اسم الكتاب الفِقْهُ الإسلاميُّ وأدلَّتُهُ الشَّامل للأدلّة الشَّرعيَّة والآراء المذهبيَّة وأهمّ النَّظريَّات الفقهيَّة وتحقيق الأحاديث النَّبويَّة وتخريجها
اسم المؤلف: د. وَهْبَة بن مصطفى الزُّحَيْلِيّ
المهنة:أستاذ ورئيس قسم الفقه الإسلاميّ وأصوله بجامعة دمشق - كلّيَّة الشَّريعة
الوفاة 8 أغسطس 2015 الموافق 23 شوال 1436 هـ
التصنيف: الفقه المقارن
المحتويات
- الفصل الثاني: صدقة الفطر
- المبحث الأول ـ مشروعية صدقة الفطر وحكمها ومن يؤمر بها
- -أدلة وجوبها
- -حكمتها
- حكمها
- -الحنفية
- المأمور بها أو من تجب عليه
- -الجمهور
- -هل تجب زكاة الفطر عند الحنفية بقدرة ممكنة أو ميسرة؟
- المبحث الثاني ـ وقت وجوب زكاة الفطر وحكم تعجيلها وتأجيلها
- -قال الحنفية
- -قال الجمهور
- -تعجيلها
- -تأخيرها عن صلاة العيد
- المبحث الثالث ـ جنس الواجب وصفته ومقداره
- قال الحنفية
- -دفع القيمة
- قال الجمهور
- -المالكية
- -الشافعية
- -الحنابلة
- -دفع القيمة
- -المبحث الرابع ـ مندوباتها ومباحاتها
- -المبحث الخامس ـ مصرفها أو من يأخذها
- العودة الي الفقه الإسلامي وأدلته للزحيلي
الفَصْلُ الثَّاني: صَدَقَةُ الفِطْرِ وفيه مباحث خمسة:
المبحث الأول - مشروعيتها وحكمها ومن يؤمر بها.
المبحث الثاني - وقت وجوبها وحكم تعجيلها وتأجيلها.
المبحث الثالث - جنس الواجب وصفته ومقداره.
المبحث الرابع - مندوباتها ومباحاتها.
المبحث الخامس - مصرفها أو من يأخذها.
المبحث الأول - مشروعية صدقة الفطر وحكمها ومن يؤمر بها:
شرعت زكاة الفطر في شعبان في السنة الثانية من الهجرة، عام فرض صوم رمضان، قبل الزكاة، وأدلة وجوبها أخبار، منها:
١ - خبر ابن عمر: فيما رواه الجماعة إلا ابن ماجه: «فرض رسول الله ﷺ زكاة الفطر من رمضان على الناس صاعًا من تمر، أو صاعًا من شعير، على كل حر أو عبد، ذكر أو أنثى من المسلمين» والصاع قدح وثلث بالكيل المصري الحالي، وبالقديم قدحان، أو ثُمن مد دمشقي وهو المعروف بالثمنية ويساوي (٢٧٥١ غم) وعند الحنفية (٣٨٠٠ غم)، وفي الخبر دليل على اشتراط الإسلام في وجوب الفطرة، فلا تجب على الكافر.
٢ - وخبر أبي سعيد: «كنا نخرج زكاة الفطر إذ كان فينا رسول الله ﷺ صاعًا من طعام، أو صاعًا من تمر، أو صاعًا من شعير، أو صاعًا من زبيب، أو صاعًا من أَقِط، فلا أزال أخرجه كما كنت أخرجه ما عشت» (١) والمراد بالطعام هنا الحنطة، والأقط: لبن يابس غير منزوع الزبد، كما فسره الشوكاني. والمشهور أنه منزوع الزبد.
٣ - وخبر ابن عباس: «فرض رسول الله ﷺ زكاة الفطر طُهْرة للصائم من اللغو والرَّفَث، وطُعْمة للمساكين، فمن أداها قبل الصلاة فهي زكاة مقبولة، ومن أدَّاها بعد الصلاة فهي صدقة من الصَّدَقات» (٢). والرفث: الفحش من الكلام، والطعمة: هو الطعام الذي يؤكل. وفيه دليل على أن الفطرة تصرف في المساكين دون غيرهم من مصارف الزكاة.
٤ - وخبر عبد الله بن ثعلبة: «خطب رسول الله ﷺ قبل يوم الفطر بيوم أو يومين، فقال: أدّوا صاعًا من بُرّ أو قمح أو صاعًا من تمر أو شعير عن كل حر أو عبد صغير أو كبير» (٣).
وهي تدل على أن مقدار الفطرة صاع من حنطة أو شعير أو تمر، وخصص بعضهم هذه الأخبار بأحاديث أخرى تدل على الاكتفاء بنصف صاع من قمح، منها حديث ابن عباس مرفوعًا عند الحاكم، بلفظ: «صدقة الفطر: مدان من قمح» وأخرج نحوه الترمذي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مرفوعًا أيضًا، وغير ذلك (٤).
(١) رواه الجماعة (نيل الأوطار: ١٧٩/ ٤).
(٢) رواه أبو داود وابن ماجه (المرجع السابق: ١٨٤/ ٤).
(٣) أخرجه عبد الرزاق. ورواه أبو داود وغيره عن الزهري من وجوه (نصب الراية: ٤٠٦/ ٢).
(٤) انظر نيل الأوطار: ١٨٣/ ٤.
وحكمتها: جبر نقص الصوم، وإغناء الفقراء عن السؤال يوم العيد، قال وكيع بن الجراح: (زكاة الفطر لشهر رمضان كسجدة السهو للصلاة)، تجبر نقصان الصوم، كما يجبر السجود نقصان الصلاة) وورد (أغنوهم عن الطوف في هذا اليوم) (١) أي أغنوا الفقراء عن السؤال في يوم العيد.
وحكمها: الوجوب على كل حر مسلم، قادر عليها وقته (٢)، للأوامر السابقة في الأحاديث، قال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن صدقة الفطر فرض. وقال إسحاق: هو كالإجماع من أهل العلم.
وقال بعض الحنفية (٣): واجبات الإسلام سبعة: الفطرة، ونفقة ذي الرحم، ووتر، وأضحية، وعمرة، وخدمة أبويه، والمرأة لزوجها. والمعنى أن هذه السبعة من واجبات الإسلام، وهناك واجبات أخرى كصلاة الجماعة والعيدين وغيرهما.
والمأمور بها أو من تجب عليه: هو عند الحنفية (٤): كل حر مسلم صغير أو كبير ذكر أو أنثى، عاقل أو مجنون، إذا كان مالكًا لمقدار النصاب (من أي مال كان) الفاضل عن حاجته الأصلية: (من مسكن وثياب وأثاث - متاع البيت - وفرس وسلاح وخادم، ومن حوائج عياله أيضًا، ومن دينه كذلك). وعلى الجد أن يخرج صدقة الفطر عن أولاد ابنه دون أولاد ابنته إذا كانوا فقراء عند فقد أبيهم.
فيشترط لوجوبها أمور ثلاثة (٥): الإسلام والحرية وملك النصاب الفاضل
(١) رواه الدارقطني وابن عدي والحاكم في علوم الحديث عن ابن عمر.
(٢) الدر المختار: ٩٨/ ٢ وما بعدها، الفتاوى الهندية: ١٧٩/ ١، الشرح الصغير: ٦٢٧/ ١، بداية المجتهد: ٢٦٩/ ١، مغني المحتاج: ٤٠٢/ ١، المهذب: ١٦٣/ ١، المغني: ٥٥/ ٣، كشاف القناع: ٢٨٧/ ٢.
(٣) الدر المختار ورد المحتار: ١٠٩/ ٢.
(٤) الكتاب مع اللباب: ١٥٩/ ١ ومابعدها، الدر المختار: ٩٩/ ٢، ١٠١.
(٥) فتح القدير: ٢٩/ ٢ - ٣١، الدر المختار: ٩٩/ ٢، الفتاوى الهندية: ١٧٩/ ١ - ١٨١.
عن حاجته الأصلية، أما الأمران الأول والثاني فللأحاديث السابقة، وأما ملك النصاب، فلقوله ﷺ: «لا صدقة إلا عن ظهر غنى» (١) وقدر اليسار بالنصاب؛ لأن الشرع قدره به، فاضلًا عما ذكر من الحوائج الأصلية؛ لأن المستحق بالحاجة الأصلية كالمعدوم.
ويؤديها من وجبت عليه عن نفسه وأولاده الصغار، والمعتوهين والمجانين الفقراء، وعن مماليكه للخدمة، لا للتجارة، ويؤدي المولى المسلم الفطرة عن عبده الكافر؛ لأن السبب قد تحقق، والمولى من أهل الوجوب.
ولا يجب عليه أن يؤديها عن أبيه وأمه، وإن كانا في عياله؛ لأن لا ولاية له عليهم كالأولاد الكبار. ولا يجب أن يؤدي عن إخوته الصغار؛ ولا عن قرابته، وإن كانوا في عياله. ولا يؤدي عن زوجته ولا عن أولاده الكبار، وإن كانوا في عياله، لكن لو أدى عنهم أو عن زوجته بغير أمرهم، أجزأهم استحسانًا.
وعدم أدائها عن الزوجة لقصور الولاية والمؤنة، فإنه لا يليها في غير حقوق الزواج، ولا يمونها في غير النفقات الدورية كالمداواة، والأصل العام عندهم: أن صدقة الفطر متعلقة بالولاية والمؤنة، فكل من كان عليه ولايته ومؤنته ونفقته، فإنه تجب عليه صدقة الفطر فيه، وإلا فلا.
وقال الجمهور (٢): زكاة الفطر على كل حر صغير أو كبير، ذكر أو أنثى من المسلمين، أي كما قال الحنفية، فلا فطرة على كافر، إلا عند الشافعية والمالكية في عبده وقريبه المسلم في الأصح، ولا فطرة عند المالكية والشافعية على رقيق، لا عن
(١) رواه أحمد في مسنده عن أبي هريرة، وهو في الصحيحين «خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى» (نصب الراية: ٤١١/ ٢).
(٢) الشرح الكبير: ٥٠٤/ ١ - ٥٠٦، مغني المحتاج: ٤٠٢/ ١ - ٤٠٤، ٤٠٧، كشاف القناع: ٢٨٧/ ٢ - ٢٩٠، المغني: ٦٩/ ٣،٧١،٧٦.
نفسه ولا عن غيره، لعدم ملكه. وعليه الفطرة عند الحنابلة، لعموم الحديث السابق: «فرض رسول الله ﷺ زكاة الفطر على كل حر أو عبد، ذكر أو أنثى من المسلمين» وتجب عند الجمهور خلافًا للحنفية على كل من ملك قوته وقوت من تلزمه نفقته ليلة العيد ويومه، فمن ملك فاضلًا عما يحتاجه لنفسه ولمن تلزمه مؤنته من مسكن وخادم يحتاج إليه ودابة وثياب ونحوها من الحاجات الأصلية، وجبت عليه الفطرة، حتى عند المالكية لو كان قادرًا على الفطرة بالاستدانة مع رجاء الوفاء؛ لأنه قادر حكمًا.
ومن لزمه فطرة نفسه، لزمه فطرة من تلزمه نفقته بقرابة كوالديه الفقيرين، أو زوجية أو ملك رقيق إذا كانوا مسلمين ووجد ما يؤدي عنهم، لحديث مسلم: «ليس على المسلم في عبده صدقة إلا صدقة الفطر» والباقي بالقياس عليها، ولا تلزم المسلم فطرة القريب والزوجة والعبد الكفار، لقوله ﷺ في الخبر السابق: «من المسلمين» وذلك خلافًا للحنفية في العبد الكافر.
ويظل الأب ملزمًا بفطرة أولاده الصغار حتى البلوغ، وعند المالكية: يستمر الإلزام للإناث حتى وقت الدخول بالأزواج أو طلب الدخول من غير مانع. وذكر الحنابلة أن الفطرة تجب في مال الصغير إذا لزمته مؤنة نفسه لغناه بمال أو كسب، ويخرجها أبوه منه.
ويشمل ذلك عند المالكية والحنابلة زوجة الأب الفقير وخادمه أيضًا، وخادم الزوجة إن لزمته نفقته: لأن الفطرة تابعة للنفقة، لعموم حديث ابن عمر عند الدارقطني: «أمرنا النبي ﷺ بصدقة الفطر: عن الصغير والكبير، والحر والعبد، ممن تمونون». وقال الشافعية: لا يلزم في الأصح الابن فطرة زوجة أبيه، وإن وجبت نفقتها على الولد؛ لأن الولد يتحمل ما يلزم الأب حال إعساره وهو
النفقة، أما الفطرة فلا تلزم حال الإعسار، ولو أخرج الرجل من ماله فطرة ولده الصغير الغني جاز، كأجنبي أذن، أما الكبير فلا بد من إذنه. ولا خلاف في أن من وجبت فطرته على غيره كالزوجة عند غير الحنفية تؤدى عنها ولو من غير إذن، سواء أكان حاضرًا أم غائبًا علمت حياته.
هل تجب زكاة الفطر عند الحنفية بقدرة ممكّنة أو ميسِّرة؟ القدر الممكِّنة: هي ما يجب بمجرد التمكن من الفعل، فلا يشترط بقاؤها لبقاء الوجوب.
والقدر الميسرة: هي ما يجب بعد التمكن بصفة اليسر، فيشترط بقاؤها لبقاء الوجوب.
قال الحنفية (١): تجب الفطرة والأضحية، ونفقة المحارم على الراجح بقدرة ممكنة، فلا يشترط بقاء هذه القدرة وهي النصاب الشرعي هنا لبقاء الوجوب؛ لأنها شرط محض، لا بقدرة ميسرة، فلا تسقط الفطرة وكذا الحج بهلاك المال بعد الوجوب، فلو هلك المال بعد فجر يوم الفطر لا تسقط الفطرة، بخلاف الزكاة والعشر والخراج فإنها تسقط بهلاك المال، لاشتراط بقاء القدرة الميسرة: وهي وصف النماء.
لكن إذا مات من عليه زكاة أو فطرة أو كفارة أو نذر، لم يؤخذ من تركته إلا أن يتبرع ورثته بذلك، وهم من أهل التبرع، فإن امتنعوا لم يجبروا عليه، وإن أوصى بذلك يجوز، وينفذ من ثلث ماله.
(١) الدر المختار وحاشية ابن عابدين: ٩٩/ ٢ ومابعدها، الفتاوى الهندية: ١٨٢/ ١.
وقال الجمهور (١): إن مات من وجبت عليه الفطرة قبل أدائها، أخرجت من تركته؛ لأن حق الله سبحانه وحق الآدمي إذا تعلقا بمحل واحد، فكانا في الذمة أو كانا في العين، تساويا في الاستيفاء، أي إن الزكاة حق مال لزم في حال الحياة، فلم يسقط بالموت كدين الآدمي. وهذا هو الراجح عندي.
المبحث الثاني - وقت وجوب زكاة الفطر وحكم تعجيلها وتأجيلها:
للفقهاء رأيان في وقت وجوب الفطرة وما يتبعه، ف قال الحنفية (٢): تجب الفطرة بطلوع الفجر من يوم عيد الفطر؛ لأن الصدقة أضيفت إلى الفطر، والإضافة للاختصاص، والاختصاص للفطر باليوم دون الليل؛ إذ المراد فطر يضاد الصوم، وهو في اليوم دون الليل؛ لأن الصوم فيه حرام. فمن مات قبل ذلك أي طلوع الفجر، لم تجب فطرته، ومن أسلم أو ولد بعد طلوع الفجر لم تجب فطرته.
ويصح تعجليها وتأخيرها، فيجوز أداء صدقة الفطر إذا قدمه بعد دخول رمضان على وقت الوجوب وهو يوم الفطر، أو تأخيره عنه، أما جواز التقديم فلوجود سبب الوجوب، فصار كأداء الزكاة بعد وجوب النصاب، ولا تفصيل فيه بين مدة ومدة. وأما جواز الأداء بعد يوم الفطر فلأنه قربة مالية معقولة المعنى، فلا تسقط بعد الوجوب إلا بالأداء كالزكاة. والخلاصة: أنه يجوز تقديمها قبل يوم الفطر ولو قبل دخول رمضان، وإن أخروها عن يوم الفطر لم تسقط، وكان عليهم إخراجها، وكونها قبل دخول رمضان هو ظاهر الرواية، لكن المفتى به اشتراط دخول رمضان، فلا يجوز تقديمها عن رمضان.
(١) المغني: ٨٠/ ٣ ومابعدها، المهذب: ١٧٥/ ١.
(٢) تبيين الحقائق: ٣١٠/ ١ ومابعدها، الفتاوى الهندية: ١٧٩/ ١، فتح القدير: ٤١/ ٢، اللباب: ١٦١/ ١ ومابعدها، الدر المختار: ١٠٦/ ٢.
وقال الجمهور (١): تجب زكاة الفطر بغروب شمس ليلةعيد الفطر، أي أول ليلة العيد؛ لأنها مضافة في الأحاديث المتقدمة إلى الفطر من رمضان، فكانت واجبة به؛ لأن الإضافة تقتضي الاختصاص، وأول فطر يقع من جميع رمضان ولا صوم بعده بمغيب الشمس من ليلة الفطر، وانقضاء الصوم بغروب الشمس، وسبب الخلاف بين الجمهور والحنفية: هل زكاة الفطر عبادة متعلقة بيوم العيد؛ أو بخروج شهر رمضان؛ لأن ليلة العيد ليست من شهر رمضان.
فمن مات بعد الغروب تجب عليه، أما من ولد أو أسلم بعد الغروب أو كان معسرًا وقت الوجوب ثم أيسر بعده، فلا فطرة عليه عند الجمهور، لعدم وجود سبب الوجوب وعليه الفطرة عند الحنفية. ولا تسقط عند الجمهور بعد وجوبها بموت ولا غيره، وتبقى في ذمته أبدًا حتى يخرجها.
أما تعجيلها: فيجوز عند الشافعية تقديم الفطرة من أول شهر رمضان؛ لأنها تجب بسببين:
صوم شهر رمضان، والفطر منه، فإذا وجد أحدهما، جاز تقديمها على الآخر، كزكاة المال بعد ملك النصاب وقبل الحول، ولا يجوز تقديمها على شهر رمضان؛ لأنه تقديم على السببين، فلا يجوز كإخراج زكاة المال قبل الحول والنصاب.
ويجوز عند المالكية والحنابلة تقديمها قبل العيد بيوم أو يومين، لا أكثر من ذلك، لقول ابن عمر: «كانوا يعطونها قبل الفطر بيوم أو يومين» (٢) ولا تجزئ قبل
(١) بداية المجتهد: ٢٧٣/ ١، القوانين الفقهية: ص ١١٢، الشرح الصغير: ٦٧٧/ ١ ومابعدها، مغني المحتاج: ٤٠١/ ١ ومابعدها، المهذب: ١٦٥/ ١، كشاف القناع: ٢٩٤/ ٢، المغني: ٦٧/ ٣ - ٦٩، الشرح الكبير: ٥٠٨/ ١.
(٢) رواه البخاري.
ذلك، لفوات الإغناء المأمور به في
قوله ﷺ: «أغنوهم عن الطلب هذا اليوم» (١)، بخلاف زكاة المال.
وأما تأخيرها عن صلاة العيد:
فقال الشافعية: المستحب ألا تؤخر عن صلاة العيد، للأمر بها قبل الخروج إليها في الصحيحين، فإن أخرت استحب الأداء أول النهار للتوسعة على المستحقين، ويحرم تأخيرها عن يوم العيد بلا عذر، كغيبة ماله أو المستحقين، لفوات المعنى المقصود، وهو إغناؤهم عن الطلب في يوم السرور، فلو أخر بلا عذر، عصى وقضى، لخروج الوقت على الفور، لتأخيره من غير عذر. أما تأخير زكاة المال عن التمكين فتكون أداء، والفرق أن الفطرة مؤقتة بزمن محدود كالصلاة.
وقال الحنابلة مثل الشافعية: آخر وقت الفطرة: غروب الشمس يوم الفطر، للحديث المتقدم: «أغنوهم عن الطلب هذا اليوم» فإن أخرها عن يوم العيد، أثم لتأخيره الواجب عن وقته، ولمخالفته الأمر، وعليه القضاء؛ لأنها عبادة، فلم تسقط بخروج الوقت، كالصلاة. والأفضل إخراج الفطرة يوم العيد قبل الصلاة أو قدرها في موضع لا يصلى فيه العيد، كما سأوضح.
وقال المالكية: يجوز إخرجها بعد صلاة العيد يوم الفطر، ولا تسقط الفطرة بمضي زمنها، بل هي باقية في الذمة أبدًا حتى يخرجها، كغيرها من الفرائض، وأثم إن أخرها عن يوم الفطر مع القدرة، فإن مضى زمنها مع العسر تسقط عنه.
(١) رواه الدارقطني.
المبحث الثالث - جنس الواجب وصفته ومقداره:
قال الحنفية (١): تجب زكاة الفطر من أربعة أشياء: الحنطة والشعير والتمر والزبيب، وقدرها نصف صاع من حنطة أو صاع من شعير أو تمر أو زبيب، والصاع عند أبي حنيفة ومحمد ثمانية أرطال بالعراقي، والرطل العراقي مئة وثلاثون درهمًا، ويساوي ٣٨٠٠ غرامًا؛ لأنه ﵇ كان يتوضأ بالمد رطلين، ويغتسل بالصاع ثمانية أرطال (٢)، وهكذا كان صاع عمر ﵁ (٣) وهو أصغر من الهاشمي، وكانوا يستعملون الهاشمي.
ودليلهم على تقدير الفطرة بصاع أو نصفه: حديث ثعلبة بن صعير العذري أنه قال: خطبنا رسول الله ﷺ فقال: «أدوا عن كل حر وعبد نصف صاع من بُرّ، أو صاعًا من تمر، أو صاعًا من شعير» (٤).
دفع القيمة عندهم: يجوز عند الحنفية أن يعطي عن جميع ذلك القيمة دراهم أو دنانير أو فلوسًا أو عروضًا أو ما شاء؛ لأن الواجب في الحقيقة إغناء الفقير، لقوله ﷺ: «أغنوهم عن المسألة في مثل هذا اليوم» والإغناء يحصل بالقيمة، بل أتم وأوفر وأيسر؛ لأنها أقرب إلى دفع الحاجة، فيتبين أن النص معلل بالإغناء.
(١) البدائع: ٧٢/ ٢ ومابعدها، الفتاوى الهندية: ١٧٩/ ١، فتح القدير: ٣٦/ ٢ - ٤١، الكتاب مع اللباب: ١٤٧/ ١،١٦٠، تبيين الحقائق: ٣٠٨/ ١ وما بعدها.
(٢) روي من حديث أنس عند الدارقطني من ثلاثة طرق، ومن حديث جابر عند ابن عدي، وهو ضعيف، والصحيح ما روي عن أنس أن رسول الله ﷺ كان يتوضأ بالمد ويغتسل إلى خمسة أمداد، كما ذكر البيهقي (نصب الراية: ٤٣٠/ ٢).
(٣) رواه ابن أبي شيبة عن حسن بن صالح (المرجع السابق).
(٤) رواه أبو داود، وروي أيضًا عن ابن عباس في معناه (نيل الأوطار: ١٨٣/ ٤، نصب الراية: ٤٠٦/ ٢ وما بعدها، ٤١٨) وهو حديث معلول مضطرب، بسبب الاختلاف في اسم أبي صعير، وفي اللفظ.
وقال الجمهور (١): تؤدى زكاة الفطر من الحبوب والثمار المقتاتة وهي صاع، وتفصيل كلامهم ما يأتي.
يرى المالكية: أنها تجب من غالب قوت البلد من أصناف تسعة فقط: قمح أو شعير أو سُلت (نوع من الشعير) أو ذرة أو دَخَن أو تمر أو زبيب أو أقط: وهو يابس اللبن المخرج زبده، فيتعين الإخراج مما غلب الاقتيات منه من هذه الأصناف التسعة، ولا يجزئ الإخراج من غيرها، ولا منها إن كان غالب القوت غيره، إلا أن يخرج الأحسن، كالقمح بدل الشعير. وزكاة الفطر صاع (أربعة أمداد) والمد: حفنة ملء اليدين المتوسطتين.
وذهب الشافعية إلى أنها تجب من غالب قوت البلد أو المحل؛ لأن ذلك يختلف باختلاف النواحي، والمعتبر في غالب القوت غالب قوت السنة، ويجزئ الأعلى عن الأدنى، لا العكس، وذلك بزيادة الاقتيات في الأصح لا بالقيمة، فالبُرّ خير من التمر والأرُزّ، والأصح أن الشعير خير من التمر، وأن التمر خير من الزبيب، ولا يبعَّض الصاع المخرج عن الشخص الواحد من جنسين، ولو كان في بلد أقوات لا غالب فيها تخير، والأفضل أشرفها، والواجب: الحب السليم، فلا يجزئ المسوس والمعيب وإن كان يقتاته. ومقدارها صاع وهو في الأصح ست مئة درهم وخمسة وثمانون درهمًا وخمسة أسباع درهم (٦٨٥ و٨/ ٥) أو خمسة أرطال وثلث بالبغدادي، وأربعة أرطال ونصف وربع رطل وسبع أوقية بالمصري.
وقرر الحنابلة: أنه يجب المنصوص عليه من البر والشعير والتمر والزبيب والأقط، فإن لم توجد هذه الأصناف يجزئه كل مقتات من الحبوب والثمار،
(١) الشرح الصغير: ٦٧٥/ ١ وما بعدها، بداية المجتهد: ٢٧٢/ ١، القوانين الفقهية: ص١١٢، مغني المحتاج: ٤٠٥/ ١ - ٤٠٧، المهذب: ١٦٥/ ١، المغني: ٦٠/ ٣ - ٦٥،كشاف القناع: ٢٩٥/ ٢ - ٢٩٧.
ولايجزئ المقتات من غيرها كاللحم واللبن. وظاهر المذهب أنه لا يجوز له العدول عن هذه الأصناف مع القدرة عليها، سواء كان المعدول إليه قوت بلده أو لم يكن، ويجوز إخراج الدقيق والسويق. ولا يجوز إخراج الخبز، ومن أي الأصناف المنصوص عليها أخرج جاز، وإن لم يكن قوتًا له، أو كان قوته غالب قوت البلد.
ومقدارها صاع عراقي وهو أربع حفنات بكفي رجل معتدل القامة؛ لأنه الذي أخرج به في عهده ﷺ، ويقدر كما سبق عند الجمهور بـ (١٥٧٢ غم) وعند جماعة: (٦٧١٢ غم) وهو ما اعتمدته في تقدير الأوسق الخمسة.
ودليل الجمهور: الأحاديث السابقة، وهي أصح من أحاديث الحنفية، ومنها حديث أبي سعيد الخدري: «كنا نخرج زكاة الفطر، إذ كان فينا النبي ﷺ صاعًا من طعام، أو صاعًا من شعير، أو صاعًا من تمر، أوصاعًا من زبيب، أوصاعًا من أقط» وروى الدارقطني عن مالك بن أنس أن صاع النبي ﷺ خمسة أرطال وثلث بالعراقي.
دفع القيمة عندهم: لا يجزئ عند الجمهور إخراج القيمة عن هذه الأصناف، فمن أعطى القيمة لم تجزئه، لقول ابن عمر: «فرض رسول الله ﷺ صدقة الفطر صاعًا من تمر، وصاعًا من شعير» (١) فإذا عدل عن ذلك فقد ترك المفروض.
المبحث الرابع - مندوباتها ومباحاتها:
اتفق الفقهاء (٢) على أنه يستحب إخراج صدقة الفطر يوم الفطر بعد الفجر
(١) رواه الجماعة (نيل الأوطار: ١٧٩/ ٤).
(٢) فتح القدير: ٤٢/ ٢، اللباب: ١٦٢/ ١، حاشية ابن عابدين: ١٠٧/ ٢، القوانين الفقهية: ص ١١٢، الشرح الصغير: ٦٧٧/ ١، المهذب: ١٦٥/ ١، مغني المحتاج: ٤٠٢/ ١، كشاف القناع: ٢٩٤/ ٢، المغني: ٦٦/ ٣ ومابعدها.
قبل الصلاة، لحديث ابن عمر: «أن النبي ﷺ أمر بها أن تؤدى قبل خروج الناس إلى
الصلاة» (١) ولحديث ابن عباس: «من أداها قبل الصلاة فهي زكاة مقبولة، ومن أداها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات» (٢) والمراد بالزكاة: صدقة الفطر، والمراد بالصدقة: أنها التي يتصدق بها في سائر الأوقات، وأمر القبول فيها متوقف على مشيئة الله تعالى.
إلا أن أكثرية الفقهاء ذهبوا إلى أن إخراجها قبل صلاة العيد إنما هو مستحب فقط، وجزموا بأنها تجزئ إلى آخر يوم الفطر، فمن أخرها عن الصلاة، ترك الأفضل؛ لأن المقصود منها الإغناء عن الطواف والطلب في هذا اليوم، لحديث: «أغنوهم عن الطلب في هذا اليوم» فمتى أخرها لم يحصل إغناؤهم في جميعه، لا سيما في وقت الصلاة، فدل على أن تأخيرها عن الصلاة مكروه تنزيهًا، وأن الأمر بإخراجها قبل الصلاة للندب. ويحرم بالاتفاق تأخيرها عن يوم العيد؛ لأنها زكاة، فوجب أن يكون في تأخيرها إثم، كما في إخراج الصلاة عن وقتها.
وذكر المالكية أنه يندب إخراجها من قوته الأحسن من قوت أهل البلد. وندب عدم زيادة على الصاع، بل تكره الزيادة؛ لأن الشارع إذا حدد شيئًا كان ما زاد عليه بدعة، والبدعة تارة تقتضي الفساد، وتارة تقتضي الكراهة، ومحل الكراهة إن تحققت الزيادة، وإلا فيتعين أن يزيد ما يزيل به الشك.
(١) رواه الجماعة إلا ابن ماجه (نيل الأوطار: ١٨٣/ ٤).
(٢) رواه أبو داود وابن ماجه (نيل الأوطار: ١٨٤/ ٤).
المبحث الخامس - مصرفها أو من يأخذها:
اتفق الفقهاء (١) على أن مصرف زكاة الفطر هو مصارف الزكاة المفروضة؛ لأن صدقة الفطر زكاة، فكان مصرفها مصرف سائر الزكوات؛ ولأنها صدقة، فتدخل في عموم قوله تعالى: ﴿إنما الصدقات للفقراء والمساكين﴾ [التوبة:٦٠/ ٩] ولا يجوز دفعها إلى من لا يجوز دفع زكاة المال إليه، ولا يجوز عند الجمهور (المالكية والشافعية والحنابلة) دفعها إلى ذمي؛ لأنها زكاة، فلم يجز دفعها إلى غير المسلمين، كزكاة المال، ولا خلاف في أن زكاة المال لا يجوز دفعها إلى غير المسلمين، قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على ألا يجزئ أن يعطى من زكاة المال أحد من أهل الذمة.
وقال الحنفية: صدقة الفطر كالزكاة في المصارف وفي كل حال، إلا في جواز الدفع إلى الذمي مع الكراهة، وعدم سقوطها بهلاك المال، لكن الفتوى على قول أبي يوسف وهو عدم جواز صرفها للذمي، كزكاة الأموال، للحديث المتقدم في الزكاة: «صدقة تؤخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم».
وعليه: تدفع صدقة الفطر بالاتفاق لكل حر مسلم فقير، غير هاشمي لشرفه وتنزهه عن أوساخ الناس، لكن في الوقت الحاضر تعطى الزكوات للهاشمي لانقطاع موردهم من بيت المال.
فإن لم يقدرالمسلم إلا على بعض الصاع - بعض الفطرة، أوبعض ما وجب عليه إن وجب أكثر من فطرة، أخرجه وجوبًا، محافظة على الفطرة بقدر الإمكان،
(١) الدر المختار ورد المحتار: ١٠٧/ ١ - ١٠٨، بداية المجتهد: ٢٧٣/ ١، القوانين الفقهية: ص ١١٢، الشرح الصغير:٦٧٧/ ١ ومابعدها، المهذب: ١٧٠/ ١، حاشية الباجوري: ٢٩١/ ١، المغني: ٧٤/ ٣، ٧٨، ٧٩، مغني المحتاج: ٤٠٥/ ١.
ويبدأ بنفسه، ثم بمن يعول، ويقدم ممن يعول عند الجمهور الزوجة لأن نفقتها آكد، والأظهر عند المالكية والحنابلة تقديم الوالد على الولد، ودليل الترتيب قوله ﵇: «ابدأ بنفسك، ثم بمن تعول» (١) ولأن الفطرة تنبني على النفقة، فكما يبدأ بنفسه في النفقة، فكذلك في الفطرة.
ويقدم عند الشافعية نفسه ثم زوجته، ثم ولده الصغير، ثم الأب، ثم الأم، ثم الولد الكبير، لخبر مسلم: «ابدأ بنفسك فتصدق عليها، فإن فضل شيء فلأهلك، فإن فضل عن أهلك شيء فلذي قرابتك».
ويجوز أن يعطي من أقاربه من يجوز أن يعطيه من زكاة ماله، ولا يعطي منها غنيًا، ولا ذا قربى تجب عليه نفقته، ولا أحدًا ممن منع أخذ زكاة المال. ويجوز صرفها في الأصناف الثمانية؛ لأنها صدقة، فأشبهت صدقة المال.
وظاهر المذهب الشافعي أنه يجب دفعها للأصناف الثمانية، وفيه عسر، واختار بعض الشافعية صرفها إلى واحد، ولا بأس بتقليده في زماننا هذا، كما قال الباجوري، وقال بعضهم: لو كان الشافعي حيًا لأفتى به.
وأجازالفقهاء دفع صاع واحد لمساكين يقتسمونه، وأباح غير الشافعي دفع آصع متعددة لواحد من الفقراء، ودفع كل شخص فطرته إلى مسكين أو مساكين، أي إن الجمهور أجازوا إعطاء الواحد ما يلزم الجماعة، والجماعة ما يلزم الواحد، أي دفع صدقة جماعة إلى مسكين واحد، لكن لا خلاف بين الفقهاء في إعطاء
(١) هذا مجموع حديثين: الشق الأول منه رواه أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي عن جابر، والثاني مروي عن حكيم بن حزام عند الطبراني، وعن طارق المحاربي عند النسائي (نيل الأوطار: ٣٢١/ ٦، ٣٢٧).
الجماعة ما يلزم الواحد؛ لأنه صرف صدقته إلى مستحقها، فبرئ منها كما لو دفعها إلى واحد.
أما إعطاء الواحد صدقة الجماعة: فإن الشافعي أوجب تفرقة الصدقة على ستة أصناف، ودفع حصة كل صنف إلى ثلاثة منهم، كما ذكر في مصارف الزكاة. والراجح رأي الجمهور؛ لأنها صدقة لغير معين، فجاز صرفها إلى واحد، فيجوز أن يأخذ الواحد زكاة أكثر من واحد.