل رمضان آخر، فلا شيء عليه سوى القضاء. وإن مات قبل التمكن من القضاء، فلا شيء عليه. وإن مات بعد التمكن من القضاء، صام عنه وليه ندبًا، فإن لم يصم عنه وليه، أطعم من تركته عن كل يوم مدًا من طعام غالب قوت البلد؛ لما روى الترمذي عن ابن عمر ﵄ قال: «من مات وعليه صيام شهر، فليُطعَم عنه مكان كل يوم مسكينًا» وروى البخاري ومسلم عن عائشة ﵂: أن رسول الله ﷺ قال: «من مات وعليه صيام، صام عنه وليه».
٣ - ٤ - الحمل والرضاع: يباح للحامل والمرضع الإفطار إذا خافتا على أنفسهما أو على الولد، سواء أكان الولد ولد المرضعة أم لا، أي نسبًا أو رضاعًا، وسواء أكانت أمًا أم مستأجرة، وكان الخوف نقصان العقل أو الهلاك أو المرض، والخوف المعتبر: ما كان مستندًا لغلبة الظن بتجربة سابقة، أو إخبار طبيب مسلم حاذق عدل.
ودليل الجواز لهما: القياس على المريض والمسافر، وقوله ﷺ: «إن الله ﷿ وضع عن المسافر الصوم وشطر الصلاة، وعن الحبلى والمرضع الصوم» (١) ويحرم الصوم إن خافت الحامل أوالمرضع على نفسها أو ولدها الهلاك.
وإذا أفطرتا وجب القضاء دون الفدية عند الحنفية، ومع الفدية إن خافتا على ولدهما فقط عند الشافعية والحنابلة، ومع الفدية على المرضع فقط لا الحامل عند المالكية، كما سيأتي.
٥ - الهرم: يجوز إجماعًا الفطر للشيخ الفاني والعجوز الفانية العاجزين عن الصوم في جميع فصول السنة، ولا قضاء عليهما، لعدم القدرة، وعليهما عن كل يوم فدية طعام مسكين، وتستحب الفدية فقط عند المالكية، لقوله تعالى: ﴿وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين﴾ [البقرة:١٨٤/ ٢] قال ابن عباس: ليست بمنسوخة، هي للشيخ الكبير والمرأة الكبيرة لا يستطيعان أن يصوما، فيطعمان مكان كل يوم مسكينًا (٢).
ومثلهما: المريض الذي لا يرجى برؤه، لقوله تعالى: ﴿وما جعل عليكم في الدين من حرج﴾ [الحج:٧٨/ ٢٢]. أما من عجز عن الصوم في رمضان ولكن يقدر على قضائه في وقت آخر، فيجب عليه القضاء ولا فدية عليه.
٦ - إرهاق الجوع والعطش: يجوز الفطر لمن حصل له أو أرهقه جوع أو عطش شديد يخاف منه الهلاك أو نقصان العقل أو ذهاب بعض الحواس، بحيث لم يقدر معه على الصوم، وعليه القضاء. فإن خاف على نفسه الهلاك، حرم عليه الصيام، لقوله تعالى: ﴿ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة﴾ [البقرة:١٩٥/ ٢].
(١) رواه الخمسة (أحمد وأصحاب السنن) عن أنس بن مالك الكعبي (نيل الأوطار: ٢٣٠/ ٤).
(٢) رواه البخاري (المصدر السابق: ص ٢٣١).
وإذا أفطر المرهق بالجوع أو العطش، فاختلف: هل يمسك بقية يومه، أو يجوز له الأكل.
٧ - الإكراه: يباح الفطر للمستكره، وعليه عند الجمهور القضاء، وعند الشافعية لا يفطر المستكره. وإذا وطئت المرأة مكرهة أو نائمة، فعليها القضاء.
هذه أهم الأعذار المبيحة للفطر، أما الحيض والنفاس والجنون الطارئ على الصائم فيبيح الفطر، بل ولا يوجب الصوم ولا يصح معه، كما تقدم في الشروط.
صاحب العمل الشاق: قال أبو بكر الآجري (١): من صنعته شاقة، فإن خاف بالصوم تلفًا، أفطر وقضى إن ضره ترك الصنعة، فإن لم يضره تركها، أثم بالفطر، وإن لم ينتف التضرر بتركها، فلا إثم عليه بالفطر للعذر. وقرر جمهور الفقهاء أنه يجب على صاحب العمل الشاق كالحصاد والخباز والحداد وعمال المناجم أن يتسحر وينوي الصوم، فإن حصل له عطش شديد أو جوع شديد يخاف منه الضرر، جاز له الفطر، وعليه القضاء، فإن تحقق الضرر وجب الفطر، لقوله تعالى: ﴿ولاتقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيمًا﴾ [النساء:٢٩/ ٤].
إنقاذ الغريق ونحوه: قال الحنابلة (٢): يجب الفطر على من احتاجه غيره لإنقاذ آدمي معصوم من مهلكة كغرق ونحوه، ولا يفدي، فإن قدر بدون فطر حرم، فإن دخل الماء حلقه، لم يفطر.
صوم التطوع: ولا يجوز الفطر بلا عذر للمتطوع بالصوم عند الحنفية القائلين بلزوم النفل في الشروع بالعبادة في الرواية الصحيحة، والضيافة عذر في الأظهر للضيف والمضيف قبل الزوال لا بعده، إلا أن يكون في عدم الفطر بعد الزوال عقوق لأحد الأبوين، لا غيرهما، لتأكد الصوم.
(١) كشاف القناع: ٣٦١/ ٢، غاية المنتهى:٣٢٣/ ١.
(٢) غاية المنتهى: ٣٢٤/ ١.
وإذا أفطر المتطوع على أي حال، وجب عليه عند الحنفية القضاء، إلا إذا شرع متطوعًا في خمسة أيام: يومي العيد، وأيام التشريق، فلا يلزمه قضاؤها بإفسادها في ظاهر الرواية، كما بان سابقًا.
الإمساك بعد الفطر بعذر: اختلف الفقهاء على رأيين بوجوب الإمساك بقيةالنهار أو استحبابه على من أفطر في رمضان بعذر من الأعذار، فقال الحنفية والحنابلة بالوجوب، وقال الشافعية بالاستحباب، وقال المالكية بعدم الوجوب وعدم الاستحباب إلا في حالتين، وتفصيل الحالات والآراء يظهر فيما يأتي.
قال الحنفية (١): يجب الإمساك بقية اليوم على من فسد صومه ولو بعذر ثم زال، وعلى حائض ونفساء طهرتا بعد طلوع الفجر، وعلى مسافر أقام، ومريض برئ، ومجنون أفاق، وعلى صبي بلغ وكافر أسلم، لحرمة الوقت بالقدر الممكن، وعليهم القضاء إلا الأخيرين (الصبي والكافر) لعدم توافر الخطاب التكليفي لهما عند طلوع الفجر عليهما. وقد عرفنا أن الجنون المتقطع، لا المستوعب جميع الشهر يوجب القضاء، بخلاف الإغماء، فإنه يوجب القضاء ولو استوعب جميع الشهر؛ لأنه نوع مرض، إلا أنه لا يقضي اليوم الذي حدث فيه الإغماء أو حدث في ليلته، لوجود شرط الصوم وهو النية.
وقال المالكية (٢): إمساك بقية اليوم يؤمر به من أفطر في رمضان خاصة أو في نذر واجب عمدًا أو إكراهًا أو نسيانًا، لا من أفطر لعذر مبيح، فمن أفطر لأجل عذر يباح له الفطر، ثم زال عذره، لا يستحب له الإمساك، كأن زال الحيض أو النفاس في أثناء نهار رمضان، أو انقضى السفر، أو زال الصبا وبلغ في أثناء نهار
(١) مراقي الفلاح: ص ١١٤، البدائع:١٠٢/ ٢ ومابعدها.
(٢) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير: ٥١٤/ ١، ٥٢٥، القوانين الفقهية: ص١٢٤، الشرح الصغير وحاشية الصاوي: ٧٠٥/ ١ ومابعدها.
رمضان، أو زال الجنون أو الإغماء، أو قوي المريض المفطر، أو زال اضطرار المضطر للأكل أو الشرب، فلا يستحب لهم الإمساك، ويجوز لهم التمادي في تعاطي الفطر. لكن يندب إمساك يوم الشك بقدر ما جرت العادة فيه بثبوت الشهر من المارين في الطريق من السفارة، وذلك بارتفاع النهار. ويجب الإمساك أيضًا في حال الإفطار نسيانًا في صوم النفل، لا في العمد الحرام على المعتمد، ولا في الصوم الذي يجب فيه التتابع ككفارة الظهار والقتل.
ويرى الشافعية (١): أنه يلزم الإمساك من تعدى بالفطر كأن أكل، عقوبة له ومعارضة لتقصيره، أو من نسي النية من الليل؛ لأن نسيانه يشعر بترك الاهتمام بأمر العبادة، فهو نوع من التقصير، وفي يوم الشك إن تبين كونه من رمضان، لما في فطره من نوع تقصير لعدم الاجتهاد في الرؤية، ويجب قضاؤه على الفور على المعتمد.
ولا يلزم الإمساك بقية النهار في الأصح إذا بلغ الصبي مفطرًا، أو أفاق المجنون، أو أسلم الكافر، في أثناء النهار، لعدم التمكن من زمن يسع الأداء، لكن يندب القضاء لمن أفاق أو أسلم في أثناء النهار، خروجًا من الخلاف.
كما لا يلزم الإمساك مسافرًا أو مريضًا زال عذرهما بعد الفطر، كأن أكلا؛ لأن زوال العذر بعد الترخص لا يؤثر، كما لو قصر المسافر، ثم أقام، والوقت باق، لكن يستحب لهم الإمساك لحرمة الوقت، ويستحب أيضًا للحائض أو النفساء إذا طهرت.
وإنما لم يجب الإمساك؛ لأن الفطر مباح لهم مع العلم بحال اليوم، وزوال العذر بعد الترخص لا يؤثر.
(١) مغني المحتاج: ٤٣٨/ ١، الحضرمية: ص٤١٣.
ويرى الحنابلة (١): أنه يلزم الإمساك من أفطر بغير عذر، أو أفطر يظن أن الفجر لم يطلع وقد كان طلع، أو يظن أن الشمس قد غابت ولم تغب، أو الناسي لنية الصوم ونحوهم، بلا خلاف بين العلماء.
ويلزم الإمساك أيضًا على الراجح كل من زال عذره في أثناء النهار، وعليه القضاء، كالصبي والمجنون والكافر، والمريض والمسافر، والحائض والنفساء، إذا زالت أعذارهم في النهار، فبلغ الصبي، وأفاق المجنون، وأسلم الكافر، وصح المريض المفطر، وأقام المسافر، وطهرت الحائض والنفساء. ولهم ثواب إمساك، لاثواب صيام.
فإن بلغ الصغير صائمًا بسن، أو احتلام، وقد نوى من الليل، أتم وأجزأ، كنذر إتمام نفل، وإن علم مسافر أنه يقدم غدًا أهله، لزمه الصوم.
المبحث السابع - ما يفسد الصوم وما لا يفسده:
اختلف الفقهاء في هذا المبحث من ناحيتي الشكل (الصياغة) والموضوع، اختلافًا يقتضي بيانًا مستقلًا في كل مذهب على حدة.
الحنفية (٢): ما يفسد الصوم نوعان: نوع يوجب القضاء فقط، ونوع يوجب القضاء والكفارة.
أولًا - مايفسد الصوم ويوجب القضاء فقط دون الكفارة: وهو سبعة وخمسون شيئًا تقريبًا، يمكن تصنيفها في ثلاثة أشياء:
(١) المغني: ١٣٤/ ٣، غاية المنتهى: ٣٢٠/ ١.
(٢) الدر المختار: ١٣٢/ ٢ - ١٥٣، فتح القدير: ٦٤/ ٢ - ٧٧، البدائع، ٩٤/ ٢ - ١٠٢، اللباب: ١٦٥/ ١ - ١٧٣، مراقي الفلاح: ١٠٩ - ١١٤، تبيين الحقائق: ٣٢٢/ ١ - ٣٣٢.
الأول - أن يتناول ما ليس بغذاء ولا في معنى الغذاء وهو الدواء: وهو تناول كل شيء لا يقصد به التغذي عادة ولا يميل إليه الطبع، كأن أكل الصائم أرزًا نيئًا، أو عجينًا أو دقيقًا غير مخلوط بشيء يؤكل عادة كالسمن والدبس والعسل والسكر، وإلا وجبت به الكفارة، أو أكل ملحًا كثيرًا دفعة واحدة، فإن أكل ملحًا قليلًا، وجبت به الكفارة، أو أكل ثمرة قبل نضجها، أو أكل ما بقي بين أسنانه، وكان قدر الحمصة، فإن كان أقل، فلا يفسد، أو أكل جوزة رطبة.
أو أكل طينًا غير أرمني لم يعتد أكله، أما أكل الطين الأرمني (وهو معروف عند العطارين) فيوجب الكفارة.
أو أكل نواة (بزرة) أو قطنًا أو ورقًا، أو جلدًا، أو ابتلع حصاة أو حديدًا أو ترابًا أو حجرًا أو درهمًا أو دينارًا ونحو ذلك، أو أدخل دخانًا بصنعه، أو أدخل ماء أو دواء في جوفه بواسطة الحقنة في قبل المرأة أو الدبر مطلقًا أو الأنف أو الحلق، أو استعط في أنفه شيئًا (١) أو قطر في أذنه دهنًا، لا ماء على الصحيح لعدم سريان الماء، ولضرر الدماغ به، أو دخل حلقه مطر أو ثلج في الأصح، ولم يبتلعه بصنعه.
والخلاصة: اتفق الحنفية على أنه لو أنزل قطرة في قبل المرأة، فسد صومها؛ لأن القطرة كالحقنة. وأما القطرة في إحليل الرجل فلا تفطر في الأظهر، أو على المذهب وهو قول أبي حنيفة ومحمد كما سيأتي في بحث مالا يفسد الصوم - رقم١١ وقال أبو يوسف: يفطر الصائم.
أو استقاء (تعمد إخراج القيد) من جوفه، أو خرج كرهًا وأعاده بصنعه، إذا
(١) الحقنة: صب الدواء في الدبر أو قبل المرأة، والسعوط: صبه في الأنف.
كان القيء عمدًا ملء الفم أو ولو كان أقل من ملء الفم في حالة الإعادة بقدر حمصة منه فأكثر على الصحيح، وكان ذاكرًا لصومه، فإن ذرعه (غلبه) القيء، أو كان القيء حال الاستقاءة أقل من ملء الفم، أو كان ناسيًا لصومه، أو كان القيء بلغمًا لا طعامًا، لم يفطر في جميع هذه الحالات اتفاقًا، والدليل حديث: «من ذرعه القيء، فليس عليه قضاء، ومن استقاء عمدًا فليقض» (١).
الثاني - أن يتناول غذاء، أو دواء لعذر شرعي كمرض أو سفر أو إكراه أو خطأ أو إهمال أو شبهة: كأن سبق خطأ ماء المضمضة إلى جوفه، أو داوى جرحًا في رأسه أو بطنه، فوصل الدواء إلى دماغه أو جوفه، أو صب أحد ماء في جوف إنسان نائم، أو أفطرت امرأة خوفًا على نفسها من أن تمرض من الخدمة.
أو أكل أو جامع عمدًا لشبهة شرعية بعد أن أكل ناسيًا أو جامع ناسيًا، أو أكل بعدما نوى نهارًا، ولم يكن قد بيت نيته ليلًا، أو أكل المسافر الذي نوى الصوم ليلًا بعد أن نوى الإقامة، أو أكل أو جامع في حالة السفر بعد أن أصبح مقيمًا ناويًا الصوم من الليل، ثم بدأ السفر نهارًا، لشبهة السفر، وإن لم يحل له الفطر.
أو أكل أو شرب أو جامع شاكًا في طلوع الفجر، وهو طالع، ولا كفارة عليه للشبهة؛ لأن الأصل بقاء الليل أو أفطر ظانًا الغروب، والشمس باقية؛ ولا كفارة عليه لغلبة الظن بحدوث الغروب.
ومن جامع قبل طلوع الفجر أو أكل، ثم طلع عليه الفجر، فإن نزع فورًا، أو ألقى ما في فمه، لم يفسد صومه.
الثالث - إذا قضى شهوة الفرج غير كاملة: كأن أنزل المني بوطء ميتة أو بهيمة
(١) رواه الخمسة إلا النسائي عن أبي هريرة (نيل الأوطار: ٢٠٤/ ٤).
أو صغيرة لا تشتهى، أو بمفاخذة أو تبطين، أو قبلة أو لمس، أو عبث بباطن الكف، أو وطئت المرأة وهي نائمة، أو قطرت في فرجها دهنًا ونحوه.
ويلحق به ما إذا أدخل أصبعه مبلولة بماء أو دهن في دبره، أواستنجى فوصل الماء إلى داخل دبره، أو أدخل في دبره قطنة أو خرقة أو طرف حقنة ولم يبق منه شيء، أو أدخلت المرأة أصبعها مبلولة بماء أودهن في فرجها الداخل، أو أدخلت قطنة أو خشبة أو عودًا وغيبته؛ لأنه تم الدخول، بخلاف ما لو بقي طرفه خارجًا؛ لأن عدم تمام الدخول كعدم دخول شيء بالمرة، فلا يفسد الصوم إذا بقي منه في الخارج شيء بحيث لم يغب كله. وعلى هذا لايفسد عندهم الصوم بالفحص النسائي بإدخال آلة منظار وبقاء طرفها خارجًا، ويفسد بإدخال الإصبع ونحوها، خلافًا للحنابلة في إدخال الإصبع، كما سيأتي.
ومما يلحق به: ما إذا أفسد صومًا غير أداء رمضان بجماع أو غيره، لعدم هتك حرمة الشهر.
ثانيًا - ما يفسد الصوم ويوجب القضاء والكفارة معًا: وهو اثنان وعشرون شيئًا تقريبًا، إذا فعل الصائم المكلف منها شيئًا، مبيتًا النية في أداء رمضان، متعمدًا، طائعًا، غير مضطر، ولم يطرأ ما يبيح الفطر بعده كمرض، أو قبله كسفر. فلو فعلها صبي، أو لم يبيت النية، أو كان في قضاء ما فاته من رمضان أو في صوم آخر غير رمضان، أو كان ناسيًا أو مخطئًا، أو مستكرهًا، أو مضطرًا، أو طرأ عليه سفر أو مرض، فلا كفارة عليه، وإنما عليه القضاء فقط.
ويمكن تصنيفها بشيئين:
الأول - أن يتناول غذاء أو ما في معناه بدون عذر شرعي: كالأكل والشرب، والدواء، والدخان المعروف، والأفيون والحشيش ونحوهما من المخدرات، لأن الشهوة فيه ظاهرة. والأكل يشمل كل ما هم مأكول عادة، من أنواع الشحوم واللحوم المختلفة، النيئ والمطبوخ والقديد، والفواكه والخضروات ومنها أكل ورق الكرم وقشر البطيخ، والنشويات، ومنها حب الحنطة وقضمها، ولو حبة أو سمسمة أو نحوها من خارج فمه في المختار، إلا إذا مضغت فتلاشت، ولم يصل منها شيئ الى جوفه. ومنها الأكل عمدًا بعد أن يغتاب آخر ظنًا منه أنه أفطر بالغيبة، أو بعد حجامة أو مس أو قبلة بشهوة أو بعد مضاجعة من غير إنزال، أو دهن شاربه، ظانًا أنه أفطر بذلك، إلا إذا أفتاه فقيه ومن هذا النوع ابتلاع مطر دخل الى فمه، وابتلاع ريق زوجته أو حبيبه للتلذذ به. ومنه اكل الطين الأرمني (مهم معروف عند العطارين)، والطين غير الأرمني، وهذا معروف كما في حالة الذي اعتاد أكل الطين، ومنه تناول قليل الملح في المختار. والدليل حديث (الفطر مما دخل) (١)
الثاني - أن يقضي شهوة الفرج كاملة: وهو الجماع في القبل أو الدبر، سواء الفاعل والمفعول به، ولو بمجرد التقاء الختانين وإن لم ينزل، بشرط أن يكون المفعول به آدميًا حيًا يشتهى. وتجب الكفارة اتفاقًا إن مكنت المرأة من نفسها صغيرًا أو مجنونًا.
والدليل: حادثة الأعرابي الذي جامع امرأته في نهار رمضان، وإلزام النبي ﷺ له بالكفارة (عتق رقبة، ثم صوم شهرين متتابعين إن لم يجد الرقبة، ثم إطعام ستين مسكينًا عند العجز عن الصوم) (٢).
(١) رواه أبو يعلى الموصلي في مسنده عن عائشة بلفظ «إنما الإفطار مما دخل، وليس مما خرج» (نصب الراية: ٢/ ٣٥٢).
(٢) رواه الجماعة عن أبي هريرة (نيل الأوطار: ٢١٤/ ٤).
ما لا يفسد الصوم عند الحنفية:
هو أربعة وعشرون شيئًا تقريبًا:
١ً - الأكل أو الشرب أو الجماع ناسيًا، لقوله ﷺ: «من نسي وهو صائم، فأكل أو شرب، فليتم صومه، فإنما أطعمه الله وسقاه» (١) وفي لفظ: «من أفطر يومًا من رمضان ناسيًا فلا قضاء عليه ولا كفارة» والجماع في معناهما، فإن تذكر نزع فورًا، فإن مكث بعده، فسد صومه. ولو نزع خشية طلوع الفجر، فأمنى بعد الفجر والنزع، ليس عليه شيء، وإن حرك نفسه ولم ينزع، أو نزع ثم أولج، لزمته الكفارة.
ويجب تذكير الناسي القادر على الصوم ليترك الأكل، ويكره عدم تذكيره، والأولى عدم تذكير العاجز الذي لا قوة له لطفًا به.
٢ً - إنزال المني بنظر أو فكر، وإن أدام النظر والفكر؛ لأنه لم يوجد منه صورةالجماع ولا معناه، وهو الإنزال عن مباشرة وإن كان آثمًا. وفعل المرأتين (السحاق) بلا إنزال منهما لا يفسد الصوم، لكن الفاعل يأثم، ولا يلزم من الحرمة فيما ذكر الإفطار. وكذا لا يفطر بالاحتلام نهارًا.
٣ً - القطرة أو الاكتحال في العين، ولو وجد الصائم الطعم أو الأثر في حلقه؛ لأن النبي ﷺ اكتحل في رمضان، وهو صائم (٢).
٤ً - الحجامة: لأن النبي ﷺ احتجم وهو محرم، واحتجم وهو صائم (٣).
(١) رواه الجماعة إلا النسائي عن أبي هريرة (المصدر السابق: ص٢٠٦).
(٢) أخرجه ابن ماجه عن عائشة، وهو ضعيف (المصدر السابق: ص٢٠٥).
(٣) رواه أحمد والبخاري عن ابن عباس (المصدر السابق: ٢٠٢).
٥ً - السواك ولو كان مبلولا ً بالماء؛ لأنه سنة.
٦ً - المضمضة والاستنشاق، ولو فعلهما لغير الوضوء، لكن لا يبالغ فيهما لئلا يدخل شيء إلى الجوف.
٧ً - الاغتسال أو السباحة، أو التلفف بثوب مبتل، للتبرد لدفع الحر، وإدخال عود إلى الأذن.
٨ً - الاغتياب، ونية الفطر، ولم يفطر.
٩ً - دخول الدخان، أوالغبار ولو غبار الطاحون، أو الذباب، أوأثر طعم الأدوية إلى الحلق، بلا صنع الصائم أي رغمًا عنه وهو ذاكر الصوم؛ لأنه لا يمكن الاحتراز أو الامتناع عنها.
لكن لو تبخر ببخور، فآواه إلى نفسه، واشتم دخانه، ذاكرًا لصومه، أفطر، لإمكان التحرز عنه. ولا يتوهم أنه كشم الورد ومائه، والمسك، لوجود الفرق بين هواء تطيب بريح المسك وشبهه، وبين جوهر دخان وصل إلى جوفه بفعله.
١٠ً - خلع الضرس، ما لم يبتلع شيئًا من الدم أو الدواء، فيفطر.
١١ً - صب ماء أو دهن أو حقنة في الإحليل (مجرى البول في قبل الرجل)، أو دخول ماء في الأذن بسبب خوض نهر، أو إدخال العود في الأذن وإخراج درن الصماخ؛ لأن الإحليل ليس بمنفذ مفتوح، ودخول الماء في الأذن للضرورة، ولعدم وصول المفطر إلى الدماغ بإدخال العود للأذن، والأولى ترك ذلك كله.
١٢ً - ابتلاع النخامة، واشتنشاق المخاط عمدًا وابتلاعه، لنزوله من الدماغ، لكن الأولى رميه لقذارته، وخروجًا من خلاف من أفسد الصوم بابتلاعه.
١٣ - القيء قسرًا عنه، أو عودته قهرًا ولو كان ملء الفم، في الصحيح، والاستقاءة عمدًا بما هو أقل من ملء الفم على الصحيح، لكن لو أعاد ما قاء أو قدر حمصة
منه، وكان أصل القيء ملء الفم، أفطر باتفاق الحنفية ولا كفارة، على المختار، وإن عاد قسرًا، لم يفطر، سواء أكان القيء العائد قليلًا أم كثيرًا (١).
والخلاصة: أن القيء عامدًا ملء الفم أو إعادة القيء مفطر يوجب القضاء فقط دون الكفارة، أما القيء قهرًا أو عودة القيء بنفسه أو القيء أقل من ملء الفم فلا يفطر.
١٤ً - أكل ما بين الأسنان، وكان دون الحمصة، لأنه تبع لريقة. أو مضغ مثل سمسمة من خارج فمه، حتى تلاشت ولم يجد لها طعمًا في حلقه، لعدم ابتلاع شيء.
١٥ً - إذاأصبح جنبًا، ولو استمر يومًا بالجنابة؛ لأن الجنابة لا تؤثر في صحة الصوم للزومها الصوم للضرورة، كما تقدم سابقًا، وإن كان الغسل فرضًا للصلاة، لقوله تعالى: ﴿وإن كنتم جنبًا فاطهروا﴾ [المائدة:٦/ ٥] ولأنه من آداب الإسلام، لقوله ﷺ: «لا تدخل الملائكة بيتًا فيه صورة، ولا كلب، ولا جنب» (٢).
١٦ً - الحُقَن في العضل أو تحت الجلد أو في الوريد، والأولى عند الإمكان تأخيرها إلى المساء، أما الحقن الشرجية فتفطر.
١٧ً - شم الروائح العطرية كالورد أو الزهر والمسك أو الطيب.
(١) الدر المختار: ١٥١/ ٢ ومابعدها، تبيين الحقائق: ٣٢٥/ ١ ومابعدها.
(٢) رواه أبو داود والنسائي والحاكم عن علي.
المالكية (١): ما يفسد الصيام نوعان: أحدهما - يوجب القضاء فقط، والثاني - يوجب القضاء والكفارة.
الأول - ما يفسد الصوم ويوجب القضاء فقط: هو ما يأتي:
١ً - الإفطار متعمدًا في صيام فرض غير رمضان، كقضاء رمضان، والكفارات والنذر غير المعين، وصوم المتمتع والقارن إذا لم يجد الهدي.
أما النذر المعين، كما لو نذر صوم يوم معين، أو أيام معينة، أو شهر معين، فإن أفطر فيه لعذر مانع من صحته كحيض ونفاس وإغماء وجنون، أو لعذر مانع من أدائه كمرض واقع، أو شدة ضرر أو زيادته أو تأخر برئه، فلا يقضى لفوات وقته، وإن زال عذره وبقي منه شيء، وجب صومه.
٢ً - الإفطار متعمدًا في صيام فرض رمضان إذا لم تتوافر شروط الكفارة، كالإفطار لعذر مبيح كالمرض والسفر، أو لعذر يرفع الإثم كالنسيان والخطأ والإكراه، والإفطار بسبب خروج المذي، أو خروج المني بنظر أو فكر مع لذة معتادة بلا استدامة نظر وكانت عادته الإنزال عند الاستراحة. وفي الجملة: كل فرض أفطر فيه يجب عليه قضاؤه إلا النذر المعين لعذر.
٣ً - الإفطار متعمدًا في صوم التطوع؛ لأن الشروع في النفل ملزم عندهم، كما تقدم. فإن أفطر فيه ناسيًا أو بعذر مبيح، فلا قضاء عليه.
والخلاصة: إن من أفطر عامدًا في جميع أنواع الصيام، فعليه القضاء، ولا يكفِّر إلا في رمضان، ومن أفطر في جميعها ناسيًا، فعليه القضاء دون الكفارة، إلا في التطوع فلا قضاء ولا كفارة.
(١) القوانين الفقهية: ص١١١٩،١٢٢ - ١٢٤، الشرح الصغير: ٦٩٨/ ١ - ٧١٢،٧١٥ ومابعدها، الشرح الكبير مع الدسوقي: ٥٢٣/ ١ - ٥٣٤، بداية المجتهد: ٢٨١/ ١ ومابعدها.
أما المفطرات فهي خمسة:
١ - الجماع الذي يوجب الغسل.
٢ - إخراج المني أو المذي بالتقبيل أو المباشرة أو النظر أو الفكر المستديمين.
٣ - الاستقاءة (تعمد القيء) سواء ملأ الفم أم لا، بخلاف ما إذا غلبه القيء إلا إذا رجع شيء منه ولو غلبة، فيفسد صومه.
٤ - وصول مائع إلى الحلق من فم أو أنف أو أذن، عمدًا أو سهوًا أو خطأ أو غلبة كماء المضمضة أو السواك، وفي حكم المائع: البخور وبخار القِدْر إذا استنشقهما، فوصلا إلى حلقه، والدخان المعروف، والاكتحال نهارًا ودهن الشعر نهارًا إذا وجد طعمهما في الحلق، فإن تحقق عدم وصول الكحل والدهن للحلق فلاشيء عليه، كأن حدث ذلك ليلًا.
٥ - وصول أي شيء إلى المعدة، سواء أكان مائعًا أم غيره من فم أو أنف أو أذن أو عين أو مسام رأس، إذا كان وصوله عمدًا أو خطأ أوسهوًا أو غلبة. أما الحقنة في الإحليل (وهو ثقبة الذكر) فلا تفسد الصوم، وكذا نبش الأذن بنحو عود لا شيء فيه، ولا يضر ابتلاع ما بين الأسنان من طعام ولو عمدًا فلا يفطر.
وهكذا: كل ما وصل للمعدة من منفذ عال سواء أكان مائعًا أم غير مائع موجب للقضاء، سواء أكان ذلك المنفذ واسعًا أم ضيقًا، بخلاف ما يصل للمعدة من منفذ سافل، فإنه يشترط كونه واسعًا كالدبر وقبل المرأة والثقبة. لا كإحليل رجل وجائفة: وهي الخرق الصغير جدًا الواصل للبطن، وصل للمعدة أو لا، ويشترط كونه مائعًا لا جامدًا، فوصول المائع للمعدة مفسد مطلقًا، سواء أكان المنفذ عاليًا أم من الأسفل، ووصول الجامد لها لا يفسد إلا إذا كان المنفذ عاليًا.
ويجب القضاء على من أفطر في صوم الفرض مطلقًا، أي سواء حدث الفطر عمدًا أو سهوًا أوغلبة أو إكراهًا، وسواء أكان الفطر حرامًا أم جائزًا أم واجبًا كمن أفطر خوف هلاك، وسواء وجبت الكفارة أم لا، أو كان الفرض أصليًا أم نذرًا.
الثاني - ما يفسد الصوم ويوجب القضاء والكفارة معًا بالفطر في رمضان فقط دون غيره: هو ما يأتي:
١ً - الجماع عمدًا: أي إدخال الحشفة في فرج مطيق ولو بهيمة، وإن لم ينزل المني، إذا انتهك حرمة رمضان بأن كان غير مبال بها بأن تعمدها اختيارًا بلا تأويل قريب، احترازًا من الناسي والجاهل والمتأول، وذلك سواء أتى زوجته أو أجنبية، فإن طاوعته المرأة فعليه الكفارة وعليها، وإن وطئها نائمة أو مكرهة كفر عنه وعنها، وإن جامع ناسيًا أو مكرهًا أو متأولًا، فلا كفارة عليه.
٢ً - إخراج المني أو المذي يقظة مع لذة معتادة بتقبيل أو مباشرة فيما دون الفرج، أو بنظر أو تفكر عند الاستدامة أو كانت عادته الإنزال عند الاستدامة، أو كانت عادته الإمناء بمجرد النظر، فمن قبَّل فأمنى فقد أفطر اتفاقًا، وإن أمذى فيفطر عند مالك وأحمد دون غيرهما.
ولا كفارة على الراجح إذا أمنى بتعمد النظر أو الفكر، ولم تكن عادته الإنزال بهما، أو أمنى بمجرد الفكر أو النظر من غير استدامة لهما (١).
٣ً - الأكل والشر ب عمدًا، ومثلهما بلع كل ما يصل إلى الحلق من الفم خاصة، ولو لم يغذ كنحو حصاة وصلت الجوف، وتعمد القيء وابتلاع شيء منه
(١) الحاصل: أنه إذا أمنى بمجرد الفكر أو النظر من غير استدامة لهما، فلا كفارة قطعًا، وإن استدامهما حتى أنزل، فإن كانت عادته الإنزال بهما عند الاستدامة، فالكفارة قطعًا، وإن كانت عادته عدم الإنزال بهما عند الاستدامة، فخالف عادته وأمنى، فلا كفارة على المختار.
ولو غلبة، وتعمد الاستياك بجوزاء (١) نهارًا وابتلاعه ولوغلبة، وذلك قياسًا على الجماع والإنزال، لانتهاك حرمة شهر رمضان. ولا تجب الكفارة بالإفطار ناسيًا، ولا بما يصل إلى الجوف من غير الفم كالأنف والأذن؛ لأن الكفارة معللة بالانتهاك الذي هو أخص من العمد.
٤ً - تجب الكفارة بالإصباح بنية الفطر، ولو نوى الصيام بعده على الأصح، وبفرض النية أي رفعها نهارًا على الأصح.
٥ً - تعمد الفطر لغير عذر، ثم مرض أو سافر، أو حاضت المرأة، فتجب الكفارة على المشهور.
ولا تجب الكفارة إلا بالشروط السبعة الآتية المفهومة مما سبق بيانه وهي:
أولًا - أن يكون الفطر في أداء رمضان، فلا تجب الكفارة في غيره، كقضاء رمضان وصوم منذور، وصوم كفارة أو نفل.
ثانيًا - أن يتعمد الفطر: فلا كفارة على ناس، أو مخطئ، أو معذور بعذر كمرض أو سفر.
ثالثًا - أن يكون مختارًا: فلا كفارة على مستكره، أو مفطر غلبة.
رابعًا - أن يكون عالمًا بحرمة الفطر، فلا كفارة على جاهلها، كحديث عهد بالإسلام، ظن أن الصوم لا يحرم معه الجماع، فجامع، فلا كفارة عليه. ولا كفارة على من جهل حلول رمضان، كمن أفطر يوم الشك قبل ثبوت الهلال.
خامسًا - أن ينتهك حرمة شهر رمضان أي لا يبالي بها: فلا كفارة على متأول
(١) الجوزاء: قشر يتخذ من أصول شجر الجوزاء، يستعمله بعض نساء أهل المغرب.
تأويلًا قريبًا: وهو المستند في فطره لأمر موجود، مثل أن يفطر ناسيًا أو مكرهًا، ثم أكل أو شرب عمدًا، ظانًا عدم وجوب الإمساك عليه، فلا كفارة عليه لاستناده لأمر موجود سابقًا وهوالفطر نسيانًا أو بإكراه. ومثل من أفطر بسبب سفر أقل من مسافة القصر، ظانًا أن الفطر مباح له، لظاهر قوله تعالى: ﴿ومن كان مريضًا أو على سفر، فعدة من أيام أخر﴾ [البقرة:١٨٤/ ٢ - ١٨٥] ونحو من تعمد الفطر يوم الثلاثين من رمضان منتهكًا للحرمة، ثم تبين أنه يوم العيد، وكذلك الحائض تفطر متعمدة، ثم تعلم أنها حاضت قبل فطرها، فلا كفارة عليها على المعتمد.
أما المتأول تأويلًا بعيدًا كمن اعتاد الحُمَّى أو الحيض في يوم معين، فبيت نية الفطر، ولم يحدث العارض، فعليه الكفارة. ومثله من اغتاب ظانًا بطلان صومه فأفطر متعمدًا، فعليه الكفارة.
سادسًا - أن يكون الواصل من الفم: فلو وصل شيء من الأذن أو العين فلا كفارة، وإن وجب القضاء، كما أبنت.
سابعًا - أن يكون الوصول للمعدة: فلو وصل شيء إلى حلق الصائم، ورده، فلا كفارة عليه.
ما لا يفسد الصوم:
لا يفسد الصوم بأحوال قد يتوهم فيها وهي:
١ً - من غلبه القيء، ولم يرجع منه شيء لحلقه، أو غلبه الذباب أو البعوض، أوغبار الطريق، أو غبار الدقيق لصانعه وهو الطحان والناخل والمغربل والحامل ونحوه في أثناء مزاولة المهنة كحافر القبر وناقل التراب لغرض، لأنه لا يمكن الاحتراز عنه، ولضرورة الصنعة. أما غير الصانع فعليه القضاء.
٢ً - الحقنة في الإحليل أي ثقبة الذكر، ولو بمائع، لأنه لا يصل عادة للمعدة.
٣ً - دهن الجائفة بالدواء: أي دهن الجرح في البطن أو الجنب الواصل للجوف، لأنه لا يصل لمحل الأكل والشرب، وإلا لمات من ساعته.
٤ً - نزع المأكول أو المشروب أو الفرج عند طلوع الفجر، فإن ظن النازع إباحة الفطر، فأفطر، فلا كفارة عليه، لأن فطره بتأويل قريب.
٥ً - من غلبه المني أو المذي بمجرد النظر أو الفكر أي غير المستديم.
٦ً - من ابتلع ريقه، أو ما بين أسنانه من بقايا الطعام، إلا إذا كان كثيرًا عرفًا.
٧ً - المضمضة للعطش، والإصباح بالجنابة، والسواك في كل النهار لمقتض شرعي من وضوء وصلاة وقراءة وذكر الله تعالى.
٨ً - الحجامة لا تفطر، ولكنها تكره.
الشافعية (١): ما يفسد الصوم نوعان: نوع يوجب القضاء فقط، ونوع يوجب القضاء والكفارة.
الأول - ما يفسد الصوم ويوجب القضاء فقط:
يفسد الصوم ويجب القضاء فقط دون الكفارة بالأمور الآتية، ويجب الإمساك بقية النهار على من أفطر بغير عذر؛ لأنه أفطر بغير عذر.
١ - وصول شيء مادي (عين) إلى الجوف وإن قل كسمسمة، أو لم يؤكل
(١) مغني المحتاج: ٤٢٧/ ١ - ٤٣٢،٤٤٢ ومابعدها، المهذب: ١٨٣/ ١ - ١٨٥.
عادة كحصاة أو تراب، من منفذ مفتوح كالفم والأنف والأذن والقُبُل (الإحليل) والدبر وجرح الدماغ، إذا كان عمدًا؛ لأن الصوم هو الإمساك عن كل ما يصل إلى الجوف، وهذا ما أمسك، فمن أكل أو شرب ناسيًا، أو مكرهًا، أو جاهلًا بأن ذلك مفطر بسبب قرب عهده بالإسلام، أو نشأ ببادية بعيدة عن العلماء، لم يفطر، سواء أكان المأكول قليلًا أم كثيرًا، لعدم توافر العمد. وعدم الفطر بالإكراه هو الأظهر. ولو وصل جوفَه ذباب أو بعوضة، أو غبار الطريق، ولو تعمد فتح فمه حتى دخل التراب جوفه، أو غربلة الدقيق، أو وصول الأثر كوصول الريح بالشم إلى دماغه، لم يفطر، لعدم توافر القصد، ولما فيه من المشقة الشديدة، ولأنه معفو عن التراب في حال تعمد فتح الفم. لكن لو استخدم مريض الربو بخاخة الهواء عند ضيق النِّفَس، فإنه يفطر؛ لأن ما يعفى عن جنسه كالتراب والهواء مقصور على حالة الابتلاء العام، فإن كان الشيء خاصًا، كتعمد ابتلاع رائحة شواء لحم، فيفطر، لسهولة الاحتراز عنه. ومثل ذلك تناول حب تصلب الشرايين عند الإحساس بالضيق.
ولا يفطر ببلع ريقه الطاهر الخالص من معدنه (وهو الفم جميعه الذي فيه قراره ومنه ينبع) ولو بعد جمْعه ثم ابتلاعه في الأصح وإن أخرجه على لسانه لعسر الاحتراز عنه، ولأنه في حال جمعه لم يخرج عن معدنه، فهوكابتلاعه متفرقًا من معدنه. فإن خرج الريق عن فمه ثم رده وابتلعه؛ أو بلّ خيطًا بريقه، ورده إلى فمه، وعليه رطوبة تنفصل، وابتلعها؛ أو ابتلع ريقه مخلوطًا بغيره، أو متنجسًا، أفطر في الحالات الثلاث، أما الأولى فلخروجه عن معدنه فصار كالأعيان الخارجة، وأما الثانية فلأنه لا ضرورة إليه، وأما الثالثة فلأنه أجنبي عن الريق.
وكذلك لا يفطر بابتلاع ما بقي من الطعام بين الأسنان من غير قصد إن عجز عن تمييزه ومجه، لأنه معذور فيه غير مقصر، فإن قدر على تمييزه ومجه وابتلعه
ولو قليلًا دون الحمصة، فإنه يفطر، فيفطر بجري الريق بما بين الأسنان لقدرته على مجه، ويفطر - كما سيأتي - بالنخامة أيضًا وهي التي تنزل من الرأس أو الجوف، ووصلت إلى حد الظاهر من الفم، فأجراها هو. أما لو جرت بنفسها وعجز عن مجها فلا يفطر للعذر، كما لا يفطر إذا لم تصل إلى حد الظاهر، كأن نزلت من دماغه إلى حلقه، وهي في حد الباطن، ثم إلى جوفه، وإن قدر على مجها، لأنها نزلت من جوف إلى جوف.
ويفطر بتناول الدخان المعروف ونحوه كالتمباك والنشوق، وبوصول شيء إلى باطن الدماغ، والبطن، والأمعاء، والمثانة، وبالحقنة في الإحليل (مخرج البول من الذكر، واللبن من الثدي)، وبالتقطيرفي باطن الأذن، وبإدخال عود ونحوه لباطن الأذن؛ لأن كل ذلك جوف، وقد وصل إليه من منفذ مفتوح.
ولا يضر وصول الدهن إلى الجوف بتسرب المسام (وهي ثقب البدن) ولا الاكتحال وإن وجد طعم الكحل في حلقه؛ لأن الواصل إليه ليس من منفذ وإنما من المسام، وقد روى البيهقي أنه ﷺ «كان يكتحل بالإثمد وهو صائم» فلا يكره الاكتحال للصائم.
٢ - ابتلاع النُّخامة: وهي ما ينزل من الرأس أو الجوف، أما لو جرت بنفسها وعجز عن مجها، فلا يفطر، وإن تركها مع القدرة على لفظها، فوصلت الجوف، أفطر في الأصح لتقصيره، كما تقدم بيانه أيضًا.
٣ - سبق ماء المضمضة أوالاستنشاق المشروع إلى جوفه، في حال المبالغة في ذلك؛ لأن الصائم منهي عن المبالغة. فإن لم يبالغ فلا يفطر، لأنه تولد من مأمور به بغير اختياره.
وإن سبق الماء غير المشروع إلى جوفه، كما في حال التبرد، أو العبث، أو في
المرة الرابعة من المضمضة أو الاستنشاق، أفطر؛ لأنه غير مأمور بذلك، بل منهي عنه في الرابعة.
٤ - الاستقاءة أي تعمد القيء، حتى لو تيقن على الصحيح أنه لم يرجع شيء إلى جوفه، لأن المفطر عينها، لظاهر خبر ابن حبان وغيره: «من ذرَعه القيء (١)، وهو صائم، فليس عليه قضاء، ومن استقاء فليقض» هذا إذا كان عالمًا بالتحريم عامدًا مختارًا لذلك، فإن كان جاهلًا لقرب عهده بالإسلام، أو نشأ بعيدًا عن العلماء، أو ناسيًا أو مكرهًا، فإنه لا يفطر.
٥ - الاستمناء (وهو إخراج المني بغير جماع، محرَّمًا كأن أخرجه بيده، أو غير محرَّم كإخراجه بيد زوجته)، وخروج المني بلمس وقبلة ومضاجعة بلا حائل؛ لأنه إنزال بمباشرة.
ولا يفطر بإنزال المني بفكر (وهو إعمال الخاطر في الشيء)، أو نظر بشهوة، أو بضم امرأة بحائل بشهوة؛ إذ لا مباشرة، فأشبه الاحتلام، مع أنه يحرم تكريرها وإن لم ينزل.
٦ - أن يتبين الغلط بالأكل نهارًا بسبب طلوع الفجر، أو لعدم غروب الشمس، إذ لا عبرة بالظن البيِّن خطؤه.
ويحل الإفطار آخر النهار بالاجتهاد بسبب قراءة ورد أو غيره كوقت الصلاة، والاحتياط ألا يأكل آخر النهار إلا بيقين، ويجوز الأكل آخر الليل إذا ظن بقاء الليل أوشك؛ لأن الأصل بقاء الليل. ولو طلع الفجر، وفي فمه طعام، فلفظه، صح صومه، وكذا يصح لو كان مجامعًا فنزع في الحال، فإن مكث بطل الصوم.
(١) أي غلب عليه.
٧ - يفطر بطروء الجنون والردة والحيض والنفاس، لمنافاة ذلك مع شروط صحة الصوم من العقل والإسلام والطهارة من الدماء الطارئة، أخرج البخاري ومسلم عن أبي سعيد الخدري ﵁ أن رسول الله ﷺ قال في المرأة، وقد سئل عن نقصان دينها: «أليس إذا حاضت لم تصل ولم تصم؟».
الثاني - ما يوجب القضاء والكفارة والتعزير:
يجب القضاء والكفارة مع التعزير وإمساك بقية اليوم، بشيء واحد، وهو الجماع الذي يفسد صوم يوم من رمضان بشروط أربعة عشر وهي:
١ً - أن يكون ناويًا للصوم ليلًا: فلو ترك النية لم يصح صومه، ويجب عليه الإمساك.
٢ً، ٣ً، ٤ً - أن يكون متعمدًا مختارًا، عالمًا بالتحريم: فلا كفارة على ناس أو مكره، أو جاهل التحريم بسب قرب إسلامه.
٥ً - أن يحدث الجماع في نهار رمضان: فلا كفارة على جماع مفسد غير رمضان من نفل أو نذر أو قضاء، أو كفارة، والجماع في نهار رمضان حرام لقوله تعالى: ﴿أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم هن لباس لكم وأنتم لباس لهن﴾ ... ﴿فالآن باشروهن﴾ - إلى قوله تعالى: ﴿ثم أتموا الصيام إلى الليل﴾ [البقرة:١٨٧/ ٢].
٦ً - أن يفسد الصوم بالجماع وحده: فإن أكل ثم جامع، لا كفارة عليه، ولا كفارة بغير الجماع كالأكل والشرب والاستمناء باليد، والمباشرة فيما دون الفرج المفضية إلى الإنزال.
٧ً - أن يكون آثمًا بهذا الجماع: فلا كفارة على صبي، ولا على صائم مسافر أو مريض جامع بنية الترخص أو بغيرها في الأصح، لإباحة الفطر له، ولا على من زنى ناسيًا للصوم؛ لأنه ناسٍ، ولا على مسافر أفطر بالزنا مترخصًا بالفطر؛ لأن الفطر جائز له.
٨ً - أن يكون معتقدًا صحة صومه: فلا كفارة على من جامع عامدًا بعد الأكل ناسيًا وظن أنه أفطر بالأكل، لأنه يعتقد أنه غير صائم، وإن كان الأصح بطلان صومه بهذا الجماع.
٩ً - ألا يكون مخطئًا: فلا كفارة على من جامع ظانًا وقت الجماع بقاء الليل، أو دخول المغرب، فتبين أنه جامع نهارًا، لانتفاء الإثم.
١٠ً - ألا يجن أو يموت بعد الوطء في أثناء النهار الذي جامع فيه قبل الغروب: فلا كفارة على من جن أو مات حينئذ لعدم الأهلية، فحدوث الجنون أو الموت يسقط الكفارة قطعًا، لأنه تبين بطروء ذلك أنه لم يكن في صوم، لمنافاته له، أي أن صوم هذا اليوم خرج عن كونه مستحقًا، فلم يجب بالوطء فيه كفارة، كصوم المسافر، أو كما لو قامت البينة أنه من شوال.
١١ً - أن يكون الوطء منسوبًا إليه: فلو عَلَتْه امرأة وأنزل بالإدخال، فلا كفارة عليه، إلا إن أغراها بذلك.
١٢ً - أن يكون الجماع بإدخال الحشفة، أو قدرها من مقطوعها، فلا كفارة على من لم يتحقق منه الإيلاج بالقدر المذكور، ولكن يجب عليه الإمساك.
١٣ً - أن يتم الجماع في فرج ولو دبرًا، أو ميتة أو بهيمة: فلا كفارة على من وطئ في غير فرج. ووطء المرأة في الدبر، واللواط، كالوطء في الفرج.
١٤ً - أن يكون واطئًا لا موطوءًا: فلا كفارة على المفعول به مطلقًا وإنما الكفارة على الفاعل، وتلزم المرأة بالقضاء فقط.
وحدوث السفر أو المرض أو الإغماء أو الردة بعد الجماع لا يسقط الكفارة، لتحقق هتك حرمة الصوم قبل ذلك؛ لأن المرض والسفر لا ينافيان الصوم، فيتحقق هتك حرمته، وأما طروء الردة فلا يبيح الفطر.
ويجب قضاء اليوم الذي أفسده (يوم الإفساد) على الصحيح مع الكفارة.
وتتعدد الكفارة بتعدد الفساد، فمن جامع في يومين لزمه كفارتان؛ لأن كل يوم عبادة مستقلة، فلا تتداخل كفارتاهما، كحجتين جامع فيهما، ولو جامع في جميع أيام رمضان لزمه كفارات بعددها.
وتلزم الكفارة من انفرد برؤية الهلال، وجامع في يومه.
ما لا يفسد الصوم عند الشافعية:
لا يفسد الصوم بوصول شيء إلى الجوف بنسيان أو إكراه أو جهل يعذر به شرعًا، ولا بما عجز عن مجه كالنخامة وما بين الأسنان من الطعام، ولا بما يشق الاحتراز عنه كغبار الطريق وغربلة الدقيق والذباب والبعوض.
ولا يفسد الصوم أيضًا بالفصدِ، إذ لا خلاف فيه، ولا بالحجامة؛ «لأنه ﷺ احتجم وهو صائم، واحتجم وهو محرِم» (١)، لكنها تكره إلا لحاجة.
ولا يفسد بالاكتحال ولكنه خلاف الأولى على الراجح، ولا بالتقبيل ولكنه
(١) رواه البخاري، وروى النسائي «احتجم وهو صائم محرم» وهو ناسخ لحديث «أفطر الحاجم والمحجوم».
يكره لمن حركت القبلة شهوته، ولا بالمعانقة والمباشرة، ولا بالإنزال بفكر ونظر بشهوة، ولا بمضغ العلك (اللبان غير المشوب بشيء) أو ذوق الطعام، ولكنهما يكرهان إلا لحاجة، ولا بالسواك، ولكنه يكره بعد الزوال إلا لسبب يقتضيه كأكل بصل نسيانًا، ولا بالتمتع بالشهوات من المبصرات والمشمومات والمسموعات، ولكنه يكره.
الحنابلة (١): إفساد الصوم إما أن يوجب القضاء أو القضاء والكفارة.
الأول - ما يفسد الصوم ويوجب القضاء فقط: هو مايأتي:
١ً - دخول شيء مادي من منفذ إلى الجوف أو الدماغ عمدًا واختيارًا، مع تذكر الصوم، ولو جهل التحريم، سواء أكان مغذيًا كالأكل والشرب أم غير مغذٍّ كالحصاة وابتلاع النخامة والسعوط (النشوق) والدواء أو الدهن الذي يصل إلى الحلق أو الدماغ، والحقنة في الدبر، وابتلاع الدخان قصدًا، لأنه واصل إلى جوفه باختياره، فأشبه الأكل. فلا يفطر بوصول شيء غير قاصد الفعل، أو ناسيًا أو نائمًا أو مكرهًا، لحديث: «عفي عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» وحديث «من نسي وهو صائم ...».
٢ً - الاكتحال بكحل يتحقق معه وصوله إلى الحلق؛ لأن النبي ﷺ «أمر بالإثمد المروح عند النوم، وقال: ليتقه الصائم» (٢)، ولأن العين منفذ، لكنه غير معتاد، كالواصل من الأنف. فإن لم يتحقق وصوله إلى حلقه، فلا فطر، لعدم تحقق ما ينافي الصوم.
(١) المغني: ١٠٢/ ٣ - ١٢٧،١٣٥ - ١٣٧، كشاف القناع: ٣٦٢/ ٢،٣٧٠ - ٣٨١.
(٢) رواه أبو داود والبخاري في تاريخه، من حديث عبد الرحمن بن النعمان بن سعيد بن هوذة عن أبيه عن جده، لكنه ضعيف.
٣ً - الاستقاءة أي استدعاء القيء عمدًا، فقاء طعامًا أو مرارًا، أو بلغمًا أو دمًا أوغيره، ولو قل، لحديث أبي هريرة المرفوع: «من ذَرَعه القيء فليس عليه قضاء، ومن استقاء عمدًا فليقض» (١)
٤ً - الحجامة: يفطر بها الحاجم والمحجوم إذا ظهر دم، وإلا لم يفطر، لحديث «أفطر الحاجم والمحجوم» (٢) وقالوا: إن حديث الجمهور القاضي بعدم الإفطار بالحجامة منسوخ بهذا الحديث، بدليل ما روى ابن عباس أنه قال: احتجم رسول الله ﷺ بالقاحة بقرن وناب، وهو محرم صائم، فوجد لذلك ضعفًا شديدًا، فنهى رسول الله ﷺ أن يحجم الصائم (٣).
٥ً - التقبيل والاستمناء واللمس والمباشرة دون الفرج فأمنى، أو أمذى، وتكرار النظر فأمنى لا إن أمذى، إذ فعل ذلك عامدًا، وهو ذاكر لصومه: يوجب القضاء بلا كفارة إذا كان صومًا واجبًا، لما روى أبو داود عن عمر: أنه قال: «هششت، فقبلت وأنا صائم، فقلت: يا رسول الله، إني فعلت أمرًا عظيمًا، قبّلت وأنا صائم، قال: أرأيت لو تمضمضت من إناء وأنت صائم؟ قلت: لا بأس به، قال: فَمهْ» فشبه القبلة بالمضمضة من حيث إنها من مقدمات الفطر، فإن القبلة إذا كان معها نزول، أفطر وإلا فلا، فلا فطر بدون إنزال، لقول عائشة: «كان النبي ﷺ يقبل وهو صائم، وكان أملككم لإربه» (٤).
والإفطار بتكرار النظر والإمناء، لأنه إنزال بفعل يلتذ به، ويمكن التحرز منه،
(١) رواه الخمسة، وقال الترمذي: حسن غريب، ورواه أيضًا الدارقطني وقال: إسناده كلهم ثقات.
(٢) رواه عن النبي ﷺ أحد عشر نفسًا، منهم رافع بن خديج الذي روى حديثه أحمد والترمذي (نيل الأوطار: ٢٠٠/ ٤).
(٣) رواه أبو إسحاق الجوزجاني.
(٤) رواه البخاري، والإرب: حاجة النفس ووطرها.
فأشبه الإنزال باللمس. أما عدم الإفطار بتكرار النظر والإمذاء، فلأنه لانص فيه، والقياس على إنزال المني، لمخالفته إياه في الأحكام.
٦ً - الردة مطلقًا، لقوله تعالى: ﴿لئن أشركت ليحبطن عملك﴾ [الزمر:٦٥/ ٣٩].
٧ً - الموت يفسد صوم اليوم الذي مات فيه الصائم في صوم النذر والكفارة، فيطعم من تركته مسكين.
٨ً - تبين الغلط في الأكل نهارًا: فإن أكل أو شرب شاكًا في غروب الشمس أفطر وقضى؛ لأن الأصل بقاء النهار، أو أكل أو شرب ظانًا بقاء النهار مالم يتحقق أنه كان بعد الغروب؛ لأن الله تعالى أمر بإتمام الصوم إلى الليل، ولم يتمه، أو أكل ظانًا أنه ليل، فبان نهارًا؛ لأن الله تعالى أمر بإتمام الصوم، ولم يتمه. ويقضي أيضًا لو أكل ونحوه ناسيًا فظن أنه أفطر، فأكل ونحوه عمدًا.
ولا يقضي إن أكل ونحوه ظانًا غروب الشمس، ودام شكه، ولم يتبين له الحال؛ لأن الأصل براءته. أو إن أكل وبان أن أكله كان ليلًا؛ لأنه أتم صومه.
الثاني - ما يوجب القضاء والكفارة معا ً:
وهو شيء واحد وهو الجماع في نهار رمضان، بلا عذر سابق كمن به مرض، في فرج: قبل أو دبر من آدمي أو غيره كبهيمة، من حي أو ميت، أنزل أم لا.
إذا كان عامدًا أو ساهيًا، أو مخطئًا، أو جاهلًا، أو مختارًا أو مكرهًا، سواء أكره في حال اليقظة أم في حال النوم، لحديث أبي هريرة المتفق عليه في إيجاب الكفارة على المجامع، وأما كون الساهي أو الناسي كالعامد في ظاهر المذهب،
والمكره كالمختار، النائم كالمستيقظ، فلأنه ﷺ لم يستفصل الأعرابي، ولو اختلف الحكم بذلك لاستفصله؛ لأن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز، والسؤال معاد في الجواب، كأنه قال: إذا واقعت في صوم رمضان فكفِّر، ولأنه عبادة يحرم الوطء فيه، فاستوى عمده وغيره كالحج. وأما كونه لا فرق بين أن ينزل أو لا، فلأنه في مظنة الإنزال، وأما الكفارة في حالة الإكراه: فلأن الإكراه على الوطء لا يمكن؛ لأنه لا يطأ حتى ينتشر، ولا ينتشر إلا عن شهوة، فكان كغير المكره.
وأما كونه لا فرق بين كون الفرج قبلًا أو دبرًا، من ذكر أو أنثى، فلأنه أفسد صوم رمضان بجماع في الفرج، فأوجب الكفارة. وأما الوطء في فرج البهيمة فلأنه وطء في فرج موجب للغسل مفسد للصوم، فأشبه وطء الآدمية، ويفسد صوم المرأة كالرجل بالجماع، لأنه نوع من المفطرات، فاستوى فيه الرجل والمرأة كالأكل، وتلزمها الكفارة إذا جومعت بغير عذر؛ لأنها هتكت حرمة صوم رمضان بالجماع، فتلزمها الكفارة كالرجل. ولا تلزمها الكفارة مع العذر، كنوم أو إكراه، أو نسيان، أو جهل؛ لأنها معذورة، ويفسد صومها بذلك، فيلزمها القضاء.
لكن لو استدخلت صائمة ذكر نائم أو صبي أو مجنون، بطل صومها للجماع، فيجب عليها القضاء والكفارة، إن كان في نهار رمضان.
وإن تساحقت امرأتان وإن أنزلا، أوأنزل مجبوب بالسحاق، فسد الصوم: لأنه إذا فسد الصوم باللمس مع الإنزال، ففيما ذكر بطريق الأولى، ولا كفارة عليهما ولا على المجبوب في الأصح؛ لأن ذلك ليس بمنصوص، ولا في معنى المنصوص عليه، فيبقى على الأصل.
وإن جامع في يومين من رمضان واحد، ولم يكفر لليوم الأول، فعليه كفارتان؛ لأن كل يوم عبادة، وكالحجتين، وكيومين من رمضانين، وأما إن جامع
ثم جامع في يوم واحد قبل التكفير، فعليه كفارة واحدة بغير خلاف. وإن جامع ثم كفر، ثم جامع في يومه، فعليه كفارة ثانية، لأنه وطء محرم، وقد تكرر فتتكرر هي كالحج.
وتلزم الكفارة إذا وطئ كل من لزمه الإمساك، كمن لم يعلم برؤية الهلال إلا بعد طلوع الفجر، أو نسي النية، أو أكل عامدًا، ثم جامع، لهتكه حرمة الزمن به، ولأنها تجب على المستديم للوطء.
وإذا طلع الفجر وهو مجامع فاستدام الجماع، فعليه القضاء والكفارة، لأنه ترك صوم رمضان بجماع، أثم به لحرمة الصوم، فوجبت به الكفارة، كما لو وطئ بعد طلوع الفجر.
وإن نزع في الحال مع أول طلوع الفجر، فعليه القضاء والكفارة، فالنزع جماع، فلوطلع عليه الفجر وهو مجامع، فنزع في الحال، مع أول طلوع الفجر الثاني، فعليه القضاء والكفارة؛ لأنه يلتذ بالنزع، كما يلتذ بالإيلاج.
ولو جامع يعتقد بقاء الليل، فبان نهارًا وأن الفجر كان قد طلع، وجب عليه القضاء والكفارة؛ لأنه لا فرق بين العامد والمخطئ، كما بينا. ولو جامع في أول النهار، ثم مرض أو جن، أو كانت امرأة فحاضت أو نفست في أثناء النهار، لم تسقط الكفارة؛ لأنه معنى طرأ بعد وجوب الكفارة، فلم يسقطها كالسفر، ولأنه أفسد صومًا واجبًا في رمضان بجماع تام، فاستقرت الكفارة عليه، كما لولم يطرأ عذر.
وإن جامع دون الفرج عمدًا، فأنزل ولومذيًا، فسد الصوم، ولا كفارة، لأنه ليس بجماع، وإن لم ينزل لم يفسد صومه، كاللمس والقبلة.
ولا تجب الكفارة بالفطر في غير رمضان، باتفاق أكثر العلماء، لأنه جامع في غير رمضان، فلم تلزمه كفارة، كما لو جامع في صيام الكفارة، ويفارق القضاء الأداء، لأنه متعين بزمان محترم، فالجماع فيه هتك له، بخلاف القضاء.
ومن به شبق يخاف أن ينشق ذكره أو أنثياه أو مثانته، جامع وقضى ولا يكفر للضرورة مثل أكل الميتة للمضطر، وإن اندفعت شهوته بغير الجماع كالاستمناء بيده أو يد زوجته ونحوه كالمفاخذة، لم يجز له الوطء، كالصائل يندفع بالأسهل، لا ينتقل إلى غيره.
وحكم المريض الذي ينتفع بالجماع في مرضه حكم من خاف تشقق فرجه في جواز الوطء.
وفي حال الضرورة إلى وطء حائض وصائمة بالغ، يكون وطء الصائمة أولى من وطء الحائض؛ لأن تحريم وطء الحائض بنص القرآن. وإن لم تكن الزوجة بالغًا، وجب اجتناب الحائض، للاستغناء عنه بلا محذور، فيطأ الصغيرة وكذا المجنونة.
وإن تعذر قضاء ذي الشبق لدوام شبقه، فهو ككبير عجز عن الصوم، فيطعم لكل يوم مسكينًا، ولا قضاء إلا مع عذر معتاد كمرض أو سفر.
مالا يفسد الصوم:
لا يفطر الصائم بما يأتي:
١ً - بما لا يمكن الاحتراز عنه: كابتلاع الريق وغبار الطريق وغربلة الدقيق والتقطير في إحليل ولو وصل مثانته، لعدم المنفذ، وكذا إن جمع الريق ثم ابتلعه قصدًا، لم يفطر؛ لأنه يصل إلى جوفه من معدنه (أي فمه)، فإن خرج ريقه إلى
ثوبه، أو بين أصابعه، أو بين شفتيه، ثم عاد فابتلعه، أو بلع ريق غيره، أفطر؛ لأنه ابتلعه من غير فمه، فأشبه ما لو بلع غيره. ولا يفطر ببصق النخامة بلا قصد من مخرج الحاء المهملة، فإن ابتلعها أفطر.
٢ً - بالمضمضة والاستنشاق بغير خلاف، سواء أكان في الطهارة أم غيرها وسواء بالغ أم زاد عن الثلاث، بدليل حديث عمر السابق في القبلة، وقياسها على المضمضة، لكن تكره المضمضة عبثًا ولحر أو عطش.
٣ً - بمضغ العلك: وهو الذي لا يتحلل منه أجزاء، وإنما الذي يصلب ويقوى كلما مضغه، ولكن يكره مضغه ولا يحرم؛ لأنه يجمع الريق، ويورث العطش.
٤ً - بالقبلة واللمس والمفاخذة ونحوها بدون إنزال: فإن أنزل فسد صومه، ولا كفارة عليه؛ لأنه ليس بجماع.
٥ً - الإمذاء بتكرار النظر، لأنه لا نص فيه، والإمناء بغير تكرار النظر، لعدم إمكان التحرز من النظرة الأولى، وتكرار النظر بغير إنزال. ولا يفطر إن فكر فأمنى أو أمذى، لقوله ﷺ: «عفي لأمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تعمل أو تتكلم به» (١).
كما لا يفطر إن حصل الإنزال بفكر غالب أي غير اختياري، بأن لم يتسبب فيه، أو احتلم أو أنزل لغير شهوة، كالذي يخرج منه المني لمرض أو لسقطة من موضع عال، أو خروجًا منه لهيجان شهوة من غير أن يمس ذكره بيد، أو أمنى نهارًا من وطء ليل، لأنه لم يتسبب إليه في النهار، أو أمنى ليلًا من مباشرته نهارًا.
(١) رواه أصحاب الكتب الستة عن أبي هريرة، والطبراني عن عمران بن حصين بلفظ «إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها ما لم تتكلم به أو تعمل به» هو صحيح (الجامع الصغير: ٦٨/ ١).
٦ً - الفصد والشرط، وإخراج الدم برعاف، وجرح الصائم نفسه أو جرحه غيره بإذنه ولم يصل إلى جوفه شيء من آلة الجرح، ولو كان الجرح بدل الحجامة، لأنه لا نص فيه، والقياس لا يقتضيه.
٧ً - دخول شيء إلى الجوف غير قاصد الفعل: بأن فعل ذلك ناسيًا أو مكرهًا أو نائمًا، لأنه لا قصد للنائم، وللحديث المتقدم: «من نسي وهو صائم فأكل أو شرب، فليتم صومه، فإنما أطعمه الله وسقاه». ويجب على من رأى الصائم إعلامه إذا أراد الأكل أو الشرب ناسيًا أو جاهلًا، كإعلام نائم إذا ضاق وقت الصلاة.
٨ً - الشك في طلوع الفجر: من أكل أو شرب أو جامع شاكًا في طلوع الفجر، ودام شكه؛ لأن الأصل بقاء الليل، فيكون زمانه الشك منه، ولظاهر الآية: ﴿وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر﴾ [البقرة:١٨٧/ ٢]. لكن يفطر وعليه القضاء إن أكل ظانًا أن الفجر لم يطلع وقد كان طلع، أو أفطر يظن أن الشمس قد غابت ولم تغب، لأنه يمكن التحرز منه.
٩ً - غلبة القيء: فمن ذرعه القيء (١) فلا شيء عليه، بخلاف من استقاء فعليه القضاء.
١٠ً - السواك كل النهاروعدم الاغتسال من الجنابة، لكن يستحب الغسل ليلًا قبل طلوع الفجر الثاني لكل من لزمه الغسل من جنابة وحائض ونفساء انقطع دمها، وكافر أسلم، خروجًا من الخلاف.
(١) ذرعه القيء أي خرج منه بغير اختياره.
١١ً - الكحل إن لم يجد طعمه في الحلق، وتلطيخ باطن القدم بالحناء، مع وجود طعمه بالحلق.
١٢ً - إدخال المرأة أصبعها أو غيرها في فرجها ولو مبتلة.
وخلاصة آراء المذاهب في أهم المواضع السابقة: أن الجماع في نهار رمضان موجب للقضاء والكفارة والإمساك بقية النهار، وكذلك الأكل والشرب عمدًا عند الحنفيةوالمالكية خلافًا لغيرهم قياسًا على الجماع، بجامع انتهاك حرمة الشهر.
ويفطر الصائم بالاتفاق بالقيء عمدًا أو بتناول أي شيء مادي يصل إلى الجوف عمدًا، سواء أكان مغذيًا أم غير مغذٍّ، ولا يفطر بالفصد اتفاقًا كما لا يفطر عند الجمهور بالأكل ونحوه ناسيًا، ويفطر عند المالكية، ولا يفطر بالأكل مكرهًا عند الشافعية والحنابلة، ويفطر عند المالكية والحنفية، ولا يفطر عند الحنابلة بغلبة ماء المضمضة ويفطر بها عند المالكية، وأما عند الشافعية فيفطر في حالة المبالغةأو العبث والتبرد أو الزيادة على الثلاث.
ولا يفطر بالاكتحال عند الشافعية والحنفية، ويفطر به عند المالكية والحنابلة، إن وجد طعم الكحل في الحلق. ولا يفطر عند الجمهور بالحقنة في الإحليل، ويفطر بها عند الشافعية. ولا يفطر عند الجمهور بنبش الأذن بعود أو إدخاله فيها، ويفطر به عند الشافعية.
ولا يفطر بالحجامة عند الجمهور وإنما تكره، ويفطر بها عند الحنابلة. ولا يفطر بإنزال المذي عند الحنفية والشافعية، ويفطر به عند المالكية والحنابلة في حال التقبيل أو المباشرة فيما دون الفرج، أما في حال تكرار النظر فلا يفطر به عند الحنابلة، ويفطر في رأي المالكية به أو بالتفكر عند الاستدامة، أو الاعتياد.
وتتداخل الكفارة فلا تجب إلا واحدة بتكرر الإفطار في أيام عند الحنفية، وتتعدد الكفارة بتعدد الإفطار في أيام مختلفة عند الشافعية والحنابلة والمالكية (الجمهور).
المبحث الثامن - قضاء الصوم وكفارته وفديته:
وفيه مطالب ثلاثة:
المطلب الأول - قضاء الصوم:
أولًا - لوازم الإفطار: قال المالكية: يترتب على الإفطار سبعة أمور هي: القضاء، والكفارة الكبرى، والكفارة الصغرى (وهي الفدية)، والإمساك، وقطع التتابع، والعقوبة، وقطع النية (١).
ثانيًا - حكم القضاء: يجب باتفاق الفقهاء القضاء على من أفطر يومًا أو أكثر من رمضان، بعذر كالمرض والسفر والحيض ونحوه، أو بغير عذر كترك النية عمدًا أو سهوًا (٢)، لقوله تعالى: ﴿فمن كان منكم مريضًا أو على سفر فعدة من أيام أخر﴾ [البقرة:١٨٤/ ٢ - ١٨٥] والتقدير: فأفطر فعدة. وقالت عائشة في حديث سابق: «كنا نحيض على عهد رسول الله ﷺ، فنؤمر بقضاء الصوم».
ويأثم المفطر بلا عذر، لقوله ﷺ: «من أفطر يومًا من رمضان من غير
(١) القوانين الفقهية: ص١٢٢ - ١٢٥.
(٢) فتح القدير: ٨٠/ ٢ ومابعدها، بداية المجتهد: ٢٨٨/ ١، الشرح الصغير: ٧٠٣/ ١، مغني المحتاج: ٤٣٧/ ١، كشاف القناع: ٣٨٩/ ٢، المغني: ١٣٥/ ٣.
رخصة (١)، ولا مرض، لم يقضه (٢) صوم الدهر كله، وإن صامه» (٣).
والمقضي وجوبًا: هو رمضان، وأيام الكفارة، والنذر، وحالة الشروع في التطوع في رأي الحنفية والمالكية، لكن المالكية أوجبوا القضاء على من أفطر في التطوع متعمدًا، أما من أفطر فيه ناسيًا، أتم ولا قضاء عليه إجماعًا، وإن أفطر فيه بعذر مبيح فلا قضاء.
ووقت قضاء رمضان: ما بعد انتهائه إلى مجيء رمضان المقبل، ويندب تعجيل القضاء إبراء للذمة ومسارعة إلى إسقاط الواجب، ويجب العزم على قضاء كل عبادة إذا لم يفعلها فورًا، ويتعين القضاء فورًا إذا بقي من الوقت لحلول رمضان الثاني بقدر ما فاته، ويرى الشافعية وجوب المبادرة بالقضاء أي القضاء فورًا إذا كان الفطر في رمضان بغير عذر شرعي، ويكره لمن عليه قضاء رمضان أن يتطوع بصوم. وأما إذا أخر القضاء حتى دخل رمضان آخر، فقال الجمهور: يجب عليه بعد صيام رمضان الداخل القضاء والكفارة (الفدية). وقال الحنفية: لا فدية عليه سواء أكان التأخير بعذر أم بغير عذر. وتتكرر الفدية عند الشافعية بتكرر الأعوام.
ولكن لا يجزئ القضاء في الأيام المنهي عن صومها كأيام العيد، ولا في الوقت المنذور صومه كالأيام الأولى من ذي الحجة، ولا في أيام رمضان الحاضر؛ لأنه متعين للأداء، فلا يقبل صومًا آخر سواه. ويجزئ القضاء في يوم الشك لصحة صومه تطوعًا، كما تقدم.
(١) الرخصة في الأمر: خلاف التشديد فيه، والمراد هنا: إجازة تثبت العذر كسفر في طاعة، أو سبب أباح الله له به الفطر.
(٢) أي لم يؤد قضاءه بالفعل، ولم يجزه في الواقع.
(٣) رواه الترمذي، واللفظ له، وأبو داود والنسائي، وابن ماجه وابن خزيمة في صحيحه، والبيهقي، من حديث أبي هريرة (الترغيب والترهيب: ١٠٨/ ٢).
والقضاء يكون بالعدد، فإذا كان رمضان تسعة وعشرين يومًا، وجب قضاء ذلك المقدار فقط من شهر آخر.
تتابع القضاء: اتفق أكثر الفقهاء (١) على أنه يستحب موالاة القضاء أو تتابعه، لكن لا يشترط التتابع والفور في قضاء رمضان، فإن شاء فرقه وإن شاء تابعه، لإطلاق النص القرآني الموجب للقضاء، إلا إذا لم يبق من شعبان المقبل إلا ما يتسع للقضاء فقط، فيتعين التتابع لضيق الوقت، كأداء رمضان في حق من لاعذر له.
ودليل عدم وجوب التتابع ظاهر قوله تعالى: ﴿فعدة من أيام أخر﴾ [البقرة:١٨٤/ ٢ - ١٨٥] فإنه يقتضي إيجاب العدد فقط، لا إيجاب التتابع.
وشرط الظاهرية والحسن البصري التتابع، لما روي عن عائشة أنها قالت: «نزلت: فعدة من أيام أخر متتابعات» فسقط: متتابعات.
صوم الولي عن الميت قضاء: من مات وعليه صيام شيء من رمضان فله حالان (٢):
أحدهما - أن يموت قبل إمكان الصيام، إما لضيق الوقت أو لعذر من مرض أو سفر أو عجز عن الصوم، فلا شيء عليه عند أكثر العلماء لعدم تقصيره، ولا إثم عليه؛ لأنه فرض لم يتمكن منه إلى الموت، فسقط حكمه إلى غير بدل كالحج. وبناء عليه: إن مات المريض أو المسافر، وهما على حالهما، لم يلزمهما القضاء.
(١) فتح القدير: ٨١/ ٢، اللباب: ١٧١/ ١، مراقي الفلاح: ص١١٦، بداية المجتهد: ٢٨٩/ ١، مغني المحتاج: ٤٤٥/ ١، الحضرمية: ص١١٣، كشاف القناع: ٣٨٨/ ٢ ومابعدها، القوانين الفقهية: ص١٢١، المغني: ١٥٠/ ٣.
(٢) اللباب: ١٧٠/ ١، فتح القدير: ٨٣/ ٢ - ٨٥، بداية المجتهد: ٢٩٠/ ١، مغني المحتاج: ٤٣٨/ ١ ومابعدها، المغني: ١٤٢/ ٣ ومابعدها، كشاف القناع: ٣٦٠/ ٢، القوانين الفقهية: ص١٢١، المهذب: ١٨٧/ ١.
الحال الثاني - أن يموت بعد إمكان القضاء، فلا يصوم عنه وليه أي لم يجب صومه عند أكثر الفقهاء، ولم يصح صومه عنه عند الشافعية في الجديد؛ لأنه عبادة بدنية محضة، وجبت بأصل الشرع فلم تدخلها النيابة في الحياة وبعد الموت كالصلاة، ولحديث: «لا يصلي أحد عن أحد، ولا يصوم أحد عن أحد، ولكن يطعم عنه مكان كل يوم مدّ من حنطة» (١) ويستحب عند الحنابلة للولي أن يصوم عن الميت؛ لأنه أحوط لبراءة الميت.
وهل يجب الإطعام عنه من التركة؟ قال الحنفية والمالكية: إن أوصى بالإطعام، أطعم عنه وليه لكل يوم مسكينًا نصف صاع (٢) من تمر أوشعير؛ لأنه عجز عن الأداء في آخر عمره، فصار كالشيخ الفاني، ولا بد من الإيصاء.
وقال الشافعية في الجديد والحنابلة على الراجح: الواجب أن يطعم عنه لكل يوم مد طعام (٣) لكل مسكين، للحديث السابق، ولقول عائشة أيضًا: «يطعم عنه في قضاء رمضان، ولا يصام عنه» (٤) ولحديث ابن عمر: «من مات وعليه صيام شهر، فليطعم عنه مكان كل يوم مسكينًا» (٥).
هذا ... ويرى أصحاب الحديث وجماعة من محدثي الشافعية وأبو ثور
(١) قال عنه الحافظ الزيلعي: غريب مرفوعًا، وروي موقوفًا على ابن عباس، وابن عمر، فحديث الأول رواه النسائي، والثاني رواه عبد الرزاق في مصنفه (نصب الراية: ٤٦٣/ ٢).
(٢) الصاع: أربعة أمداد وهو يساوي ٢٧٥١ غم.
(٣) المد: رطل وثلث بالرطل البغدادي، وبالكيل المصري: نصف قدح من غالب قوت بلده ويساوي ٦٧٥ غم.
(٤) قال الشوكاني عنه: وهو ضعيف جدًا.
(٥) رواه ابن ماجه.
والأوزاعي والظاهرية وغيرهم أنه يصوم الولي عن الميت إذا مات، وعليه صوم، أي صوم كان من رمضان أو نذرًا، والولي على الأرجح: هو كل قريب، ودليلهم أحاديث ثابتة، منها حديث عائشة المتفق عليه أن رسول الله ﷺ قال: «من مات وعليه صيام، صام عنه وليه» (١) وقيد ابن عباس والليث وأبو عبيد وأبو ثور ذلك بصوم النذر.
المطلب الثاني - الكفارة:
وأما الكفارة: فالكلام في موجبها وحكمها ودليلها، وأنواعها وتعددها (٢):
فموجبها: إفساد صوم رمضان خاصة، عمدًا قصدًا، لانتهاك حرمة الصوم من غير مبيح للفطر، فلا كفارة على من أفطر في قضاء رمضان عند الجمهور، ولا كفارة على الناسي والمكره، ولا تجب في القبلة، ولا على الحائض والنفساء والمجنون والمغمى عليه؛ لأنه من غير فعلهم، ولاعلى المريض والمسافر، والمرهق بالجوع والعطش، والحامل، لعذرهم، ولا على المرتد؛ لأنه هتك حرمة الإسلام، لا حرمة الصيام خصوصًا. وقد سبق بحث الحالات الموجبة للكفارة في المذاهب، وأهمها الجماع بالاتفاق، والإفطار المتعمد بالأكل ونحوه عند الحنفية والمالكية.
وحكمها: أنها واجبة بالفطر في رمضان فقط دون غيره إن أفطر فيه - لدى الحنفية والمالكية - منتهكًا لحرمته، أي غير مبال بها، بأن تعمدها اختيارًا، بلا تأويل
(١) نيل الأوطار: ٢٣٥/ ٤ - ٢٣٧.
(٢) الدر المختار: ١٥٠/ ٢ ومابعدها، مراقي الفلاح: ص١١٢، البدائع: ٨٩/ ٢ ومابعدها، الشرح الصغير: ٧٠٦/ ١ - ٧١٥، بداية المجتهد: ٢٨٩/ ١ - ٢٩٧، القوانين الفقهية: ص١٢٢ - ١٢٤، مغني المحتاج: ٤٤٤/ ١، المهذب: ١٨٤/ ١، المغني ١٢٥/ ٣ - ١٣٤، كشاف القناع: ٣٨١/ ٢ - ٣٨٢.
قريب - على حد تعبير المالكية - احترازًا من الناسي والجاهل والمتأول، فلا كفارة عليهم، كما أبنت، وكان الفطر بجماع ونحوه، وبأكل ونحوه عند الحنفية والمالكية. واشترط الشافعية لإيجاب هذه الكفارة أن يكون المجامع ذاكرًا لصومه، عالمًا بالحرمة، غير مترخص بسفر أو مرض. فمن جامع ناسيًا أو جاهلًا بالحرمة، أو أفسد صومًا غير صوم رمضان، أو أفطر متعمدًا بغير الجماع، أو كان مسافرًا، فلا كفارة عليه، وعليه القضاء فقط.
ودليل إيجابها: حديث أبي هريرة قال: جاء رجل إلى النبي ﷺ، فقال: هلكتُ يا رسول الله، قال: وما أهلكك؟ قال: وقعت على امرأتي في رمضان، قال: هل تجد ما تعتق رقبة؟ قال: لا، قال: فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟ قال: لا، قال: فهل تجد ما تطعم ستين مسكينًا؟ قال: لا.
قال: ثم جلس، فأُتي النبي ﷺ بعَرَق (١) فيه تمر، قال: تصدق بهذا، قال: فهل على أفقر منا، فما بين لابتيها (٢) أهلُ بيت أحوج إليه منا؟! فضحك النبي ﷺ حتى بدت نواجذه، وقال: اذهب فأطعمه أهلك (٣).
وفي لفظ ابن ماجه قال: أعتق رقبة؟ قال: لا أجدها، قال: صم شهرين متتابعين؟ قال: لا أطيق، قال: أطعم ستين مسكينًا. وفي لفظ لابن ماجه وأبي داود في رواية: «وصم يومًا مكانه».
(١) العرق: الزنبيل، وهو المكتل، يسع خمسة عشر صاعًا، ووقع عند الطبراني في الأوسط: أنه أتي بمكتل فيه عشرون صاعًا، فقال: تصدق بهذا.
(٢) اللابتان: تثنية لابة، وهي الحرة، والحرة: الأرض التي فيهاحجارة سود.
(٣) رواه الجماعة عن أبي هريرة (نيل الأوطار:٢١٤/ ٤).
قال الشوكاني: استدل به على سقوط الكفارة بالإعسار لما تقرر أنها لا تصرف في النفس والعيال، ولم يبين ﷺ استقرارها في ذمته إلى حين يساره، وهو أحد قولي الشافعي، وجزم به عيسى بن دينار من المالكية، وقال الجمهور: لاتسقط بالإعسار، قالوا: وليس في الخبر ما يدل على سقوطها عن المعسر، بل فيه ما يدل على استقرارها عليه، والذي أذن له في التصرف فيه ليس على سبيل الكفارة (نيل الأوطار: ٢١٦/ ٤). قال ابن تيمية الجد: وفيه دلالة قوية على الترتيب. وظاهر لفظ الدارقطني: أن المرأة كانت مكرهة.
ويجب قضاء اليوم مع الكفارة. ويجب القضاء على الزوجة الموطوءة إن لم تجب عليها الكفارة.
أنواع الكفارة: ثلاثة: عتق، وصيام، وإطعام، مثل كفارة الظهار والقتل الخطأ في الترتيب عند الجمهور، فإن عجز عن العتق بأن لم يجد رقبة فصيام شهرين متتابعين، فإن لم يستطع صومهما أطعم ستين مسكينًا. والإطعام عند المالكية أفضل الخصال، والكفارة واجبة عندهم على التخيير لا على الترتيب (١). قال الشوكاني: في حديث أبي هريرة دليل على أنه يجزئ التكفير بواحدة من الثلاث الخصال. وظاهر الحديث أيضًا أن الكفارة بالخصال الثلاث على الترتيب. قال البيضاوي: لأن ترتيب الخصال بالفاء. وأضاف الشوكاني قائلًا: وقد وقع في الروايات ما يدل على الترتيب والتخيير، والذين رووا الترتيب أكثر، ومعهم الزيادة (٢)، فيكون دليل المالكية العمل برواية أخرى فيها التخيير.
والخلاصة: إن الكفارة مرتبة في رأي الجمهور، وقال المالكية: الكفارة واجبة في ثلاثة أنواع على التخيير، إما إطعام ستين مسكينًا وهو الأفضل، وصيام شهرين متتابعين، أوعتق رقبة.
فالعتق: تحرير رقبة مؤمنة عند الجمهور غير الحنفية: سليمة من العيوب أي عيوب فوات منفعة البطش والمشي والكلام والنظر والعقل، قياسًا في اشتراط الإيمان على كفارة القتل الخطأ، وقال الحنفية: ولو كانت غير مؤمنة، لإطلاق نص الحديث السابق.
(١) الشرح الصغير: ٧١٣/ ١.
(٢) نيل الأوطار: ٢١٥/ ٤.
والصيام عند العجز عن الرقبة: صيام شهرين متتابعين، ليس فيهما يوم عيد، ولا أيام التشريق، ولا يجزئه الصوم إن قدر على العتق قبل البدء بالصوم، فلو قدر على العتق في أثناء الصوم ولو في آخر يوم، لزمه العتق عند الحنفية، ولم يلزمه عند الجمهور الانتقال عن الصوم إلى العتق، إلا أن يشاء أن يعتق، فيجزئه، ويكون قد فعل الأولى أي يندب له عتق الرقبة. فلو أفطر ولو لعذر إلا لعذر الحيض استأنف عند الحنفية الصوم من جديد، ويستأنف الصوم عند المالكية إن أفطر متعمدًا.
ولا يستأنف إن أفطر ناسيًا أو لعذر، أو لغلط في العدد. وقال الشافعية: لو أفسد يومًا ولو اليوم الأخير ولو بعذر كسفر ومرض وإرضاع ونسيان نية، استأنف الشهرين، لكن لا يضر الفطر بحيض ونفاس وجنون وإغماء مستغرق؛ لأن كلًا منها ينافي الصوم مع كونه اضطراريًا، وقال الحنابلة: لا ينقطع التتابع بالفطر لمرض أو حيض.
والإطعام عند عدم استطاعة الصوم: إطعام ستين مسكينًا، لكل مسكين عند الجمهور مد من القمح بمد النبي ﷺ أو نصف صاع من تمر أوشعير، وعند الحنفية: مدان، أو يغذيهم ويعشيهم غداء وعشاء مشبعين، أو غداءين أو عشاءين، أو عشاء وسحورًا. والمدان أو نصف الصاع: هما من بُر أو دقيقه أو سويقه، أو يعطي كل فقير صاع تمر أوصاع شعير أوزبيب أو يعطي عند الحنفية قيمة نصف الصاع من البر، أو الصاع من غيره من غير المنصوص عليه، ولو في أوقات متفرقة، لحصول الواجب.
ولا يجوز للفقير صرف الكفارة إلى عياله، كالزكاة وسائر الكفارات، وأما خبر «أطعمه أهلك» فهو خصوصية، أو أن لغير المكفر الذي تطوع بالتكفير عن
غيره صرف الكفارة للمكفر عنه تطوعًا. والأصح عند الشافعية أن له العدول عن الصوم إلى الإطعام لغُلمة (أي شدة الحاجة للنكاح)؛ لأن حرارة الصوم وشدة الغلمة قد يفضيان به إلى الوقاع، ولو في يوم واحد من الشهرين، وذلك يقتضي استئنافها لبطلان التتابع، وهو حرج شديد.
وتشترط النية عند أداء الكفارة في رأي الشافعية، بأن ينوي العتق أو الصوم أو الإطعام عن الكفارة؛ لأنها حق مالي أو بدني يجب تطهيرًا كالزكاة والصيام، فلا بد لصحتها من النية.
تعدد الكفارة أو تداخلها بتعدد الإفطار في أيام: إن تكرر الجماع، أو الإفطار بأكل ونحوه في رأي الحنفية والمالكية، قبل التكفير عن الأول، فإما أن يكون في يوم واحد، أو في يومين:
أـ فإن كان في يوم واحد، فكفارة واحدة تجزئه، بالاتفاق.
ب - وإن كان في يومين أو أكثر من رمضان: فعليه كفارتان أو أكثر، عند الجمهور؛ لأن كل يوم عبادة منفردة، فإذا وجبت بإفساده، لم تتداخل، كرمضانين وكالحجتين.
وتجزئ كفارة واحدة عند الحنفية عن جماع وأكل متعمد متعدد في أيام لم يتخلله تكفير، ولو من رمضانين على الصحيح، فإن تخلل تكفير لا تكفي كفارة واحدة في ظاهر الرواية؛ لأن الكفارة جزاء عن جناية تكرر سببها قبل استيفائها، والمقصود بها الزجر، فيجب أن تتداخل كالحد، ويحصل بها مقصودها، وفي حال تخلل التكفير لم يحصل الزجر بعوده لانتهاك حرمة الشهر.
ومن عجز عن الكفارة، استقرت في ذمته، والمعتبر حاله حين التكفير، فإن قدر على خصلة فعلها.
طروء العذر بعد الإفطار عمدا ً: إن حدوث السفر أو المرض بعد الجماع، أو الأكل المقيس عليه عند القائلين به، لا يسقط الكفارة عند الشافعية والمالكية والحنابلة؛ لأن العذر معنى طرأ بعد وجوب الكفارة، فلم يسقطها، ولأن السفر المنشأ في أثناء النهار لا يبيح الفطر عند غير الحنابلة، فلا يؤثر فيما وجب من الكفارة، ولأن المرض، لا ينافي الصوم، فيتحقق هتك حرمته.
ورأى الحنفية أن الكفارة تسقط بعد الإفطار بطروء حيض أو نفاس أو مرض مبيح للفطر في يومه الذي أفسده؛ لأن اليوم لا يتجزأ ثبوتًا وسقوطًا للكفارة، فتمكنت الشبهة في عدم استحقاقه من أوله بعروض العذر في آخره، ولا تسقط عمن سوفر به كرهًا أو سافر اختيارًا، بعد لزومها في ظاهر الرواية، والفرق بين الحالين أنه في السفر المكره عليه لم يجئ العذر من قبل صاحب الحق، وفي غير السفر تمكنت الشبهة في عدم استحقاق الكفارة من أول اليوم بعروض العذر في آخره؛ لأن الكفارة إنما تجب في صوم مستحق، وهو لا يتجزأ ثبوتًا وسقوطًا.
المطلب الثالث - الفدية:
أما الفدية: فالكلام في حكمها، وسببها، وتكررها بتكرر السنين (١):
ف حكم الفدية: الوجوب، لقوله تعالى: ﴿وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين﴾ [البقرة:١٨٤/ ٢] أي على الذين يتحملون الصوم بمشقة شديدة الفدية. والفدية عند الحنفية: نصف صاع من بُرّ، أي قيمته، بشرط دوام عجز الفاني والفانية إلى
(١) مراقي الفلاح: ص١١٦، الكتاب مع اللباب: ١٧٠/ ١ - ١٧١، فتح القدير: ٨١/ ٢ - ٨٢، الشرح الصغير: ٧٢٠/ ١ - ٧٢٢، بداية المجتهد: ٢٨٩/ ١، القوانين الفقهية: ص١٢٤، مغني المحتاج: ٤٤٠/ ١ ومابعدها، المهذب: ١٧٨/ ١،١٨٧، المغني: ١٣٩/ ٣ - ١٤٣، كشاف القناع:٣٨٩/ ٢ ومابعدها.
الموت. ومد من الطعام من غالب قوت البلد عن كل يوم عند الجمهور، بقدر ما فاته من الأيام. ومصارف الفدية والنذور المطلقة والكفارات والصدقات الواجبة: هي مصارف الزكاة.
وسببها:
١ - العجز عن الصيام، فتجب باتفاق الفقهاء على من لا يقدر على الصوم بحال، وهو الشيخ الكبير والعجوز، إذا كان يجهدهما الصوم ويشق عليهما مشقة شديدة، فلهما أن يفطرا ويطعما لكل يوم مسكينًا، للآية السابقة: ﴿وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين﴾ [البقرة:١٨٤/ ٢] وقول ابن عباس: «نزلت رخصة للشيخ الكبير» ولأن الأداء صوم واجب، فجاز أن يسقط إلى الكفارة كالقضاء. والشيخ الهمّ (١) له ذمة صحيحة، فإن كان عاجزًا عن الإطعام أيضًا فلا شيء عليه، و﴿لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها﴾ [البقرة:٢٨٦/ ٢] وقال الحنفية: يستغفر الله سبحانه، ويستقبله أي يطلب منه العفو عن تقصيره في حقه.
وأما المريض إذا مات فلا يجب الإطعام عنه؛ لأن ذلك يؤدي إلى أن يجب على الميت ابتداء، بخلاف ما إذا أمكنه الصوم فلم يفعل، حتى مات؛ لأن وجوب الإطعام يستند إلى حال الحياة.
٢ - وتجب الفدية أيضًا بالاتفاق على المريض الذي لا يرجى برؤه، لعدم وجوب الصوم عليه، كما تقدم، لقوله ﷿: ﴿وما جعل عليكم في الدين من حرج﴾ [الحج:٧٨/ ٢٢].
٣ - وتجب الفدية كذلك عند الجمهور (غير الحنفية) مع القضاء على الحامل
(١) الهم: الشيخ الفاني، والمرأة: هِمَّة.
والمرضع إذا خافتا على ولدهما، أما إن خافتا على أنفسهما، فلهما الفطر، وعليهما القضاء فقط، بالاتفاق. ودليله الآية السابقة: ﴿وعلى الذين يطيقونه فدية ..﴾ [البقرة:١٨٤/ ٢] وهما داخلتان في عموم الآية، قال ابن عباس: «كانت رخصة الشيخ الكبير والمرأة الكبيرة، وهما يطيقان الصيام أن يفطرا، ويطعما مكان كل يوم مسكينًا، والحبلى والمرضع إذا خافتا على أولادهما أفطرتا وأطعمتا» (١)، ولأنه فطر بسبب نفس عاجزة من طريق الخلقة، فوجبت به الكفارة كالشيخ الهرم.
ولا تجب عليهما الفدية مطلقًا عند الحنفية، لحديث أنس بن مالك الكعبي: «إن الله وضع عن المسافر شطر الصلاة، وعن الحامل والمرضع الصوم - أو الصيام - والله لقد قالها رسول الله ﷺ، أحدهما أو كليهما» (٢) فلم يأمر بكفارة، ولأنه فطر أبيح لعذر، فلم يجب به كفارة كالفطر للمرضى.
ورأي الجمهور أقوى وأصح لدي؛ لأنه نص في المطلوب، وحديث أنس مطلق لم يتعرض للكفارة.
٤ - وتجب الفدية أيضًا مع القضاء عند الجمهور (غير الحنفية) على من فرط في قضاء رمضان، فأخره حتى جاء رمضان آخر مثله بقدر ما فاته من الأيام، قياسًا على من أفطر متعمدًا؛ لأن كليهما مستهين بحرمة الصوم، ولا تجب على من اتصل عذره من مرض أو سفر أو جنون أو حيض أو نفاس.
تكرر الفدية: ولا تتكرر الفدية عند المالكية والحنابلة بتكرر الأعوام وإنما
(١) رواه أبو داود (نيل الأوطار: ٢٣١/ ٤).
(٢) رواه النسائي والترمذي، وقال: هذا حديث حسن، وبقية الخمسة (أحمد وأبو داود وابن ماجه) (نيل الأوطار: ٢٣٠/ ٤).
تتداخل كالحدود، والأصح في رأي الشافعية: أنها تتكرر بتكرر السنين؛ لأن الحقوق المالية لا تتداخل (١). وقال الحنفية: لا فدية بالتأخير إلى رمضان آخر، لإطلاق النص القرآني. ﴿فمن كان منكم مريضًا أو على سفر فعدة من أيام أخر﴾ [البقرة:١٨٤/ ٢ - ١٨٥] فكان وجوب القضاء على التراخي، حتى كان له أن يتطوع، فلا يلزمه بالتأخير شيء ولأنه القياس في الكفارات، غير أنه تارك للأولِى من المسارعة في القضاء.
والفدية والكفارة والنذر وقتها العمر كله، والأولى التعجيل بقدر الإمكان وأن تكون الفدية في رمضان، لأن الثواب فيه أكثر. ويرى الحنابلة أن النذر والكفارة واجبان على الفور؛ لأنه مقتضى الأمر.
باقي لوازم الإفطار: أما إمساك بقية اليوم وعقوبة منتهك حرمة صوم رمضان فقد سبق الكلام عليهما.
وأما قطع التتابع: فهو عند المالكية لمن أفطر متعمدًا في صيام النذر والكفارات المتتابعات كالقتل والظهار، فيستأنف، بخلاف من قطع الصوم ناسيًا أو لعذر، أو لغلط في العدة، فإنه يبني على ما كان معه. وقد عرفنا رأي بقية المذاهب الأخرى.
وأما قطع النية: فإنها تنقطع بإفساد الصوم أو تركه مطلقًا لعذر أو لغير عذر، ولزوال تحتم الصوم كالسفر، وإن صام فيه، وإنما ينقطع استصحابها حكمًا. وهذا عند المالكية الذين يكتفون بنية واحدة أول شهر رمضان.
(١) يؤيده ما يروى بإسناد ضعيف عن أبي هريرة عن النبي ﷺ في رجل مرض في رمضان، فأفطر، ثم صح، ولم يصم حتى أدركه رمضان آخر، فقال: يصوم الذي أدركه، ثم يصوم الشهر الذي أفطر فيه، ويطعم كل يوم مسكينًا» ورواه الدارقطني موقوفًا (نيل الأوطار: ٢٣٣/ ٤).
ملحق - ما يلزم الوفاء به من منذور الصوم والصلاة وغيرهما:
قال الحنفية (١): إذا نذر الإنسان شيئًا لزمه الوفاء به بشروط أربعة:
١ً - أن يكون من جنسه واجب: فلا تلزم عيادة المريض أو قراءة المولد النبوي، إذ ليس من جنسها واجب، وإيجاب الإنسان شيئًا على نفسه معتبر بإيجاب الله تعالى، إذ له الاتباع، لا الابتداع.
وأجاز الحنفية نذر صوم يوم العيد، لأن صومه عندهم حرام بوصفه، لا بأصله، أي لما يترتب عليه من الإعراض عن ضيافة الله، أما أصل الصوم فمشروع.
٢ً - أن يكون مقصودًا لذاته، لا لغيره: فلا يلزم الوضوء بنذره، ولا قراءة القرآن، لكون الوضوء ليس مقصودًا لذاته، لأنه شرع شرطًا لغيره، كحل الصلاة.
٣ً - ألا يكون واجبًا: فلا يصح نذر الواجبات كالصلوات الخمس؛ لأن إيجاب الواجب محال، ولا يصح نذر الوتر وسجدة التلاوة عند الحنفية القائلين بوجوبهما؛ لأنها واجبة بإيجاب الشارع.
٤ً - ألا يكون المنذور محالًا كقوله: لله علي صوم الأمس أو البارحة، إذ لايلزمه.
وبناء عليه يصح نذر الاعتكاف، والصلاة غير المفروضة، والصوم والتصدق بالمال، والذبح، لوجود شيء من جنسها شرعًا كالأضحية. ويصح - كما تقدم - عند الحنفية نذر صوم العيدين وأيام التشريق في المختار، لكن يجب فطرها وقضاؤها، وإن صامها أجزأه مع الحرمة.
(١) مراقي الفلاح: ص١١٧.
وإن نذر شيئًا مطلقًا كصلاة ركعتين، أو معلقًا بشرط، مثل إن رزقني الله غلامًا، فعلي إطعام عشرة مساكين، ووجد الشرط، لزمه الوفاء به، لقوله تعالى: ﴿وليوفوا نذورهم﴾ [الحج:٢٩/ ٢٢] ولقوله ﷺ: «من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله، فلا يعصه» (١).
ويلغى عند الحنفية ماعدا زفر تعيين الزمان والمكان والدرهم والفقير، فيجزئه صوم رجب عن نذره صوم شعبان، ويجزئه صلاة ركعتين بأي بلد، وقد كان نذر أداءهما بمكة، أو المسجد النبوي، أو الأقصى، لأن صحة النذر باعتبار القربة، لا المكان؛ لأن الصلاة تعظيم الله تعالى بجميع البدن، والأمكنة كلها في هذا المعنى سواء، وإن تفاوت الفضل. ويجزئه التصدق بدرهم عن درهم عينه له، والصرف لزيد الفقير بنذره لعمر؛ لأن المقصود من الصدقة سد خلة المحتاج، أو ابتغاء وجه الله، وهذا المعنى حاصل بدون مراعاة زمان ومكان وشخص.
وإن علق النذر بشرط، مثل «إن قدم فلان فلله علي أن أتصدق بكذا» لا يجزئه عنه ما فعله قبل وجود شرطه؛ لأن المعلق بالشرط عدم قبل وجوده، وإنما يجوز الأداء بعد وجود السبب الذي علق النذر به.
وسيأتي في بحث النذر تفصيل آراء المذاهب الأخرى.
(١) رواه البخاري.
الفَصْلُ الثَّاني: الاعتِكَاف
فيه مباحث ستة وهي:
المبحث الأول - تعريف الاعتكاف ومشروعيته والهدف منه، ومكانه وزمانه.
المبحث الثاني - حكم الاعتكاف وما يوجبه النذر على المعتكف.
المبحث الثالث - شروط الاعتكاف.
المبحث الرابع - ما يلزم المعتكف وما يجوز له.
المبحث الخامس - آداب المعتكف، ومكروهات الاعتكاف ومبطلاته.
المبحث السادس - حكم الاعتكاف إذا فسد.
وأبدأ ببحثها على الترتيب المذكور.
المبحث الأول - تعريف الاعتكاف ومشروعيته والهدف منه، ومكانه وزمانه:
تعريفه: الاعتكاف لغة: اللبث وملازمة الشيء أو الدوام عليه خيرًا كان أو شرًا. ومنه قوله تعالى: ﴿يعكفون على أصنام لهم﴾ [الأعراف:١٣٨/ ٧] وقوله:
﴿ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون﴾ [الأنبياء:٥٣/ ٢١] وقوله سبحانه: ﴿ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد﴾ [البقرة:١٨٧/ ٢].
وشرعًا له تعاريف متقاربة في المذاهب، قال الحنفية (١): هو اللبث في المسجد الذي تقام فيه الجماعة، مع الصوم، ونية الاعتكاف، فاللبث ركنه؛ لأنه ينبئ عنه، فكان وجوده به، والصوم في الاعتكاف المنذور والنية من شروطه. ويكون من الرجل في مسجد جماعة: وهو ماله إمام ومؤذن، أديت فيه الصلوات الخمس أو لا، ومن المرأة: في مسجد بيتها: وهو محل عينته للصلاة، ويكره في المسجد، ولا يصح في غير موضع صلاتها من بيتها.
وقال المالكية (٢): هو لزوم مسلم مميز مسجدًا مباحًا لكل الناس، بصوم، كافًا عن الجماع ومقدماته، يومًا وليلة فأكثر، للعبادة، بنية. فلا يصح من كافر، ولا من غير مميز، ولا في مسجد البيت المحجور عن الناس، ولا بغير صوم، أي صوم كان: فرض أو نفل، من رمضان أو غيره، ويبطل بالجماع ومقدماته ليلًا أو نهارًا، وأقله يوم وليلة ولا حد لأكثره، بقصد العبادة بنية، إذ هو عبادة، وكل عبادة تفتقر للنية.
وعبارة الشافعية (٣): هو اللبث في المسجد من شخص مخصوص بنية.
وعبارة الحنابلة (٤): هو لزوم المسجد لطاعة الله، على صفة مخصوصة، من مسلم عاقل ولو مميزًا، طاهر مما يوجب غسلًا، وأقله ساعة، فلا يصح من كافر ولو مرتدًا، ولا من مجنون ولا طفل، لعدم النية، ولا من جنب ونحوه ولو متوضئًا، ولا يكفي العبور، وإنما أقله لحظة.
(١) فتح القدير: ١٠٦/ ٢، الدر المختار: ١٧٦/ ٢، مراقي الفلاح: ص١١٨، اللباب: ١٧٤/ ١.
(٢) الشرح الكبير:٥٤١/ ١ ومابعدها، الشرح الصغير: ٧٢٥/ ١ ومابعدها.
(٣) مغني المحتاج: ٤٤٩/ ١.
(٤) كشاف القناع: ٤٠٤/ ٢، المغني: ١٨٣/ ٣.
وأدلة مشروعيته (١): الكتاب والسنة والإجماع، فمن الكتاب: قوله تعالى: ﴿ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد﴾ [البقرة:١٨٧/ ٢] ومثله ﴿أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين﴾ [البقرة:١٢٥/ ٢] فالإضافة في الآية الأولى إلى المساجد المختصة بالقربات، وترك الوطء المباح لأجله، دليل على أنه قربة.
والسنة: لما روى ابن عمر وأنس وعائشة أن «النبي ﷺ كان يعتكف في العشر الأواخر من رمضان، منذ قدم المدينة إلى أن توفاه الله تعالى» (٢) وقال الزهري: «عجبًا من الناس، كيف تركوا الاعتكاف، ورسول الله ﷺ كان يفعل الشيء ويتركه، وما ترك الاعتكاف حتى قبض».
وهو من الشرائع القديمة، قال الله تعالى: ﴿وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين﴾ [البقرة:١٢٥/ ٢].
والهدف منه: صفاء القلب بمراقبة الرب والإقبال والانقطا ع إلى العبادة في أوقات الفراغ، متجردًا لها، ولله تعالى، من شواغل الدنيا وأعمالها، ومسلِّمًا النفس إلى المولى بتفويض أمرها إلى عزيز جنابه والاعتماد على كرمه والوقوف ببابه، وملازمة عبادته في بيته ﷾ والتقرب إليه ليقرب من رحمته، والتحصن بحصنه ﷿، فلا يصل إليه عدوه بكيده وقهره، لقوة سلطان الله وقهره وعزيز تأييده ونصره. فهو من أشرف الأعمال وأحبها إلى الله تعالى إذا كان عن إخلاص لله سبحانه؛ لأنه منتظر للصلاة، وهو كالمصلي، وهي حالة قرب.
فإذا انضم إليه الصوم عند مشترطيها ازداد المؤمن قربًا من الله بما يفيض على الصائمين من طهارة القلوب، وصفاء النفوس.
(١) مراقي الفلاح: ص١٢٠، مغني المحتاج: ٤٤٩/ ١، المغني: ١٨٣/ ٣.
(٢) متفق عليه، عبارة الصحيحين: «أنه ﷺ اعتكف العشر الأوسط من رمضان ثم اعتكف العشر الأواخر، ولازمه حتى توفاه الله تعالى» ثم اعتكف أزواجه من بعده. (نيل الأوطار: ٢٦٤/ ٤).
وأفضله في العشر الأواخر من رمضان ليتعرض لليلة القدر التي هي خير من ألف شهر.
وزمانه: أنه مستحب كل وقت في رمضان وغيره، وأقله عند الحنفية (١) نفلًا: مدة يسيرة غير محدودة، وإنما بمجرد المكث مع النية، ولو نواه ماشيًا على المفتى به؛ لأنه متبرع، وليس الصوم في النفل من شرطه، ويعد كل جزء من اللبث عبادة مع النية بلا انضمام إلى آخر. ولا يلزم قضاء نفل شرع فيه على الظاهر من المذهب؛ لأنه لا يشترط له الصوم.
وأقله عند المالكية (٢): يوم وليلة، والاختيار: ألا ينقص عن عشرة أيام، بمطلق صوم من رمضان أو غيره، فلا يصح من مفطر، ولو لعذر، فمن لا يستطيع الصوم لا يصح اعتكافه.
والأصح عند الشافعية (٣):أنه يشترط في الاعتكاف لبث قدر يسمى عكوفًا أي إقامة، بحيث يكون زمنها فوق زمن الطمأنينة في الركوع ونحوه، فلا يكفي قدرها، ولا يجب السكون، بل يكفي التردد فيه.
وأقله عند الحنابلة (٤): ساعة أي ما يسمى به معتكفًا لابثًا، ولو لحظة. فالجمهور على الاكتفاء بمدة يسيرة، والمالكية يشترطون لأقله يومًا وليلة.
ومكانه: عند الحنفية (٥) للرجل أو المميز في مسجد الجماعة: وهو ما له إمام ومؤذن، سواء أديت فيه الصلوات الخمس أو لا، وأما الجامع فيصح فيه مطلقًا
(١) مراقي الفلاح ونور الإيضاح: ص١١٩.
(٢) الشرح الكبير والصغير، المكان السابق، القوانين الفقهية: ص١٢٥.
(٣) مغني المحتاج: ٤٥١/ ١، المهذب: ١٩٠/ ١ ومابعدها.
(٤) كشاف القناع: ٤٠٤/ ٢.
(٥) الدر المختار ورد المحتار:١٧٦/ ٢.
اتفاقًا، بدليل قول ابن مسعود:
«لا اعتكاف إلا في مسجد جماعة» (١)،وللمرأة في مسجد بيتها: وهو المعد لصلاتها، الذي يندب لها ولكل أحد اتخاذه.
وعند الحنابلة (٢): لا يجوز الاعتكاف من رجل تلزمه الصلاة جماعة إلا في مسجد تقام فيه الجماعة، فلا يصح بغير مسجد بلا خلاف، لقوله تعالى: ﴿ولاتباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد﴾ [البقرة:١٨٧/ ٢] فلو صح في غيرها لم تختص بتحريم المباشرة؛ إذ هي محرمة في الاعتكاف مطلقًا. وإنما اشترط كون المسجد مما يجمع فيه؛ لأن الجماعة واجبة، واعتكاف الرجل في مسجد لا تقام فيه الجماعة يفضي إلى أحد أمرين: إما ترك الجماعةالواجبة، وإما خروجه إليها، فيتكرر ذلك منه كثيرًا مع إمكان التحرز منه، وذلك مناف للاعتكاف: وهو لزوم المعتكف والإقامة على طاعة الله فيه.
ويصح الاعتكاف في كل مسجد في الحالات التالية:
١ً - إن كان الاعتكاف مدة غير وقت الصلاة كليلة، أو بعض يوم، لعدم المانع. وإن كانت الجماعة تقام في مسجد في بعض الزمان، جاز الاعتكاف فيه في ذلك الزمان دون غيره.
٢ً - إن كان المعتكف ممن لا تلزمه الجماعة كالمريض والمعذور والمرأة والصبي ومن هو في قرية لا يصلي فيها سواه، فله أن يعتكف في كل مسجد؛ لأن الجماعة غير واجبة عليه. ولا يصح للمرأة الاعتكاف في مسجد بيتها؛ لأنه ليس بمسجد حقيقة ولا حكمًا، ولوجاز لفعلته أمهات المؤمنين، ولو مرة، تبيينًا للجواز.
وإذا اعتكفت المرأة في المسجد، استحب لها أن تستتر بشيء؛ لأن أزواج
(١) رواه الطبراني (نصب الراية: ٤٩٠/ ٢).
(٢) المغني: ١٨٧/ ٣ - ١٩١، كشاف القناع: ٤٠٩/ ٢ - ٤١٢.
النبي ﷺ لما أردن الاعتكاف أمرن بأبنيتهن، فضربن في المسجد، ولأن المسجد يحضره الرجال، وخير لهم وللنساء ألا يرونهن ولا يرينهم.
ولا يصح الاعتكاف ممن تلزمه الجماعة في مسجد تقام فيه الجمعة دون الجماعة إذا كان يأتي عليه وقت صلاة، حتى لا يترك الجماعة.
ويلاحظ أن سطح المسجد ورحبته المحطوطة به وعليها باب، ومنارته التي تكون فيه أو التي بابها فيه من المسجد، بدليل منع الجنب من الدخول فيما ذكر.
وكذا كل ما زيد في المسجد حتى في الثواب يعد من المسجد، ولو المسجد الحرام ومسجد المدينة، لما روي عن أبي هريرة أن النبي ﷺ قال: «لو بني هذا المسجد إلى صنعاء، كان مسجدي» (١) وقال عمر لما زاد المسجد: «لو زدنا فيه حتى يبلغ الجبانة، كان مسجد النبي ﷺ».
ولو اعتكف من لا تلزمه الجمعة كالمسافر والمرأة في مسجد لا تصلى فيه الجمعة، بطل اعتكافه بخروجه إليها إن لم يشترط الخروج إليها؛ لأنه خروج لازم لا بد له منه.
والأفضل الاعتكاف في المسجد إذا كانت الجمعة تتخلله، لئلا يحتاج إلى الخروج إليها، فيترك الاعتكاف، مع إمكان التحرز منه.
ومن نذر الاعتكاف أو الصلاة في مسجد غير المساجد الثلاثة، فله فعل المنذور من اعتكاف أو صلاة في غيره؛ لأن الله تعالى لم يعين لعبادته موضعًا، فلم يتعين بالنذر، ولو تعين لا حتاج إلى شد رحل.
وإن نذر الاعتكاف أو الصلاة في أحد المساجد الثلاثة: المسجد
(١) حديث ضعيف، رواه الزبير بن بكار في أخبار المدينة.
الحرام، ومسجد النبي ﷺ، والمسجد الأقصى، لم يجزئه في غيرها، لفضل العبادة فيها على غيرها، فتتعين بالتعيين. وله شد الرحال إلى المسجد الذي عينه من الثلاثة، لحديث أبي هريرة: «لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، والمسجد الأقصى، ومسجدي هذا» (١).
وأفضلها المسجد الحرام، ثم مسجد النبي ﷺ، ثم المسجد الأقصى (٢)، فإن عين الأفضل منها وهو المسجد الحرام في نذره، لم يجزئه الاعتكاف ولا الصلاة فيما دونه، لعدم مساواته له.
وقال المالكية (٣): مكان الاعتكاف هو المساجد كلها، ولايصح في مسجد البيوت المحجورة،
ومن نوى الاعتكاف مدة يتعين عليه إتيان الجمعة في أثنائها، تعين الجامع، لأنه إن خرج إلى الجمعة، بطل اعتكافه. ويلزم الوفاء بالنذر في المكان الذي عينه الناذر، فإذا عين مسجد مكة أو المدينة في نذر الصلاة أو الاعتكاف، وجب عليه الوفاء فيهما. والمدينة عند المالكية أفضل من مكة، ومسجدها أفضل من المسجد الحرام، ويليهما المسجد الأقصى، لما رواه الدارقطني والطبراني من حديث رافع بن خديج: «المدينة خير من مكة» ولما ورد في دعائه ﷺ: «اللهم كما أخرجتني من أحب البلاد إلي، فأسكني في أحب البلاد إليك» وروى الطبراني عن بلال بن الحارث المزني: «رمضان بالمدينة خير من ألف رمضان
(١) متفق عليه. وقال بعضهم: إلا مسجد قباء؛ لأنه ﷺ «كان يأتيه كل سبت راكبًا وماشيًا، ويصلي فيه ركعتين» متفق عليه، وكان ابن عمر يفعله.
(٢) روى الجماعة إلا أبا داود عن أبي هريرة: «صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام» ولأحمد وأبي داود من حديث جابر بن عبد الله مثله، وزاد: «وصلاة في المسجد الحرام أفضل من مئة ألف صلاة فيما سواه».
(٣) القوانين الفقهية: ص ١٢٥، الشرح الصغير: ٧٢٥/ ١، ٢٥٣/ ٢ - ٢٥٥،٢٦٥.
فيما سواها من البلدان، وجمعة بالمدينة خير من ألف جمعة فيما سواها من البلدان».
وكذلك قال الشافعية (١): إنما يصح الاعتكاف في المسجد، سواء في سطحه أو غيره التابع له، والجامع (٢) أولى بالاعتكاف فيه من غيره، للخروج من خلاف من أوجبه، ولكثرة الجماعة فيه، وللاستغناء عن الخروج للجمعة. ويجب الجامع للاعتكاف فيه إن نذر مدة متتابعة فيها يوم الجمعة، وكان ممن تلزمه الجمعة، ولم يشترط الخروج لها.
والجديد أنه لايصح اعتكاف امرأة في مسجد بيتها: وهو المعتزل المهيأ للصلاة؛ لأنه ليس بمسجد بدليل جواز تغييره ومكث الجنب فيه، ولأن نساء النبي ﷺ ورضي عنهن كن يعتكفن في المسجد، ولو كفى بيوتهن لكان لهن أولى.
وإن نذر أن يعتكف في مسجد غير المساجد الثلاثة بعينه، جاز - كما قال الحنابلة - أن يعتكف في غيره؛ لأنه لا مزية لبعضها على بعض، فلم يتعين.
وإن نذر أن يعتكف في أحد المساجد الثلاثة (المسجد الحرام ومسجد المدينة والأقصى) تعين، ولزمه أن يعتكف فيه، لما روى عمر ﵁، قال: «قلت لرسول الله ﷺ: إني نذرت أن أعتكف ليلة في المسجد الحرام، فقال له النبي ﷺ: أوف بنذرك» (٣) ويقوم المسجد الحرام مقامهما لمزيد فضله عليهما وتعلق النسك به، ولا عكس، فلا يقومان مقام المسجد الحرام؛ لأنهما دونه في الفضل، ويقوم مسجد المدينة مقام الأقصى؛ لأنه أفضل منه، ولا عكس، لأنه دونه في الفضل.
والخلاصة: إن المالكية والشافعية يجيزون الاعتكاف في أي مسجد، والحنفية
(١) مغني المحتاج: ٤٥٠/ ١ ومابعدها، المجموع: ٥٠٨/ ٦ ومابعدها، المهذب: ١٩٠/ ١ ومابعدها.
(٢) سمي الجامع لجمعه الناس واجتماعهم فيه.
(٣) رواه البخاري ومسلم.
والحنابلة يشترطو ن كونه في المسجد الجامع، ولا يجوز عند الجمهور الاعتكاف في مسجد البيوت، ويجوز ذلك للمرأة عند الحنفية.
المبحث الثاني - حكم الاعتكاف وما يوجبه النذر على المعتكف:
وفيه مطلبان:
المطلب الأول - حكم الاعتكاف:
الاعتكاف غير المنذور مستحب باتفاق العلماء، ولكن يحسن بيان الآراء المذهبية لتحديد رتبة السنة على وجه الدقة.
فقال الحنفية (١): الاعتكاف ثلاثة أنواع: واجب، وسنة مؤكدة، ومستحب.
أما الواجب: فهو المنذور، كقوله: «لله علي أن أعتكف يومًا» أو أكثر مثلًا.
وأما السنة المؤكدة على سبيل الكفاية: فهي اعتكاف العشر الأواخر من رمضان، لاعتكافه ﷺ العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله، ثم اعتكف أزواجه بعده.
وأما المستحب: فهو في أي وقت سوى العشر الأخير، ولم يكن منذورًا، كأن ينوي الاعتكاف عند دخول المسجد، وأقله: مدة يسيرة، ولو كانت ماشيًا على المفتى به.
والصوم شرط لصحة الاعتكاف المنذور فقط وغير شرط في التطوع، وأقله يوم، فلو نذر اعتكاف ليلة لم يصح، وإن نوى معها اليوم لعدم محليتها للصوم، أما لو نوى بها اليوم صح، والفرق أنه في الحالة الأولى جعل اليوم تبعًا لليلة، ولما بطل نذره في المتبوع وهو الليلة، بطل في التابع وهو اليوم، وأما في الحالة الثانية،
(١) الدر المختار:١٧٧/ ٢، مراقي الفلاح: ص١١٨ ومابعدها، فتح القدير: ١٠٥/ ٢ ومابعدها.
فقد أطلق الليلة، وأراد اليوم مجازًا مرسلًا، باستعمال الليلة في مطلق الزمن وهو اليوم، فكان اليوم مقصودًا.
ولو نذر الاعتكاف ليلًا ونهارًا، وإن لم يكن الليل محلًا للصوم، لأنه يدخل الليل تبعًا.
وقال المالكية (١): الاعتكاف قربة ونافلة من نوافل الخير ومندوب إليه بالشرع أو مرغب فيه شرعًا للرجال والنساء، لا سيما في العشر الأواخر من رمضان، ويجب بالنذر.
وقال الشافعية والحنابلة (٢): الاعتكاف سنة أو مستحب كل وقت، إلا أن يكون نذرًا، فيلزم الوفاء به؛ لأن النبي ﷺ فعله وداوم عليه، تقربًا إلى الله تعالى، واعتكف أزواجه بعده معه. فإن نذره وجب الوفاء به على الصفة التي نذرها من تتابع وغيره، لحديث: «من نذر أن يطيع الله فليطعه» (٣) وعن عمر أنه قال: «يا رسول الله: إني نذرت أن أعتكف ليلة في المسجد الحرام، فقال: أوف بنذرك» (٤).
المطلب الثاني - ما يوجبه النذر على المعتكف:
إذا نذر المسلم نذر يوم أو أيام، فهل يدخل معه الليل، وهل يجب التتابع بين الأيام أو لا، ومتى يدخل المعتكف هل قبل الغروب أو قبل طلوع الفجر؟.
(١) الشرح الصغير: ٧٢٥/ ١، القوانين الفقهية: ص١٢٥، بداية المجتهد: ٣٠٢/ ١.
(٢) مغني المحتاج: ٤٤٩/ ١، المهذب: ١٩٠/ ١، المغني: ١٨٤/ ٣، كشاف القناع: ٤٠٥/ ٢.
(٣) رواه البخاري.
(٤) رواه البخاري ومسلم.
الجمهور يرون دخول الليل مع اليوم، ويجب التتابع بين الأيام المنذورة كأسبوع وشهر، ويدخل المعتكف قبل غروب شمس ذلك اليوم، ويخرج بعد الغروب من آخر يوم. والشافعية لا يرون دخول الليلة مع اليوم إلا في العشر الأخير من رمضان، ولا يلزمه التتابع فيه على الأظهر إلا بشرط، ويدخل المعتكف قبل طلوع الفجر، ويخرج منه بعد غروب الشمس (١).
وعبارة الحنفية: من أوجب على نفسه اعتكاف يومين فأكثر، لزمه اعتكافها بلياليها؛ لأن الليالي تدخل تبعًا؛ لأن ذكر الأيام بلفظ الجمع يدخل فيها لياليها، ويلزمه تتابعها وإن لم يشترط التتابع؛ لأن مبنى الاعتكاف على التتابع، بخلاف الصوم فإن مبناه على التفرق؛ لأن الليالي غير قابلة للصوم، فيجب على التفرق، أما الاعتكاف فالأوقات كلها قابلة له.
وتدخل الليلة الأولى، ويدخل المسجد قبل الغروب من أول ليلة، ويخرج منه بعد الغروب من آخر أيامه.
ومن نذر اعتكاف الليالي لزمته الأيام، وتلزمه الليالي بنذر اعتكاف أيام متتابعة، ويلاحظ أن الليالي تابعة للأيام التالية إلا ليلة عرفة وليالي النحر فتبع للنُهُر الماضية رفقًا بالناس.
وعبارة المالكية: ولزم المعتكف يوم بليلته المنذورة، وإن نذر ليلة فقط، فمن نذر ليلة الخميس، لزمه ليلته وصبيحتها، ولا يتحقق الصوم الذي هو من شروط الاعتكاف غير المنذور، فيلزم مانواه قل أو كثر بدخوله معتكفه.
(١) فتح القدير: ١١٤/ ٢ ومابعدها، الدر المختار: ١٨٦/ ٢ ومابعدها، نور الإيضاح: ص١٢٠، اللباب: ١٧٦/ ١، الشرح الصغير: ٧٢٩/ ١ ومابعدها، المجموع: ٥١٩/ ٦ - ٥٢٦، مغني المحتاج: ٤٥٥/ ١ ومابعدها، المهذب: ١٩١/ ١، كشاف القناع: ٤١٢/ ٢ - ٤١٣، المغني: ٢١٠/ ٣ - ٢١٥.
ولزم دخول المعتكف قبل الغروب أو معه، ليتحقق له كمال الليلة. ولزم خروجه من معتكفه بعد الغروب ليتحقق له كمال النهار.
وعبارة الحنابلة: من نذر اعتكاف شهر، لزمه التتابع، ودخلت فيه الليالي، ودخل معتكفه قبل غروب شمس ليلته الأولى، ولا يخرج إلا بعد غروب شمس آخر أيامه.
وإن نذر اعتكاف يوم لم يجز تفريقه، ولم تدخل ليلته، ويلزمه أن يدخل معتكفه قبل طلوع الفجر، ويخرج منه بعد غروب الشمس؛ لأن الليلة ليست من اليوم، وهي من الشهر، وإطلاق اليوم يفهم منه التتابع فيلزمه، كما لو قال متتابعًا، وكذا إطلاق الشهر يقتضي التتابع، كما لو حلف: «لا يكلم زيدًا شهرًا» وكمدة الإيلاء والعُنَّة والعدة، بخلاف الصيام. فإن أتى بشهر بين هلالين أجزأه ذلك، وإن كان الشهر ناقصًا، وإن اعتكف ثلاثين يومًا من شهرين جاز؛ وتدخل فيه الليالي؛ لأن الشهر عبارة عنهما، ولا يجزئه أقل من ذلك.
وعبارة الشافعية: إذا نذر اعتكاف يوم لم يلزمه معه ليلة، بلا خلاف، فالليلة ليست من اليوم، بل يلزمه أن يدخل معتكفه قبل طلوع الفجر، ويخرج منه بعد غروب الشمس؛ لأن حقيقة اليوم: ما بين الفجر وغروب الشمس.
وإن نذر اعتكاف شهر بعينه، لزمه اعتكافه ليلًا ونهارًا أي دخلت لياليه، سواء أكان الشهر تامًا أم ناقصًا؛ لأن الشهر عبارة عما بين الهلالين أي جميع الشهر، تم أو نقص إلا أن يستثنيها لفظاَ. وإن نذر اعتكاف نهار الشهر، لزمه النهار دون الليل؛ لأنه خص النهار، فلا يلزمه الليل. وهذا موافق للحنابلة.
والراجح عند الأكثرين من الشافعية أنه إن نوى التتابع أو صرح به، لزمته الليلة، وإلا فلا.
والصحيح أنه لا يجب التتابع بلا شرط، وأنه لو نذر يومًا لم يجز تفريق ساعاته، وأنه لو عين مدة كأسبوع وتعرض للتتابع فيها لفظًا وفاتته، لزمه التتابع في القضاء، وإن لم يتعرض للتتابع لم يلزمه في القضاء جزمًا؛ لأن التتابع فيه لم يقع مقصودًا، بل لضرورة تعين الوقت، فأشبه التتابع في شهر رمضان.
ولو قال: لله علي أن أعتكف العشر الأخير من رمضان، دخلت لياليه، حتى الليلة الأولى، ويجزئه وإن نقص الشهر، لأن هذا الاسم يقع على ما بعد العشرين إلى آخر الشهر، بخلاف قوله: عشرة أيام من آخر الشهر، وكان ناقصًا لا يجزئه؛ لأنه جرَّد القصد إليها، فيلزمه أن يعتكف بعده يومًا.
ولو نذر اعتكاف يوم معين ففاته فقضاه ليلًا، أجزأه. ولو نذر اعتكاف يوم قدوم زيد فقدم ليلًا، فالمعتمد أن يقضي يومًا كاملًا، وذلك إذا قدم حيًا مختارًا، فلو قدم فيه ميتًا أو قدم مكرهًا، فلا شيء عليه.
المبحث الثالث - شروط الاعتكاف يشترط لصحة الاعتكاف ما يلي (١):
١ً - الإسلام: فلا يصح الاعتكاف من الكافر؛ لأنه من فروع الإيمان.
٢ً - العقل أو التمييز: فلا يصح من مجنون ونحوه، ولا من صبي غير مميز؛ لأنه ليس من أهل العبادات، فلم يصح منه الاعتكاف كالكافر، ويصح اعتكاف الصبي المميز.
(١) الدر المختار: ١٧٧/ ٢ - ١٧٩، فتح القدير: ١٠٦/ ٢ ومابعدها، مراقي الفلاح: ص١١٩، القوانين الفقهية: ص١٢٥، الشرح الصغير: ٧٢٥/ ١ ومابعدها، المهذب: ١٩٠/ ١ - ١٩٢، مغني المحتاج: ٤٥٣/ ١ ومابعدها، المغني: ١٨٤/ ٣ - ١٨٦، كشاف القناع: ٤٠٦/ ٢ - ٤٠٩.
٣ً - كونه في المسجد: فلا يصح في البيوت، كما تقدم، إلا أن الحنفية أجازوا للمرأة الاعتكاف في مسجد بيتها: وهو محل عينته للصلاة فيه.
٤ً - النية اتفاقًا: فلا يصح الاعتكاف إلا بالنية، للحديث المتقدم: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى» ولأنه عبادة محضة، فلم تصح من غير نية كالصوم والصلاة وسائر العبادات. وأضاف الشافعية: إن كان الاعتكاف فرضًا، لزمه تعيين النية للفرض، لتميزه عن التطوع.
٥ً - الصوم: شرط مطلقًا عند المالكية، وشرط عند الحنفية في الاعتكاف المنذور فقط دون غيره من التطوع، وليس بشرط عند الشافعية والحنابلة فيصح بلا صوم، إلا أن ينذره مع الاعتكاف، ويصح عند الجمهور غير المالكية اعتكاف الليل وحده إذا لم يكن منذورًا.
ودليل المشترطين حديث: «لا اعتكاف إلا بصوم» (١).
ودليل غير المشترطين حديث عمر أنه قال: «يا رسول الله، إني نذرت أن أعتكف في المسجد الحرام ليلة، فقال له: أوف بنذرك» (٢) وفي رواية أنه جعل على نفسه أن يعتكف يومًا .. الخ فلم يشترط له الصيام، ولصحة اعتكاف الليل، لأنه لاصيام فيه، ولحديث ابن عباس: «ليس على المعتكف صيام إلا أن يجعله على نفسه» (٣).
٦ً - الطهارة من الجنابة والحيض والنفاس: شرط عند الجمهور، إلا أن الخلو
(١) رواه الدارقطني والبيهقي عن عائشة، إلا أنه ضعيف (نصب الراية: ٤٨٦/ ٢).
(٢) رواه البخاري ومسلم، والدارقطني عن ابن عمر عن عمر (نصب الراية: ٤٨٨/ ٢).
(٣) رواه الدارقطني عن ابن عباس، ورجح الدارقطني والبيهقي وقفه، وأخرجه الحاكم مرفوعًا، وقال: صحيح الإسناد (نيل الأوطار: ٢٦٨/ ٤).وهو المنذور؛ لأن الصوم شرط لصحته، ولا يصح الصوم من الحائض والنفساء.
من الجنابة شرط عند المالكية لحل المكث في المسجد، لا لصحة الاعتكاف، فإذا احتلم المعتكف وجب عليه الغسل إما في المسجد إن وجد فيه ماء، أوخارج المسجد.
وكذلك قال الحنفية: الخلو من الجنابة شرط لحل الاعتكاف، لا لصحته، فلو اعتكف الجنب، صح اعتكافه مع الحرمة. وأما الخلو عن الحيض والنفاس فهو شرط لصحة الاعتكاف الواجب
٧ً - إذن الزوج لزوجته: شرط عند الحنفية والشافعية والحنابلة، فلا يصح اعتكاف المرأة بغير إذن زوجها، ولو كان اعتكافها منذورًا. ورأى المالكية أن اعتكاف المرأة بغير إذن زوجها صحيح مع الإثم.
وأضاف ابن جزي المالكي شرطًا آخر: وهو الاشتغال بالعبادة على قدر الاستطاعة ليلًا ونهارًا، من الصلاة والذكر والتلاوة خاصة، عند ابن القاسم، ومن سائر أعمال الآخرة عند ابن وهب، فعلى الأول، وهو الراجح، لا يشهد جنازة ولا يعود مريضًا، ولا يدرس العلم، وعلى الثاني: يفعل ذلك.
المبحث الرابع: ما يلزم المعتكف وما يجوز له اتفق الفقهاء على أنه يلزم المعتكف في الاعتكاف الواجب البقاء في المسجد، لتحقيق ركن الاعتكاف وهو المكث والملازمة والحبس، ولا يخرج إلا لعذر شرعي أو ضرورة أو حاجة.
قال الحنفية (١):
يجوز للمعتكف الخروج في اعتكاف النفل أو السنة المؤكدة، لأن الخروج
(١) فتح القدير: ١٠٩/ ٢ - ١١٢، الدر المختار ورد المحتار: ١٨٠/ ٢ - ١٨٥، مراقي الفلاح: ص١١٩.
ينهي الاعتكاف ولا يبطله، لكن لو شرع في المسنون وهو العشر الأواخر من رمضان بنيته، ثم أفسده، يجب عليه قضاؤه: أي قضاء العشر كله في رأي أبي يوسف، وقضاء اليوم الذي أفسده لاستقلال كل يوم بنفسه، في رأي جمهور الحنفية.
وحرم على المعتكف اعتكافًا واجبًا الخروج إلا لعذر شرعي كأداء صلاة الجمعة والعيدين، فيخرج في وقت يمكنه إدراكها مع صلاة سنة الجمعة قبلها، ثم يعود، وإن أتم اعتكافه في الجامع صح وكره.
أو لحاجة طبيعية: كالبول والغائط وإزالة النجاسة، والاغتسال من جنابة باحتلام؛ لأنه ﵊ كان لا يخرج من معتكفه إلا لحاجة.
أو لحاجة ضرورية: كانهدام المسجد، أو أداء شهادة تعينت عليه، أو خوف على نفسه أو متاعه من المكابرين، أو إخراج ظالم له كرهًا وتفرق أهله. وعليه أن يدخل مسجدًا آخر غيره من ساعته.
فإن خرج ولو ناسيًا ساعة بلا عذر، فسد الواجب، وانتهى به غيره، وعليه قضاء الواجب الذي أفسده إلا إذا أفسده بالردة؛ لأنها تسقط ما وجب عليه قبلها. وإن خرج لعذر يغلب وقوعه: وهو الحاجة الطبيعية الشرعية لم يفسد اعتكافه. وإن خرج لعذر نادر كإنجاء غريق وانهدام مسجد، فلا يأثم، لكن يبطل اعتكافه، إذا لم يخرج إلى مسجد آخر مباشرة.
ويفسد اعتكافه بالخروج لعيادة مريض أو تشييع جنازة، وإن تعينت عليه، إلا أنه لا يأثم، كما في المرض. قالت عائشة: «السنة على المعتكف ألا يعود مريضًا، ولا يشهد جنازة، ولا يمسَّ امرأة ولا يباشرها، ولا يخرج لحاجة إلا لما لا بد منه،
ولا اعتكاف إلا بصوم، ولا اعتكاف إلا في مسجد جامع» (١).
والأكل والشرب والنوم والعقد المحتاج إليه لنفسه أوعياله كبيع ونكاح ورجعة يكون في معتكفه؛ لأن النبي ﷺ لم يكن له مأوى إلا المسجد، ولأنه يمكن قضاء هذه الحاجة في المسجد، فلا ضرورة إلى الخروج.
فلا بأس بأن يبيع ويبتاع في المسجد من غير أن يحضر السلعة، لأنه قد يحتاج إلى ذلك بأن لا يجد من يقوم بحاجته، لكن يكره تحريمًا البيع لتجارة وإحضار المبيع أو السلعة إلى المسجد، ومبايعة غير المعتكف فيه مطلقًا؛ لأن المسجد محرر عن حقوق العباد، وفيه انشغال بها، وورد حديث: «جنبوا مساجدكم - أو مساجدنا - صبيانكم ومجانينكم، وشراءكم، وبيعكم، وخصوماتكم ... الحديث» (٢)، وثبت أنه «ﷺ نهى عن الشراء والبيع في المسجد، وأن ينشد فيه ضالة، أو ينشد فيه شعر، ونهى عن التحلق قبل الصلاة يوم الجمعة» (٣).
وأما الأكل والشرب والنوم لغير المعتكف في المسجد، فمكروه إلا لغريب، كما في أشباه ابن نجيم، وقال ابن كمال: لايكره الأكل والشرب والنوم فيه مطلقًا مقيمًا كان أوغريبًا، مضطجعًا أو متكئًا، رجلاه إلى القبلة أو إلى غيرها.
وقال المالكية (٤): لا يخرج من معتكفه إلا لأربعة أمور: لحاجة الإنسان، ولما لابد منه من شراء معاشه، وللمرض، والحيض، وإذا خرج لشيء من ذلك، فهو
(١) رواه أبو داود والنسائي (نيل الأوطار: ٢٦٧/ ٤).
(٢) حديث ضعيف رواه ابن ماجه والطبراني في معجمه من حديث واثلة بن الأسقع، ورواه الطبراني أيضًا من حديث أبي الدرداء وأبي أمامة، ورواه عبد الرزاق من حديث معاذ (نصب الراية: ٤٩١/ ٢ - ٤٩٢).
(٣) رواه أصحاب السنن وحسنه الترمذي.
(٤) القوانين الفقهية: ص١٢٥، الشرح الصغير: ٧٣٤/ ١ ومابعدها.
في حكم الاعتكاف حتى يرجع. فلا يخرج لعيادة مريض وصلاة جنازة وصعود لأذان أو سطح للمسجد، ويجوز سلامه على من بقربه، وتطيبه بأنواع الطيب وإن كره للصائم غير المعتكف، لأن معه مانعًا يمنعه من إفساد اعتكافه وهو بالمسجد، وجاز له أن يزوج ويتزوج، ويستصحب ثوبًا غير الذي عليه، لأنه ربما احتاج له.
وقال الشافعية (١): لايجوز للمعتكف أن يخرج من المسجد لغير عذر، لقول عائشة: «إن كان رسول الله ﷺ ليدخل علي رأسه وهو في المسجد، فأرِّجله، وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة الإنسان، إذا كان معتكفًا» (٢) فيجوز أن يخرج رأسه وأرجله أو يخرج للحاجة الطبيعية، ولا يبطل اعتكافه لحديث عائشة هذا. فإن خرج من غير عذر بطل اعتكافه؛ لأنه فعل ما ينافي الاعتكاف: وهو اللبث في المسجد.
وله أن يخرج إلى منارة المسجد ليؤذن فيها، ولو كانت على الراجح خارج المسجد وخارج رحبته (وهي ما كان مضافًا إلى المسجد محجرًا عليه) ولا يبطل اعتكافه، ويجوز أن يمضي إلى البيت للأكل، ولا يبطل اعتكافه، في النصوص؛ لأن الأكل في المسجد ينقص المروءة، فلم يلزمه. كما له الخروج لشرب الماء إن عطش ولم يجد الماء في المسجد.
ويخرج لصلاة الجنازة وعيادة المريض في اعتكاف التطوع، ولا يخرج في اعتكاف الفرض، فإن خرج في الحالين بطل اعتكافه.
ويلزمه الخروج لصلاة الجمعة إن كان من أهل الفرض، والاعتكاف في غير الجامع؛ لأن الجمعة فرض في الشرع، فلا يجوز تركها بالاعتكاف، ويبطل
(١) المجموع: ٥٢٨/ ٦ - ٥٦٥، المهذب: ١٩٢/ ١ - ١٩٤.
(٢) رواه البخاري ومسلم.
اعتكافه وتتابعه في الأصح المشهور من نصوص الشافعي؛ لأنه كان يمكنه الاحتراز من الخروج، بأن يعتكف في غير الجامع، فإن لم يفعل بطل اعتكافه.
ويلزمه الخروج لأداء شهادة إن تعين عليه؛ لأنه تعين لحق آدمي، فقدم على الاعتكاف، ولا يبطل اعتكافه على الراجح؛ لأنه مضطر إلى الخروج. وللمعتكفة أن تخرج إذا طلقت لتعتد، ولا يبطل اعتكافها أيضًا، لاضطرارها إلى الخروج.
ومن مرض مرضًا لا يؤمن معه تلويث المسجد كإطلاق الجوف وسلس البول، خرج كما يخرج لحاجة الإنسان ولا ينقطع التتابع على المشهور الصحيح. وإن كان مرضًا يسيرًا يمكن معه المقام في المسجد من غير مشقة كالصداع ووجع الضرس والعين ونحوها لم يخرج، فإن خرج بطل اعتكافه. وإن كان مرضًا يشق معه الإقامة في المسجد لحاجته إلى الفراش والخادم وتردد الطبيب ونحو ذلك، فيباح له الخروج، والأصح أنه لا ينقطع به التتابع.
وإن أغمي عليه، فأخرج من المسجد، لم يبطل اعتكافه؛ لأنه لم يخرج باختياره وإن سكر فسد اعتكافه. وإن ارتد ثم أسلم بنى على اعتكافه.
وإن حاضت المعتكفة، خرجت من المسجد؛ لأنه لا يمكنها المقام في المسجد، ولم يبطل اعتكافها إن كان في مدة لا يمكن حفظها من الحيض، وإذا طهرت بنَت عليه، كما لو حاضت في صوم شهرين متتابعين. ويبطل اعتكافها إن كان في مدة يمكن حفظهامن الحيض، كما لوحاضت في صوم ثلاثة أيام متتابعة.
ويبطل الاعتكاف بالخروج إلى الحج الذي أحرم به؛ لأن الخروج حدث باختياره لأنه كان يسعه أن يؤخره.
وإن خاف من ظالم فخرج واستتر، لم يبطل اعتكافه؛ لأنه مضطر إلى الخروج بسبب هو معذرو فيه.
وإن خرج من المسجد ناسيًا أو مكرهًا محمولًا أو أكره حتى خرج بنفسه، أو أخرجه السلطان ظلمًا لم يبطل اعتكافه، لقوله ﷺ: «رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» (١) فإن أخرجه السلطان بحق، كأن وجب عليه حق وهو يماطل به مع قدرته عليه، أو أخرجه ليقيم عليه عقوبة شرعية من حد أو قصاص أو تعزير ثبت عليه بإقراره، بطل اعتكافه. وإن ثبت عليه بالبينة لم يبطل ولا ينقطع به التتابع، فإذا عاد بنى.
وإن خرج لعذر، ثم زال العذر، وتمكن من العود، فلم يعد، بطل اعتكافه؛ لأنه ترك الاعتكاف من غير عذر، فأشبه إذا خرج من غير عذر.
ويجور للمعتكف أن يلبس ما يلبسه في غير الاعتكاف؛ لأنه لم ينقل عن النبي ﷺ أنه غيَّر شيئًا من ملابسه. ويجوز أن يتطيب ويتزين؛ لأنه لو حرم التطيب عليه لحرم ترجيل الشعر كالإحرام، وقد روى الشيخان أن عائشة كانت ترجِّل شعر رسول الله ﷺ في الاعتكاف، فدل على أنه لا يحرم عليه الطيب. ويجوز أن يتزوج ويزوج قياسًا على جواز الطيب. ويجوز دراسة العلم وتدريسه، لأن ذلك كله زيادة خير، ويجوز أن يأمر بالأمر الخفيف في ماله وضيعته، ويبيع ويبتاع، لكنه لا يكثر منه؛ لأن المسجد ينزه عن أن يتخذ موضعًا للبيع والشراء، فإن أكثر من ذلك كره لأجل المسجد، ولم يبطل به الاعتكاف. ويجوز أن يأكل في المسجد؛ لأنه عمل قليل لا بد منه، ويجوز أن يضع فيه المائدة؛ لأن ذلك أنظف للمسجد، ويغسل فيه اليد، وإن غسل في الطست فهو أحسن.
(١) حديث حسن رواه ابن ماجه والبيهقي وغيرهما عن ابن عباس بلفظ «إن الله تجاوز عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه».
وقال الحنابلة (١): المعتكف الذي لزمه تتابع الاعتكاف كمن نذر شهرًا أو أيامًا متتابعة ونحوه، لم يجز له الخروج من المسجد إلا لحاجة الإنسان أو لما لا بد له منه، أو لصلاة الجمعة، لحديث عائشة السابق: «السنة للمعتكف ألا يخرج إلا لما لا بد له منه» كحاجة الإنسان من بول وغائط وقيء بغتةً وغسل متنجس يحتاجه، والطهارة عند الحدث كغسل جنابة ووضوء لحدث؛ لأن الجنب يحرم عليه اللبث في المسجد، والمحدث لا تصح صلاته بدون وضوء.
ويخرج المعتكف ليأتي بمأكول ومشروب يحتاجه إن لم يكن له من يأتيه به. ولا يجوز خروجه لأجل أكله وشربه في بيته، لعدم الحاجة، لإباحة ذلك في المسجد، ولا نقص فيه.
ويخرج للجمعة إن كانت واجبة عليه؛ لأنه خروج لواجب فلم يبطل اعتكافه، كالمعتدة، أو شرط الخروج إليها، وإن لم تكن واجبة، للشرط، وله التبكير إليها؛ لأنه خروج جائز، فجاز تعجيله، كالخروج لحاجة الإنسان، وله إطالة المقام بعد الجمعة، ولا يكره لصلاحية الموضع للاعتكاف.
ويخرج لنفير متعين إن احتيج إليه؛ لأن ذلك واجب كالجمعة، ولشهادة تعيَّن عليه أداؤها، ولخوف من فتنة على نفسه أو حرمته، أو ماله نهبًا أو حريقًا ونحوه كالغرق؛ لأنه عذر في ترك الواجب بأصل الشرع كالجمعة، ولمرض يتعذر معه المقام، أو لا يمكنه المقام معه إلا بمشقة شديدة، بأن يحتاج إلى خدمة فراش، ولا يبطل اعتكافه بخروجه لشيء مما تقدم للحاجة إليه.
ولا يجوز له الخروج إن كان المرض خفيفًا كصداع وحمى خفيفة ووجع ضرس؛ لأنه خروج لما له منه بد، فأشبه المبيت ببيته.
(١) المغني: ١٩١/ ٣ - ١٩٦، ٢٠٠ - ٢١٠، كشاف القناع: ٤١٤/ ٢ - ٤٢٠.
ولا يبطل اعتكافه أيضًا إن أكرهه السلطان أو غيره على الخروج من معتكفه، بأن حمل وأخرج، أو هدده قادر بسلطنة، أو تغلب كلص وقاطع طريق، فخرج بنفسه؛ لأن مثل ذلك يبيح ترك الجمعة والجماعة، فهو كالمريض والحائض.
ولا يبطل اعتكافه إن خرج من المسجد ناسيًا، للحديث السابق «عفي عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه»، ويبني على اعتكافه إذا زال العذر في كل ما تقدم مما لا يبطل فيه الاعتكاف.
وتخرج المرأة المعتكفة من المسجد لوجود حيض ونفاس، فإذا طهرت رجعت إلى المسجد؛ لأن اللبث معهما في المسجد حرام. وتخرج أيضًا لعدة وفاة في منزلها، لوجوبها شرعًا كالجمعة، وهو حق لله ولآدمي، لا يستدرك إذا ترك، بخلاف الاعتكاف، ولا يبطل بذلك.
ولا تمنع المستحاضة الاعتكاف؛ لأن الاستحاضة لا تمنع الصلاة، ويجب عليها أن تتحفظ لئلا تلوث المسجد.
ولا يعود المعتكف مريضًا ولا يشهد جنازة، ولا يجهزها خارج المسجد إلا بشرط بأن يشترط ذلك؛ أو وجوب بأن يتعين ذلك عليه، لعدم غيره؛ لأنه لا بد منه إذن.
وإن شرط الوطء في اعتكافه أو الخروج للفرجة أو النزهة أوالبيع للتجارة، أو التكسب بالصناعة في المسجد؛ لم يجز الشرط؛ لأن الله تعالى قال: ﴿ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد﴾ [البقرة:١٨٧/ ٢] فاشتراط ذلك اشتراط لمعصية الله تعالى، والصناعة في المسجد منهي عنها في غير الاعتكاف، ففي الاعتكاف أولى، وسائر ما ذكر يشبه ذلك، ولا حاجة إليه.
ولا يجوز للمعتكف أن يتجر أو يتكسب بالصنعة، إلا ما لابد له منه، للنهي السابق عن البيع والشراء في المسجد.
ولا بأس أن يتزوج (يعقد عقد الزواج) في المسجد، ويشهد النكاح؛ لأن الاعتكاف عبادة لا تحرم الطيب، فلم تحرم النكاح كالصوم، ولأن عقد النكاح طاعة، وحضوره قربة، ومدته لا تتطاول، فيتشاغل به عن الاعتكاف، فلم يكره فيه، كتشميت العاطس ورد السلام.
ولا بأس أن يتنظف بأنواع التنظيف؛ لأن النبي ﷺ «كان يرجل رأسه وهومعتكف» وله أن يتطيب ويلبس الرفيع من الثياب، ولكن ليس ذلك بمستحب.
ولا بأس أن يأكل المعتكف في المسجد، ويضع سُفْرة كيلا يلوث المسجد، ويغسل يده في الطست، ولا يجوز أن يخرج لغسل يده؛ لأن من ذلك بدًا.
والخلاصة: إن الخروج المباح في الاعتكاف الواجب أربعة أنواع:
أحدها: ما لا يوجب قضاء ولا كفارة: وهو الخروج لحاجة الإنسان وشبهه مما لا بد منه.
والثاني: ما يوجب قضاء بلا كفارة: وهو الخروج للحيض.
والثالث: ما يوجب قضاء وكفارة يمين: وهو الخروج لفتنة خاف منها على نفسه إن قعد في المسجد، أو على ماله نهبًا أو حريقًا. فإذا أمن بنى على ما مضى إذا كان نذر أيامًا معلومة، وقضى ما ترك، وكفر كفارة يمين.
والرابع: ما يوجب قضاء، وفي الكفارة وجهان: وهو الخروج الواجب كالخروج في النفير أو العدة أو أداء الشهادة، ففي قول القاضي أبي يعلى: لا كفارة عليه؛ لأنه واجب لحق الله تعالى، فأشبه الخروج للحيض. وظاهر كلام الخرقي: وجوبها؛ لأنه خروج غير معتاد، فأوجب الكفارة، كالخروج لفتنة.
المبحث الخامس - آداب المعتكف ومكروهات الاعتكاف ومبطلاته:
آـ آداب المعتكف (١):
١ ً - يستحب للمعتكف التشاغل على قدر الاستطاعة ليلًا ونهارًا بالصلاة، وتلاوة القرآن، وذكر الله تعالى نحو لا إله إلا الله، ومنه الاستغفار، والفكر القلبي في ملكوت السموات والأرض ودقائق الحكم، والصلاة على النبي ﷺ، وتفسير القرآن ودراسة الحديث، والسيرة، وقصص الأنبياء وحكايات الصالحين، ومدارسة العلم، ونحو ذلك من الطاعات المحضة. وعد المالكية ذلك من شروط الاعتكاف على سبيل الندب، لكنهم مع الحنابلة كرهوا اشتغال المعتكف بعلم ولو شرعيًا، تعليمًا أو تعلمًا إن كثر لا إن قل؛ لأن المقصود من الاعتكاف صفاء القلب بمراقبة الرب، وهو إنما يحصل غالبًا بالأذكار وعدم الاشتغال بالناس، والكتابة ولو كان المكتوب مصحفًا، لما فيها من اشتغال عن ملاحظة الرب تعالى، وليس المقصود من الاعتكاف كثرة الثواب، بل صفاء مرآة القلب الذي به سعادة الدارين.
٢ً - يسن الصيام للمعتكف عند الجمهور (غير المالكية) الذين لا يشترطونه، والمالكية يشترطون الصوم، والحنفية يشترطونه في الاعتكاف المنذور.
٣ً - يندب أن يكون الاعتكاف في المسجد الجامع عند المالكية والشافعية الذين لا يشترطون ذلك، كما اشترطه الحنفية والحنابلة، وأفضل المساجد لذلك: المسجد الحرام ثم المسجد النبوي، ثم المسجد الأقصى.
(١) الدر المختار: ١٨٥/ ١، القوانين الفقهية: ص١٢٥ ومابعدها، الشرح الصغير: ٧٣٠/ ١ - ٧٣٥، المهذب: ١٩٤/ ١، المغني: ٢٠٣/ ٣ ومابعدها، كشاف القناع: ٤٢٢/ ٢.
٤ً - يند ب الاعتكاف في رمضان، لأنه من أفضل الشهور، لا سيما في العشر الأخير من رمضان بالاتفاق؛ لأن فيها ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر؛ لما بينت وهو ما روي عن عائشة:
«أن النبي ﷺ كان إذا دخل العشر الأواخر أحيا الليل، وأيقظ أهله، وشد المئزر» (١).
٥ً - يندب مكث المعتكف ليلة العيد إذا اتصل اعتكافه بها، ليخرج منه إلى المصلى، فيوصل عبادة بعبادة، ولما ورد من فضل إحياء هذه الليلة: «من قام ليلتي العيد، محتسبًا لله تعالى، لم يمت قلبه يوم تموت القلوب» (٢) أي أن الله يثبِّته على الإيمان عند النزع وعند سؤال الملكين وسؤال القيامة.
٦ً - يجتنب المعتكف كل مالا يعنيه من الأقوال والأفعال، ولا يكثر الكلام؛ لأن من كثر كلامه كثر سَقَطه، وفي الحديث: «من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه» (٣).
ويجتنب الجدال والمراء والسباب والفحش، فإن ذلك مكروه في غير الاعتكاف، ففيه أولى، ولا يبطل الاعتكاف بشيء من ذلك؛ لأنه لما لم يبطل بمباح الكلام لم يبطل بمحظور.
ولا يتكلم المعتكف إلا بخير، ولا بأس بالكلام لحاجته، ومحادثة غيره، فإن صفية زوج النبي ﷺ قالت: «كان رسول الله ﷺ معتكفًا، فأتيته أزوره ليلًا، فحدثته، ثم قمت، فانقلبت، أي رجعت فقام معي ليقلبني - وكان مسكنها في دار أسامة بن زيد - فمر رجلان من الأنصار، فلما رأيا النبي ﷺ أسرعا، فقال النبي ﷺ:
(١) متفق عليه (نيل الأوطار: ٢٧٠/ ٤).
(٢) رواه ابن ماجه عن أبي أمامة.
(٣) حديث حسن رواه الترمذي وغيره هكذا عن أبي هريرة.
«على رِسْلكما، إنها صفية بنت حيي، فقالا: سبحان الله، يا رسول الله، فقال: إن الشيطان يجري من الإنسان مجرى الدم، وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما شرًا، أو قال: شيئًا» (١)، وقال علي ﵁: «أيما رجل اعتكف فلا يساب ولا يرفث في الحديث، ويأمر أهله بالحاجة - أي وهو يمشي - ولا يجلس عندهم» (٢).
ب - مكروهات الاعتكاف:
إن ترك بعض الآداب المذكورة مكروه، وكذلك يكره ما يلي في المذاهب الفقهية:
يكره تحريمًا عند الحنفية (٣): إحضار المبيع في المسجد؛ لأن المسجد محرر من حقوق العباد، فلا يجعله كالدكان.
ويكره عقد ما كان للتجارة، لأن المعتكف منقطع إلى الله تعالى، فلا يشتغل بأمور الدنيا.
ويكره الصمت إن اعتقده قربة؛ لأنه منهي عنه؛ لأنه صوم أهل الكتاب، وقد نسخ.
ويكره عند المالكية ما يأتي (٤):
١ً - أن ينقص عن عشرة أيام أو يزيد عن شهر.
(١) متفق عليه.
(٢) رواه الإمام أحمد.
(٣) مراقي الفلاح ونور الإيضاح: ص١١٩، الدر المختار: ١٨٤/ ٢ ومابعدها.
(٤) الشرح الصغير: ٧٣٢/ ١ - ٧٧٤، الشرح الكبير: ٥٨٤/ ١ ومابعدها.
٢ً -أكله بفناء المسجد أو رحبته التي زيدت لتوسعته، وإنما يأكل فيه على حدة.
٣ً - أن يعتكف القادر بدون أكل أو شرب أو لباس حتى لايخرج، فإن اعتكف غير مكفي، خرج لأقرب مكان لشراء ما يحتاجه، وإلا فسد اعتكافه. ويكره اعتكاف ما ليس عنده ما يكفيه.
٤ً - دخوله بمنزل به أهله (أي زوجته) أثناء خروجه لقضاء حاجة، لئلا يطرأ عليه منهما ما يفسد اعتكافه.
٥ً - الاشتغال بعلم إن كثر ولو شرعيًا، تعليمًا أوتعلمًا؛ أو بكتابة وإن كان المكتوب مصحفًا؛ لأن المقصود من الاعتكاف رياضة النفس وصفاء القلب بمراقبة الرب، وذلك يحصل بالذكر والصلاة. وأجاز العلامة خليل للمعتكف إقراء القرآن على غيره أو سماعه من الغير، لا على وجه التعليم والتعلم.
٦ً - الاشتغال بكل فعل غير ذكر وتلاوة وصلاة، كأن يشتغل بعيادة مريض، وصلاة جنازة ولو لاصقت المعتكف، وصعود لأذان بمنار أو سطح، وإقامة الصلاة، أما الإمامة فلا بأس بها، بل مستحبة، لأنه ﷺ كان يعتكف ويصلي إمامًا.
٧ً - السلام على الغير إن بعد، وجاز سلامه على من بقربه. ويكره عند الشافعية (١): الإكثار من اتخاذ موضع للبيع والشراء، أو العمل الصناعي، والحجامة والفصد إن أمن تلويث المسجد، وإلا حرم.
ويكره عند الحنابلة (٢): الاشتغال بإقراء القرآن وتدريس العلم ودرسه
(١) المهذب: ١٩٤/ ١.
(٢) المغني: ٢٠٤/ ٣، كشاف القناع: ٤٢٢/ ٢ ومابعدها.
ومناظرة الفقهاء ومجالستهم وكتابة الحديث ونحو ذلك مما يتعدى نفعه. والخوض فيما لا يعنيه من جدال ومراء وكثرة كلام ونحوه، والصمت عن الكلام؛ لأنه ليس من شريعة الإسلام، لحديث علي: «لا صمات يوم إلى الليل» (١) و«دخل أبو بكر على امرأة من أحمس يقال لها: زينب، فرآها لا تتكلم، فقال: ما لها لا تتكلم؟ فقالوا: حجت مصمتة، فقال لها: تكلمي، فإن هذا لا يحل، هذا من عمل الجاهلية، فتكلمت» (٢).
جـ - مبطلات الاعتكاف:
يبطل الاعتكاف أو يفسد بما يأتي (٣):
١ً - الخروج بلا عذر شرعي كالخروج للبيع والشراء، أو لغير حاجة طبيعية التي هي كالبول أو الغائط، أو لغير ضرورة التي هي كانهدام المسجد، على التفصيل المذكور في «ما يلزم المعتكف» ويبطل الاعتكاف بالخروج المتعين عند المالكية وإن وجب كالخروج للجهاد المتعين والحبس في دين. فإن خرج لضرورة كشراء مأكول أو مشروب ولطهارة أو قضاء حاجة أو غسل جنابة، أو عذر شرعي كالخروج لصلاة الجمعة، فلا يبطل اعتكافه، من غير زيادة على قدر الضرورة، وإلا بطل.
(١) رواه أبو داود بلفظ «لا يتم بعد احتلام ولا صمات يوم إلى الليل» وأسند أبو حنيفة عن أبي هريرة أن النبي ﷺ نهى عن صوم الوصال، وعن صوم الصمت».
(٢) رواه البخاري.
(٣) الدر المختار: ١٨٥/ ٢ ومابعدها، مراقي الفلاح: ص١٢٠، الشرح الكبير: ٥٤٣/ ١ ومابعدها، القوانين الفقهية: ص١٢٦، الشرح الصغير: ٧٢٨/ ١، ٧٣٧ ومابعدها، مغني المحتاج: ٤٥٢/ ١ - ٤٥٥، المهذب: ١٩٣/ ١ ومابعدها، المغني:١٩٦/ ٣ - ٢٠٠، كشاف القناع: ٤٠٩/ ٢ - ٤٢١ ومابعدها.
٢ً -الجماع، ولو كان عند الجمهور ناسيًا أو مكرهًا ليلًا أو نهارًا؛ لأن الوطء في الاعتكاف حرام بالإجماع، لقوله تعالى: ﴿ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد، تلك حدود الله فلا تقربوها﴾ [البقرة:١٨٧/ ٢] فإن وطئ في الفرج عمدًا أفسد اعتكافه بالإجماع.
وكذا في غير العمد عند الجمهور؛ لأن ما حرم في الاعتكاف استوى عمده وسهوه في إفساده كالخروج من المسجد، ولا كفارة في الوطء عند الحنابلة في ظاهر المذهب، وفي باقي المذاهب، لأن الاعتكاف عبادة لا تجب بأصل الشرع، فلم تجب بإفسادها كفارة كالنوافل.
وقال الشافعية: الجماع المفسد هو المتعمد مع العلم والاختيار، فلا يفسد الاعتكاف بالجماع ناسيًا أوجاهلًا أو مكرهًا، كالخروج في هذه الحالات، ولأنها مباشرة لا تفسد الصوم، فلم تفسد الاعتكاف كالمباشرة فيما دون الفرج، ولعموم قوله ﷺ: «رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه».
٣ً - الإنزال في حال المباشرة بشهوة كالقبلة واللمس والتفخيذ، بالاتفاق، لعموم قوله تعالى: ﴿ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد﴾ [البقرة:١٨٧/ ٢].
أما لو أمنى بالتفكير أو بالنظر، أو باشر ولم ينزل، فلا يفسد اعتكافه عندالجمهور؛ لأنها مباشرة لا تفسد صومًا ولا حجًا، فلم تفسد الاعتكاف، كالمباشرة لغير شهوة، لكن الشافعية قيدوا ذلك بما إذا لم يكن عادة له، فإن كان ذلك عادة له فيفسد الاعتكاف.
وقال المالكية: الإمناء بالفكرأو النظر، والمباشرة وإن لم ينزل يفسد الاعتكاف؛ لأنها مباشرة محرمة، فأفسدت الاعتكاف كما لو أنزل، ولا بأس
بالمباشرة لغير شهوة اتفاقًا كأن تغسل رأسه أو تناوله شيئًا؛ لأن «النبي ﷺ كان يدني رأسه إلى عائشة وهو معتكف فترجله» (١).
٤ً - الردة: إذا ارتد المعتكف، بطل اعتكافه لقوله تعالى: ﴿لئن أشركت ليحبطن عملك﴾ [الزمر:٦٥/ ٣٩] ولأنه خرج بالردة عن كونه من أهل الاعتكاف، ولا يقضي عند الجمهور إذا عاد للإسلام ترغيبًا له في الإسلام. ويجب عليه القضاء عند الحنابلة في النذر، وعليه كفارة يمين في نذر أيام معينة كالعشر الأواخر من رمضان.
٥ً - السكر نهارًا، وكذا ليلًا إن تعمده عند الجمهور، وإن دخل في الاعتكاف عند الشافعية، لعدم أهليته للعبادة، لكن قيد الشافعية السكر بأن يحصل بسبب تعديه.
٦ً - الإغماء والجنون الطويلان: فإذا جن المعتكف أو أغمي عليه أيامًا بطل اعتكافه عند الجمهور إذا كان متعديًا بالجنون عند الشافعية، لعدم أهليته للعبادة، ويحسب عند الشافعية زمن الإغماء من الاعتكاف، دون زمن الحيض والنفاس والجنابة والجنون. وقال الحنابلة: لا يبطل الاعتكاف بالإغماء كما لا يبطل بالنوم، بجامع بقاء التكليف.
٧ً- الحيض والنفاس: فإذا حاضت المرأة أو نفست بطل اعتكافها.
٨ً - الأكل عمدًا عند المالكية والحنفية مشترطي الصوم، فإذا أكل المعتكف عمدًا بطل اعتكافه، ولا يبطل بالأكل ناسيًا.
٩ً - الوقوع في كبيرة كالغيبة والنميمة والقذف يبطل الاعتكاف عند المالكية
(١) رواه أحمد والشيخان عن عائشة ﵂
في أحد قولين مشهورين، ولا يبطله عند الجمهور وفي قول مشهور آخر عند المالكية.
المبحث السادس - حكم الاعتكاف إذا فسد:
للفقهاء تفصيلات في ذلك.
ف قال الحنفية (١): الاعتكاف إذا فسد لا يخلو إما أن يكون واجبًا أي منذورًا، وإما أن يكون تطوعًا.
أـ فإن كان واجبًا: أي إذا فسد الاعتكاف الواجب، وجب قضاؤه إلا إذا فسد بالردة خاصة، فإن كان اعتكاف شهر بعينه يقضي قدر ما فسد ليس غير، ولا يلزمه الاستئناف أي البدء من أول الشهر، كصوم رمضان. وإذا كان اعتكاف شهر بغير عينه، يلزمه الاستئناف من أوله؛ لأنه يلزمه متتابعًا، فيراعى فيه صفة التتابع، وذلك سواء فسد بصنعه من غير عذر كالخروج والجماع والأكل والشرب في النهار، إلا في الردة، أو فسد بصنعه بعذر، كما إذا مرض فاحتاج إلى الخروج، أو بغير صنعه كالحيض والجنون والإغماء الطويل؛ لأن القضاء يجب جبرًا للفائت.
وأما دليل سقوط القضاء في الردة: فقوله تعالى: ﴿قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف﴾ [الأنفال:٣٨/ ٨] وقول النبي ﷺ: «الإسلام يجب ما كان قبله» (٢).
ومن نذر اعتكاف شهر بعينه كالمحرم، ثم فات كله، قضى الكل متتابعًا؛ لأنه صار الاعتكاف دينًا في ذمته. وإن قدر على قضائه فلم يقضه حتى أيس من حياته،
(١) البدائع: ١١٧/ ٢، فتح القدير: ١١٤/ ٢.
(٢) حديث ضعيف رواه ابن سعد عن الزبير وعن جبير بن مطعم.
يجب عليه أن يوصي بالفدية لكل يوم طعام مسكين لأجل الصوم، لا لأجل الاعتكاف، كما في قضاء رمضان والصوم المنذور في وقت بعينه. وإن كان مريضًا وقت النذر، فذهب الوقت وهو مريض حتى مات، فلا شيء عليه.
ب - وأما اعتكاف التطوع إذا قطعه قبل تمام اليوم، فلا شيء عليه في رواية الأصل.
وقال المالكية (١): مبطلات الاعتكاف الواجب قسمان:
الأول - ما يبطل ما فعل منه ويوجب استئنافه: كالخروج برجليه معًا بغير ضرورة أو لمرض أحد أبويه، أو لصلاة الجمعة وكان معتكفًا في مسجد غير جامع، وكتعمد الفطر أو السكر، والوطء والقبلة بشهوة واللمس ليلًا. فمن نذر أيامًا معينة كأسبوع أو ثلاثة أيام، ثم حدث منه ما ذكر مما يبطل اعتكافه، لزمه القضاء واستئناف الاعتكاف من أوله.
الثاني - ما يخص زمنه ولا يبطل ما قبله: وهو ثلاثة أنواع:
أـ مايمنع الصوم فقط: وهو وجود العيد وطروء مرض خفيف، فمن نذر شهر ذي الحجة، فلا يخرج يوم الأضحى، وإلا بطل اعتكافه من أصله، ومن أفطر ناسيًا، أو طرأ له مرض خفيف منعه من الصوم، فإنه بعد مضي يوم الفطر، يجب عليه البناء على ما فعله سابقًا.
ب - ما يمنع المكث في المسجد: كسلس البول وإسالة جرح أو دمل يخشى معه تلوث المسجد، فيجب عليه الخروج والعودة فورًا بمجرد زوال عذره المانع من البقاء في المسجد، وبنى على اعتكافه السابق.
(١) الشرح الكبير: ٥٥١/ ١، الشرح الصغير: ٧٢٦/ ١ - ٧٢٨، ٧٣٧ ومابعدها.
جـ - ما يمنع الصوم والمكث في المسجد معًا: كالحيض والنفاس، وحكمه كالحالة السابقة تمامًا.
فإن أخر الرجوع ولو لعذر من نسيان أو إكراه، بطل اعتكافه واستأنفه، إلا إن أخر الرجوع ليلة العيد ويومه، فلا يبطل، لعدم صحة صومه لكل أحد، فإذا حصل للشخص المعتكف حيض أو نفاس أو إغماء أو مرض شديد في أثناء الاعتكاف، فخرج من المسجد للبيت، ثم زال ذلك العذر ليلة العيد، فأخر الرجوع للمسجد حتى مضى يوم العيد، وتالياه في عيد الأضحى، فإن اعتكافه لا يبطل.
أما لوطهرت الحائض أو صح المريض وأخر كل منهما الرجوع، فيبطل الاعتكاف لصحة الصوم بعد زوال العذر.
وقال الشافعية (١): إذا فعل المعتكف في الاعتكاف ما يبطله من خروج أو مباشرة، أو مقام في البيت بعد زوال العذر:
أـ فإن كان ذلك في التطوع، لم يبطل ما مضى من الاعتكاف؛ لأن ذلك القدر لو أفرده واقتصر عليه أجزأه، ولا يجب عليه إتمامه؛ لأنه لا يجب عليه المضي في فاسده، فلا يلزمه بالشروع كالصوم.
ب - وإن كان اعتكافه منذورًا: فإن لم يشرط فيه التتابع، لم يبطل ما مضى من اعتكافه، لما ذكر في التطوع، لكن يلزمه هنا أن يتمم المدة المنذورة؛ لأن الجميع قد وجب عليه، وقد فعل البعض، فوجب الباقي.
وإن كان قد شرط التتابع، بطل التتابع، ويجب عليه أن يستأنف ليأتي به على
(١) مغني المحتاج: ٤٥٤/ ١ ومابعدها، المهذب: ١٩٤/ ١.
الصفة التي وجبت عليه. وعلى هذا يقطع التتابع السكر والكفر وتعمد الجماع وتعمد الخروج من المسجد، لا لقضاء الحاجة، ولا الأكل ولا الشرب إن تعذر الماء في المسجد، ولا للمرض إن شق لبثه فيه، أو خشي تلويثه، ولا الإغماء والجنون إذا حصل أحدهما للمعتكف، ولا إن أكره بغير حق على الخروج، ولا يقطع التتابع الحيض إن لم تسعه مدة الطهر: بأن طالت مدة الاعتكاف بحيث لا ينفك عن الحيض غالبًا بأن يكون أكثر من خمسة عشر يومًا.
ولا يقطعه أيضًا خروج مؤذن راتب (متخصص) إلى منارة المسجد المنفصلة عنه لكنها قريبة منه للأذان، لإلفه صعودها للأذان، وإلف الناس صوته، ولا يقطعه الخروج لإقامة حد ثبت عليه بغير إقراره، ولا لأجل عدة ليست بسببها، ولا لأجل أداء شهادة تعين عليها تحملها وأداؤها، للعذر في جميع ذلك، بخلاف أضداده.
وإن خرج المعتكف من المسجد لغير قضاء الحاجة لزمه استئناف النية، فإن خرج لها لا يلزمه استئناف النية.
وقال الحنابلة (١): إن كان الاعتكاف تطوعًا وخرج من المسجد، لعذر غير معتاد كنفير وشهادة واجبة، وخوف من فتنة ومرض ونحوه وطال خروجه، خيِّر بين الرجوع وعدمه، لعدم وجوبه بالشروع.
وإن كان الاعتكاف واجبًا وجب عليه الرجوع إلى معتكفه لأداء ما وجب عليه. ولا يخلو النذر من ثلاثة أحوال بالاستقراء:
أحدها - نذر اعتكاف أيام غير متتابعة ولا معينة، كنذر عشرة أيام مثلًا:
(١) كشاف القناع:٤١٧/ ٢،٤١٩،٤٢٠.
وحكمه أنه يلزمه أن يتم ما بقي عليه من الأيام محتسبًا بما مضى، ويبتدئ اليوم الذي خرج فيه من أوله، ليكون متتابعًا، ولا كفارة عليه؛ لأنه أتى المنذور على الوجه المطلوب.
الثاني - نذر أيام متتابعة غير معينة، بأن قال: لله علي أعتكف عشرة متتابعة، فاعتكف بعضها، ثم خرج للعذر السابق، وطال خروجه. وحكمه: أنه يخير بين البناء على ما مضى، بأن يقضي ما بقي من الأيام، وعليه كفارة يمين، جبرًا لفوات التتابع، وبين الاستئناف بلا كفارة؛ لأنه أتى بالمنذور على وجهه المطلوب، فلم يلزمه شيء.
الثالث - نذر أيام معينة، كالعشر الأخير من رمضان: وحكمه أن عليه قضاء ما ترك ليأتي بالواجب، وعليه كفارة يمين، لفوات المحل المنذور.
وإن خرج المعتكف جميعه (١) لما له منه بد مختارًا عمدًا، أو مكرهًا بحق كمن عليه دين يمكنه وفاؤه ولم يفعل، فأخرج له، بطل اعتكافه، وإن قل زمن خروجه لذلك؛ لأنه خرج من معتكفه لغير حاجة، كما لو طال.
ثم إن كان في نذر متتابع بشرط أو نية: بأن نذر عشرة أيام متتابعة أو نواها كذلك، ثم خرج لذلك، استأنف؛ لأنه لا يمكنه فعل المنذور على وجهه إلا به، ولا كفارة عليه، لإتيانه بالمنذور على وجهه.
وإن كان خرج من معتكفه مكرهًا بغير حق أو ناسيًا، لم يبطل اعتكافه ويبني على اعتكافه السابق، لحديث: «عفي لأمتي عن الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه».
(١) يفهم منه أنه لو خرج بعض جسده لم يبطل اعتكافه، لقول عائشة: كان النبي ﷺ إذا اعتكف يدني رأسه إليَ، فأرجَله متفق عليه.
وإن كان المعتكف في نذر معين متتابع كنذر شعبان متتابعًا، أو في نذر معين كشعبان ولم يقيد هـ بالتتابع، استأنف، لتضمن نذره التتابع، وكفر كفارة يمين، لتركه المنذور في وقته المعين بلا عذر. ويكون القضاء في الكل والاستئناف في الكل على صفة الأداء فيما يمكن، فإن كان الأول مشروطًا فيه الصوم، أو في أحد المساجد الثلاثة، أو نحو ذلك، فإن المقضي أو المستأنف يكون كذلك. أما ما لا يمكن، كما لو عين زمنًا ومضى، فإنه لا يمكن تداركه.