اسم المؤلف: أبو الطيب محمد صديق خان بن حسن بن علي ابن لطف الله الحسيني البخاري القِنَّوجي (ت ١٣٠٧هـ)
اسم المحقق، تحقيق: محمد حسن إسماعيل - أحمد فريد المزيدي
دار النشر: دار الكتب العلمية
تاريخ النشر: ٣٠/٠١/٢٠٠٣
عدد الصفحات: ٤٧١
فهرس الموضوعات
- سورة محمد صلى الله عليه وآله وسلم آياتها تسع وثلاثون، وقيل: ثمان وثلاثون آية
- [سورة محمد (٤٧) : آية ٤]
- [سورة محمد (٤٧) : آية ٣٥]
- سورة الفتح تسع وعشرون آية
- [سورة الفتح (٤٨) : آية ٢٥]
- سورة الحجرات ثمان عشرة آية
- [سورة الحجرات (٤٩) : آية ٦]
- [سورة الحجرات (٤٩) : آية ٩]
- سورة النجم إحدى وستون وقيل: اثنتان وستون آية
- [سورة النجم (٥٣) : آية ٣٩]
- سورة الواقعة سبع أو ست وتسعون آية
- [سورة الواقعة (٥٦) : آية ٧٩]
- سورة الحديد تسع وعشرون آية
- [سورة الحديد (٥٧) : آية ٢٧]
- سورة المجادلة اثنتان وعشرون آية
- [سورة المجادلة (٥٨) : الآيات ٣ إلى ٤]
- سورة الحشر
- [سورة الحشر (٥٩) : الآيات ٥ إلى ٧]
- سورة الممتحنة ثلاث عشرة آية
- [سورة الممتحنة (٦٠) : الآيات ٨ إلى ١٢]
- سورة الجمعة إحدى عشرة آية
- [سورة الجمعة (٦٢) : آية ٩]
- سورة المنافقين إحدى عشرة آية
- [سورة المنافقون (٦٣) : آية ١]
- سورة الطلاق إحدى واثنتا عشرة آية
- [سورة الطلاق (٦٥) : الآيات ١ إلى ٤]
- [سورة الطلاق (٦٥) : الآيات ٦ إلى ٧]
- سورة التحريم اثنتا عشرة آية
- [سورة التحريم (٦٦) : الآيات ١ إلى ٢]
- سورة نوح تسع وعشرون أو ثمان وعشرون آية
- [سورة نوح (٧١) : الآيات ١٠ إلى ١٢]
- سورة المزمل تسع عشرة أو عشرون آية
- [سورة المزمل (٧٣) : الآيات ٢ إلى ٤]
- [سورة المزمل (٧٣) : آية ٢٠]
- سورة المدثر ست وخمسون آية
- [سورة المدثر (٧٤) : الآيات ٣ إلى ٥]
- سورة أرأيت سبع آيات
- [سورة الماعون (١٠٧) : آية ٧]
- سورة الكوثر هي ثلاث آيات
- [سورة الكوثر (١٠٨) : آية ٢]
- العودة الي كتاب نيل المرام من تفسير آيات الأحكام
سورة محمد ﵌ آياتها تسع وثلاثون، وقيل: ثمان وثلاثون آية
وتسمى سورة القتال، وسورة الذين كفروا.
وهي مدنيّة. قال الماوردي: في
قول الجميع إلا ابن عباس وقتادة فإنهما قالا: إلا آية نزلت منها بعد حجة الوداع
حيث خرج من مكة وجعل ينظر إلى البيت وهو يبكي حزنا فنزل قوله تعالى: وَكَأَيِّنْ
مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ [محمد: ١٣] .
وقال
الثعلبي: إنها مكية. وهو غلط من القول، فالسورة مدنيّة كما لا يخفى «١» .
[الآية
الأولى]
فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ حَتَّى
إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا
فِداءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها ذلِكَ وَلَوْ يَشاءُ اللَّهُ
لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلكِنْ لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ
قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ (٤) .
فَشُدُّوا
الْوَثاقَ: بالفتح، وتجيء بالكسر، اسم الشيء الذي يوثق به كالرباط.
والمعنى
إذا بالغتم في قتلهم فأسروهم واحفظوهم بالوثاق.
فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ
وَإِمَّا فِداءً أي فإما أن تمنوا عليهم بعد الأسر منا أو تفدوا فداء.
والمن:
الإطلاق بغير عوض.
والفداء: ما يفدي به الأسير نفسه من الأسر. ولم يذكر
القتل هنا اكتفاء بما تقدم، وإنما قدم المن على الفداء لأنه من مكارم الأخلاق،
ولهذا كانت العرب تفتخر به:
(١) قول الثعلبي في تفسيره «الكشف والبيان»
مخطوط بأماكن متفرقة بمصر والظاهرية وتركيا والسعودية والهند وغيرها، وهو قيد
التحقيق.
ولا نقتل الأسرى ولكن نفكهم ... إذا أثقل الأعناق حمل
المغارم
ثم ذكر سبحانه الغاية لذلك فقال: حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ
أَوْزارَها.
أوزار الحرب: آلاتها التي لا تقوم إلا بها من السلاح والكراع،
أسند الوضع إليها وهو لأهلها على طريق المجاز.
والمعنى أن المسلمين مخيرون
بين تلك الأمور إلى غاية، هي أن لا يكون حرب مع الكفار.
وقال مجاهد: المعنى
حتى لا يكون دين غير دين الإسلام، وبه قال الحسن والكلبي.
وقال الكسائي: حتى
يسلم الخلق.
قال الفراء: حتى يؤمنوا ويذهب الكفر. وقيل: المعنى حتى يضع
الأعداء المحاربون أوزارهم وهو سلاحهم بالهزيمة أو الموادعة.
وروي عن الحسن
وعطاء أنهما قالا: في الآية تقديم وتأخير، والمعنى: فضرب الرقاب حتى تضع الحرب
أوزارها، فإذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق «١» .
وقد اختلف العلماء في هذه
الآية: هل هي محكمة؟ أو منسوخة؟
فقيل: إنها منسوخة في أهل الأوثان، وأنه لا
يجوز أن يفادوا ولا يمن عليهم، والناسخ لها قوله: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ
حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ [التوبة: ٥] وقوله: فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي
الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ [الأنفال: ٥٧]، وقوله: وَقاتِلُوا
الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً [التوبة: ٣٦]، وبهذا قال قتادة والضحاك والسدي وابن جريج
وكثير من الكوفيين «٢» .
قالوا: والمائدة آخر ما نزل، فوجب أن يقتل كل مشرك
إلا من قامت الدلالة على
(١) انظر: الطبري (٢٦/ ٤٠)، والسيوطي في «الدر
المنثور» (٦/ ٤٦)، والقرطبي في «تفسيره» (١٦/ ٢٢٦، ٢٢٨) . ومعاني الفراء (٣/ ٥٧)،
وزاد المسير لابن الجوزي (٧/ ٣٩٧)، والنكت والعيون للماوردي (٤/ ٤٤) .
(٢)
وممن قال بدعوى النسخ أيضا: شعبة عن الحكم ومغيرة بن شعبة والحسن البصري ومجاهد
وهو مذهب أبي حنيفة وانظر: القرطبي (١٦/ ٢٢٧)، الدر المنثور (٦/ ٤٦، ٤٧)، والناسخ
والمنسوخ لابن العربي (٢/ ٣٧٢) .
تركه كالنساء والصبيان «١»،
ومن يؤخذ منه الجزية «٢» . وهذا هو المشهور من مذهب أبي حنيفة.
وقيل: إن هذه
الآية ناسخة لقوله: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ [التوبة:
٥]، روي ذلك عن عطاء وغيره.
وقال كثير من العلماء: إن الآية محكمة وإن
الإمام مخير بين القتل والأسر، وبعد الأسر مخير بين المن والفداء. وبه قال مالك
والشافعي والثوري والأوزاعي وأبو عبيد وغيرهم وهذا هو الراجح، لأن النبي ﵌
والخلفاء الراشدين من بعده فعلوا ذلك «٣» .
وقال سعيد بن جبير: لا يكون فداء
ولا أسر إلا بعد الإثخان والقتل بالسيف لقوله: ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ
لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ [الأنفال: ٦٧]، فإذا أسر بعد ذلك
فللإمام أن يحكم بما رآه من قتل أو غيره «٤» .
[الآية الثانية]
فَلا
تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ
مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ (٣٥) .
فَلا تَهِنُوا: أي لا
تضعفوا عن القتال.
(١) دلّ على ذلك ما أخرجه البخاري (٦/ ١٤٨)، ومسلم (١٢/
٤٨) عن ابن عمر قوله مرفوعا:
«وجدت امرأة مقتولة في بعض مغازي النبي ﵌، فنهى
رسول الله عن قتل النساء والصبيان» .
(٢) دلّ على ذلك قوله ﷿: حَتَّى
يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ (٢٩) [التوبة: ٢٩] .
(٣)
قال القاضي محمد بن العربي ﵀: «والآية محكمة ليس للنسخ فيها طريق، لا من آيات
القتال ولا من غيرها، لأن النسخ كما بينا إنما يكون بشروط منها المعارضة ومنها
معرفة التاريخ، ولا تاريخ هاهنا يعلم، ولا معارضة بين الآيتين، لأن آيات القتال
هي معنى قوله تعالى: فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ
فأمر بالقتال ثم قال: حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ ثم منوا
بعد ذلك عليهم أو فادوهم، وقد منّ النبي ﵌ على ثمامة بن أثال وأطلقه، وقال في
أسارى بدر: «لو كان المطعم بن عدي حيّا وكلمني في هؤلاء النتنى لتركتهم له»
والإمام مخير في الأسرى بين خمسة أشياء: إما القتل أو المنّ أو الفداء أو الرّق
أو إقرارهم على الجزية، وبه قال جماعة.
روى أبو حنيفة الإمام لا يمن إلا من
جهة الآية، ولكن زعم أن في المنّ إتلاف حق الغانمين، وهذا يبطل بالقتل، فإن له أن
يقتل جميعهم وفي ذلك إتلاف حقهم، ويبطل أيضا بما قدمناه من الأدلة والله أعلم.
(الناسخ والمنسوخ ٢/ ٨٧٢، ٨٧٣) . والأحكام (٤/ ١٦٨٨) .
(٤) ذكر قول سعيد بن
جبير القرطبي في «تفسيره» (١٦/ ٢٢٨)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦/ ٤٦) .
بنحوه.
والوهن:
الضعف.
وَلا تَدْعُوا: أي الكفار.
إِلَى السَّلْمِ: أي الصلح، ابتداء
منكم فإن ذلك لا يكون إلا عند الضعف.
قال الزجاج: منع الله المسلمين
المؤمنين أن يدعوا الكفار إلى الصلح وأمرهم بحربهم حتى يسلموا «١» .
واختلف
أهل العلم في هذه الآية: هل هي محكمة؟ أو منسوخة؟ فقيل: إنها محكمة وناسخة لقوله:
وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها [الأنفال: ٦١] . وقيل: منسوخة بهذه
الآية. ولا يخفى عليك أن لا مقتضى للقول بالنسخ، فإن الله سبحانه نهى المسلمين في
هذه الآية أن يدعوا إلى السّلم ابتداء ولم ينه عن قبول السّلم إذا جنح إليها
المشركون، فالآيتان محكمتان ولم تتواردا على محل واحد حتى يحتاج إلى دعوى النسخ
أو التخصيص «٢» .
وجملة: وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ: مقررة لما قبلها من
النهي، أي وأنتم الغالبون بالسيف والحجة.
قال الكلبي: أي آخر الأمر لكم وإن
غلبوكم في بعض الأوقات.
وكذا قوله: وَاللَّهُ مَعَكُمْ: أي بالنصر والمعونة
عليهم.
(١) انظر: معاني القرآن للنحاس (٦/ ٤٨٦)، والمجاز لأبي عبيدة (٢/
٢١٦)، وغريب ابن قتيبة (٤١١)، وزاد المسير (٧/ ٤١٤)، وتفسير القرطبي (١٦/ ٢٥٦)
.
(٢) انظر في ذلك: زاد المسير (٧/ ٤١٤)، القرطبي (١٦/ ٢٥٦) . [.....]
سورة الفتح تسع وعشرون آية
كلها مدنيّة بالإجماع، قاله القرطبي «١» .
وقال مروان ومسوّر بن
مخرمة: نزلت بين مكة والمدينة في شأن الحديبية وهذا لا ينافي الإجماع، لأن المراد
بالسّور المدنية السّور النازلة بعد الهجرة من مكة.
[الآية الأولى]
هُمُ
الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَالْهَدْيَ
مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ
مُؤْمِناتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَؤُهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ
بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا
لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابًا أَلِيمًا (٢٥) .
وَلَوْلا
رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ: يعني المستضعفين ممن آمن بمكة.
ومعنى:
لَمْ تَعْلَمُوهُمْ: لم تعرفوهم. وقيل لم تعلموا أنهم مؤمنون.
أَنْ
تَطَؤُهُمْ: بالقتل والإيقاع بهم، يقال: وطئت القوم أي أوقعت بهم. وذلك أنهم لو
أخذوا مكة عنوة بالسيف لم يتميز المؤمنون الذين هم فيها من الكفار، وعند ذلك لا
يأمنوا أن يقتلوا المؤمنين فتلزمهم الكفارة وتلحقهم سبة.
وهو معنى قوله:
فَتُصِيبَكُمْ، أي من جهتهم.
مَعَرَّةٌ: أي مشقة بما يلزمكم في قتلهم من
كفارة وعيب.
(١) ينظر: صحيح مسلم (١٧٨٦)، (٣/ ١٤١٣)، والطبري (٢٦/ ٤٣)،
والنكت (٤/ ٥٦)، وزاد المسير (٧/ ٤١٨)، والقرطبي (١٦/ ٢٦٠)، ابن كثير (٤/ ١٨٢)،
الدر المنثور (٦/ ٦٧)، اللباب (١٩٣) .
وأصل المعرة: العيب،
مأخوذة من العر وهو الحرب. وذلك أن المشركين سيقولون إن المسلمين قد قتلوا أهل
دينهم.
قال الزجاج: معرة أي إثم، وكذا قال الجوهري- وبه قال ابن زيد-.
وقال
الكلبي ومقاتل وغيرهما: المعرة كفارة قتل الخطأ.
وقال ابن إسحق: المعرة غرم
الدية.
وقال قطرب: المعرة الشدة، وقيل: الغم.
بِغَيْرِ عِلْمٍ متعلق
بأن تطئوهم أي غير عالمين. وجواب لولا محذوف أي لإذن الله ﷿ لكم، أو لما كف
أيديكم عنهم «١» .
(١) انظر في تفسير هذه الآية: تذكرة الأريب (٢/ ١٦٦)،
البحر المحيط (٨/ ٩٧)، والفرّاء (٣/ ٦٧) .
سورة الحجرات ثمان عشرة آية
وهي مدنية، قال القرطبي: بالإجماع «١» .
[الآية الأولى]
يا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ
تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ (٦)
.
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ
فَتَبَيَّنُوا: من التبيين.
وقرأ حمزة والكسائي من التثبيت فتثبتوا. والمراد
من التبيين التعرف والتفحص، ومن التثبيت الأناة وعدم العجلة والتبصر في الأمر
الواقع والخبر الوارد حتى يتضح ويظهر «٢» .
قال المفسرون: إن هذه الآية نزلت
في الوليد بن عقبة بن أبي معيط «٣» .
كراهة أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا
بِجَهالَةٍ: أو لئلا تصيبوا، لأن الخطأ ممن لم يتبين الأمر ولم يتثبت فيه هو
الغالب وهو جهالة، لأنه لم يصدر عن علم.
والمعنى متلبسين بجهالة بحالهم.
فَتُصْبِحُوا
عَلى ما فَعَلْتُمْ: بهم من إصابتهم بالخطأ.
نادِمِينَ (٦): على ذلك مغتمين
له مهتمين به.
(١) انظره في «تفسيره» (١٦/ ٣٠٠) .
(٢) انظر القرطبي
(١٦/ ٣٠٧) .
(٣) انظر: مسند أحمد (٤/ ٢٧٩)، والطبراني في «الكبير» (٣/ ٢٧٤،
٢٧٥)، (٣٣٩٥)، والدر للسيوطي (٧/ ٥٥٥، ٥٥٦)، الفتح الرّباني (١٨/ ٢٨٢)، الطبري
(٢٦/ ٧٨)، زاد المسير (٧/ ٤٦٠)، اللباب (١٩٦)، القرطبي (١٦/ ٣١١) .
[الآية
الثانية]
وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا
بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي
حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما
بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (٩) .
وَإِنْ
طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا: باعتبار كل فرد من أفراد
الطائفتين.
فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما: أي إذا تقاتل فريقان من المسلمين فعلى
المسلمين أن يسعوا في الصلح بينهم ويدعوهم إلى حكم الله.
فَإِنْ بَغَتْ
إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى
أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ: أي فإن حصل
بعد ذلك التعدي من إحدى الطائفتين على الأخرى ولم تقبل الصلح ولا دخلت فيه، كان
على المسلمين أن يقاتلوا هذه الطائفة الباغية، حتى ترجع إلى أمر الله وحكمه فإن
رجعت تلك الطائفة الباغية عن بغيها وأجابت الدعوة إلى كتاب الله وحكمه، فعلى
المسلمين أن يعدلوا بين الطائفتين في الحكم ويتحروا في الصواب المطابق لحكم الله
ويأخذوا على يد الطائفة الظالمة، حتى تخرج من الظلم وتؤدي ما يجب عليها
للأخرى.
ثم أمر الله سبحانه المسلمين أن يعدلوا في كل أمورهم بعد أمرهم بهذا
العدل الخاص بالطائفتين المقتتلتين فقال:
وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ
يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (٩) أي واعدلوا إن الله يحب العادلين، ومحبته لهم تستلزم
مجازاتهم بأحسن الجزاء.
وقد أوضح الشوكاني ما هو الحق في هذا المرام في شرحه
«نيل الأوطار للمنتقى» «١»، وبسطنا الكلام على أحكام البغي والبغاة في شرحنا «مسك
الختام لبلوغ المرام» فليرجع إليهما.
(١) انظر: نيل الأوطار (٧/ ٣٣٨ فيما
بعدها) .
سورة النجم إحدى وستون وقيل: اثنتان وستون آية
مكية جميعها، في قول الجمهور «١» .
وروي عن ابن عباس: إلا آية منها،
وهي قوله: الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ إِلَّا
اللَّمَمَ [النجم: ٣٢] الآية.
[الآية الأولى]
وَأَنْ لَيْسَ
لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى (٣٩) .
وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما
سَعى ٣٩: أي ليس له إلا أجر سعيه وجزاء عمله، ولا ينفع أحدا عمل أحد.
وهذا
العموم مخصوص مثل قوله سبحانه: أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ [الطور: ٢١]،
وبمثل ما ورد في شفاعة الأنبياء والملائكة للعباد «٢»، ومشروعية دعاء الأحياء
للأموات وتصدقهم عنهم ونحو ذلك «٣» .
ولم يصب من قال: إن هذه الآية منسوخة
بمثل هذه الأمور فإن الخاص لا ينسخ العام بل يخصصه، فكلما قام الدليل على أن
الإنسان ينتفع به- وهو من غير سعيه- كان مخصصا لما في هذه الآية من العموم «٤»
.
(١) انظر: الفراء (٣/ ٩٤)، الطبري (٢٧/ ٢٤)، النكت (٤/ ١١٨)، زاد المسير
(٨/ ٦٢)، القرطبي (١٧/ ٨٢)، ابن كثير (٤/ ٢٤٦)، الدر المنثور (٦/ ١٢١) .
(٢)
صحيح: ما رواه مسلم (٣/ ٢٥، ٣٤)، (١٨٣) عن أبي سعيد الخدري مرفوعا.
(٣) انظر
في ذلك: نيل الأوطار (٤/ ١٤٢) .
(٤) انظر: الناسخ والمنسوخ لابن العربي (٢/
٨٧٨، ٨٧٩)، والأحكام له (٤/ ١٧١٩) .
سورة الواقعة سبع أو ست وتسعون آية
وهي كلها مكية، في قول جماعة من العلماء كالحسن وعكرمة وجابر وعطاء.
قال
ابن عباس وقتادة: إلا آية منها نزلت بالمدينة، وهي قوله تعالى: وَتَجْعَلُونَ
رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ (٨٢) [الواقعة: ٨٢] «١» .
[الآية
الأولى]
لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (٧٩) .
لا يَمَسُّهُ
إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (٧٩): قال الواحدي: أكثر المفسرين على أن الضمير عائد إلى
الكتاب المكنون.
والمطهرون: هم الملائكة. وقيل: هم الملائكة والرسل من بني
آدم.
ومعنى لا يمسه: المسّ الحقيقي. وقيل: المعنى لا ينزل به إلا المطهرون.
وقيل:
المعنى لا يقرؤه. وعلى كون المراد بالكتاب المكنون هو القرآن، فقيل:
لا يمسه إلا المطهرون من الأحداث والأنجاس، كذا قال قتادة وغيره «٢» .
وقال
الكلبي: المطهرون من الشرك.
وقال الربيع بن أنس: المطهرون من الذنوب
والخطايا.
وقال محمد بن الفضل وغيره: معنى الآية لا يقرؤه إلا الموحدون.
وقال
الحسين بن الفضل: لا يعرف تفسيره وتأويله إلا من طهره الله من الشرك والنفاق «٣»
.
(١) انظر: الطبري (٢٧/ ٩٦)، وزاد المسير (٨/ ١٣١) .
(٢) انظر: الفراء
(٣/ ١٢٩)، الطبري (٢٧/ ١١٨) والنكت والعيون (٤/ ١٧٨)، وزاد المسير (٨/ ١٥١)،
القرطبي (١٧/ ٣٢٥)، وابن كثير (٤/ ٢٩٨) .
(٣) انظر: زاد المسير (٨/ ١٥١،
١٥٢)، القرطبي (٧/ ٢٢٥) .
وقد ذهب الجمهور إلى منع المحدث من مس
المصحف، وبه قال علي وابن مسعود وسعد بن أبي وقاص وابن زيد وعطاء والزهري والنخعي
والحكم وحماد وجماعة من الفقهاء منهم مالك والشافعي.
وروي عن ابن عباس
والشعبي وجماعة منهم أبو حنيفة: ويجوز للمحدث مسه «١» .
وقد أوضح الشوكاني
ما هو الحق في «شرحه للمنتقى» فليرجع إليه «٢» .
(١) انظر: سبل السلام (١/
٧٠)، جامع الأمهات (ص ٥٩) كفاية الأخيار (ص ٧٨)، شرح العبادات لليعقوبي (ص ١٢٦) .
[.....]
(٢) انظر: نيل الأوطار (١/ ٢٦٠، ٢٦٢، ٢٨٣، ٢٨٥) .
سورة الحديد تسع وعشرون آية
كلها مدنية. قال القرطبي: في قول الجميع «١» .
[الآية الأولى]
ثُمَّ
قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِرُسُلِنا وَقَفَّيْنا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ
وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً
وَرَحْمَةً وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ إِلَّا
ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللَّهِ فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها فَآتَيْنَا الَّذِينَ
آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (٢٧) .
وَجَعَلْنا
فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً: الذين اتبعوه هم. الحواريون، جعل
الله في قلوبهم مودة لبعضهم البعض.
وَرَحْمَةً: يتراحمون بها بخلاف اليهود
فإنهم ليسوا كذلك.
أصل الرأفة: اللين.
والرحمة: الشفقة.
وقيل:
الرأفة: أشد الرحمة.
وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها: أي ابتدعوا رهبانية.
ورجحه أبو علي الفارسي على العطف على ما قبلها.
والرهبانية: بفتح الراء
وضمها، وهي بالفتح الخوف من الرهب، وبالضم منسوبة إلى الرهبان وذلك لأنهم غلوا في
العبادة وحملوا على أنفسهم المشقات في الامتناع من
(١) انظره في «تفسيره»
(١٧/ ٢٣٥) .
المطعم والمشرب والمنكح، وتعلقوا بالكهوف والصوامع،
لأن ملوكهم غيروا وبدلوا وبقي منهم نفر قليل فترهبوا وتبتلوا. ذكر معناه قتادة
والضحاك وغيرهما.
ما كَتَبْناها: أي ما فرضناها.
عَلَيْهِمْ إِلَّا
ابْتِغاءَ: استثناء منقطع، أي ما كتبناها عليهم رأسا ولكن ابتدعوها ابتغاء.
رِضْوانِ
اللَّهِ فَما رَعَوْها أي هذه الرهبانية التي ابتدعوها من جهة أنفسهم.
حَقَّ
رِعايَتِها، بل ضيعوها وكفروا بدين عيسى ودخلوا في دين الملوك الذين غيروا وبدلوا
وتركوا الترهب ولم يبق على دين عيسى إلا قليل منهم وهم المرادون بقوله:
فَآتَيْنَا
الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ الذي يستحقونه بالإيمان، وذلك لأنهم آمنوا
بعيسى وثبتوا على دينه حتى آمنوا بمحمد ﵌ لما بعثه الله.
وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ
فاسِقُونَ (٢٧): خارجون عن الإيمان بما أمروا أن يؤمنوا به «١» .
(١) انظر:
الطبري (٢٧/ ١٣٨)، زاد المسير (٨/ ١٧٦)، القرطبي (٧/ ٢٦٣)، والبحر المحيط (٨/
٢٢٨) .
سورة المجادلة اثنتان وعشرون آية
وهي مدنية، قاله القرطبي «١»: في قول الجميع، إلا رواية عن عطاء: أن العشر
الأول منها مدنية.
[الآيتان: الأولى والثانية]
وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ
مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ
أَنْ يَتَمَاسَّا ذلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ
(٣) فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ
يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ذلِكَ
لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكافِرِينَ
عَذابٌ أَلِيمٌ (٤) .
وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ: بأن يقول
الزوج لامرأته: أنت عليّ كظهر أمي كذا قال ابن عباس.
فالمعنى والذين يقولون
ذلك القول المنكر الزور.
ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا: بالتدارك والتلافي،
كما في قوله: أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ [النور: ١٧]، أي إلى مثله.
قال
الأخفش: لما قالوا وإلى ما قالوا يتعاقبان. قال: وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ
الَّذِي هَدانا لِهذا [الأعراف: ٤٣]، وقال: فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ
(٢٣) [الصافات: ٢٣]، وقال:
بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها (٥) [الزلزلة: ٥]،
وقال: وَأُوحِيَ إِلى نُوحٍ [هود: ٣٦] .
وقال الفراء: اللام بمعنى ثم يرجعون
عما قالوا ويريدون الوطء.
وقال الزجاج: المعنى يعودون إلى إرادة الجماع من
أجل ما قالوا.
(١) انظره في «تفسيره» (١٧/ ٢٦٩) .
قال
الأخفش أيضا: الآية فيها تقديم وتأخير، والمعنى والذين يظاهرون من نسائهم، ثم
يعودون لما كانوا عليه من الجماع.
فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ، لما قالوا. أي
فعليهم تحرير رقبة من أجل ما قالوا.
واختلف أهل العلم في تفسير العود
المذكور على أقوال:
الأول: أنه العزم على الوطء، وبه قال العراقيون: أبو
حنيفة وأصحابه، وروي عن مالك.
وقيل: هو الوطء نفسه، وبه قال الحسن. وروي
أيضا عن مالك، وهو أن يمسكها زوجة بعد الظهار مع القدرة على الطلاق، وبه قال
الشافعي.
وقيل: هو الكفارة، والمعنى أنه لا يستبيح وطأها إلا بكفارة، وبه
قال الليث بن سعد وروي عن أبي حنيفة.
وقيل: هو تكرير الظهار بلفظه، وبه قال
أهل الظاهر.
والظاهر أنها تجزىء أي رقبة كانت.
وقيل: يشترط أن تكون
مؤمنة، كالرقبة في كفارة القتل. وبالأول قال أبو حنيفة وأصحابه، وبالثاني قال
مالك والشافعي واشترطا سلامتها من كل عيب.
مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا
المراد بالتماس: هنا الجماع، وبه قال الجمهور، فلا يجوز للمظاهر الوطء حتى
يكفّر.
وقيل: المراد به الاستمتاع بالجماع أو اللمس أو النظر إلى الفرج
بشهوة، وبه قال مالك، وهو أحد قولي الشافعي.
والإشارة بقوله: ذلِكُمْ إلى
الحكم المذكور، وهو مبتدأ وخبره:
تُوعَظُونَ: أي تؤمرون بِهِ أو تزجرون به
عن ارتكاب الظهار. وفيه بيان لما هو المقصود من شرع الكفارة.
قال الزجاج:
المعنى ذلكم التغليظ في الكفارة توعظون به، أي أن غلظ الكفارة وعظ لكم حتى تتركوا
الظهار.
وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (٣): لا يخفى عليه شيء من
أعمالكم فهو مجازيكم عليها.
ثم ذكر سبحانه حكم العاجز عن
الكفارة، فقال: فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ مِنْ
قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا أي فمن لم يجد الرقبة في ملكه ولم يتمكن من قيمتها،
فعليه صيام شهرين متواليين لا يفطر فيهما، فإن أفطر يستأنف إن كان الإفطار لغير
عذر، وإن كان لعذر من سفر أو مرض، فقال سعيد بن المسيب والحسن وعطاء بن أبي رباح
وعمر بن دينار والشعبي والشافعي ومالك: يبني ولا يستأنف.
وقال أبو حنيفة:
إنه يستأنف، وهو مروي عن الشافعي. فلو وطئ ليلا أو نهارا عمدا أو خطأ استأنف، وبه
قال أبو حنيفة ومالك.
وقال الشافعي: لا يستأنف إذا وطئ ليلا لأنه ليس محلا
للصوم. والأول أولى.
فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا
لكل مسكين مدّان، وهما نصف صاع. وبه قال أبو حنيفة وأصحابه.
وقال الشافعي
وغيره: لكل مسكين مد واحد. والظاهر من الآية أنه يطعمهم حتى يشبعوا مرة واحدة، أو
يدفع إليهم ما يشبعهم، ولا يلزمه أن يجمعهم مرة واحدة، بل يجوز له أن يطعم بعض
الستين في يوم وبعضهم في يوم آخر.
والإشارة بقوله: ذلِكَ إلى ما تقدم من
الأحكام، وهو مبتدأ وخبره مقدر، أي ذلك واقع.
لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ
وَرَسُولِهِ: أي لتصدقوا أن الله أمر به وشرعه، أو لتطيعوا الله ورسوله في
الأوامر والنواهي وتقفوا عند حدود الشرع، ولا تعتدوها ولا تعودا إلى الظهار الذي
هو منكر من القول وزور.
والإشارة بقوله: وَتِلْكَ إلى الأحكام المذكورة، وهو
مبتدأ وخبره:
حُدُودُ اللَّهِ: فلا تجاوزوا حدوده التي حدها لكم، فإنه قد
بين لكم أن الظهار معصية، وأن كفارته المذكورة توجب العفو والمغفرة.
وَلِلْكافِرِينَ:
الذين لا يقفون عند حدود الله ولا يعملون بما حده الله لعباده وسماه كفرا تغليظا
وتشديدا.
عَذابٌ أَلِيمٌ (٤): هو عذاب جهنم «١» .
(١) انظر في تفسير
هذه الآية وأقوال أهل العلم فيها: الأحكام لابن العربي (٤/ ١٧٣٤ إلى ١٧٤٦)،
والناسخ والمنسوخ (٢/ ٨٨١)، مراتب الإجماع لابن حزم (ص ٩٣) الروضة الندية
للمصنف
سورة الحشر
وهي مدنيّة.
قال القرطبي «١»: في قول الجميع.
[الآية الأولى]
ما
قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها فَبِإِذْنِ
اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ (٥) .
ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ
تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ
الْفاسِقِينَ (٥) قال مجاهد: إن بعض المهاجرين وقعوا في قطع النخل، فنهاهم بعضهم
وقالوا: إنما هي مغانم للمسلمين. وقال الذين قطعوا: بل هو غيظ للعدو، فنزل القرآن
بتصديق من نهى عن قطع النخيل وتحليل من قطعه من الإثم.
واختلف المفسرون في
تفسير اللينة؟
فقال الزهري ومالك وسعيد بن جبير وعكرمة والخليل: إنها النخل
كله إلا العجوة.
وقال الثوري: هي كرام النخل.
وقال أبو عبيدة: إنها
جميع ألوان التمر سوى العجوة والبرني.
وقال جعفر بن محمد: إنها العجوة خاصة.
وقيل: هي ضرب من النخل.
(٢/ ٦٥، ٦٧)، كفاية الأخيار للحصني (٤١٣، ٤١٨)، جامع
الأمهات لابن الحاجب (٣٠٨، ٣١٣)، مغني المحتاج للشربيني (٣/ ٣٥٢، ٣٥٨)، شرح
الزركشي لمختصر الخرقي (٥/ ٤٧٨، ٤٨٥)، الروض المربع للبهوتي (٢/ ٣١٠، ٣١٢) .
(١)
تفسير القرطبي (١٧/ ٢٦٩)، ابن كثير (٤/ ٣١٨)، الطبري (٢٨/ ٢)، النكت (٤/ ١٩٨)،
زاد المسير (٨/ ١٨٠)، اللباب (٢٠٦)، الدر المنثور (٦/ ١٧٩) .
وقال
الأصمعي: هي الدقل، وأصل اللينة لونة فقلبت الواو الساكنة ياء لانكسار ما قبلها،
وجمع اللينة لين، وقيل: ليان.
وقد استدل بالآية على أن حصون الكفار وديارهم
لا بأس بأن تهدم وتحرق وترمى بالمجانيق، وكذلك قطع أشجارهم ونحوها.
وكذا
استدل بها على جواز الاجتهاد، وعلى تصويب المجتهدين، والبحث مستوفى في كتب
الأصول.
[الآية الثانية] وَما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَما
أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ وَلكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ
رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٦) .
وَما
أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ: أي ما رده عليه من أموال الكفار،
والضمير عائد إلى بني النضير.
فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا
رِكابٍ يقال: وجف البعير يجف وجفا: وهو سرعة السير، وأوجفه صاحبه إذا حمله على
السير السريع.
والركاب: ما يركب من الإبل خاصة.
والمعنى لم تركبوا
لتحصيله خيلا ولا إبلا ولا تجشمتم لها مشقة ولا لقيتم به حربا، وإنما كانت من
المدينة على ميلين، فجعلها الله سبحانه لرسوله ﵌ وبارك وسلم خاصة، فإنه افتتحها
صلحا وأخذ أموالها، وقد كان يسأله المسلمون أن يقسم لهم فنزلت الآية.
وَلكِنَّ
اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ: من أعدائه، وفي هذا بيان أن تلك
الأموال كانت خاصة لرسول الله ﵌ دون أصحابه، لكونهم لم يوجفوا عليها بخيل ولا
ركاب، بل مشوا إليها مشيا ولم يقاسوا فيها شيئا من شدائد الحروب.
وَاللَّهُ
عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٦)، يسلط من يشاء على من أراد، ويعطي من يشاء ويمنع
من يشاء، لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ (٢٣) [الأنبياء: ٢٣]
.
[الآية الثالثة] ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ
أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى
وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ
مِنْكُمْ وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا
وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (٧):
ما أَفاءَ اللَّهُ
عَلى رَسُولِهِ مِنْ: هذا بيان لمصارف الفيء بعد بيان أنه لرسول الله ﵌ خاصة،
والتكرير لقصد التقرير والتأكيد.
ووضع مِنْ أَهْلِ الْقُرى، موضع قوله:
مِنْهُمْ للإشعار بأن هذا الحكم لا يختص ببني النضير وحدهم، بل هو حكم على كل
قرية يفتحها رسول الله ﵌ صلحا، ولم يوجف عليها المسلمون بخيل ولا ركاب.
والمراد
بالقرى بنو النضير وقريظة وفدك وخيبر.
وقد تكلم أهل العلم في هذه الآية
والتي قبلها: هل معناهما متفق أو مختلف؟
فقيل: معناهما متفق كما ذكرنا،
وقيل: مختلف. وفي ذلك كلام لأهل العلم طويل.
قال ابن العربي: لا إشكال في
أنها ثلاثة معان في ثلاث آيات:
أما الآية الأولى وهي قوله: وَما أَفاءَ
اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فهي خاصة لرسول الله ﵌، خالصة له وهي أموال بني
النضير وما كان مثلها.
وأما الآية الثانية وهي: ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى
رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فهذا كلام مبتدأ غير الأول المستحق غير الأول، وإن
اشتركت هي والأولى في أن كل واحدة منهما تضمنت شيئا أفاءه الله على رسوله، واقتضت
الآية الأولى أنه حاصل بغير قتال، واقتضت آية الأنفال وهي الآية الثالثة أنه حاصل
بقتال، [وعريت] «١» الآية الثانية وهي: ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ
أَهْلِ الْقُرى عن ذكر حصوله بقتال أو بغير قتال، فنشأ الخلاف من هاهنا:
فطائفة
قالت: هي ملحقة بالأولى وهي مال الصلح.
(١) وقع في «المطبوعة» (وأعربت) وهو
خطأ واضح، والتصويب من فتح القدير (٥/ ٩٨) .
وطائفة قالت: هي
ملحقة بالثالثة وهي آية الأنفال، والذين قالوا إنها ملحقة باية الأنفال اختلفوا
هل هي منسوخة؟ أو محكمة؟ هذا أصل كلامه.
وقال مالك: إن الآية الأولى من هذه
السورة خاصة برسول الله ﵌، والآية الثانية هي في بني قريظة، يعني أن معناها يعود
إلى آية الأنفال.
ومذهب الشافعي أن سبيل خمس الفيء سبيل خمس الغنيمة، وأن
أربعة أخماسه كانت للنبي ﵌ وهي بعده لمصالح المسلمين.
فَلِلَّهِ
وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ:
المراد بقوله: فَلِلَّهِ أنه يحكم فيه بما يشاء، وللرسول ويكون ملكا له، ولذي
القربى، وهم بنو هاشم وبنو المطلب، لأنهم قد منعوا من الصدقة فجعل لهم حقا في
الفيء، قيل: تكون القسمة في هذا المال على أن تكون أربعة أخماسه لرسول الله ﵌
وخمسه يقسم أخماسا للرسول خمس ولكل صنف من الأصناف الأربعة المذكورة خمس. وقيل:
يقسم أسداسا، السادس سهم الله سبحانه، ويصرف إلى وجوه القرب، كعمارة المساجد ونحو
ذلك.
كَيْ لا يَكُونَ: أي الفيء.
دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ
مِنْكُمْ دون الفقراء.
والدولة: اسم للشيء يتداوله القوم بينهم يكون لهذا
مرة ولهذا مرة.
قال مقاتل: المعنى أنه يغلب الأغنياء الفقراء فيقسمونه بينهم
ثم لما بين لهم سبحانه مصارف هذا المال أمرهم بالاقتداء برسوله ﵌ فقال:
وَما
آتاكُمُ الرَّسُولُ: أي ما أعطاكم من مال الغنيمة.
فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ
عَنْهُ: أي عن أخذه.
فَانْتَهُوا عنه ولا تأخذوه.
قال الحسن والسدي: ما
أعطاكم من مال الفيء فاقبلوه، وما منعكم منه فلا تطلبوه.
وقال ابن جريج: ما
أتاكم من طاعتي فافعلوا وما نهاكم عنه من معصيتي فاجتنبوه.
والحق
أن هذه الآية عامة في كل شيء يأتي به رسول الله ﵌ من أمر أو نهي أو قول أو فعل،
وإن كان السبب خاصا فالاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وكل شيء أتانا به من
الشرع فقد أعطانا إياه وأوصله إلينا، وما أنفع هذه الآية وأكثر فائدتها «١» .
ثم
لما أمرهم بأخذ ما أمرهم بأخذه الرسول وترك ما نهاهم عنه أمرهم بتقواه وخوفهم شدة
عقوبته فقال: وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ فهو معاقب لمن لم يأخذ ما
آتاه الرسول ولم يترك ما نهاه عنه.
(١) انظر: الأحكام لابن العربي (٤/
١٧٦٠)، والناسخ والمنسوخ (٢/ ٨٨٤)، زاد المسير (٨/ ٢٠٩)، المجاز لأبي عبيدة (٢/
٢٥٦)، الطبري (٢٨/ ٢٤)، النكت (٤/ ٢١٠)، القرطبي (١٨/ ١٠)، الفراء (٣/ ١٤٤)،
والروضة الندية للمصنف (٢/ ٣٤٢)، فتح القدير (٥/ ٩٨) .
سورة الممتحنة ثلاث عشرة آية
وهي مدنيّة، قال القرطبي: في قول الجميع «١» .
[الآيتان: الأولى
والثانية]
لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي
الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا
إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (٨) إِنَّما يَنْهاكُمُ اللَّهُ
عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ
وَظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ
فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٩) .
لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ
لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ
تَبَرُّوهُمْ: بدل من الموصول بدل اشتمال.
وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ: يقال
أقسط إلى الرجل إذا عاملته بالعدل.
قال الزجاج: المعنى وتعدلوا فيما بينكم
وبينهم من الوفاء بالعهد.
إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (٨): أي
العادلين. ومعنى الآية أن الله سبحانه لا ينهى عن بر أهل العهد من الكفار الذين
عاهدوا المؤمنين على ترك القتال، وعلى أن لا يظاهروا الكفار عليهم، ولا ينهى عن
معاملتهم.
قال ابن زيد: كان هذا في أول الإسلام عند الموادعة وترك الأمر
بالقتال ثم نسخ.
قال قتادة: نسختها فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ
وَجَدْتُمُوهُمْ [التوبة: ٥] .
وقيل: هذا الحكم كان ثابتا في الصلح بين
النبي ﵌ وبين قريش فلما زال الصلح بفتح مكة نسخ الحكم. وقيل: هي خاصة في خلفاء
النبي ﵌ ومن بينه وبينه عهد، قاله الحسن.
(١) انظره في «تفسيره» (١٨/ ٤٩)
.
قال الكلبي: هم خزاعة وبنو الحارث بن عبد مناة.
وقال
مجاهد: هي خاصة في الذين آمنوا ولم يهاجروا. وقيل: هي خاصة بالنساء والصبيان.
وحكى
القرطبي «١» عن أكثر أهل التأويل أنها محكمة.
ثم بيّن سبحانه من لا يحل بره
ولا العدل في معاملته، فقال: إِنَّما يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ
قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ: وهم صناديد الكفر من
قريش.
وَظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ: أي عاونوا الذين قاتلوكم وأخرجوكم على
ذلك، وهم سائر أهل مكة ومن دخل معهم في عهدهم.
أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ
يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٩): أي الكاملون في الظلم لأنهم
تولوا من يستحق العداوة لكونه عدوا لله ولرسوله ولكتابه وجعلوهم أولياءهم.
[الآيتان:
الثالثة والرابعة] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ
مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ فَإِنْ
عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ
حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ ما أَنْفَقُوا وَلا جُناحَ
عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلا
تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ وَسْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْئَلُوا ما
أَنْفَقُوا ذلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ
حَكِيمٌ (١٠) وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ
فَعاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ مِثْلَ ما أَنْفَقُوا
وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (١١) .
يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ: من بين الكفار، وذلك
أن النبي ﵌ لما صالح قريشا يوم الحديبية على أن يرد عليهم من جاءهم من المسلمين
فلما هاجر إليه النساء أبى الله أن يرددن إلى المشركين، وأمر بامتحانهن فقال:
فَامْتَحِنُوهُنَّ:
أي فاختبروهن.
وقد اختلف فيما كان يمتحن به؟ فقيل: كنّ يستحلفن بالله ما
خرجن من بغض
(١) انظره في «تفسيره» (١٨/ ٥٩) . وانظر كذلك الناسخ والمنسوخ
لابن العربي (٢/ ٨٨٥) .
زوج ولا رغبة من أرض إلى أرض ولا
لالتماس دنيا، بل حبا لله ولرسوله ﵌، ورغبة في دينه فإذا حلفت كذلك أعطى النبي ﵌
زوجها مهرها وما أنفق عليها ولم يردها إليه. وقيل: الامتحان هو أن تشهد أن لا إله
إلا الله وأن محمدا رسول الله. وقيل: ما كان الامتحان إلا بأن يتلو عليهن رسول
الله ﵌ الآية، وهي يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ إلى
آخرها.
واختلف أهل العلم هل دخل النساء في عهد الهدنة أم لا؟ على قولين:
فعلى القول بالدخول تكون هذه الآية مخصصة لذلك العهد، وبه قال الأكثر. وعلى القول
بعدمه لا نسخ ولا تخصيص.
اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ: هذه الجملة
معترضة لبيان أن حقيقة حالهن لا يعلمها إلا الله سبحانه. ولم يتعبدكم بذلك وإنما
تعبدكم بامتحانهن حتى يظهر لكم ما يدل على صدق دعواهن في الرغوب في الإسلام.
فَإِنْ
عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ: أي علمتم ذلك، بحسب الظاهر بعد الامتحان الذي أمرتم
به.
فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ: أي إلى أزواجهن الكافرين.
لا
هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ: تعليل للنهي عن إرجاعهن.
وفيه
دليل على أن المؤمنة لا تحل لكافر، وأن إسلام المرأة يوجب فرقتها من زوجها لا
مجرد هجرتها، والتكرير لتأكيد الحرمة أو الأول لبيان زوال النكاح القديم، والثاني
لامتناع النكاح الجديد.
وَآتُوهُمْ: أي وأعطوا أزواج هؤلاء اللاتي هاجرن
وأسلمن مثل:
ما أَنْفَقُوا: عليهن من المهور. قال الشافعي: إذا طلبها غير
الزوج من قراباتها منع منها بلا عوض.
وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَنْ
تَنْكِحُوهُنَّ لأنهنّ قد صرن من أهل دينكم.
إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ
أُجُورَهُنَّ: أي مهورهن، وذلك بعد انقضاء عدتهن كما تدل عليه أدلة وجوب
العدة.
وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ: قد قرأ الجمهور بالتخفيف من
الإمساك. واختار هذه القراءة أبو عبيد لقوله: فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ
[البقرة: ٢٣١] .
وقرأ الحسن وأبو العالية وأبو عمرو بالتشديد من
التمسك «١» .
والعصم: جمع عصمة وهي ما يعتصم به. والمراد هنا عصمة عقد
النكاح.
والمعنى أن من كانت له امرأة كافرة فليست له بامرأة لانقطاع عصمتها
باختلاف الدين.
قال النخعي: هي المسلمة تلحق بدار الحرب فتكفر. وكان الكفار
يزوجون المسلمين والمسلمون يتزوجون المشركات، ثم نسخ ذلك لهذه الآية. وهذا خاص
بالكوافر المشركات دون الكوافر من أهل الكتاب، وقيل: عامة في جميع الكوافر، مخصصة
بإخراج الكتابيات منها.
وقد ذهب جمهور أهل العلم إلى أنه إذا أسلم وثنيّ أو
كتابيّ لا يفرق بينهما إلا بعد انقضاء العدة.
وقال بعض أهل العلم: يفرق
بينهما بمجرد إسلام الزوج، وهذا إنما هو إن كانت المرأة مدخولا بها، وأما إذا
كانت غير مدخول بها فلا خلاف بين أهل العلم في انقطاع العصمة بينهما بالإسلام، إذ
لا عدة عليها.
وَسْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْئَلُوا ما أَنْفَقُوا: أي
اطلبوا مهور نسائكم اللاحقات بالكفار.
قال المفسرون: كان من ذهب من المسلمات
مرتدة إلى الكفار من أهل العهد، يقال للكفار: هاتوا مهرها، ويقال للمسلمين إذا
جاءت امرأة من الكفار إلى المسلمين وأسلمت: ردوا مهرها على زوجها الكافر.
ذلِكُمْ:
أي المذكور من إرجاع المهور من الجهتين.
حُكْمُ اللَّهِ، ورسوله.
يَحْكُمُ
بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (١٠) . قال القرطبي «٢»: وكان هذا مخصوصا
بذلك الزمان في تلك النازلة خاصة، بإجماع المسلمين.
(١) قال الأزهري:
«والمعنى: أن المرأة إذا ارتدّت عن الإسلام فزالت عصمة النكاح بينها وبين زوجها
المؤمن فلا يتبعها الزّوج بعد انبتاتها عنه (معاني القراءات ص ٤٨٧، ٤٨٨)
بتحقيقنا- ط- دار الكتب العلمية.
(٢) انظره في «تفسيره» (١٨/ ٦٨) .
ولما
نزلت الآية المتقدمة قال المسلمون: رضينا بحكم الله، وكتبوا إلى المشركين
فامتنعوا، فنزل قوله:
وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْءٌ: أي مما دفعتم.
مِنْ
أَزْواجِكُمْ أي من مهور نسائكم المسلمات. وقيل: المعنى وإن انفلت منكم أحد من
نسائكم.
إِلَى الْكُفَّارِ: فارتدت المسلمة.
فَعاقَبْتُمْ: قال
الواحدي، قال المفسرون: أي فغنمتم.
وقال الزجاج: تأويله وكانت العقبى لكم،
أي كانت الغنيمة لكم حتى غنمتم.
فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ
مِثْلَ ما أَنْفَقُوا: من مهر المهاجرة التي تزوجوها ودفعوه إلى الكفار ولا تؤتوه
زوجها الكافر.
قال قتادة ومجاهد: إنما أمروا أن يعطوا الذين ذهبت أزواجهم
مثل ما أنفقوا من الفيء والغنيمة، وهذه الآية منسوخة قد انقطع حكمها بعد
الفتح.
وقال قوم: بل محكمة «١» .
وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ
بِهِ مُؤْمِنُونَ (١١): أي احذروا أن تتعرضوا لشيء مما يوجب العقوبة عليكم، فإن
الإيمان الذي أنتم متصفون به يوجب على صاحبه ذلك.
[الآية الخامسة] يا
أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ عَلى أَنْ لا
يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ
أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ
وَأَرْجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ
لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٢) .
يا أَيُّهَا
النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ: أي قاصدات مبايعتك على
الإسلام.
(١) انظر: الناسخ والمنسوخ لابن العربي (٢/ ٨٨٧)، والأحكام له (٤/
٢٧٧٦)، الطبري (٢٨/ ٤٤، ٤٥)، النكت (٤/ ٢٢٥)، زاد المسير (٨/ ٢٤١)، القرطبي (١٨/
٦٤)، الناسخ والمنسوخ للنحاس (٢٣٧)، الإيضاح (٣٧٦) فما بعدهم. [.....]
وعَلى
أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا: من الأشياء كائنا ما كان، هذا كان يوم فتح
مكة، فإن نساء أهل مكة أتين رسول الله ﵌ يبايعنه فأمره الله أن يأخذ عليهن أن لا
يشركن.
وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ: وهو
ما كانت تفعله الجاهلية من وأد البنات.
وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ
يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ: أي لا يلحقن بأزواجهن ولدا
ليس منهم.
قال الفرّاء: كانت المرأة تلتقط المولود فتقول لزوجها: هذا ولدي
منك، فذلك البهتان المفترى بين أيديهن وأرجلهن، وذلك أن الولد إذا وضعته الأم سقط
بين يديها ورجليها، وليس المراد هنا أنها نسيت ولدها من الزنا إلى زوجها، لأن ذلك
قد دخل تحت النهي عن الزنا.
وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ: أي في كل أمر
هو طاعة لله.
قال عطاء: في كل بر وتقوى.
وقال المقاتل: عني بالمعروف
النهي عن النوح، وتمزيق الثياب، وجز الشعر، وشق الجيب، وخمش الوجوه، والدعاء
بالويل.
وكذا قال قتادة وسعيد بن المسيب ومحمد بن السائب وزيد بن أسلم،
ومعنى القرآن أوسع مما قالوه! قيل: ووجه التقييد بالمعروف مع كونه ﵌ لا يأمر إلا
به، للتنبيه على أنه لا تجوز طاعة مخلوق في معصية الخالق.
فَبايِعْهُنَّ:
هذا جواب إذا، والمعنى إذا بايعنك على هذه الأمور فبايعهن، ولم يذكر في بيعتهن
الصلاة والزكاة والصيام والحج لوضوح كون هذه الأمور ونحوها من أركان الدين وشعائر
الإسلام، إنما خص الأمور المذكورة لكثرة وقوعها من النساء.
وَاسْتَغْفِرْ
لَهُنَّ اللَّهَ: أي اطلب من الله المغفرة لهن بعد هذه المبايعة لهن منك.
إِنَّ
اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٢): أي بليغ المغفرة والرحمة لعباده «١» .
(١)
انظر في تفسير هذه الآية: الطبري (٢٨/ ٥١)، النكت (٤/ ٢٢٨)، زاد المسير (٨/ ٢٤٤)،
القرطبي (١٧/ ٧١)، الناسخ والمنسوخ لابن العربي (٢/ ٨٨٨) .
سورة الجمعة إحدى عشرة آية
وهي مدنيّة، قال القرطبي «١»: في قول الجميع.
[الآية الأولى]
يا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ
فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ
كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٩) .
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ
لِلصَّلاةِ: أي وقع النداء: لها، والمراد به الأذان إذا جلس الإمام على المنبر
يوم الجمعة، لأنه لم يكن على عهد رسول الله ﵌ نداء سواه.
مِنْ يَوْمِ
الْجُمُعَةِ: بيان لإذا وتفسير لها.
وقال أبو البقاء: (من) بمعنى في.
فَاسْعَوْا
إِلى ذِكْرِ اللَّهِ: قال عطاء: يعني الذهاب والمشي إلى الصلاة.
وقال
الفراء: المضي، والسعي، والذهاب، في معنى واحد. ويدل على ذلك قراءة عمر بن الخطاب
وابن مسعود: (فامضوا إلى ذكر الله) .
وقيل: المراد القصد.
قال الحسن:
والله ما هو سعي على الأقدام ولكنه قصد بالقلوب والنيات. وقيل:
هو العمل
كقوله: وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ [الإسراء:
١٩]، وقوله:
إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى (٤) [الليل: ٤]، وقوله: وَأَنْ
لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى (٣٩) [النجم: ٣٩] .
(١) انظره في
«تفسيره» (١٨/ ٩١) .
قال القرطبي «١»: وهذا قول الجمهور.
وَذَرُوا
الْبَيْعَ: أي اتركوا المعاملة به، ويلحق به سائر المعاملات.
قال الحسن: إذا
أذّن المؤذن يوم الجمعة لم يحل الشراء والبيع.
والإشارة بقوله: ذلِكُمْ إلى
السعي إلى ذكر الله وترك البيع، وهو مبتدأ وخبره:
خَيْرٌ لَكُمْ لما في
الامتثال من الأجر والجزاء، وفي عدمه من عدم ذلك إذا لم يكن موجبا للعقوبة.
إِنْ
كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٩): أي إن كنتم من أهل العلم، فإنه لا يخفى عليكم أن ذلكم
خير لكم، أو فاختاروا ذلك «٢» .
(١) انظره في «تفسيره»: (١٨/ ١٠١) .
(٢)
انظر: تفسير الطبري (٢٨/ ٦٨)، وزاد المسير (٨/ ٢٦٧) .
سورة المنافقين إحدى عشرة آية
وهي مدنيّة، قال القرطبي «١»: في قول الجميع.
[الآية الأولى]
إِذا
جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ
يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ
لَكاذِبُونَ (١) .
إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ: أي إذا وصلوا إليك وحضروا
مجلسك.
قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ: أكدوا شهادتهم بأن،
واللام للإشعار بأنها صادرة من صميم قلوبهم مع خلوص اعتقادهم، والمراد
بالمنافقين: عبد الله بن أبيّ وأصحابه.
ومعنى نشهد: نحلف، فهو يجري مجرى
القسم، ولذلك يتلقى بما يتلقى به القسم.
وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ
لَرَسُولُهُ: معترضة مقررة لمضمون ما قبلها، وهو ما أظهروه من الشهادة وإن كانت
بواطنهم على خلاف ذلك.
وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ
(١): أي في الشهادة التي زعموا أنها من صميم القلب وخلوص الاعتقاد، لا إلى منطوق
كلامهم وهو الشهادة بالرسالة فإنه حق.
والمعنى والله يشهد إنهم لكاذبون فيما
تضمنه كلامهم من التأكيد الدال على أن شهادتهم بذلك صادرة عن خلوص اعتقاد
وطمأنينة قلب وموافقة باطن لظاهر «٢» .
(١) انظره في «تفسيره» (١٨/ ١٢٠)
.
(٢) انظر: الطبري (٢٨/ ٧١)، زاد المسير (٨/ ٢٧٥)، والقرطبي (١٨/ ١٢٥)،
اللباب (٢١٤)، النكت (٤/ ٢٤٢) .
سورة الطلاق إحدى واثنتا عشرة آية
وهي مدنيّة، قال القرطبي «١»: في قول الجميع.
[الآية الأولى]
يا
أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ
وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ
بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ
وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ
نَفْسَهُ لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْرًا (١) .
يا
أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ: نادى النبي ﵌ أولا تشريفا له ثم
خاطبه مع أمته، أو الخطاب له خاصة والجمع للتعظيم، وأمته أسوته في ذلك. والمعنى
إذا أردتم تطليقهن وعزمتم عليه.
فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ: أي
مستقبلات لعدتهن، أو في قبل عدتهن، أو لقبل عدتهن، أو لزمان عدتهن وهو الطهر.
والمراد
أن تطلقوهن في طهر لم يقع فيه جماع ثم يتركن حتى تنقضي عدتهن فإذا طلقتموهن هكذا
فقد طلقتموهن لعدتهن.
وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ: أي احفظوها واحفظوا الوقت الذي
وقع فيه الطلاق حتى تتم العدة وهي ثلاثة قروء، والخطاب للأزواج، وقيل: للزوجات،
وقيل: للمسلمين على العموم. والأول أولى لأن الضمائر كلها لهم «٢» .
(١)
انظره في «تفسيره» (١٨/ ١٤٧) .
(٢) انظر: زاد المسير (٨/ ٢٨٨)، جامع الأمهات
لابن الحاجب (ص ٣١٩)، مغني المحتاج
وَاتَّقُوا اللَّهَ
رَبَّكُمْ: فلا تعصوه فيما أمركم ولا تضاروهن.
لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ
بُيُوتِهِنَّ: أي التي كن فيها عند الطلاق ما دمن في العدة، وأضاف البيوت إليهن
مع كونها لأزواجهن لتأكيد النهي وبيان كمال استحقاقهن للسكنى في مدة العدة،
ومثله: وَاذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ [الأحزاب: ٣٤]، وقوله:
وَقَرْنَ
فِي بُيُوتِكُنَّ [الأحزاب: ٣٣] .
ثم لما نهى الأزواج عن إخراجهن من البيوت
التي وقع الطلاق وهن فيها، نهى الزوجات عن الخروج أيضا فقال: وَلا يَخْرُجْنَ: أي
من تلك البيوت ما دمن في العدة إلا لأمر ضروري وقيل: المراد لا يخرجن من أنفسهن
إلا إذا أذن الأزواج لهن، فلا بأس، والأول أولى.
إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ
بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ: فهذا الاستثناء هو من الجملة الأولى، أي لا تخرجوهن من
بيوتهن، لا من الجملة الثانية.
قال الواحدي: أكثر المفسرين على أن المراد
بالفاحشة هنا الزنا، وذلك أن تزني فتخرج لإقامة الحد عليها.
وقال الشافعي
وغيره: هي البذاء في اللسان والاستطالة به على من هو ساكن معها في ذلك البيت.
ويؤيد
هذا ما قال عكرمة: إن في مصحف أبيّ: إلّا أن يفحشن عليكم وقيل:
المعنى إلا
أن يخرجن تعديا، فإن خروجهن على هذا الوجه فاحشة، وهو بعيد.
وَتِلْكَ
حُدُودُ اللَّهِ: يعني أن هذه الأحكام التي بينها لعباده هي حدوده التي حددها لهم
ليس لأحد أن يتجاوزها إلى غيرها.
وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ: أي
يتجاوزها إلى غيرها أو يحل شيئا منها.
فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ: بإيرادها
موارد الهلاك وأوقعها في مواقع الضرر، بعقوبة الله له
(٣/ ٣٨٤)، شرح الزركشي
على الخرقي (٥/ ٥٣٤، ٥٣٥)، مشكل القرآن للقيسي (٢/ ٣٨٤)، الكشاف للزمخشري (٤/
٥٥٧)، وحاشية الجمل على الجلالين (٤/ ٣٥٩)، الكافي لابن قدامة (٢/ ٩٢٥)، المحرر
لأبي البركات (٢/ ١٠٣) . والروضة الندية (٢/ ٦٩)، مراتب الإجماع لابن حزم (ص ٨٧)
.
على مجاوزته لحدوده وتعديه لرسمه.
لا تَدْرِي لَعَلَّ
اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْرًا (١) قال القرطبي «١»: قال جميع المفسرين
أراد بالأمر هنا الرغبة في الرجعة، والمعنى التحريض على الطلاق الواحدة، والنهي
عن الثلاث. فإنه إذا طلق ثلاثا أضر بنفسه عند الندم على الفراق والرغبة في
الارتجاع، فلا يجد إلى المراجعة سبيلا.
وقال مقاتل: بعد ذلك، أي بعد طلقة أو
طلقتين أمرا بالمراجعة.
قال الواحدي: الأمر الذي يحدث أن يوقع في قلب الرجل
المحبة لرجعتها بعد الطلقة والطلقتين.
قال الزجاج: وإذا طلقها ثلاثا في وقت
واحد؟! فلا معنى لقوله: لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا.
[الآيتان: الثانية
والثالثة] فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ
فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا
الشَّهادَةَ لِلَّهِ ذلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ
وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (٢)
وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ
حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ
قَدْرًا (٣) .
فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ: أي قاربن انقضاء أجل العدة.
فَأَمْسِكُوهُنَّ
بِمَعْرُوفٍ: أي راجعوهن بحسن معاشرة ورغبة فيهن من غير قصد إلى مضارة لهن.
أَوْ
فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ: أي اتركوهنّ حتى تنقضي عدتهنّ، فيملكن نفوسهن مع
بقائهن بما هو لهن عليكم من الحقوق وترك المضارة لهن.
وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ
عَدْلٍ مِنْكُمْ: على الرجعة، وقيل: على الطلاق، وقيل: عليهما قطعا للتنازع وحسما
لمادة الخصومة. والأمر للندب كما في قوله: وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ
[البقرة: ٢٨٢]
(١) انظر تفسيره (١٨/ ١٥٦، ١٥٧) .
وقيل: إنه
للوجوب. وإليه ذهب الشافعي.
قال: الإشهاد واجب للرجعة مندوب إليه في الفرقة،
وإليه ذهب أحمد بن حنبل، وفي قول للشافعي: إن الرجعة لا تفتقر إلى الإشهاد كسائر
الحقوق. وروي نحو هذا عن أبي حنيفة وأحمد.
وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ:
هذا أمر للشهود بأن يأتوا بما شهدوا به تقربا إلى الله.
وقيل: الأمر للأزواج
بأن يقيموا الشهادة عند الرجعة فيكون قوله: وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ
أمرا بنفس الإشهاد، ويكون قوله: وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ، أمرا بأن تكون خالصة
لله «١» .
ذلِكُمْ: أي ما تقدم من الأمر بالإشهاد وإقامة الشهادة.
يُوعَظُ
بِهِ مَنْ كانَ يُؤْمِنُ: وخص المؤمن.
بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ لأنه
المنتفع بذلك دون غيره.
وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (٢)
مما وقع فيه من الشدائد والمحن.
وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ أي
من وجه لا يخطر بباله ولا يكون في حسابه.
قال الشعبي والضحاك: هذا في الطلاق
خاصة، أي من طلق كما أمر الله يكن له مخرج في الرجعة في العدة وأنه يكون كأحد
الخطاب بعد العدة.
قال الكلبي: ومن يتق الله بالصبر عند المصيبة يجعل له
مخرجا من النار إلى الجنة.
وقال الحسن: مخرجا مما نهى الله عنه.
وقال
أبو العالية: مخرجا من كل شيء ضاق على الناس.
وقال الحسين بن الفضل: ومن يتق
الله في أداء الفرائض يجعل له مخرجا من العقوبة، ويرزقه الثواب من حيث لا يحتسب،
أي يبارك له فيما آتاه.
وقال سهل بن عبد الله: ومن يتق الله في اتباع السنة
يجعل له مخرجا من عقوبة
(١) انظر: الأحكام لابن العربي (١٨١٣)، والناسخ
والمنسوخ (٢/ ٣٩١)، الفرّاء (٣/ ١٦٢)، المجاز (٢/ ٢٥٩)، ابن قتيبة (٤٧١)، الطبري
(٢٨/ ٩٣) .
أهل البدع، ويرزقه الجنة من حيث لا يحتسب، وقيل غير
ذلك.
وظاهر الآية العموم، ولا وجه للتخصيص بنوع خاص، ويدخل ما فيه السياق
دخولا أوليا.
وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ: أي ومن يثق
بالله فيما نابه كفاه ما أهمه.
إِنَّ اللَّهَ بالِغُ أَمْرِهِ: أي بالغ ما
يريده من الأمر، لا يفوته شيء ولا يعجزه مطلوب، أو نافذ أمره لا يرده شيء.
قَدْ
جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا (٣): أي تقديرا وتوقيتا أو مقدارا، فقد
جعل الله سبحانه للشدة أجلا تنتهي إليه وللرخاء أجلا ينتهي إليه.
وقال
السدي: هو قد الحيض والعدة «١» .
[الآية الرابعة] وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ
الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ
وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ
حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا (٤)
.
وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ: من الكبار اللاتي
قد انقطع حيضهن وأيسن منه.
إِنِ ارْتَبْتُمْ: أي شككتم وجهلتم كيف عدتهن.
فَعِدَّتُهُنَّ
ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ: لصغرهن وعدم بلوغهن سن المحيض، أي
فعدتهن ثلاثة أشهر أيضا، وحذف هذا لدلالة ما قبله عليه.
وَأُولاتُ
الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ: أي انتهاء عدتهن وضع الحمل،
وظاهر الآية أن عدة الحوامل هي بالوضع سواء كن مطلقات أو متوفى عنهن، وقد تقدم
الكلام في هذا في سورة البقرة «٢» مستوفى، وحققنا البحث في هذه الآية وفي الآية
الأخرى:
وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجًا
يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا.
(١) انظر:
الفراء (٣/ ١٦٣)، زاد المسير (٨/ ٢٩٦) .
(٢) سورة البقرة: آية (٢٣٣) .
وقيل:
معنى إِنِ ارْتَبْتُمْ: إن تيقنتم.
ورجح ابن جرير «١» أنه بمعنى الشك، وهو
الظاهر.
قال الزجاج: إن ارتبتم في حيضها وقد انقطع عنها الحيض وكانت ممن
تحيض مثلها.
وقال مجاهد: إِنِ ارْتَبْتُمْ أي لم تعلموا عدة الآيسة والتي لم
تحض، فالعدة هذه.
وقيل: المعنى إن ارتبتم في الدم الذي يظهر منها هل هو حيض
أم لا بل استحاضة، فالعدة ثلاثة أشهر «٢» .
وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ
لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا (٤): أي من يتقيه في امتثال أوامره واجتناب نواهيه،
يسهل عليه أمره في الدنيا والآخرة.
وقال الضحاك: من يتق الله فيطلق للسّنّة،
يجعل له من أمره يسرا في الرجعة.
وقال مقاتل: من يتق الله في اجتناب معاصيه،
يجعل له من أمره يسرا في توفيقه للطاعة.
[الآيتان: الخامسة والسادسة]
أَسْكِنُوهُنَّ
مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلا تُضآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا
عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى
يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ
وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ
أُخْرى (٦) لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ
فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا ما آتاها
سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا (٧) .
(١) انظر: الطبري (٢٨/ ٩٦)
. [.....]
(٢) انظر: كفاية الأخيار (ص ٤٢٤)، جامع الأمهات (ص ٣١٨، ٣١٩)، شرح
الزركشي على الخرقي (٥/ ٥٥٥)، والإشراف (٤/ ٢٨٢)، والإجماع لابن المنذر (٤٤٧٠)،
والإفصاح للوزير (٢/ ١٧٤)، مراتب الإجماع لابن حزم (ص ٨٧)، مغني المحتاج (٥/
٣٨٨)، الروضة للمصنف (٢/ ٦٩) .
أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ
سَكَنْتُمْ: هذا بيان ما يجب للنساء من السكنى، و(من) للتبعيض، أي بعض مكان
سكناكم، وقيل: زائدة.
مِنْ وُجْدِكُمْ: أي من سعتكم وطاقتكم.
والوجد:
القدرة.
قال الفراء: يقول على من يجد، فإن كان موسعا وسع عليها في المسكن
والنفقة، وإن كان فقيرا فعلى قدر ذلك.
قال قتادة: إن لم تجد إلا ناحية بيتك
فأسكنها فيه.
وقد اختلف أهل العلم في المطلّقة ثلاثا هل لها سكنى ونفقة أم
لا؟
فذهب مالك والشافعي إلى أن لها السكنى ولا نفقة لها.
وذهب أبو
حنيفة وأصحابه إلى أن لها النفقة والسكنى.
وذهب أحمد وإسحق وأبو ثور إلى أنه
لا نفقة لها ولا سكنى، وهذا هو الحق.
وقد قرره الشوكاني في «شرحه للمنتقى»
«١» بما لا يحتاج الناظر فيه إلى غيره.
وَلا تُضآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا
عَلَيْهِنَّ: في المسكن والنفقة.
وقال مجاهد: في المسكن.
وقال مقاتل:
في النفقة.
وقال أبو الضحى: هو أن يطلقها فإذا بقي يومان من عدتها راجعها ثم
طلقها.
وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى
يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ: أي إلى غاية هي وضعهن للحمل. ولا خلاف بين العلماء في وجوب
النفقة والسكنى للحامل المطلقة.
فأما الحامل المتوفى عنها زوجها، فقال علي
وابن عمر وابن مسعود وشريح والنخعي والشعبي وحماد وابن أبي ليلى وسفيان وأصحابه:
ينفق عليها من جميع المال حتى تضع.
وقال ابن عباس وابن الزبير وجابر بن عبد
الله ومالك والشافعي وأبو حنيفة
(١) حقا ما قاله المصنف وانظر: نيل الأوطار
(٧/ ١٠٥، ١٠٨) .
وأصحابه: لا ينفق عليها إلا من نصيبها، وهذا هو
الحق للأدلة الواردة في ذلك من السنة.
فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ: أولادكم
بعد ذلك.
فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ أي أجور إرضاعهن. والمعنى أن المطلقات
إذا أرضعن أولاد الأزواج المطلّقين لهن منهن، فلهن أجورهن على ذلك.
وَأْتَمِرُوا
بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ: هو خطاب للأزواج والزوجات، أي تشاوروا بينكم بمعروف غير
منكر، وليقبل بعضكم من بعض المعروف والجميل.
وأصل معناه: ليأمر بعضكم بعضا
بما هو متعارف بين الناس غير منكر عندهم.
قال مقاتل: المعنى ليتراض الأب
والأم على أجر مسمى. قيل: فالمعروف الجميل من الزوج أن يوفر لها الأجر، والمعروف
الجميل منها أن لا تطلب ما يتعاسره الزوج من [الأجر] «١» .
وَإِنْ
تَعاسَرْتُمْ: أي في أجر الرضاع، فأبى الزوج أن يعطي الأم الأجر وأبت الأم أن
ترضعه إلا بما تريد من الأجر.
فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى (٦): أي يستأجر
مرضعة أخرى ترضع ولده، ولا يجب عليه أن يسلم بما تطلبه الزوجة، ولا يجوز له أن
يكرهها على الإرضاع بما يريد من الأجر.
قال الضحاك: إن أبت الأم أن ترضع
استأجر لولده أخرى، فإن لم تقبل أجبرت أمه على الرضاع بالأجر.
لِيُنْفِقْ
ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ: فيه الأمر لأهل السعة بأن يوسعوا على المرضعات من
نسائهم على قدر سعتهم.
وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ: أي كان رزقه بمقدار
القوت أو مضيقا ليس بموسع.
فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللَّهُ: أي مما أعطاه
من الرزق ليس عليه غير ذلك.
لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا ما آتاها:
أي ما أعطاها من الرزق، فلا يكلف الفقير بأن ينفق ما ليس في وسعه، بل عليه ما
يقدر عليه وتبلغ إليه طاقته مما أعطاه الله من الرزق.
سَيَجْعَلُ اللَّهُ
بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا (٧): أي بعد ضيق وشدة سعة وغنى «٢» .
(١) وقع في
«المطبوعة» (الأب) وهو خطأ صوبناه من فتح القدير (٥/ ٢٤٥) .
(٢) انظر: تفسير
القرطبي (١٨/ ١٦٩) .
سورة التحريم اثنتا عشرة آية
وهي مدنيّة، قال القرطبي «١»: في قول الجميع.
وتسمى سورة النبي ﵌.
[الآيتان:
الأولى والثانية]
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ
لَكَ تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١) قَدْ فَرَضَ
اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ
الْحَكِيمُ (٢) .
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ
لَكَ: اختلف في سبب نزول الآية على أقوال:
الأول: قول أكثر المفسرين، قال
الواحدي: قال المفسرون: كان النبي ﵌ في بيت حفصة فزارت أباها، فلما رجعت أبصرت
مارية في بيتها مع النبي ﵌، فلم تدخل حتى خرجت مارية، ثم دخلت. فلما رأى النبي ﵌
في وجه حفصة الغيرة والكآبة قال لها: «لا تخبري عائشة ولك عليّ أن لا أقربها
أبدا» فأخبرت حفصة عائشة- وكانتا متصافيتين- فغضبت عائشة، ولم تزل بالنبي ﵌ حتى
حلف أن لا يقرب ماريّة، فأنزل الله هذه السورة «٢» .
(١) انظر: تفسيره (١٨/
١٧٧) .
(٢) ضعيف: رواه ابن جرير (٢٨/ ١٠٧)، والطبراني في «الأوسط» (٧/ ١٢٦،
١٢٧ مجمع)، والدارقطني (٢/ ٤١، ٤٢)، عن ابن عباس، وعمر وأبي هريرة. وأورده
السيوطي في «الدر» (٨/ ٢١٤، ٢١٥، ٢١٦) . وقال الحافظ (٨/ ٦٥٧): «وهذه طرق يقوي
بعضها بعضا، فيحتمل أن تكون الآية نزلت في السببين معا» ...
قال
القرطبي «١»: أكثر المفسرين على أن الآية نزلت في حفصة وذكر القصة.
وقيل:
السبب أنه كان النبي ﵌ يشرب عسلا عند زينب بنت جحش، فتواطأت عائشة وحفصة أن يقولا
له إذا دخل عليهما: إنا نجد منك ريح مغافير «٢» .
وقيل: السبب المرأة التي
وهبت نفسها للنبي ﵌، وسنده ضعيف «٣» .
والجمع ممكن بوقوع القصتين: قصة العسل
وقصة مارية، وأن القرآن نزل فيهما جميعا.
تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ:
ومرضاة اسم مصدر وهو الرضا.
وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١): لما فرط منك من
تحريم ما أحل الله لك.
قيل: وكان ذلك ذنبا من الصغائر، فلذا عاتبه الله
عليه، وقيل: إنها معاتبة على ترك الأولى.
قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ
تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ: أي شرع لكم تحليلها وبين لكم ذلك، فكان اليمين عقد
والكفارة حل، لأنها تحل للحالف ما حرمه على نفسه.
قال مقاتل: المعنى قد بين
الله كفارة أيمانكم في سورة المائدة، أمر الله نبيه أن يكفر يمينه ويراجع وليدته
فأعتق رقبة.
قال الزجاج: وليس لأحد أن يحرم ما أحل الله.
قلت: وهذا هو
الحق، إن تحريم ما أحل الله لا ينعقد ولا يلزم صاحبه، فالتحليل والتحريم هو إلى
الله سبحانه لا إلى غيره، ومعاتبته نبيه ﵌ في هذه السورة أبلغ دليل على ذلك،
والبحث طويل والمذاهب فيه كثيرة والمقالات فيه طويلة، وقد حققه الشوكاني رحمه
الله تعالى في مؤلفاته بما يشفي.
واختلف العلماء هل مجرد التحريم يمين يوجب
الكفارة أم لا؟ وفي ذلك خلاف وليس في الآية ما يدل على أنه يمين لأن الله سبحانه
عاتبه على تحريم ما أحله الله له،
(١) انظره في «تفسيره» (١٨/ ١٧٧، ١٧٩)
.
(٢) المغافير: بقلة متغيرة الرائحة.
(٣) أورده السيوطي في «الدر» (٨/
٢١٧)، وعزاه لابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس مرفوعا.
وضعّفه القرطبي
في «تفسيره» (١٨/ ١٧٩) .
ثم قال: قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ
تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ، وقد ورد في القصة التي ذهب أكثر المفسرين إلى أنها هي
سبب نزول الآية «١» أنه حرم أولا، ثم حلف ثانيا كما قدمنا.
وَاللَّهُ
مَوْلاكُمْ: أي وليكم وناصركم والمتولي لأموركم.
وَهُوَ الْعَلِيمُ: بما فيه
صلاحكم وفلاحكم.
الْحَكِيمُ (٢): في أقواله وأفعاله «٢» .
(١) حديث
صحيح: رواه البخاري (١١/ ٢٩٣)، (١٤/ ٣٨٥)، ومسلم (١٠/ ٧٥)، وأبو داود (٣/ ٣٨٦)،
والنسائي (٦/ ١٢٣)، (٧/ ١٣)، وابن سعد في «طبقاته» (٨/ ٧٦ ق ١)، وأبو نعيم في
«الحلية» (٣/ ٢٧٦)، عن عائشة مرفوعا مختصرا وتاما.
ورواه النسائي كما في
«تفسير ابن كثير (٤/ ٣٨٦)، والحاكم في «المستدرك» (٢/ ٤٩٣) وصححه وأقرّه الذهبي
عن أنس مرفوعا.
وصححه الحافظ في «الفتح» (١١/ ٣٩٢) .
(٢) انظر في تفسير
هذه الآية: الفرّاء (٣/ ١٦٥)، النكت (٤/ ٢٦٠)، زاد المسير (٨/ ٣٠٢)، القرطبي (١٨/
١٧٧، ١٨٤)، ابن كثير (٤/ ٣٨٦)، اللباب (٢١٧)، ابن قتيبة (٤٧٢) .
سورة نوح تسع وعشرون أو ثمان وعشرون آية
مكيّة، قاله عبد الله بن [عباس] «١» وأخرجه عنه ابن [الضريس] «٢» والنحاس
وابن مردويه.
[الآيات: الأولى والثانية والثالثة]
فَقُلْتُ
اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّارًا (١٠) يُرْسِلِ السَّماءَ
عَلَيْكُمْ مِدْرارًا (١١) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ
لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهارًا (١٢) .
فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا
رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّارًا (١٠): أي سلوه المغفرة من ذنوبكم السالفة
بإخلاص النية، إنه كثير المغفرة للمذنبين، وقيل: معنى استغفروا: توبوا عن الكفر
إنه كان غفارا للتائبين عنه «٣» .
يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْرارًا
(١١): المراد بالسماء: المطر.
والمدرار الدّرور: وهو التحلب بالمطر، أي
إرسالا مدرارا.
وفي هذه الآية دليل على أن الاستغفار من أعظم أسباب المطر
وحصول أنواع الأرزاق، ولهذا قال:
وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ
وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهارًا (١٢): جارية.
(١)
حرّفت في «المطبوعة» إلى (عبد الله بن الزبير) وهو خطأ، وما أثبتت هو الصواب كما
في «الدر المنثور» (٨/ ٢٨٨)، وفتح القدير (٥/ ٢٩٦) .
(٢) صحّفت إلى (الفريس)
وهو خطأ واضح والتصويب أيضا من فتح القدير (٥/ ٢٩٦) .
(٣) انظر: الطبري (٢٩/
٥٧)، والنكت (٤/ ٣٠٩)، زاد المسير (٨/ ٣٦٨)، القرطبي (١٨/ ٢٩٩) . [.....]
سورة المزمل تسع عشرة أو عشرون آية
وهي مكيّة، قال الماوردي: كلها، في قول الحسن وعكرمة وجابر.
قال:
وقال ابن عباس وقتادة: إلا آيتين منها وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ والتي تليها
[المزمل: ١٠- ١١] .
[الآيات: الأولى والثانية والثالثة]
قُمِ اللَّيْلَ
إِلَّا قَلِيلًا (٢) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (٣) أَوْ زِدْ
عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا (٤) .
قُمِ اللَّيْلَ: أي قم
للصلاة في الليل. واختلف هل كان هذا القيام الذي أمر به فرضا عليه أو نفلا؟.
وقوله:
إِلَّا قَلِيلًا (٢): استثناء من الليل، أي صل الليلة كلها إلا يسيرا منها.
والقيام
من الشيء: هو ما دون النصف، وقيل: ما دون السدس، وقيل: ما دون العشر.
وقال
مقاتل والكلبي: المراد بالقليل هنا الثلث. وقد أغنانا عن هذا الاختلاف قوله:
نِصْفَهُ
أَوِ انْقُصْ مِنْهُ، أي من النصف.
قَلِيلًا (٣): إلى الثلث.
أَوْ زِدْ
عَلَيْهِ، قليلا إلى الثلثين. فكأنه قال: قم ثلثي الليل أو نصفه أو ثلثه.
وقيل:
إن نصفه بدل من قوله: قَلِيلًا (٢): فيكون المعنى قم الليل إلا نصفه أو أقل
من
نصفه أو أكثر من نصفه.
قال الأخفش: نصفه أي أو نصفه كما يقال أعطه درهما
درهمين ثلاثة يريد أو درهمين أو ثلاثة.
قال الواحدي: قال المفسرون: أو انقص
من النصف قليلا إلى الثلث، أو زد على النصف إلى الثلثين. جعل له سعة في مدة قيامه
في الليل وخيره في هذه الساعات للقيام، فكان النبي ﵌ وطائفه معه يقومون على هذه
المقادير، وشق ذلك عليهم، فكان الرجل لا يدري كم صلى أو كم بقي من الليل وكانوا
يقومون الليل كله حتى خفف الله عنهم.
وقيل: الضمير في (منه) و(عليه) راجعان
إلى الأقل من النصف كأنه قال: قم أقل من نصفه، أو قم انقص من ذلك الأقل أو أزيد
منه قليلا! وهو بعيد جدا.
والظاهر أن نصفه قليلا والضميران راجعان إلى النصف
المبدل من (قليلا) «١» .
واختلف في الناسخ لهذا الأمر فقيل: هو قوله: إِنَّ
رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ
وَثُلُثَهُ [المزمل: ٢٠] إلى آخر السورة، وقيل: هو قوله: عَلِمَ أَنْ لَنْ
تُحْصُوهُ [المزمل: ٢٠]، وقيل: هو قوله: أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى [المزمل:
٢٠]، وقيل: هو منسوخ بالصلوات الخمس. وبهذا قال مقاتل والشافعي وابن كيسان، وقيل:
هو فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ [المزمل: ٢٠] وذهب الحسن وابن سيرين إلى أن صلاة
الليل فريضة على كل مسلم ولو قدر حلب شاة «٢» .
وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ
تَرْتِيلًا (٤): أي اقرأه على مهل مع تدبر.
قال الضحاك: اقرأه حرفا حرفا.
قال
الزجاج: هو أن تبين جميع الحروف وتوفي حقوقها من الإشباع.
وأصل الترتيل:
[التنضيد] «٣» والتنسيق وحسن النظام، وتأكيد الفعل بالمصدر،
(١) انظر:
المشكل لمكي بن أبي طالب (٢/ ٤١٨)، الكشاف (٤/ ١٧٥)، زاد المسير (٨/ ٣٨٨)،
القرطبي (١٩/ ٣٥)، البحر المحيط (٨/ ٣٦١) .
(٢) انظر: الناسخ والمنسوخ لابن
العربي (٢/ ٤٠١، ٤٠٣)، والأحكام (٤/ ١٨٥٩) . والناسخ والمنسوخ للنحاس (٢٥٣)،
والإيضاح (٣٨٤)، والمصفّى (٢١٤)، وابن البارزي (٣١٢)، والبصائر (١/ ٤٨٧) .
(٣)
ما بين [المعقوفين] حرّف في «المطبوعة» إلى (التقيد) وهو خطأ والتصويب من تفسير
فتح القدير
يدل على المبالغة على وجه لا يلتبس فيه بعض الحروف
ببعض، ولا ينقص من النطق بالحرف من مخرجه المعلوم مع استيفاء حركته المعتبرة.
[الآية
الرابعة]
إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ
اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ
يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ
فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى
وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ
وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ
وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا
وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ
خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ
رَحِيمٌ (٢٠) .
إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ
ثُلُثَيِ اللَّيْلِ: معنى أدنى: أقل، استعير له الأدنى لأن المسافة بين الشيئين
إذا دنت قل ما بينهما.
وَنِصْفَهُ: معطوف على أدنى.
وَثُلُثَهُ: معطوف
على نصفه. والمعنى أن الله يعلم أن رسوله ﵌ يقوم أقل من ثلثي الليل ويقوم نصفه
ويقوم ثلثه.
وبالنصب قراءة ابن كثير والكوفيين.
وقرأ الجمهور: ونصفه
وثلثه بالجر عطفا على ثلثي الليل. والمعنى أن الله يعلم أن رسوله يقوم أقل من
ثلثي الليل وأقل من نصفه وأقل من ثلثه.
واختار قراءة الجمهور أبو عبيد وأبو
حاتم لقوله: عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ فكيف يقومون نصفه وثلثه وهم لا
يحصونه.
وقال الفرّاء: القراءة الأولى أشبه بالصواب لأنه قال: أقل من ثلثي
الليل، ثم فسر نفس القلة «١» .
(٣) (٥/ ٣١٦) .
والتنضيد: جعل الشيء
بعضه فوق بعض [نضد] .
(١) قال أبو منصور: «من قرأ (ونصفه وثلثه) فهو بيّن
حسن، وهو تفسير مقدار قيامه، لأنه لما قال (أدنى من ثلثي الليل) كان قوله (ونصفه)
مبينا لذلك الأدنى، كأنه يقول: تقوم أدنى من الثلثين
العموم في
حقه ﵌ وفي حق أمته، وليس في قوله: فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ ما يدل على بقاء شيء
من الوجوب، لأنه إن كان المراد به القراءة من القرآن فقد وجدت في صلاة المغرب
والعشاء وما يتبعهما من النوافل المؤكدة، وإن كان المراد به الصلاة من الليل فقد
وجدت صلاة الليل بصلاة المغرب والعشاء وما يتبعهما من التطوع.
وأيضا
الأحاديث الصحيحة المصرحة بقول السائل لرسول الله ﵌: «هل عليّ غيرها؟ يعني
الصلوات الخمس فقال: لا! إلا أن تطوع» «١»، تدل على عدم وجوب غيرها، فارتفع بهذا
وجوب قيام الليل وصلاته عن الأمة، كما ارتفع وجوب ذلك على النبي ﵌ بقوله: وَمِنَ
اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ [الإسراء: ٧٩] .
فتقوم النصف
والثلث، ومن قرأ (ونصفه وثلثه) فالمعنى: وتقوم أدنى من نصفه وثلثه، والوجهان
بيّنان. (معاني القراءات ٥١١، ٥١٢) بتحقيقنا- ط- دار الكتب العلمية- بيروت.
(١)
حديث صحيح: رواه البخاري (١/ ١٠٦)، ومسلم (١/ ١٦٦، ١٦٧) عن طلحة بن عبيد الله
مرفوعا.
سورة المدثر ست وخمسون آية
وهي مكية بلا خلاف.
[الآيات: الأولى والثانية والثالثة]
وَرَبَّكَ
فَكَبِّرْ (٣) وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ (٤) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (٥) .
وَرَبَّكَ
فَكَبِّرْ (٣): أي واختص سيدك ومالكك ومصلح أمورك بالتكبير، وهو وصفه سبحانه
بالكبرياء والعظمة، وأنه أكبر من أن يكون له شريك- كما يعتقده الكفار-، وأعظم من
أن تكون له صاحبة أو ولد.
قال ابن العربي «١»: المراد به تكبير التقديس
والتنزيه لخلع الأضداد والأنداد والأصنام، ولا يتّخذ وليا غيره ولا يعبد سواه ولا
يرى لغيره فعلا إلّا له ولا نعمة إلا منه.
وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ (٤): المراد
بها الثياب الملبوسة على ما هو المعنى اللغوي، أمره الله سبحانه بتطهير ثيابه
وحفظها عن النجاسات وإزالة ما وقع فيها منها. وقيل: المراد بالثياب القلب.
وقال
قتادة: النفس، وقيل: الجسم، وقيل: الأهل، وقيل: الدين.
قال الحسن [والقرظي]
«٢»: الأخلاق، لأن خلق الإنسان مشتمل على أحواله اشتماله ثيابه على نفسه.
وقال
مجاهد وابن زيد: أي عملك فأصلح.
(١) انظر: الأحكام له (٤/ ٣٣٩) ط. بيروت.
(٢)
حرّفت في «المطبوعة» إلى (القرطبي) وهو خطأ، وما أثبت هو الصواب كما في «تفسير
القرطبي» (١٩/ ٦٤) .
وقال الزجاج: المعنى وثيابك فقصر لأن تقصير
الثوب أبعد من النجاسات إذا انجر على الأرض. وبه قال طاووس. والأول أولى لأنه
المعنى الحقيقي، وليس في استعمال الثياب مجازا عن غيرها لعلاقة مع قرينة ما يدل
على أنه المراد عند الإطلاق، وليس في مثل هذا الأصل أعني الحمل على الحقيقة عند
الإطلاق خلاف.
وفي الآية دليل على وجوب طهارة الثياب في الصلاة.
وَالرُّجْزَ
فَاهْجُرْ (٥): الرجز: معناه في اللغة العذاب، وفيه لغتان كسر الراء وضمها، وسمي
الشرك وعبادة الأوثان رجزا لأنهما سبب الرجز.
وقال مجاهد وعكرمة: الرجز
الأوثان، كما في قوله: فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ [الحج: ٣٠]، وبه
قال ابن زيد.
وقال إبراهيم النخعي: المأثم.
والهجر: الترك.
وقال
قتادة: الرجز: إساف ونائلة، وهما صنمان كانا عند البيت.
وقال أبو العالية
والربيع والكسائي: الرجز بالضم الوثن، وبالكسر العذاب.
وقال السدي: الرجز
بالضم الوعيد. والأول أولى «١» .
(١) انظر في تفسير الآيات: الفرّاء (٣/
٢٠٠) والطبري (٢٩/ ٩٢)، زاد المسير (٨/ ٤٠٠)، القرطبي (١٩/ ٦٢، ٦٤)، والطبري (٢٩/
٩٠) .
سورة أرأيت سبع آيات
ويقال: سورة الماعون، وسورة اليتيم، وسورة الدّين «١» .
وهي مكيّة في
قول عطاء وجابر وأحد قولي ابن عباس. ومدنية في قول قتادة وآخرين.
[الآية
الأولى]
وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ (٧) .
وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ (٧)
قال أكثر المفسرين: هو اسم لما يتعاوزه الناس بينهم من الدلو، والفأس، والقدر،
ولا يمنع عادة كالماء والملح.
وقيل: هو الزكاة، أي يمنعون زكاة أموالهم.
قال
الزجاج وأبو عبيد والمبرد: الماعون في الجاهلية ما فيه منفعة من قليل أو كثير،
وأنشدوا قول الأعشى:
بأجود منه بما عونه ... إذا ما سماؤهم لم تغم
وقالوا
أيضا: هو في الإسلام الطاعة والزكاة، وأنشدوا قول الراعي:
أخليفة الرحمن إنا
معشر ... حنفاء نسجد بكرة وأصيلا
عرب نرى لله في أموالنا ... حقّ الزكاة
منزّلا تنزيلا
قوم على الإسلام لمّا يمنعوا ... ماعونهم ويضيّعوا
التهليلا
وقال الفراء: سمعت بعض العرب يقول: الماعون الماء.
(١) انظر:
زاد المسير لابن الجوزي (٩/ ٢٤٣) .
وقيل: هو الحق على العبد على
العموم.
وقيل: هو المستغل من منافع الأموال، مأخوذ من المعن وهو القليل.
قال
قطرب: أصل الماعون من قلة، والمعن الشيء القليل، فسمى الله الصدقة والزكاة ونحو
ذلك من المعروف ماعونا لأنه قليل من كثير «١» .
(١) انظر في تفسير هذه
الآية: الطبري (٣٠/ ٢٠٣)، النكت (٤/ ٥٢٩)، الزّاد (٩/ ٢٤٥)، القرطبي (٢٠/ ٢١٣)،
الدر المنثور (٦/ ٤٠١) .
سورة الكوثر هي ثلاث آيات
وهي مكيّة، في قول ابن عباس والكلبي ومقاتل، ومدنية في قول الحسن وعكرمة
ومجاهد وقتادة «١» .
[الآية: الأولى]
فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (٢)
.
فَصَلِّ لِرَبِّكَ المراد الأمر له ﵌ بالدوام على إقامة الصلاة
المفروضة.
وَانْحَرْ (٢): البدن التي هي خيار أموال العرب.
قال محمد بن
كعب: إن ناسا كانوا يصلون لغير الله، فأمر الله سبحانه نبيه ﵌ أن تكون صلاته
ونحره له.
وقال قتادة وعطاء وعكرمة: المراد صلاة العيد ونحر الأضحية.
وقال
سعيد بن جبير: صلّ لربك صلاة الصبح المفروضة بجمع «٢»، وانحر البدن في منى.
وقيل:
وضع اليمنى على اليسرى في الصلاة حذاء النحر، قاله محمد بن كعب.
وقيل: هو أن
يرفع يديه في الصلاة عند التكبيرة إلى نحره، وقيل: هو أن يستقبل القبلة بنحره،
قاله الفراء والكلبي وابن الأحوص.
قال الفراء: سمعت بعض العرب يقول: نتناحر،
أي نتقابل: نحر هذا إلى نحر هذا: أي قبالته.
(١) انظر: الطبري (٣٠/ ٢٠٧)،
زاد المسير (٩/ ٢٤٧، ٢٤٩)، القرطبي (٢٠/ ٢١٦، ٢١٨) .
(٢) يقصد: جمع
المزدلفة. [.....]
وقال ابن الأعرابي: هو انتصاب الرجل في
الصلاة بإزاء المحراب من قولهم:
منازلهم تتناحر أي تتقابل.
وروي عن
عطاء أنه قال: أمره أن يستوي بين السجدتين جالسا حتى يبدو نحره.
وقال سليمان
التيمي: المعنى وارفع يديك بالدعاء إلى نحرك. وظاهر الآية الأمر له ﵌ بمطلق
الصلاة ومطلق النحر وأن يجعلهما لله ﷿ لا لغيره، وما ورد في السنة من بيان هذا
المطلق بنوع خاص فهو في حكم التقييد له.
وقد أخرج ابن أبي حاتم والبيهقي في
«سننه» والحاكم وابن مردويه عن علي بن أبي طالب قال: لما نزلت هذه السورة على
النبي ﵌ قال رسول الله ﵌ لجبريل: «ما هذه [النحيرة] التي أمرني بها ربي؟ فقال:
إنها ليست بنحيرة ولكن يأمرك إذا تحرمت للصلاة أن ترفع يديك إذا كبرت، وإذا رفعت
رأسك من الركوع، فإنها صلاتنا وصلاة الملائكة الذين هم في السموات السبع، وإن لكل
شيء زينة وإن زينة الصلاة رفع اليدين عند كل تكبيرة»، قال النبي ﵌: «رفع اليدين
من الاستكانة التي قال الله: فَمَا اسْتَكانُوا لِرَبِّهِمْ وَما يَتَضَرَّعُونَ
(٧٦) [المؤمنون: ٧٦]» . وهو من طريق مقاتل بن حيان عن الأصبغ عن بنانة عن علي «١»
.
وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس في الآية قال: «إن الله أوحى إلى رسول الله
﵌ أن ارفع يديك حذاء نحرك إذا كبرت للصلاة فذاك النحر» «٢» .
وأخرج ابن أبي
شيبة والبخاري في «تاريخه» وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والدارقطني في
«الأفراد»، وأبو الشيخ والحاكم وابن مردويه والبيهقي في «سننه» عن علي بن أبي
طالب في قوله: فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (٢) قال: «وضع يديه اليمنى على وسط
ساعد اليسرى ثم وضعهما على صدره في الصلاة» «٣» .
(١) موضوع: رواه الحاكم في
«المستدرك» (٢/ ٥٣٧، ٥٣٨)، والبيهقي في «الكبرى» (٢/ ٧٥، ٧٦) وصححه الحاكم،
وتعقبه الذهبي بقوله: إسرائيل صاحب عجائب، لا يعتمد عليه، وأصبغ شيعي متروك عند
النسائي.
(٢) أورده السيوطي في «الدر» (٨/ ٦٥٠) وعزاه لابن مردويه.
(٣)
إسناده ضعيف: رواه ابن جرير (٣٠/ ٣٢٥) وابن أبي شيبة في «المصنف» (١/ ٤٢٧)،
والبخاري في «الكبير» (٦/ ٤٣٧)، وابن المنذر في «الأوسط» (٣/ ٩١)، وابن أبي حاتم
في «الجرح والتعديل» (٦/ ٣١٣)، والحاكم (٢/ ٥٣٧)، والبيهقي (٢/ ٢٩، ٣٠)، وضعف ابن
كثير إسناد هذا
وأخرج أبو الشيخ والبيهقي في «سننه» عن أنس عن
النبي ﵌ مثله «١» .
وأخرج ابن أبي حاتم وابن شاهين في «سننه» وابن مردويه
والبيهقي عن ابن عباس:
فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (٢) قال: [وضع اليمنى
على الشمال عند التحريم في الصلاة] «٢» .
[وأخرج ابن أبي حاتم عن عطاء:
فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (٢) قال] «٣»: «إذا صليت فرفعت رأسك قائما من الركوع
فاستو قائما» «٤» .
وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس في الآية قال:
«الصلاة المكتوبة، والذبح يوم الأضحى» «٥» .
وأخرج البيهقي في «سننه» عنه
وَانْحَرْ (٢) قال: يقول: واذبح يوم النحر «٦» .
إلى غير ذلك مما نقله
المفسرون.
واللفظ وإن كان واسعا يحتمل الكل إلا أن المتعين هو ما ثبت
بالأخبار والآثار كما هو المقرر عند الكبار والأخيار «٧» .
وبالله التوفيق
ومنه الوصول إلى التحقيق «٨»
الأثر في «تفسيره» (٤/ ٥٩٧) .
(١) إسناده
ضعيف: رواه البيهقي (٢/ ٣٠، ٣١)، عن أنس. وعلقه: جهالة حال شيخ عاصم الأحول.
(٢)
ما بين [المعقوفين] سقط من المطبوعة، واستدرك من الدر (٨/ ٦٥٠، ٦٥١) .
والأثر
إسناده ضعيف جدا: رواه البيهقي في «الكبرى» (٢/ ٣١)، وعلته: روح بن المسيب
الكلبي. يروي الموضوعات عن الثقات، لا تحل الرواية عنه.
وفيه عمر بن مالك
النكري: صدوق له أوهام. وكذا زيد بن حباب: صدوق يخطىء في حديث الثوري.
(٣)
ما بين [المعقوفين] سقط من المطبوعة واستدرك من «الدر» (٨/ ٦٥١) .
(٤) أورده
السيوطي في «الدر» (٨/ ٦٥١) .
(٥) أثر ضعيف: رواه ابن جرير (٣٠/ ٣٢٦) .
وسنده مسلسل بالرواة الضعفاء.
(٦) أثر ضعيف: رواه البيهقي (٩/ ٢٥٩)، وفيه
انقطاع بين عليّ بن أبي طلحة وابن عباس. ومعاوية الحضرمي: صدوق له أوهام.
وعبد
الله بن صالح: صدوق كثير الغلط، وفيه غفلة.
(٧) انظر: الفراء (٣/ ٢٩٦)،
النكت (٤/ ٥٣٢) زاد المسير (٩/ ٢٥٠)، القرطبي (٢٠/ ٢٢)، اللباب (٢٣٥)، ابن كثير
(٤/ ٥٩٧، ٥٩٨) .
(٨) انتهيت أحمد المزيدي من تحقيقه من عند الآية ٩٢ من سورة
النساء إلى سورة الكوثر. والله الموفق لما يحبه ويرضاه.