اسم الكتاب الفِقْهُ الإسلاميُّ وأدلَّتُهُ الشَّامل للأدلّة الشَّرعيَّة والآراء المذهبيَّة وأهمّ النَّظريَّات الفقهيَّة وتحقيق الأحاديث النَّبويَّة وتخريجها
اسم المؤلف: د. وَهْبَة بن مصطفى الزُّحَيْلِيّ
المهنة:أستاذ ورئيس قسم الفقه الإسلاميّ وأصوله بجامعة دمشق - كلّيَّة الشَّريعة
الوفاة 8 أغسطس 2015 الموافق 23 شوال 1436 هـ
التصنيف: الفقه المقارن
المحتويات
- الباب الخامس: الوقف
- الفصل الأول: تعريف الوقف ومشروعيته وصفته وركنه
- أولا ـ تعريف الوقف
- التعريف الأول ـ لأبي حنيفة
- التعريف الثاني ـ للجمهور وهم الصاحبان وبرأيهما يفتى عند الحنفية، والشافعية والحنابلة في الأصح
- التعريف الثالث ـ للمالكية
- ثانيا ـ مشروعية الوقف وحكمته أو سببه
- ثالثا ـ صفة الوقف
- رابعا ـ ركن الوقف
- الفصل الثاني: أنواع الوقف ومحله
- الوقف الخيري
- الوقف الأهلي أو الذري
- محل الوقف
- بيان الرأي الفقهي في بعض أنواع المال الموقوف
- وقف العقار
- وقف المنقول
- وقف المشاع
- وقف حق الارتفاق
- وقف الإقطاعات
- وقف أراضي الحوز
- وقف الإرصاد
- وقف المرهون
- وقف العين المؤجرة
- الفصل الثالث: حكم الوقف
- حكم الوقف
- عند أبي حنيفة
- عند الصاحبين وبرأيهما يفتى
- يرى المالكية
- الأظهر في مذهب الشافعية
- الحنابلة في الصحيح من المذهب
- متى يزول الملك عن الوقف؟
- رأي أبي حنيفة
- المالكية
- الشافعية
- الحنابلة
- موقف القانون من الرجوع في وقف المسجد
- الرجوع في وقف المسجد
- الرجوع في وقف غير المسجد
- الشروط العشرة
- الإعطاء
- الإدخال
- الإخراج
- الزيادة
- النقصان
- التغيير
- الاستبدال
- العودة الي الفقه الإسلامي وأدلته للزحيلي
البَابُ الخامس: الوَقْف
فيه عشرة فصول:
الأول - تعريف الوقف ومشروعيته وصفته وركنه.
الثاني
- أنواع الوقف ومحله.
الثالث - حكم الوقف ومتى يزول ملك الواقف؟.
الرابع
- شروط الوقف.
الخامس - إثبات الوقف شرعًا وقانونًا.
السادس - مبطلات
الوقف،
السابع - نفقات الوقف.
الثامن - استبدال الوقف وبيعه حالة
الخراب.
التاسع - الوقف في مرض الموت.
العاشر - ناظر الوقف (تعيينه،
وشروطه، ووظيفته، وعزله).
وأبدأ ببيانها مستعينًا بالله تعالى.
الفَصْلُ الأوّل: تعريف الوقف ومشروعيَّته وصفته وركنه:
أولًا - تعريف الوقف:
الوقف
والتحبيس والتسبيل بمعنى واحد، وهو لغة: الحبس عن التصرف. يقال: وقفت كذا: أي
حبسته، ولا يقال: أوقفته إلا في لغة تميمية، وهي رديئة، وعليها العامة. ويقال:
أحبس لا حبَس، عكس وقف، فالأولى فصيحة، والثانية رديئة. ومنه: الموقف لحبس الناس
فيه للحساب. ثم اشتهر إطلاق كلمة الوقف على اسم المفعول وهوا لموقوف. ويعبر عن
الوقف بالحبس، ويقال في المغرب: وزير الأحباس.
والوقف شرعًا له في المذاهب
تعاريف ثلاثة:
التعريف الأول - لأبي حنيفة (١):
وهو حبس العين على حكم ملك الواقف، والتصدُّق بالمنفعة على جهة الخير. وبناء عليه
لا يلزم زوال الموقوف عن ملك الواقف ويصح له الرجوع عنه، ويجوز بيعه؛ لأن الأصح
عند أبي حنيفة أن الوقف جائز غير لازم كالعارية، فلا يلزم إلا بأحد أمور ثلاثة
(٢):
١ً - أن يحكم به الحاكم المولى لا المحكَّم، بأن يختصم الواقف مع
الناظر، لأنه يريد أن يرجع بعلة عدم اللزوم، فيقضي الحاكم باللزوم، فيلزم؛ لأنه
أمر مجتهد فيه، وحكم الحاكم يرفع الخلاف.
٢ً - أو أن يعلقه الحاكم بموته:
فيقول: إذا مت فقد وقفت داري مثلًا على كذا، فيلزم كالوصية من الثلث بالموت، لا
قبله.
(١) فتح القدير: ٣٧/ ٥ - ٤٠، ٦٢، اللباب: ١٨٠/ ٢، الدر المختار: ٣٩١/
٣.
(٢) ولكن الأصح المفتى به كما سيأتي هو قول الصاحبين.
٣ً
- أن يجعله وقفًا لمسجد، ويفرزه عن ملكه، ويأذن بالصلاة فيه: فإذا صلى فيه واحد،
زال ملكه عن الواقف عند أبي حنيفة. أما الإفراز فلأنه لا يخلص لله تعالى إلا به،
وأما الصلاة فيه، فلأنه لا بد من التسليم عنده وعند محمد، وتسليم الشيء بحسب
نوعه، وهو في المسجد بالصلاة فيه.
وقد استدل أبو حنيفة على رأيه بدليلين:
١ً
- قوله ﵊: «لا حبس عن فرائض الله» (١) فلو كان الوقف يخرج المال الموقوف عن ملك
الواقف، لكان حبسًا عن فرائض الله؛ لأنه يحول بين الورثة وبين أخذ نصيبهم
المفروض.
لكن لا يدل هذا الحديث مع ضعفه على مقصود الإمام، لأن المراد به
إبطال عادة الجاهلية بقصر الإرث على الذكور الكبار، دون الإناث والصغار.
٢ً
- ما روي عن القاضي شريح أنه قال: «جاء محمد ﷺ ببيع الحبس» فإذا جاء الرسول ﷺ
بذلك، فليس لنا أن نستحدث حبسًا آخر، إذ الوقف تحبيس العين، فهو غير مشروع.
ولكن
لا دلالة أيضًا في هذا القول على مطلوب الإمام؛ لأن الحبس الممنوع هو ماكان يحبس
للأصنام والأوثان، وقد جاء الرسول ﷺ ببيعه وإبطاله قضاء على الوثنية. أما الوقف
فهو نظام إسلامي محض. قال الإمام الشافعي: «لم يحبس أهل الجاهلية فيما علمت، إنما
حبس أهل الإسلام».
(١) رواه الدارقطني عن ابن عباس، وفيه ابن لهيعة أخوه
عيسى ضعيفان.
التعريف الثاني - للجمهور وهم الصاحبان وبرأيهما يفتى عند الحنفية،
والشافعية والحنابلة في الأصح (١):
وهو حبس مال يمكن الانتفاع
به، مع بقاء عينه، بقطع التصرف في رقبته من الواقف وغيره، على مصرف مباح موجود -
أو بصرف ريعه على جهة بر وخير - تقربًا إلى الله تعالى. وعليه يخرج المال عن ملك
الواقف، ويصير حبيسًا على حكم ملك الله تعالى (٢)، ويمتنع على الواقف تصرفه فيه،
ويلزم التبرع بريعه على جهة الوقف. واستدلوا لرأيهم بدليلين:
١ً - حديث ابن
عمر: «أن عمر أصاب أرضًا من أرض خيبر، فقال: يا رسول الله، أصبتُ أرضًا بخيبر، لم
أُصب مالًا قط أنفسَ عندي منه، فما تأمرني؟ فقال: إن شئت حبَّست أصلها وتصدقت
بها، فتصدَّق بها عمر، على ألا تباع ولا توهب ولا تورث، في الفقراء وذوي القربى
والرّقاب والضيف وابن السبيل، لا جناح على من وليها أن يأكل منها بالمعروف،
ويُطْعِم غير متموِّل» (٣) أي غير متخذ منها مالًا أي ملكًا. قال ابن حجر في
الفتح: «وحديث عمر هذا أصل في مشروعية الوقف».
وهو يدل على منع التصرف في
الموقوف؛ لأن الحبس معناه المنع، أي منع العين عن أن تكون ملكًا، وعن أن تكون
محلًا لتصرف تمليكي. لكن يلاحظ أن هذا الحديث لا يدل على خروج المال الموقوف عن
ملك الواقف.
(١) مراجع الحنفية السابقة، مغني المحتاج: ٣٧٦/ ٢، كشاف القناع:
٢٦٧/ ٤، غاية المنتهى: ٢٩٩/ ٢.
(٢) المراد أنه لم يبق على ملك الواقف، ولا
انتقل إلى ملك غيره، بل صار على حكم ملك الله تعالى الذي لا ملك فيه لأحد سواه،
هذا هو المراد وإلا فالكل ملك لله تعالى.
(٣) رواه الجماعة (نيل الأوطار:
٢٠/ ٦).
٢ً - استمر عمل الأمة منذ صدر الإسلام إلى الآن على وقف
الأموال على وجوه الخير، ومنع التصرف فيها من الواقف وغيره.
التعريف الثالث - للمالكية (١):
وهو جعل المالك منفعة مملوكة، ولو كان مملوكًا بأجرة، أو جعل غلته كدراهم،
لمستحق، بصيغة، مدة ما يراه المحبِّس. أي إن المالك يحبس العين عن أي تصرف
تمليكي، ويتبرع بريعها لجهة خيرية، تبرعًا لازمًا، مع بقاء العين على ملك الواقف،
مدة معينة من الزمان، فلا يشترط فيه التأبيد. ومثال المملوك بأجرة: أن يستأجر
دارًا مملوكة أو أرضًا مدة معلومة، ثم يقف منفعتها لمستحق آخر غيره في تلك المدة.
وبه يكون المراد من «المملوك» إما ملك الذات أو ملك المنفعة.
الوقف عند
المالكية لايقطع حق الملكية في العين الموقوفة، وإنما يقطع حق التصرف فيها.
واستدلوا على بقاء الملك في العين الموقوفة بحديث عمر المتقدم، حيث قال له الرسول
﵊: «إن شئت حبَّست أصلها، وتصدقت بها» ففيه إشارة للتصدق بالغلة، مع بقاء ملكية
الموقوف على ذمة الواقف، ومنع أي تصرف تمليكي فيه للغير، بدليل فهم عمر: «على ألا
تباع، ولا توهب، ولاتورث».
وهذا يشبه ملك المحجور عليه لسفه أي تبذير، فإن
ملكه باق في ماله، ولكنه ممنوع من بيعه وهبته. وهذا الرأي أدق دليلًا، ولكن
التعريف الثاني أشهر عند الناس.
واتفق العلماء في وقف المساجد أنها من باب
الإسقاط والعتق، لا ملك لأحد فيها، وأن المساجد لله تعالى.
(١) الشرح
الكبير: ٧٦/ ٤، الشرح الصغير: ٩٧/ ٤ - ٩٨، الفروق: ١١١/ ٢.
ثانيًا - مشروعية الوقف وحكمته أو سببه:
الوقف عند الجمهور غير
الحنفية سنة مندوب إليها، فهو من التبرعات المندوبة، لقوله تعالى: ﴿لن تنالوا
البر حتى تنفقوا مما تحبون﴾ [آل عمران:٩٢/ ٣] وقوله تعالى: ﴿يا أيها الذين آمنوا
أنفقوا من طيبات ما كسبتم، ومما أخرجنا لكم من الأرض﴾ [البقرة:٢٦٧/ ٢] فهو بعمومه
يفيد الإنفاق في وجوه الخير والبر، والوقف: إنفاق المال في جهات البر.
ولقوله
ﷺ في حديث عمر المتقدم: «إن شئت حبَّست أصلها، وتصدقت بها» وقوله ﵊: «إذا مات ابن
آدم، انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به من بعده، أو ولد صالح
يدعو له» (١) والولد الصالح: هو القائم بحقوق الله تعالى وحقوق العباد.
وأكثر
أهل العلم من السلف ومن بعدهم على القول بصحة الوقف، وكان وقف عمر مئة سهم من
خيبر أول وقف في الإسلام على المشهور. وقال جابر ﵁: ما بقي أحد من أصحاب رسول
الله ﷺ له مقدرة إلا وقف.
والوقف من خصائص الإسلام، قال النووي: وهو مما
اختص به المسلمون، قال الشافعي: لم يحبس أهل الجاهلية دارًا ولا أرضًا فيما
علمت.
ويلاحظ أن القليل من أحكام الوقف ثابت بالسنة، ومعظم أحكامه ثابت
باجتهاد الفقهاء بالاعتماد على الاستحسان والاستصلاح والعرف.
وحكمة الوقف أو
سببه: في الدنيا بر الأحباب، وفي الآخرة تحصيل الثواب، بنية من أهله (٢).
(١)
قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
(٢) الدر المختار ورد المحتار: ٣٩٢/ ٣، ٣٩٩
- ٤٠١.
وقال الحنفية: الوقف مباح بدليل صحته من الكافر، وقد
يصبح واجبًا بالنذر، فيتصدق بالعين الموقوفة أو بثمنها. ولو وقفها على من لا تجوز
له الزكاة كالأصول والفروع، جاز في الحكم، أي صح الوقف في حكم الشرع لصدوره من
أهله في محله، لكن لا يسقط به النذر؛ لأن الصدقة الواجبة لا بد من أن تكون لله
تعالى على الخلوص، وصرفها إلى من لا تجوز شهادته له: فيه نفع له، فلم تخلص لله
تعالى، كما لو صرف إليه الكفارة أو الزكاة، وقعت صدقة، وبقيت في ذمته (١).
ثالثًا - صفة الوقف:
الوقف عند أبي حنيفة جائز غير لازم، يجوز الرجوع عنه، فهو تبرع غير لازم، إلا
فيما استثناه سابقًا، وهو بمنزلة الإعارة غير اللازمة، فله أن يرجع فيه متى شاء،
ويبطل بموته، ويورث عنه، كما هو المقرر في حكم الإعارة (٢).
وهو عند محمد بن
الحسن والشافعية والحنابلة (٣): إذا صح صار لازمًا لاينفسخ بإقالة ولا غيرها،
وينقطع تصرف الواقف فيه، ولا يملك الرجوع عنه، ويزول ملكه عن العين الموقوفة،
لحديث عمر المتقدم: «إن شئت حبَّست أصلها، وتصدقت بها، لاتباع ولا توهب ولا تورث»
وهو بمنزلة الهبة والصدقة. فلا بد فيه لترتيب آثاره الشرعية من تسليمه إلى الجهة
الموقوف عليها، كسائر التبرعات. ولا يجوز عند محمد وقف مشاع قابل للقسمة.
ورأى
أبو يوسف: أن الوقف إسقاط ملك، كالطلاق والإعتاق فإنه إسقاط
(١) المرجع
والمكان السابق.
(٢) المرجع السابق: ص ٣٩٤.
(٣) فتح القدير: ٤٥/ ٥،
المهذب: ٤٤٢/ ١، كشاف القناع: ٢٧٨/ ٤، غاية المنتهى: ٣٢٥/ ٢.
للملك
عن الزوجة والعبد، فيتم بمجرد التلفظ، ولا يشترط فيه التسليم، ويصح وقف المشاع
القابل للقسمة من غير إفراز، وهذا هو المفتى به عند الحنفية؛ لأنه أحوط وأسهل.
والوقف
عند المالكية (١): إن صح لزم، ولا يتوقف على حكم الحاكم، حتى لو لم يحز (يقبض)
وحتى لو قال الواقف: ولي الخيار، فإن أراد الواقف الرجوع فيه، لا يمكَّن، وإذا لم
يُحَز أجبر على إخراجه من تحت يده للموقوف عليه. وهو في حال الحياة من قبيل
الإعارة اللازمة، وبعد الوفاة من قبيل الوصية بالمنفعة، وعليه ليس للواقف في حال
الصحة الرجوع عن الوقف قبل حصول المانع، ويجبر على القبض (التحويز) إلاإذا شرط
لنفسه الرجوع، فله ذلك، أما الواقف في حال المرض، فله الرجوع فيه؛ لأنه
كالوصية.
رابعًا - ركن الوقف:
قال الحنفية (٢): ركن الوقف هي الصيغة، وهي الألفاظ الدالة على معنى الوقف،
مثل أرضي هذه موقوفة مؤبدة على المساكين ونحوه من الألفاظ، مثل: موقوفة لله
تعالى، أو على وجه الخير، أو البر، أو موقوفة فقط، عملًا بقول أبي يوسف، وبه يفتى
للعرف. وقد يثبت الوقف بالضرورة مثل: أن يوصي بغلة هذه الدار للمساكين أبدًا، أو
لفلان وبعده للمساكين أبدًا، فتصير الدار وقفًا بالضرورة، إذ كلامه يشبه القول:
إذا مت فقد وقفت داري على كذا.
ركن الوقف عندهم: هو الإيجاب الصادر من
الواقف الدال على إنشاء الوقف. وهذا على أن معنى الركن: هو جزء الشيء الذي لا
يتحقق إلا به. ويكون
(١) الشرح الكبير: ٧٥/ ٤، الشرح الصغير: ١٠٧/ ٤.
(٢)
الدر المختار: ٣٩٣/ ٣، فتح القدير: ٣٩/ ٥ - ٤٠.
الوقف بناء عليه
كالوصية تصرفًا يتم بإرادة واحدة هي إرادة الواقف نفسه، وهي التي يعبر عنها
بإيجاب الواقف.
وقال الجمهور (١): للوقف أركان أربعة: هي الواقف، والموقوف،
والموقوف عليه، والصيغة: باعتبار أن الركن: ما لا يتم الشيء إلا به، سواء أكان
جزءًا منه أم لا.
أما القبول من الموقوف عليه: فليس ركنًا في الوقف عند
الحنفية على المفتى به، والحنابلة كما ذكر القاضي أبو يعلى، ولا شرطًا لصحة الوقف
ولا للاستحقاق فيه، سواء أكان الموقوف عليه معينًا أم غير معين، فلو سكت الموقوف
عليه، فإنه يستحق من ريع الوقف، فيصير الشيء وقفًا بمجرد القول؛ لأنه إزالة ملك
يمنع البيع والهبة والميراث، فلم يطلب فيه القبول، كالعتق، لكن إذا كان الموقوف
عليه معينًا، كالوقف على خالد أو محمد، ورد الوقف، فلا يستحق شيئًا من ريع الوقف
وإنما ينتقل إلى من يليه ممن عينه الواقف بعده متى وجد، فإن لم يوجد عاد الموقوف
للواقف أو لورثته إن وجدوا وإلا فلخزانة الدولة، ولكن لا يبطل الوقف برده، ويكون
رده وقبولهما وعدمهما واحدًا كالعتق؛ لأن ركن الوقف وهو إيجاب الواقف قد تحقق.
أخذ القانون المصري (م ٩) رقم (٤٨) لسنة (١٩٤٦) بهذا الرأي، حيث لم يجعل القبول
شرطًا للاستحقاق، والمادة (١٧) بينت انتهاء الوقف. ولكن قال الحنفية: لو وقف لشخص
بعينه، ثم للفقراء، اشترط قبوله في حقه، فإن قبله فالغلة له، وإن رده فللفقراء.
ومن قبل فليس له الرد بعده، ومن رده أول الأمر ليس له القبول بعده.
(١) رد
المحتار: ٣٩٥/ ٣، القوانين الفقهية: ص ٣٦٩ ومابعدها، الشرح الصغير: ١٠١/ ٤ وما
بعدها، مغني المحتاج: ٣٧٦/ ٢، ٣٨٣، غاية المنتهى: ٢٩٩/ ٢، المغني: ٥٤٧/ ٥، كشاف
القناع: ٢٧٩/ ٤، الفروق: ١١١/ ٢.
ويعد القبول عند المالكية
والشافعية وبعض الحنابلة ركنًا إذا كان الوقف على معين إن كان أهلًا للقبول، وإلا
فيشترط قبول وليه كالهبة والوصية.
واشترطت المادة التاسعة المذكورة قبول
الممثل القانوني إذا كان الوقف على جهة لها من يمثلها قانونًا كالأزهر أوالجامعة.
وهذا من قبيل سد الذرائع أمام تدخل الواقفين بشؤون هذه الجهة، أو محاولة السيطرة
عليها لأغراض معينة بقصد العبث والفساد. فإن لم يقبل من يمثل الجهة، انتقل
الاستحقاق لمن يليها متى وجد، وإن لم يوجد أصلًا، أخذ الموقوف حكم الوقف المنتهي
المبين في المادة ١٧.
الفَصْلُ الثَّاني: أنواع الوقف ومحلّه:
ينقسم الوقف بحسب الجهة الأولى التي وقف عليها في الابتداء على نوعين: خيري، وأهلي أو ذُرّي (١).
أما الوقف الخيري:
فهو الذي يوقف في أول الأمر على جهة خيرية، ولو لمدة معينة، يكون بعدها وقفًا على شخص معين أو أشخاص معينين. كأن يقف أرضه على مستشفى أو مدرسة، ثم من بعد ذلك على نفسه وأولاده.
وأما الوقف الأهلي أو الذُّرِّي:
فهو الذي يوقف في ابتداء الأمر على نفس الواقف أو أي شخص أو أشخاص معينين، ولو
جعل آخره لجهة خيرية، كأن يقف على نفسه، ثم على أولاده، ثم من بعدهم على جهة
خيرية.
ونص القانون المصري م (١٨٠) لسنة ١٩٥٢م، والقانون السوري لسنة (١٩٤٩)
على انتهاء أو إلغاء الوقف الأهلي لتصفية مشكلاته المعقدة. وبقي الوقف الخيري
جائزًا.
(١) الوقف للأستاذ الشيخ عيسوي: ص ٢١.
وأما محل الوقف:
فهو المال الموجود المتقوم (١) من عقار: أرض أو دار بالإجماع، أو منقول ككتب
وثياب وحيوان وسلاح، لقوله: «وأما خالد، فإنكم تظلمون خالدًا، فإنه احتبس أدرعه
وأعتده في سبيل الله» (٢)، واتفقت الأمة على وقف الحصر والقناديل في المساجد من
غير نكير.
ويصح وقف الحلي للبس والإعارة؛ لأنه عين الانتفاع بها دائمًا، فصح
وقفها كالعقار، ولما روى الخلال بإسناده عن نافع قال: ابتاعت حفصة حليًا بعشرين
ألفًا، فحبسته على نساء آل الخطاب، فكانت لا تخرج زكاته.
وشرط الحنفية في
الوقف المنقول: أن يكون تابعًا للعقار، أو جرى به التعامل عرفًا، كوقف الكتب
وأدوات الجنازة.
ويصح وقف المشاع من عقار أو منقول؛ لأن عمر ﵁ وقف مئة سهم
في خيبر مشاعًا (٣).
وقد وضع الحنابلة وغيرهم ضابطًا لما يجوز وقفه، وما لا
يجوز، فقالوا: الذي يجوز وقفه هو كل ما جاز بيعه، وجاز الانتفاع به، مع بقاء
عينه، وكان أصلًا يبقى بقاء متصلًا كالعقار والحيوانات والسلاح والأثاث وأشباه
ذلك.
وما لا ينتفع به إلا بالإتلاف مثل الدنانير والدراهم (النقود) وما ليس
بحلي، والمأكول والمشروب والشمع وأشباهه، لا يصح وقفه في قول جماعة من
الفقهاء؛
(١) الدر المختار ورد المحتار: ٣٩٣/ ٣، الشرح الصغير: ١٠١/ ٤
ومابعدها، المهذب: ٤٤٠/ ١، مغني المحتاج: ٣٧٧/ ٢، المغني: ٥٨٣/ ٥ - ٥٨٥، تكملة
المجموع: ٥٧٧/ ١٤.
(٢) رواه الشيخان من حديث أبي هريرة ﵁. وأعتده - وهو
الصواب - جمع عتاد: وهو كل ما أعده من السلاح والدواب.
(٣) رواه الشافعي.
لأن
الوقف تحبيس الأصل، وتسبيل الثمرة، وما لا ينتفع به إلا بالإتلاف لا يصح فيه
الوقف؛ لأنه لا يمكن الانتفاع به على الدوام. إلا أن متقدمي الحنفية أجازوا وقف
الدنانير والدراهم والمكيل والموزون، لكن الظاهر أنه لا يجوز الآن لعدم التعامل
به كما سيأتي.
ولا يصح وقف الحمل؛ لأنه تمليك منجز، فلم يصح في الحمل وحده،
كالبيع.
قال ابن جزي المالكي: يجوز تحبيس العقار كالأرضين والديار والحوانيت
والجنات، والمساجد، والآبار، والقناطر والمقابر، والطرق وغير ذلك. ولا يجوز تحبيس
الطعام لأن منفعته في استهلاكه، ولكن نص الإمام مالك وتبعه الشيخ خليل على جواز
وقف الطعام والنقد، وهو المذهب وينزل رد بدله منزلة بقاء عينه.
وبيان الرأي الفقهي في بعض أنواع المال الموقوف:
١ - وقف العقار:
يصح وقف العقار (١) من أرض ودور وحوانيت وبساتين ونحوها بالاتفاق (٢)؛ لأن جماعة
من الصحابة رضوان الله عليهم وقفوه، مثلما تقدم من وقف عمر ﵁ أرضه في خيبر، ولأن
العقار متأبد يبقى على الدوام.
لكن بين الحنفية أنه لا يشترط لصحة الوقف
تحديد العقار؛ لأن الشرط كونه معلومًا، أو إذا كانت الدار مشهورة معروفة، صح
وقفها كما قال ابن الهمام في
(١) هو الأرض مبنية أو غير مبنية.
(٢)
الدر المختار: ٤٠٨/ ٣، ٤٣٩، فتح القدير: ٤٨/ ٥ وما بعدها، الكتاب مع اللباب: ١٨٢/
٢، الشرح الكبير: ٧٦/ ٤، القوانين الفقهية: ص ٣٦٩، مغني المحتاج: ٣٧٧/ ٢، المهذب:
٤٤٠/ ١، المغني: ٥٨٥/ ٥.
الفتح، وإن لم تحدد، استغناء بشهرتها
عن تحديدها. وأفتى متأخرو الحنفية استثناء من قولهم بعدم تقوم المنافع بضمان غصب
عقار الوقف وغصب منافعه أو إتلافها، كما إذا سكن فيه شخص بلا إذن أو أسكنه ناظر
الوقف بلا أجر، وعليه أجر المثل، ولو كان غير معد للاستغلال، صيانة للوقف، كما
أنه يفتى بضمان مال اليتيم والمال المعد للاستغلال، وبكل ما هو أنفع للوقف فيما
اختلف العلماء فيه.
٢ - وقف المنقول:
اتفق الجمهور (١) غير
الحنفية على جواز وقف المنقول مطلقًا، كآلات المسجد كالقنديل والحصير، وأنواع
السلاح والثياب والأثاث، سواء أكان الموقوف مستقلًا بذاته، ورد به النص أو جرى به
العرف، أم تبعًا لغيره من العقار، إذ لم يشترطوا التأبيد لصحة الوقف، فيصح كونه
مؤبدًا أو مؤقتًا، خيريًا أو أهليًا.
وأخذ القانون المصري (م ٨) بهذا الرأي،
فأجاز وقف العقار والمنقول.
ولم يجز الحنفية (٢) وقف المنقولومنه عندهم
البناء والغراس إلا إذا كان تبعًا للعقار، أو ورد به النص كالسلاح والخيل، أو جرى
به العرف كوقف الكتب والمصاحف والفأس والقدوم والقدور (الأواني) وأدوات الجنازة
وثيابها، والدنانير والدراهم، والمكيل والموزون، والسفينة بالمتاع، لتعامل الناس
به، والتعامل - وهو الأكثر استعمالًا - يترك به القياس، لخبر ابن مسعود: «ما رآه
المسلمون حسنًا، فهو عند الله حسن» ولأن الثابت بالعرف ثابت بالنص، هذا مع العلم
أن وقف البناء صار متعارفًا، بخلاف ما لا تعامل فيه كثياب ومتاع، وهذا قول محمد،
المفتى به. ويباع المكيل والموزون ويدفع ثمنه مضاربة أو مباضعة، كما يفعل في وقف
النقود، وما خرج من الربح يتصدق به في جهة الوقف.
(١) المراجع السابقة.
(٢)
الدر المختار ورد المحتار: ٤٠٩/ ٣ ومابعدها، ٤٢٧ وما بعدها.
لكن
قال ابن عابدين (١): وقف الدراهم متعارف في بلاد الروم دون بلادنا، ووقف الفأس
والقدوم كان متعارفًا في زمن المتقدمين، ولم نسمع به في زماننا، فالظاهر أنه لا
يصح الآن، ولئن وجدنا قليلًا لا يعتبر، لأن التعامل هو الأكثر استعمالًا.
والسبب
في عدم جواز وقف المنقول عندهم: أن من شرط الوقف التأبيد، والمنقول لا يدوم.
٣ - وقف المشاع:
يجوز عند الجمهور غير المالكية وقف المشاع الذي لا يحتمل القسمة، مع الشيوع، كحصة
سيارة؛ لأن الوقف كالهبة، وهبة المشاع غير القابل للقسمة جائزة.
ولم يجز
المالكية وقف الحصة الشائعة فيما لا يقبل القسمة؛ لأنه يشترط الحوز عنده لصحة
الوقف، وهذا أحد قولين مرجحين في المذهب.
أما المشاع القابل للقسمة: فقال
أبو يوسف ويفتى بقوله: يجوز وقفه؛ لأن القسمة من تمام القبض، والقبض عنده ليس
بشرط لتمام الوقف، فكذا تتمته، وهذا موافق لرأي المالكية والشافعية والحنابلة.
وقال
محمد، وأكثر المشايخ أخذوا بقوله: لا يجوز وقف المشاع؛ لأن أصل القبض عنده شرط
لتمام الوقف، فكذا ما يتم به، والقبض لا يصح في المشاع.
قال القاضي أبو
عاصم: قول أبي يوسف من حيث المعنى أقوى، إلا أن قول
(١) رد المحتار: ٤١٠/
٣.
محمد أقرب إلى موافقة الآثار. ولما كثر المصحح من الطرفين،
وكان قول أبي يوسف فيه ترغيب للناس في الوقف وهو جهة بر، أطبق المتأخرون من أهل
المذهب، على أن القاضي الحنفي والمقلد يخير بين أن يحكم بصحته وبطلانه، وإذا كان
الأكثر على ترجيح قول محمد، وبأيها حكم صح حكمه ونفذ، فلا يسوغ له ولا لقاض غيره
أن يحكم بخلافه، كما صرح به غير واحد. وقال في البحر: وصح وقف المشاع إذا قضي
بصحته؛ لأنه قضاء في مجتهد فيه (١). وهذا هو المعتمد الذي جرى عليه صاحب الدر
المختار، وهو يتمشى مع قوله: ولا يتم الوقف حتى يقبض الموقوف؛ لأن تسليم كل شيء
بما يليق به، في المسجد بالإفراز، وفي غيره بنصب المتولي وبتسليمه إياه، وحتى
يفرز، فلا يجوز وقف مشاع يقسم، خلافًا لأبي يوسف.
أما غير الحنفية (٢) فقال
المالكية: يصح وقف المشترك الشائع فيما يقبل القسمة، ولا يصح فيما لا يقبل
القسمة.
وقال الشافعية والحنابلة: يصح وقف المشاع ولو لم يقبل القسمة، ويجبر
عليها الواقف إن أرادها الشريك، ويجبر الواقف على البيع إن أراد شريكه، ويجعل
ثمنه في مثل وقفه، بدليل أن عمر وقف مئة سهم من خيبر بإذن رسول الله ﷺ، وهذا صفة
المشاع؛ لأن القصد حبس الأصل، وتسبيل المنفعة، والمشاع كالمقسوم في ذلك.
(١)
فتح القدير: ٤٥/ ٥، اللباب: ١٨١/ ٢، الدر المختار: ٣٩٩/ ٣، ٤٠٩.
(٢) الشرح
أما القانون فإنه أخذ في المادة (٨) بالرأي
الأول، ونص على أنه لا يجوز وقف الحصة الشائعة في عقار غير قابل للقسمة إلا إذا
كان الباقي منه موقوفًا، واتحدت الجهة الموقوفة عليها، أو كانت الحصص مخصصة
لمنفعة عين موقوفة.
الكبير: ٧٦/ ٤، المهذب: ٤٤١/ ١، المغني: ٥٨٦/ ٥، مغني المحتاج: ٣٧٧/ ٢، غاية
المنتهى: ٣٠٠/ ٢.
٤ - وقف حق الارتفاق:
قال الشافعية والحنابلة (١):
يجوز وقف علو الدار دون سفلها، وسفلها دون علو؛ لأنهما عينان يجوز وقفهما، فجاز
وقف أحدهما دون الآخر، ولأنه يصح بيع العلو أو السفل، ولأنه تصرف يزيل الملك إلى
من يثبت له حق الاستقرار والتصرف، فجاز كالبيع.
وقال الحنفية: لا يصح وقف
الحقوق المالية، مثل حق التعلي وباقي حقوق الارتفاق؛ لأن الحق ليس بمال عندهم.
٥ - وقف الإقطاعات: الإقطاعات:
هي أرض مملوكة للدولة، أعطتها لبعض المواطنين ليستغلها ويؤدي الضريبة المفروضة
عليها، مع بقاء ملكيتها للدولة.
فإذا وقف المقطع له هذه الأرض لا يصح وقفه،
لأنه ليس مالكًا لها. وكذلك لا يجوز للحكام والولاة والأمراء وقف شيء من هذه
الإقطاعات إلا إذا كانت الأرض مواتًا، أو ملكها الإمام، فأقطعها رجلًا. ويجوز لمن
أحيا الأرض الموات من الأفراد وقفها؛ لأنه ملكها بالإحياء، ووقف ما يملك (٢).
(١)
المهذب: ٤٤١/ ١، المغني: ٥٥٣/ ٥.
(٢) الدر المختار ورد المحتار: ٤٣٠/ ٣ وما
بعدها.
قال في الدر المختار: وأغلب أوقاف الأمراء بمصر، إنما
هوإقطاعات يجعلونها مشتراة صورة من وكيل بيت المال.
ولو وقف السلطان من بيت
المال، لمصلحة عمت، يجوز ويؤجر.
ويجوز للسلطان أن يأذن بوقف أرض على مسجد من
أراضي البلاد المفتوحة عنوة التي لم تقسم بين الغانمين، إذ لو قسمت صارت ملكًا
لهم حقيقة؛ لأنها تصير ملكًا للغانمين بالفتح والقسمة، فيجوز أمر السلطان فيها.
أما الأراضي المفتوحة صلحًا فلا ينفذ أمر السلطان بوقفها؛ لأنها تبقى ملكًا
لملاكها الأصليين (١).
وكذا قال الشافعية (٢): لو وقف الإمام شيئًا من أرض
بيت المال، صح.
٦ - وقف أراضي الحوز:
أرض الحوز: هي أرض مملوكة لبعض الأفراد، ولكنهم عجزوا عن استغلالها، فوضعت الحكومة يدها عليها لتستغلها وتستوفي منها ضرائبها. فلا يصح وقفها؛ لأنها ليست مالكة لها، وإنما ما تزال ملكًا لأصحابها.
٧ - وقف الإرصاد: الإرصاد: أن
يقف أحد الحكام أرضًا مملوكة للدولة لمصلحة عامة كمدرسة أو مستشفى. وقد عرف أن
هذا جائز بحكم الولاية العامة، ولكن يسمى هذا إرصادًا لا وقفًا حقيقة.
(١)
المرجع السابق.
(٢) مغني المحتاج: ٣٧٧/ ٢.
٨ - وقف المرهون:
قال الحنفية (١): يصح للراهن وقف المرهون؛ لأنه يملكه، لكن يبقى حق المرتهن
متعلقًا بالمرهون، فإن وفى الدين تطهرت وخلصت العين المرهونة من تعلق حق المرتهن
بها، وإلا فله أن يطلب إبطال الوقف وبيع المرهون. وبناء عليه: يجبر القاضي الراهن
على دفع ما عليه إن كان موسرًا، أما إن كان معسرًا فيبطل الوقف ويبيع العين
المرهونة فيما عليه من الدين. وكذا لو مات، فإن كان له ما يوفي الدين، ظل الشيء
موقوفًا، وإلا بيع وبطل الوقف.
وقال الجمهور غير الحنفية (٢): لا يصح وقف
المرهون.
٩ - وقف العين المؤجرة:
قال الحنفية والحنابلة (٣): لا يملك المستأجر وقف منفعة العين المستأجرة، لأنه
يشترط لديهم التأبيد، والإجارة مؤقتة غير مؤبدة. وكذلك قال الشافعية (٤): مالك
المنفعة دون الرقبة كالمستأجر والموصى له بالمنفعة لا يصح وقفه إياها، لكن لو وقف
المستأجر بناء أو غراسًا في أرض مستأجرة له، فالأصح جوازه، ويكفي دوام الوقف إلى
قيام مالك الأرض بالقلع بعد مدة الإجارة. والمستعير والموصى له بالمنفعة مثل
المستأجر في الحكم. ويصح عندهم للمؤجر وقف الأرض المؤجرة.
وقال المالكية
(٥): للمستأجر وقف منفعة المأجور مدة الإجارة المقررة له، إذ
(١) الدر،
المرجع السابق: ص ٤٣٢ ومابعدها.
(٢) كشاف القناع: ٢٧١/ ٤، الشرح الكبير: ٧٧/
٤.
(٣) الدر المختار: ٤٠٠/ ٣، ٤٣٧ وما بعدها، كشاف القناع: ٣٧١/ ٤.
(٤)
المحلي على المنهاج مع حاشية قليوبي وعميرة: ٩٩/ ٣، مغني المحتاج: ٣٧٧/ ٢
ومابعدها.
(٥) الشرح الصغير: ٩٨/ ٤، الشرح الكبير: ٧٧/ ٤.
لايشترط
لديهم تأبيد الوقف، وإنما يصح لمدة معينة. ولا يصح للمؤجر وقف المأجور.
وأجاز
الحنفية والحنابلة للمؤجر وقف العين المؤجرة؛ لأنه وقف ما يملك، ويبقى للمستأجر
الحق في الانتفاع بالعين المستأجرة إلى انتهاء مدة الإجارة، أو تراضيه مع المؤجر
على فسخ الإجارة قبل انتهاء مدتها.
والخلاصة: يصح عند الجمهور للمؤجر وقف
العين المؤجرة، ولا يصح وقفها عند المالكية، ويصح عند المالكية للمستأجر وقف
منفعة المأجور، ولا يصح وقفها عند الجمهور.
الفَصْلُ الثَّالث: حكم الوقف، ومتى يزول ملك الواقف؟
حكم الوقف:
أي الأثر المترتب على حدوث الوقف من الواقف. ويختلف الأثر المترتب باختلاف الآراء
الفقهية (١):
فعند أبي حنيفة:
أثر الوقف هو التبرع بالريع غير لازم، وتظل العين الموقوفة على ملك الواقف،
فيجوز له التصرف بها كما يشاء، وإذا تصرف بها اعتبر راجعًا عن الوقف، وإذا مات
الواقف ورثها ورثته، ويجوز له الرجوع في وقفه متى شاء، كما يجوز له أن يغير في
مصارفه وشروطه كيفما يشاء، وسأخصص بعد بيان المذاهب في حكم الوقف بحثًا عن الرجوع
في وقف المسجد وغيره بناء على هذا الرأي.
(١) الدرا لمختار: ٣٩٩/ ٣، ٤٠٢
ومابعدها، البدائع: ٢٢٠/ ٦ ومابعده، اللباب: ١٨٠/ ٢ - ١٨٤، فتح القدير: ٤٥/ ٥،
٥٢، الشرح الصغير: ٩٧/ ٤، القوانين الفقهية: ص ٣٧٠، الفروق: ١١١/ ٢، المهذب: ٤٤٣/
١، مغني المحتاج: ٣٨٩/ ٢، المغني: ٥٤٦/ ٥، غاية المنتهى: ٣٠٦/ ٢.
وعند الصاحبين وبرأيهما يفتى:
إذا صح الوقف خرج عن ملك الواقف، وصار حبيسًا على حكم ملك الله تعالى، ولم يدخل
في ملك الموقوف عليه، بدليل انتقاله عنه بشرط الواقف (المالك الأول) كسائر
أملاكه.
وإذا صح الوقف لم يجز بيعه ولا تمليكه ولا قسمته، إلا أن يكون الوقف
مشاعًا فللشريك بناء على جوازه عند أبي يوسف أن يطلب فيه القسمة، فتصح مقاسمته؛
لأن القسمة تمييز وإفراز، ويغلب في الوقف معنى الإفراز في غير المكيل والموزون
الذي يغلب فيه معنى المبادلة، نظرًا وملاحظة لمصلحة الوقف. والمفتى به وهو قول
الصاحبين جواز قسمة المشاع إذا كانت القسمة بين الواقف وشريكه المالك، أو الواقف
الآخر أو ناظره إن اختلفت جهة وقفهما.
ويرى المالكية:
أن الموقوف يظل مملوكًا للواقف، لكن تكون المنفعة ملكًا لازمًا للموقوف له، فهم كأبي حنيفة، ودليل قول النبي ﷺ: «حبّس الأصل، وسبِّل الثمرة».
والأظهر في مذهب الشافعية:
أن الملك في رقبة الموقوف ينتقل إلى الله تعالى، أي ينفك عن اختصاص الآدمي، فلا يكون للواقف ولا للموقوف عليه، ومنافعه ملك للموقوف عليه، يستوفيها بنفسه وبغيره بإعارة وإجارة، ويملك الأجرة وفوائده كثمرة وصوف ولبن، وكذا الولد في الأصح، فهم كالصاحبين.
وقال الحنابلة في الصحيح من المذهب:
إذا صح الوقف زال به ملك الواقف؛ لأنه سبب يزيل التصرف في الرقبة والمنفعة، فأزال
الملك كالعتق. وأما خبر «حبّس الأصل وسبل الثمرة» فالمراد به أن يكون محبوسًا لا
يباع ولا يوهب ولا يورث.
وينتقل الملك عندهم في الوقف إلى الله
تعالى إن كان الوقف على مسجد ونحوه كمدرسة ورباط وقنطرة وفقراء وغزاة وما أشبه
ذلك، وينتقل الملك في العين الموقوفة إلى الموقوف عليه إن كان آدميًا معينًا كزيد
وعمرو، أو كان جمعًا محصورًا كأولاده أو أولاد زيد؛ لأن الوقف سبب يزيل التصرف في
الرقبة، فملكه المنتقل إليه كالهبة.
متى يزول الملك عن الوقف؟
يزول الملك عن الموقوف في رأي أبي حنيفة (١) بأحد أربعة أسباب:
١ً - بإفراز مسجد.
٢ً - أو بقضاء القاضي؛ لأنه مجتهد فيه أي يسوغ فيه
الاجتهاد والاختلاف بين الأئمة، فيكون الحكم فيه رافعًا للخلاف.
٣ً - أو
بالموت إذا علق به، مثل إذا مت فقد وقفت داري على كذا، فالصحيح أنه كوصية تلزم من
الثلث بالموت، لا قبله.
٤ً - أو بقوله: وقفتها في حياتي، وبعد وفاتي مؤبدًا،
وهو جائز عند أئمة الحنفية الثلاثة، لكن عند الإمام ما دام حيًا هو نذر بالتصدق
بالغلة، فعليه الوفاء، وله الرجوع، فإن لم يرجع حتى مات، نفذ الوقف من الثلث.
وفي
الأمرين الأولين: يزول الملك ويلزم الوقف في حياة الواقف بلا توقف على موته،
فاللزوم حالي، كما يلزم أيضًا بالموت.
أما في الأمرين الآخرين: فيزول الملك
ويلزم الوقف بموت الواقف، لكن في
(١) الدر المختار: ٣٩٥/ ٣ - ٣٩٩.
حال
الحياة يجوز للواقف الرجوع عن الوقف ما دام حيًا، غنيًا أو فقيرًا، بأمر قاض أو
غيره.
ولا يتم الوقف بناء على القول بلزومه وبناء على رأي محمد حتى يقبض
ويفرز؛ لأنه كالصدقة، ولأن تسليم كل شيء بما يليق به، ففي المسجد بالإفراز، وفي
غيره بنصب الناظر (المتولي) بتسليمه إياه، ولا يجوز وقف مشاع يقسم عند محمد،
ويجوز عند أبي يوسف، كما تقدم؛ لأن التسليم عنده ليس بشرط، بسبب كون الوقف عنده
كالإعتاق.
واشترط المالكية (١) لصحة الوقف:
القبض كالهبة، فإن مات الواقف أو مرض مرض موت أو أفلس قبل القبض (الحوز) بطل الوقف.
وقال الشافعية (٢):
الوقف عقد (٣) يقتضي نقل الملك في الحال، علمًا بأن الوقف على معين يشترط
فيه عندهم القبول متصلًا بالإيجاب إن كان من أهل القبول، وإلا فقبول وليه كالهبة
والوصية، أما الوقف على جهة عامة كالفقراء أو على مسجد أو نحوه، فلا يشترط فيه
القبول جزمًا لتعذره.
وكذلك قال الحنابلة (٤) كالشافعية: يزول الملك ويلزم
الوقف بمجرد التلفظ به؛ لأن الوقف يحصل به، لحديث عمر المتقدم: «إن شئت حبَّست
أصلها، وتصدقت بها» ولأنه تبرع يمنع البيع والهبة والميراث، فلزم بمجرده
كالعتق.
(١) القوانين الفقهية: ص ٣٧٠.
(٢) مغني المحتاج: ٣٨٣/ ٢،
٣٨٥.
(٣) قد يطلق العقد في اصطلاح الفقهاء على الالتزام الذي ينشأ عنه حكم
شرعي، سواء أكان صادرًا من طرف واحد كالنذر واليمين، أم صادرًا من طرفين كالبيع
والإجارة، كما يطلق على مجموع الإيجاب والقبول، أو كلام أحد طرفي العقد.
(٤)
المغني: ٥٤٦/ ٥، ٥٨٧.
ويصح في رأي الحنابلة قسمة الوقف عن غيره، باعتبار أن القسمة إفراز على
الصحيح على التفصيل الآتي:
تجوز القسمة إن لم يكن فيها رد، وكذا إن كان فيها رد من جانب أصحاب الوقف؛ لأن
الرد شراء شيء من غير الوقف، أما إن كان فيها رد من غير أصحاب الوقف، فلا تجوز؛
لأنه شراء بعض الوقف، وبيعه غير جائز.
ويطبق التفصيل السابق إن كان المشاع
وقفًا على جهتين، فأراد أهله قسمته، فلا تجوز إن كان فيها رد بأي حال.
ومتى
جازت القسمة في الوقف، وطلبها أحد الشريكين أو ولي الوقف، أجبر الآخر؛ لأن كل
قسمة جازت من غير رد ولا ضرر، فهي واجبة.
موقف القانون من الرجوع في وقف المسجد وغير المسجد (١):
أما الرجوع في وقف المسجد:
فقد نص القانون المصري رقم (٤٨ لسنة ١٩٤٦) (م ١١) على أنه: «لا يجوز الرجوع
ولا التغيير في وقف المسجد، ولا فيما وقف عليه».
والمراد بما وقف على
المسجد: ما وقف عليه ابتداء من أول الأمر، لا ما وقف عليه انتهاء، بأن وقف على
جهة ما أولًا، ثم من بعدها يكون وقفًا على المسجد، تطبيقًا للقانون رقم (٧٨ لسنة
١٩٤٧).
وأخذ القانون هذا الحكم بعدم جواز الرجوع مما اتفق عليه الفقهاء، حتى
أبو حنيفة، فإنه وافق الصاحبين على أنه لا يجوز الرجوع في وقف المسجد، ويعد
(١)
راجع الوقف للأستاذ عيسوي: ص ١٧ ومابعدها.
تصرف الواقف لازمًا،
فلا يجوز للواقف ولا لورثته الرجوع والتغيير فيه؛ لأن وقف المسجد حين يتم يصير
خالصًا لله تعالى، وأن المساجد لله، وخلوصه لله تعالى يقتضي عدم جواز الرجوع
فيه.
أما الرجوع في وقف غير المسجد:
فقد أخذ القانون بمذهب أبي حنيفة
في حياة الواقف، وبمذهب الصاحبين وباقي الأئمة بعد وفاة الواقف.
ففي حياة
الواقف: نصت المادة (١١) من القانون المصري على أنه: «للواقف أن يرجع في وقفه كله
أو بعضه، كما يجوز له أن يغير في مصارفه وشروطه، ولو حرم نفسه من ذلك، على ألا
ينفذ التغيير إلا في حدود هذا القانون» فهذا يدل على جواز الرجوع عن الوقف
والتغيير فيه، ولم يقل بذلك إلا أبو حنيفة.
وأما بعد وفاة الواقف: فسكت عنه
القانون، وما سكت عنه يعمل فيه بالراجح من مذهب أبي حنيفة، والراجح فيه مذهب
الصاحبين: وهو أن الوقف تبرع لازم، لا يجوز الرجوع فيه.
أما الرجوع عن
الأوقاف قبل العمل بهذا القانون: فقد نصت المادة (١١) على أنه «لا يجوز له الرجوع
ولا التغيير فيما وقفه قبل العمل بهذا القانون، وجعل استحقاقه لغيره، إذا كان قد
حرم نفسه وذريته من هذا الاستحقاق، ومن الشروط العشرة بالنسبة له، أو ثبت أن هذا
الاستحقاق كان بعوض مالي أو لضمان حقوق ثابتة قِبَل الواقف».
ففي حالة حرمان
نفسه وذريته من الاستحقاق: يعتبر عمل الواقف قرينة قاطعة على أنه تصرف هذا التصرف
في مقابل يمنعه من الرجوع، ولا حاجة حينئذ إلى تحقيق أو إثبات.
وفي
حالة كون الاستحقاق بعوض مالي: مثل أن يقف المدين على الدائن وأولاده، ويحرم
الواقف نفسه وأولاده من ذلك، يكون الوقف في مقابل عوض.
وفي حالة كون
الاستحقاق لضمان حقوق ثابتة قِبَل الواقف: مثل بيع شخص لقريبه عقارًا بيعًا
صوريًا، ثم وقف القريب هذا العقار على قريبه الذي باعه له، يترتب على الرجوع
إضرار بالناس، وتضييع لحق أصحاب الحقوق، ويكون إثبات ذلك بجميع الأدلة القانونية،
ومنها القرائن.
الشروط العشرة:
أباحت المادة الثانية عشرة من قانون الوقف المصري رقم (٤٨ لسنة ١٩٤٦)
للواقف أن يشترط لنفسه الشروط العشرة في وقفه، وأن يشترط تكرارها، واعتبرتها
صحيحة، ونصها:
«للواقف أن يشترط لنفسه لا لغيره الشروط العشرة أو ما يشاء
منها وتكرارها، على ألا تنفذ إلا في حدود هذا القانون» أما اشتراط الواقف الشروط
العشرة لغيره فهو شرط باطل عملًا بهذه المادة.
وكلمة الشروط العشرة محدثة
الاستعمال في المعنى المراد هنا، ولم ترد في كلام الفقهاء، ولكنها استعملت في هذا
المعنى من أمد بعيد في كتب الواقفين وفي فتاوى بعض المتأخرين وفي لغة المحاكم،
حتى أصبح مدلولها محدودًا ومنضبطًا، وصارت كلمة اصطلاحية.
والشروط
العشرة في هذا الاصطلاح: هي الإعطاء، والحرمان، والإدخال، والإخراج، والزيادة،
والنقصان، والتغيير، والإبدال، والاستبدال، والبدل أو التبادل أو التبديل (١).
(١)
قانون الوقف للأستاذ الشيخ فرج السنهوري: ص ٢٠٨ - ٢١٣، ٢١٧.
والإعطاء:
معناه إدخال من يشاء في الوقف كمصرف استثنائي، ويلزم من استعماله حرمان المصرف الأصلي من الغلة أو بعضها في المدة التي يستحقها من أدخله في الوقف.
والإدخال:
معناه إدخال غير موقوف عليه، وجعله من أهل الوقف ليكون مستحقًا من وقت الإدخال أو بعد ذلك. وقد يصاحب هذا الشرط مصرف استثنائي وقد لا يصاحبه.
والإخراج:
هو جعل الموقوف عليه من غير أهل الوقف أبدًا أو لمدة معينة يكون بعدها من أهله. ومفهومه مغاير لمفهوم الحرمان، وقد يجتمع المفهومان، فالإخراج إلى الأبد حرمان، والحرمان إلى الأبد إخراج.
والزيادة:
تفضيل بعض الموقوف عليهم على الباقين بشيء يميزه به حين توزيع الغلة، أو أن يجعل في نصيبه فضلًا على بقية الأنصباء على الدوام.
والنقصان:
هو إعطاء بعض الموقوف عليهم أقل مما أعطى الآخرين عند التوزيع، حيث لم تكن هناك أنصبة معينة أو تخفيض ما سبق أن عينه له.
والتغيير:
هذا الشرط أعم من الشروط السابقة ويتناولها جميعها، وذكره بعدها يكون بمثابة إجمال بعد تفصيل، فلو لم يذكر سواه، لملك من شرط له كل ما تفيده الشروط الستة السابقة مجتمعة. وإذا أردف التغيير بالتبديل اعتبره المتأخرون توكيدًا لمعناه، إلا إذا أمكن صرفه لمعنى آخر لم يذكر، كالاستبدال فإنه يصرف إليه، فإن التأسيس خير من التأكيد.
والاستبدال:
أطلق الفقهاء كلمة الاستبدال، وأرادوا بها بيع الموقوف عقارًا كان أو
منقولًا بالنقد، وشراء عين بمال البدل لتكون موقوفة مكان العين التي بيعت،
والمقايضة على عين الوقف بعين أخرى. ولكن طرأ عرف آخر للمؤلفين من زمن بعيد،
فأطلقوا الاستبدال على شراء عين بمال البدل لتكون وقفًا، والإبدال على بيع
الموقوف بالنقد، والتبادل أو البدل على المقايضة.