اسم الكتاب: نيل المرام من تفسير آيات الأحكام
اسم المؤلف: أبو الطيب محمد صديق خان بن حسن بن علي ابن لطف الله الحسيني البخاري القِنَّوجي (ت ١٣٠٧هـ)
اسم المحقق، تحقيق: محمد حسن إسماعيل - أحمد فريد المزيدي
دار النشر: دار الكتب العلمية
تاريخ النشر: ٣٠/٠١/٢٠٠٣
عدد الصفحات: ٤٧١
فهرس الموضوعات
- سورة آل عمران [مائتا آية]
- [سورة آل عمران (٣) : آية ٢٨]
- [سورة آل عمران (٣) : آية ٩٧]
- [سورة آل عمران (٣) : آية ١٦١]
- سورة النساء [مائة وست وسبعون آية]
- [سورة النساء (٤) : آية ٣]
- [سورة النساء (٤) : الآيات ٥ إلى ٦]
- [سورة النساء (٤) : آية ٨]
- [سورة النساء (٤) : آية ١١]
- [سورة النساء (٤) : الآيات ١٩ إلى ٢٠]
- [سورة النساء (٤) : الآيات ٢٢ إلى ٢٣]
- [سورة النساء (٤) : آية ٢٥]
- [سورة النساء (٤) : آية ٢٩]
- [سورة النساء (٤) : الآيات ٣٤ إلى ٣٦]
- [سورة النساء (٤) : آية ٤٣]
- [سورة النساء (٤) : الآيات ٥٨ إلى ٥٩]
- [سورة النساء (٤) : آية ٨٣]
- [سورة النساء (٤) : آية ٨٦]
- [سورة النساء (٤) : الآيات ٨٩ إلى ٩٢]
- [سورة النساء (٤) : الآيات ٩٤ إلى ٩٥]
- [سورة النساء (٤) : الآيات ٩٧ إلى ٩٨]
- [سورة النساء (٤) : الآيات ١٠١ إلى ١٠٣]
- [سورة النساء (٤) : آية ١١٥]
- [سورة النساء (٤) : الآيات ١٢٧ إلى ١٢٩]
- [سورة النساء (٤) : الآيات ١٤٠ إلى ١٤١]
- [سورة النساء (٤) : آية ١٤٨]
- [سورة النساء (٤) : آية ١٧٦]
- سورة المائدة [مائة وعشرون آية]
- [سورة المائدة (٥) : الآيات ١ إلى ٦]
- [سورة المائدة (٥) : آية ٣١]
- [سورة المائدة (٥) : الآيات ٣٣ إلى ٣٤]
- [سورة المائدة (٥) : آية ٣٨]
- [سورة المائدة (٥) : آية ٤٢]
- [سورة المائدة (٥) : الآيات ٤٤ إلى ٤٥]
- [سورة المائدة (٥) : آية ٤٨]
- [سورة المائدة (٥) : آية ٨٧]
- [سورة المائدة (٥) : الآيات ٨٩ إلى ٩٠]
- [سورة المائدة (٥) : الآيات ٩٥ إلى ٩٦]
- [سورة المائدة (٥) : الآيات ١٠٥ إلى ١٠٨]
- العودة الي كتاب نيل المرام من تفسير آيات الأحكام
سورة آل عمران [مائتا آية]
(وهي مدنية. قال القرطبي «١» بالإجماع، ووردت الأحاديث الدالة على فضلها
مشتركة بينها وبين سورة البقرة) .
[الآية الأولى]
لا يَتَّخِذِ
الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ
يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ
تُقاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (٢٨) .
فيه
النهي للمؤمنين عن موالاة الكفار بسبب من الأسباب ومثله قوله تعالى: لا
تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ [آل عمران: ١١٨]، وقوله تعالى: وَمَنْ
يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ [المائدة: ٥١]، وقوله: لا تَجِدُ
قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [المجادلة: ٢٢]، وقوله: لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ
وَالنَّصارى أَوْلِياءَ [المائدة: ٥١] وقوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا
تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ [الممتحنة: ١] .
وَمَنْ
يَفْعَلْ ذلِكَ: أي الاتخاذ المدلول عليه بقوله لا يَتَّخِذِ فَلَيْسَ مِنَ
اللَّهِ فِي شَيْءٍ أي من ولايته في شيء من الأشياء، بل هو منسلخ عنه بكل «٢» حال
إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً على صيغة الخطاب بطريق الالتفات: إي إلا
أن تخافوا منهم أمرا يجب اتقاؤه، وهو استثناء مفرغ من أعم الأحوال. وفي ذلك دليل
على جواز الموالاة لهم مع الخوف منهم، ولكنها تكون ظاهرا لا باطنا وخالف في ذلك
قوم من السلف فقالوا: لا
(١) تفسير القرطبي [٤/ ١] .
(٢) جاء في
المطبوع [عن كل] والتصحيح من فتح القدير [١/ ٣٣١] .
تقية بعد أن
أعز الله الإسلام.
[الآية الثانية]
فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ
إِبْراهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ
الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ
غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ (٩٧) .
اللام في قوله وَلِلَّهِ هي التي يقال لها
لام الإيجاب والإلزام، ثم زاد هذا المعنى تأكيدا حرف عَلَى فإنه من أوضح الدلالات
على الوجوب عند العرب كما قال القائل:
لفلان عليّ كذا فذكر الله سبحانه الحج
بأبلغ ما يدل على الوجوب تأكيدا لحقه وتعظيما لحرمته. وهذا الخطاب شامل لجميع
الناس لا يخرج عنه إلا من خصصه الدليل كالصبي والعبد. مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ
سَبِيلًا: وقد اختلف أهل العلم في الاستطاعة ماذا هي؟ فقيل:
الزاد والراحلة،
وبهما فسرها النبي ﵌ على ما رواه الحاكم وغيره «١» . وإليه ذهب جماعة من الصحابة
والتابعين وحكاه الترمذي عن أكثر أهل العلم، وهو الحق.
وقال مالك: إن الرجل
إذا وثق بقوّته لزمه الحج، وإن لم يكن له زاد وراحلة إذا كان يقدر على التكسب،
وبه قال عبد الله بن الزبير والشعبي وعكرمة.
وقال الضحاك: إن كان شابا قويا
وليس له مال فعليه أن يؤجر نفسه حتى يقضي حجه.
ومن جملة ما يدخل في
الاستطاعة دخولا أوليا أن تكون الطريق إلى الحج آمنة بحيث يأمن الحاج على نفسه
وماله الذي لا يجد زادا غيره.
أما لو كانت غير آمنة فلا استطاعة، لأن الله ﷾
يقول: مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وهذا الخائف على نفسه أو ماله لم يستطع
إليه سبيلا بلا شك ولا شبهة.
وقد اختلف أهل العلم إذا كان في الطريق من
الظلمة من يأخذ بعض المال على وجه [لا] «٢» يجحف بزاد الحاج؟ فقال الشافعي: لا
يعطي حبة، ويسقط عليه فرض
(١) [ضعيف] أخرجه الحاكم في المستدرك [١/ ٤٤٢]
وابن ماجه في السنن ح [٢٨٩٧] والبيهقي في السنن الكبرى [٤/ ٣٣٠] .
(٢) ما
بين المعكوفين سقط من المطبوع والمثبت من فتح القدير [١/ ٣٦٣] .
الحج
ووافقه جماعة وخالفه آخرون.
والظاهر أن من تمكن من الزاد والراحلة وكانت
الطريق آمنة بحيث يتمكن من مرورها- ولو بمصانعة بعض الظلمة بدفع شيء من المال
يتمكن منه الحاج ولا ينقص من زاده ولا يجحف به- فالحج غير ساقط عنه بل واجب عليه
لأنه قد استطاع السبيل إليه بدفع شيء من المال ولكنه يكون هذا المال المدفوع في
الطريق من جملة ما يتوقف عليه الاستطاعة: فلو وجد الرجل زادا وراحلة ولم يجد ما
يدفعه لمن يأخذ المكس في الطريق لم يجب عليه الحج لأنه لم يستطع إليه سبيلا، وهذا
لا بد منه، ولا ينافي تفسير الاستطاعة بالزاد والراحلة، فإنه قد تعذر المرور في
طريق الحج لمن وجد الزاد والراحلة إلا بذلك القدر الذي يأخذه المكاسون.
ولعل
وجه قول الشافعي إنه يسقط الحج أن أخذ هذا المكس منكر، فلا يجب على الحاج أن يدخل
في منكر، وأنه بذلك غير مستطيع.
ومن جملة ما يدخل في الاستطاعة أن يكون
الحاج صحيح البدن على وجه يمكنه الركوب، فلو كان زمنا بحيث لا يقدر على المشي ولا
على الركوب فهذا- وإن وجد الزاد والراحلة- لم يستطع السبيل. وقد وردت أحاديث في
تشديد الوعيد على من ملك زادا أو راحلة ولم يحج ذكرها الشوكاني في «فتح القدير»
«١» وتكلم عليها.
[الآية الثالثة]
وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ
وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ
نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (١٦١) .
أي يأتي به حاملا له على
ظهره، كما صح ذلك عن النبي ﵌ فيفضحه بين الخلائق «٢» .
وهذه الجملة تتضمن
تأكيد تحريم الغلول والتنفير منه بأنه ذنب يختص فاعله بعقوبة على رؤوس الأشهاد
ويطلع عليها أهل المحشر وهي مجيئه يوم القيامة بما غله حاملا له قبل أن يحاسب
عليه ويعاقب.
(١) فتح القدير [١/ ٣٦٥] .
(٢) أخرجه مسلم في الصحيح ح
[١٨٣١] .
سورة النساء [مائة وست وسبعون آية]
وهي كلها مدنية. قال القرطبي «١»: إلا آية واحدة نزلت بمكة عام الفتح في
عثمان بن طلحة الحجبي وهي قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا
الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها.
[الآية الأولى]
وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا
تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى
وَثُلاثَ وَرُباعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً أَوْ ما
مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ذلِكَ أَدْنى أَلَّا تَعُولُوا (٣) .
وجه ارتباط
الجزاء بالشرط أن الرجل كان يكفل اليتيمة لكونه وليا لها ويريد أن يتزوجها فلا
يقسط لها في مهرها: أي لا يعدل فيه ولا يعطيها ما يعطيها غيره من الأزواج، فنهاهم
الله أن ينكحوهن إلا أن يقسطوا لهن ويبلغوا بهن أعلى ما هو لهنّ من الصداق وأمروا
أن ينكحوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ سواهنّ. فهذا سبب نزول الآية. فهو نهي
يخص هذه الصورة.
وقال جماعة من السلف: إن هذه الآية ناسخة لما كان في
الجاهلية وفي أوّل الإسلام من أن للرجل أن يتزوج من الحرائر ما شاء، فقصرهم بهذه
الآية على أربع، فيكون وجه ارتباط الجزاء بالشرط أنهم إذا خافوا أن لا يقسطوا في
[اليتامى فكذك يخافون ألا يقسطوا في] «٢» النساء لأنهم كانوا يتحرجون في اليتامى
ولا يتحرجون في النساء. والخوف من الأضداد فإن المخوف [منه] قد يكون معلوما، وقد
يكون مظنونا ولهذا اختلف الأئمة في معناه في الآية: فقال أبو عبيد: خفتم بمعنى
أيقنتم.
(١) تفسير القرطبي [٥/ ١] .
(٢) ما بين المعكوفين سقط من
المطبوع والتتمة من فتح القدير [١/ ١٤٩] .
وقال آخرون: خفتم
بمعنى ظننتم.
قال ابن عطية: والمعنى: من غلب على ظنه التقصير في العدل
لليتيمة فليتركها وينكح غيرها و«ما» في قوله ما طابَ موصولة. فالمعنى: فانكحوا
النوع الطيب من النساء: أي الحلال وما حرمه الله فليس بطيب.
وقيل: «ما» هنا
ظرفية أي ما دمتم مستحسنين للنكاح وضعفه ابن عطية، وقال الفراء: مصدرية، قال
النحاس: وهذا بعيد جدا.
وقد اتفق أهل العلم على أن هذا الشرط المذكور في
الآية لا مفهوم له وأنه يجوز لمن لم يخف أن يقسط في اليتامى أن ينكح أكثر من
واحدة، ومِنَ في قوله: مِنَ النِّساءِ إما بيانية أو تبعيضية، لأن المراد غير
اليتامى.
مَثْنى أي اثنتين اثنتين.
وَثُلاثَ أي ثلاثا ثلاثا.
وَرُباعَ
أي أربعا أربعا.
وقد استدل بالآية على تحريم ما زاد على الأربع وبينوا ذلك
بأنه خطاب لجميع الأمة وأن كل ناكح له أن يختار ما أراد من هذا العدد، كما يقال
لجماعة: اقتسموا هذا المال وهو ألف درهم، أو هذا المال الذي في البدرة درهمين
درهمين، وثلاثة ثلاثة، وأربعة أربعة، وهذا مسلم إذا كان المقسوم قد ذكرت جملته أو
عين مكانه.
أما لو كان مطلقا كما يقال: أقسموا الدراهم ويراد به ما كسبوه
فليس المعنى هكذا. والآية من الباب الآخر لا من الباب الأول. على أن من قال لقوم
يقتسمون مالا معينا كثيرا اقتسموه مثنى مثنى وثلاث ورباع فقسموا بعضه بينهم
درهمين درهمين وبعضه ثلاثة ثلاثة وبعضه أربعة أربعة كان هذا هو المعنى العربي.
ومعلوم
أنه إذا قال القائل: جاءني القوم ثلاث ورباع. والخطاب للجميع بمنزلة الخطاب لكل
فرد فرد كما في قوله فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ [التوبة: ٥]، وَأَقِيمُوا
الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ [البقرة: ٤٣]، ونحوها.
فقوله فَانْكِحُوا ما
طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ: لينكح كل فرد منكم ما طاب
له من النساء إثنتين اثنتين، وثلاثا ثلاثا، وأربعا أربعا هذا ما تقتضيه لغة العرب
فالآية
تدل على خلاف ما استدلوا به عليه. ويؤيد هذا قوله تعالى
في آخر الآية: فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً فإنه وإن كان خطابا
للجميع فهو بمنزلة الخطاب لكل فرد فرد، فالأولى أن يستدل على تحريم الزيادة على
الأربع بالسنة لا بالقرآن.
وأما استدلال من استدل بالآية على جواز نكاح
التسع باعتبار الواو الجامعة وكأنه قال: انكحوا مجموع هذا العدد المذكور فهذا جهل
بالمعنى العربي! ولو قال: انكحوا اثنتين وثلاثا وأربعا لكان هذا القول له وجه.
وأما مع المجيء بصيغة العدل فلا وإنما جاء سبحانه بالواو الجامعة دون أو لأن
التخيير يشعر بأنه لا يجوز إلا أحد الأعداد المذكورة دون غيره وذلك ليس بمراد من
النظم القرآني.
فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً: أي فانكحوا
واحدة، كما يدل على ذلك قوله فَانْكِحُوا ما طابَ. وقيل التقدير: فالزموا أو
فاختاروا واحدة، والأول أولى. والمعنى فإن خفتم ألا تعدلوا بين الزوجات في القسم
ونحوه فانكحوا واحدة، وفيه المنع من الزيادة على الواحدة لمن خاف ذلك.
أَوْ
ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ من السراري وإن كثر عددهنّ كما يفيده الموصول إذ ليس
لهنّ من الحقوق ما للزوجات الحرائر.
والمراد نكاحهن بطرق الملك لا بطريق
النكاح.
وفيه دليل على أن لا حق للمملوكات في القسم كما يدل على ذلك جعله
قسيما للواحدة في الأمن من عدم العدل، وإسناد الملك إلى اليمين لكونها المباشرة
لقبض الأموال وإقباضها ولسائر الأمور التي تنسب إلى الشخص في الغالب ذلِكَ أي
نكاح الأربع أو الواحدة أو التسري فقط أَدْنى أَلَّا تَعُولُوا (٣): أي أقرب إلى
أن تجوروا: من عال الرجل يعول إذا مال وجار.
والمعنى إن خفتم عدم العدل بين
الزوجات فهذه التي أمرتم بها أقرب إلى عدم الجور.
وهو قول أكثر المفسرين.
وقال الشافعي: أَدْنى أَلَّا تَعُولُوا (٣) أي لا يكثر عيالكم.
قال الثعلبي:
وما قال هذا غيره!! وذكر ابن العربي أنه يقال أعال الرجل إذا كثر
عياله
وأما عال بمعنى كثر فلا يصلح. ويجاب عنه بأنه قد سبق الشافعي إلى القول به زيد بن
أسلم وجابر بن زيد وهما إمامان من أئمة المسلمين لا يفسران القرآن هما والإمام
الشافعي بما لا وجه له في العربية. وقد حكاه القرطبي عن الكسائي وأبي عمرو الدوري
وابن الأعرابي. وقال أبو حاتم كان الشافعي أعلم بلغة العرب منا ولعله لغة.
قال
الدوري: هي لغة حمير وأنشد:
وإن الموت يأخذ كل حيّ ... بلا شك وإن أمشى
وعالا
أي وإن كثرت ماشيته وعياله.
[الآية الثانية]
وَلا تُؤْتُوا
السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيامًا وَارْزُقُوهُمْ
فِيها وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا (٥) .
اختلف أهل
العلم في هؤلاء السفهاء من هم؟ فقال سعيد بن جبير: هم اليتامى لا تؤتوهم أموالهم
قال النحاس: وهذا من أحسن ما قيل في الآية.
وقال مالك: هم الأولاد الصغار:
أي لا تعطوهم أموالكم فيفسدوها ويبقوا بلا شيء.
وقال مجاهد: هم النساء.
قال
النحاس وغيره: وهذا القول لا يصح إنما تقول العرب: سفائه أو سفيهات.
واختلفوا
في وجه إضافة الأموال إلى المخاطبين وهي للسفهاء فقيل: أضافها إليهم لأنها
بأيديهم وهم الناظرون فيها وقيل: لأنها من جنس أموالهم، بأن الأموال جعلت مشتركة
بين الخلق في الأصل.
وقيل: المراد أموال المخاطبين حقيقة. وبه قال أبو موسى
الأشعري وابن عباس والحسن وقتادة. والمراد النهي عن دفعها إلى من لا يحسن تدبيرها
كالنساء والصبيان ومن هو ضعيف الإدراك لا يهتدي إلى وجوه النفع التي تصلح «١»
المال ولا يتجنب وجوه الضرر التي تهلكه وتذهب به.
(١) جاء في المطبوع [نصلح]
وهو خطأ والتصحيح من فتح القدير [١/ ٤٢٥] .
وَارْزُقُوهُمْ
فِيها وَاكْسُوهُمْ أي: اجعلوا لهم فيها رزقا وافرضوا لهم. وهذا فيمن يلزم نفقته
وكسوته من الزوجات والأولاد ونحوهم. وأما على قول من قال إن الأموال هي أموال
اليتامى، فالمعنى: اتجروا فيها حتى تربحوا وتنفقوهم من الأرباح واجعلوا لهم من
أموالهم رزقا ينفقونه على أنفسهم ويكسون به.
وقد استدل بهذه الآية على جواز
الحجر على السفهاء، وبه قال الجمهور.
وقال أبو حنيفة: لا يحجر على من بلغ
عاقلا واستدل بها أيضا على وجوب نفقة القرابة. والخلاف في ذلك معروف في
مواطنه.
[الآية الثالثة] وَابْتَلُوا الْيَتامى حَتَّى إِذا بَلَغُوا
النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ
أَمْوالَهُمْ وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافًا وَبِدارًا أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كانَ
غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ
فَإِذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفى
بِاللَّهِ حَسِيبًا (٦) .
الابتلاء: الاختبار. واختلفوا في معنى الاختبار
فقيل: هو أن يتأمل الوصي أخلاق يتيمه ليعلم بنجابته وحسن تصرفه فيدفع إليه ماله
إذا بلغ النكاح وأنس منه الرشد.
وقيل: أن يدفع إليه شيئا من ماله ويأمره
بالتصرف فيه حتى يعلم حقيقة حاله.
وقيل: أن يرد النظر إليه في نفقة الدار
ليعلم كيف تدبيره. وإن كانت جارية رد إليها ما يرد إلى ربة البيت من تدبير بيتها.
حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ المراد بلوغ الحلم لقوله تعالى: وَإِذا بَلَغَ
الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ [النور: ٥٩] . ومن علامات البلوغ الإنبات وبلوغ
خمس عشرة سنة.
وقال مالك وأبو حنيفة وغيرهما: لا يحكم لمن لا يحتلم بالبلوغ
إلا بعد مضي سبع عشرة سنة.
وهذه العلامات تعم الذكر والأنثى، وتختص الأنثى
بالحبل والحيض.
فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا أي أبصرتم ورأيتم. ومنه
قوله: آنَسَ مِنْ جانِبِ الطُّورِ نارًا [القصص: ٢٩] . وقيل: هو هنا بمعنى علم
ووجد.
والرّشد: بضم الراء وسكون الشين، والرشد بفتح الراء
والشين قيل: هما لغتان.
واختلف أهل العلم في معنى الرشد هاهنا فقيل: الصلاح
في العقل والدين، وقيل: في العقل خاصة.
قال سعيد بن جبير والشعبي: إنه لا
يدفع إلى اليتيم ماله إذا لم يؤنس رشده وإن كان شيخا قال الضحاك: وإن بلغ مائة
سنة!!.
وجمهور العلماء على أن الرشد لا يكون إلا بعد البلوغ وعلى أنه إن لم
يرشد بعد بلوغ الحلم لا يزول عنه الحجر.
وقال أبو حنيفة: لا يحجر على الحر
البالغ وإن كان أفسق الناس وأشدهم تبذيرا وبه قال النخعي وزفر.
وظاهر النظم
القرآني أنها لا تدفع إليهم أموالهم إلا بعد بلوغ غاية هي بلوغ النكاح- مقيدة هذه
الغاية بإيناس الرشد- فلا بد من مجموع الأمرين فلا تدفع إلى اليتامى أموالهم قبل
البلوغ، وإن كانوا معروفين بالرشد ولا بعد البلوغ إلا بعد إيناس الرشد منهم.
والمراد
بالرشد نوعه وهو المتعلق بحسن التصرف في أمواله وعدم التبذير بها ووضعها في
مواضعها.
فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ من غير تأخير إلى حد
البلوغ.
وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافًا وَبِدارًا أَنْ يَكْبَرُوا الإسراف في
اللغة: الإفراط ومجاوزة الحد.
وقال النضر بن شميل: السرف التبذير.
والبدار:
المبادرة، أي لا تأكلوا أموال اليتامى أكل إسراف وأكل مبادرة لكبرهم، أو لا
تأكلوا لأجل السرف والمبادرة، أو مسرفين ومبادرين لكبرهم وتقولوا: ننفق أموال
اليتامى فيما نشتهي قبل أن يبلغوا فينتزعوها من أيدينا.
وَمَنْ كانَ
غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ بين
سبحانه ما يحل لهم من أموال اليتامى، فأمر الغني بالاستعفاف وتوفير مال الصبي
عليه وعدم تناوله منه وسوغ للفقير أن يأكل بالمعروف.
واختلف أهل العلم [في
الأكل بالمعروف] ما هو؟ فقال قوم: هو القرض إذا
احتاج إليه
ويقضي متى أيسر الله عليه وبه قال عمر بن الخطاب وابن عباس وعبيدة السلماني وابن
جبير والشعبي ومجاهد وأبو العالية والأوزاعي.
وقال النخعي وعطاء والحسن
وقتادة: لا قضاء على الفقير فيما يأكل بالمعروف وبه قال جمهور الفقهاء، وهذا
بالنظم القرآني ألصق فإن إباحة الأكل للفقير مشعرة بجواز ذلك له من غير قرض.
والمراد
بالمعروف: المتعارف به بين الناس فلا يترفه بأموال اليتامى ويبالغ في التنعم
بالمأكول والمشروب والملبوس ولا يدع نفسه عن سد الفاقة وستر العورة.
والخطاب
في هذه الآية لأولياء الأيتام القائمين بما يصلحهم كالأب والجدّ ووصيهما. وقال
بعض أهل العلم: المراد بالآية اليتيم إن كان غنيا وسّع عليه، وإن كان فقيرا كان
الإنفاق عليه بقدر ما يحصل له، وهذا القول في غاية السقوط.
فَإِذا
دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ أنهم قد قبضوها منكم
لتندفع عنكم التهم، وتأمنوا الدعاوى الصادرة منهم.
وقيل: إن الإشهاد المشروع
هو على ما أنفقه عليهم الأولياء قبل رشدهم، وقيل:
هو على رد ما استقرضه إلى
أموالهم.
وظاهر النظم القرآني مشروعية الإشهاد على ما دفع إليهم من أموالهم
وهو يعمّ الإنفاق قبل الرشد والدفع للجميع إليهم بعد الرشد. وفي سورة الأنعام:
وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ
أَشُدَّهُ
، وفي الإسراء مثلها.
[الآية الرابعة]
وَإِذا حَضَرَ
الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ
وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا (٨) .
وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ يعني
قسمة الميراث أُولُوا الْقُرْبى المراد بالقرابة هنا غير الوارثين وكذا
وَالْيَتامى وَالْمَساكِينُ شرع الله سبحانه أنهم إذا حضروا قسمة التركة كان لهم
منها رزق فيرضخ لهم المتقاسمون شيئا منها.
وقد ذهب قوم إلى أن الآية محكمة
وأن الأمر للندب، وذهب آخرون إلى أنها
منسوخة بقوله تعالى:
يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ [النساء: ١١] والأول أرجح، لأن المذكور في
الآية للقرابة غير الوارثين ليس هو من جملة الميراث حتى يقال: إنها منسوخة بآية
المواريث، إلا أن يقال إن أولي القربى المذكورين هنا هم الوارثون كان للنسخ وجه،
وقالت طائفة: إن هذا الرضخ لغير الوارث من القرابة واجب بمقدار ما تطيب به أنفس
«١» الورثة وهو معنى الأمر الحقيقي فلا يصار إلى الندب إلا بقرينة.
والضمير
في قوله: فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ راجع إلى المال المقسوم المدلول عليه بالقسمة.
وقيل:
راجع إلى ما ترك. وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا (٨) هو القول الجميل الذي
ليس فيه منّ بما صار إليهم من الرضخ ولا أذى.
[الآية الخامسة]
يُوصِيكُمُ
اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ
نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً
فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا
تَرَكَ إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ
أَبَواهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ
مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ لا
تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ
اللَّهَ كانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (١١) .
تفصيل لما أجمل في قوله تعالى:
لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ الآية وقد استدل
بذلك على جواز تأخير البيان عن وقت الحاجة.
وهذه الآية ركن من أركان الدين
وعمدة من عمد الأحكام وأم من أمهات الآيات لاشتمالها على ما يهم من علم
الفرائض.
وقد كان هذا العلم من أجل علوم الصحابة ﵃ وأكثر مناظراتهم فيه.
وورد
في الترغيب في تعلم الفرائض وتعليمها ما أخرجه الحاكم والبيهقي في «سننه» عن ابن
مسعود قال: قال رسول الله ﵌: «تعلموا الفرائض وعلموها الناس فإني امرؤ مقبوض، وإن
العلم سيقبض وتظهر الفتن حتى يختلف الاثنان في الفريضة لا يجدان
(١) جاء في
المطبوع [نفس] والتصحيح من فتح القدير [١/ ٤٢٩] . [.....]
من
يقضي بها» «١» .
وأخرجاه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﵌: «تعلموا
الفرائض وعلموه فإنه نصف العلم فإنه ينسى وهو أوّل ما ينزع من أمتي» «٢» . وقد
روي عن عمر وابن مسعود وأنس آثار في الترغيب في الفرائض، وكذلك روي عن جماعة من
التابعين ومن بعدهم.
والمعنى يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ: أي في
شأن ميراثهم وقد اختلفوا: هل يدخل أولاد الأولاد أو لا؟
فقالت الشافعية:
إنهم يدخلون مجازا لا حقيقة. وقالت الحنفية: إنه يتناولهم لفظ الأولاد حقيقة إذا
لم يوجد أولاد الصلب.
ولا خلاف أن بني البنين كالبنين في الميراث مع عدمهم
وإنما الخلاف في دلالة لفظ الأولاد على أولادهم مع عدمهم. ويدخل في لفظ الأولاد
من كان منهم كافرا، ويخرج بالسنة، وكذلك يدخل القاتل عمدا، ويخرج أيضا بالسنة
والإجماع. ويدخل فيه الخنثى، قال القرطبي: وأجمع العلماء أنه يورث من حيث يبول:
فإن بال منهما فمن حيث سبق فإن خرج البول منهما من غير سبق أحدهما فله نصف نصيب
الذكر، ونصف نصيب الأنثى، وقيل: يعطى أقلّ النصيبين، وهو نصيب الأنثى، قاله يحيى
بن آدم وهو قول الشافعي.
وهذه الآية ناسخة لما كان في صدر الإسلام من
الموارثة بالحلف والهجرة والمعاقدة.
وقد أجمع العلماء على أنه إذا كان مع
الأولاد من له فرض مسمى أعطيه، وكان ما بقي من المال للذكر مثل حظ الأنثيين،
للحديث الثابت في الصحيحين وغيرهما بلفظ:
«ألحقوا الفرائض بأهلها» «٣» فما
أبقت الفرائض فالأولى رجل ذكر إلا إذا كان ساقطا
(١) [ضعيف] أخرجه الحاكم في
المستدرك [٤/ ٣٣٣] والبيهقي في السنن الكبرى [٦/ ٢٠٨] وأخرجه الترمذي في السنن
[٤/ ٣٦٠] ح [٢٠٩١] انظر التلخيص الحبير [٣/ ٧٩] .
(٢) [ضعيف] أخرجه ابن ماجه
في السنن ح [٢٧١٩] والدارقطني في السنن [٤/ ٦٧] والحاكم في المستدرك [٤/ ٣٣٢]
والبيهقي في السنن الكبرى [٦/ ٢٠٩] انظر الميزان [١/ ٥٦٠] والتلخيص [٣/ ٧٩]
وإرواء الغليل [٦/ ١٠٥] .
(٣) [متفق عليه] أخرجه مسلم في الصحيح ح [١٢٣٣]
و[١٢٣٤] والبخاري في الصحيح [١٢/ ١١] ح [٦٧٣٢] و[٦٧٣٥] و[٦٧٢٧] و[٦٧٤٦] .
معهم
كالأخوة لأم.
لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ جملة مستأنفة لبيان
الوصية في الأولاد فلا بد من تقدير ضمير يرجع إليهم: أي للذكر منهم. والمراد حال
اجتماع الذكور والإناث، وأما حال الانفراد فللذكر جميع الميراث وللأنثى النصف،
وللأنثيين فصاعدا الثلثان. فَإِنْ كُنَّ: أي الأولاد، والتأنيث باعتبار الخبر أو
البنات أو المولودات نِساءً ليس معهن ذكر فَوْقَ اثْنَتَيْنِ: أي زائدات على
اثنتين- على أن فوق صفة لنساء أو يكون خبرا ثانيا لكان- فَلَهُنَّ ثُلُثا ما
تَرَكَ الميت المدلول عليه بقرينة المقام.
وظاهر النظم القرآني أن الثلثين
فريضة الثلاثة من البنات فصاعدا ولم يسم للاثنتين فريضة. ولهذا اختلف أهل العلم
في فريضتهما: فذهب الجمهور إلى أن لهما إذا انفردتا عن البنين الثلثين، وذهب ابن
عباس إلى أن فريضتهما النصف، واحتج الجمهور بالقياس على الأختين فإن الله سبحانه
قال في شأنهما فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثانِ فألحقوا البنتين
بالأختين في استحقاقهما الثلثين كما ألحقوا الأخوات- إذا زدن على اثنتين- بالبنات
في الاشتراك في الثلثين.
وقيل: في الآية ما يدل على أن للبنتين الثلثين،
وذلك أنه لما كان للواحدة مع أخيها الثلث كان للابنتين- إذا انفردتا- الثلثان
ولهذا احتج بهذه الحجة إسماعيل بن عياش والمبرد.
قال النحاس: وهذا الاحتجاج
عند أهل النظر غلط لأن الاختلاف في البنتين إذا انفردتا عن البنين. وأيضا للمخالف
أن يقول: إذا ترك بنتين وابنا فللبنتين النصف. فهذا دليل على أن هذا فرضهما.
ويمكن تأييد ما احتج به الجمهور بأن الله سبحانه لما فرض للبنت الواحدة النصف إذا
انفردت بقوله تَرَكَ وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ كان فرض البنتين
إذا انفردتا فوق فرض الواحدة وأوجب القياس [على] «١» الأختين الاقتصار على
الثلثين.
وقيل: فوق زائدة والمعنى: وإن كنّ نساء اثنتين كقوله تعالى:
فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ [الأنفال: ١٢] أي الأعناق. وروى هذا النحاس وابن
عطية فقالا: هو خطأ! لأن الظروف وجميع الأسماء لا تجوز في كلام العرب أن تزاد
لغير معنى.
(١) ما بين المعكوفين من فتح القدير [١/ ٤٣٢] .
قال
ابن عطية: ولأن قوله: فَوْقَ الْأَعْناقِ هو الفصيح وليست «فوق» زائدة بل هي
محكمة المعنى، لأن ضربة العنق إنما يجب أن تكون فوق العظام في المفصل دون الدماغ،
وهكذا لو كان لفظ فوق زائدا- كما قالوا- لقال فلهما ثلثا ما ترك ولم يقل فلهن.
وأوضح
ما يحتج به الجمهور ما أخرجه ابن أبي شيبة وأحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجة
وأبو يعلى وابن أبي حاتم وابن حبان والحاكم والبيهقي في «سننه» عن جابر قال:
«جاءت امرأة سعد بن الربيع إلى رسول الله ﵌ فقالت: يا رسول الله هاتان ابنتا سعد
بن الربيع قتل أبوهما معك في أحد شهيدا وإن عمهما أخذ مالهما فلم يدع لهما مالا
ولا ينكحان إلا ولهما مال؟ فقال: يقضي الله في ذلك فنزلت آية الميراث يُوصِيكُمُ
اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ الآية فأرسل رسول الله ﵌ إلى عمهما فقال: «أعط ابنتي
سعد الثلثين وأمهما الثمن وما بقي فهو لك» «١» . أخرجوه- من طرق- عن عبد الله بن
محمد بن عقيل بن جابر. قال الترمذي: ولا يعرف إلا من حديثه.
وَلِأَبَوَيْهِ
لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ والمراد بالأبوين الأب والأم والتثنية على
لفظ الأب للتغليب.
وقد اختلف أهل العلم في الجد: هل هو بمنزلة الأب فيسقط
بالأخوة أم لا؟ «٢» فذهب أبو بكر الصديق إلى أنه بمنزلة الأب ولم يخالف أحد من
الصحابة أيام خلافته، واختلفوا في ذلك بعد وفاته فقال يقول أبي بكر بن عباس وعبد
الله بن الزبير وعائشة ومعاذ بن جبل وأبيّ بن كعب وأبو الدرداء وأبو هريرة وعطاء
وطاووس والحسن وقتادة وأبو حنيفة وأبو ثور وإسحاق واحتجوا بمثل قوله تعالى:
مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ [الحج: ٧٨] وقوله: يا بَنِي آدَمَ [الأعراف: ٢٦] .
وقوله ﵌: «ارموا يا بني إسماعيل» «٣» .
(١) [حسن] أخرجه أبو داود في السنن
[٣/ ١٢٠ و١٢١] ح [٢٨٩١] و[٢٨٩٢] والترمذي في السنن [٤/ ٣٦١] ح [٢٠٩٢] وابن ماجه
في السنن ح [٩٠٨] والدارقطني في السنن [٤/ ٧٨- ٧٩] والبيهقي في السنن الكبرى [٦/
٢٢٩] والحاكم في المستدرك [٤/ ٣٣٣- ٣٣٤] انظر الإرواء [٦/ ١٢٢] .
(٢) انظر
فتح القدير [١/ ٤٣٢] .
(٣) أخرجه البخاري في الصحيح [٦/ ٩١] ح [٢٨٩٩] .
وذهب
علي بن أبي طالب وزيد بن ثابت وابن مسعود إلى توريث الجدّ مع الإخوة لأبوين أو
لأب، ولا ينقص معهم عن الثلث ولا ينقص مع ذوي الفروض عن السدس.
في قول زيد
ومالك والأوزاعي وأبي يوسف ومحمد والشافعي.
وقيل: يشرك بين الجد والإخوة إلى
السدس [ولا ينقصه من السدس] «١» شيئا مع ذوي الفروض وغيرهم وهو قول ابن أبي ليلى
وطائفة وذهب الجمهور إلى أن الجدّ يسقط بني الإخوة. وروى الشافعي عن علي ﵇ أنه
أجرى بني الأخوة في المقاسمة مجرى الأخوة.
وأجمع العلماء على أن الجد لا يرث
مع الأب شيئا وعلى أن للجدة السدس إذا لم يكن للميت أم، وأجمعوا على أنها ساقطة
مع وجود الأم، وأجمعوا على أن الأب لا يسقط الجدّة أم الأمّ. واختلفوا في توريث
الجدة وابنها حيّ فروي عن زيد بن ثابت وعثمان بن علي أنها لا ترث وبه قال مالك
والثوري والأوزاعي وأبو ثور وأصحاب الرأي. وروي عن عمر وابن مسعود وأبي موسى أنها
ترث معه، [وروي] «٢» أيضا عن علي وعثمان وبه قال شريح وجابر بن زيد وعبيد الله بن
الحسن وشريك وأحمد وإسحاق وابن المنذر.
مِمَّا تَرَكَ إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ
الولد يقع على الذكر والأنثى لكنه إذا كان الموجود الذكر من الأولاد- ووحده أو مع
الأنثى منهم- فليس للجد إلا السدس، وإن كان الموجود أنثى كان للجد السدس بالفرض
وهو عصبته فيما عدا السدس. وأولاد ابن الميت كأولاد الميت.
فَإِنْ لَمْ
يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ: أي ولا ولد ابن- لما تقدّم من الإجماع- وَوَرِثَهُ أَبَواهُ
منفردين عن سائر الورثة كما ذهب إليه الجمهور من أن الأم لا تأخذ ثلث التركة إلا
إذا لم يكن للميت وارث غير الأبوين أما لو كان معهما أحد الزوجين فليس للأم إلا
ثلث الباقي بعد الموجود من الزوجين. فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ وروي عن ابن عباس أن
للأم ثلث الأصل مع أحد الزوجين وهو مستلزم تفضيل الأمّ على الأب في مسألة زوج
وأبوين مع الاتفاق على أنه أفضل منها عند انفرادهما عن أحد الزوجين فَإِنْ كانَ
لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ
(١) ما بين المعكوفين سقط من المطبوع
والتتمة من فتح القدير [١/ ٤٣٢] .
(٢) ما بين المعكوفين سقط من المطبوع
والتتمة من فتح القدير [١/ ٤٣٣] .
: إطلاق الاخوة لأبوين أو
لأحدهما، وقد أجمع أهل العلم على أن الاثنين من الإخوة يقومان مقام الثلاثة
فصاعدا في حجب الأمّ إلى السدس إلا ما يروى عن ابن عباس من أنه جعل الاثنين
كالواحد في عدم الحجب.
وأجمعوا أيضا على أن الأختين فصاعدا كالأخوين في حجب
الأم مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ واختلف في وجه تقديم الوصية
على الدين مع كونه مقدما عليها بالإجماع، فقيل: المقصود تقديم الأمرين على
الميراث من غير قصد إلى الترتيب بينهما، وقيل: لما كانت الوصية أقل لزوما من
الدين قدّمت اهتماما بها وقيل: قدّمت لكثرة وقوعها فصارت كالأمر اللازم لكل ميت.
وقيل: قدمت لكونها حظ المساكين والفقراء وأخّر الدّين لكونه حظ غريم يطلب بقوة
وسلطان. وقيل: لما كانت الوصية ناشئة من جهة الميت قدّمت، بخلاف الدين فإنه ثابت
مؤدى ذكر أم لم يذكر. وقيل:
قدّمت لكونها تشبه الميراث في كونها مأخوذة من
غير عوض فربما يشق على الورثة إخراجها، بخلاف الدين فإن نفوسهم مطمئنة بأدائه
وهذه الوصية مقيدة بقوله تعالى غَيْرَ مُضَارٍّ كما سيأتي إن شاء الله تعالى.
آباؤُكُمْ
وَأَبْناؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا قيل: خبر قوله
آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ مقدر: أي هم المقسوم عليهم، وقيل: أن الخبر قوله لا
تَدْرُونَ وما بعده وأَقْرَبُ خبر قوله أَيُّهُمْ ونَفْعًا تمييز: أي لا تدرون
أيهم قريب لكم نفعه في الدعاء لكم والصدقة عنكم كما في الحديث الصحيح: «أو ولد
صالح يدعو له» «١» وقال ابن عباس والحسن: «قد يكون الابن أفضل فيشفع في أبيه»
وقال بعض المفسرين: إن الابن إذا كان أرفع درجة من أبيه في الآخرة سأل الله أن
يرفع أباه، وإذا كان الأب أرفع درجة من ابنه سأل الله أن يرفع ابنه إليه. وقيل:
المراد النفع في الدنيا والآخرة قاله ابن زيد، وقيل: المعنى أنكم لا تدرون من
أنفع لكم من آبائكم وأبنائكم، من أوصى منهم فعرضكم لثواب الآخرة بإمضاء وصيته فهو
أقرب لكم نفعا أو من ترك الوصية ووفر عليكم عرض الدنيا؟ وقوى هذا صاحب «الكشاف»
قال لأن الجملة اعتراضية، ومن حق الاعتراض أن يؤكد ما اعترض بينه «٢» ويناسبه.
(١)
أخرجه مسلم في الصحيح [١٦٣١] والنسائي في السنن [٦/ ٢٥١] والترمذي في السنن ح
[١٣٧٦] .
(٢) جاء في المطبوع [بنية] وهو خطأ والتصحيح من فتح القدير [١/
٤٣٤] .
قوله فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ نصب على المصدر المؤكد.
وقال مكي وغيره هي حال مؤكدة، والعامل يوصيكم والأوّل أولى.
إِنَّ اللَّهَ
كانَ عَلِيمًا بقسمة المواريث حَكِيمًا حكم بقسمتها وبينها لأهلها.
وقال
الزجاج: عليما بالأشياء قبل خلقها حكيما فيما يقدره ويمضيه.
وَلَكُمْ نِصْفُ
ما تَرَكَ أَزْواجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ الخطاب هنا للرجال.
والمراد بالولد ولد الصلب أو ولد الولد لما قدمنا من الإجماع فَإِنْ كانَ لَهُنَّ
وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ وهذا مجمع عليه لم يختلف أهل العلم في
أن للزوج مع عدم الولد النصف ومع وجوده وإن سفل الربع.
مِنْ بَعْدِ
وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِها أَوْ دَيْنٍ الكلام فيه كما تقدم.
وَلَهُنَّ
الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ [فَإِنْ كانَ لَكُمْ
وَلَدٌ] «١» فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ
تُوصُونَ بِها أَوْ دَيْنٍ هذا النصيب مع الولد والنصيب مع عدمه تنفرد به الواحدة
من الزوجات ويشترك فيه الأكثر من واحدة لا خلاف في ذلك، والخلاف في الوصية والدين
كما تقدّم.
وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً المراد بالرجل الميت
ويُورَثُ على البناء للمفعول من ورث لا من أورث وهو خبر كان، وكَلالَةً حال من
ضمير يُورَثُ، وقيل: غير ذلك.
والكلالة مصدر من تكلله النسيب: أي أحاط به
وبه سمي الإكليل لإحاطته بالرأس. وهو الميت الذي لا ولد له ولا والد وهذا قول أبي
بكر الصديق وعمر وعليّ وجمهور أهل العلم، وبه قال صاحب كتاب «العين» وأبو منصور
اللغوي وابن عرفة والقتيبي وأبو عبيد وابن الأنباري، وقد قيل: إنه إجماع.
وقال
ابن كثير: وبه يقول أهل المدينة والكوفة والبصرة وهو قول القضاة السبعة والأئمة
الأربعة وجمهور السلف والخلف بل جميعهم، وقد حكى الإجماع غير واحد وورد فيه حديث
مرفوع انتهى «٢» .
(١) ما بين المعكوفين سقط من المطبوع.
(٢) تفسير ابن
كثير [١/ ٤٣٦] .
وروى أبو حاتم والأثرم عن أبي عبيدة أنه قال
الكلالة كل من لم يرثه أب أو ابن أو أخ فهو عند العرب كلالة.
قال أبو عمر
وابن عبد البر: ذكر أبي عبيدة الأخ هنا مع الأب والابن في شرط الكلالة غلط لا وجه
له، ولم يذكره غيره، وما يروى عن أبي بكر وعمر من أن الكلالة من لا ولد له خاصة،
فقد رجعا عنه.
وقال ابن زيد: الكلالة: الحيّ والميت جميعا، وإنما سموا
القرابة كلالة لأنهم أطافوا بالميت من جوانبه وليسوا منه ولا هو منهم، بخلاف
الابن والأب فإنهما طرفان له، فإذا ذهبا تكلله النسب.
وقيل: إن الكلالة
مأخوذة من الكلال وهو الإعياء، فكأنه يصير الميراث إلى الوارث عن بعد وإعياء.
قال
ابن الأعرابي: إن الكلالة بنو العم الأباعد.
وبالجملة من قرأ (يورّث كلالة)
بكسر الراء مشددة- وهو بعض الكوفيين: أو مخففة وهو الحسن وأيوب- جعل الكلالة
القرابة، ومن قرأ يُورَثُ بفتح الراء- وهم الجمهور- احتمل أن يكون الكلالة الميت
واحتمل أن يكون القرابة.
وقد روي عن علي وابن مسعود وزيد بن ثابت وابن عباس
والشعبي أن الكلالة: ما كان سوى الولد والوالد من الورثة.
قال الطبري «١»:
الصواب أن الكلالة هم الذين يرثون الميت من عدا ولد ووالد، لصحة خبر جابر: «قلت
يا رسول الله إنما يرثني كلالة أفأقضي بمالي كله؟ قال: لا» «٢» انتهى.
وروي
عن عطاء أنه قال: الكلالة المال.
قال ابن العربي: وهذا قول ضعيف لا وجه
له.
وقال صاحب «الكشاف»: إن الكلالة تنطبق على ثلاثة: على من لم يخلف ولدا
ولا والدا، وعلى من ليس بولد ولا والد من المخلفين، وعلى القرابة من غير جهة
الولد
(١) تفسير الطبري [٣/ ١/ ٦٢] . [.....]
(٢) أخرجه مسلم في الصحيح
بنحوه ح [١٦١٦] .
والوالد. انتهى.
أَوِ امْرَأَةٌ معطوف
على رجل مقيد بما قيد به، أي وامرأة تورث كلالة.
وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ:
قرأ سعد بن أبي وقاص من أمّ. وسيأتي ذكر من أخرج ذلك عنه.
فَلِكُلِّ واحِدٍ
مِنْهُمَا السُّدُسُ قال القرطبي: أجمع العلماء أن الأخوة هاهنا هم الأخوة لأم،
قال: ولا خلاف بين أهل العلم أن الأخوة للأب والأم أو للأب ليس ميراثهم هكذا، فدل
إجماعهم على أن الإخوة المذكورين في قوله: فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ رجالا ونساء
ف لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ: هم الاخوة لأبوين أو لأب، وأفرد
الضمير في قوله: وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ، لأن المراد كالواحد منهما، كما جرت
بذلك عادة العرب إذا ذكروا اسمين مستويين في الحكم فإنهم قد يذكرون الضمير الراجع
إليهما مفردا كما في قوله تعالى: وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ
وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ [البقرة: ٤٥] . وقوله:
يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ
وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللَّهِ [التوبة: ٣٤] . وقد يذكرون
مثنى كما في قوله: إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلى
بِهِما.
فَإِنْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذلِكَ فَهُمْ شُرَكاءُ فِي الثُّلُثِ
والإشارة بقوله: من ذلك إلى قوله وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ: أي أكثر من الأخ
المنفرد والأخت المفردة بواحد: وذلك بأن يكون الموجود اثنين فصاعدا ذكرين أو
أنثيين أو ذكرا وأنثى.
وقد استدل بذلك على أن الذكر كالأنثى من الإخوة لأم،
لأن الله شرّك بينهم في الثلث ولم يذكر فضل الذكر على الأنثى كما ذكره في البنين
والإخوة لأبوين أو لأب.
قال القرطبي: وهذا إجماع. ودلت الآية على أن الإخوة
لأم إذا استكملت بهم المسألة كانوا أقدم من الإخوة لأبوين أو لأب وذلك في المسألة
المسماة ب «الحمارية» وهي إذا تركت الميتة زوجا وأما وأخوين لأمّ وإخوة لأبوين
[فإن للزوج النصف وللأم السدس وللأخوين لأم الثلث ولا شيء للإخوة لأبوين] «١»،
ووجه ذلك أنه قد وجد الشرط الذي يرث عنده الإخوة من الأم، وهو كون الميت كلالة.
ويؤيد هذا الحديث: «ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فلأولى رجل ذكر» ... وهو في
الصحيحين وغيرهما.
(١) ما بين المعكوفين سقط من المطبوع والتتمة من فتح
القدير [١/ ٤٣٥] .
قال الشوكاني في «فتح القدير» «١» . وقد
قررنا دلالة الآية والحديث على ذلك في الرسالة التي سميناها «المباحث الدرية في
المسألة الحمارية» . وفي هذه المسألة خلاف بين الصحابة فمن بعدهم معروف.
انتهى.
مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِها أَوْ دَيْنٍ الكلام فيه كما
تقدم.
غَيْرَ مُضَارٍّ: أي يوصي حال كونه غير مضار لورثته بوجه من وجوه
الضرار، كأن يقرّ بشيء ليس عليه أو يوصي بوصية لا مقصد له فيها إلا الإضرار
بالورثة، أو يوصي لوارث مطلقا أو لغيره بزيادة على الثلث ولم يجزه الورثة. وهذا
القيد أعني قوله:
غَيْرَ مُضَارٍّ، راجع إلى الوصية والدين المذكورين، فهو
قيد لهما. فما صدر من الإقرارات بالديون، أو الوصايا المنهي عنها له. أو التي لا
مقصد لصاحبها إلا المضارة لورثته فهو باطل مردود لا ينفذ منه شيء لا الثلث ولا
دونه.
قال القرطبي: وأجمع العلماء على أن الوصية للوارث لا تجوز «٢»
انتهى.
وهذا القيد، أعني عدم الضرار، هو قيد لجميع ما تقدّم من الوصية
والدّين.
قال أبو السعود في «تفسيره»: وتخصيص القيد بهذا المقام لما أن
الورثة مظنة لتفريط الميت في حقهم.
وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ: نصب على المصدر:
أي يوصيكم بذلك وصية كقوله:
فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ [النساء: ١١] . قال ابن
عطية: ويصح أن يعمل فيها (مضار) والمعنى أن يقع الضرر بها، أو بسببها فأوقع عليها
تجوزا فيكون وصية على هذا مفعولا بها لأن اسم الفاعل قد اعتمد على ذي الحال، أو
لكونه منفيا معنى. وقرأ الحسن وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ بالجرّ على إضافة اسم
الفاعل إليها كقوله: يا سارق الليلة أهل الدار.
وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ
(١٢) وفي كون هذه الوصية من الله سبحانه دليل على أنه قد وصّى عباده بهذه
التفاصيل المذكورة في الفرائض، وأن كل وصية من عباده تخالفها فهي مسبوقة بوصية
الله، وذلك كالوصايا المتضمنة لتفضيل بعض الورثة على بعض أو
(١) فتح القدير
[١/ ٤٣٥] .
(٢) تفسير القرطبي [٥/ ٨٠] .
المشتملة على
الضرار بوجه من الوجوه.
وقد ورد في تعظيم ذنب الإضرار بالوصية أحاديث قال
ابن عباس: هو من الكبائر «١» . أخرجه النسائي والبيهقي وابن جرير وابن المنذر
وغيرهم عنه، ورجال إسناده رجال الصحيح.
وأخرج أحمد وعبد بن حميد وأبو داود
والترمذي- وحسنه- وابن ماجة- واللفظ له- والبيهقي، عن أبي هريرة قال: قال رسول
الله ﵌: «إن الرجل ليعمل بعمل أهل الخير سبعين سنة فإذا أوصى جاف في وصيته فيختم
له بشر عمله فيدخل النار، وإن الرجل ليعمل بعمل أهل الشر سبعين سنة فيعدل في
وصيته فيختم له بخير عمله فيدخل الجنة» . ثم يقول أبو هريرة: اقرأوا إن شئتم
تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ إلى قوله:
عَذابٌ مُهِينٌ (١٤) «٢» . وفي إسناده شهر
بن حوشب وثقه أحمد وابن معين.
وقال النسائي: ليس بالقوي.
وقال أبو
حاتم: ليس بدون.
وقال ابن عون: تركوه.
«فائدة» قال القاضي محمد بن علي
الشوكاني في مختصره المسمى ب «الدرر البهية» في كتاب المواريث هي مفصلة في الكتاب
العزيز ويجب الابتداء بذوي الفروض المقدرة وما بقي فللعصبة، والأخوات مع البنات
عصبة، ولبنت الابن مع البنت، السدس تكملة للثلثين، وكذا الأخت لأب مع الأخت
لأبوين.
وللجدة والجدات السدس مع عدم الأم، وهو للجد مع من لا يسقط.
ولا
ميراث للإخوة والأخوات مع الابن أو ابن الابن، وفي ميراثهم مع الجد
(١)
أخرجه ابن جرير في التفسير [٣/ ٦٣٠] ح [٨٧٨٥، ٨٧٨٦، ٨٧٨٧، ٨٧٨٨] والنسائي في
التفسير وابن أبي شيبة في المصنف [٦/ ٢٢٧، ٢٢٨] ح [٣٠٩٣٣] و[٣٠٩٣٦] والبيهقي في
السنن [٦/ ٢٧١] وعبد بن حميد وابن أبي حاتم وابن المنذر كما في الدر المنثور [٢/
٤٥٢] وأخرجه ابن جرير في التفسير [٣/ ٦٣١] ح [٨٧٨٩] والبيهقي في السنن الكبرى [٦/
٢٧١] والدارقطني في السنن [٤/ ١٥١] انظر ميزان الاعتدال [٣/ ٢٢٤] .
(٢)
أخرجه أبو داود في السنن [٣/ ١١٢] ح [٢٨٦٧] والترمذي في السنن [٤/ ٢١١٧] ورواه
ابن ماجه في السنن ح [٢٧٠٤] ورواه عبد الرزاق في مصنفه [٩/ ٨٨] ح [١٦٤٥٥] وأحمد
في المسند [٢/ ٢٧٨] وأخرجه الطبراني في الأوسط كما في المجمع [٧/ ٢١٢] .
خلاف،
ويرثون مع البنات إلا الإخوة لأم، ويسقط الأخ لأب مع الأخ لأبوين، وذوو الأرحام
يتوارثون وهم أقدم من بيت المال، فإن تزاحمت الفرائض فالعول.
ولا يرث ولد
الملاعنة والزانية إلا من أمه وقرابتها والعكس.
ولا يرث المولود إلا إذا
استهل، وميراث العتيق لمعتقه، ويسقط بالعصبات، وله الباقي بعد ذوي السهام. ويحرم
بيع الولاء وهبته ولا توارث بين أهل ملتين، ولا يرث القاتل من المقتول. انتهى.
وقال
في شرحه المسمى ب «الدراري المضيئة»: اعلم أن المواريث المفصلة في الكتاب العزيز
معروفة لم نتعرض هاهنا لذكرها واقتصرنا على ما ثبت في السنة والإجماع ولم نذكر ما
كان لا مستند له إلا محض الرأي- كما جرت به قاعدتنا في هذا الكتاب- فليس مجرد
الرأي مستحقا للتدوين فلكل عالم رأيه واجتهاده مع عدم الدليل، ولا حجة في اجتهاد
بعض أهل العلم على البعض الآخر، فإذا عرفت هذا اجتمع لك مما في الكتاب العزيز وما
ذكرناه هاهنا جميع علم الفرائض الثابت بالكتاب والسنة، فإن عرض لك ما لم يكن
فيهما فاجتهد فيه رأيك عملا بحديث معاذ المشهور. انتهى.
[الآية السادسة]
يا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهًا
وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ
يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ
كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ
خَيْرًا كَثِيرًا (١٩) .
معنى الآية يتضح بمعرفة سبب نزولها، وهو ما أخرجه
البخاري وغيره عن ابن عباس قال: كانوا إذا مات الرجل كان أولياؤه أحقّ بامرأته:
إن شاء بعضهم تزوجها.
وإن شاءوا زوجوها، وإن شاءوا لم يزوجوها، فهم أحق بها
من أهلها، فنزلت «١» .
وفي لفظ لأبي داود عنه في هذه الآية: [كان] «٢» الرجل
يرث امرأة ذي قرابته فيعضلها حتى تموت أو تردّ إليه صداقها. وفي لفظ لابن جرير
وابن أبي حاتم عنه: فإن
(١) أخرجه البخاري في الصحيح [٨/ ٢٤٥] ح [٤٥٧٩]
و[٦٩٤٨] .
(٢) ما بين المعكوفين سقط من المطبوع والمستدرك من فتح القدير [١/
٤٤١] .
كانت جميلة تزوجها، وإن كانت ذمية حبسها حتى تموت
فيرثها. وقد روي هذا السبب بألفاظ.
لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا
النِّساءَ كَرْهًا ولا يحل لكم أن تَعْضُلُوهُنَّ عن أن يتزوجهن غيركم
لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَّ أي لتأخذوا ميراثهن إذا متن، أو ليدفعن
إليكم صداقهن إذا أذنتم لهن بالنكاح. قال الزهري وأبو مجلز: كان من عادتهم إذا
مات الرجل وله زوجة ألقى ابنه من غيرها أو أقرب عصبته ثوبه على المرأة فيصير أحق
بها من نفسها ومن أوليائها، فإن شاء تزوجها بغير صداق إلا الصداق الذي أصدقها
الميت، وإن شاء زوجها من غيره وأخذ صداقها ولم يعطها شيئا، وإن شاء عضلها لتفتدي
منه بما ورثت من الميت، أو تموت فيرثها، فنزلت الآية. وقيل: الخطاب لأزواج النساء
إذا حبسوهنّ مع سوء العشرة طمعا في إرثهنّ أو يفتدين ببعض مهورهنّ. اختاره ابن
عطية قال: ودليل ذلك قوله: إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ فإنها
إذا أتت بفاحشة فليس للوليّ حبسها حتى تذهب بمالها إجماعا من الأمة، وإنما ذلك
للزوج. قال الحسن: إذا زنت البكر فإنها تجلد مائة وتنفى وتردّ إلى زوجها ما أخذت
منه وقال أبو قلابة: إذا زنت امرأة الرجل فلا بأس أن يضارّها ويشقّ عليها حتى
تفتدي منه.
قال السّدي: إذا فعلن ذلك فخذوا مهورهنّ.
وقال قوم: الفاحشة
البذاءة باللسان وسوء العشرة قولا وفعلا. وقال مالك وجماعة من أهل العلم: للزوج
أن يأخذ من الناشز جميع ما تملك هذا كله على أن الخطاب في قوله: وَلا
تَعْضُلُوهُنَّ للأزواج، وقد عرفت مما قدمنا في سبب النزول أن الخطاب في قوله:
وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لمن خوطب بقوله: لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ
كَرْهًا فيكون المعنى: ولا يحلّ لكم أن تمنعوهن من الزواج لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ
ما آتَيْتُمُوهُنَّ أي ما آتاهنّ من ترثونه إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ
مُبَيِّنَةٍ، فحينئذ جاز لكم حبسهن عن الأزواج.
ولا يخفى ما في هذا من
التعسف مع عدم جواز حبس من أتت بفاحشة عن أن تتزوج وتستعفّ «١» عن الزنا، وكما أن
جعل قوله: ولا تعضلوهن خطابا للأولياء، فيه هذا التعسف! كذلك جعل قوله: لا
يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ خطابا للأزواج فيه تعسف ظاهر مع مخالفة
سبب نزول الآية الذي ذكرناه. والأولى أن يقال: إن الخطاب في قوله:
(١) جاء
في المطبوع [وتستغنى] والصواب ما أثبتناه وهو من فتح القدير [١/ ٤٤١] .
لا
يَحِلُّ لَكُمْ: للمسلمين: أي لا يحل لكم معاشر المسلمين [أن ترثوا النساء كرها
كما كانت تفعله الجاهلية، ولا يحلّ لكم معاشر المسلمين «١»] أن تعضلوا أزواجكم أي
تحبسوهنّ عندكم، مع عدم رغبتكم فيهنّ، بل لقصد أن تذهبوا ببعض ما آتيتموهنّ من
المهر يفتدين به من الحبس والبقاء تحتكم، وفي عقدكم مع كراهتكم لهنّ إِلَّا أَنْ
يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ جاز لكم مخالعتهنّ ببعض ما آتيتموهنّ.
وَعاشِرُوهُنَّ
بِالْمَعْرُوفِ [أي بما هو معرف] «٢» في هذه الشريعة وبين أهلها من حسن المعاشرة،
وهو خطاب للأزواج أو لما هو أعم، وذلك مختلف باختلاف الأزواج في الغنى والفقر
والرفاعة والوضاعة فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ لسبب من الأسباب من غير ارتكاب فاحشة
ولا نشوز فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا
كَثِيرًا (١٩): أي فعسى أن يؤول الأمر إلى ما تحبونه من ذهاب الكراهة وتبدلها
بالمحبة فيكون في ذلك خير كثير من استدامة الصحبة وحصول الأولاد. فيكون الجزاء
على هذا محذوفا مدلولا عليه بعلته: أي فإن كرهتموهن فاصبروا ولا تفارقوهن بمجرد
هذه النفرة فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا.
قيل: في الآية
ندب إلى إمساك الزوجة مع الكراهة، لأنه إذا كره صحبتها وتحمّل ذلك المكروه طلبا
للثواب وأنفق عليها وأحسن هو معاشرتها استحق الثناء الجميل في الدنيا والثواب
الجزيل في العقبى.
[الآية السابعة] وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ
مَكانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطارًا فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا
أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (٢٠) .
وَإِنْ أَرَدْتُمُ
اسْتِبْدالَ زَوْجٍ: أي زوجة مَكانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطارًا:
المراد به هنا المال الكثير، وفيه دليل على جواز المغالاة في المهور فَلا
تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا: قيل: هي محكمة، وقيل: هي منسوخة بقوله تعالى في سورة
البقرة: وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا
إِلَّا أَنْ يَخافا أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ والأولى
(١) ما بين
المعكوفين سقط من المطبوع والمستدرك من فتح القدير [١/ ٤٤١] .
(٢) ما بين
المعكوفين سقط من المطبوع والمستدرك من فتح القدير [١/ ٤٤١] .
أن
الكل محكم. والمراد هنا غير المختلعة فلا يحل لزوجها أن يأخذ مما آتاها شيئا.
[الآية
الثامنة]
وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما
قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَمَقْتًا وَساءَ سَبِيلًا (٢٢) .
وَلا
تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ نهى عما كانت عليه الجاهلية من
نكاح نساء آبائهم إذا ماتوا، وهو شروع في بيان من يحرم نكاحه من النساء ومن لا
يحرم.
إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ هو استثناء منقطع: أي لكن ما قد سلف في
الجاهلية فاجتنبوه ودعوه، وقيل: إلا بمعنى بعد: أي بعد ما سلف. وقيل: المعنى ولا
ما سلف، وقيل:
هو استثناء متصل من قوله: ما نَكَحَ آباؤُكُمْ يفيد المبالغة
في التحريم بإخراج الكلام مخرج التعليق «١» بالمحال: بمعنى إن أمكنكم أن تنكحوا
ما قد سلف فانكحوا فلا يحلّ لكم غيره! ... وأخرج عبد الرزاق وابن أبي شيبة وأحمد
والحاكم- وصححه- والبيهقي في سننه عن البراء، قال: «لقيت خالي ومعه الراية. قلت:
أين تريد؟ قال:
بعثني رسول الله ﵌ إلى رجل تزوج امرأة أبيه من بعده فأمرني
أن أضرب عنقه وآخذ ماله» «٢» . ثم بين سبحانه وجه النهي عنه فقال: إِنَّهُ كانَ
فاحِشَةً وَمَقْتًا وَساءَ سَبِيلًا (٢٢) هذه الصفات الثلاث تدل على أنه من أشدّ
المحرمات وأقبحها، وقد كانت الجاهلية تسميه «نكاح المقت» وهو أن يتزوج الرجل
امرأة أبيه إذا طلقها أو مات عنها.
ويقال لهذا «الضّيزن» وأصل المقت:
البغض.
(١) جاء في فتح القدير [١/ ٤٤٢] [التعلق] .
(٢) [صحيح] أخرجه
ابن أبي شبه في المصنف [٥/ ٥٤٩] ح [٢٨٨٦٥] وأحمد في المسند [٤/ ٢٩٢] وسعيد بن
منصور في السنن [١/ ٢٣٥] ح [٩٤٢] وابن ماجه في السنن ح [٢٦٠٧] والدارقطني في
السنن [٣/ ١٩٦] والبغوي في شرح السنة [١٠/ ٣٠٥] ح [٢٥٩٢] والترمذي في الجامع [٣/
٦٤٣] ح [١٣٦٢] .
ورواه البيهقي في السنن [٨/ ٢٣٧] و[٧/ ١٦٢] ورواه النسائي
في المجتبى [٦/ ١١٠] وأبو داود في السنن [٤/ ١١٥] ح [٤٤٥٧] والدارمي في السنن [٢/
١٥٣] .
[الآية التاسعة] حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ
وَبَناتُكُمْ وَأَخَواتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخالاتُكُمْ وَبَناتُ الْأَخِ
وَبَناتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَواتُكُمْ
مِنَ الرَّضاعَةِ وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ وَرَبائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي
حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا
دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ
مِنْ أَصْلابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ
إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُورًا رَحِيمًا (٢٣) .
حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ
أُمَّهاتُكُمْ أي نكاحهنّ، وقد بيّن الله سبحانه في هذه الآية ما يحلّ وما يحرم
من النساء فحرّم سبعا من النسب، وستا من الرضاع والصهر، وألحقت المتواترة تحريم
الجمع بين المرأة وعمتها، وبين المرأة وخالتها، ووقع عليه الإجماع.
فالسبع
المحرمات من النسب الأمهات. وَبَناتُكُمْ وَأَخَواتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ
وَخالاتُكُمْ أي البنات والأخوات والعمات والخالات وَبَناتُ الْأَخِ وَبَناتُ
الْأُخْتِ وَأُمَّهاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ هذا مطلق قيد بما ورد في
السنة من كون الرضاع في الحولين إلا في مسألة قصة إرضاع سالم مولى أبي حذيفة.
وظاهر النظم القرآني أنه يثبت حكم الرضاع بما يصدق عليه مسمى الرضاع لغة وشرعا،
ولكنه قد ورد تقييده بخمس رضعات في أحاديث صحيحة عن جماعة من الصحابة. والبحث عن
تقرير ذلك وتحقيقه يطول، وقد استوفاه الشوكاني في مصنفاته «١» وقرر ما هو الحق في
كثير من مباحث الرضاع، وذكرنا طرفا منه في شرحنا لبلوغ المرام.
وَأَخَواتُكُمْ
مِنَ الرَّضاعَةِ الأخت من الرضاع هي التي أرضعتها أمك بلبان أبيك سواء أرضعتها
معك أو مع من قبلك أو بعدك من الأخوة والأخوات، والأخت من الأم: هي التي أرضعتها
أمك بلبان رجل آخر.
وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ وَرَبائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي
حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَ
(١) انظر نيل
الأوطار [٧/ ١١٣- ١٢٧] . [.....]
فالمحرمات بالصهر والرضاع:
الأمهات من الرضاعة والأخوات من الرضاعة وأمهات النساء والربائب وحلائل الأبناء
والجمع بين الأختين، فهؤلاء ست، والسابعة منكوحات الآباء، والثامنة الجمع بين
المرأة وعمتها.
قال الطحاوي: وكل هذا من المحكم المتفق عليه، وغير جائز نكاح
واحدة منهن بالإجماع إلا أمهات النساء اللواتي لم يدخل بهنّ أزواجهنّ، فإن جمهور
السلف ذهبوا إلى أن الأم تحرم بالعقد على الابنة ولا تحرم الابنة إلا بالدخول
بالأم.
وقال بعض السلف: الأم والربيبة سواء لا تحرم واحدة منهما إلا بالدخول
بالأخرى.
قالوا: ومعنى قوله: وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ: أي اللاتي دخلتم بهن.
وزعموا أن قيد الدخول راجع إلى الأمهات والربائب جميعا، رواه خلاس عن عليّ. وروي
عن ابن عباس وجابر وزيد بن ثابت وابن الزبير ومجاهد.
قال القرطبي «١»:
ورواية خلاس عن عليّ لا تقوم بها حجة ولا تصح روايته عند أهل الحديث، والصحيح عنه
مثل قول الجماعة.
وقد أجيب عن قولهم إن قيد الدخول راجع إلى الأمهات
والربائب بأن ذلك لا يجوز من جهة الإعراب، وبيانه أن الخبرين إذا اختلفا في
العامل لم يكن نعتهما واحدا، فلا يجوز عند النحويين مررت بنسائك وهويت نساء زيد
الظريفات، على أن يكون الظريفات نعتا للجميع فكذلك في الآية لا يجوز أن يكون
[اللاتي دخلتم بهنّ] نعتا لهما جميعا لأن الخبرين مختلفان.
قال ابن المنذر:
والصحيح قول الجمهور لدخول جميع أمهات النساء في قوله:
وَأُمَّهاتُ
نِسائِكُمْ. ومما يدل على ما ذهب إليه الجمهور ما أخرجه عبد الرزاق وعبد بن حميد
وابن جرير وابن المنذر والبيهقي في سننه من طريقين عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن
جده عن النبي ﵌ قال: إذا نكح الرجل المرأة فلا يحل له أن يتزوج أمها، دخل بالابنة
أو لم يدخل، وإذا تزوج الأم فلم يدخل بها ثم طلقها فإن شاء تزوج الابنة» «٢» .
(١)
تفسير القرطبي [٥/ ١٠٦] .
(٢) [ضعيف] أخرجه عبد الرزاق في المصنف [٦/ ٢٧٦] ح
[١٠٨٢١] والطبري في التفسير [٣/ ٦٦٤] .
قال ابن كثير في تفسيره
«١» مستدلا للجمهور: وقد روي في ذلك خبر غير أن في إسناده نظرا، فذكر هذا الحديث
ثم قال: وهذا الخبر وإن كان في إسناده ما فيه، فإن إجماع الأمة على صحة القول به
يغني عن الاستشهاد على صحته بغيره.
قال في «الكشاف»: وقد اتفقوا على أن
تحريم أمهات النساء مبهم دون تحريم الربائب على ما عليه ظاهر كلام الله تعالى
اه.
ودعوى الإجماع مدفوعة بخلاف من تقدم.
واعلم أنه يدخل في لفظ
الأمهات أمهاتهنّ وجداتهنّ وأم الأب وجدّاته- وإن علون- لأن كلهن أمهات لمن ولده
من ولدنه، وإن سفل.
ويدخل في لفظ البنات بنات الأولاد، وإن سلفن، والأخوات
تصدق على الأخت لأبوين أو أحدهما.
والعمة: اسم لكل أنثى شاركت أباك أو جدّك
في أصليه أو أحدهما. وقد تكون العمة من جهة الأم وهي أخت أب الأم.
والخالة:
اسم لكل أنثى شاركت أمك في أصليها أو أحدهما. وقد تكون الخالة من جهة الأب وهي
أخت أم أبيك. وبنت الأخ اسم لكل أنثى لأخيك عليها ولادة بواسطته ومباشرة وإن بعدت
وكذلك بنت الأخت.
والمحرمات بالمصاهرة أربع: أمّ المرأة وابنتها وزوجة الأب
وزوجة الابن.
والربيبة: بنت امرأة الرجل من غيره، سميت بذلك لأنه يربيها في
حجره فهي مربوبة فعيلة بمعنى مفعولة.
قال القرطبي «٢»: واتفق الفقهاء على أن
الربيبة تحرم على زوج أمها إذا دخل بالأم، وإن لم تكن الربيبة في حجره، وشذ بعض
المتقدّمين وأهل الظاهر فقالوا: لا تحرم الربيبة إلا أن تكون في حجر المتزوج
[بأمها] «٣»، فلو كانت في بلد آخر وفارق
ح [٥٩٥٧] وعبد بن حميد وابن المنذر
كما في الدر المنثور [٢/ ٤٧٢] والبيهقي في السنن الكبرى [٧/ ١٦٠] .
(١)
تفسير ابن كثير [١/ ٤٤٦] .
(٢) تفسير القرطبي [٥/ ١١٢] .
(٣) ما بين
المعكوفين من تفسير القرطبي [٤/ ١١٢] .
الأم فله أن يتزوج بها.
وقد روي ذلك عن عليّ.
قال ابن المنذر والطحاوي: لم يثبت ذلك عن عليّ لأنه
رواه إبراهيم بن عبيد عن مالك بن أوس عن علي وإبراهيم هذا لا يعرف! وقال ابن كثير
في تفسيره «١» بعد إخراج هذا عن علي: وهذا إسناد قوي ثابت إلى علي بن أبي طالب ﵁
على شرط مسلم «٢» .
والحجور: جمع حجر بفتح الحاء وكسرها، والمراد أنهنّ في
حضانة أمهاتهنّ تحت حماية أزواجهن، كما هو الغالب وقيل المراد بالحجور البيوت أي
في بيوتكم.
حكاه الأثرم عن أبي عبيدة.
فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا
دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ: أي في نكاح الربائب، وهو تصريح بما
دلّ عليه مفهوم ما قبله.
وقد اختلف أهل العلم في معنى الدخول الموجب لتحريم
الربائب: فروي عن ابن عباس أنه قال: الدخول الجماع، وهو قول طاووس وعمرو بن دينار
وغيرهما.
وقال مالك والثوري وأبو حنيفة والأوزاعي والليث: إن الزوج إذا لمس
الأمّ بشهوة حرمت عليه ابنتها، وهو أحد قولي الشافعي.
قال ابن جرير والطبري:
وفي إجماع الجميع على أن خلوة الرجل بامرأته لا تحرّم ابنتها عليه إذا طلقها قبل
مسيسها ومباشرتها، وقبل النظر إلى فرجها بشهوة ما يدل على أن معنى ذلك هو الوصول
إليها بالجماع. انتهى.
وهكذا حكى الإجماع القرطبي فقال: وأجمع العلماء على
أن الرجل إذا تزوج المرأة ثم طلقها أو ماتت قبل أن يدخل بها حلّ له نكاح ابنتها
واختلفوا في النظر: فقال الكوفيون إذا نظر إلى فرجها بشهوة كان بمنزلة اللمس
بشهوة وكذا قال الثوري ولم يذكر الشهوة.
وقال ابن أبي ليلى: لا يحرم بالنظر
حتى يلمس، وهو قول الشافعي.
(١) تفسير ابن كثير [١/ ٤٤٦] .
(٢) أخرجه
عبد الرزاق في المصنف [٦/ ٢٧٨] ح [١٠٨٣٤] وابن أبي حاتم في التفسير كما في تفسير
ابن كثير [١/ ٤٤٦] انظر الدر المنثور [٢/ ٤٧٤] .
والذي ينبغي
التعويل عليه في مثل هذا الخلاف هو النظر في معنى الدخول شرعا أو لغة: فإن كان
خاصا بالجماع فلا وجه لإلحاق غيره به من لمس أو نظر أو غيرهما، وإن كان معناه
أوسع من الجماع بحيث يصدق على ما حصل فيه نوع استمتاع كان مناط التحريم هو
ذلك.
وأما الربيبة في ملك اليمين فقد روي عن عمر بن الخطاب أنه كره ذلك.
وقال
ابن عباس: أحلتهما آية وحرمتهما آية ولو لم أكن لأفعله.
وقال ابن عبد البر:
لا خلاف بين العلماء أنه لا يحل أن يطأ امرأة وابنتها من ملك اليمين لأن الله
حرّم ذلك في النكاح، قال: وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ وَرَبائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي
حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ، وملك اليمين عندهم تبع للنكاح، إلا ما روي عن عمر
وابن عباس، وليس على ذلك أحد من أئمة الفتوى ولا من تبعهم انتهى.
وَحَلائِلُ
أَبْنائِكُمُ الحلائل: جمع حليلة وهي الزوجة، سميت بذلك لأنها تحلّ مع الزوج حيث
حلّ، فهي فعلية بمعنى فاعلة. وذهب الزجاج وقوم إلى أنها من لفظ الحلال فهي حليلة
بمعنى محللة وقيل: لأن كل واحد منهم يحل إزار صاحبه.
وقد أجمع العلماء على
تحريم ما عقد عليه الآباء على الأبناء وما عقد عليه الأبناء على الآباء سواء كان
مع العقد وطء أو لم يكن. لقوله تعالى: وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ
النِّساءِ، وقوله تعالى: وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ.
واختلف الفقهاء في العقد
إذا كان فاسدا هل يقتضي التحريم أم لا كما هو مبين في كتب الفروع؟
وقال ابن
المنذر: أجمع كل من يحفظ عنه العلم من علماء الأمصار أن الرجل إذا وطئ امرأة
بنكاح فاسد لا تحرم على أبيه وابنه وعلى أجداده «١»، وأجمع العلماء على أن عقد
الشراء على الجارية لا يحرّمها على أبيه وابنه «٢»، لا أعلمهم يختلفون فيه فوجب
تحريم ذلك تسليما لهم. ولو اختلفوا في تحريمها بالنظر دون اللمس لم يجز ذلك
لاختلافهم. قال ولا يصح عن أحد من أصحاب رسول الله ﵌ خلاف ما قلناه.
الَّذِينَ
مِنْ أَصْلابِكُمْ وصف للأبناء: أي دون من تبنيتم من أولاد غيركم،
(١) انظر
الإجماع لابن المنذر [ص/ ٧٦] .
(٢) انظر الإجماع لابن المنذر [ص/ ٧٦] .
كما
كانوا يفعلونه في الجاهلية. ومنه قوله تعالى: فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها
وَطَرًا زَوَّجْناكَها لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي
أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا. ومنه قوله: وَما جَعَلَ
أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ. ومنه: ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ
رِجالِكُمْ. وأما زوجة الابن من الرضاع فذهب الجمهور إلى أنها تحرم على أبيه، وقد
قيل: إنه إجماع مع أن الابن من الرضاع ليس من أولاد الصلب. ووجهه ما صح عن النبي
﵌ من قوله: «يحرم من الرّضاع ما يحرم من النسب» «١» . ولا خلاف أن أولاد الأولاد،
وإن سفلوا، بمنزلة أولاد الصلب في تحريم نكاح نسائهم على آبائهم.
وقد اختلف
أهل العلم في وطء الزنا: هل يقتضي التحريم أم لا؟ فقال أكثر أهل العلم: إذا أصاب
رجل امرأة بزنا لم يحرم عليه نكاحها بذلك، وكذلك لا تحرم عليه امرأته إذا زنا
بأمها أو بابنتها، وحسبه أن يقام عليه الحدّ، وكذلك يجوز له عندهم أن يتزوّج بأم
من زنا بها وبابنتها «٢» .
وقالت طائفة من أهل العلم: إن الزنا يقتضي
التحريم، حكي ذلك عن عمران بن حصين والشعبي وعطاء والحسن وسفيان الثوري وأحمد «٣»
وإسحاق وأصحاب «٤» .
الرأي، وحكى ذلك عن مالك، والصحيح عنه كقول الجمهور «٥»
.
احتج الجمهور بقوله تعالى: وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ، وبقوله: وَحَلائِلُ
أَبْنائِكُمُ. والموطوءة بالزنا لا يصدق عليه أنها من نسائهم ولا من حلائل
أبنائهم.
وقد أخرج الدارقطني عن عائشة قالت: سئل رسول الله ﵌ عن رجل زنى
بامرأة فأراد أن يتزوجها أو ابنتها فقال: «لا يحرم الحرام الحلال» «٦»، واحتج
المحرّمون بما
(١) [متفق عليه] أخرجه البخاري في الصحيح [٥/ ٢٥٣] ح [٢٦٤٦،
٣١٠٥، ٥٠٩٩] ومسلم في الصحيح ح [١٤٤٤] .
(٢) وهو قول الإمام الشافعي. انظر
روضة الطالبين [٧/ ١١٣] .
(٣) انظر المغني [٧/ ٤٨٢] .
(٤) انظر الهداية
[١/ ٣٣٤] . [.....]
(٥) انظر كفاية الطالب الرباني [٢/ ٥٥] .
(٦)
[ضعيف] أخرجه ابن حبان في المجروحين [٢/ ٩٨- ٩٩] وابن عدي في الكامل [٥/ ١٦٠]
والبيهقي في السنن الكبرى [٧/ ١٦٩] والدارقطني في السنن [٣/ ٢٦٨] والدارقطني في
الأوسط كما في المجمع [٤/ ٢٦٨- ٢٦٩] وأخرجه ابن ماجه في السنن ح [٢٠١٥]
والدارقطني في السنن [٣/ ٢٦٨] والخطيب البغدادي في التاريخ [٧/ ١٨٢] والبيهقي في
السنن [٧/ ١٦٨] انظر الفتح [٩/ ١٥٦] .
روي في قصة جريج الثابتة
في الصحيح أنه قال: «يا غلام من أبوك؟ فقال فلان الراعي» «١» فنسب الابن نفسه إلى
أبيه من الزنا، وهذا احتجاج ساقط.
واحتجوا أيضا بقوله ﵌: «لا ينظر الله إلى
رجل نظر إلى فرج امرأة وابنتها ولم يفصل بين الحلال والحرام» «٢» . ويجاب عنه بأن
هذا مطلق مقيد بما ورد من الأدلة الدالة على أن الحرام لا يحرّم الحلال.
ثم
اختلفوا في اللواط هل يقتضي التحريم أم لا؟ فقال الثوري: إذا لاط بالصبيّ حرمت
عليه أمه! وهو قول أحمد بن حنبل، قال: إذا تلوّط بابن امرأته أو [أبيها] «٣» أو
أخيها حرمت عليه امرأته «٤» .
وقال الأوزاعي: إذا لاط بغلام وولد للمفجور به
بنت لم يجز للفاجر أن يتزوجها لأنها بنت من قد دخل به «٥» .
ولا يخفى ما في
قول هؤلاء من الضعف والسقوط النازل عن قول القائلين بأن وطء الحرام يقتضي التحريم
بدرجات لعدم صلاحية ما تمسك به أولئك من الشبه على ما زعمه هؤلاء من اقتضاء
اللواط للتحريم.
وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ: أي وحرم عليكم أن
تجمعوا بين الأختين فهو في محل رفع عطفا على المحرمات السابقة، وهو يشمل الجمع
بينهما بالنكاح والوطء بملك اليمين.
وقيل: إن الآية خاصة بالجمع في النكاح
لا في ملك اليمين. وأما في الوطء بالملك اليمين فلا حق بالنكاح، وقد اجتمعت الأمة
على منع جمعهما في عقد النكاح.
(١) [متفق عليه] أخرجه البخاري في الصحيح [٣/
٧٨] ح [١٢٠٦، ٢٤٨٢، ٣٤٣٦، ٣٤٦٦] ومسلم في الصحيح ح [٢٥٥٠] .
(٢) [لا أصل له
مرفوعا] وإنما روي موقوفا أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف [٣/ ٤٨٠] ح [١٦٢٣٤]
والدارقطني في السنن [٣/ ٢٦٨- ٢٦٩] ورواه ابن أبي شيبة في المصنف [٣/ ٤٨١] ح
[١٦٢٣٥] .
(٣) جاء في المطبوع [ابنها] وهو خطأ والصواب ما أثبتناه من فتح
القدير [١/ ٤٤٦] .
(٤) انظر، الكافي لموفق الدين [٣/ ٢٩] .
(٥) واعلم
أنه لا تثبت به الحرمة عند الإمام أبي حنيفة، ومالك والشافعي.
انظر، الفتاوى
الهندية [١/ ٢٧٥]، المعونة للقاضي عبد الوهاب [٢/ ٨١٦]، روضة الطالبين [٧/ ١١٣]
.
واختلفوا في الأختين بملك اليمين: فذهب كافة العلماء إلى أنه
لا يجوز الجمع بينهما في الوطء بالملك فقط، وقد توقف بعض السلف في الجمع بين
الأختين في الوطء [بالملك] «١» .
واختلفوا في جواز عقد النكاح على أخت
الجارية التي توطأ بالملك.
فقال الأوزاعي: إذا وطئ جارية له بملك اليمين لم
يجز له أن يتزوّج أختها.
وقال الشافعي: مالك اليمين لا يمنع نكاح الأخت.
وقد
ذهبت الظاهرية إلى جواز الجمع بين الأختين بملك اليمين في الوطء، كما يجوز الجمع
بينهما في الملك.
قال ابن عبد البر- بعد أن ذكر ما روي عن عثمان بن عفان من
جواز الجمع بين الأختين في الوطء بالملك-: وقد روي مثل قول عثمان عن طائفة من
السلف منهم ابن عباس ولكنهم اختلف عليهم ولم يلتفت أحد [إلى ذلك] «٢» من فقهاء
الأمصار بالحجاز ولا بالعراق ولا ما وراءها من المشرق ولا بالشام ولا المغرب إلا
من شذّ عن جماعتهم باتباع الظاهر ونفي القياس، وقد ترك من تعمد ذلك.
وجماعة
الفقهاء متفقون على أنه لا يحل الجمع بين الأختين بملك اليمين في الوطء كما لا
يحل ذلك في النكاح، وقد أجمع المسلمون على أن معنى قوله:
حُرِّمَتْ
عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ إلى آخر الآية أن النكاح بملك اليمين في هؤلاء كلهنّ
سواء، فكذلك يجب أن يكون قياسا ونظر الجمع بين الأختين وأمهات النساء والربائب،
وكذلك هو عند جمهورهم وهي الحجة المحجوج بها من خالفها وشذ عنها. والله المحمود
انتهى.
وأقول: هاهنا إشكال وهو أنه قد تقرّر أن النكاح يقال على العقد فقط،
وعلى الوطء فقط، والخلاف في كون أحدهما حقيقة والآخر مجازا، وكونهما حقيقتين
معروف: فإن حملنا هذا التحريم المذكور في هذه الآية وهي قوله: حُرِّمَتْ
عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ إلى آخر الآية، على أن المراد تحريم العقد عليهنّ لم
يكن في قوله تعالى:
(١) ما بين المعكوفين سقط من المطبوع والمثبت من فتح
القدير [١/ ٤٤٧] .
(٢) ما بين المعكوفين سقط من المطبوع والمثبت من فتح
القدير [١/ ٤٤٧] .
وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ
دلالة على تحريم الجمع بين المملوكتين في الوطء بالملك؟ وما وقع من إجماع
المسلمين على أن قوله: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَبَناتُكُمْ
وَأَخَواتُكُمْ إلخ يستوي في الحرائر والإماء، والعقد، والملك لا يستلزم أن يكون
محل الخلاف، وهو الجمع بين الأختين في الوطء بملك اليمين مثل محل الإجماع، ومجرد
القياس في مثل هذا الموطن لا تقوم به الحجة لما يرد عليه من النقوض، وإن حملنا
التحريم المذكور في الآية على الوطء فقط لم يصح ذلك للإجماع على تحريم عقد النكاح
على جميع المذكورات من أوّل الآية إلى آخرها فلم يبق إلا حمل التحريم في الآية
على تحريم عقد النكاح، فيحتاج القائل بتحريم الجمع بين الأختين في الوطء بالملك
إلى دليل، ولا ينفعه أن ذلك قول الجمهور، فالحق لا يعرف الرجال، فإن جاء به خالصا
عن شوب الكدر فيها ونعمت، وإلا كان الأصل الحل، ولا يصح حمل النكاح في الآية على
معنييه جميعا أعني العقد والوطء لأنه من باب الجمع بين الحقيقة والمجاز وهو
ممنوع، أو من باب الجمع بين معنى المشترك، وفيه الخلاف المعروف في الأصول فتدبر
هذا.
واختلف أهل العلم إذا كان الرجل يطأ مملوكته بالملك ثم أراد أن يطأ
أختها أيضا بالملك؟ فقال علي وابن عمر والحسن البصري والأوزاعي والشافعي وأحمد
وإسحاق:
لا يجوز له وطء الثانية حتى يحرّم فرج الأخرى بإخراجها من ملكه ببيع
أو عتق أو بأن يزوجها.
قال ابن المنذر: وفيه قول ثان لقتادة: وهو أنه ينوي
تحريم الأولى على نفسه وأن لا يقربها، ثم يمسك [عنهما] «١» حتى تستبرئ المحرمة ثم
يغشى الثانية.
وفيه قول ثالث وهو أنه لا يقرب واحدة منهما، هكذا قاله الحكم
وحماد. وروي معنى ذلك عن النخعي.
وقال مالك: إذا كان عنده أختان بملك فله أن
يطأ أيتهما شاء، والكفّ عن الأخرى موكول إلى أمانته. فإن أراد وطء الأخرى يلزمه
أن يحرّم على نفسه فرج الأولى بفعل يفعله من إخراج عن الملك أو تزويج أو بيع أو
عتق أو كتابة أو إخدام طويل، فإن كان يطأ إحداهما ثم وثب على الأخرى من دون أن
يحرّم الأولى [وقف] «٢» عنهما ولم
(١) جاء في المطبوع [عنها] والتصحيح من
فتح القدير [١/ ٤٤٨] .
(٢) جاء في المطبوع [وقفأ] والتصحيح من فتح القدير
[١/ ٤٤٨] .
يجز له قرب إحداهما حتى يحرّم الأخرى ولم يوكل ذلك
إلى أمانته لأنه متهم.
قال القرطبي: وقد أجمع العلماء على أن الرجل إذا طلق
زوجته طلاقا يملك رجعتها إنه ليس له أن ينكح أختها حتى تنقضي عدة المطلقة،
واختلفوا إذا طلقها طلاقا لا يملك رجعتها فقالت طائفة: ليس له أن ينكح أختها ولا
رابعة حتى تنقضي عدّة التي طلق. روي ذلك عن علي ﵇ وزيد بن ثابت ومجاهد وعطاء
والنخعي والثوري وأحمد بن حنبل وأصحاب الرأي.
وقالت طائفة: له أن ينكح أختها
وينكح الرابعة لمن كان تحته أربع وطلق واحدة منهنّ طلاقا بائنا يروى ذلك عن سعيد
بن المسيب والحسن والقاسم وعروة بن الزبير وابن أبي ليلى والشافعي وأبي ثور وأبي
عبيد. قال ابن المنذر: ولا أحسبه إلا قول مالك. وهو أيضا إحدى الروايتين عن زيد
بن ثابت وعطاء.
وقوله إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ يحتمل أن يكون معناه [معنى] «١»
ما تقدم من قوله:
وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ
إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ، ويحتمل معنى آخر، وهو جواز ما سلف وأنه إذا جرى الجمع في
الجاهلية كان النكاح صحيحا، وإذا جرى في الإسلام خيّر بين الأختين، والصواب
الاحتمال الأول.
إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُورًا رَحِيمًا (٢٣) بكم فيما سلف
قبل النهي وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ عطف على المحرّمات المذكورات. وأصل
التحصن التمنع، ومنه قوله تعالى: لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ أي: لتمنعكم،
والحصان: المرأة العفيفة لمنعها نفسها، والمصدر الحصانة بفتح الحاء، والمراد
بالمحصنات هنا ذوات الأزواج.
وقد ورد الإحصان في القرآن بمعان، هذا أحدها،
والثاني: يراد به الحرّة. ومنه قوله تعالى: وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ
طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ، وقوله: وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ
وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ والثالث: يراد
به العفيفة، ومنه قوله تعالى: مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ، وقوله: مُحْصِنِينَ
غَيْرَ مُسافِحِينَ. والرابع:
المسلمة، ومنه قوله تعالى: فَإِذا أُحْصِنَّ
أي أسلمن.
وقد اختلف أهل العلم في تفسير [هذه الآية] «٢» هنا فقال ابن عباس
وأبو سعيد
(١) ما بين المعكوفين من فتح القدير [١/ ٤٤٨] .
(٢) جاء في
المطبوع [في تفسير «هن»] والتصحيح من فتح القدير [١/ ٤٤٨] .
الخدري
وأبو قلابة ومكحول والزهري: المراد بالمحصنات هنا: المسبيات ذوات الأزواج خاصة،
أي هنّ محرّمات عليكم إِلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ بالسبي من أرض الحرب، فإن
تلك حلال، وإن كان لها زوج. وهو قول الشافعي: أي أن السبي يقطع العصمة وبه قال
ابن وهب وابن عبد الحكم وروياه عن مالك، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه وأحمد وإسحاق
وأبو ثور.
واختلفوا في استبرائها بماذا يكون؟ كما هو مدوّن في كتب
الفروع.
وقالت طائفة: المحصنات في هذه الآية العفائف، وبه قال أبو العالية
وعبيدة السلماني وطاووس وسعيد بن جبير وعطاء، رواه عبيدة عن عمر. ومعنى الآية
عندهم:
كل النساء حرام إلا ما ملكت أيمانكم، أي تملكون عصمتهنّ بالنكاح
وتملكون الرقبة بالشراء. وحكى ابن جرير الطبري أن رجلا قال لسعيد بن جبير: أما
رأيت ابن عباس حين سئل عن هذه الآية فلم يقل فيها شيئا؟ فقال: كان ابن عباس لا
يعلمها. وروى ابن جرير أيضا عن مجاهد أنه قال: لو أعلم من يفسر لي هذه الآية
لضربت إليه أكباد الإبل.
انتهى.
ومعنى الآية- والله أعلم- واضح لا سترة
به: أي وحرمت عليكم المحصنات من النساء: أي المزوجات، أعمّ من أن يكنّ مسلمات أو
كافرات إلا ما ملكت أيمانكم منهنّ. أما بالسبي فإنها تحلّ ولو كانت ذات زوج، أو
شراء فإنها تحلّ ولو كانت متزوجة. وينفسخ النكاح الذي كان عليها لخروجها عن ملك
سيدها الذي زوجها، والاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. كِتابَ اللَّهِ
عَلَيْكُمْ منصوب على المصدرية: أي كتب الله ذلك كتابا.
وقال الزجاج
والكوفيون: [إنه منصوب] «١» على الإغراء، أي الزموا [كتاب الله] «٢» . وهو إشارة
إلى التحريم المذكور في قوله: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ إلخ. وَأُحِلَّ لَكُمْ ما
وَراءَ ذلِكُمْ: وفيه دليل على أنه يحل لهم نكاح ما سوى المذكورات، وهذا عام
مخصوص بما صح عن النبي ﵌ من تحريم الجمع بين المرأة وعمتها وبين المرأة
وخالتها.
(١) ما بين المعكوفين من فتح القدير [١/ ٤٤٩] والقرطبي في التفسير
[٥/ ١٢٤] . [.....]
(٢) ما بين المعكوفين من فتح القدير [١/ ٤٤٩] .
ومن
ذلك نكاح المعتدة، وكذلك نكاح أمة على حرّة، وكذا القادر على الحرة، وكذلك تزوج
خامسة، وكذا الملاعنة للملاعن وقيل: لا حاجة إلى التنبيه على هذا فإن الكلام في
المحرمات المؤبدة، وما ذكر محرمات لعارض ممكن الزوال. نعم يظهر ذلك في الملاعنة
فانظر.
وقد أبعد من قال: إن تحريم الجمع بين المذكورات مأخوذ من الآية هذه
لأنه حرّم الجمع بين الأختين، فيكون ما في معناه في حكمه: وهو الجمع بين المرأة
وعمتها وبين المرأة وخالتها، وكذلك تحريم نكاح الأمة لمن يستطيع نكاح حرّة فإنه
يخصص هذا العموم.
أَنْ تَبْتَغُوا في محل نصب على العلة: أي حرّم عليكم ما
حرّم وأحلّ لكم ما أحلّ لأجل أن تبتغوا بِأَمْوالِكُمْ النساء اللاتي أحلهنّ الله
لكم ولا تبتغوا به الحرام فيذهب «١»، حال كونكم مُحْصِنِينَ: أي متعففين عن الزنا
غَيْرَ مُسافِحِينَ أي غير زانين.
والسفاح: الزنا، وهو مأخوذ من سفح الماء:
أي صبه وسيلانه. فكأنه سبحانه أمرهم بأن يطلبوا بأموالهم النساء على وجه النكاح،
لا على وجه السفاح. وقيل: إن قوله: أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ بدل من «ما»
في قوله: ما وَراءَ ذلِكُمْ أي: وأحلّ لكم الابتغاء بأموالكم. والأوّل أولى.
وأراد الله سبحانه بالأموال المذكورة ما يدفعونه في مهور الحرائر وأثمان
الإماء.
فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ كلمة «٢» «ما» موصولة، والفاء
في قوله: فَآتُوهُنَّ لتضمن الموصول معنى الشرط والعائد محذوف: أي فأتوهنّ
أجورهنّ عليه.
وقد اختلف أهل العلم في معنى الآية، فقال الحسن ومجاهد
وغيرهما: المعنى فيما انتفعتم وتلذذتم بالجماع من النساء الشرعي فَآتُوهُنَّ
أُجُورَهُنَّ أي مهورهنّ.
وقال الجمهور: إن المراد بهذه الآية نكاح المتعة
الذي كان في صدر الإسلام ويؤيد ذلك قراءة أبيّ بن كعب وابن عباس وسعيد بن جبير:
فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَ
(١) جاء في المطبوع [فيذم] والتصحيح من
فتح القدير [١/ ٤٤٩] .
(٢) جاء في المطبوع وفي فتح القدير [١/ ٤٤٩]
بدونها.
إلى أجل مسمّى فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ ثم نهى عنها
النبي ﵌ كما صح ذلك من حديث عليّ ﵇ قال: «نهى النبي ﵌ عن نكاح المتعة وعن لحوم
الحمر الأهلية يوم خيبر» «١» . وهو في الصحيحين وغيرهما.
وفي «صحيح مسلم» من
حديث سبرة بن معبد الجهني عن النبي ﵌ أنه قال يوم فتح مكة: «يا أيّها النّاس إنّي
قد كنت أذنت لكم في الاستمتاع من النساء والله قد حرم ذلك إلى يوم القيامة فمن
كان عنده منهنّ شيء فليخلّ سبيلها ولا تأخذوا مما أتيتموهنّ شيئا» «٢» . وفي لفظ
لمسلم أن ذلك كان في حجة الوداع، فهذا هو الناسخ.
وقال سعيد بن جبير: نسختها
آية الميراث إذ المتعة لا ميراث فيها، وقال القاسم بن محمد وعائشة: تحريمها
ونسخها في القرآن، وذلك قوله تعالى: وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ
(٢٩) إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ
مَلُومِينَ (٣٠) وليست المنكوحة بالمتعة من أزواجهم ولا مما ملكت أيمانهم فإن من
شأن الزوجة أن ترث وتورث، وليست المتمتع بها كذلك.
وقد روي عن ابن عباس أنه
قال بجواز المتعة وأنها باقية لم تنسخ.
وروي عنه أنه رجع عن ذلك عند أن بلغه
الناسخ.
وقد قال بجوازها جماعة من الروافض، ولا اعتبار بأقوالهم. وقد أتعب
نفسه بعض المتأخرين بتكثير الكلام على هذه المسألة وتقوية ما قاله المجوّزون لها
وليس هذا المقام مقام بيان بطلان كلامه.
وقد طول الشوكاني ﵀ البحث ودفع
الشبهة الباطلة التي تمسك بها المجوّزون لها في شرحه للمنتقى «٣» فليرجع إليه.
وأشرنا إليه في «مسك الختام شرح بلوغ المرام» الْفَرِيضَةِ: تنصب على المصدرية
المؤكدة، أو على الحال أي مفروضة.
(١) [متفق عليه] أخرجه البخاري في الصحيح
[٧/ ٤٨١] ح [٤٢١٦، ٥١١٥، ٥٥٢٣، ٦٩٦١] ومسلم في الصحيح ح [١٤٠٧] .
(٢) أخرجه
مسلم في الصحيح ح [١٤٠٦] وأحمد في المسند [٣/ ٤٠٤، ٤٠٥] والدارمي في السنن [٢/
١٤٠] وابن ماجه في السنن ح [١٩٦٢] .
(٣) انظر المنتقى [٦/ ٢٦٨- ٢٧٤] .
وَلا
جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ: أي من
زيادة أو نقصان في المهر، فإن ذلك سائغ عند التراضي. هذا عند من قال بأن الآية في
النكاح الشرعي.
وأما عند الجمهور القائلين بأنها في المتعة، فالمعنى التراضي
في زيادة مدّة المتعة أو نقصانها أو في زيادة ما دفعه إليها في مقابل الاستمتاع
بها أو نقصانه.
[الآية العاشرة]
وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ
طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ فَمِنْ ما مَلَكَتْ
أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ
بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ
أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ وَلا مُتَّخِذاتِ
أَخْدانٍ فَإِذا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما
عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ
وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٥) .
وَمَنْ
لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا الطول: الغنى والسّعة، قاله ابن عباس ومجاهد
وسعيد بن جبير والسّدي «١» وأبو زيد ومالك والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور وجمهور
أهل العلم، ومعنى الآية على هذا: فمن من لم يستطع منكم غنى وسعة في ماله يقدر بها
على أن ينكح المحصنات المؤمنات [فلينكح من فتياتكم المؤمنات] «٢»:
يقال طال
يطول طولا في الأفضل والقدرة، وفلان ذو طول: أي ذو قدرة.
والطول بالضم: ضد
القصر. وقال قتادة والنخعي وعطاء والثوري: إن الطول الصبر. ومعنى الآية عندهم أن
من كان يهوى أمة حتى صار لذلك لا يستطيع أن يتزوج غيرها، فإن له أن يتزوجها إذا
لم يملك نفسه وخاف أن يبغي بها، وإن كان يجد سعة في المال لنكاح «٣» حرة.
(١)
جاء في المطبوع [المهدى] وهو خطأ والصواب ما أثبتاه من تفسير القرطبي [٥/ ١٣٦]
وفتح القدير [١/ ٤٥٠] .
(٢) ما بين المعكوفين زيادة من فتح القدير [١/ ٤٥٠]
.
(٣) جاء في المطبوع [نكاح] والتصحيح من فتح القدير [١/ ٤٥٠] .
وقال
أبو حنيفة- وهو المروي عن مالك- أن الطول المرأة الحرّة، فمن كانت تحته حرة لم
يحل له أن ينكح الأمة، ومن لم يكن تحته حرة جاز له أن يتزوج أمة، ولو كان غنيا.
وبه قال أبو يوسف واختاره ابن جرير واحتج له.
والقول الأوّل وهو المطابق
لمعنى الآية، ولا يخلو ما عداه عن تكلف، فلا يجوز للرجل أن يتزوج بالأمة إلا إذا
كان لا يقدر على أن يتزوج بالحرة لعدم وجود ما يحتاج إليه في نكاحها من مهر
وغيره. ودخلت الفاء في قوله: فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ لتضمن المبتدأ معنى
الشرط.
وقوله: مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ في محل نصب في الحال، فقد
عرفت أنه لا يجوز للرجل الحرّ أن يتزوج بالمملوكة إلا بشرط عدم القدرة على
الحرّة. والشرط الثاني ما سيذكره الله سبحانه آخر الآية من قوله: ذلِكَ لِمَنْ
خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ. فلا يحلّ للفقير أن يتزوج بالمملوكة إلا إذا كان يخشى
على نفسه العنت. وقد استدل بزيادة وصف الإيمان على عدم جواز نكاح الإماء
الكتابيات، وبه قال الحجازيون، وجوزه أهل العراق. والمراد هنا الأمة المملوكة
للغير.
وأما أمة الإنسان نفسه فقد وقع الإجماع على أنه لا يجوز له أن
يتزوجها وهي تحت ملكه لتعارض الحقوق واختلافها. والفتيات جمع فتاة والعرب تقول
للمملوك فتى وللمملوكة فتاة، وفي الحديث الصحيح: «لا يقولنّ أحدكم: عبدي وأمتي
ولكن ليقل:
فتاي وفتاتي» «١» .
وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ: فيه
تسلية لمن ينكح الأمة إذا اجتمع فيه الشرطان المذكوران: أي كلكم بنو آدم، وأكرمكم
عند الله أتقاكم فلا تستنكفوا من الزواج بالإماء عند الضرورة فربما كان إيمان بعض
الإماء أفضل من إيمان بعض الحرائر والجملة اعتراضية.
بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ
مبتدأ وخبر، ومعناه: أنهم متصلون في الأنساب لأنهم جميعا بنو آدم، أو متصلون في
الدين لأنهم جميعا أهل ملة واحدة ونبيهم واحد. والمراد بهذا توطئة نفوس العرب
لأنهم كانوا يستهجنون أولاد الإماء ويستصغرونهم ويغضون منهم ويسمون ابن الأمة
الهجين فأخبر الله تعالى أن ذلك أمر لا يلتفت إليه فلا يتداخلنكم
(١) [متفق
عليه] أخرجه البخاري في الصحيح [٥/ ١٧٧] ح [٢٥٥٢] ومسلم في الصحيح ح [٢٢٤٩] .
شموخ
وأنفة بل إذا احتجتم إلى نكاحهن.
فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ: أي
بإذن المالكين لهنّ لأن منافعهنّ لهم، لا يجوز لغيرهم أن ينتفع بشيء منها إلا
بإذن من هي له. وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ: أي أدّوا إليهنّ
مهورهنّ بما هو المعروف في الشرع. وقد استدل بهذا من قال إن الأمة أحقّ بمهرها من
سيدها، وإليه ذهب مالك، وذهب الجمهور إلى أن المهر للسيد وإنما أضافها إليهنّ
لأنّ التأدية إليهن تأدية إلى سيدهنّ لكونهن «١» ماله.
مُحْصَناتٍ أي عفائف،
وقرأ الكسائي محصنات بكسر الصاد في جميع القرآن إلا في قوله: وَالْمُحْصَناتُ
مِنَ النِّساءِ، وقرأ الباقون بالفتح في جميع القرآن.
غَيْرَ مُسافِحاتٍ أي
غير معلنات بالزنا.
وَلا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ الأخلاء، والخدن والخدين
المخادن: أي المصاحب، وقيل: ذات الخدن: وهي التي تزني سرا، فهو مقابل للمسافحة
وهي التي تجاهر بالزنا، وقيل: المسافحة المبذولة، وذات الخدن، التي تزني
بواحد.
وكانت العرب تعيب الإعلان بالزنا ولا تعيب اتخاذ الأخدان، ثم رفع
الإسلام جميع ذلك فقال الله تعالى: وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها
وَما بَطَنَ.
فَإِذا أُحْصِنَّ قرأ عاصم وحمزة والكسائي بفتح الهمزة، وقرأ
الباقون بضمها.
والمراد بالإحصان هنا الإسلام روي ذلك عن ابن مسعود وابن عمر
وأنس والأسود بن يزيد وزر «٢» بن حبيش وسعيد بن جبير وعطاء وإبراهيم النخعي
والشعبي والسّدي «٣»، وروي عن عمر بن الخطاب بإسناد منقطع وهو الذي نص عليه
الشافعي وبه قال الجمهور.
وقال ابن عباس وأبو الدرداء ومجاهد وعكرمة وطاووس
وسعيد بن جبير والحسن وقتادة وغيرهم «٤»: إنه التزويج، وروي عن الشافعي.
(١)
جاء في المطبوع [في كونهن] والتصحيح من فتح القدير [١/ ٤٥١] .
(٢) جاء في
المطبوع [رز] والتصحيح من فتح القدير [١/ ٤٥١] .
(٣) جاء في المطبوع
[المهدي] والتصحيح من فتح القدير [١/ ٤٥١] .
(٤) انظر تفسير الطبري [٤/ ١٨-
١٩] . [.....]
فعلى القول الأوّل لا حدّ على الأمة الكافرة.
وعلى
القول الثاني لا حدّ على الأمة التي لم تتزوج.
وقال القاسم وسالم: إحصانها
إسلامها وعفافها.
وقال ابن جرير «١»: إن معنى القراءتين مختلف: فمن قرأ أحصن
بضم الهمزة فمعناه التزويج ومن قرأ بفتحها فمعناه الإسلام.
وقال قوم: إن
الإحصان المذكور في الآية هو التزويج، ولكن الحد واجب على الأمة المسلمة إذا زنت
قبل أن تتزوج بالسنة. وبه قال الزهري.
قال ابن عبد البر: ظاهر قول الله ﷿
يقتضي أنه لا حد على الأمة وإن كانت مسلمة إلا بعد التزويج، ثم جاءت السنة بجلدها
وإن لم تحصن، وكان ذلك زيادة بيان.
قال القرطبي «٢»: ظهر المسلم حمى لا
يستباح إلا بيقين، ولا يقين مع الاختلاف، لولا ما جاء في صحيح السّنة من
الجلد.
قال ابن كثير في تفسيره «٣» . والأظهر- والله أعلم- أن المراد
بالإحصان هنا التزويج، لأن سياق الآية يدل عليه حيث يقول سبحانه: وَمَنْ لَمْ
يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا إلى قوله: فَإِذا أُحْصِنَّ الآية، فالسياق كله في
الفتيات المؤمنات. فيتعين أن المراد بقوله: فَإِذا أُحْصِنَّ تزوجن كما فسّره به
ابن عباس ومن تبعه. قال: وعلى كل من القولين إشكال على مذهب الجمهور، لأنهم
يقولون إن الأمة إذا زنت فعليها خمسون جلدة سواء كانت مسلمة أو كافرة ثيبا أو
بكرا، ومفهوم الآية يقتضي أنه لا حدّ على غير المحصنة من الإماء! وقد اختلفت
أجوبتهم عن ذلك. ثم ذكر أن منهم من أجاب- وهم الجمهور- تقديم منطوق الأحاديث على
هذا المفهوم، ومنهم من عمل على مفهوم الآية وقال: إذا زنت ولم تحصن فلا حدّ عليها
إنما تضرب تأديبا قال: وهو المحكي عن ابن عباس وإليه ذهب طاووس وسعيد بن جبير
وأبو عبيد وداود الظاهري في روايه عنه، فهؤلاء قدموا [مفهوم] «٤» الآية على
العموم، وأجابوا عن مثل حديث أبي هريرة وزيد بن
(١) تفسير ابن جرير الطبري
[٤/ ٢٣] .
(٢) تفسير القرطبي [٥/ ١٤٤] .
(٣) تفسير ابن كثير [١/ ٤٥١]
.
(٤) ما بين المعكوفين من فتح القدير [١/ ٤٥١] .
خالد في
الصحيحين وغيرهما أن رسول الله ﵌ سئل عن الأمة إذا زنت ولم تحصن قال: «إن زنت
فاجلدوها، ثم إن زنت فاجلدوها، ثم إن زنت فاجلدوها، ثم بيعوها ولو بظفر» «١» .
بأن المراد بالجلد هنا التأديب وهو تعسف! وأيضا قد ثبت في الصحيحين من حديث أبي
هريرة قال: سمعت رسول الله ﵌ يقول: «إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها الحدّ ولا يثرّب
عليها، ثم إن زنت فليجلدها الحدّ ...» «٢» الحديث.
ولمسلم من حديث علي قال:
«يا أيها الناس أقيموا على أرقّائكم الحدّ. من أحصن ومن لم يحصن، فإن أمة لرسول
الله ﵌ زنت، فأمرني أن أجلدها ...» «٣»
الحديث.
وأما ما أخرجه سعيد بن
منصور وابن خزيمة والبيهقي عن ابن عباس قال قال رسول الله ﵌: «ليس على الأمة حد
حتى تحصن بزوج، فإذا أحصنت بزوج فعليها نصف ما على المحصنات من العذاب» «٤» . فقد
قال ابن خزيمة والبيهقي: إن رفعه خطأ، والصواب وقفه.
فَإِنْ أَتَيْنَ
بِفاحِشَةٍ الفاحشة هنا الزنا.
فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى
الْمُحْصَناتِ: أي الحرائر الأبكار، لأن الثيب عليها الرجم وهو لا يتبعض.
وقيل:
المراد بالمحصنات هنا: المزوّجات لأن عليهنّ الجلد والرجم، والرجم لا يتبعض، فصار
عليهنّ نصف ما عليهنّ من الجلد.
مِنَ الْعَذابِ: وهو هنا الجلد، وإنما نقص
حدّ الإماء عن حد الحرائر لأنهنّ أضعف، وقيل: لأنهنّ لا يصلن إلى مرادهنّ كما تصل
الحرائر، وقيل: لأن
(١) [متفق عليه] أخرجه البخاري في الصحيح [١٢/ ١٦٢] ح
[٦٨٣٧] ومسلم في الصحيح ح [١٧٠٢] [٣٢] .
(٢) [متفق عليه] أخرجه البخاري في
الصحيح [١٢/ ١٦٥] ح [٦٨٣٩] ومسلم في الصحيح ح [١٧٠٣] [٣٠] .
(٣) أخرجه مسلم
في الصحيح ح [١٧٠٥] [٣٤] .
(٤) [رفعه خطأ والصحيح أنه موقوف] أخرجه سعيد بن
منصور في السنن ح [٦١٦] وابن خزيمة كما في الدر المنثور [٢/ ٤٩١] والطبراني كما
في المجمع [٦/ ٢٧٠] ونقل ابن كثير في التفسير [١/ ٤٥٢] وأخرجه ابن أبي شيبة في
المصنف [٥/ ٤٩٣] ح [٢٨٢٩٧] وعبد الرزاق في المصنف [٧/ ٣٩٧] ح [١٣٦١٩] والبيهقي في
السنن [٨/ ٢٤٣] .
العقوبة [تجب] «١» على قدر النعمة كما في قوله
تعالى: يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ.
ولم يذكر الله سبحانه في هذه
الآية العبيد وهم لاحقون بالإماء بطريق القياس. وكما يكون على الإماء والعبيد نصف
الحد في الزنا كذلك يكون عليهم نصف الحد في القذف والشرب.
ذلِكَ لِمَنْ
خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ: الاشارة بذلك إلى نكاح الإماء، والعنت:
الوقوع
في الإثم. وأصله في اللغة انكسار العظم بعد الجبر، ثم استعير لكل مشقة.
وَأَنْ
تَصْبِرُوا عن نكاح الإماء خَيْرٌ لَكُمْ من نكاحهن، أي صبركم خير لكم لأن نكاحهن
يفضي إلى إرقاق الولد والغضّ من النفس.
[الآية الحادية عشرة]
يا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ
إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ
إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُمْ رَحِيمًا (٢٩) .
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ والباطل: ما ليس بحق، ووجوه
ذلك كثيرة. ومن الباطل البيوعات التي نهى عنها الشرع إِلَّا أَنْ تَكُونَ
تِجارَةً. والتجارة في اللغة: عبارة عن المعارضة، وهذا الاستثناء منقطع: أي [لكن]
«٢» تجارة صادرة عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ جائزة بينكم، أو لكن كون تجارة عن تراض
منكم حلالا لكم. وإنما نص الله سبحانه على التجارة دون سائر أنواع المعاوضات
لكونها أكثرها وأغلبها. وتطلق التجارة على جزاء الأعمال من الله على وجه
المجاز.
ومنه قوله تعالى: هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ
عَذابٍ أَلِيمٍ (١٠): وقوله: يَرْجُونَ تِجارَةً لَنْ تَبُورَ (٢٩) .
واختلف
العلماء في التراضي: فقالت طائفة: تمامه وجوبه بافتراق الأبدان بعد عقد البيع، أو
بأن يقول أحدهما لصاحبه: اختر، كما في الحديث الصحيح: «البيّعان بالخيار ما لم
يفترّقا أو يقول أحدهما لصاحبه: اختر» «٣» . وإليه ذهب جماعة من
(١) جاء في
المطبوع [تحسب] وهو خطأ والتصحيح من فتح القدير [١/ ٤٥٢] .
(٢) جاء في
المطبوع [لكم] وهو خطأ والتصحيح من فتح القدير [١/ ٤٥٧] .
(٣) أخرجه البخاري
في الصحيح [٤/ ٣٢٧- ٣٢٨] ح [٢١٠٩] وصحيح مسلم ح [١٥٣١] [٤٣] .
الصحابة
والتابعين، وبه قال الشافعي والثوري والأوزاعي والليث وابن عيينة وإسحاق
وغيرهم.
وقال مالك وأبو حنيفة: تمام البيع هو أن يعقد البيع بالألسنة فيرتفع
بذلك الخيار وأجابوا عن الحديث بما لا طائل تحته. وقد قرىء تجارة على الرفع على
أن كان تامة، وتجارة بالنصب على أنها ناقصة.
وأفاد الشوكاني في المختصر أن
المعتبر في البيع مجرد التراضي ولو بإشارة من قادر على النطق. انتهى.
وقال
في شرحه: لكونه لم يرد ما يدل على ما يعتبره بعض أهل العلم من ألفاظ مخصوصة وأنه
لا يجوز البيع بغيرها ولا يفيدهم ما ورد في الروايات من نحو: بعت منك، فإنا لا
ننكر أن البيع يصح بذلك، وإنما النزاع في كونه لا يصح إلا بها ولم يرد في ذلك
شيء. وقد قال تعالى: تِجارَةً عَنْ تَراضٍ، فدل على أن مجرد التراضي هو المناط
ولا بد من الدلالة عليه بلفظ أو إشارة أو كناية بأي لفظ، وقع على أي صفة كان،
وبأي إشارة مفيدة حصل. وقال ﵌: «لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيبة من نفسه» «١»
.
فإذا وجدت طيبة النفس مع التراضي فلا يعتبر غير ذلك. انتهى.
وَلا
تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُمْ رَحِيمًا (٢٩): أي لا يقتل
بعضكم أيها المسلمون بعضا إلا بسبب أثبته الشرع، أو لا تقتلوا أنفسكم باقتراف
المعاصي الموجبة للقتل بأن يقتل فيقتل، أو المراد النهي عن أن يقتل الإنسان نفسه
حقيقة، ولا مانع من حمل الآية على جميع هذه المعاني. ومما يدل على ذلك احتجاج
عمرو بن العاص بها حين لم يغتسل بالماء البارد حين أجنب في غزاة ذات السّلاسل
فقرر النبي ﵌
[٤٤] [٤٥] [٤٦] .
(١) [صحيح] أخرجه أحمد في المسند [٥/
٤٢٣] وابنه عبد الله الزيادات [٥/ ١١٣] والطحاوي في شرح المعاني [٤/ ٢٤١] و[٤/
٤٢] والدارقطني في السنن [٣/ ٢٥] والبيهقي في السنن الكبرى [٦/ ٩٧] أما حديث أبي
سعيد فأخرجه أحمد في المسند [٥/ ٤٢٥] والبزار في المسند ح [١٣٧٣] والطحاوي في
مشكل الآثار [٤/ ٤١- ٤٢] وشرح المعاني [٤/ ٢٤١] والبيهقي في السنن الكبرى [٦/
١٠٠] و[٦/ ٣٥٨] وابن حبان في الصحيح [١٣/ ٣١٦- ٣١٧] ح [٥٩٧٨] .
أما حديث عم
أبي حرة فأخرجه أحمد في المسند [٥/ ٧٢- ٧٣] والدارمي في السنن [٢/ ٢٤٦] مختصرا
والدارقطني في السنن [٣/ ٢٦] وأبو يعلي في المسند [١/ ٣] ح [١٥٦٩ و١٥٧٠] والبيهقي
في السنن الكبرى [٦/ ١٠٠] و[٨/ ١٨٢] .
احتجاجه «١» - وهو في
مسند أحمد وسنن أبي داود وغيرهما.
[الآية الثانية عشرة]
الرِّجالُ
قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ بِما فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَبِما
أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ فَالصَّالِحاتُ قانِتاتٌ حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ بِما
حَفِظَ اللَّهُ وَاللَّاتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ
فِي الْمَضاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ
سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيًّا كَبِيرًا (٣٤) .
الرِّجالُ
قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ هذه الجملة مستأنفة مشتملة على بيان العلة التي
استحق بها «٢» الرجال الزيادة، كأنه قيل: كيف استحق الرجال ما استحقوا مما «٣» لم
يشاركهم فيه النساء؟ فقال: الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ. والمراد أنهم
يقومون بالذّب عنهنّ كما يقوم الحكام والأمراء بالذبّ عن الرعية، وهم أيضا يقومون
بما يحتجن إليه من النفقة والكسوة والمسكن، وجاء بصيغة المبالغة في قوله:
قَوَّامُونَ، ليدلّ على أصالتهم في هذا الأمر. والباء في قوله: بِما فَضَّلَ
اللَّهُ للسببية، الضمير في قوله:
بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ للرجال والنساء:
أي إنما استحقوا هذه المزية لتفضيل الله إياهم عليهنّ بما فضلهم به من كون فيهم
الخلفاء والسلاطين والحكام والأمراء والغزاة وغير ذلك من الأمور.
وَبِما
أَنْفَقُوا: أي بسبب ما أنفقوا مِنْ أَمْوالِهِمْ: وما مصدرية أو موصولة وكذلك هي
في قوله: بما فضل الله، ومن تبعيضية. والمراد ما أنفقوه في الإنفاق على النساء
وبما دفعوه في مهورهنّ من أموالهم، وكذلك ما ينفقونه في الجهاد وما يلزمهم في
العقل والدية.
(١) [صحيح] أخرجه أبو داود في السنن [١/ ٩٠] ح [٣٣٤]
والدارقطني في السنن [١/ ١٧٨] والحاكم في المستدرك [١/ ١٧٧] والبيهقي في السنن
الكبرى [١/ ٢٢٥] وفي دلائل النبوة [١/ ٤٠٢- ٤٠٣] .
ورواه عبد الرزاق في
المصنف [١/ ٢٢٦- ٢٢٧] ح [٨٧٨] . وأخرجه أحمد في المسند [٤/ ٢٠٣] . [.....]
(٢)
جاء في المطبوع [لها] والتصحيح من فتح القدير [١/ ٤٦٠] .
(٣) جاء في المطبوع
[بما] والتصحيح من فتح القدير [١/ ٤٦٠] .
وقد استدل جماعة من
العلماء بهذه الآية على جواز فسخ النكاح إذا عجز الزوج عن نفقة زوجته وكسوتها وبه
قال مالك والشافعي وغيرهما.
وَاللَّاتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ: هذا خطاب
للأزواج، قيل: الخوف هنا على بابه، وهو حالة تحدث في القلب عند حدوث أمر مكروه،
أو عند ظنّ حدوثه، وقيل: المراد بالخوف هنا العلم.
والنشوز: العصيان، قال
ابن فارس يقال: نشزت المرأة استعصت على زوجها، ونشز بعلها إذا ضربها وجفاها.
فَعِظُوهُنَّ
أي ذكروهنّ بما أوجبه الله عليهنّ من الطاعة وحسن العشرة ورغبوهنّ ورهبوهنّ.
وَاهْجُرُوهُنَّ
فِي الْمَضاجِعِ: يقال: هجره: أي تباعد منه، والمضاجع: جمع مضجع وهو محل
الاضطجاع: أي تباعدوا عن مضاجعهنّ ولا تدخلوهنّ تحت ما تجعلونه عليكم حال الإضجاع
مع الثياب. وقيل: هو أن يوليها ظهره عند الاضطجاع، وقيل: هو كناية عن ترك جماعها.
وقيل: لا تبيت معه في البيت الذي يضطجع فيه.
وَاضْرِبُوهُنَّ أي ضربا غير
مبرح، ولا شائن.
وظاهر النظم القرآني أنه يجوز للزوج أن يفعل جميع هذه
الأمور عند مخافة النشوز، وقيل: إنه لا يهجر إلا بعد عدم تأثير الوعظ، فإن أثر
الوعظ لم ينتقل إلى الهجر، وإن كفاه الهجر لم ينتقل إلى الضرب.
فَإِنْ
أَطَعْنَكُمْ كما يجب وتركن النشوز فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا أي لا
تتعرضوا لهن بشيء مما يكرهن لا بقول ولا فعل. وقيل: المعنى لا تكلفوهنّ الحبّ لكم
فإنه لا يدخل تحت اختيارهنّ.
[الآية الثالثة عشرة] وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ
بَيْنِهِما فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِها إِنْ
يُرِيدا إِصْلاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُما إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيمًا
خَبِيرًا (٣٥) .
وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما فَابْعَثُوا
حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِها: أصل الشقاق أن كل واحد منهما
يأخذ شقا غير شق صاحبه: أي ناحية غير ناحيته، وأضيف الشقاق إلى الظرف لإجرائه
مجرى المفعول به كقوله تعالى: بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ، وقولهم:
يا
سارق الليلة أهل الدار، والخطاب للأمراء والحكام، والضمير في قوله بَيْنِهِما
للزوجين لأنه قد تقدم ذكر ما يدل عليهما وهو ذكر الرجال والنساء فابعثوا إلى
الزوجين حكما يحكم بينهما ممن يصلح لذلك عقلا ودينا وإنصافا.
وإنما نص الله
سبحانه على أن الحكمين يكونان من أهل الزوجين لأنهما أقرب لمعرفة أحوالهما، وإذا
لم يوجد من أهل الزوجين من يصلح للحكم بينهما كان الحكمان من غيرهم، وهذا إذا
أشكل أمرهما ولم يتبين من هو المسيء منهما. فأما إذا عرف المسيء فإنه يؤخذ لصاحبه
الحق منه وعلى الحكمين أن يسعيا في إصلاح ذات البين جهدهما، فإن قدرا على ذلك
عملا عليه وإن أعياهما إصلاح حالهما ورأيا التفريق بينهما جاز لهما ذلك من دون
أمر من الحاكم في البلد ولا توكيل بالفرقة من الزوجين وبه قال مالك والأوزاعي
وإسحاق، وهو مروي عن عثمان وعليّ وابن عباس والشعبي والنخعي والشافعي وحكاه ابن
كثير «١» عن الجمهور قالوا: لأن الله قال: فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ
وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِها، وهذا نص من الله سبحانه على أنهما قاضيان لا وكيلان ولا
شاهدان.
وقال الكوفيون وعطاء وابن زيد والحسن- وهو أحد قولي الشافعي- إن
التفريق هو إلى الإمام أو الحاكم في البلد لا إليهما، ما لم يوكلهما الزوجان أو
يأمرهما الإمام والحاكم، لأنهما رسولان لا شاهدان فليس إليهما التفريق. ويرشد إلى
هذا قوله تعالى:
إِنْ يُرِيدا أي الحكمان، إِصْلاحًا: بين الزوجين،
يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُما أي يوقع الموافقة بين الزوجين حتى يعودا إلى الألفة
وحسن العشرة.
ومعنى الإرادة خلوص نيتهما لصلاح الحال بين الزوجين، وقيل: إن
الضمير في قوله: يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُما- للحكمين، كما في قوله: إِنْ
يُرِيدا إِصْلاحًا. أي يوفق الله بين الحكمين في اتحاد كلمتهما وحصول مقصودهما،
وقيل: كلا الضميرين للزوجين، أي إن يريدا إصلاح ما بينهما من الشقاق أوقع الله
تعالى بينهما الألفة
(١) تفسير ابن كثير [١/ ٤٦٧] .
والوفاق،
وإذا اختلف الحكمان لم ينفذ حكمهما ولا يلزم قبول قولهما بلا خلاف.
[الآية
الرابعة عشرة] وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا
وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْسانًا وَبِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ
وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى وَالْجارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ
السَّبِيلِ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ
مُخْتالًا فَخُورًا (٣٦) .
وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْسانًا مصدر لفعل محذوف أي
أحسنوا بالوالدين إحسانا. وقرأ ابن أبي عبلة بالرفع.
وقد دل ذكر الإحسان إلى
الوالدين بعد الأمر بعبادة الله والنهي عن الإشراك به على عظم حقهما، ومثله:
اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ- فأمر سبحانه بأن يشكرا معه.
وَبِذِي الْقُرْبى:
أي صاحب القرابة وهو من يصح إطلاق اسم القربى عليه وإن كان بعيدا.
وَالْيَتامى
وَالْمَساكِينِ: قد تقدم تفسيرهما. والمعنى أحسنوا بذي القربى إلى آخر ما هو
مذكور في هذه الآية.
وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى والمراد من يصدق عليه مسمى
الجوار مع كون داره بعيدة.
وفي ذلك دليل على تعميم الجيران بالإحسان إليهم.
سواء كانت الديار متقاربة أو متباعدة، وعلى أن للجوار حرمة مرعية مأمورا بها.
وفيه ردّ على من يظن أن الجار مخصوص»
بالملاصق دون من بينه وبينه حائل، أو
مختص بالقريب دون البعيد.
وقيل: المراد بقوله: وَالْجارِ الْجُنُبِ: هنا هو
الغريب، وقيل هو الأجنبي الذي لا قرابة بينه وبين المجاور له. وقرأ الأعمش
والمفضل وَالْجارِ الْجُنُبِ بفتح الجيم وسكون النون أي ذي الجنب وهو الناحية.
وأنشد الأخفش:
الناس جنب والأمير جنب.
وقيل: المراد بالجار ذي القربى:
المسلم، وبالجار الجنب: اليهودي والنصراني.
(١) في فتح القدير [١/ ٤٦٤]
[مختص] .
وقد اختلف أهل العلم في المقدار الذي عليه يصدق مسمى
الجار ويثبت لصاحبه الحق: فروي عن الأوزاعي والحسن أنه إلى حد أربعين دارا من كل
ناحية، وروي عن الزهري نحوه.
وقيل: من سمع إقامة الصلاة، وقيل: إذا جمعتهما
محلة. وقيل: من سمع النداء. والأولى أن يرجع في معنى الجار إلى الشرع، فإن وجد
فيه ما يقتضي بيانه وأنه يكون جارا إلى حد كذا من الدور أو من مسافة الأرض كان
العمل عليه متعينا، وإن لم يوجد رجع إلى معناه لغة وعرفا.
ولم يأت في الشرع
ما يفيد أن الجار هو الذي بينه وبين جاره مقدار كذا، ولا ورد في لغة العرب أيضا
ما يفيد ذلك، بل المراد بالجار في اللغة: المجاور ويطلق على معان، قال في
«القاموس»: الجار المجاور، والذي أجرته من أن يظلم، والمجير والمستجير، الشريك في
التجارة، وزوج المرأة، وهي جارته، وفرج المرأة، وما قرب من المنازل، والاست
كالجارة، والمقاسم، والحليف، والناصر. انتهى.
وقال القرطبي في تفسيره «١»:
وروي أن رجلا جاء إلى النبي ﵌ فقال: إني نزلت محلّة قوم وإن أقربهم إليّ جوارا
أشدهم لي أذى! فبعث النبي ﵌ أبا بكر وعمر وعليّا ﵃ يصيحون على أبواب المساجد:
«ألا إن أربعين دارا جار، ولا يدخل الجنة من لا يأمن جاره بوائقه» «٢» .
انتهى.
قال الشوكاني: ولو ثبت هذا لكان مغنيا عن غيره، ولكنه رواه- كما ترى-
من غير عزوه إلى أحد كتب الحديث المعروفة وهو وإن كان إماما في علم الرواية فلا
تقوم الحجة بما يرويه بغير سند مذكور ولا نقل عن كتاب مشهور، ولا سيما وهو يذكر
الواهيات كثيرا كما يفعل في «تذكرته» انتهى.
أقول: هذا الحديث بلفظه أخرجه
الطبراني كما ذكر في «الترغيب والترهيب» وروى السيوطي في جامعه الصغير: «الجوار
أربعون دارا» . أخرجه البيهقي عن عائشة.
(١) تفسير القرطبي [٥/ ١٨٥] .
(٢)
[ضعيف جدا] أخرجه الطبراني في الكبير [١٩/ ٧٣] ح [١٤٣] وأبو يعلى في مسنده كما في
نصب الراية [٤/ ٤١٤] رواه ابن حبان في الضعفاء [٢/ ١٥٠] .
وأخرجه أبو داود
في المراسيل ح [٣٥٠] .
قال المناوي في شرحه: وروي عن عائشة:
«أوصاني جبريل بالجار أربعين دارا» «١» .
وكلاهما ضعيف. والمعروف المرسل
الذي أخرجه أبو داود، هكذا نقل عن السيوطي ثم قال: ولفظ مرسل أبي داود: «حق
الجوار أربعون دارا، هكذا وهكذا، وهكذا وأشار قداما ويمينا وخلفا «٢» . قال
الزركشي: سنده صحيح، وقال ابن حجر: رجاله ثقات، ورواه أبو يعلى عن أبي هريرة
مرفوعا باللفظ المذكور لكن قال ابن حجر: في سنده عبد السلام منكر الحديث،
فليحفظ.
وقد ورد في القرآن ما يدل على أن المساكنة في مدينة مجاورة! قال
الله تعالى:
لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ إلى قوله: ثُمَّ لا
يُجاوِرُونَكَ فِيها إِلَّا قَلِيلًا (٦٠) ! فجعل اجتماعهم في المدينة جوارا.
وأما
الأعراف في مسمى الجوار فهي تختلف باختلاف أهلها، ولا يصح حمل القرآن على أعراف
متعارفة واصطلاحات متواضعة.
وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ: قيل: هو الرفيق في
السفر، قاله ابن عباس وسعيد بن جبير وعكرمة ومجاهد والضحاك.
وقال علي وابن
مسعود وابن أبي ليلى: هو الزوجة.
وقال ابن جريح: هو الذي يصحبك ويلزمك رجاء
نفعك. ولا يبعد أن تتناول الآية جميع ما في هذه الأقوال مع زيادة عليها وهو كل من
صدق عليه أنه صاحب بالجنب:
أي بجنبك. كمن يقف بجنبك في تحصيل علم أو تعلم
صناعة أو مباشرة تجارة أو نحو ذلك.
وَابْنِ السَّبِيلِ: قال مجاهد: هو الذي
يجتاز بك مارّا، والسبيل: الطريق، فنسب المسافر إليه لمروره عليه ولزومه إياه.
فالأولى تفسيره بمن هو على سفر فإن على المقيم أن يحسن إليه وقيل: هو المنقطع به،
وقيل: هو الضيف.
وأحسنوا إلى: وَما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ إحسانا. وهم
العبيد والإماء. وقد أمر النبي ﵌ أنهم يطعمون مما يطعم مالكهم ويلبسون مما يلبس،
وقد ورد مرفوعا إلى
(١) [ضعيف جدا] أخرجه البيهقي في السنن الكبرى [٦/ ٢٧٦]
.
(٢) عزاه الحافظ الهيثمي لأبي يعلى عن شيخه محمد بن جامع العطار، وهو
ضعيف، انظر، مجمع الزوائد [٨/ ١٦٨] .
رسول الله ﵌ في بر
الوالدين وفي صلة القرابة وفي الإحسان إلى اليتامى وفي الإحسان إلى الجار وفي
القيام بما يحتاج إليه المماليك أحاديث كثيرة قد اشتملت عليه كتب السنة لا حاجة
بنا إلى بسطها هنا.
[الآية الخامسة عشرة]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما
تَقُولُونَ وَلا جُنُبًا إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ
كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ
لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا
فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا غَفُورًا
(٤٣) .
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا جعل الخطاب خاصا بالمؤمنين لأنهم
الذين كانوا يقربون الصلاة حال السكر، وأما الكفار فهم لا يقربونها سكارى ولا غير
سكارى.
لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ قال أهل اللغة: إذا قيل لا تقرب- بفتح
الراء- كان معناه لا تتلبس بالفعل، وإذا كان بضم الراء كان معناه لا تدنوا منه.
والمراد النهي عن التلبس بالصلاة وغشيانها، وبه قال جماعة من المفسرين وإليه ذهب
أبو حنيفة، وقال آخرون:
المراد مواضع الصلاة، وبه قال الشافعي. وعلى هذا فلا
بدّ من تقدير مضاف ويقوّي هذا قوله: وَلا جُنُبًا إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ. وقالت
طائفة: المراد الصلاة ومواضعها معا، لأنهم كانوا حينئذ لا يأتون المسجد إلا
للصلاة ولا يصلون إلا مجتمعين فكانا متلازمين.
وَأَنْتُمْ سُكارى: الجملة في
محل نصب على الحال وسكارى جمع سكران، مثل كسالى جمع كسلان.
وقرأ النخعي
سكارى بفتح السين وهو تكسير سكران. وقرأ الأعمش سكرى كحبلى صفة مفردة. وقد ذهب
كافة العلماء إلى أن المراد بالسكر هنا سكر الخمر، إلا الضحاك فإنه قال: المراد
سكر النوم، ولم يعن بها الخمر. وأخرج عبد بن حميد عن ابن عباس قال: النعاس وقد
أخرج عبد بن حميد وأبو داود والترمذي- وحسنه- والنسائي وابن جرير وابن المنذر
وابن أبي حاتم والحاكم- وصححه- في المختارة عن علي بن أبي طالب ﵇ قال: «صنع لنا
عبد الرحمن طعاما فدعانا وسقانا من
الخمر فأخذت منا وحضرت
الصلاة وقدموني فقرأت: قل يا أيها الكافرون [لا] «١» أعبد ما تعبدون ونحن نعبد ما
تعبدون فأنزل الله هذه الآية «٢» .
وأخرج ابن جرير وابن المنذر عنه: أن الذي
صلى بهم عبد الرحمن. وأخرج ابن المنذر عن عكرمة في الآية قال: نزلت في أبي بكر
وعمر وعلي وعبد الرحمن بن عوف وسعد صنع لهم علي ﵁ طعاما وشرابا، فأكلوا وشربوا ثم
صلى بهم المغرب فقرأ: قل يا أيها الكافرون حتى ختمها فقال: ليس لي دين وليس لكم
دين، فنزلت.
وهذا سبب نزول الآية وبه يندفع ما يخالف الصواب من هذه
الأقوال.
حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ: هذا غاية النهي عن قربان الصلاة
في حال السكر: أي حتى يزول عنكم أثر السكر وتعلموا ما تقولونه، فإن السكران لا
يعلم ما يقوله. وقد تمسك بهذا من قال إن طلاق السكران لا يقع، لأنه إذا لم يعلم
ما يقوله انتفى القصد، وبه قال عثمان بن عفان وابن عباس وطاووس وعطا و«٣» القاسم
وربيعة وهو قول الليث بن سعد وإسحاق وأبي ثور والمزني، واختاره الطحاوي، وقال:
أجمع العلماء على أن طلاق المعتوه لا يجوز، والسكران معتوه كالموسوس.
وأجازت
طائفة وقوع طلاقه، وهو محكي عن عمر بن الخطاب ومعاوية وجماعة من التابعين وهو قول
أبي حنيفة والثوري والأوزاعي.
واختلف قول الشافعي في ذلك.
وقال مالك:
يلزمه الطلاق والقود في الجراح والقتل ولا يلزمه النكاح والبيع.
وَلا
جُنُبًا: عطف على محل الجملة الحالية وهي قوله: وَأَنْتُمْ سُكارى.
والجنب
لا يؤنث ولا يثنى ولا يجمع لأنه ملحق بالمصدر كالبعد والقرب. قال الفراء:
يقال:
جنب الرجل وأجنب من الجنابة. وقيل: يجمع الجنب في لغة على أجناب مثل عنق وأعناق
وطنب وأطناب.
(١) ما بين المعكوفين سقط من المطبوع والتصحيح من فتح القدير
[١/ ٤٧٢] .
(٢) [صحيح] أخرجه عبد بن حميد في المنتخب ح [٨٢] والترمذي في
الجامع [٥/ ٢٢٢] ح [٣٠٢٦] وأبو داود في السنن [٣/ ٣٢٤] ح [٣٦٧١] والنسائي في
السنن الكبرى كما في تحفة الأشراف [٧/ ٤٠٢] وابن جرير في التفسير [٤/ ٩٨] ح
[٩٥٢٧] وابن المنذر وابن أبي حاتم كما في فتح القدير [١/ ٤٧٢] والحاكم في
المستدرك [٢/ ٣٠٧] .
(٣) جاء في المطبوع [قال] والتصحيح من فتح القدير [١/
٤٦٨] .
إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ استثناء مفرّغ، أي لا تقربوها في
حال من الأحوال إلا في حال عبور السبيل، والمراد به هنا السفر. ويكون محل هذا
الاستثناء المفرّغ النصب على الحال من ضمير لا تقربوا بعد تقييده بالحال الثانية
وهي قوله: وَلا جُنُبًا، لا بالحال الأولى وهي قوله: وَأَنْتُمْ سُكارى فيصير
المعنى لا تقربوا الصلاة حال كونكم جنبا إلا حال السفر، فإنه يجوز لكم أن تصلوا
بالتيمم. وهذا قول عليّ وابن عباس وابن جبير ومجاهد والحكم وغيرهم، قالوا: لا يصح
لأحد أن يقرب الصلاة وهو جنب إلا بعد الاغتسال، إلا المسافر فإنه يتيمم لأن الماء
قد يعدم في السفر، لا في الحضر، فإن الغالب أنه لا يعدم.
وقال ابن مسعود
وعكرمة والنخعي وعمرو بن دينار ومالك والشافعي: عابر السبيل هو المجتاز في
المسجد، وهو مرويّ عن ابن عباس. فيكون معنى الآية على هذا: لا تقربوا مواضع
الصلاة- وهي المساجد- في حال الجنابة إلا أن تكونوا مجتازين فيها من جانب إلى
جانب. وفي القول الأوّل قوة من جهة كون الصلاة فيه باقية على معناها الحقيقي،
وضعف من جهة ما في حمل عابر السبيل على المسافر وأن معناه: أنه يقرب الصلاة عند
عدم الماء بالتيمم، فإن هذا الحكم يكون في الحاضر إذا عدم الماء، كما يكون في
المسافر.
وفي القول الثاني قوّة من جهة عدم التكلف في معنى قوله: إِلَّا
عابِرِي سَبِيلٍ، وضعف من جهة حمل الصلاة على مواضعها.
وبالجملة فالحال
الأولى أعني قوله: وَأَنْتُمْ سُكارى تقوّي بقاء الصلاة على معناها الحقيقي من
دون تقدير مضاف، وكذلك سبب نزول الآية يقوي ذلك.
وقوله إِلَّا عابِرِي
سَبِيلٍ يقوّي تقدير المضاف: أي لا تقربوا مواضع الصلاة.
ويمكن أن يقال: إن
بعض قيود النهي أعني لا تَقْرَبُوا وهو قوله: وَأَنْتُمْ سُكارى يدل على أن
المراد مواضع الصلاة.
ولا مانع من اعتبار كل واحد منهما مع قيده الدالّ
عليه، ويكون ذلك نهيين مقيد كل واحد منهما بقيد، وهما لا تقربوا الصلاة هي ذات
الأذكار والأركان وأنتم سكارى، ولا تقربوا مواضع الصلاة حال كونكم جنبا إلا حال
عبوركم في المسجد من جانب إلى جانب.
وغاية ما يقال في هذا أنه
من الجمع بين الحقيقة والمجاز وهو جائز بتأويل مشهور.
وقال ابن جرير «١» بعد
حكايته للقولين: والأولى قول من قال: وَلا جُنُبًا إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ: إلا
مجتازي طريق فيه، وذلك أنه قد بيّن حكم المسافر إذا عدم الماء وهو جنب في قوله:
وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ
الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا
صَعِيدًا طَيِّبًا، فكان معلوما بذلك أن قوله: وَلا جُنُبًا إِلَّا عابِرِي
سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا، لو كان معنيّا به المسافر، لم يكن لإعادة ذكره- في
قوله: وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ- معنى مفهوما، وقد مضى ذكر حكمه
قبل ذلك. فإذا كان ذلك كذلك فتأويل الآية: يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا المساجد
للصلاة مصلين فيها وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون، ولا تقربوها أيضا جنبا حتى
تغتسلوا إلا عابري سبيل.
قال وعابر السبيل: المجتازه «٢» مرا وقطعا. يقال
منه: عبرت هذا الطريق فأنا أعبره عبرا وعبورا، ومنه [قيل] «٣»: عبر فلان النهر
إذا قطعه وجاوزه.
قال ابن كثير «٤»: وهذا الذي نصره- يعني ابن جرير- هو قول
الجمهور، وهو الظاهر من الآية. انتهى. حَتَّى تَغْتَسِلُوا: غاية للنهي عن قربان
الصلاة أو مواضعها حال الجنابة، والمعنى: لا تقربوه حال الجنابة حتى تغتسلوا إلا
حال عبوركم السبيل.
وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى: المرضى عبارة عن خروج البدن عن
حدّ الاعتدال والاعتياد إلى الاعوجاج والشذوذ. وهو على ضربين، كثير ويسير.
والمراد
هنا أن يخاف على نفسه التلف أو الضرر باستعمال الماء، أو كان ضعيفا في بدنه لا
يقدر على الوصول إلى موضع الماء.
وروي عن الحسن أنه يتطهر وإن مات، وهذا
باطل يدفعه قوله: وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ. وقوله: وَلا
تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ وقوله: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ. أَوْ عَلى
سَفَرٍ: فيه جواز التيمم لمن صدق عليه اسم المسافر. والخلاف مبسوط في كتب
الفقه.
(١) تفسير ابن جرير [٤/ ١٠٢] .
(٢) جاء في المطبوع [المجتاز]
والتصحيح من تفسير الطبري [٤/ ١٠٢] .
(٣) ما بين المعكوفين من تفسير الطبري
[٤/ ١٠٢] . [.....]
(٤) تفسير ابن كثير [١/ ٤٧٦] .
وقد ذهب
الجمهور إلى أنه لا يشترط أن يكون سفر قصر، وقال قوم: لا بد من ذلك. وقد أجمع
العلماء على جواز التيمم للمسافر. واختلفوا في الحاضر، فذهب مالك وأصحابه وأبو
حنيفة ومحمد إلى أنه يجوز في الحضر والسفر.
وقال الشافعي: ويجوز للحاضر
الصحيح أن يتيمم إلا أن يخاف التلف.
أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ
الْغائِطِ: هو المكان المنخفض، والمجيء منه كناية عن الحدث، والجمع الغيطان
والأغواط. وكانت العرب تقصد هذا الصنف من المواضع لقضاء الحاجة تسترا عن أعين
الناس، ثم سمي الحدث الخارج من الإنسان غائطا توسعا. ويدخل في الغائط جميع
الأحداث الناقضة للوضوء.
أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ: وهو قراءة نافع وابن
كثير وأبي عمرو وعاصم وابن عامر، وقرأ حمزة والكسائي: لمستم. قيل: المراد بما في
القراءتين الجماع، وقيل:
المراد به مطلق المباشرة، وقيل: إنه يجمع الأمرين
جميعا.
وقال محمد بن زيد: الأولى في اللغة أن يقون لامستم بمعنى قبلتم
ونحوه، ولمستم بمعنى غشيتم.
واختلف العلماء في معنى ذلك على أقوال: فقالت
فرقة: الملامسة هنا مختصة باليد دون الجماع. قالوا: والجنب لا سبيل له إلى التيمم
بل يغتسل أو يدع الصلاة حتى يجد الماء. وقد روي هذا عن عمر بن الخطاب وابن
مسعود.
قال ابن عبد البر: لم يقل بقولهما في هذا أحد من فقهاء الأمصار من
أهل الرأي وحملة الآثار. انتهى.
وأيضا الأحاديث الصحيحة تدفعه وتبطله كحديث
عمار وعمران بن حصين وأبي ذرّ في تيمم الجنب. وقالت طائفة: هو الجماع، كما في
قوله: ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ، وقوله: وَإِنْ
طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ، وهو مروي عن علي ﵇ وأبي بن
كعب وابن عباس ومجاهد وطاووس والحسن وبيد بن عمير وسعيد بن جبير والشعبي وقتادة
ومقاتل وابن حيان وأبي حنيفة.
وقال مالك: الملامس بالجماع يتيمم، والملامس
باليد يتيمم إذا التذّ فإن لمسها بغير شهوة فلا وضوء وبه قال أحمد وإسحاق.
وقال
الشافعي: إذا أفضى الرجل بشيء من بدنه إلى بدن المرأة سواء كان باليد أو بغيرها
من أعضاء الجسد انتقضت به الطهارة وإلا فلا. حكاه القرطبي عن ابن مسعود وابن عمر
والزهري وربيعة.
وقال الأوزاعي: إذا كان اللمس باليد نقض الطهر، وإن كان
بغير اليد لم ينقض لقوله تعالى: فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ. وقد احتجوا بحجج تزعم
كل طائفة أن حجتها تدل على أن الملامسة المذكورة في الآية هي ما ذهبت إليه، [وليس
الأمر كذلك، فقد اختلفت الصحابة ومن بعدهم في معنى الملامسة المذكورة في الآية]
«١» وعلى فرض أنها ظاهرة في الجماع، فقد ثبتت القراءة المروية عن حمزة والكسائي
بلفظ أو لمستم وهي محتملة بلا شك ولا شبهة، مع الاحتمال فلا تقوم الحجة
بالمحتمل.
وهذا الحكم تعمّ به البلوى ويثبت به التكليف العام فلا يحل إثباته
بمحتمل قد وقع النزاع في مفهومه.
وإذا عرفت هذا فقد ثبتت السنة الصحيحة
بوجوب التيمم على من اجتنب ولم يجد الماء، فكان الجنب داخلا [بهذا] «٢» الدليل،
وعلى فرض عدم دخوله فالسنة تكفي في ذلك.
وأما وجوب الوضوء أو التيمم على من
لمس المرأة بيده أو بشيء من بدنه فلا يصح القول به استدلالا بهذه الآية، لما عرفت
من الاحتمال. وأما ما استدلوا به من أنه ﵌ أتاه رجل فقال: «يا رسول الله ما تقول
في رجل لقي امرأة لا يعرفها وليس يأتي الرجل من امرأته شيئا إلا قد أتاه منها غير
أنه لم يجامعها؟ فأنزل الله: وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفًا
مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ذلِكَ ذِكْرى
لِلذَّاكِرِينَ (١١٤) «٣» أخرجه أحمد والترمذي والنسائي من حديث معاذ قالوا:
فأمره بالوضوء لأنه لمس المرأة ولم يجامعها.
(١) ما بين المعكوفين من فتح
القدير [١/ ٧٠] .
(٢) جاء في المطبوع [هذا] وهو خطأ والتصحيح من فتح القدير
[١/ ٤٧٠] .
(٣) [منقطع بهذا اللفظ] أخرجه الترمذي في الجامع [٤/ ٢٧١] ح
[٣١١٣] وأحمد في المسند [٥/ ٢٤٤] وأخرجه النسائي في السنن الكبرى كما في تحفة
الاشراف [٨/ ٤٠٩] ورواه البخاري في الصحيح [٢/ ٨] ح [٥٢٦] و[٤٦٨٧] ومسلم في
الصحيح ح [٢٧٦٣] .
ولا يخفاك أنه لا دلالة لهذا الحديث على محل
النزاع، فإن النبي ﵌ إنما أمره بالوضوء ليأتي بالصلاة التي ذكرها الله سبحانه في
هذه الآية إذ لا صلاة إلا بوضوء وأيضا فالحديث منقطع لأنه من رواية ابن أبي ليلى
عن معاذ ولم يلقه وإذا عرفت هذا فالأصل البراءة عن هذا الحكم فلا يثبت إلا بدليل
خالص عن الشوائب الموجبة لقصوره عن الحجة وأيضا قد ثبت عن عائشة من طرق أنها
قالت: «كان النبي ﵌ يتوضأ ثم يقبل ثم يصلي ولا يتوضأ» «١» . وقد روي هذا الحديث
بألفاظ مختلفة.
رواه أحمد وابن أبي شيبة وأبو داود والنسائي وابن ماجة، وما
قيل من أنه من رواية حبيب بن أبي ثابت عن عروة عن عائشة- ولم يسمع من عروة- فقد
رواه أحمد في مسنده من حديث هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة، ورواه ابن جرير من
حديث ليث عن عطاء عن عائشة، ورواه أحمد أيضا وأبو داود والنسائي من حديث أبي روق
الهمداني عن إبراهيم التيمي عن عائشة، ورواه أيضا ابن جرير من حديث أم سلمة «٢»،
ورواه أيضا من حديث زينب السهمية.
ولفظ حديث أم سلمة: «أن رسول الله ﵌ كان
يقبلها وهو صائم ولا يفطر ولا يحدث وضوءا» . ولفظ حديث زينب السهمية «أن النبي ﵌
كان يقبل ثم يصلي ولا يتوضأ» . ورواه فأحمد عن زينب السهمية عن عائشة.
فَلَمْ
تَجِدُوا ماءً: هذا القيد إن كان راجعا إلى جميع ما تقدم مما هو مذكور بعد الشرط
وهو المرض والسفر والمجيء من الغائط وملامسة النساء، كان فيه دليل على أن المرض
والسفر لمجردهما لا يسوّغان التيمم، بل لا بد مع وجود أحد السببين من عدم الماء
فلا يجوز للمريض أن يتيمم إلا إذا لم يجد الماء، ولا يجوز للمسافر أن يتيمم إلا
إذا لم يجد ماء.
(١) [صحيح] أخرجه عبد الرزاق في المصنف [١/ ١٣٥] ح [٥١١]
وابن أبي سنيه في المصنف [١/ ٤٨] ح [٤٨٩] [٤٨٥] وأبو داود في السنن [١/ ٤٤] ح
[١٧٨] [١/ ٤٥] ح [١٧٩] والنسائي في السنن [١/ ١٠٤] والبيهقي في السنن الكبرى [١/
١٢٥- ١٢٦- ١٢٧] والدارقطني في السنن [١/ ١٣٩] [١/ ١٤١- ١٤٢] والترمذي في السنن
[١/ ١٣٣] ح [٨٦] وابن ماجه في السنن ح [٥٠٢] وأحمد في المسند [٦/ ٢١٠] وابن
المنذر في الأوسط [١/ ١٢٨] ح [١٥] وابن جرير في التفسير [٤/ ١٠٨] ح [٩٦٣٥] .
(٢)
أخرجه ابن جرير في التفسير [٤/ ١٠٨] ح [٩٦٣٨] ورواه الطبراني في الأوسط كما في
المجمع [١/ ٢٤٧] .
ولكنه يستشكل على هذا أن الصحيح كالمريض إذا
لم يجد الماء [تيمم، وكذلك المقيم كالمسافر إذا لم يجد الماء تيمم] «١» فلا بد من
فائدة في التنصيص على المرض والسفر؟
فقيل: وجه التنصيص عليهما أن المرض «٢»
مظنة للعجز عن الوصول إلى الماء، وكذلك المسافر عدم الماء في حقه غالب. وإن كان
راجعا إلى الصورتين الأخيرتين أعني قوله: أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ
الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ كما قال بعض المفسرين كان فيه إشكال وهو أن
من صدق عليه اسم المريض أو المسافر جاز له التيمم وإن كان واجدا للماء قادرا على
استعماله.
وقد قيل: إنه رجع هذا القيد إلى الآخرين مع كونه معتبرا في
الأوّلين لندرة وقوعه فيهما: وأنت خبير بأن هذا كلام ساقط وتوجيه بارد.
وقال
مالك ومن تابعه: ذكر الله المرض والسفر في شرط التيمم اعتبارا بالأغلب فيمن لم
يجد الماء، بخلاف الحاضر، فإن الغالب وجوده فلذلك لم ينص الله سبحانه عليه.
انتهى.
والظاهر أن المرض- بمجرّده- مسوغ للتيمم وإن كان الماء موجودا إذا
كان يتضرّر باستعماله في الحال أو في المال، ولا يعتبر خشية التلف فالله سبحانه
يقول:
يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ،
ويقول: وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ، والنبي صلّى الله عليه
وآله يقول: «الدين يسر» «٣»، ويقول: «يسروا ولا تعسروا» «٤» . وقال:
«قتلوه
قتلهم الله» «٥» ويقول: «أمرت بالشريعة السمحة» «٦» . فإذا قلنا إن قيد عدم وجود
الماء راجع إلى الجميع كان وجه التنصيص على المرض هو أنه يجوز له التيمم
والماء
(١) ما بين المعكوفين سقط من المطبوع وهو مستدرك من فتح القدير [١/
٤٧١] .
(٢) جاء في المطبوع [المريض] وهو خطأ والتصحيح من فتح القدير [١/
٤٧١] .
(٣) أخرجه البخاري في الصحيح [١/ ٩٣] ح [٩٣] والنسائي في السنن [٨/
١٢١- ١٢٢] .
(٤) [متفق عليه] أخرجه البخاري في الصحيح [١/ ١٦٣] ح [٦٩، ٦١٢٥]
ومسلم في الصحيح ح [١٧٣٤] .
(٥) [صحيح] أخرجه الحاكم في المستدرك [١/ ١٦٥]
وابن خزيمة في صحيحه [١/ ١٣٨] ح [٢٧٣] وابن حبان في الصحيح [٤/ ١٤٠- ١٤١] ح
[١٣١٤] وابن الجارود في المنتقى ح [١٢٨] والبيهقي في السنن الكبرى [١/ ٢٢٦] أخرجه
الدارقطني في السنن [١/ ١٨٩- ١٩٠- ١٩١] .
(٦) [حسن] أخرجه أحمد في المسند
[٦/ ١١٦ و٢٣٣]، [٥/ ٢٦٦] وأخرجه الديلمي [٢/ ١١٠] .
حاضر موجود
إذا كان استعماله يضرّه، فيكون اعتبار ذلك القيد في حقه إذا كان استعماله لا
يضرّه، فإن في مجرّد المرض مع عدم الضرر باستعمال الماء ما يكون مظنته لعجزه عن
الطلب، لأنه يلحقه بالمرض نوع ضعف.
وأما وجه التنصيص على المسافر فلا شك أن
الضرب في الأرض مظنته لإعواز الماء وبعض البقاع دون بعض.
فَتَيَمَّمُوا:
التيمم لغة: القصد «١»، ثم كثر استعمال هذه الكلمة حتى صار التيمم مسح الوجه
واليدين بالتراب.
وقال ابن الأنباري في قولهم: قد تيمم الرجل: معناه قد مسح
التراب على وجهه.
وهذا خلط للمعنى اللغوي بالمعنى الشرعي! فإن العرب لا تعرف
التيمم بمعنى [مسح] «٢» الوجه واليدين، وإنما هو معنى شرعي فقط.
وظاهر الأمر
الوجوب وهو مجمع على ذلك والأحاديث في هذا الباب كثيرة وتفاصيل التيمم وصفاته
مبينة في السنة المطهرة، ومقالات أهل العلم مدونة في كتب الفقه.
صَعِيدًا هو
وجه الأرض سواء كان عليه تراب أو لم يكن، قاله الخليل وابن الأعرابي والزجاج.
قال
الزجاج: لا أعلم فيه خلافا بين أهل اللغة. قال الله تعالى: وَإِنَّا لَجاعِلُونَ
ما عَلَيْها صَعِيدًا جُرُزًا (٨) أي أرضا غليظة لا تنبت شيئا، وقال الله تعالى:
فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا (٤٠)، وإنما سمي صعيدا لأنه نهاية ما يصعد إليه من
الأرض، وجمع الصعيد صعدات «٣» .
وقد اختلف أهل العلم فيما يجزىء «٤» التيمم
به، فقال مالك وأبو حنيفة والثوري والطبري: إنه يجزىء بوجه الأرض كله ترابا كان
أو رملا أو حجارة، وحملوا قوله طَيِّبًا قالوا: والطيب التراب الذي ينبت.
(١)
انظر القاموس المحيط [٤/ ١٩٣] .
(٢) ما بين المعكوفين سقط من المطبوع وهو
مستدرك من فتح القدير [١/ ٤٧٠] . [.....]
(٣) جاء في المطبوع [صعدان] وهو
خطأ والتصحيح من فتح القدير [١/ ٤٧٢] .
(٤) جاء في المطبوع [يجرى] وهو خطأ
والتصحيح من فتح القدير [١/ ٤٧٢] .
وقد تنوزع في معنى الطيب
فقيل: الطاهر كما تقدم، وقيل: المنبت كما هنا، وقيل: الحلال. والمحتمل لا يقوم به
الحجة ولو لم يوجد في الشيء الذي يتيمم به إلا ما في الكتاب العزيز، لكان الحق ما
قاله الأولون. لكن ثبت في صحيح مسلم من حديث حذيفة بن اليمان قال قال رسول الله
﵌: «فضلنا الناس بثلاث جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة، وجعلت لنا الأرض كلها مسجدا،
وجعلت تربتها لنا طهورا إذا لم نجد الماء» «١» . وفي لفظ: «وجعل ترابها لنا طهورا
إذا لم نجد الماء» وفي لفظ: «وجعل ترابها لنا طهورا» .
فهذا مبين لمعنى
الصعيد المذكور في الآية، أو مخصص لعمومه، أو مفيد لإطلاقه. ويؤيد هذا ما حكاه
ابن فارس عن كتاب الخليل: تيمم بالصعيد: أي أخذ من غباره. انتهى. والحجر الصلد ما
لا غبار عليه.
فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ: هذا المسح مطلق
بتناول المسح بضربة أو ضربتين، ويتناول المسح إلى المرفقين أو الرسغين، وقد بينته
السنة بيانا شافيا. وقد جمع الشوكاني بين ما ورد في المسح بضربة أو بضربتين وما
ورد في المسح إلى الرسغ وإلى المرفقين في شرحه للمنتقى «٢» وغيره من مؤلفاته بما
لا يحتاج الناظر فيه إلى غيره.
والحاصل أن أحاديث الضربتين لا يخلو جميع
طرقها من مقال ولو صحت لكان الأخذ بها متعينا لما فيها من الزيادة. فالحق الوقوف
والعمل على ما في الصحيحين من حديث عمار «٣» المقتصر على ضربة واحدة حتى تصح
وتثبت الزيادة على ذلك المقدار الثابت.
[الآية السادسة عشرة]
إِنَّ
اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها وَإِذا
حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا
يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كانَ سَمِيعًا بَصِيرًا (٥٨) .
إِنَّ اللَّهَ
يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها هذه الآية من أمهات
الآيات المشتملة
(١) أخرجه مسلم في الصحيح ح [٥٢٢] .
(٢) المنتقى [١/
٣٣٢ و٣٣٥] .
(٣) أخرجه البخاري في الصحيح [١/ ٤٤٣] ح [٣٣٨] ومسلم في الصحيح
ح [٣٦٨] .
على كثير من أحكام الشرع، لأن الظاهر أن الخطاب يشمل
جميع الناس في جميع الأمانات. وقد روي عن علي وزيد بن أسلم وشهر بن حوشب أنها
خطاب لولاة المسلمين والأول أظهر، وورودها على سبب لا ينافي ما فيها من العموم،
فالاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب كما تقرر في الأصول، بل قال الواحدي: أجمع
المفسرون على ذلك.
ويدخل الولاة في هذا الخطاب دخولا أوليا فيجب عليهم تأدية
ما لديهم من الأمانات ورد الظلامات وتحرّي العدل في أحكامهم. ويدخل غيرهم من
الناس في الخطاب فيجب عليهم ردّ ما لديهم من الأمانات والتحري في الشهادات
والأخبار.
وممن قال بعموم هذا الخطاب: البراء بن عازب وابن مسعود وابن عباس
وأبيّ بن كعب، واختاره جمهور المفسرين ومنهم ابن جرير، وأجمعوا على أن الأمانات
مردودة إلى أربابها: الأبرار منهم والفجار كما قال ابن المنذر.
والأمانات
جمع أمانة وهي مصدر بمعنى المفعول.
وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ
تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ: هو فصل الحكومة على ما في كتاب الله وسنة رسوله ﵌، لا
الحكم بالرأي المجرد، فإن ذلك ليس من الحق في شيء إلا إذا لم يوجد دليل تلك
الحكومة في كتاب الله ولا في سنة رسوله، فلا بأس باجتهاد الرأي من الحاكم الذي
يعلم حكم الله سبحانه، وما هو أقرب إلى الحق عند عدم وجود النص.
وأما الحاكم
الذي لا يدري بحكم الله ورسوله ولا بما هو أقرب إليهما فلا يدري ما هو العدل،
لأنه لا يعقل الحجة إذا جاءته فضلا عن أن يحكم بها بين عباد الله، وقد أفاد
الإمام الرباني محمد بن علي الشوكاني في مختصره حيث قال في كتاب القضاء: إنما يصح
قضاء من كان مجتهدا متورعا عن أموال الناس عادلا في القضية حاكما بالسوية.
انتهى.
وقال في شرحه: أما كونه إنما يصح قضاء من كان مجتهدا فلما في الكتاب
العزيز من الأمر بالقضاء بالعدل والقسط وبما أراد الله. ولا يعرف ذلك إلا مجتهدا
لأن المقلد إنما يعرف قول إمامه دون حجته، وهكذا لا يحكم بما أراه الله إلا من
كان مجتهدا، لا من كان مقلدا فما أراه الله شيئا بل أراه إمامه ما يختاره
لنفسه.
ومما يدل على اعتبار الاجتهاد حديث بريدة عن النبي ﵌ قال: «القضاة
ثلاثة واحد في الجنة واثنان في النار، فأما الذي في الجنة فرجل عرف الحق فقضى
به،
ورجل عرف الحق وجار في الحكم، فهو في النار ...» «١» .
أخرجه ابن ماجة وأبو داود والنسائي والترمذي والحاكم وصححه. وقد جمع ابن حجر طرقه
في جزء مفرد.
ووجه الدلالة أنه لا يعرف الحق إلا من كان مجتهدا، وأما المقلد
فهو يحكم بما قال إمامه ولا يدري أحق هو أم باطل، فهو القاضي الذي قضى للناس على
جهل وهو أحد قاضيي النار.
ومن الأدلة على اشتراط الاجتهاد قوله تعالى:
وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ (٤٤)،
والظَّالِمُونَ، والْفاسِقُونَ، ولا يحكم بما أنزل الله إلا من عرف التنزيل
والتأويل.
ومما يدل على ذلك حديث معاذ لما بعثه ﵌ إلى اليمن فقال له: «بم
تقضي»؟
قال: بكتاب لله. قال: «فإن لم تجد»؟ قال: فبسنّة رسول الله. قال:
«فإن لم تجد»؟ قال فبرأيي، وهو حديث مشهور «٢» . وقد بينت طرقه ومن خرجه في بحث
مستقل.
ومعلوم أن المقلد لا يعرف كتابا ولا سنة ولا رأي له، بل لا يدري بأن
الحكم موجود في الكتاب والسنة فيقضي به أو ليس بموجود فيجتهد برأيه.
فإذا
ادعى المقلد أنه يحكم برأيه فهو يعلم أنه يكذب على نفسه لاعترافه بأنه لا يعرف
كتابا ولا سنة، فإذا زعم أنه حكم برأيه فقد أقر على نفسه بأنه حكم بالطاغوت.
انتهى
كلامه.
ويزيد ذلك قوة وشرحا ما قاله السيد العلامة بدر الله المنير محمد بن
إسماعيل بن صلاح الأمير ﵁ في «سبل السلام شرح بلوغ المرام» «٣» في شرح حديث
(١)
[صحيح] أخرجه الترمذي في الجامع [٣/ ٦١٣] ح [١٣٢٢] وأبو داود في السنن [٣/ ٢٩٧] ح
[٣٥٧٣] وابن ماجه في السنن ح [٢٣١٥] والبيهقي في السنن الكبرى [١٠/ ١١٦] والحاكم
في المستدرك [٤/ ٩٠] .
(٢) [ضعيف جدا] أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف [٤/
٥٤٣] ح [٢٢٩٨٨] وعبد بن حميد في المنتخب ح [١٢٤] وأحمد في المسند [٥/ ٢٣٠ و٢٣٦،
٢٤٢] والترمذي في الجامع [٣/ ٦١٦] ح [١٢٢٧] وأبو داود في السنن [١٣/ ٣٠٢] ح
[٣٥٩٢] والدارمي في السنن [١/ ٦٠] وأبو داود الطيالسي في مسنده ح [٥٥٩] والبيهقي
في السنن الكبرى [١٠/ ١١٤] والخطيب في الفقه والمتفقه [١/ ١٨٨- ١٨٩] وابن عبد
البر في جامع بيان العلم [٢/ ٨٤٤- ٨٤٥] ح [١٥٩٢، ١٥٩٣] وابن حزم في الأحكام [٦/
٣٥] .
(٣) سبل السلام [٤/ ٢٢٧- ٢٢٩] .
عمرو بن العاص ﵁ أنه
سمع رسول الله ﵌ يقول: «إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، فإذا حكم ثم
أخطأ فله أجر» «١» . متفق عليه «والحديث من أدلة القول بأن الحكم عند الله في كل
قضية واحد، قد يصيبه من أعمل فكره وتتبع الأدلة ووفقه الله تعالى فيكون له أجران:
أجر الاجتهاد، وأجر الإصابة» .
والذي له أجر واحد من اجتهد فأخطأ فله أجر
الاجتهاد..
واستدلوا بالحديث على أنه يشترط أن يكون الحاكم مجتهدا. قال
الشارح- يعني القاضي المغربي صاحب البدر التمام شرح بلوغ المرام- وغيره وهو
المتمكن من أخذ الأحكام من الأدلة الشرعية- قال: ولكنه لغير وجوده بل كاد يعدم
بالكلية ومع تعذره، فمن شرطه أن يكون مقلدا مجتهدا في مذهب إمامه، ومن شرطه أن
يحقق أصول إمامه وأدلته وينزل أحكامه عليها فيما لم يجده منصوصا عليه من مذهب
إمامه. انتهى. قلت:
ولا يخفى ما في هذا الكلام من البطلان وإن تطابق عليه
الأعيان وقد بينا بطلان دعوى تعدد الاجتهاد في رسالتنا «إرشاد النقاد إلى تيسير
الاجتهاد» بما لا يمكن دفعه. وما أرى هذه الدعوى التي تطابقت عليها الأنظار إلا
من كفران نعمة الله عليهم فإنهم- أعني المدعين لهذه الدعوى والمقررين لها-
مجتهدون يعرف حدهم من الأدلة «٢» ما يمكنه بها الاستنباط مما لم يكن قد عرفه عتاب
بن أسيد «٣» قاضي رسول الله ﵌ على مكة، ولا أبو موسى الأشعري قاضي رسول الله ﵌ في
اليمن، ولا معاذ بن جبل قاضيه فيهما وعامله عليها، ولا شريح قاضي عمر وعلي ﵄ على
الكوفة.
ويدل لذلك قول الشارح: فمن شرطه- أي المقلد- أن يكون مجتهدا في مذهب
إمامه وأن يحقق «٤» أصوله وأدلته فإن هذا هو الاجتهاد الذي حكم بكيدودة عدمه
بالكلية وسماه متعذرا فهلا جعل هذا المقلد إمامه كتاب الله وسنة رسوله ﵌ عوضا عن
إمامه؟
وتتبع نصوص الكتاب والسنة عوضا عن تتبع نصوص إمامه؟ والعبارات كلها
ألفاظ دالة على معان فهلا استبدل بألفاظ إمامه ومعانيها ألفاظ الشارع ومعانيها؟
ونزل الأحكام
(١) [متفق عليه] أخرجه البخاري في الصحيح [١٣/ ٣١٨] ح [٧٣٥٢]
ومسلم في الصحيح ح [١٧١٦] .
(٢) جاء في المطبوع [الآلة] وهو خطأ والتصحيح من
سبل السلام [٤/ ٢٢٨] .
(٣) جاء في المطبوع [رشيد] وهو خطأ والتصحيح من
الاصابة لابن حجر [٢/ ٤٤٤] والاستيعاب [٣/ ١٥٣- ١٥٤ مع الاصابة] وسبل السلام [٤/
٢٢٨] .
(٤) جاء في سبل السلام [٤/ ٢٢٨] [يتحقق] بدلا من [يحقق] .
عليها
إذا لم يجد نصا شرعيا عوضا عن تنزيلها على مذهب إمامه فيما لم يجده منصوصا؟
تالله
لقد استبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير من معرفة الكتاب والسنة إلى معرفة كلام
الشيوخ والأصحاب وتفهم مرامهم، والتفتيش عن كلامهم.
ومن المعلوم يقينا أن
كلام الله تعالى وكلام رسوله ﵌ أقرب إلى الأفهام وأدنى إلى إصابة بلوغ «١»
المرام، فإنه أبلغ الكلام بالإجماع، وأعذبه في الأفواه والأسماع وأقربه إلى الفهم
والانتفاع، ولا ينكر هذا إلا جلمود الطباع ومن لا حظ له في النفع والانتفاع،
والأفهام التي فهم بها الصحابة والكلام الإلهي، والخطاب النبوي هي كأفهامنا،
وأحلامهم كأحلامنا، إذ لو كانت الأفهام متفاوتة تفاوتا يسقط معه فهم العبارات
الإلهية والأحاديث النبوية لما كنا مكلفين ولا مأمورين ولا منهيين لا اجتهادا ولا
تقليدا.
أما الأول: فلاستحالته، وأما الثاني: فلأنا لا نقلد حتى نعلم أنه
يجوز لنا التقليد، ولا نعلم ذلك إلا بعد فهم الدليل من الكتاب والسنة على جوازه
لتصريحهم بأنه لا يجوز التقليد في جواز التقليد، فهذا الفهم الذي فهمنا به هذا
الدليل نفهم به غيره من الأدلة من كثير وقليل.
على أنه قد شهد المصطفى ﵌
بأنه يأتي من بعده من هو أفقه ممن في عصره وأوعى لكلامه حيث قال: «فرب مبلّغ أفقه
من سامع» «٢» وفي لفظ: «أوعى له من سامع» .
والكلام قد وفيناه حقه في
الرسالة المذكورة. انتهى كلام السبل. وقد بسطت القول في ذلك في رسالتي «الجنة في
الأسوة الحسنة بالسنة» .
[الآية السابعة عشرة] يا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ
فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ
كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ
تَأْوِيلًا (٥٩) .
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ
وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ: طاعة الله ﷿ هي امتثال أوامره
(١) كذا جاء في
المطبوع أما في السبل [٤/ ٢٢٨] فلا يوجد [بلوغ] فيه.
(٢) [متفق عليه] أخرجه
البخاري في الصحيح [٣/ ٥٧٣- ٥٧٤] ح [١٧٤١، ٦٧، ١٠٥، ٣١٩٧، ٤٤٠٦] ومسلم في الصحيح
ح [١٦٧٩] . [.....]
ونواهيه، وطاعة رسوله ﵌ هي فيما أمر به ونهى
عنه.
قال الحافظ ابن القيم ﵀ في «أعلام الموقعين» «١»: أمر الله تعالى
بطاعته وطاعة رسوله وأعاد الفعل إعلاما بأن طاعة الرسول تجب استقلالا من غير عرض
ما أمر به على الكتاب، بل إذا أمر وجبت طاعته مطلقا سواء كان ما أمر به في الكتاب
أو لم يكن فيه، فإنما أوتي الكتاب ومثله معه. ولم يأمر بطاعة أولي الأمر
استقلالا، بل حذف الفعل وجعل طاعتهم في ضمن طاعة الرسول، إيذانا بأنهم يطاعون
تبعا لطاعة الرسول، فمن أمر منهم بطاعة الرسول وجبت طاعته، ومن أمر بخلاف ما جاء
به الرسول فلا سمع له ولا طاعة. كما صح عنه ﵌: «إنما الطاعة في المعروف» «٢»،
وقال في ولاة الأمور: «من أمركم منهم بمعصية الله فلا سمع له ولا طاعة» «٣»
انتهى.
وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ: لما أمر الله سبحانه القضاة والولاة
إذا حكموا بين الناس أن يحكموا بالعدل أو الحق أمر الناس بطاعتهم هاهنا، وأولو
الأمر هم الأئمة والسلاطين والقضاة وكل من كانت له ولاية شرعية لا ولاية
طاغوتية.
والمراد طاعتهم فيما يأمرون به وينهون عنه، ما لم تكن معصية، فلا
طاعة لمخلوق في معصية الله، كما قلت ذلك عن رسول الله ﵌. وقال جابر بن عبد الله
ومجاهد والحسن البصري وأبو العالية وعطاء بن أبي رباح وابن عباس والإمام أحمد في
إحدى الروايتين عنهما: إن أولي الأمر هم أهل القرآن والعلم، وبه قال مالك
والضحاك.
وروي عن مجاهد أنهم أصحاب محمد ﵌.
وقال ابن كيسان هم أهل
العقل والرأي.
والراجح القول الأول- قاله الشوكاني.
وقال الحافظ ابن
القيم ﵀ في «أعلام الموقعين» «٤» تحت هذه الآية:
والتحقيق أن الأمراء إنما
يطاعون إذا أمروا بمقتضى العلم، فطاعتهم تبع لطاعة العلماء،
(١) أعلام
الموقعين [١/ ٤٨] .
(٢) [متفق عليه] أخرجه البخاري في الصحيح [٨/ ٥٨- مع
الفتح] ح [٤٣٤٠، ٧١٤٥، ٧٢٥٧] ومسلم في الصحيح ح [١٨٤٠] [٣٩] [٤٠] .
(٣)
أخرجه مسلم في الصحيح ح [١٨٣٩] والنسائي في المجتبى [١/ ١٦٠] ح [٤٢٠٧] وابن ماجه
في السنن ح [٢٨٦٤] .
(٤) أعلام الموقعين [١/ ١٠] .
فإن
الطاعة إنما تكون في المعروف وما أوجبه العلم، فكما أن طاعة العلماء تبع لطاعة
الرسول فطاعة الأمراء تبع لطاعة العلماء. ولما كان قيام الإسلام بطائفتي العلماء
والأمراء وكان الناس كلهم لهم تبعا كان صلاح العالم بصلاح هاتين الطائفتين وفساده
بفسادهما، كما قال عبد الله بن المبارك وغيره من السلف: صنفان من الناس إذا صلحا
صلح الناس، وإذا فسدا فسد الناس، قيل: من هم؟ قال: الملوك والعلماء «١» .
رأيت
الذنوب تميت القلوب ... وقد يورث الذل إدمانها «٢»
وترك الذنوب حياة القلوب
... وخير لنفسك عصيانها
وهل أفسد الدين إلا الملوك ... وأحبار سوء
ورهبانها
انتهى كلامه.
وقد أخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن ابن عباس في
قوله تعالى هذا قال:
«نزلت في عبد الله بن حذافة بن قيس بن عدي إذ بعثه
النبي ﵌ في سرية» «٣» وقصته معروفة.
قال ابن القيم «٤»: وقد أخبر النبي ﵌ عن
الذين أرادوا دخول النار لما أمرهم أميرهم بدخولها «أنّهم لو دخلوا لما خرجوا
منها» مع أنهم إنما كانوا يدخلونها طاعة لأميرهم، وظنا أن ذلك واجب عليهم، ولكن
لما قصّروا في الاجتهاد وبادروا إلى طاعة من أمر بمعصية «٥» الله وحملوا عموم
الأمر بالطاعة بما لم يرده الآمر- ﵌ وما قد علم من دينه إرادة خلافه، فقصروا في
الاجتهاد وأقدموا على تعذيب أنفسهم وإهلاكها من غير تثبّت وتبيّن هل ذلك طاعة لله
ورسوله أم لا؟ فما الظن بمن أطاع غيره في صريح مخالفة ما بعث الله به رسوله.
انتهى.
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن عطاء في الآية قال:
طاعة الله والرسول، اتباع الكتاب والسنة. وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ قال: أولوا
الفقه والعلم: وليعلم أنه لا يصح استدلال المقلدة بهذه الآية لأن المراد بها
الأئمة كما ثبت عن غير واحد، ولو
(١) جاء في المطبوع [الأمراء] وهو خطأ
والتصحيح من أعلام الموقعين [١/ ١٠] .
(٢) جاء في المطبوع [ايهانها] وهو خطأ
والتصحيح من أعلام الموقعين [١/ ١٠] .
(٣) أخرجه البخاري في الصحيح [٨/ ٢٥٢]
ح [٤٥٨٤] ومسلم في الصحيح ح [١٨٣٤] .
(٤) أعلام الموقعين [١/ ٤٨] .
(٥)
جاء في المطبوع [في معصية] والتصحيح من أعلام الموقعين [١/ ٤٨] .
سلم
إرادة العلماء فطاعتهم أيضا- كالأئمة والأمراء- مشروطة بعدم مخالفة الطاعة
الإلهية كما سلف، مع أن العلماء أرشدوا إلى ترك التقليد كما روي عن الأئمة
الأربعة وغيرهم.
ولو فرضنا أن في العلماء من يرشد إلى تقليده لكان يرشد إلى
المعصية فلا طاعة لهم حينئذ بالنص، بل هذه الآية دالة على أن الكتاب والسنة
مقدمان على القياس والرأي مطلقا فلا يجوز ترك العمل بهما ولا تخصيصهما بالقياس-
جليا كان أو خفيا-.
ومن وجوه الدلالة أن قوله: أَطِيعُوا اللَّهَ
وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ أمر بطاعة الكتاب والسنة، وهنا الأمر مطلق فثبت وجوب
متابعتهما مطلقا سواء حصل قياس يعارضهما أو يخصصهما أو لم يحصل، ومنها أن كلمة
«إن» للاشتراط على قول الأكثرية فقوله فَإِنْ تَنازَعْتُمْ صريح في عدم جواز
العدول إلى القياس إلا عند فقدان الأصول، كما يظهر ذلك من تأخير ذكره عنها في
الآية، وكذا في قصة معاذ. ومنها أن سبب لعن إبليس ليس دفع نص السجدة بالكلية بل
إنما خصص نفسه عن ذلك العموم بقياس، ومنها أن القرآن مقطوع المتن لثبوته
بالتواتر، والقياس مظنون من جميع الجهات، والمقطوع راجح على المظنون، ومنها أن
قوله تعالى: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ
الظَّالِمُونَ (٤٥) [المائدة: ٤٥] . نص صريح في أننا إذا وجدنا عموم الكتاب حاصلا
في الواقعة ثم حكمنا بالقياس فإنه يلزم الدخول تحت هذا العموم، وكذا التقدم بين
يدي الله تعالى ورسوله ﵌ من لوازم ذلك. وتمام القول في هذه المسألة في تفسيرنا
«فتح البيان» فليرجع إليه.
فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ المنازعة:
[المجاذبة] «١» والنزع: الجذب، كأن كل واحد ينتزع حجة الآخر ويجذبها، والمراد
الاختلاف والمجادلة. وفيه دليل على أن أهل الإيمان قد يتنازعون في بعض الأحكام
ولا يخرجون بذلك عن الإيمان.
قال في «أعلام الموقعين»: وقد تنازع الصحابة في
كثير من مسائل الأحكام وهم سادات المؤمنين وأكمل الأمة إيمانا، ولكن بحمد الله لم
يتنازعوا في مسألة واحدة من مسائل الأسماء والصفات والأفعال، بل كلهم على إثبات
ما نطق به الكتاب والسنة كلمة واحدة من أولهم إلى آخرهم، لم يسوموها «٢» تأويلا
ولم يحرّفوها عن مواضعها تبديلا،
(١) ما بين المعكوفين من فتح القدير [١/
٤٨١] .
(٢) جاء في المطبوع [يشربوها] والتصحيح من أعلام الموقعين [١/ ٤٩]
.
ولم يبدوا لشيء منها إبطالا ولا ضربوا لها أمثالا، ولم يدفعوا
في صدورها وأعجازها، ولم يقل أحد منهم يجب صرفها عن حقائقها وحملها على مجازها،
بل تلقّوها بالقبول والتسليم، وقابلوها بالإيمان والتعظيم، وجعلوا الأمر فيها
كلها أمرا واحدا وأجروها على سنن واحد، ولم يفعلوا كما فعل أهل الأهواء والبدع،
حيث جعلوها عضين، وأقروا بعضها وأنكروا بعضها من غير فرقان مبين، مع أن اللازم
لهم فيما أنكروه كاللازم فيما أقروا به وأثبتوه.
والمقصود أن أهل الإيمان لا
يخرجهم تنازعهم في بعض مسائل الأحكام عن حقيقة الإيمان إذ ردّوا ما تنازعوا فيه
إلى الله ورسوله كما شرط الله عليهم بقوله: فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ
وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ. ولا ريب
أن الحكم المعلق على شرط ينتفي عند انتفائه.
وفي شَيْءٍ نكرة في سياق الشرط
تعم كلّ ما تنازع فيه المؤمنون من مسائل الدية دقّة وجلّة، جلية وخفية. ولم يكن
في كتاب الله وسنة رسوله بيان حكم ما تنازعوا فيه، ولو لم يكن كافيا لما أمر
بالردّ إليه، إذ من «١» الممتنع أن يأمر تعالى بالرد عند «٢» النزاع إلى من لا
يوجد عنده فصل النزاع.
قال الشوكاني «٣»: ظاهر قوله فِي شَيْءٍ يتناول أمور
الدين والدنيا، ولكنه لما قال: فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ تبين به أن
الشيء المتنازع فيه يختص بأمور الدين دون أمور الدنيا، والردّ إلى الله: هو الردّ
إلى كتابه العزيز، والردّ إلى الرسول: هو الردّ إلى سنته المطهرة بعد موته، وأما
في حياته فالردّ إليه سؤاله. هذا معنى الردّ إليهما، وقيل: معنى الردّ أن يقولوا:
الله أعلم وهو قول ساقط وتفسير بارد!! وليس الرد في هذه الآية إلا الرد المذكور
في قوله تعالى: وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ
مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ [النساء: ٨٣] .
انتهى.
وقال ابن القيم «٤»: إن الناس أجمعوا أن الرد إلى الله سبحانه هو
الرد إلى كتابه، والرد إلى الرسول هو الرد إليه نفسه في حياته وإلى سنته بعد
وفاته، وأنه جعل هذا الرد
(١) جاء في المطبوع [أو لكان] والتصحيح من أعلام
الموقعين [١/ ٤٩] .
(٢) جاء في المطبوع [عن] التصحيح من أعلام الموقعين [١/
٤٩] .
(٣) فتح القدير [١/ ٤٨١] . [.....]
(٤) أعلام الموقعين [١/ ٤٩]
.
من موجبات الإيمان ولوازمه، فإذا انتفى هذا الرد انتفى
الإيمان ضرورة انتفاء الملزوم لانتفاء لازمه، ولا سيما التلازم بين هذين الأمرين
فإنه من الطرفين وكل منهما ينتفي بانتفاء الآخر. ثم أخبرهم أن هذا الرد خير لهم،
وأن عاقبته أحسن عاقبة. انتهى.
وقال في «فتح القدير» «١»: قوله: إِنْ
كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ، فيه دليل على أن هذا الردّ متحتم على
المتنازعين، وأنه شأن من يؤمن بالله واليوم الآخر، والإشارة بقوله ذلِكَ إلى الرد
المأمور به خَيْرٌ لكم وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (٥٩): أي مرجعا، من الأول آل يؤول
إلى كذا: أي صار إليه. والمعنى أن ذلك [الردّ] «٢» خير لكم وأحسن مرجعا ترجعون
إليه.
ويجوز أن يكون المعنى أن الردّ أحسن تأويلا من تأويلكم الذي صرتم إليه
عند التنازع. انتهى.
وهذه الآية الكريمة نص في وجوب الاتباع وأصل من أصول رد
التقليد ولذلك احتج بها جمع من السلف والخلف على ذلك، والكلام فيها يطول تركناه
خشية الإطالة، ومن شاء الاطلاع عليها فليرجع إلى أمثال كتاب «أعلام الموقعين»
وغيره يتضح له الحق من الباطل، وبالله التوفيق.
[الآية الثامنة عشرة]
وَإِذا
جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ
إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ
يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ
لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ إِلَّا قَلِيلًا (٨٣) .
وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ
مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذاعُوا بِهِ أذاع الشيء وأذاع به: إذ أفشاه
وأظهره، وهؤلاء هم جماعة من ضعفاء المسلمين كانوا إذا سمعوا شيئا من أمر المسلمين
فيه أمن نحو ظفر المسلمين وقتل عدوهم. أو فيه خوف نحو هزيمة المسلمين وقتلهم
أفشوه وهم يظنون أنه لا شيء عليهم في ذلك وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ
وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ وهم أهل العلم والعقول الراجحة الذين يرجعون
إليهم في أمورهم أو هم الولاة عليهم. لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ
مِنْهُمْ: أي يستخرجونه بتدبرهم وصحة عقولهم.
(١) فتح القدير [١/ ٤٨١] .
(٢)
ما بين المعكوفين من فتح القدير [١/ ٤٨١] .
والمعنى: أنهم لو
تركوا الإذاعة للأخبار حتى يكون النبي ﵌ هو الذي يذيعها أو يكون أولو الأمر منهم
هم الذين يتولون «١» ذلك لأنهم يعلمون بما ينبغي أن يفشى وما ينبغي أن يكتم، لكان
أحسن.
والاستنباط مأخوذ من استنبطت الماء: إذا استخرجته. والنبط الماء
المستنبط أول ما يخرج من ماء البئر عند حفرها، وقيل: إن هؤلاء الضعفة كانوا
يسمعون إرجافات المنافقين على المسلمين فيذيعونها فتحصل بذلك المفسدة. أخرج عبد
بن حميد ومسلم وابن أبي حاتم من طريق ابن عباس عن عمر بن الخطاب قال: لما اعتزل
النبي ﵌ نساءه قمت على باب المسجد فوجدت الناس ينكتون بالحصا يقولون: طلق رسول
الله ﵌ نساءه فقمت على باب المسجد، فناديت بأعلى صوتي: لم يطلق نساءه ونزلت هذه
الآية. فكنت أنا استنبطت ذلك الأمر «٢» .
[الآية التاسعة عشرة]
وَإِذا
حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها إِنَّ اللَّهَ
كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا (٨٦) .
وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ:
التحية تفعلة من حييت وأصلها الدعاء بالحياة، والتحية السلام وهذا المعنى هو
المراد هنا، ومثله قوله تعالى: وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ
اللَّهُ [المجادلة: ٨]، وإلى هذا ذهب جماعة المفسرين.
وروي عن مالك أن
المراد بالتحية هنا تشميت العاطس.
وقال أصحاب أبي حنيفة: التحية هنا الهدية
لقوله تعالى: أَوْ رُدُّوها، ولا يمكن ردّ السلام بعينه، وهذا فاسد لا ينبغي
الالتفات إليه.
والمراد بقوله: فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أن يزيد في
الجواب على ما قاله المبتدئ بالتحية، فإذا قال المبتدئ: السلام عليكم قال المجيب:
وعليكم السلام ورحمة الله، وإذا زاد المبتدئ لفظا زاد المجيب على جملة ما جاء به
المبتدئ لفظا أو ألفاظا نحو:
(١) جاء في المطبوع [يقولون] والتصحيح من فتح
القدير [١/ ٤٩١] .
(٢) أخرجه مسلم في الصحيح ح [١٤٧٩] وعبد بن حميد وابن أبي
حاتم كما في فتح القدير [١/ ٤٩١] .
وبركاته ومرضاته وتحياته.
قال
القرطبي «١»: أجمع العلماء على أن الابتداء بالسلام سنّة مرغّب فيها، وردّه فريضة
لقوله: فَحَيُّوا، وظاهر الأمر الوجوب.
والمراد بقوله: أَوْ رُدُّوها
الاقتصار على مثل لفظ المبتدئ بأن يقول المجيب:
وعليكم السلام في مقابلة
السلام عليكم. وظاهر الآية الكريمة أنه لو رد عليه بأقل مما سلم به أنه لا يكفي،
وحملها الفقهاء على أنه الأكمل فقط. واختلفوا: إذا رد واحد من جماعة هل يجزىء أو
لا؟ فذهب مالك والشافعي إلى الإجزاء، وذهب الكوفيون إلى أنه لا يجزىء عن غيره،
ويرد عليهم حديث عليّ عن النبي ﵌ قال «يجزىء عن الجماعة إذا مروا أن يسلّم أحدهم،
ويجزىء عن الجلوس أن يرد أحدهم» «٢» وأخرجه أبو داود وفي إسناده سعيد بن خالد
الخزاعي المدني وليس به بأس، وقد ضعفه بعضهم! وقد حسن الحديث ابن عبد البر، وقد
ورد في السنة المطهرة في تعيين من يبتدىء بالسلام ومن يستحق التحية ومن لا
يستحقها ما يغني عن البسط هاهنا وقد وفينا حقه في شرحنا لبلوغ المرام.
[الآيات
العشرون والحادية والثانية والعشرون]
وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَما
كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَواءً فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِياءَ حَتَّى
يُهاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ
حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا (٨٩)
إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ أَوْ
جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقاتِلُوكُمْ أَوْ يُقاتِلُوا قَوْمَهُمْ
وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقاتَلُوكُمْ فَإِنِ
اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَما
جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا (٩٠) سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ
أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّما رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ
أُرْكِسُوا فِيها فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ
وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ
وَأُولئِكُمْ جَعَلْنا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطانًا مُبِينًا (٩١) .
(١)
تفسير القرطبي [٥/ ٢٩٨] .
(٢) [ضعيف] أخرجه أبو داود في السنن [٤/ ٣٥٥] ح
[٥٢١٠] وأبو يعلى في مسنده [١/ ٣٤٥] ح [٤٤١] وابن السنن في عمل اليوم والليلة ح
[٢٢٤] والبيهقي في السنن الكبرى [٩/ ٤٨- ٤٩] وابن عبد البر في التمهيد [٥/ ٢٩٠]
وأخرجه الطبراني في الكبير [٣/ ٨٤] ح [٢٧٣٠] وأبو نعيم في الحلية [٨/ ٢٥١] ورواه
مالك في الموطأ [٩٥٩] ورواه ابن عبد البر في التمهيد [٥/ ٢٩١] .
وَدُّوا
لَوْ تَكْفُرُونَ: هذا كلام مستأنف يتضمن بيان [حال] «١» هؤلاء المنافقون وإيضاح
أنهم يودّون أن يكفر المؤمنون كما كفروا ويتمنوا ذلك عنادا وغلوا في الكفر
وتماديا في الضلال.
فالكاف في قوله: كَما، نعت مصدر محذوف: أي: كفروا مثل
كفرهم، أو حال كما روي عن سيبويه.
فَتَكُونُونَ سَواءً عطف على قوله:
تَكْفُرُونَ داخل في حكمه.
فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِياءَ: جواب شرط
محذوف: أي إذا كان حالهم ما ذكر فلا تتخذوا إلخ.
وجمع الأولياء مراعاة لحال
المخاطبين، وإلا فيحرم اتخاذ وليّ واحد منهم أيضا كما في آخر الآية.
حَتَّى
يُهاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ويحققوا إيمانهم بالهجرة فَإِنْ تَوَلَّوْا عن
ذلك «٢» فَخُذُوهُمْ إذا قدرتم عليهم وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ: في
الحلّ والحرم، فإن حكمهم حكم المشركين قتلا وإسرا، وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ
وَلِيًّا، توالونه، وَلا نَصِيرًا (٨٩): تستنصرون به، إِلَّا الَّذِينَ: هو
مستثنى من قوله: فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ فقط.
وأما الموالاة فحرام مطلقا
لا تجوز بحال. فالمعنى إلا الذين يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ ويدخلون في قوم
بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ بالجوار والحلف فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ لما بينه
وبينكم من عهد وميثاق، فإن العهد يشملهم. هذا أصح ما قيل في معنى الآية. وقيل:
الاتصال هنا هو اتصال النسب. والمعنى: إلا الذين ينتسبون إلى قوم بينكم وبينهم
ميثاق، قاله أبو عبيدة.
(١) ما بين المعكوفين سقط من المطبوع وهو مستدرك من
فتح القدير [١/ ٤٩٥] .
(٢) جاءت هذه العبارة في المطبوع على النحو التالي
[من ذلك الهجرة] والتصحيح من فتح القدير [١/ ٤٩٥] .
وقد أنكر
ذلك أهل العلم عليه لأن النسب لا يمنع من القتال بالإجماع، فقد كان بين المسلمين
والمشركين أنساب ولم يمنع ذلك من القتال.
وقد اختلف في هؤلاء القوم الذين
كان بينهم وبين رسول الله ﵌ ميثاق؟ فقيل:
هم قريش والذين يصلون إلى قريش هم
بنو مدلج «١»، وقيل: نزلت في هلال بن عويمر وسراقة بن جعشم وخزيمة بن عامر بن عبد
مناف كان بينهم وبين النبي ﵌ عهد، وقيل:
خزاعة، وقيل: بنو بكر بن زيد.
أَوْ
جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ: عطف على قوله يَصِلُونَ داخل في حكم الاستثناء:
أي إلا الذين يصلون والذين جاءوكم. ويجوز أن يكون عطفا على صفة قوم:
أي إلا
الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق والذين يصلون إلى قوم جاءوكم حصرت: أي
ضاقت صدورهم عن القتال فأمسكوا عنه. والحصر الضيق والانقباض.
قال الفراء:
وهو: أي حصرت صدورهم حال من المضمر المرفوع في جاءوكم كما تقول: جاء فلان ذهب
عقله: أي وقد ذهب عقله.
وقال الزجاج هو خبر بعد خبر: أي جاءوكم ثم أخبر
فقال: حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ.
فعلى هذا يكون حصرت بدلا من جاءوكم وقيل: حصرت
في موضع خفض على النعت لقوم، وقيل: التقدير أو جاءوكم رجال أو قوم حصرت صدورهم.
وقرأ الحسن: (أو جاؤوكم حصرة صدورهم) نصبا على الحال، وقال محمد بن يزيد: حصرت
صدورهم هو دعاء عليهم كما تقول: لعن الله الكافر، وضعفه بعض المفسرين. وقيل: أو
بمعنى الواو أي وجاءوكم حاصرة صدورهم عن أَنْ يُقاتِلُوكُمْ أَوْ يُقاتِلُوا
قَوْمَهُمْ فضاقت صدورهم عن قتال الطائفتين وكرهوا ذلك.
وَلَوْ شاءَ اللَّهُ
لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ ابتلاء منه لكم واختبارا كما قال سبحانه:
وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ
وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ (٣١) [محمد: ٣١] أو تمحيصا لكم، أو عقوبة لذنوبكم،
ولكنه سبحانه لم يشأ ذلك فألقى في قلوبهم الرعب، واللام في قوله:
فَلَقاتَلُوكُمْ:
جواب لو على تكرير الجواب: أي لو شاء الله لسلطهم ولقاتلوكم. والفاء للتعقيب.
(١)
جاء في المطبوع [مدمج] وهو خطأ والتصحيح من فتح القدير [١/ ٤٩٦] وتفسير القرطبي
[٥/ ٣٠٩] .
فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقاتِلُوكُمْ: أي لم
يتعرضوا لقتالكم وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ: أي استسلموا لكم وانقادوا
فَما جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا (٩٠) [أي طريقا] «١» فلا يحلّ
لكم قتلهم ولا أسرهم ولا نهب أموالهم، فهذا الاستسلام يمنع من ذلك ويحرّمه. قيل
هذه منسوخة بآية القتال والظاهر كونها محكمة محمولة على المعاهدين.
سَتَجِدُونَ
آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ فيظهرون لكم
الإسلام ولقومهم الكفر ليأمنوا من كلا الطائفتين، وهم قوم من أهل تهامة طلبوا
الأمان من رسول الله ﵌ ليأمنوا عنده وعند قومهم، وقيل: هي في قوم من المنافقين،
وقيل: في أسد وغطفان.
كُلَّما رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ: أي دعاهم قومهم
إليها وطلبوا منهم قتال المسلمين أُرْكِسُوا فِيها، أي قلبوا فيها فرجعوا إلى
قومهم وقاتلوا المسلمين. ومعنى الارتكاس الانتكاس.
فَإِنْ لَمْ
يَعْتَزِلُوكُمْ: يعني هؤلاء الذين يريدون أن يأمنوكم ويأمنوا قومهم وَيُلْقُوا
إِلَيْكُمُ السَّلَمَ: أي يستسلمون لكم ويدخلون في عهدكم وصلحكم وينسلخون عن
قومهم، وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ عن قتالكم فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ
ثَقِفْتُمُوهُمْ: أي حيث وجدتموهم وتمكنتم منهم. وَأُولئِكُمْ، الموصوفون بتلك
الصفات، جَعَلْنا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطانًا مُبِينًا (٩١): أي حجة واضحة
تتسلطون بها عليهم وتقهرونهم بها بسبب ما في قلوبهم من المرض وما في صدورهم من
الدغل وارتكاسهم في الفتنة بأيسر عمل وأقل سعي.
[الآية الثالثة والعشرون]
وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ
مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى
أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ
وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ
بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ
رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ
تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (٩٢) .
(١) ما بين
المعكوفين من فتح القدير [١/ ٤٩٦] .
وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ: هذا
النفي هو بمعنى النهي المقتضي للتحريم، كقوله تعالى: وَما كانَ لَكُمْ أَنْ
تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ [الأحزاب: ٥٣]، ولو كان هذا النفي على معناه، لكان خبرا
وهو يستلزم صدقه، فلا يوجد مؤمن قتل مؤمنا قط.
أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا.
وقيل: المعنى ما كان له ذلك في عهد الله، وقيل: ما كان له ذلك فيما سلف، كما ليس
له الآن بوجه.
ثم استثنى منه استثناء منقطعا فقال: إِلَّا خَطَأً: أي ما كان
له أنه يقتله البتة، لكن إن قتله خطأ فعليه كذا. هذا قول سيبويه والزجاج.
وقيل:
هو استثناء متصل، والمعنى: ما ثبت، ولا وجد، ولا ساغ لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا
خطأ، إذ هو مغلوب حينئذ. وقيل: المعنى ولا خطأ «١» .
قال النحاس: ولا يعرف
ذلك في كلام العرب، ولا يصح في المعنى لأن الخطأ لا [يحظر] «٢»، وقيل: المعنى: لا
ينبغي أن يقتله لعلّة من العلل إلا بالخطأ وحده، فيكون قوله: خَطَأً منتصبا بأنه
مفعول له، ويجوز أن ينتصب على الحال. والتقدير لا يقتله في حال من الأحوال إلا في
حال الخطأ، ويجوز أن يكون صفة لمصدر محذوف، أي إلا قتلا خطأ.
ووجوه الخطأ
كثيرة ويضبطها عدم القصد، والخطأ اسم من أخطأ خطأ إذا لم يتعمد «٣» .
وَمَنْ
قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً بأن قصد رمي صيد مثلا، فأصابه أو ضربه بما لا يقتل
غالبا، كذا قيل.
فَتَحْرِيرُ: أي: فعليه تحرير.
(١) انظر: فتح القدير
للشوكاني (١/ ٤٩٧) .
وقد قال الزجاج: «ما كان لمؤمن البتة، و«إلا خطأ»
استثناء ليس من الأول ...» وينظر:
معاني الزجاج (٢/ ٩٧)، والطبري (٥/ ١٢٨)،
والنكت للماوردي (١/ ٤١٤)، وزاد المسير لابن الجوزي (٢/ ١٦٢)، والقرطبي (٥/ ٣١٢)
.
(٢) حرّف في «المطبوعة» إلى (يحصر) وهو خطأ، وصوبناه من فتح القدير
للشوكاني (١/ ٤٩٧) .
(٣) انظر: الصحاح واللسان (خطأ) . [.....]
رَقَبَةٍ
مُؤْمِنَةٍ يعتقها، كفارة عن قتل الخطأ، وعبّر بالرقبة عن جميع الذات.
واختلف
العلماء في تفسير الرقبة المؤمنة، فقيل: هي التي صلّت وعقلت الإيمان، فلا تجزىء
الصغيرة، وبه قال ابن عباس والحسن والشعبي والنخعي وقتادة وغيرهم «١» .
وقال
عطاء بن أبي رباح: إنها تجزىء الصغيرة المولودة بين مسلمين.
وقال جماعة منهم
مالك والشافعي: يجزىء كل من حكم له بوجوب الصلاة عليه إن مات، ولا يجزىء في قول
جمهور العلماء أعمى، ولا مقعد، ولا أشلّ، ويجزىء عند الأكثر الأعرج والأعور.
قال
مالك: إلا أن يكون عرجا شديدا ولا يجزىء عند أكثرهم المجنون، وفي المقام تفاصيل
طويلة مذكورة في علم الفروع «٢» .
وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ
الدية: ما يعطى عوضا عن دم المقتول إلى ورثته.
والمسلّمة: المدفوعة
المؤداة.
والأهل: المراد بهم الورثة. وأجناس الدية وتفاصيلها قد بيّنتها
السّنّة المطهرة «٣» .
إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا: أي إلا أن يتصدق أهل
المقتول على القاتل بالدية، سمّي العفو عنها صدقة ترغيبا فيه.
فَإِنْ كانَ:
أي المقتول.
مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ: وهم الكفار الحربيون.
وَهُوَ
مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ، وهذه مسألة المؤمن الذي يقتله المسلمون في بلاد
الكفار الذين كان منهم، ثم أسلم ولم يهاجر وهم يظنون أنه لم يسلم، وأنه باق على
دين قومه، فلا دية على قاتله، بل عليه تحرير رقبة مؤمنة.
واختلفوا في وجه
سقوط الدية، فقيل: إن أولياء القتيل كفار لا حقّ لهم في الدية،
(١) انظر
أقوالهم في: الطبري (١٠٩٤، ١٠٩٥، ١٠٩٧، ١٠٩٨، ١٠٩٩) .
(٢) انظر: النكت (١/
٤١٤)، زاد المسير (٢/ ١٦٣)، القرطبي (٥/ ٣٢٣)، وقليوبي وعميرة (٤/ ٩٥)، وفتح
العزيز (١٠/ ٨٤) .
(٣) انظر كتاب الدّيات من: صحيح البخاري (١٢/ ١٨٧، ٢٦٤)،
ومسلم (١١/ ١٧٥، ١٨٠)، وزاد المسير (٢/ ١٦٣) .
وقيل: وجهه أن
هذا الذي آمن ولم يهاجر حرمته قليلة، لقول الله تعالى: وَالَّذِينَ آمَنُوا
وَلَمْ يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ [الأنفال: ٧٢] .
وقال
بعض أهل العلم: إن ديته واجبة لبيت المال «١» .
وَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ
بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ: أي مؤقت، أو مؤبد.
وقرأ الحسن: وهو مؤمن
فدية مسلمة: أي فعلى قاتله دية مؤداة «٢» .
إِلى أَهْلِهِ: من أهل الإسلام،
وهم ورثته.
وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ كما تقدم.
فَمَنْ لَمْ
يَجِدْ: أي الرقبة، ولا اتسع ماله لشرائها.
فَصِيامُ شَهْرَيْنِ أي فعليه
صيام شهرين.
مُتَتابِعَيْنِ: لم يفصل بين يومين من أيام صومهما إفطار في
نهار، فلو أفطر استأنف، هذا قول الجمهور «٣» .
وأما الإفطار لعذر شرعي،
كالحيض ونحوه، فلا يوجب الاستئناف «٤» .
واختلف في الإفطار لعروض المرض، ولم
يذكر الله تعالى الانتقال إلى الطعام كالظهار، وبه أخذ الإمام الشافعي.
تَوْبَةً:
منصوب على أنه مفعول له، أي شرع ذلك لكم توبة، أي قبولا لتوبتكم، أو منصوب على
المصدرية: أي تاب عليكم توبة، وقيل: على الحال، أي:
حال كونه ذا توبة كائنة،
مِنَ اللَّهِ «٥» .
(١) انظر: شرح النووي على مسلم (٢/ ١٠٠، ١٠٦)، والمغني
(٣/ ٦٨) (١٠/ ٣٩) .
(٢) انظر في توجيه هذه القراءة: فتح القدير (١/ ٤٩٨)،
والقرطبي (٥/ ٣٢٥) .
(٣) انظر: المغني لابن قدامة (٣/ ٦٨، ٦٩)، (١٠/ ٣٩)
.
(٤) انظر: الروضة النّدية للمصنف (١/ ٢٢٨، ٢٢٩) .
(٥) انظر: زاد
المسير لابن الجوزي (٢/ ١٦٣)، والنكت للماوردي (١/ ٤١٤)، والقرطبي (٥/ ٣٢٤)،
والبصائر (١/ ١٧٣) .
[الآية الرابعة والعشرون]
يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا
تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ
عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ كَذلِكَ
كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ
كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (٩٤) .
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا
ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ: هذا متصل بذكر الجهاد والقتال.
والضرب:
السير في الأرض.
تقول العرب: ضربت في الأرض إذا سرت لتجارة أو غزو أو
غيرهما، وتقول:
[ضربت] «١» الأرض بدون (في) إذا قصدت قضاء حاجة الإنسان،
ومنه قوله ﵌: «لا يخرج الرجلان يضربان الغائط» «٢» .
فَتَبَيَّنُوا: من
التبين، وهو التأمل، وهي قراءة الجماعة إلا حمزة فإنه قرأ فتثبّتوا من التثبت
«٣»، واختار القراءة الأولى أبو عبيدة وأبو حاتم، قالا: لأن من أمر بالتبين فقد
أمر بالتثبت، وإنما خص السفر بالأمر بالتبين مع أن التبين والتثبت في أمر القتل
واجبان حضرا وسفرا بلا خلاف لأن الحادثة التي هي سبب نزول الآية كانت في السفر
«٤» .
ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السّلم واختار أبو عبيد قراءة: السلام،
وخالفه أهل النظر فقالوا: السّلم هاهنا أشبه لأنه بمعنى الانقياد والتسليم.
والمراد هنا لا
(١) ما بين [المعقوفين] حزب- وهو خطأ غير مناسب للسياق،
وانظره في «فتح القدير» (١/ ٥٠١) .
(٢) حديث إسناده ضعيف: رواه أبو داود
(١٥)، وابن ماجة (٣٤٢)، وأحمد في «المسند» (٣/ ٣٦)، والحاكم في «المستدرك» (١/
١٥٧، ١٥٨)، وابن خزيمة في «صحيحه» (٧١)، وابن حبان (١٤٢٢) بنحوه عن أبي سعيد
الخدري مرفوعا. وقال أبو داود: هذا لم يسنده إلا عكرمة بن عمّار.
وانظر:
تمام المنّة (ص ٥٩) .
(٣) انظر: السبعة (٢٣٦)، والكشف (١/ ٣٩٤)، والفراء (٢/
١٧١)، والبحر المحيط (٣/ ٣٢٨) .
(٤) انظر في سبب نزولها: البخاري (٨/ ٢٥٨)،
ومسلم (١٨/ ١٦١)، وتفسير القرطبي (٥/ ٣٣٦)، والبحر المحيط (٣/ ٣٢٨)، وزاد المسير
(٢/ ١٦٩)، والفتح الرّباني (١٨/ ١١٦)، واللباب (٧٧) .
تقولوا
لمن ألقى بيده إليكم واستسلم.
فالسلم والسلام كلاهما بمعنى الاستسلام، وقيل:
هما بمعنى الإسلام: أي لا تقولوا لمن ألقى إليكم الإسلام، أي كلمته وهي الشهادة،
لَسْتَ مُؤْمِنًا، من أمنته إذا أجرته فهو مؤمن.
وقد استدل بهذه الآية على
أن من قتل كافرا بعد أن قال: لا إله إلا الله قتل به، لأنه قد عصم بهذه الكلمة
دمه وماله وأهله، وإنما سقط القتل عن من وقع منه ذلك في زمن النبي ﵌ لأنهم تأولوا
وظنوا أن من قالها خوفا من السلاح لا يكون مسلما، ولا يصير دمه بها معصوما، وأنه
لا بد من أن يقول هذه الكلمة وهو مطمئن غير خائف.
والحكمة في التكلم بكلمة
الإسلام إظهار الانقياد بأن يقول: أنا مسلم، وأنا على دينكم، لما عرفت من أن معنى
الآية الاستسلام والانقياد، وهو يحصل بكل ما يشعر بالإسلام من قول أو فعل، ومن
جملة ذلك كلمة الشهادة، وكلمة التسليم، فالقولان الآخران في معنى الآخر داخلان
تحت القول الأول «١» .
تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا: الجملة في
محل نصب على الحال، أي لا تقولوا تلك المقالة طالبين الغنيمة، على أن يكون النهي
راجعا إلى القيد والمقيد لا إلى القيد فقط، وسمي متاع الحياة عرضا لأنه عارض زائل
غير ثابت.
قال أبو عبيدة: يقال جميع متاع الحياة الدنيا عرض بفتح الراء،
وأما العرض بسكون الراء فهو ما سوى الدنانير والدراهم، فكل عرض بالسكون عرض
بالفتح، وليس كل عرض بالفتح عرض بالسكون.
وفي «كتاب العين» «٢»: العرض ما
[نيل] «٣» من الدنيا، ومنه قوله تعالى:
تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا وجمعه
عروض.
وفي «المجمل» «٤» لابن فارس: والعرض ما يعترض للإنسان من مرض ونحوه،
وعرض الدنيا ما كان فيها من مال قلّ أو كثر، والعرض من الأثاث ما كان غير نقد.
(١)
انظر ذلك: في «فتح القدير» (١/ ٥٠١) .
(٢) هو لفريد عصره الخليل بن أحمد
الفراهيدي شيخ النحاة، وهو مطبوع بالعراق وبيروت. [.....]
(٣) ما بين
[معقوفين] حرّف إلى (نيل) والتصويب من فتح القدير (١/ ٥٠١) .
(٤) هو مجمل
مقاييس اللغة لأبي الحسين ابن فارس الرازي، وقد طبع في بيروت، وغيرها.
فَعِنْدَ
اللَّهِ: هو تعليل للنهي، أي عند الله ما هو حلال لكم من دون ارتكاب محظور.
مَغانِمُ
كَثِيرَةٌ: تغنمونها وتستغنون بها عن قتل من قد استسلم وانقاد واغتنام ماله.
كَذلِكَ
كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ: أي كنتم كفارا فحقنت دماؤكم لمّا تكلمتم بكلمة الشهادة، أو
كذلك كنتم من قبل تخفون إيمانكم عن قومكم، خوفا على أنفسكم، حتى منّ الله عليكم
بإعزاز دينه فأظهرتم الإيمان وأعلنتم.
[الآية الخامسة والعشرون] لا
يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ
وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ
اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ
دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ
عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (٩٥) .
لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ
الْمُؤْمِنِينَ: التفاوت بين درجات من قعد عن الجهاد من غير عذر، ودرجات من جاهد
في سبيل الله بماله ونفسه، وإن كان معلوما ضرورة، لكن أراد الله سبحانه بهذا
الأخبار، تنشيط المجاهدين ليرغبوا، وتبكيت القاعدين ليأنفوا.
غَيْرُ: قرأ
أهل الكوفة وأبو عمرو وابن كثير بالرفع على أنه وصف للقاعدين- كما قال الأخفش-،
لأنهم لا يقصد بهم قوم بأعيانهم فصاروا كالنكرة فجاز وصفهم بغير، وقرأ أبو حيوة
بكسر الراء على أنه وصف للمؤمنين، وقرأ أهل الحرمين بفتح الراء على الاستثناء من
القاعدين أو من المؤمنين، أي إلا:
أُولِي الضَّرَرِ فإنهم يستوون مع
المجاهدين، ويجوز أن يكون منتصبا على الحال من القاعدين: أي لا يستوي القاعدون
الأصحاء في حال صحتهم، وجازت الحال منهم لأن لفظهم لفظ المعرفة.
قال
العلماء: أهل الضرر هم أهل الأعذار لأنها أضرت بهم حتى منعتهم عن الجهاد. وظاهر
النظم القرآني أن صاحب العذر يعطى مثل أجر المجاهد، وقيل: يعطى أجره من غير
تضعيف، فيفضله المجاهد بالتضعيف لأجل المباشرة «١» .
(١) انظر: زاد المسير
(٢/ ١٧٤)، وابن قتيبة (١٣٤)، والطبري (٥/ ١٤٤)، والقرطبي (٥/ ٣٤٦) .
قال
القرطبي: والأول أصح- إن شاء الله تعالى- للحديث الصحيح في ذلك: «إن بالمدينة
رجالا، ما قطعتم واديا، ولا سرتم مسيرا، إلا كانوا معكم، أولئك قوم حبسهم العذر»
«١» .
قال وفي هذا المعنى ما ورد في الخبر: «إذا مرض العبد، قال الله تعالى:
اكتبوا لعبدي ما كان يعمله في الصحة، إلى أن يبرأ أو أقبضه إليّ» «٢» .
وَالْمُجاهِدُونَ
فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ
الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً: هذا
بيان لما بين الفريقين من التفاضل المفهوم من ذكر عدم الاستواء إجمالا، والمراد
هنا غير أولي الضرر حملا للمطلق على المقيد، وقال هنا درجة، وقال فيما بعد درجات،
فقال قوم: التفضيل بالدرجة ثم الدرجات إنما هو مبالغة وبيان وتأكيد.
وقال
آخرون: فضل الله المجاهدين على القاعدين من أولي الضرر بدرجة واحدة، وفضل الله
المجاهدين على القاعدين من غير أولي الضرر بدرجات، قاله ابن جريج والسدي وغيرهما
«٣» .
وقيل: إن معنى درجة علوّ، أي أعلى ذكرهم، ورفعهم بالثناء والمدح.
ودرجة:
منتصبة على التمييز أو المصدرية، لوقوعها موقع المرة من التفضيل: أي فضل الله
تفضيلة، أو على نزع الخافض، أو على الحالية من المجاهدين، أي ذوي درجة.
وَكُلًّا:
مفعول أول لقوله: وَعَدَ، قدّم عليه لإفادة القصر، أي كل واحد من المجاهدين
والقاعدين.
وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى أي المثوبة، وهي الجنة، قاله قتادة «٤»
.
(١) حديث صحيح: رواه البخاري (٦/ ٤٦، ٤٧)، (٨/ ١٢٦)، ومسلم (١٣/ ٥٦، ٥٧)،
عن أنس وجابر مرفوعا بنحوه.
(٢) حديث صحيح: رواه البخاري (٦/ ١٣٦)، وابن أبي
شيبة في «المصنف» (٣/ ١١٩)، عن أبي موسى وعطاء بن يسار مرفوعا.
قلت: هذا
حديث روي بألفاظ متقاربة عن عدة من أصحاب النبي ﵌ وانظر: الإرواء (٥٦٠) .
(٣)
انظر: الطبري (٥/ ١٤٤)، وابن قتيبة (ص ١٣٤) .
(٤) روى هذا الخبر الطبري في
«تفسيره» (٢٥٣- ١) بإسناد حسن.
[الآية السادسة والعشرون]
إِنَّ
الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ قالُوا فِيمَ
كُنْتُمْ قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قالُوا أَلَمْ تَكُنْ
أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ
وَساءَتْ مَصِيرًا (٩٧) .
أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً
فَتُهاجِرُوا فِيها فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَساءَتْ مَصِيرًا (٩٧) قيل:
المراد بهذه الأرض المدينة، والأولى العموم، اعتبارا بعموم اللفظ، لا بخصوص
السبب، كما هو الحق، فيراد بالأرض كل بقعة من بقاع الأرض تصلح للهجرة إليها،
ويراد بالأرض المذكورة في الآية الأولى، كل أرض ينبغي الهجرة منها.
[الآية
السابعة والعشرون] إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ
وَالْوِلْدانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا (٩٨) .
إِلَّا
الْمُسْتَضْعَفِينَ: هو استثناء من الضمير في مأواهم، وقيل: هو استثناء منقطع
لعدم دخول المستضعفين في الموصول، وضميره.
مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ
وَالْوِلْدانِ: متعلق بمحذوف، أي كائنين منهم.
والمراد بالمستضعفين من
الرجال: الزّمنى «١» ونحوهم، والولدان كعياش ابن أبي ربيعة، وسلمة بن هشام، وإنما
ذكر الولدان مع عدم التكليف لهم، لقصد المبالغة في أمر الهجرة، وإيهام أنها تجب
لو استطاعها غير المكلف، فكيف من كان مكلفا.
وقيل أراد بالولدان: المراهقين
والمماليك.
لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً: صفة للمستضعفين، أو الرجال والنساء
والولدان، أو حال من الضمير في المستضعفين.
قيل: الحيلة لفظ عام لأنواع
أسباب التخلص، أي: لا يجدون حيلة ولا طريقا إلى ذلك.
(١) هو صاحب الآفة
والعاهة، عافانا الله من كل أذى وداء.
وَلا يَهْتَدُونَ
سَبِيلًا (٩٨) وقيل: السبيل سبيل المدينة.
وقد استدل بهذه الآية، على أن
الهجرة واجبة على كل من كان بدار الشرك، أو بدار يعمل فيها بمعاصي الله جهارا،
إذا كان قادرا على الهجرة، ولم يكن من المستضعفين، لما في هذه الآية من العموم،
وإن كان السبب خاصا كما تقدم، وظاهرها عدم الفرق بين مكان ومكان، وزمان وزمان.
وقد
ورد في الهجرة أحاديث ذكرناها في جواب سؤال عن الهجرة اليوم من أرض الهند
فليراجع.
وورد ما يدل على أنه لا هجرة بعد الفتح «١» .
وقد أوضحنا ما
هو الحق في شرحنا على «بلوغ المرام» فليرجع إليه.
[الآية الثامنة
والعشرون]
وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ
تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا
إِنَّ الْكافِرِينَ كانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا (١٠١) .
وَإِذا
ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ شروع في كيفية الصلاة عند الضرورات من السفر، ولقاء
العدو، والمطر، والمرض.
وفيه تأكيد لعزيمة المهاجر على الهجرة، وترغيب له
فيها، لما فيه من تخفيف المئونة، أي إذا سافرتم أي مسافرة كانت كما يفيده
الإطلاق.
فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ: أي وزر وحرج في أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ
الصَّلاةِ فيه دليل على أن القصر ليس بواجب، وإليه ذهب الجمهور.
وذهب
الأقلون إلى أنه واجب ومنهم عمر بن عبد العزيز، والكوفيون، والقاضي إسماعيل،
وحماد بن أبي سليمان، وهو مروي عن مالك، واستدلوا بحديث عائشة الثابت في
«الصحيح»: «فرضت الصلاة ركعتين ركعتين فزيدت في الحضر وأقرت في السفر» «٢» .
(١)
حديث صحيح: رواه البخاري (٦/ ٣)، ومسلم (٩/ ١٢٣)، عن ابن عباس مرفوعا.
(٢)
حديث صحيح: رواه البخاري (١/ ٤٦٤)، ومسلم (٥/ ١٩٤)، عن عائشة مرفوعا.
ولا
يقدح في ذلك مخالفتها لما روت فالعمل على الرواية الثابتة عن رسول الله ﵌ «١»
.
ومثله حديث يعلى بن أمية قال: «سألت عمر بن الخطاب، قلت: فَلَيْسَ
عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ
يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وقد أمن الناس؟ فقال عمر: عجبت مما عجبت منه
فسألت رسول الله ﵌ عن ذلك؟ فقال: «صدقة تصدق الله بها عليكم، فاقبلوا صدقته» .
أخرجه
أحمد ومسلم وأهل السنن «٢» .
وظاهر قوله: «فاقبلوا صدقته» أن القصر واجب.
إِنْ
خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا: ظاهر هذا الشرط أن القصر لا يجوز
في السفر إلا مع خوف الفتنة من الكافرين لا مع الأمن، ولكنه قد تقرر بالسنة أن
النبي ﵌ قصر مع الأمن كما عرفت، فالقصر مع الخوف ثابت بالسنة، ومفهوم الشرط لا
يقوى على معارضة ما تواتر عنه ﵌ من القصر مع الأمن.
وقد قيل إن هذا الشرط
خرج مخرج الغالب لأن الغالب على المسلمين إذ ذاك القصر للخوف في الأسفار، ولهذا
قال يعلى بن أمية لعمر ما قال كما تقدم.
وفي قراءة أبيّ: أن تقصروا من
الصّلاة أن يفتنكم بسقوط إِنْ خِفْتُمْ، والمعنى على هذه القراءة: كراهة أن
يفتنكم الذين كفروا.
وذهب جماعة من أهل العلم، إلى أن هذه الآية إنما هي
مبيحة للقصر في السفر للخائف من العدو، فمن كان آمنا فلا قصر له.
وذهب آخرون
إلى أن قوله: إِنْ خِفْتُمْ ليس متصلا بما قبله وأن الكلام تم عند قوله مِنَ
الصَّلاةِ، ثم افتتح فقال: إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا
فأقم لهم يا محمد صلاة الخوف.
(١) رواه البخاري (٢/ ٥٦٩)، ومسلم (٥/ ١٩٤،
١٩٥)، وروى البيهقي في «الكبرى» (٣/ ١٤٣) نحوه.
وانظر: فتح الباري (٢/ ٥٧١)
.
(٢) صحيح: رواه مسلم (٥/ ١٩٥، ١٩٦)، وأبو داود (١١٩٩، ١٢٠٠)، والترمذي
(٣٠٣٤)، والنسائي (٣/ ١١٦، ١١٧)، وابن ماجة (١٠٦٥)، وأحمد (١/ ٢٥)، والدارمي (١/
٣٥٤) .
وذهب قوم إلى أن ذكر الخوف منسوخ بالسنة، وهي حديث عمر
الذي قدمنا ذكره، وما ورد في معناه «١» .
[الآية التاسعة والعشرون] وَإِذا
كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ
وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرائِكُمْ
وَلْتَأْتِ طائِفَةٌ أُخْرى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا
حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ
أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً واحِدَةً وَلا
جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضى أَنْ
تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ
لِلْكافِرِينَ عَذابًا مُهِينًا (١٠٢) .
وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ: هذا خطاب
لرسول الله ﵌، ولمن بعده من أهل الأمر، حكمه كما هو معروف في الأصول، ومثله قوله
تعالى: خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً [التوبة: ١٠٣] ونحوه.
وإلى هذا ذهب
جمهور العلماء وشذّ أبو يوسف وإسماعيل بن عليّة فقالا: لا تصلّى صلاة الخوف بعد
النبي ﵌! لأن هذا الخطاب خاص برسول الله ﵌. قالا: ولا يلحق غيره به، لما له ﵌ من
المزية العليا! «٢» .
وهذا مدفوع فقد أمرنا الله باتباع رسوله والتأسي به،
وقد قال ﵌: «صلوا كما رأيتموني أصلي» «٣»، والصحابة ﵃ أعرف بمعاني القرآن، وقد
صلّوها بعد
(١) انظر: الناسخ والمنسوخ لابن العربي (٢/ ١٨٧)، والإحكام له
(١/ ٤٩١)، وفتح القدير (١/ ٥٠٧، ٥٠٨) .
(٢) انظر: رحمة الأمة لابن عبد
الرحمن العثماني (ص ٥٧) والرّوضة الندية للمصنف (١/ ١٤٧، ١٤٨)، والمجموع للنووي
(٤/ ٤٠٦) . [.....]
(٣) حديث صحيح: رواه البخاري (٢/ ١١٠)، (١٠/ ٤٣٧)، ومسلم
(٥/ ١٧٤، ١٧٥)، عن مالك بن الحويرث مرفوعا.
موته في غير مرة كما
هو معروف «١» .
ومعنى فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ: أردت إقامتها، كقوله:
إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ [المائدة: ٦]، وقوله:
فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ [النحل: ٩٨] .
فَلْتَقُمْ
طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ: يعني بعد أن تجعلهم طائفة تقف بإزاء العدو، وطائفة
منهم تقوم معك في الصلاة.
وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ أي الطائفة التي
تصلي معه.
وقال ابن عباس: الضمير راجع إلى الطائفة الأولى بإزاء العدو، لأن
المصلية لا تحارب «٢» . والأول أظهر لأن الطائفة القائمة بإزاء العدو، لا بد أن
تكون قائمة بأسلحتها، وإنما يحتاج إلى الأمر بذلك، من كان في الصلاة لأنه يظن أن
ذلك ممنوع من حال الصلاة، فأمره الله بأن يكون آخذا لسلاحه، أي غير واضع له.
وليس
المراد الأخذ باليد، بل المراد أن يكونوا حاملين لسلاحهم ليتناولوه من قرب إذا
احتاجوا إليه، وليكون ذلك أقطع لرجاء عدوهم من إمكان فرصة فيهم.
وجوّز
الزجاج والنحاس أن يكون ذلك أمرا للطائفتين جميعا، لأنه أرهب للعدو.
وقد
أوجب أخذ السلاح في هذه الصلاة أهل الظاهر حملا للأمر على الوجوب.
وذهب أبو
حنيفة إلى أن المصلين لا يحملون السلاح، وأن ذلك يبطل الصلاة، وهو مدفوع بما في
هذه الآية، وبما في الأحاديث الصحيحة كما أوضحنا ذلك، مع بيان كيفيات تلك الصلاة
الثابتة في شرحي: «الدرر البهية» «٣» و«مسك الختام» .
فَإِذا سَجَدُوا: أي
القائمون في الصلاة، فَلْيَكُونُوا، أي الطائفة القائمة بإزاء العدو، مِنْ
وَرائِكُمْ: من وراء المصلين.
ويحتمل أن يكون المعنى فإذا سجد المصلون معك
أتمّوا الركعة تعبيرا بالسجود عن جميع الركعة أو عن جميع الصلاة، فليكونوا من
ورائكم، أي: فلينصرفوا بعد الفراغ
(١) حديث صحيح: ما رواه ابن أبي شيبة في
«المصنف» (٢/ ٣٥١)، والطبري (١٠٣٦١، ١٣٠٦٢)، والبيهقي (٣/ ٣٥٢) بنحوه.
(٢)
انظر: تفسير الطبري (٥/ ٢٥٠، ٢٥١) .
(٣) انظر الروضة الندية (١/ ١٤٧، ١٤٩)
.
إلى [مقابلة] «١» العدو للحراسة.
وَلْتَأْتِ طائِفَةٌ
أُخْرى لَمْ يُصَلُّوا: وهي القائمة في مقابلة العدو والتي لم تصل.
فَلْيُصَلُّوا
مَعَكَ: على الصفة التي كانت عليها الطائفة الأولى.
وَلْيَأْخُذُوا أي هذه
الطائفة الأخرى حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ: زيادة التوصية للطائفة الأخرى بأخذ
الحذر مع أخذ السلاح.
قيل: وجهه أن هذه المرة مظنة لوقوف الكفرة على كون
الطائفة القائمة مع النبي ﵌ في شغل شاغل، وأما في المرة الأولى فربما يظنونهم
قائمين للحرب.
وقيل: لأن العدو لا يؤخر قصده عن هذا الوقت لأنه آخر الصلاة،
والسلاح ما يدفع به المرء عن نفسه في الحرب، ولم يبين في الآية الكريمة كم تصلي
كل طائفة من الطائفتين.
وقد وردت صلاة الخوف في السنة المطهرة على أنحاء
مختلفة، وصفات متعددة، وكلها صحيحة مجزية، من فعل واحدة منها فقد فعل ما أمر به،
ومن ذهب من العلماء إلى اختيار صفة دون غيرها، فقد أبعد عن الصواب.
وأوضح
هذا الشوكاني في «شرحه للمنتقى» وغيره «٢» .
وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ
تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ
مَيْلَةً واحِدَةً: هذه الجملة متضمنة للعلة التي لأجلها أمرهم الله سبحانه
بالحذر، وأخذ السلاح، أي ودوا غفلتكم عن أخذ السلاح، وعن الحذر ليصلوا إلى
مقصودهم، وينالوا فرصتهم، فيشدون عليكم شدة واحدة.
والأمتعة: ما يتمتع به في
الحرب، ومنه الزاد والراحلة «٣» .
وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كانَ بِكُمْ
أَذىً مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ: رخص لهم
سبحانه في وضع السلاح إذا نالهم أذى من المطر، وفي حال
(١) وقع في المطبوعة
إلى (مقاتلة) والمثبت من فتح القدير (١/ ٥٠٨) وهو الموافق للسياق.
(٢) انظر:
نيل الأوطار (٤/ ١٠٢٢)، وكذلك السّيل الجرار (١/ ٣١٢، ٣١٣) .
(٣) انظر:
تفسير القرطبي (٥/ ٣٧٢)، فتح القدير (١/ ٥٠٩) .
المرض، لأنه
يصعب مع هذين الأمرين حمل السلاح.
وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ
أَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذابًا مُهِينًا (١٠٢): أمر بأخذ الحذر لئلا يأتيهم العدو
على غرة وهم غافلون.
[الآية الثلاثون] فَإِذا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ
فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيامًا وَقُعُودًا وَعَلى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا
اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى
الْمُؤْمِنِينَ كِتابًا مَوْقُوتًا (١٠٣) .
فَإِذا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ: أي
فرغتم من صلاة الخوف، وهو أحد معاني القضاء، ومثله: فَإِذا قَضَيْتُمْ
مَناسِكَكُمْ [البقرة: ٢٠٠] وقوله: فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي
الْأَرْضِ [الجمعة: ١٠] .
فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيامًا وَقُعُودًا وَعَلى
جُنُوبِكُمْ: أي في جميع الأحوال، حتى في حال القتال.
وقد ذهب جمهور العلماء
إلى أن هذا الذكر المأمور به إنما هو أثر صلاة الخوف، أي إذا فرغتم من الصلاة
فاذكروا الله في هذه الأحوال، وقيل: معنى قوله: فَإِذا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ إلخ
إذا صليتم فصلوا قياما وقعودا وعلى جنوبكم حسبما تقتضيه الحال عند ملاحمة القتال،
فهي مثل قوله: فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجالًا أَوْ رُكْبانًا [البقرة: ٢٣٩] .
فَإِذَا
اطْمَأْنَنْتُمْ: أي إذا أمنتم وسكنت قلوبكم.
والطمأنينة: سكون النفس من
الخوف.
فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ أي فأتوا بالصلاة التي دخل وقتها على الصفة
المشروعة من الأذكار والأركان، ولا تغفلوا ما أمكن فإن ذلك إنما هو في حال
الخوف.
وقيل: المعنى في الآية أنهم يقضون ما صلوه في حال المسابقة، لأنها
حالة قلق وانزعاج وتقصير في الأذكار والأركان، وهو مروي عن الشافعي، والأول
أرجح.
إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتابًا مَوْقُوتًا
(١٠٣): أي محدودا معينا، يقال:
وقته فهو موقوت ووقته فهو موقت
«١» .
والمعنى أن الله افترض على عباده الصلوات وكتبها عليهم في أوقاتها
المحددة، لا يجوز لأحد أن يأتي بها في غير ذلك الوقت إلا بعذر شرعي من نوم وسهو
أو نحوهما.
[الآية الحادية والثلاثون]
وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ
بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ
نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيرًا (١١٥) .
وَمَنْ
يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى المشاققة: [المعاداة]
«٢» والمخالفة.
وتبيّن الهدى: ظهوره بأن يعلم صحة الرسالة، بالبراهين الدالة
على ذلك، ثم يفعل المشاققة.
وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ: أي
غير طريقهم، وهو ما هم عليه من دين الإسلام، والتمسك بأحكام رسوله ﵌، كما قال
تعالى: إِنَّما كانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ
وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا الآية
[النور: ٥١]، وقال تعالى: فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى
اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ الآية [النساء: ٥٩] .
وقال
عز من قائل: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ
بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ [النساء:
٦٥] الآية، إلى غير ذلك.
نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى: أي نجعله واليا لما تولاه
من الضلال، وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيرًا (١١٥) .
وقد استدل جماعة
من أهل العلم، بهذه الآية على حجية الإجماع، لقوله:
وَيَتَّبِعْ غَيْرَ
سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ، ولا حجة في ذلك عندي لأن المراد بغير سبيل المؤمنين هنا
هو الخروج من دين الإسلام إلى غيره، كما يفيده اللفظ ويشهد به السبب، فلا يصدق
على عالم من علماء هذه الملة الإسلامية، اجتهد في بعض مسائل دين الإسلام، فأدّاه
اجتهاده إلى مخالفة من بعصره من المجتهدين، فإنما رام السلوك في سبيل
(١)
انظر: تفسير القرطبي (٥/ ٣٧٤) .
(٢) ما بين [معقوفين] صحّف إلى (المعاورة)
وهو خطأ، والصواب المثبت من «فتح القدير» (١/ ٥١٥) .
المؤمنين،
وهو الدين القويم، والملة الحنفية، ولم يتبع غير سبيلهم «١» .
وأخرج الترمذي
والبيهقي في «الأسماء والصفات» عن ابن عمر قال: قال رسول الله ﵌: «لا يجمع الله
هذه الأمة على الضلالة أبدا، ويد الله على الجماعة، فمن شذ شذ في النار» «٢» .
وأخرجه
الترمذي والبيهقي أيضا عن ابن عباس مرفوعا «٣» .
[الآية الثانية
والثلاثون]
وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ
فِيهِنَّ وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ فِي يَتامَى النِّساءِ اللَّاتِي
لا تُؤْتُونَهُنَّ ما كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ
وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتامى بِالْقِسْطِ
وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِهِ عَلِيمًا (١٢٧) .
وَيَسْتَفْتُونَكَ
فِي النِّساءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ سبب نزول هذه الآية سؤال قوم من
الصحابة عن أمر النساء وأحكامهن في الميراث وغيره، فأمر الله نبيه أن يقول لهم:
اللَّهُ يُفْتِيكُمْ أي يبيّن لكم حكم ما سألتم عنه «٤» .
وهذه الآية رجوع
إلى ما افتتحت به السورة من أمر النساء، وكان قد بقيت لهم أحكام لم يعرفوها
فسألوا فقيل لهم: اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ.
وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي
الْكِتابِ معطوف على قوله: اللَّهُ يُفْتِيكُمْ.
والمعنى: والقرآن الذي يتلى
عليكم يفتيكم فيهن، والمتلو في الكتاب في معنى
(١) انظر: فتح القدير
للشوكاني (١/ ٥١٥) والقرطبي (٥/ ٣٨٦) .
(٢) إسناده ضعيف: رواه الترمذي
(٢١٦٧)، والبيهقي في «الأسماء» (ص ٣٢٢)، والحاكم (١/ ١١٥) وقال أبو عيسى: غريب من
هذا الوجه.
(٣) حديث صحيح: رواه الترمذي (٢١٦٦)، والبيهقي في «الأسماء» (ص
٣٢٢)، وقال أبو عيسى:
حسن صحيح.
قلت: قد وثق جماعة: «إبراهيم بن ميمون
منهم الحافظ ابن حجر» وللحديث شواهد صحيحة.
(٤) انظر: في سبب نزول هذه الآية
«البخاري» (٨/ ٢٣٩، ٢٩٥)، ومسلم (١٨/ ١٥٤، ١٥٥)، والطبري (٥/ ١٩٣) .
اليتامى
قوله: وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى [النساء: ٣] .
ويجوز
أن يكون قوله: وَما يُتْلى معطوفا على الضمير في قوله يُفْتِيكُمْ الراجع إلى
المبتدأ، لوقوع الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه بالمفعول والجار والمجرور.
ويجوز
أن يكون مبتدأ، وفي الكتاب خبره، على أن المراد به اللوح المحفوظ، وقد قيل في
إعرابه غير ما ذكرنا ولم نذكره لضعفه.
وقوله: فِي يَتامَى النِّساءِ على
الوجه الأول والثاني صلة، لقوله: يُتْلى، وعلى الوجه الثالث، بدل من قوله
فِيهِنَّ.
اللَّاتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ ما كُتِبَ وفرض لَهُنَّ من الميراث
وغيره.
وَتَرْغَبُونَ معطوف على قوله: لا تُؤْتُونَهُنَّ عطف جملة مثبتة على
جملة منفية، وقيل: حال من فاعل تُؤْتُونَهُنَّ.
وقوله: أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ
يحتمل أن يكون التقدير ترغبون في أن تنكحوهن لجمالهن، ويحتمل أن يكون التقدير
وترغبون في أن تنكحوهن لعدم جمالهن.
وقوله: وَالْمُسْتَضْعَفِينَ معطوف على
يَتامَى النِّساءِ، أي وما يتلى عليكم في المستضعفين مِنَ الْوِلْدانِ وهو قوله:
يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ [النساء: ١١] وقد كان أهل الجاهلية لا
يورّثون النساء، ولا من كان مستضعفا من الولدان، وإنما يورّثون الرجال القائمين
بالقتال وسائر الأمور «١» .
وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتامى بِالْقِسْطِ معطوف
على قوله: فِي يَتامَى النِّساءِ كالمستضعفين، أي وما يتلى عليكم في يتامى
النساء، وفي المستضعفين، وفي أن تقوموا لليتامى بالقسط: أي العدل. ويجوز أن يكون
في محل نصب، أي: ويأمركم أن تقوموا.
وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ في حقوق
المذكورين أو من شرّ فيه ففيه اكتفاء.
(١) انظر: معاني الفرّاء (١/ ٢٩٠)،
والزّجاج (٢/ ١٢٥)، والطبري (٥/ ١٩٥)، وزاد المسير (٢/ ٢١٦)، والمشكل (١/ ٢٠٨)،
والتبيان (١/ ١٩٦)، والنكت (١/ ٤٢٥)، والقرطبي (٥/ ٤٠٢) . [.....]
فَإِنَّ
اللَّهَ كانَ بِهِ عَلِيمًا (١٢٧) يجازيكم بحسب فعلكم.
[الآية الثالثة
والثلاثون] وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزًا أَوْ إِعْراضًا فَلا
جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ
وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ
اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (١٢٨) .
وَإِنِ امْرَأَةٌ: مرفوعة
بفعل مقدّر يفسره ما بعده، أي وإن خافت امرأة، بمعنى توقعت ما يخاف من زوجها.
وقيل:
معناه تيقنت، وهو خطأ.
مِنْ بَعْلِها نُشُوزًا أي دوام النشوز والترفع عليها
بترك المضاجعة، والتقصير في النفقة، أَوْ إِعْراضًا عنها بوجهه.
وقال
النحاس: الفرق بين النشوز والإعراض: أن النشوز التباعد، والإعراض أن لا يكلمها
ولا يأنس بها «١» .
وظاهر الآية أنها تجوز المصالحة عند مخافة نشوز أو
إعراض، والاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. والظاهر أنه يجوز التصالح بأي نوع
من أنواعه، إما بإسقاط النوبة، أو بعضها، أو بعض النفقة، أو بعض المهر.
فَلا
جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما هكذا قرأ الكوفيون: أَنْ يُصْلِحا،
وقراءة الجمهور أولى لأن قاعدة العرب أن الفعل إذا كان بين اثنين فصاعدا قيل:
تصالح الرجلان، أو القوم، لا أصلح، وصُلْحًا منصوب على أنه اسم مصدر، أو على أنه
مصدر محذوف الزوائد، أو منصوب بفعل محذوف، أي فيصلح حالهما صلحا، وقيل:
هو
منصوب على المفعولية «٢» .
(١) انظر: الطبري (٥/ ١٩٦)، والنكت (١/ ٤٢٦)،
وزاد المسير (٢/ ٢١٨) .
(٢) قال الأزهري: «قرأ الكوفيون: «يصلحا» بالضم
والتخفيف، وقرأ الباقون: «يصّالحا» أي يتصالحا، فأدغمت التاء في الصاد، وشدّدت،
ومن قرأ «يصلحا» فمعناه: إصلاحهما الأمر بينهما.
يقال: أصلحت ما بين القوم،
والمعنى فيهما: أن الزوجين يجتمعان على صلح يتفقان عليه، وذلك أن المرأة تكره
الفراق، فتدع بعض حقها من الفراش للزوج فيؤثر به غيرها من نسائه،
وَالصُّلْحُ
خَيْرٌ لفظ عام، يقتضي أن الصلح الذي تسكن إليه النفوس، ويزول به الخلاف، خير على
الإطلاق، أو خير من الفرقة، أو الخصومة، أو النشوز والإعراض، وهذه الجملة
اعتراضية.
[الآية الرابعة والثلاثون] وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا
بَيْنَ النِّساءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوها
كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُورًا
رَحِيمًا (١٢٩) .
وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا: أخبر ﷾ بنفي
استطاعتهم للعدل.
بَيْنَ النِّساءِ على الوجه الذي لا ميل فيه البتة، لما
جبلت عليه الطباع البشرية، من ميل النفس إلى هذه دون هذه، وزيادة هذه في المحبة
ونقصان هذه، وذلك بحكم الخلقة، بحيث لا يملكون قلوبهم، ولا يستطيعون توقيف أنفسهم
على التسوية.
ولهذا كان يقول الصادق المصدوق ﵌: «اللهم هذا قسمي فيما أملك،
فلا تلمني فيما لا أملك» .
رواه ابن أبي شيبة وأحمد وأبو داود والترمذي
والنسائي وابن ماجه وابن المنذر عن عائشة، وإسناده صحيح «١» .
وَلَوْ
حَرَصْتُمْ على العدل بينهنّ في الحبّ.
فَلا تَمِيلُوا إلى التي تحبونها في
القسم والنفقة.
كما فعلت سودة في تركها ليلتها لعائشة. (معاني القراءات ص
١٣٣) بتحقيقنا- ط دار الكتب العلمية- بيروت.
(١) حديث ضعيف: رواه أبو داود
(٢١٣٤)، والترمذي (١١٤٠)، والنسائي (٧/ ٦٤٢٦٣)، وابن ماجة (١٩٧١)، وأحمد (٦/
١٤٤)، وابن أبي شيبة في «المصنف» (٣/ ٤٤٦، ٤٤٧)، والحاكم (٢/ ١٨٧)، والبيهقي (٧/
٢٦٣، ٦٤٢)، والدارمي (٢/ ١٤٤)، وابن أبي حاتم في علله» (١/ ٤٢٥)، وابن حبان (١٠/
٥)، (٤٢٠٥) .
قلت: فقد صححه كلا من الحاكم والذهبي وابن كثير والأمير
الصنعاني.
ولكن أهل الجرح والتعديل من أئمة المحققين المتقدمين قد أعلّوه،
وعليه أنه حديث مرسل. وتفصيل ذلك في «الإرواء» (٧/ ٨٢) (٢٠١٨) .
ولمّا
كانوا لا يستطيعون ذلك، ولو حرصوا عليه وبالغوا فيه، نهاهم الله ﷿ أن يميلوا
كُلَّ الْمَيْلِ لأن ترك ذلك، وتجنب الجور كل الجور في وسعهم، وداخل تحت طاقتهم،
فلا يجوز لهم أن يميلوا إلى إحداهن عن الأخرى كل الميل، كما قال: فَتَذَرُوها: أي
الأخرى، كَالْمُعَلَّقَةِ التي ليست ذات زوج، ولا مطلقة يشبهها بالشيء الذي هو
معلق غير مستقر على شيء، لا في الأرض ولا في السماء «١» .
[الآية الخامسة
والثلاثون]
وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ
آياتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ بِها فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ
حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ
جامِعُ الْمُنافِقِينَ وَالْكافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا (١٤٠) .
وَقَدْ
نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ: الخطاب لجميع من أظهر الإيمان من مؤمن ومنافق
لأن من أظهر الإيمان فقد لزمه أن يمتثل ما أنزل الله.
وقيل: إنه خطاب
للمنافقين فقط، كما يفيده التشديد والتوبيخ.
أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ
اللَّهِ يُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ بِها: أي إذا سمعتم الكفر والاستهزاء بآيات
الله تعالى.
فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ: أي مع المستهزئين ما داموا كذلك.
حَتَّى
يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ أي غير حديث الكفر والاستهزاء بها، والذي أنزله
الله عليهم في الكتاب هو قوله: وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا
فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ [الأنعام: ٦٨] .
وقد
كان جماعة بمكة من الداخلين في الإسلام يقعدون مع المشركين واليهود، حال سخريتهم
بالقرآن، واستهزائهم به، فنهوا عن ذلك «٢» .
قال ابن عباس: دخل في هذه الآية
كل محدث ومبتدع في الدين إلى يوم القيامة.
(١) انظر: الزجاج (٢/ ١٢٩)،
والطبري (٥/ ٢٠١)، والنكت (١/ ٤٢٧)، وزاد المسير (٢/ ٢٢٠)، والقرطبي (٥/ ٤١٣)،
وفتح القدير (١/ ٥٢١، ٥٢٣) .
(٢) انظر: الطبري (٥/ ٣٢٩، ٣٣٠)، والقرطبي (٥/
٤١٧، ٤١٨)، والدرر للسيوطي (٢/ ٧١٨) .
وكذا قال الشوكاني في
«فتح القدير» «١»: إن في هذه الآية- باعتبار عموم لفظها، الذي هو المعتبر، دون
خصوص السبب- دليلا على اجتناب كل موقف يخوض فيه أهله، بما يفيد النقص والاستهزاء
للأدلة الشرعية، كما يقع كثيرا من أسراء التقليد، الذين استبدلوا آراء الرجال
بالكتاب والسنة، ولم يبق في أيديهم سوى: قال إمام مذهبنا كذا! وقال فلان من
أتباعه بكذا! وإذا سمعوا من يستدل على تلك المسألة بآية قرآنية، أو بحديث نبوي،
سخروا منه، ولم يرفعوا إلى ما قاله رأسا، ولا بالوا به أي مبالاة، وظنوا أنه قد
جاء بأمر فظيع، وخطب شنيع، وخالف مذهب إمامهم الذي نزلوه منزلة معلم الشرائع! بل
بالغوا في ذلك، حتى جعلوا رأيه الفائل «٢» واجتهاده الذي هو عن منهج الحق مائل،
مقدّما على الله تعالى، وعلى كتابه وعلى رسوله، فإنّا لله وإنا إليه راجعون، مما
صنعت هذه المذاهب بأهلها، والذين انتسب هؤلاء المقلدة إليهم برآء من فعلهم فإنهم
قد صرحوا في مؤلفاتهم، بالنهي عن تقليدهم كما أوضحنا ذلك في رسالتنا المسماة ب
«القول المفيد في حكم التقليد»، وفي مؤلفنا المسمى ب «أدب الطلب ومنتهى الأرب»،
اللهم انفعنا بما علمتنا، واجعلنا من [المتقيدين] «٣» بالكتاب والسنة، وباعد
بيننا وبين آراء الرجال المبنية على شفا جرف هار، يا مجيب السائلين. انتهى.
إِنَّكُمْ
إِذًا مِثْلُهُمْ تعليل للنهي، أي إنكم إذا فعلتم ذلك، ولم تنتهوا، فأنتم مثلهم
في الكفر، واستتباع العذاب، وقيل: هذه المماثلة ليست في جميع الصفات، ولكنه إلزام
شبه بحكم الظاهر كما في قول القائل:
وكل قرين بالمقارن يقتدي وهذه الآية
محكمة عند جميع أهل العلم، إلا ما يروى عن الكلبي فإنه قال: هي منسوخة بقوله
تعالى: وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ، وهو مردود
«٤»، فإن من التقوى اجتناب مجالس هؤلاء الذين يكفرون بآيات الله، ويستهزؤون بها،
وفي الأنعام نحوها «٥» .
(١) انظر: فتح القدير (١/ ٥٢٦) .
(٢) أي
الضعيف. [الصحاح: فأل] .
(٣) في المطبوعة (المقتدين) والمثبت من فتح القدير
(١/ ٥٢٦) .
(٤) قال ابن أبي حاتم في «الجرح» (٧/ ٢٧١): «تفسير الكلبي باطل»
.
(٥) آية رقم (٦٨) .
قال أهل العلم: وهذا يدل على أن
الرضى بالكفر كفر، وكذا من رضي بمنكر، أو خالط أهله، كان في الإثم بمنزلتهم إذا
رضي به، وإن لم يباشره ولو جلس خوفا وتقية، مع كمال سخطه لذلك، كان الأمر أهون من
الأول «١» .
[الآية السادسة والثلاثون] الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ
فَإِنْ كانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ
كانَ لِلْكافِرِينَ نَصِيبٌ قالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ
وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ
الْقِيامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ
سَبِيلًا (١٤١) .
وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى
الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا (١٤١) هذا في يوم القيامة، إذا كان المراد بالسبيل النصر
والغلب، أو في الدنيا إن كان المراد به الحجة.
قال ابن عطية: قال جميع أهل
التأويل: إن المراد بذلك يوم القيامة.
قال ابن العربي: وهذا ضعيف لعدم فائدة
الخبر فيه، وسببه توهم من توهم أن آخر الكلام يرجع إلى أوله، يعني قوله:
فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وذلك يسقط فائدته، أو يكون
تكرار هذا معنى كلامه.
وقيل: المعنى أن الله لا يجعل للكافرين سبيلا على
المؤمنين، يمحو به دولتهم بالكلية، ويذهب آثرهم، ويستبيح بيضتهم، كما يفيده
الحديث الثابت في الصحيح «٢» .
وقيل: إنه سبحانه لا يجعل للكافرين سبيلا على
المؤمنين، ما داموا عاملين بالحق، غير راضين بالباطل، ولا تاركين للنهي عن
المنكر، كما قال تعالى:
(١) انظر: القرطبي (٥/ ٤١٨)، وابن كثير (١/ ٥٨٠)
.
(٢) الحديث الصحيح الذي قصده المصنف هو ما رواه مسلم (١٨/ ١٣، ١٤) عن
ثوبان قال: قال رسول الله ﵌: «إن الله زوى لي الأرض، فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن
أمتي سيبلغ ملكها ما روي لي منها، وأعطيت الكنزين: الأحمر والأبيض، وإني سألت ربي
لأمتي: أن لا يهلكها بسنة بعامّة، وأن لا يسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم، فيستبيح
بيضتهم، وإن ربي قال: يا محمد إني إذا قضيت قضاء فإنه لا يرد، وإني أعطيتك لأمتك
أن لا أهلكهم بسنة عامة، وأن أسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم ...» الحديث.
وَما
أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ [الشورى: ٣٠] قال ابن
العربي: وهذا نفيس جدا.
وقيل: لا يجعل الله تعالى لهم عليهم سبيلا شرعا، فإن
وجد فبخلاف الشرع، فإن شريعة الإسلام ظاهرة إلى يوم القيامة. هذا خلاصة ما قاله
أهل العلم في هذه الآية «١» .
وهي صالحة للاحتجاج بها على كثير من المسائل،
كعدم إرث الكافر من المسلم، وعدم تملكه مال المسلم إذا استولى عليه، وعدم قتل
المسلم بالذمي.
[الآية السابعة والثلاثون]
لا يُحِبُّ اللَّهُ
الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكانَ اللَّهُ سَمِيعًا
عَلِيمًا (١٤٨) .
لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ:
نفي الحب كناية عن البغض.
قرأ الجمهور: إِلَّا مَنْ ظُلِمَ على البناء
للمجهول، وقرأ زيد بن أسلم وابن أبي إسحاق والضحاك وابن عباس وابن جبير وعطاء بن
السائب على البناء للمعلوم. وهو على القراءة الأولى استثناء متصل بتقدير مضاف
محذوف، أي إلا جهر من ظلم.
وقيل: إنه على القراءة الأولى أيضا منقطع: أي لكن
من ظلم فله أن يقول ظلمني فلان مثلا «٢» .
واختلف أهل العلم في كيفية الجهر
بالسوء الذي يجوز لمن ظلم، فقيل: هو أن يدعو على من ظلمه، وقيل: لا بأس أن يجهر
بالسوء من القول على من ظلمه، بأن يقول: فلان ظلمني، أو هو ظالم، أو نحو ذلك.
وقيل معناه إلا من أكره على أن يجهر بسوء من القول من كفر أو نحوه فهو مباح.
والآية
على هذا في الإكراه، وكذا قال قطرب، قال: ويجوز أن يكون على البدل،
(١) انظر
هذه الأقوال في: فتح القدير (١/ ٥٢٧، ٥٢٨) . [.....]
(٢) قراءة العشر بفتح
الظاء بمعنى: ما يفعل الله بعذابكم إلا من ظلم، والمعنى على قراءة الجمهور:
إلا
أنه يدعو المظلوم على من ظلمه، أو أن ينتصر المظلوم من ظالمه، أو أن يخبر بظلم من
ظلمه، واختلف في الاستثناء هنا: أهو منقطع! وهو الأرجح أم متصل أما على قراءة
الفتح فالاستثناء منقطع. ينظر: الفراء (١/ ٢٩٣)، والزجاج (٢/ ١٣٧)، والمشكل (١/
٢١٠)، والتبيان (١/ ٢٠٠) .
كأنه قال: لا يحب الله إلا من ظلم:
أي لا يحب الظالم، بل يحب المظلوم.
والظاهر من الآية: أنه يجوز لمن ظلم أن
يتكلم بالكلام الذي هو من السوء في جانب من ظلمه، ويؤيده الحديث الثابت في
«الصحيح» بلفظ: «ليّ الواجد ظلم، يحل عرضه وعقوبته» «١» .
وأما على القراءة
الثانية، فالاستثناء منقطع، أي إلا من ظلم في فعل أو قول فاجهروا له بالسوء من
القول، في معنى النهي عن فعله، والتوبيخ له.
وقال قوم: معنى الكلام لا يحب
الله أن يجهر أحد بالسوء من القول، لكن من ظلم فإنه يجهر بالسوء ظلما وعدوانا وهو
ظالم في ذلك، وهذا شأن كثير من الظلمة فإنهم- مع ظلمهم- يستطيلون بألسنتهم على من
ظلموه، وينالون من عرضه.
وقال الزجاج: يجوز أن يكون المعنى، إلا من ظلم فقال
سوءا فإنه ينبغي أن يأخذوا على يديه «٢» .
[الآية الثامنة والثلاثون]
يَسْتَفْتُونَكَ
قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ
وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُها إِنْ لَمْ يَكُنْ
لَها وَلَدٌ فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثانِ مِمَّا تَرَكَ
وَإِنْ كانُوا إِخْوَةً رِجالًا وَنِساءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ
الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ
شَيْءٍ عَلِيمٌ (١٧٦) .
يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي
الْكَلالَةِ: قد تقدم الكلام في الكلالة.
(١) حديث صحيح: رواه أبو داود
(٣٦٢٨)، والنسائي (٧/ ٣١٦، ٣١٧)، وابن ماجة وأحمد (٤/ ٢٢٢، ٣٨٨، ٣٨٩)، والحاكم
(٤/ ١٠٢)، والطبراني (٧٢٤٩)، (٧٢٥٠)، وابن حبان (١١/ ٤٨٦) (٥٠٨٩)، وقال الحاكم:
صحيح، ووافقه الذهبي. ورواه البخاري معلقا (٥/ ٦٢)، وقال الحافظ: وصله أحمد
وإسحاق في «مسنديهما» وأبو داود والنسائي من حديث عمرو بن الشريد بن أوس الثقفي
عن أبيه بلفظه، وإسناده حسن، وذكر الطبراني: «أنه لا يروى إلا بهذا الإسناد» .
(٢)
لحديث أبي بكر الصحيح الذي رواه أبو داود (٤٣٣٨)، والترمذي (٢١٦٨، ٣٠٥٧)، وابن
ماجة (٤٠٠٥)، وأحمد (١، ١٦، ٢٩، ٣٠، ٥٣) عن أبي بكر مرفوعا. وسيأتي تخريجه عند
تفسير آية (١٠٥) من المائدة.
إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ: أي أن يهلك
امرؤ هلك، كما تقدم في قوله: وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ [النساء: ١٢٨] .
لَيْسَ
لَهُ وَلَدٌ: إما صفة لامرىء أو حال، ولا وجه للمنع من كونه حالا، والولد يطلق
على الذكر والأنثى، واقتصر على عدم الولد هنا، مع أن عدم الوالد أيضا معتبر في
الكلالة، اتكالا على ظهور ذلك؟
قيل: والمراد هنا بالولد الابن، وهو أحد
معنيي المشترك لأن البنت لا تسقط الأخت.
وَلَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ ما
تَرَكَ عطف على قوله: لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ، والمراد بالأخت هنا هي الأخت لأبوين أو
لأب [لا] «١» لأم، فإن فرضها السدس، كما ذكر سابقا «٢» .
وقد ذهب جمهور
العلماء من الصحابة والتابعين، ومن بعدهم، إلى أن الأخوات لأبوين أو أب عصبة
للبنات، وإن لم يكن معهن أخ.
وذهب ابن عباس إلى أن الأخوات لا يعصبن البنات،
وإليه ذهب داود الظاهري وطائفة، وقالوا: إنه لا ميراث للأخت لأبوين، أو لأب مع
البنت، واحتجوا بظاهر هذه الآية فإنه جعل عدم الولد المتناول للذكر والأنثى، قيدا
في ميراث الأخت وهذا الاستدلال صحيح، لو لم يرد في السنة ما يدل على ثبوت ميراث
الأخت مع البنت، وهو ما ثبت في «الصحيح» أن معاذا قضى على عهد رسول الله ﵌ في بنت
وأخت، فجعل للبنت النصف، وللأخت النصف «٣» .
وثبت في «الصحيح» أيضا أن النبي
﵌ قضى في بنت، وبنت ابن، وأخت، فجعل للبنت النصف، ولبنت الابن السدس، وللأخت
الباقي «٤» .
(١) ما بين [معقوفين] وقع (إلا) في المطبوعة وهو مخالف للصواب،
وانظر: فتح القدير (١/ ٥٤٣) .
(٢) عند الآية (١٢) من سورة النساء.
(٣)
حديث صحيح: رواه البخاري (١٢/ ١٥، ٢٤) .
وانظر: مغني المحتاج (٣/ ١٠)،
والروضة (٥/ ١١)، والإقناع (٣/ ٨٥)، والمغني (٦/ ١٧٦)، وبداية المجتهد (٢/ ٣٤٣)،
والاختيار للموصلي (٤/ ١٦٣)، وحاشية البقري على المارديني (ص ١٩) .
وشرح
الرحبية للمارديني (ص ٦١) ط. قرطية، ودار الكتب العلمية- كلاهما بتحقيقنا.
(٤)
حديث صحيح: رواه البخاري (١٢/ ١٧، ٢٤)، وأبو داود (٢٨٩٠)، والترمذي (٢١٧٣)،
وأحمد.
فكانت هذه السنة مقتضية لتفسير الولد بالابن دون
البنت.
وَهُوَ أي الأخ يَرِثُها أي الأخت إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ ذكر،
وإن كان المراد بإرثه لها حيازته لجميع تركتها، وإن كان المراد ثبوت ميراثه لها
في الجملة- أعم من أن يكون كلا أو بعضا- صح تفسير الولد بما يتناول الذكر
والأنثى.
واقتصر سبحانه على نفي الولد فقط مع كون الأب يسقط الأخ أيضا، لأن
المراد بيان سقوط الأخ مع الولد فقط هنا، وأما سقوطه مع الابن فقد تبين بالسنة،
كما ثبت في «الصحيح» من قوله ﵌: «ألحقوا الفرائض بأهلها، فما بقي فالأولى رجل
ذكر» «١» والأب أولى من الأخ.
فَإِنْ كانَتَا أي فإن كان من يرث بالأخوة
اثْنَتَيْنِ والعطف على الشرطية السابقة، والتأنيث والتثنية، وكذلك الجمع في
قوله: وَإِنْ كانُوا إِخْوَةً باعتبار الخبر، فَلَهُمَا الثُّلُثانِ مِمَّا
تَرَكَ الأخ إن لم يكن له ولد كما سلف، وما فوق الاثنتين من الأخوات يكون لهن
الثلثان بالأولى مع أن نزول الآية كان في جابر- وقد مات ﵁ عن أخوات سبع أو تسع
«٢» .
وَإِنْ كانُوا: أي من يرث بالأخوة إِخْوَةً أي وأخوات، فغلب الذكور،
أو فيه اكتفاء بدليل قوله: رِجالًا وَنِساءً أي مختلطين ذكورا وإناثا
فَلِلذَّكَرِ: منهم، حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ: تعصيبا.
وقد وضحنا الكلام-
خلافا واستدلال وترجيحا- في شأن الكلالة، في أول هذه السورة، فلا نعيد «٣» .
(١/
٣٨٩)، وابن ماجة (٢٧٢١)، عن ابن مسعود مرفوعا.
وانظر: إجماع ابن المنذر (ص
٦٨)، والمغني (٦/ ١٧٤)، والمبسوط (٢٩/ ١٥٢)، ومراتب ابن حزم (ص ١٠٢)، والإقناع
(٣/ ٨٨)، وشرح الرحبية (ص ٦٥) بتحقيقنا.
(١) صحيح: رواه البخاري (١٢/ ١١،
١٦، ١٨)، ومسلم (١١/ ٥٢، ٥٣)، وأبو داود (٢٨٩٥)، والترمذي (٢٠٩٠)، وابن ماجة
(٢٧٤٠)، وأحمد (١/ ٢١٣) عن ابن عباس مرفوعا.
وانظر: شرح الرحبية لسبط
المارديني (ص ٧٣، ٧٤)، بتحقيقنا- ط. قرطبة، ودار الكتب العلمية.
(٢) حديث
صحيح: رواه البخاري (١٢/ ٢٥)، ومسلم (١١/ ٥٤، ٥٦)، عن جابر بن عبد الله
مرفوعا.
(٣) عند الآية (١٢) .
سورة المائدة [مائة وعشرون آية]
قال القرطبي: هي مدنية بالإجماع «١» .
فائدة: قال [أبو] «٢» ميسرة:
إن الله سبحانه، أنزل في هذه السورة ثمانية عشر حكما، لم ينزلها في غيرها من سور
القرآن، وهي قوله تعالى: وَالْمُنْخَنِقَةُ إلى قوله:
إِذا حَضَرَ
أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ. انتهى.
[الآية الأولى]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ إِلَّا ما
يُتْلى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ
يَحْكُمُ ما يُرِيدُ (١) .
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا: هذه الآية التي
افتتح الله بها هذه السورة، إلى قوله: إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ (١)
فيها من البلاغة ما تتقاصر عنده القوى البشرية، مع شمولها لأحكام عدة، منها
الوفاء بالعقود، ومنها تحليل بهيمة الأنعام، ومنها استثناء ما سيتلى مما لا يحل،
ومنها تحريم الصيد على المحرم، ومنها إباحة الصيد لمن ليس بمحرم.
وقد حكى
النقاش: أن أصحاب الفيلسوف الكندي قالوا له: أيها الحكيم، اعمل لنا مثل هذا
القرآن. فقال: نعم أعمل مثل بعضه، فاحتجب أياما كثيرة، ثم خرج فقال:
والله
ما أقدر، ولا يطيق هذا أحد، إني فتحت المصحف، فخرجت سورة المائدة، فنظرت فإذا هو
قد نطق بالوفاء، ونهى عن النكث، وحلل تحليلا عاما، ثم استثنى بعد استثناء، ثم
أخبر عن قدرته، وحكمته في سطرين، ولا يقدر أحد أن يأتي بهذا «٣» .
(١) انظر
في «تفسيره» (٦/ ٣٠) .
(٢) ما بين [معقوفين] سقط من المطبوعة.
(٣)
انظر: تفسير القرطبي (٦/ ٣١، ٣٢)، فتح القدير للشوكاني (٢/ ٤)، تفسير ابن عطية
(٤/ ٢١٩) [.....]
أَوْفُوا بِالْعُقُودِ: يقال: أوفى ووفى، وقد
جمع بينهما الشاعر فقال:
أمّا ابن طوف فقد أوفى بذمّته ... كما وفى بقلاص
النّجم حاديها
والعقود: العهود، وأصل العقود الربط، وأحدها عقد، يقال: عقدت
الحبل والعهد، فهو يستعمل في الأجسام والمعاني، وإذا استعمل في المعاني- كما هنا-
أفاد أنه شديد الإحكام، وقوي التوثيق.
وقيل: المراد بالعقود هي التي عقدها
الله على عباده، وألزمهم بها من الأحكام.
وقيل: هي العقود التي يعقدونها
بينهم من عقود المعاملات، والأولى شمول الآية للأمرين جميعا، ولا وجه لتخصيص
بعضها دون بعض.
قال الزجاج: أوفوا بعقد الله عليكم، أو بعقدكم بعضكم على
بعض. انتهى.
والعقد الذي يجب الوفاء به، ما وافق كتاب الله وسنة رسوله ﵌،
فإن خالفهما فهو رد، لا يجب الوفاء به، ولا يحل «١» .
أُحِلَّتْ لَكُمْ
بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ البهيمة: اسم لكل ذي أربع، سمّيت بذلك لإبهامها من جهة نقص
نطقها وفهمها وعقلها، ومنه باب مبهم، أي مغلق، وليل بهيم، وبهيمة للشجاع الذي لا
يدري من أين يؤتى، وحلقة مبهمة لا يدرى أين طرفاها.
والأنعام: اسم للإبل
والبقر والغنم، سمّيت بذلك لما في مشيها من اللين.
وقيل: بهيمة الأنعام
وحشيّها كالظباء، وبقر الوحش، والحمير الوحشية، وغير ذلك. حكاه ابن جرير الطبري
عن قوم، وحكاه غيره عن السدي والربيع وقتادة والضحاك «٢» .
فقد ذكروا هذه
الحكاية.
(١) قال الضحاك: العقود هنا: حلف الجاهلية، وقال أيضا: هي العهود،
وقال: ما أحل الله وحرّم وما أخذ الله من الميثاق على من أقرّ بالإيمان بالنبي
والكتاب أن يوفوا بما أخذ الله عليهم من الفرائض من الحلال والحرام. وانظر
الأقوال في هذه الآية في: زاد المسير (٢/ ٢٦٧)، وأحكام القرآن للمعافري (٢/ ٥٢٤)،
وتفسير ابن كثير (٢/ ٣)، وتفسير ابن عطية (٤/ ٣١٣، ٣١٥) .
(٢) وقال الضحاك
أيضا: هي الأنعام مطلقا وانظر أقوالهم في «الطبري» (٦/ ٣٤)، وأحكام ابن العربي
(٢/ ٥٢٩)، وابن عطية (٤/ ٣١٦)، والقرطبي (٦/ ٣٧)، ابن كثير (٢/ ٥)، وزاد المسير
(٢/ ٢٦٨)، والدر المنثور (٢/ ٢٥٣)، والمغني (١١/ ٥١) .
قال ابن
عطية: وهذا قول حسن! وذلك أن الأنعام هي الثمانية الأزواج، وما يضاف إليها من
سائر الحيوانات، يقال له: أنعام مجموعة معها، وكأن المفترس- كالأسد وكل ذي ناب-
خارج عن حد الأنعام، فبهيمة الأنعام هي الراعي ذوات الأربع.
وقيل: بهيمة
الأنعام ما لم يكن صيدا لأن الصيد يسمى وحشيا لا بهيمة.
وقيل: بهيمة الأنعام
الأجنّة التي تخرج عند الذبح من بطون الأنعام فهي تؤكل من دون [ذكاة] «١» .
وعلى
القول الأول- أعني تخصيص الأنعام بالإبل والبقر والغنم- تكون الإضافة بيانية،
ويلحق بها ما يحل مما هو خارج عنها بالقياس، بل وبالنصوص التي في الكتاب والسنة،
كقوله تعالى: قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلى طاعِمٍ
يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً ... الآية، [الأنعام: ١٤٥] .
وقوله
﵌: «يحرم كل ذي ناب من السبع، ومخلب من الطير» «٢»، فإنه يدل بمفهومه على أن ما
عداه حلال وكذلك سائر النصوص الخاصة بنوع، كما في كتب السنة المطهرة.
إِلَّا
ما يُتْلى عَلَيْكُمْ: استثناء من قوله: أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ
أي إلا مدلول ما يتلى عليكم فإنه ليس بحلال.
والمتلوّ: هو ما نص الله على
تحريمه، نحو قوله: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ ... الآية [المائدة: ٣]،
وذلك عشرة أشياء، أولها الميتة، وآخرها المذبوح على النّصب، ويلحق به ما صرحت
السّنة بتحريمه، وهذا الاستثناء يحتمل أن يكون المراد به، إلا ما يتلى عليكم
الآن، ويحتمل أن يكون المراد به في مستقبل الزمان، فيدل على جواز تأخير البيان عن
وقت الحاجة، ويحتمل الأمرين جميعا.
غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ: ذهب البصريون
إلى أن قوله هذا استثناء آخر من قوله:
بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ والتقدير: أحلت
لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم، إلا الصيد وأنتم
(١) ما بين [معقوفين]
صحّف إلى (زكاة) بالزّاي وهو خطأ واضح، والصواب ما أثبتناه.
(٢) حديث صحيح:
رواه مسلم (١٣/ ٨٣) . عن ابن عباس مرفوعا.
ورواه البخاري (٩/ ٦٥٧)، (١٠/
٢٤٩)، ومسلم (١٣/ ٨١، ٨٣) عن أبي ثعلبة الخشني مرفوعا، نحوه.
محرمون،
وقيل الاستثناء الأول من بهيمة الأنعام، والثاني من الاستثناء الأول.
وردّ
بأن هذا يستلزم إباحة الصيد في حال الإحرام لأنه مستثنى من المحظور، فيكون مباحا
«١» .
وَأَنْتُمْ حُرُمٌ: في محل نصب على الحال، ومعنى هذا التقييد ظاهر عند
من يخص بهيمة الأنعام بالحيوانات الوحشية البرية، التي يحل أكلها كأنه قال: أحل
لكم صيد البر، إلا في حال الإحرام.
وأما على قول من يجعل الإضافة بيانية
فالمعنى: أحلت لكم بهيمة هي الأنعام- حل تحريم الصيد عليكم بدخولكم في الإحرام-
لكونكم محتاجين إلى ذلك. فيكون المراد بهذا التقييد الامتنان عليهم بتحليل ما عدا
ما هو محرم عليهم في تلك الحال.
والمراد بالحرم من هو محرم بالحج أو العمرة
أو بهما، ويسمى محرما لكونه يحرم عليه الصيد والطيب والنساء، وهكذا وجه تسمية
الحرام حراما، والإحرام إحراما «٢» .
[الآية الثانية] يا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ وَلَا
الْهَدْيَ وَلَا الْقَلائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ يَبْتَغُونَ
فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوانًا وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا وَلا
يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أَنْ
تَعْتَدُوا وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى
الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (٢)
.
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ: جمع شعيرة،
على وزن فعلية.
قال ابن الفارس: ويقال للواحدة شعارة وهو أحسن، ومنه الإشعار
للهدي «٣» .
والمشاعر: المعالم، واحدها مشعر، وهي المواضع التي قد أشعرت
بالعلامات.
(١) انظر: توجيه ابن عطية في «المحرر» (٤/ ٢١٧)، وتعقيب ابن حبان
عليه في «البحر المحيط» ومناقشته له مناقشة طويلة.
(٢) انظر: تفسير ابن
عطيّة (٤/ ٣١٨) .
(٣) انظر: معجم مقاييس اللغة (شعر) ط. بيروت.
قيل:
المراد بها هنا جميع مناسك الحج، وقيل: الصفا والمروة والهدي والبدن.
والمعنى
على هذين القولين لا تحلوا هذه الأمور، بأن يقع الإخلال بشيء منها، أو بأن تحولوا
بينها وبين من أراد فعلها. ذكر سبحانه النهي عن أن يحلوا شعائر الله عقب ذكره
تحريم صيد المحرم.
وقيل: المراد بالشعائر هنا فرائض الله، ومنه: وَمَنْ
يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللَّهِ [الحج: ٣٢]، وقيل: هي حرمات الله. ولا مانع من حمل
ذلك على الجميع، اعتبارا بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، ولا بما يدل عليه
السياق.
وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ المراد به الجنس، فيدخل في ذلك جميع
الأشهر الحرم، وهي أربعة: ذو القعدة وذو الحجة ومحرم ورجب، أي تحلوها بالقتال
فيها، وقيل المراد هنا شهر الحج فقط «١» .
وَلَا الْهَدْيَ: هو ما يهدى إلى
بيت الله، من ناقة، أو بقرة، أو شاة، الواحدة هدية، نهاهم الله سبحانه عن أن
يحلوا حرمة الهدي، بأن يأخذوه على صاحبه، أو يحولوا بينه وبين المكان الذي يهدي
إليه، وعطف الهدي على الشعائر- مع دخوله تحتها- لقصد التنبيه على مزيد خصوصيته،
والتشديد في شأنه.
وَلَا الْقَلائِدَ: جمع قلادة، وهي ما يقلّد به الهدي من
نعل أو نحوه، وإحلالها أن تؤخذ غصبا، وفي النهي عن إحلال القلائد تأكيد للنهي عن
إحلال الهدي، وقيل:
المراد بالقلائد، المقلدات به، فيكون عطفه على الهدي
لزيادة التوصية بالهدي، والأول أولى، وقيل: المراد بالقلائد ما كان الناس
يتقلدونه، فهو على حذف مضاف، أي ولا أصحاب القلائد.
وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ
الْحَرامَ: أي قاصديه، من قولهم أممت كذا أي قصدته. وقرأ الأعمش: ولا آمّي البيت
الحرام بالإضافة، والمعنى: لا تمنعوا من قصد البيت الحرام، بحج أو عمرة، أو ليسكن
فيه. وقيل: إن سبب نزول هذه الآية، أن المشركين كانوا يحتجون ويعتمرون ويهدون،
فأراد المسلمون أن يغيروا عليهم فنزل:
(١) قال القاضي أبو محمد: «والأظهر
عندي أن الشهر الحرام أريد به رجب ليشتهر أمره، لأنه كان مختصا بقريش، ثم فشا في
مضر. اه. وهذا قول الطبري أيضا، وانظر: المحرر الوجيز (٤/ ٣٢١) .
يا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ إلى آخر الآية «١»،
فيكون ذلك منسوخا بقوله: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ
[التوبة: ٥] وقوله: فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا
[التوبة: ٢٨]، وقوله ﵌: «لا يحجن بعد العام مشرك» «٢» .
وقال قوم الآية
محكمة وهي في المسلمين «٣» .
يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ
وَرِضْوانًا: جملة حالية من الضمير المستتر في آمِّينَ قال جمهور المفسرين: معناه
يبغون الفضل والرزق والأرباح في التجارة، ويبتغون- مع ذلك- رضوان الله، وقيل: كان
منهم من يطلب التجارة، ومنهم من يبتغي بالحج رضوان الله، ويكون هذا الابتغاء
للرضوان- بحسب اعتقادهم وفي ظنهم- عند من جعل الآية في المشركين، وقيل: المراد
بالفضل هنا الثواب، لا الأرباح في التجارة «٤» .
وَإِذا حَلَلْتُمْ
فَاصْطادُوا: هذا تصريح لما أفاده مفهوم: وَأَنْتُمْ حُرُمٌ، أباح لهم الصيد، بعد
أن حظره عليهم لزوال السبب الذي حرّم لأجله، وهو الإحرام «٥» .
وَلا
يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ «٦»: قال ابن فارس: جرم وأجرم ولا جرم، بمعنى
قولك: ولا بد ولا محالة، وأصلها من جرم أي كسب، وقيل: المعنى ولا يحملنكم.
قاله
الكسائي وثعلب. وهو يتعدى إلى مفعولين، يقال: جرمني كذا على بغضك، أي حملني
عليه.
وقال أبو عبيدة والفراء: معنى وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ لا يكسبنكم بغض
قوم أن
(١) انظر تفسير الطبري.. (٦/ ٣٤)، والدر المنثور (٣/ ٧) .
(٢)
حديث صحيح: رواه البخاري (١/ ٤٧٧، ٤٧٨)، (٣/ ٤٨٣)، ومسلم (٩/ ١١٥، ١١٦) عن أبي
هريرة مرفوعا.
قال ابن عطية: «فكل ما في هذه الآية مما يتصور في مسلم حاج
فهو محكم، وكل ما كان منها في الكفّار فهو منسوخ وقرأ ابن مسعود وأصحابه: [ولا
آمّي البيت] بالإضافة إلى البيت» وانظر: المحرر (٤/ ٣٢٥)، والقرطبي (٦/ ٤٣، ٤٤)
.
(٣) قال ابن عطية: «فكل ما في هذه الآية مما يتصور في مسلم حاج فهو محكم،
وكل ما كان منها في الكفّار فهو منسوخ وقرأ ابن مسعود وأصحابه: [ولا آمّي البيت]
بالإضافة إلى البيت» وانظر:
المحرر (٤/ ٣٢٥)، والقرطبي (٦/ ٤٣، ٤٤) .
(٤)
انظر: تفسير ابن عطية (٥/ ٣٢٥) .
(٥) فصل المصنف هذا الموضع عن سابقه، وقد
وصلناه لتمام السياق ووضوح اتصاله. [.....]
(٦) انظر: الهداية للمرغيناني
(٤/ ١٥٣٩)، وتفسير ابن عطية (٤/ ٣٢٦)، البحر المديد لابن عجيبة (٢/ ٥) .
تعتدوا
الحق إلى الباطل، [والعدل] «١» إلى الجور.
والجريمة والجارم: بمعنى الكاسب،
والمعنى: لا يحملنكم يغض قوم على الاعتداء عليهم، أو لا يكسبنكم بغضهم اعتداءكم
على الحق إلى الباطل. ويقال: جرم يجرم جرما إذا قطع، قال علي بن عيسى الرماني:
وهو الأصل.
فجرم بمعنى حمل على الشيء لقطعه من غيره، وجرم بمعنى كسب
لانقطاعه، ولا جرم بمعنى حق لأن الحق يقطع عليه.
قال الخليل: معنى لا جرم أن
لهم النار: لقد حق أن لهم النار.
وقال الكسائي: جرم وأجرم لغتان بمعنى واحد
أي اكتسب.
وقرأ ابن مسعود: ولا يجرمنكم بضم الياء، والمعنى لا يكسبنكم، ولا
يعرف البصريون أجرم، وإنما يقولون: جرم لا غير «٢» .
والشنآن: البغض، وقريء
بفتح النون وإسكانها، يقال شنيت الرجل أشنوه شنا ومشنا وشنآنا، كل ذلك إذا
أبغضته. وشنآن هنا مضاف إلى المفعول، أي بغض قوم منكم لا بغض قوم لكم «٣» .
أَنْ
صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أَنْ تَعْتَدُوا بفتح الهمزة مفعول لأجله،
أي لأن صدوكم. وقرأ أبو عمرو وابن كثير بكسر الهمزة على الشرطية، وهو اختيار أبو
عبيد.
وقرأ الأعمش أن يصدّوكم، والمعنى على قراءة الشرطية لا يحملنكم بغضهم
أن وقع منهم الصد لكم عن المسجد الحرام على الاعتداء عليهم «٤» .
(١) في
المطبوع (فالعدل) وهو خطأ واضح، والصواب ما أثبت كما في «فتح القدير» (٢/ ٦) .
(٢)
انظره في: تفسير ابن عطية (٤/ ٣٣٢) وقال: وهذه تؤيد قراءة أبي عمرو وابن كثير
اه.
(٣) قال الفسوي: (شنئان) بفتح النون مصدر لا محالة، والمصدر يكثر على
فعلان نحو النزوان والنقران، وقال سيبويه: هذا الضرب من المصادر تأتي أفعاله
لازمة إلا أن يشذّ شيء ... الموضح (١/ ٤٣٦)، الكتاب (٤/ ١٤)، النشر (٢/ ٢٥٣، ٢٥٤)
.
(٤) قال الفسوي: إن صدوكم بكسر الألف، قرأها ابن كثير وأبو عمرو على أن إن
للشرط، وجوابه قد أغنى عنه ما قبله من قوله وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ والتقدير: إن
صدّوكم عن المسجد الحرام، فلا تكتسبوا الاعتداء.
وقرأ الباقون أَنْ
صَدُّوكُمْ بفتح الألف.
وهو ظاهر، والمعنى: لا يكسبنّكم بغض قوم الاعتداء
لأن صدّوكم عن المسجد الحرام، أي لصدّهم إياكم عن المسجد، فهو مفعول له، فقوله
أَنْ تَعْتَدُوا مفعول ثان وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ
قال النحاس:
وأما: إن صدوكم بكسر (إن) فالعلماء الجلة بالنحو والحديث والنظر يمنعون القراءة
بها لأشياء منها أن الآية نزلت عام الفتح سنة ثمان- وكان المشركون صدوا المؤمنين
عام الحديبية سنة ست- فالصد كان قبل الآية وإذا قرىء بالكسر لم يجز إلا أن يكون
بعده كما تقول: لا تعط فلانا شيئا إن قاتلك، فهذا لا يكون إلا للمستقبل، وإن فتحت
كان للماضي. وما أحسن هذا الكلام.
وقد أنكر أبو حاتم وأبو عبيد شنآن بسكون
النون، لأن المصادر إنما تأتي في مثل هذا متحركة، وخالفهما غيرهما فقال: ليس هذا
مصدر، ولكنه اسم فاعل على وزن كسلان وغضبان «١» .
أقول: تأمل هذا النهي، فإن
الذين صدوا المسلمين عن دخول مكة، كانوا أنفارا حربيين، فكيف ينهى عن التعرض لهم،
وعن مقاتلتهم، فلا يظهر إلا أن هذا النهي منسوخ، أو يقال: إن النهي عن ذلك من حيث
عقد الصلح الواقع في الحديبية، فبسببه صاروا مؤمنين مأمونين، ولم أر من نبه على
هذين الوجهين. ولما نهاهم عن الاعتداء أمرهم بقوله:
وَتَعاوَنُوا عَلَى
الْبِرِّ وَالتَّقْوى أي ليعن بعضكم بعضا على ذلك، وهو يشمل كل أمر يصدق عليه أنه
من البر والتقوى، كائنا ما كان.
قيل إن البر والتقوى لفظان بمعنى واحد، وكرر
للتأكيد.
وقال ابن عطية: إن البر يتناول الواجب [والمندوب] «٢»، والتقوى
تختص بالواجب «٣» . وقال الماوردي: إن في البر رضى الناس، وفي التقوى رضى الله،
فمن جمع بينهما، فقد تمت سعادته. ثم نهاهم سبحانه بقوله:
أَنْ صَدُّوكُمْ
مفعول به.
وانظر: الموضح (١/ ٤٣٦)، ومعاني الفراء (١/ ٣٠١)، والسبعة لابن
مجاهد (٢٤٢)، والنشر (٢/ ٢٥٤)، والحجة لأبي زرعة (٢١٩- ٢٢٠)، ولابن خالويه،
ومعاني القراءات، والإقناع، والمفتاح أربعتهم بتحقيقنا- ط دار الكتب العلمية-
بيروت.
(١) قال أبو عليّ الفارسي: من زعم أن فعلان إذا سكنّت عينه لم يكن
مصدرا فقد أخطأ، وتحتمل القراءة بسكون النون أن تكون وصفا.. (المحرر الوجيز ٤/
٣٣) .
(٢) في «المطبوعة» «المندب» وهو خطأ واضح والصواب ما أثبت كما في
«المحرر الوجيز» (٤/ ٣٣٢) .
(٣) وعبارة ابن عطية: والتقوى رعاية الواجب. (٤/
٣٣٢) .
وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ: فالإثم
كل فعل وقول يوجب إثم فاعله أو قائله، والعدوان التعدي على الناس، بما فيه ظلم،
فلا يبقى نوع من أنواع الموجبات للإثم، ولا نوع من أنواع الظلم للناس، إلا وهو
داخل تحت هذا النهي، لصدق هذين النوعين على كل ما يوجد فيه معناهما. ثم أمر عباده
بالتقوى، وتوعد من خالف ما أمر به، فتركه، أو خالف ما نهى عنه بفعله، بقوله:
وَاتَّقُوا
اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (٢) وأخرج أحمد وعبد بن حميد والبخاري
في «تاريخه» عن وابصة أن النبي صلّى الله عليه وآله قال: «البر ما اطمأن إليه
القلب، واطمأنت إليه النفس، والإثم ما حاك في القلب، وتردد في الصدر وإن أفتاك
الناس وأفتوك!» «١» .
وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد والبخاري في «الأدب» ومسلم
والترمذي والحاكم والبيهقي عن النواس بن سمعان قال: «سألت النبي ﵌ عن البر والإثم
فقال: «البر حسن الخلق، والإثم ما حاك في نفسك، وكرهت أن يطّلع عليه الناس» «٢»
.
وأخرج أحمد وعبد بن حميد والطبراني والحاكم- وصححه- والبيهقي عن أبي
أمامة: «أن رجلا سأل النبي ﵌ عن الإثم؟ فقال: «ما حاك في نفسك فدعه قال فما
الإيمان؟ قال: من ساءته سيئة، وسرته حسنة، فهو مؤمن» «٣» .
(١) حديث
صحيح:
رواه أحمد في «المسند» (٤/ ٢٢٨)، والدارمي في «سننه» (٢/ ٢٤٥، ٢٤٦)،
والبخاري في «الكبير» (١/ ١٤٤، ١٤٥)، والطبراني (٢٢/ ١٤٨، ١٤٩)، وأبو يعلى في
«مسنده» (٣/ ١٦٠، ١٦١، ١٦٢) .
ومن طريق آخر رواه أحمد في «المسند» (٤/ ٢٢٧)،
والبخاري في «تاريخه» (١/ ١٤٤)، والطبراني (٢٢/ ١٤٨) عن وابصة مرفوعا.
وحسّنه
النووي ﵁ في «الأذكار» (٢/ ٩٩٢) .
(٢) حديث صحيح: رواه مسلم (١٦/ ١١٠، ١١١)،
وأحمد في «المسند» (٤/ ١٨٢)، والترمذي (٢٣٨٩)، والبخاري في «الأدب المفرد» (٢٩٥)،
والحاكم في «المستدرك» (٢/ ١٤) .
(٣) حديث صحيح: رواه أحمد في «مسنده» (٥/
٢٥١، ٢٥٢، ٢٥٥، ٢٥٦)، وابن المبارك في «الزهد» (٨٢٥)، والطبراني (٨/ ١١٧)،
والحاكم في «المستدرك» (١/ ١٤)، وصححه ووافقه الذهبي.
وله شاهد من حديث أبي
موسى عند أحمد (٤/ ٣٩٨)، والبزار (٧٩)، والطبراني كما في «المجمع» (١/ ٨٦) .
وقال
الهيثمي: «ورجاله رجاله الصحيح ما خلا المطلب بن عبد الله فإنه ثقة، ولكنه
يدلّس،
[الآية الثالثة] حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ
وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ
وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَما
أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ
تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ ذلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ
كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ
لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ
الْإِسْلامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ
فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣) .
حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ: هذا شروع في
تفصيل المحرمات التي أشار إليها سبحانه بقوله:
إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ
[المائدة: ١] .
الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ
لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ تقدم الكلام على ذلك في البقرة «١»، وما هنا من تحريم مطلق
الدم، مقيد بكونه مسفوحا- لما تقدم حملا للمطلق على المقيد «٢» .
وقد ورد في
السنة تخصيص الميتة بقوله ﵌: «أحل لنا ميتتان ودمان، فأما الميتتان فالحوت
والجراد، وأما الدمان: الكبد والطحال» .
أخرجه الشافعي وأحمد وابن ماجه
والدارقطني والبيهقي، وفي إسناده مقال «٣» .
ولم يسمع من أبي موسى، فهو
منقطع.
(١) وذلك عند تفسيره آية (١٧٣) . [.....]
(٢) انظر الطبري (٦/
٤٤)، وابن كثير (٢/ ٨)، وزاد المسير (٢/ ٢٧٩) .
(٣) حديث صحيح: رواه الشافعي
في «الأم» (٢/ ٢٥٦)، وأحمد في «المسند» (٢/ ٩٧)، وابن ماجة (٤/ ٣٣)، والدارقطني
في «سننه» (٤/ ٢٧١، ٢٧٢)، والبيهقي في «الكبرى» (١/ ٢٥٤) وعبد بن حميد في
«المنتخب» (٨٢٠)، والبغوي في «شرح السنة» (٢٨٣) .
ورواه أيضا العقيلي في
«الضعفاء» (٩٢٦)، وابن عديّ في «الكامل» (١١٠٥) عن ابن عمر مرفوعا.
وقال ابن
عدي: (٤/ ٢٧١): «وهذا يدور رفعه على الإخوة الثلاثة: عبد الله بن زيد وعبد الرحمن
وأسامة، وأما ابن وهب فإنه يرويه عن سليمان بن بلال موقوفا» .
وقال البيهقي
(١/ ٢٥٤) بعد روايته له موقوفا: «هذا إسناد صحيح، وهو في معنى المسند، وقد رفعه
أولاد زيد عن أبيهم» .
ويقويه الحديث: «هو الطهور ماؤه، والحل
ميتته»، وهو عند أحمد وأهل السنن وغيرهم، وصححه جماعة منهم ابن خزيمة وابن حبان
«١» .
وقد أطال الشوكاني الكلام عليه في «شرحه للمنتقى» وغيره في غيره «٢»
.
وَالْمُنْخَنِقَةُ هي التي تموت بالخنق، وهو حبس النّفس، سواء كان ذلك
بفعلها كأن تدخل رأسها في حبل، أو بين عودين، أو بفعل آدمي، أو غيره. وقد كان أهل
الجاهلية يخنقون الشاة، فإذا ماتت أكلوها «٣» .
وَالْمَوْقُوذَةُ هي التي
تضرب بحجر أو عصا حتى تموت، من غير تذكية. يقال:
وقذه يقذه وقذا فهو
وقيذ.
والوقذ: شدة الضرب. وقد كان أهل الجاهلية يفعلون ذلك، فيضربون الأنعام
بالخشب لآلهتهم حتى تموت ثم يأكلونها «٤» .
قال ابن عبد البر: واختلف
العلماء قديما وحديثا في الصيد بالبندق والحجر والمعراض.
ويعني بالبندق: قوس
البندقة.
وبالمعراض: السهم الذي لا ريش له، أو العصا التي رأسها محدد، قال:
فمن ذهب إلى أنه وقيذ، لم يجزه إلا ما أدرك ذكاته، على ما روي عن ابن عمر، وهو
قول
(١) حديث صحيح: رواه أبو داود (٨٣)، والترمذي (٦٩)، والنسائي (١/ ٥٠،
١٧٦)، وابن ماجة (٣٨٦، ٣٢٤٦)، ومالك في «موطأه» (١/ ٢٢)، وأحمد في «مسنده» (٢/
٢٣٧، ٣٦١)، والشافعي في «مسنده» (١/ ١٦)، والبخاري في «التاريخ» (٣/ ٤٧٨)،
والدارمي (١/ ١٨٦)، وابن الجارود في «المنتقى» (٤٣)، وابن أبي شيبة في «المنصف»
(١/ ١٥٥)، والدارقطني في «سننه» (١/ ٣٦)، والحاكم في «المستدرك» (١/ ١٤٠)، وابن
خزيمة في «صحيحه» (١١١)، والبغوي في «شرح السنة» (٢/ ٥٥)، (٢٨١)، والبيهقي في
«الكبرى» (١/ ٣)، وابن حبان في «صحيحه» (٤/ ٤٩)، (١٢٤٤) عن أبي هريرة مرفوعا.
وقال
أبو عيسى: حسن صحيح، ومثله البغوي. وصححه ابن خزيمة وابن حبان، والحاكم ووافقه
الذهبي.
(٢) راجع نيل الأوطار (١/ ١٧، ١٩)، وكذلك تلخيص الحبير للحافظ (١/
٩، ١٢) . ونصب الرّاية للزيلعي (١/ ٩٥، ٩٩) .
(٣) انظر: الطبري (٦/ ٤٥)، ابن
كثير (٢/ ٨) .
(٤) انظر: الطبري (٦/ ٤٥)، ابن كثير (٢/ ٨)، وابن عطية (٤/
٣٣٦)، وزاد المسير (٢/ ٢٧٩) .
مالك وأبي حنيفة وأصحابه، والثوري
والشافعي. وخالفهم الشاميون في ذلك، قال الأوزاعي في المعراض: كلّه خرق أو لم
يخرق فقد كان أبو الدرداء وفضالة بن عبيد وعبد الله بن عمر ومكحول لا يرون به
بأسا.
قال ابن عبد البر: هكذا ذكر الأوزاعي عن عبد الله بن عمر. والمعروف عن
ابن عمر ما ذكر مالك عن نافع «١»، قال: والأصل في هذا الباب والذي عليه العمل
وفيه الحجة حديث عدي بن حاتم وفيه: «ما أصاب بعرضه فلا يأكل فإنه وقيذ» «٢» .
انتهى.
قلت: والحديث في «الصحيحين» وغيرهما عن عدي قال: «قلت يا رسول الله
إني أرمي بالمعراض الصيد فأصيب؟ فقال: إذا رميت المعراض فخرق فكله، وإن أصاب
بعرضه فإنما هو وقيذ فلا تأكله» «٣» .
فقد اعتبر ﵌ الخرق وعدمه، فالحق أنه
لا يحل إلا ما خرق لا ما صدم، فلا بد من التذكية قبل الموت، وإلا كان وقيذا.
قال
الشوكاني في «فتح القدير» «٤»: وأما البنادق المعروفة الآن، وهي بنادق
(١)
قال مالك في «موطأه» (١/ ٤٢٢) عن نافع أنه قال: «رميت طائرين بحجر وأنا بالجرف،
فأصبتهما، فأما أحدهما فمات، فطرحه عبد الله بن عمر، وأما الآخر فذهب عبد الله بن
عمر يذكيه بقدم» فمات قبل أن يذكّيه، فطرحه عبد الله أيضا.
(٢) قال القرافي:
«وفي الكتاب: المصيد بحجر أو بندق لا يؤكل ولو بلغ مقاتله، لأنه رضّ، وكذلك
المعراض إذا أصاب بعرضه، وقال أبو حنيفة والشافعي، وكل ما جرح بحدّه أكل، كان
عودا أو عصا أو رمحا، والمعراض: خشبة في رأسها زج، قال صاحب الإكمال: وقيل: سهم
دون ريش، وقيل: عود رقيق الطرفين غليظ الوسط، والخذف لا يباح الرّمي به، لأن
مصيدة وقيذ كالبندقية.
وعند الجمهور: لا يؤكل ما أصاب المعراض بعرضه خلافا
لأهل الشام، ولا مصيد البندقية خلافا للشافعية وجماعة، فظاهر كلامه: تحريم الرّمي
بالبندق ابتداء وإن ذكى مرميه، وبه قال الشافعي خلافا لابن حنبل، ولا ينبغي خلاف
في إباحة الرّمي به السباع الصوائل والعدو المحارب.. (الذخيرة ٤/ ١٧٤، ١٧٥) ط دار
الغرب الإسلامي- بيروت.
وانظر القرطبي (٦/ ٤٩، ٥٠)، والروضة (٣/ ٢٤٣) .
والقوانين الفقهية (١٨٨)، والهداية (٤/ ١٥٥٠)، تكملة فتح القدير (٩/ ٤٩٥) والوسيط
للغزالي (٧/ ١١٢، ١١٣) .
والبندقة هي: طينة مدوّرة يرمى بها ويقال لها:
الجلامق.
(٣) حديث صحيح: رواه البخاري (٩/ ٥٩٩) (١٣/ ٣٧٩)، ومسلم (١٣/ ٧٦،
٧٧)، والترمذي (١٤٦٥)، والنسائي (٧/ ١٨٠، ١٨١)، وابن ماجة (٥/ ٣٢)، وأحمد في
«المسند» (٤/ ٢٥٨، ٣٧٧، ٣٨٠) عن عدي بن حاتم مرفوعا.
(٤) انظره في (٢/ ٩)
.
الحديد، التي يجعل فيها [البارود] «١» والرصاص، ويرمى بها،
فلم يتكلم عليها أهل العلم لتأخر حدوثها، فإنها لم تصل إلى الديار اليمنية، إلا
في المائة العاشرة من الهجرة، وقد سألني جماعة من أهل العلم عن الصيد بها إذا
مات، ولم يتمكن الصائد من تذكيته حيا؟ والذي يظهر لي أنه حلال، لأنها تخرق وتدخل-
في الغالب- من جانب منه، وتخرج من الجانب الآخر.
وقد قال ﵌ في الحديث الصحيح
السابق: «إذا رميت بالمعراض فخرق فكله» «٢»، فاعتبر الخرق في تحليل الصيد.
انتهى.
قلت: وقد سبقه إلى ذلك السيد العلامة محمد بن إسماعيل الأمير حيث قال
في «سبل السلام شرح بلوغ المرام» «٣»: قلت: وأما البنادق [المعروفة] «٤» الآن
فإنها ترمي بالرصاص، فيخرج وقد صهرته نار البارود كالميل، فيقتل بحده لا بصدمه،
فالظاهر حل ما قتله. انتهى.
وتعقبه ولده العلامة السيد عبد الله محمد الأمير
وقال: هذا وهم من والدي- قدس الله تعالى روحه- فإن الرصاص لا يذوب أصلا، إنما
تدفعه نار البارود، فيصيب بصدمة، يعرف هذا كل من يعرف البنادق المذكورة، والله
أعلم. انتهى.
أقول: التحقيق أن النار تدفع الرصاص أولا، فيصيب الصيد، ثم
يخرق الرصاص الصيد، فيموت الصيد بخرقه. فيكون حلالا كما احتج به الشوكاني. والله
أعلم.
وَالْمُتَرَدِّيَةُ: هي التي [تتردى] «٥» من علو إلى أسفل، فتموت من
غير فرق، بين أن تتردى من جبل، أو بئر، أو مدفن، أو غيرها.
والتردي مأخوذ من
الردى وهو الهلاك، وسواء تردت بنفسها أو ردّاها غيرها «٦» .
وَالنَّطِيحَةُ
هي فعلية بمعنى مفعولة، وهي التي تنطحها أخرى فتموت من دون تذكية. وقال قوم إنها
فعلية بمعنى فاعلة لأن الدابتين تتناطحان فتموتان. وقال:
(١) ما بين []
البارد وهو خطأ والصواب ما أثبت كما في «فتح القدير» (٢/ ٩) .
(٢) تقدّم
آنفا.
(٣) انظره في (٤/ ٨٥) للصنعاني.
(٤) في «المطبوعة (المعرفة) وهو
خطأ والتصويب من سبل السّلام (٤/ ٨٥) . [.....]
(٥) ما بين [] حرّف في
«المطبوعة» إلى تردى وهو خطأ والتصويب من فتح القدير (٢/ ٩) .
(٦) انظر:
الطبري (٦/ ٤٥)، وابن كثير (٢/ ١٠)، وزاد المسير (٢/ ٢٨٠) .
نطيحة
ولم يقل نطيح، مع أنه قياس فعيل لأن لزوم الحذف مختص بما كان من هذا الباب، صفة
لموصوف مذكور، فإن لم يذكر ثبتت التاء للنقل من الوصفية إلا الاسمية.
وقرأ
أبو ميسرة: والمنطوحة «١» .
وَما أَكَلَ السَّبُعُ: أي وحرم ما افترسه ذو
ناب، كالأسد والنمر والذئب والضبع ونحوها. والمراد هنا ما أكل منه السبع، لأن ما
أكله السبع كله قد فني، ومن العرب من يخص اسم السبع بالأسد، وكانت العرب إذا أكل
السبع الشاة، ثم خلصوها منه أكلوها، وإن ماتت ولم يذكوها.
إِلَّا ما
ذَكَّيْتُمْ في محل نصب على الاستثناء المتصل عند الجمهور، وهو راجع على ما أدركت
ذكاته من المذكورات سابقا وفيه حياة.
وقال المدنيون: وهو المشهور من مذهب
مالك، وهو أحد قولي الشافعي: إنه إذا بلغ السّبع منها إلى ما لا حياة معه، فإنها
لا تؤكل. وحكاه في «الموطأ» «٢» عن زيد بن ثابت، وإليه ذهب إسماعيل القاضي، فيكون
الاستثناء على هذا القول منقطعا أي حرمت عليكم هذه الأشياء، لكن ما ذكيتم فهو
الذي يحل ولا يحرم. والأول أولى.
والذكاة في كلام العرب: الذبح. قاله قطرب
وغيره. وأصل الذكاة في اللغة:
التمام، أي تمام استكمال القوة.
والذكاء:
حدة القلب، وسرعة الفطنة.
(١) انظر: الطبري (٦/ ٤٦)، زاد المسير (٢/ ٢٨٠)،
ابن كثير (٢/ ١٠)، ابن عطية (٤/ ٣٣٧) .
(٢) انظر: الموطأ (١/ ٣٩٩) وما
بعدها.
وقال اللخمي: المنخنقة والموقوذة، بالذّال المعجمة، وهي التي تضرب
حتى تموت، والمتردية، والنطيحة، وما أكل السبع، ما مات منها فحام، وما لو ترك
لعاش يذكى، وغير المرجو، والذي حدث به في مواضع الذكاة لم تؤكل، وفي غيره يذكى
ويؤكل عند مالك.
قال ابن القاسم: ولو انتثرت الحشوة، لأن قوله تعالى: إِلَّا
ما ذَكَّيْتُمْ بعد ذكر هذه الأقسام، استثناء متصل، لأنه الأصل، وقيل: لا يؤكل
لأنه منقطع أي من غيرهن، لأنه لولا ذلك لكان قوله حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ
الْمَيْتَةُ يغني عنه.
وفي الجواهر: منع أبو الوليد جريان الخلاف الذي ذكره
اللخمي إذا كان المقتل في غير محل الذكاة، وقال: المذهب كله على المنع، وإنما
الخلاف إذا بلغت الناس بغير إصابة مقتل ...
وانظر: الذخيرة للقرافي (٤/ ١٢٨،
١٢٩)، والوسيط في مذهب الشافعية للغزالي (٧/ ١٠٧، ١٠٨، ١١٣) .
والذكاة:
ما تذكى به النار، ومنه أذكيت الحرب والنار أوقدتهما.
وذكاء: اسم الشمس.
والمراد
هنا إلا ما أدركتم ذكاته على التمام.
والتذكية في الشرع: عبارة عن انهمار
الدم، وفري الأوداج في المذبوح، والنحر في المنحور، والعقر في غير المقدور،
مقرونا بالقصد لله، وذكر اسمه عليه.
وأما الآلة التي تقع بها الذكاة، فذهب
الجمهور إلى أن كل ما أنهر الدم، وفرى الأوداج، فهو آلة للذكاة، ما خلا السن
والعظم، وبهذا جاءت الأحاديث الصحيحة «١» .
وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ:
قال ابن فارس: النصب: حجر كان ينصب فيعبد، وتصب عليه دماء الذبائح.
والنصائب:
حجارة تنصب حوالي شفير البئر [فتجعل] «٢» عضائد «٣»، وقيل:
النصب جمع واحده
نصاب، كحمار وحمر، قرأ طلحة [ابن مصرف]: بضم النون وسكون الصاد. وروي عن أبي
عمرو: بفتح النون وسكون الصاد. وقرأ الجحدري:
بفتح النون والصاد، جعله اسما
موحدا كالجبل والجمل، والجمع أنصاب كالأجبال والأجمال.
قال مجاهد: هي حجارة
كانت حوالي مكة، يذبحون عليها «٤» .
قال ابن جرير: كانت العرب تذبح بمكة،
وتنضح بالدم ما أقبل من البيت، ويشرحون اللحم، ويضعونه على الحجارة، فلما جاء
الإسلام، قال المسلمون للنبي ﵌: نحن أحق أن نعظم هذا البيت بهذه الأفعال فأنزل
الله: وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ «٥» .
والمعنى: والنية بذلك تعظيم النصب
لأن الذبح عليها غير جائز. ولهذا قيل: إن
(١) حديث صحيح: رواه البخاري (٩/
٦٢٣، ٦٢٤، ٦٣٣)، ومسلم (١٣/ ١٢٢، ١٢٥)، عن رافع بن خديج مرفوعا.
(٢) حرف في
«المطبوعة» إلى (فتجد) وهو خطأ والتصويب من مجمل اللغة لابن فارس [نصب]، وكذلك
فتح القدير (٢/ ١٠) .
(٣) جمع عضد وهو الحوض والطريق [اللسان] .
(٤)
انظر: الطبري (٦/ ٤٦) . وابن عطية (٤/ ٣٤٠) .
(٥) وهذا قول ابن جرير كما في
«جامعه» (٦/ ٤٦، ٤٧) .
على بمعنى اللام، أي: لأجلها. قاله قطرب،
وهو على هذا داخل في غير ما أهلّ به لغير الله، وخص بالذكر لتأكيد تحريمه، ولدفع
ما كانوا يظنونه من أن ذلك لتشريف البيت وتعظيمه، وقيل: معناه ما قصد بذبحه تعظيم
النصب، وإن لم يذكر اسمها عنده، فليس مكررا مع ما سبق، إذ ذاك فيما ذكر عند ذبحه
اسم الصنم مثلا. فتأمل.
وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا: معطوف على ما قبله، أي وحرم
عليكم الاستقسام.
بِالْأَزْلامِ وهي: قداح الميسر، واحدها زلم.
والأزلام
للعرب ثلاثة أنواع:
أحدها: مكتوب فيه أفعل.
والآخر: مكتوب لا تفعل.
والثالث:
مهمل لا شيء عليه، فيجعلها في خريطة معه، فإذا أراد فعل شيء أدخل يده- وهي
متشابهة- فأخرج واحدا منها، فإن خرج الأول فعل ما عزم عليه، وإن خرج الثاني تركه،
وإن خرج الثالث، أعاد الضرب حتى يخرج واحد من الأولين.
قال الزجاج: لا فرق
بين هذا وبين قول المنجمين: لا تخرج من أجل نجم كذا واخرج لطلوع نجم كذا، وإنما
قيل لهذا الفعل: استقسام لأنهم كانوا يستقسمون به الرزق وما يريدون فعله، كما
يقال استسقى أي استدعى السقيا.
فالاستقسام: طلب القسم والنصيب.
وجملة
قداح الميسر عشرة، وكانوا يضربون بها في المقامرة.
وقيل: إن الأزلام: كعاب
فارس والروم التي يتقامرون بها، وقيل: هي الشطرنج.
وإنما حرم الله الاستقسام
بالأزلام لأنه تعرض لدعوى علم الغيب، وضرب من الكهانة «١» .
ذلِكُمْ فِسْقٌ:
إشارة إلى الاستقسام بالأزلام، أو إلى جميع المحرمات المذكورة هنا.
والفسق:
الخروج عن الحد، وهذا وعيد شديد لأن الفسق هو أشد الكفر! لا ما
(١) انظر
أقوال أهل التفسير في «الطبري» (٦/ ٥٠)، وابن كثير (٢/ ١١)، والقرطبي (٦/ ٦٣)،
وابن عطية (٤/ ٣٤٥)، وزاد المسير (٢/ ٢٩١) .
وقع عليه اصطلاح
قوم من أنه منزلة بين الإيمان والكفر «١» .
قوله: فَمَنِ اضْطُرَّ: هذا متصل
بذكر المحرمات، وما بينهما اعتراض وقع بين الكلامين للتأكيد، فإن تحريم هذه
الخبائث من جملة الدين الكامل، أي من دعته الضرورة.
فِي مَخْمَصَةٍ: أي
مجاعة، إلى أكل الميتة وما بعدها من المحرمات.
والخمص: ضمور البطن، ورجل
خميص وخمصان، وامرأة خميصة وخمصانة، ومنه أخمص القدم. ويستعمل كثيرا في الجوع.
غَيْرَ
مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ الجنف: الميل.
والإثم: الحرام، أي حال كون المضطر في
مخمصة غير مائل لإثم، وهو بمعنى غير باغ ولا عاد. وكل مائل فهو متجانف وجنف.
فَإِنَّ
اللَّهَ غَفُورٌ له رَحِيمٌ (٣) به، لا يؤاخذه بما ألجأته إليه الضرورة في الجوع،
مع عدم ميله بأكل ما حرم عليه إلى الإثم بأن يكون باغيا على غيره، أو متعديا لما
دعت إليه الضرورة «٢» .
[الآية الرابعة] يَسْئَلُونَكَ ماذا أُحِلَّ لَهُمْ
قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ
مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا
أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ
إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (٤) .
قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ:
هي ما يستلذ أكله، ويستطيبه أصحاب الطبائع السليمة، مما أحله الله لعباده، أو لم
يرد نصّ بتحريمه. وقيل: هي الحلال، وقيل: الطيبات الذبائح لأنها طابت بالتذكية،
وهو تخصيص للعام بغير مخصص، والسبب والسياق لا يصلحان لذلك.
وَما
عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ: معطوف على الطيبات، بتقدير مضاف لتصحيح
(١)
أرباب هذا القول هم المعتزلة وانظر: «التنبيه والرد على أهل الأهواء والبدع»،
للملطي (ص ٥٠) وما بعدها.
(٢) انظر: المحرر الوجيز (٤/ ٣٤٩)، والقرطبي (٦/
٦٤، ٦٥)، فتح القدير (٢/ ١١) .
المعنى، أي أحل لكم صيد ما
علّمتم من أمر الجوارح والصيد بها.
قال القرطبي «١»: قد ذكر بعض من صنف في
أحكام [القرآن] «٢»: أن الآية تدل على أن الإباحة تناولت ما علّمنا من الجوارح،
وهو [ينتظم] «٣» الكلب وسائر جوارح الطير، وذلك يوجب إباحة سائر وجوه الانتفاع،
فدل على جواز بيع الكلب، والجوارح، والانتفاع بها بسائر وجوه المنافع، إلا ما خصه
الدليل، وهو الأكل من الجوارح: أي الكواسب من الكلاب وسباع الطير.
قال «٤»:
وأجمعت الأمة، على أن الكلب- إذا لم يكن أسود، وعلّمه مسلم، ولم يأكل من صيده
الذي صاده، أو أثّر فيه بجرح، أو تنييب، وصاد به مسلم، وذكر الله عند إرساله-
صيده صحيح، يؤكل بلا خلاف. فإن انخرم، شرط من هذه الشروط دخل الخلاف، فإن كان
الذي يصاد به غير كلب كالفهد وما أشبهه، وكالبازي والصقر ونحوهما في الطير،
فجمهور الأمة على أن كل ما صاد بعد التعليم فهو جارح كاسب.
يقال: جرح فلان
واجترح، إذا اكتسب، ومنه الجارحة لأنه يكتسب بها، ومنه قوله تعالى: وَيَعْلَمُ ما
جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ [الأنعام: ٦٠]، وقوله: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا
السَّيِّئاتِ
[الجاثية: ٢١] .
مُكَلِّبِينَ: حال، والمكلب: معلّم
الكلاب كيفية الاصطياد. وخص معلم الكلاب، وإن كان معلم سائر الجوارح مثله، لأن
الاصطياد بالكلاب هو الغالب. ولم يكتف بقوله: وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ-
مع أن [التكليب] «٥» هو التعليم- لقصد التأكيد لما لا بد منه من التعليم. وقيل إن
السبع يسمى كلبا، فيدخل كل سبع يصاد به، وقيل:
إن هذه الآية خاصة
بالكلاب.
وقد حكى ابن المنذر عن ابن عمر أنه قال: ما يصاد بالبزاة وغيرها من
الطير، فما أدركت ذكاته فهو حلال، وإلا فلا تطعمه «٦» .
(١) انظر في
«تفسيره» (٦/ ٦٦) .
(٢) حرّف إلى بقرآن وهو خطأ واضح. [.....]
(٣)
حرّفت إلى «انخرم» والتصويب من القرطبي.
(٤) أي القرطبي كما تقدّم.
(٥)
حرّفت إلى (التكليف) وهو خطأ، والتصويب من فتح القدير (٢/ ١٣) .
(٦) رواه
الطبري في «جامعه» (٦/ ٦٣) .
قال ابن المنذر: وسئل أبو جعفر عن
البازي هل يحل صيده؟ قال: لا! إلا أن تدرك ذكاته.
وقال الضحاك والسدي: وَما
عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ: هي الكلاب خاصة «١» .
فإن كان
الكلب الأسود بهيما، كره صيده الحسن وقتادة والنخعي.
وقال أحمد: ما أعرف
أحدا يرخص فيه إذا كان بهيما، وبه قال ابن راهويه «٢» .
فأما عامة أهل العلم
بالمدينة والكوفة فيرون جواز صيد كل كلب معلم «٣»، واحتج من منع من صيد الكلب
الأسود بقوله ﵌: «الكلب الأسود شيطان» أخرجه مسلم وغيره «٤» .
والحق أنه يحل
صيد كل ما يدخل تحت عموم الجوارح من غير فرق بين الكلب وغيره، وبين الأسود من
الكلاب وغيره، وبين الطير وغيره.
ويؤيد هذا أن سبب نزول الآية سؤال عدي بن
حاتم عن صيد البازي «٥» .
(١) روى هذين القولين الطبري في «تفسيره» (٦/ ٦٣)،
والبغوي في «معالم التنزيل (٢/ ١٢)، وذكره ابن كثير نحوه عن ابن عباس (٢/ ١٥)
أيضا.
(٢) قال في «المقنع»: إلا الكلب الأسود البهيم، فلا يباح صيده. وقال
ابن قدامة في «الشرح الكبير» والبهيم الذي لا يخالط لونه لون أسود.
قال
أحمد: الذي ليس فيه بياض، وقال المرداوي في «الإنصاف»: لو كان بين عينيه نكتتان
تخالفان لونه، لم يخرج بهما عن البهيم وأحكامه، وانظر: المقنع، الشرح الكبير،
الإنصاف (٢٧/ ٣٨٦، ٣٨٧) ط. دار هجر.
(٣) انظر: الذخيرة للقرافي (٤/ ١٧٢) ط.
دار الغرب. والهداية للمرغيناني (٤/ ١٥٣٩)، الوسيط للغزالي (٧/ ١٠٨، ١٠٩) .
(٤)
حديث صحيح: رواه مسلم (١٠/ ٢٣٦)، وأبو داود (٢٨٤٦) . وأحمد في «المسند» (٣/ ٣٣٣)
عن جابر مرفوعا.
ورواه مسلم (٤/ ٢٢٦، ٢٢٧)، وأبو داود (٧٠٢) والترمذي (٣٣٨)
والنسائي (٢/ ٦٣، ٦٤)، وابن ماجة (٩٥٢)، وأحمد في «المسند» (٥/ ١٤٩، ١٦١) عن عبد
الله بن الصامت مرفوعا نحوه.
ورواه البخاري (٦/ ٣٦٠)، ومسلم (١٠/ ٢٣٤، ٢٣٦)
بنحوه عن ابن عمر مرفوعا.
(٥) انظر: زاد المسير (٢/ ٢٩٢)، ابن عطية (٤/ ٣٥٤،
٣٥٥) .
ولفظ «البازي» لم يرد في هذا الحديث الذي في «الصحيحين» عن عدي بن
حاتم.
وإنما ورد عند أبي داود (٢٨٥١)، والترمذي (١٤٦٧) وأحمد في «المسند»
(٤/ ٢٥٧)، والبيهقي (٩/ ٢٣٨) . وقال أبو عيسى: هذا حديث لا نعرفه إلا من حديث
مجالد عن الشعبي.
تُعَلِّمُونَهُنَّ: أي تؤدبونهن. والجملة في
محل نصب على الحال.
مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ: أي مما أدركتموه بما خلقه
فيكم من العقل، الذي تهتدون به إلى تعليمها وتدريبها، حتى تصير قابلة لإمساك
الصيد لكم عند إرسالكم له.
فَكُلُوا: الفاء للتفريع، والجملة متفرعة على ما
تقدم من تحليل صيد ما علّموه من الجوارح، و(من) في قوله: مِمَّا أَمْسَكْنَ
عَلَيْكُمْ للتبعيض، لأن بعض الصيد لا يؤكل، كالجلد والعظم، وما أكله الكلب
ونحوه.
وفيه دليل على أنه لا بد أن يمسكه على صاحبه، فإن أكل منه فإنما
أمسكه على نفسه، كما في الحديث الصحيح «١» .
وقد ذهب الجمهور إلى أنه لا يحل
أكل الصيد الذي يقصده الجارح من تلقاء نفسه من غير إرسال.
وقال عطاء بن أبي
رباح والأوزاعي- وهو مروي عن سلمان الفارسي وسعد بن أبي وقاص وأبي هريرة وعبد
الله بن عمر، وروي عن علي وابن عباس والحسن البصري والزهري وربيعة ومالك والشافعي
في القديم- إنه يؤكل صيده «٢» .
ويرد عليهم قوله تعالى: مِمَّا أَمْسَكْنَ
عَلَيْكُمْ، وقوله ﵌ لعدي بن حاتم: «إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله عليه
فكل ما أمسك عليك»، وهو في الصحيحين وغيرهما «٣» .
وفي لفظ لهما: «فإن أكل
فلا تأكل فإني أخاف أن يكون أمسك على نفسه» «٤» .
وأما ما أخرجه أبو داود
بإسناد جيد من حديث أبي ثعلبة قال: قال رسول
وقال البيهقي: ذكر البازي في
هذه الرواية لم يأت به الحفّاظ الذين قدمنا ذكرهم عن الشعبي، وإنما أتى به مجالد.
والله أعلم.
ومجالد قال عنه الحافظ: «ليس بالقوي، وقد تغيّر في آخر عمره»
.
(١) هو حديث عدي المتقدّم ذكره وتخريجه.
(٢) انظر: تفسير الطبري (٦/
٦٣)، وابن الجوزي (٢/ ٢٩٢)، والمغني (١٣/ ٢٦٣)، والمقنع والشرح الكبير، والإنصاف
معا (٢٧/ ٣٨٩، ٣٩١)، والوسيط للغزالي (٧/ ١١٥)، والروضة (٣/ ٢٤٩)، والمنهاج (ص
١٤١) .
(٣) سبق تخريجه.
(٤) حديث صحيح: رواه البخاري (٩/ ٦٠٣)، ومسلم
(١٣/ ٧٦) عن عدي بن حاتم، وتقدّم. [.....]
الله ﵌: «إذا أرسلت
كلبك المعلم وذكرت اسم الله فكل وإن أكل منه» «١» .
وقد أخرجه أيضا بإسناد
جيد من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده وأخرجه أيضا النسائي.
فقد جمع بعض
الشافعية بين هذه الأحاديث: بأنه إن أكل عقب ما أمسك، فإنه يحرم، لحديث عدي بن
حاتم وإن أمسكه ثم انتظر صاحبه، فطال عليه الانتظار، وجاع فأكل من الصيد لجوعه-
لا لكونه أمسكه على نفسه- فإنه لا يؤثر ذلك ولا يحرم به الصيد. وهذا جمع حسن «٢»
.
وقال آخرون: إنه إذا أكل الكلب منه حرم، لحديث عدي، وإن أكل غيره لم يحرم
للحديثين الآخرين.
وقيل يحمل حديث [أبي] «٣» ثعلبة على ما إذا أمسكه وخلاه
ثم عاد فأكل منه. وقد سلك كثير من أهل العلم طريق الترجيح، ولم يسلكوا طريق
الجمع، لما فيها من البعد.
قالوا: وحديث عدي بن حاتم أرجح لكونه في
«الصحيحين» . وقد قرر الشوكاني هذا المسلك في «شرح المنتقى» «٤» بما يزيد الناظر
فيه بصيرة.
وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ الضمير في عليه يعود إلى
وَما عَلَّمْتُمْ، أي سموا عليه عند إرساله أو [لما] «٥» أمسكن عليكم: أي سموا
عليه إذا أردتم ذكاته.
وقد ذهب الجمهور إلى وجوب التسمية عند إرسال الجارح،
واستدلوا بهذه الآية، ويؤيده حديث عدي بن حاتم الثابت في «الصحيحين» وغيرهما
بلفظ: «إذا أرسلت كلبك فاذكر اسم الله، وإذا رميت بسهمك فاذكر اسم الله» «٦» .
وقال
بعض أهل العلم: إن المراد التسمية عند الأكل. قال
(١) إسناده ضعيف: رواه أبو
داود (٢٨٥٢، ٢٨٥٧)، والبيهقي (٩/ ٢٣٧، ٢٣٨)، والدارقطني (٤/ ٢٩٣، ٢٩٤)، عن أبي
ثعلبة الخشني مرفوعا بنحوه.
وضعّفه الألباني في «ضعيف أبي داود» (٦١١) .
فانظر كلامه فيه.
(٢) يردّ ذلك نكار الأحاديث التي وردت في ذكر أكل من الصيد
والله أعلم.
(٣) صحف إلى (ابن) وهو خطأ ظاهر.
(٤) انظر: نيل الأوطار
(٩/ ٧٢٦) .
(٥) حرفت إلى «لم» والصواب ما أثبت وكما في فتح القدير (٢/ ١٤)
.
(٦) تقدّم تخريجه.
القرطبي «١»: وهو الأظهر.
واستدلوا
بالأحاديث التي فيها الإرشاد إلى التسمية، وهذا خطأ فإن النبي ﵌ قد وقّت التسمية
بإرسال الكلب، وإرسال السهم، ومشروعية التسمية عند الأكل حكم آخر، ومسألة غير هذه
المسألة، فلا وجه لحمل ما ورد في الكتاب والسنة هنا، على ما ورد في التسمية عند
الأكل، ولا ملجىء إلى ذلك.
وفي لفظ في «الصحيحين» من حديث عدي: «إن أرسلت
كلبك وسميت فأخذ فكل» «٢» . وقد ذهب جماعة إلى أن التسمية شرط، وذهب آخرون إلى
أنها سنة فقط، وذهب جماعة إلى أنها شرط على الذاكر لا الناسي. وهذا أقوى الأقوال
وأرجحها «٣» .
[الآية الخامسة] الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ
وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ
وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا
الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ
مُسافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ
حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ (٥) .
الْيَوْمَ:
المراد بهذا اليوم والمذكورين قبله وقت واحد، وإنما كرّر للتأكيد، ولاختلاف
الأحداث الواقعة فيه حسن تكريره، كذا قال أبو السعود. وقيل: أشار بذكر اليوم إلى
وقت محمد ﵌.
كما تقول: هذه أيام فلان.
الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ
الطَّيِّباتُ: هذه الجملة مؤكدة للجملة الأولى وهي قوله: أُحِلَّ لَكُمُ
الطَّيِّباتُ، وقد تقدم بيان الطيبات.
(١) انظره في «تفسيره» (٦/ ٧٤) .
(٢)
البخاري (٩/ ٦١٢)، ومسلم (١٣/ ٧٦) .
(٣) انظر: تفسير ابن عطية (٤/ ٣٥٦)،
القرطبي (٦/ ٧٤)، الذخيرة للقرافي (٤/ ١٣٤)، والهداية للمرغيناني (٤/ ١٤٤٦،
١٤٤٧)، ونصب الراية للزيلعي (٤/ ١٨٢)، إعلام الموقعين (٢/ ١٥٤، ١٥٥) .
وَطَعامُ
الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ: الطعام اسم لكل ما يؤكل، ومنه
الذبائح، وذهب أكثر أهل العلم إلى تخصيصه هنا بالذبائح «١»، وفي هذه الآية دليل
على أن جميع طعام أهل الكتاب- من غير فرق بين اللحم وغيره- حلال للمسلمين، وإن
كانوا لا يذكرون على ذبائحهم اسم الله، فتكون هذه الآية مخصصة لعموم قوله: وَلا
تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ [الأنعام: ١٢١] . وظاهر
هذا أن ذبائح أهل الكتاب حلال، وإن ذكر اليهودي على ذبيحته اسم عزيز، وذكر
النصراني على ذبيحته اسم المسيح. وإليه ذهب أبو الدرداء وعبادة بن الصامت وابن
عباس والزهري وربيعة والشعبي ومكحول «٢» .
وقال عليّ وعائشة وابن عمر: إذا
سمعت الكتابي يسمي على الذبيحة اسم غير الله فلا تأكل.
وهو قول طاووس والحسن
«٣»، وتمسكوا بقوله تعالى: وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ
عَلَيْهِ [الأنعام: ١٢١] . وقوله تعالى: وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ [المائدة:
٣] .
وقال مالك: إنه يكره ولا يحرم «٤» .
فهذا الخلاف إذا علمنا أن أهل
الكتاب ذكروا على ذبائحهم اسم غير الله، وأما مع عدم العلم، فقد حكى الطبري وابن
كثير الإجماع على حلها لهذه الآية «٥» .
ولما ورد في السنة من أكله ﵌ من
الشاة المصلية التي أهدتها إليه اليهودية.
وكذلك جراب الشحم الذي أخذه بعض
الصحابة من خيبر وعلم بذلك النبي ﵌، وهما في «الصحيح» وغير ذلك.
والمراد
بأهل الكتاب هنا: اليهودي والنصارى.
وأما المجوس فذهب الجمهور إلى أنها لا
تؤكل ذبائحهم، ولا تنكح نساؤهم، لأنهم ليسوا بأهل الكتاب على المشهور عند أهل
العلم «٦» .
(١) انظر: الطبري (٦/ ٦٦)، وابن كثير (٢/ ١٩) .
(٢) انظر:
زاد المسير (٢/ ٢/ ٢٩٥)، الطبري (٦/ ٦٦)، ابن كثير (٢/ ١٩)، المحرر الوجيز لابن
عطية (٤/ ٣٥٧، ٣٥٩) .
(٣) انظر: الطبري (٦/ ٦٦، ٦٧)، ابن كثير (٢/ ٢١)، ابن
عطية (٤/ ٣٥٩) ط. الدّوحة.
(٤) انظر: الذخيرة للقرافي المالكي (٤/ ١٧٠) .
(٥)
انظر: المصادر السابقة. [.....]
(٦) انظر: الوسيط للغزالي (٧/ ١٠١)، الروضة
للنووي (٧/ ١٤٢)، والذخيرة للقرافي (٤/ ١٦٩،
وخالف في ذلك أبو
ثور، وأنكر عليه الفقهاء ذلك، حتى قال أحمد بن حنبل: أبو ثور كاسمه! يعني في هذه
المسألة «١» .
وكأنه تمسك بما يروى عن النبي ﵌ مرسلا، أنه قال في المجوس:
«سنوا بهم سنة أهل الكتاب» ولم يثبت بهذا اللفظ «٢» .
وعلى فرض أن له أصلا
ففيه زيادة تدفع ما قاله. وهي قوله: «غير آكلي ذبائحهم ولا ناكحي نسائهم» «٣»
ورواه بهذه الزيادة جماعة، ممن لا خبرة لهم بفن الحديث من المفسرين والفقهاء، ولا
يثبت الأصل ولا الزيادة، بل الذي ثبت في «الصحيح» أن النبي ﵌ أخذ الجزية من مجوس
هجر «٤» .
وأما بنو تغلب «٥» فكان علي بن أبي طالب ﵁ ينهى عن ذبائحهم لأنهم
عرب وكان يقول: إنهم لم يتمسكوا بشيء من النصرانية إلا بشرب الخمر «٦» !.
١٧٠)،
والملل والنحل للشهرستاني في حديثه عن المجوس (١/ ٢٣٠، ٢٤٤) .
(١) انظر ردّ
الإمام أحمد عليه في «أحكام أهل الملل» لأبي بكر الخلّال (٤٥١، ٤٥٣) . وتلخيص
الحبير (٣/ ٣٥٤) .
(٢) رواه مالك في «الموطأ» (٢/ ٢٣٢)، والشافعي في «الأم»
(٤/ ١٨٣)، وابن أبي شيبة (٧/ ٥٨٤)، وعبد الرزاق (١٠٠٢٥)، وأبو عبيد في «الأموال»
(٧٧)، والبيهقي (٩/ ١٨٩، ١٩٠) عن عمر مرفوعا.
وفي إسناده انقطاع محمد بن
عليّ بن الحسين أبو جعفر الباقر ﵃، لم يلق عبد الرحمن بن عوف وعمر بن الخطاب.
ولكن
له شاهد عند الطبراني (٦٦٦٠) عن عبد الرحمن بن عوف مرفوعا.
قال الحافظ: هو
منقطع إلا أن يكون الضمير في جده يعود على محمد، فجده حسين سمع منهما، لكن في
سماع محمد من حسين نظر كبير، ورواه ابن أبي عاصم في كتاب النكاح بسند حسن.. عن
زيد بن وهب قال: كنت عند عمر فذكر من عنده المجوس، فوثب عبد الرحمن بن عوف فقال:
أشهد بالله على رسول الله ﵌ لسمعه يقول: «إنما المجوس طائفة من أهل الكتاب،
فاحملوهم على ما تحملون عليه أهل الكتاب» . (التلخيص ٣/ ٣٥٣) ط. قرطبة-
القاهرة.
وقال الزرقاني عن هذا الحديث: «هو عام أريد به الخصوص» (شرح
المنتقى ٢/ ١٣٩) .
(٣) إسناده ضعيف: ورواه ابن أبي شيبة (١٢/ ٢٤٢)، (٩١/
١٢٦)، (١٢/ ٢٤٩)، (١٢٧٠٦) والبيهقي (٩/ ١٩٢، ٢٨٥) .
وأورده الحافظ في
«التلخيص» (٣/ ٣٥٤) وقال: وهو مرسل، وفي إسناده قيس بن الربيع وهو ضعيف، قال
البيهقي: وإجماع أكثر المسلمين عليه يؤكده.
(٤) حديث صحيح: رواه البخاري (٦/
٢٥٧)، عن عبد الرحمن بن عوف.
(٥) تسكن بلاد تغلب بالجزيرة الفراتية، وتعرف
بديار ربيعة (معجم قبائل العرب) لكحالة (١/ ١٢٠) .
(٦) حديث صحيح: رواه
الشافعي في «الأم» (٢/ ٢٥٤)، (٤/ ٣٠٠)، وعبد الرزاق في «المصنف»
وهكذا
سائر العرب المتنصرة كتنوخ، وجذام، ولخم، وعاملة، ومن أشبههم «١» .
قال ابن
كثير «٢»: وهو قول غير واحد من السلف والخلف.
وروي عن سعيد بن المسيب والحسن
البصري أنهما كانا لا يريان بأسا بذبيحة نصارى بني تغلب «٣» .
وقال القرطبي
«٤»: قال جمهور الأمة: إن ذبيحة كل نصراني حلال، سواء كان من بني تغلب أو من
غيرهم، وكذلك اليهود.
وقال «٥»: ولا خلاف بين العلماء أن ما لا يحتاج إلى
ذكاة، كالطعام يجوز أكله مطلقا.
وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ: أي وطعام
المسلمين حلال لأهل الكتاب. وفيه دليل على أنه يجوز للمسلمين أن يطعموا أهل
الكتاب من ذبائحهم، وهذا من باب المكافأة والمجازاة، وإخبار للمسلمين بأن ما
يأخذونه من أعواض الطعام حلال لهم بطريق الدلالة الالتزامية.
وَالْمُحْصَناتُ:
مبتدأ، واختلف في تفسيرهن هنا: فقيل: العفائف، وقيل الحرائر «٦» .
وقرأ
الشعبي بكسر الصاد، وبه قرأ الكسائي. وقد تقدم الكلام على هذا مستوفى في البقرة
والنساء «٧» .
(٨٥٧٠)، والبيهقي في «الكبرى» (٩/ ٢٨٤) .
وصححه الحافظ
في «فتح الباري» (٩/ ٦٣٧) .
(١) انظر: أحكام أهل الذمة (١/ ١٣٦) .
(٢)
انظره في «تفسيره» (٢/ ٢١) .
(٣) انظر: الطبري (٦/ ٦٦)، وزاد المسير (٢/
٢٩٦) .
(٤) انظره في «تفسيره» (٦/ ٧٦، ٧٨) .
(٥) أي القرطبي (٦/ ٧٨) .
[.....]
(٦) انظر: الطبري (٦/ ٦٦)، النكت (١/ ٤٤٩) .
(٧) انظر: معاني
القراءات للأزهري (ص ١٢٣)، وقال: «وأجمع القراء على فتح الصّاد من قوله جل وعز:
«والمحصنات من النساء لأن معناهن أنهن أحصنّ بالأزواج» .
وقد تقدم الكلام
عليه في سورة البقرة (١٧٣)، والنساء (٢٤) .
وقوله: مِنَ
الْمُؤْمِناتِ: وصف له، والخبر محذوف، أي حل لكم، وذكرهن هنا توطئة وتمهيدا
لقوله:
وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ:
المراد بهن الحرائر دون الإماء، هكذا قال الجمهور.
وحكى ابن جرير «١» عن
طائفة من السلف: أن هذه الآية تعم كل كتابية حرة أو أمة.
وقيل: المراد بأهل
الكتاب الإسرائيليات وبه قال الشافعي وهذا تخصيص بغير مخصص.
وقال عبد الله
بن عمر: لا تحل النصرانية قال: ولا أعلم شركا أكبر من أن تقول:
ربها عيسى!
وقد قال الله تعالى: وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ ... الآية
[البقرة: ٢٢١] .
ويجاب عنه بأن هذه الآية مخصصة للكتابيات من عموم المشركات،
فيبنى العام على الخاص، وقد استدل من حرم نكاح الإماء الكتابيات بهذه الآية، لأنه
حملها على الحرائر، ولقوله تعالى: فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ
فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ [النساء: ٢٥] .
وقد ذهب إلى هذه كثير من أهل
العلم، وخالفهم من قال: إن الآية تعم أو تخص العفائف، كما تقدم.
والحاصل:
أنه يدخل تحت هذه الآية الحرة العفيفة من الكتابيات على جميع الأقوال، إلا على
قول ابن عمر في النصرانية، ويدخل تحتها الحرة التي ليست بعفيفة، والأمة العفيفة،
على قول من يقول إنه يجوز استعمال المشرك في كلا معنييه.
وأما من لم يجوّز
ذلك فإن حمل المحصنات هنا على الحرائر، لم يقل بجواز نكاح الأمة عفيفة كانت أو
غير عفيفة إلا بدليل آخر، ويقول بجواز نكاح الحرة عفيفة كانت أو غير عفيفة، وإن
حمل المحصنات هنا على العفائف، قال بجواز نكاح الحرة العفيفة والأمة العفيفة دون
غير العفيفة منها. ومذهب الإمام أبي حنيفة جواز نكاح الأمة الكتابية أخذا بعموم
الآية «٢» .
(١) انظر: الطبري (٦/ ١٠٥، ١٠٧) .
(٢) قال الرازي: «وعلى
هذا البحث وقع الخلاف بين الشافعي وأبي حنيفة. فعند الشافعي لا يجوز التزوج
بالأمة الكتابية: قال: لأنه اجتمع في حقها نوعان من النقصان: الكفر والرّق.
إِذا
آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ: أي مهورهن، وجواب إذا محذوف، أي: فهي حلال، أو هي
ظرف لخبر المحصنات المقدر، أي: حل لكم.
مُحْصِنِينَ: منصوب على الحال، أي
حال كونكم أعفاء بالنكاح.
وكذا قوله: غَيْرَ مُسافِحِينَ: منصوب على الحال
من الضمير في محصنين، أو صفة لمحصنين، والمعنى غير مجاهرين بالزنا.
وَلا
مُتَّخِذِي أَخْدانٍ: معطوف على غير مسافحين، أو على مسافحين، ولا مزيدة
للتأكيد.
والخدن: الصديق في السر يقع على الذكر والأنثى، أي ولم تتخذوا
معشوقات، فقد شرط الله في الرجال العفة، وعدم المجاهرة بالزنا، وعدم اتخاذ أخدان،
كما شرط في النساء أن يكن محصنات.
[الآية السادسة] يا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ
إِلَى الْمَرافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ
وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ
أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ
تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ
وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ ما يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ
وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ
تَشْكُرُونَ (٦) .
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى
الصَّلاةِ: إذا أردتم القيام تعبيرا بالمسبب عن السبب، كما في قوله تعالى: فَإِذا
قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ [النحل: ٩٨] .
وقد اختلف أهل
العلم في هذا الأمر عند إرادة القيام إلى الصلاة، فقالت طائفة:
هو علم في كل
قيام إليها، سواء كان القائم متطهرا أو محدثا فإنه ينبغي له إذا قام إلى
وعند
أبي حنيفة يجوز، وتمسّك بهذه الآية بناء على أن المراد بالمحصنات العفائف (مفاتيح
الغيب ٥/ ٥٧٧)
الصلاة أن يتوضأ، وهو مروي عن علي وعكرمة «١»
وقال بوجوبه داود الظاهري «٢» .
وقال ابن سيرين: كان الخلفاء يتوضؤون لكل
صلاة «٣» .
وقالت طائفة أخرى: إن هذا الأمر خاص بالنبي ﵌، وهو ضعيف! فإن
الخطاب للمؤمنين والأمر لهم «٤» .
وقالت طائفة: الأمر للندب طلبا للفضل.
وقال
آخرون: الوضوء لكل صلاة كان فرضا عليهم بهذه الآية، ثم نسخ في فتح مكة «٥» .
وقال
جماعة: هذا الأمر خاص بمن كان محدثا.
وقال آخرون: المراد إذا قمتم من النوم
إلى الصلاة، فيعم الخطاب كل قائم من النوم «٦» .
وقد أخرج مسلم وأحمد وأهل
«السنن» «٧» عن بريدة. قال: «كان النبي ﵌ يتوضأ عند كل صلاة، فلما كان يوم الفتح،
توضأ ومسح على خفيه، وصلى الصلوات بوضوء واحد، فقال له عمر: يا رسول الله إنك
فعلت شيئا لم تكن تفعله؟. قال: عمدا فعلته
(١) إسناده ضعيف: رواه الدارمي في
«سننه» (١/ ١٦٨)، وابن جرير في «تفسيره» (١١٣٢٣)، من طريق مسعود بن عليّ الشيباني
قال: سمعت عكرمة يقول: «كان عليّ ﵁ يتوضأ عند كل صلاة..» فذكر الحديث. وعلته:
الانقطاع بين الشيباني وعكرمة.
(٢) قال داود: يجب الوضوء لكل صلاة، وقال
أكثر الفقهاء: لا يجب. (مفاتيح الغيب ٥/ ٥٨٠) .
(٣) إسناده ضعيف: رواه
الطبري (٦/ ١١٣)، وعلته: أن محمد بن سيرين لم يرو عن أحد من الخلفاء الأربعة ولم
يدركهم.
(٤) انظر: الطبري (٦/ ١١٣)، والقرطبي (٤/ ٢٠٧٧، ٢٠٧٩) ط دار
الشعب.
ومما يدل على أن النبي ﵌ أمر بالوضوء لكل صلاة، فلما شق الأمر أمر
بالسواك عند كل صلاة. رواه أبو داود (٤٨)، وأحمد (٥/ ٢٢٥)، والدارمي (١/ ١٦٨،
١٦٩) والحاكم (١/ ١٥٥، ١٥٦)، عن ابن عمر مرفوعا. وصححه ووافقه الذهبي.
قلت:
في إسناده محمد ابن إسحاق، وقد صرّح بالتحديث، فحديثه حينئذ حسن.
(٥) انظر:
مفاتيح الغيب (٥/ ٥٨٢)، القرطبي (٤/ ٢٠٧٨) ط دار الشعب، والطبري (٦/ ١١٢) .
(٦)
انظر: المصادر السابقة.
(٧) حديث صحيح: رواه مسلم (٧٧)، وأبو داود (١٧٢)،
والترمذي (٦١)، والنسائي (١/ ١٦)، وابن ماجة (٥١٠)، وأحمد (٥/ ٣٥٠، ٣٥١، ٣٥٨)،
والدارمي (١/ ١٦٩)، وابن حبان (١٧٠٦، ١٧٠٧، ١٧٠٨) .
يا عمر» .
وهو مروي من طرق كثيرة بألفاظ متفقة في المعنى «١» .
وأخرج البخاري وأحمد
وأهل «السنن» «٢» عن عمرو بن عامر الأنصاري: سمعت أنس بن مالك يقول: «كان النبي ﵌
يتوضأ عند كل صلاة. قال: قلت: فأنتم كيف تصنعون؟ قال: كنا نصلي الصلوات بوضوء
واحد ما لم نحدث» .
فتقرر بما ذكر أن الوضوء لا يجب إلا على المحدث، وبه قال
جمهور أهل العلم، وهو الحق.
فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ الوجه في اللغة: مأخوذة
من المواجهة، وهو عضو مشتمل على أعضاء، وله طول وعرض، فحده في الطول: من مبتدأ
سطح الجبهة إلى منتهى اللحيين، وفي العرض: من الأذن إلى الأذن.
وقد ورد
الدليل بتخليل اللحية «٣» .
واختلف العلماء في غسل ما استرسل، والكلام في
ذلك مبسوط في مواطنه «٤» .
وقد اختلف أهل العلم أيضا هل يعتبر في الغسل
الدلك باليد، أم يكفي إمرار الماء؟ والخلاف في ذلك معروف والمرجع اللغة العربية
فإن ثبت فيها أن الدلك داخل في مسمى الغسل كان معتبرا، وإلا فلا.
قال في
«شمس العلوم»: غسل الشيء غسلا، إذا أجرى عليه الماء ودلكه.
انتهى.
وأما
المضمضة والاستنشاق فإذا لم يكن لفظ الوجه يشتمل باطن الفم والأنف،
(١) انظر
بعضها عند ابن حبان (١٧٠٦، ١٧٠٧، ١٧٠٨) .
(٢) حديث صحيح: رواه البخاري (١/
٣١٥)، وأبو داود (١٧١)، والترمذي (٦٠)، والنسائي (١/ ٨٥)، وابن ماجة (٥٠٩)، وأحمد
في «المسند» (٣/ ١٣٢، ١٣٣، ١٥٤) . [.....]
(٣) حديث صحيح: رواه أبو داود
(١٤٥)، والبيهقي في «الكبرى» (١/ ٥٤) عن أنس مرفوعا.
وروي نحوه عن عمار بن
ياسر في «مسند ابن أبي شيبة- بتحقيقنا- وأحمد في «العلل» (١٠٣٥) والترمذي (٢٩)،
وابن ماجة (٤٢٩)، والطيالسي (٦٤٥)، والطبري (٦/ ١٢١)، والحاكم (١/ ١٤٩) .
وانظر:
المحلى لابن حزم (٢/ ٣٦) .
وانظر: ما رواه أبو عبيد في «الطهور» في مسألة
تخليل اللحية والمذاهب التي فيها (ص ٣٤٣، ٣٥٢) تحقيق الأستاذ المحقق مشهور حسن
سلمان.
(٤) راجع نيل الأوطار (١/ ١٨١) .
فقد ثبت غسلهما
بالسنة الصحيحة «١»، والخلاف في الوجوب وعدمه معروف. وقد أوضح الشوكاني ما هو
الحق في مؤلفاته ك «المختصر» و«شرحه» و«نيل الأوطار» «٢» .
وَأَيْدِيَكُمْ
إِلَى الْمَرافِقِ: إلى الغاية. وأما كون ما بعدها يدخل فيما قبلها فمحل خلاف،
وقد ذهب سيبويه وجماعة إلى أن ما بعدها إن كان من نوع ما قبلها دخل وإلا فلا.
وقيل: إنها هنا بمعنى مع. وذهب قوم إلى أنها تفيد الغاية مطلقا، وأما الدخول
وعدمه فأمر يدور مع الدليل.
وقد ذهب الجمهور أن المرافق تغسل، واستدلوا بما
أخرجه الدارقطني والبيهقي من طريق القاسم بن محمد بن عبد الله بن محمد بن عقيل عن
جده عن جابر بن عبد الله قال: «كان رسول الله ﵌ إذا توضأ أدار الماء على مرفقيه»
. ولكن القاسم هذا متروك، وجده ضعيف «٣» .
وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ: قيل
الباء زائدة، والمعنى امسحوا رؤوسكم وذلك يقتضي تعميم المسح لجميع الرأس، وقيل:
هي للتبعيض، وذلك يقتضي أنه يجزىء مسح بعضه.
واستدل القائلون بالتبعيض بقوله
تعالى في التيمم فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ [النساء: ٤٣] ولا يجزىء مسح بعض الوجه
اتفاقا، وقيل: إنها للإلصاق، أي ألصقوا أيديكم برؤوسكم، وعلى كل حال فقد ورد في
السنة المطهرة ما يفيد أنه يكفي مسح بعض الرأس، كما أوضح الشوكاني ذلك في مؤلفاته
«٤»، فكان هذا دليلا على المطلوب غير محتمل كاحتمال الآية، على فرض أنها محتملة،
ولا شك أن من أمر غيره أن يمسح
(١) منها: ما رواه أبو داود (١٤٤)، عن لقيط
بن صبرة.
وما رواه البخاري (١/ ٢٦٣) ومسلم، (٢٣٧) عن أبي هريرة مرفوعا.
وانظر:
فتح الباري للحافظ (١/ ٢٦٢) فإن فيه فوائد.
(٢) انظره في (١/ ١٧١، ١٨١)،
وكذلك السيل الجرّار (١/ ٨١، ٨٢) .
(٣) رواه الدارقطني في «سننه» (١/ ٨٣)،
والبيهقي في «الكبرى» (١/ ٥٦) .
(٤) ذكر الشوكاني الاختلاف في المسألة ثم
قال: وبعد هذا فلا شك في أولوية استيعاب المسح لجميع الرأس وصحة أحاديث ولكن دون
الجزم بالوجوب مفاوز وعقبات اه. وانظر: نيل الأوطار (١/ ١٥٥، ١٥٧) .
وقال
المصنف في «الروضة الندية»: «والسنة الصحيحة وردت بالبيان، وفيها ما يفيد جواز
الاقتصار على مسح البعض في بعض الحالات» . (١/ ٣٧، ٣٨) .
رأسه
كان ممتثلا بفعل ما يصدق عليه مسمى المسح وليس في لغة العرب ما يقتضي أنه لا بد
في مثل هذا الفعل من مسح جميع الرأس، وهكذا سائر الأفعال المتعدية نحو:
اضرب
زيدا أو أطعنه. فإنه يؤخذ المعنى العربي بوقوع الضرب أو الطعن على عضو من أعضائه
ولا يقول قائل من أهل اللغة ومن هو عالم بها، إنه لا يكون ضاربا إلا بإيقاع الضرب
على كل جزء من أجزاء زيد، وكذلك الطعن وسائر الأفعال. فاعرف هذا المعنى يتبين لك
ما هو الصواب من الأقوال في مسح الرأس.
فإن قلت: يلزم مثل هذا في غسل الوجه
واليدين والرجلين؟ قلت: تلزم لولا البيان من السنة في الوجه، والتحديد بالغاية في
اليدين والرجلين، بخلاف الرأس، فإنه ورد في السنة مسح الكل ومسح البعض «١» .
وَأَرْجُلَكُمْ:
قرأ نافع بنصب الأرجل، وهي قراءة الحسن البصري والأعمش، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو
وحمزة بالجر، فقراءة النصب تدل على أنه يجب غسل الرجلين، لأنها معطوفة على الوجوه
والأيدي، وإلى هذا ذهب جمهور العلماء، والفصل بالممسوح بين المغسولات يفيد وجوب
الترتيب في تطهير هذه الأعضاء، وعليه الشافعي.
وقراءة الجر تدل على أنه يجوز
الاقتصار على مسح الأرجل، لأنها معطوفة على الرؤوس، وإليه ذهب ابن جرير الطبري،
وهو مروي عن ابن عباس «٢» .
(١) حديث صحيح: رواه مسلم (٢٧٤)، عن المغيرة
مرفوعا قوله: «أن النبي ﵌ مسح بناصيته وعلى العمامة وعلى خفيه» .
(٢) قال
الأزهري: «من قرأ (وأرجلكم) نصبا عطفه على قوله «اغسلوا وجوهكم وأيديكم» أخر
ومعناه التقديم: وقد رويت هذه القراءة عن ابن عباس، وبها قرأ الشافعي، ورويت عن
ابن مسعود، وهي أجود القراءتين: لموافقتها الأخبار الصحيحة عن النبي ﵌ في غسل
الرجلين» .
ومن قرأ (وأرجلكم) عطفها على قوله «وامسحوا برؤوسكم» وبيّنت
السنة أن المراد بمسح الأرجل غسلها، وذلك أن المسح في كلام العرب يكون غسلا،
ويكون مسحا باليد، والأخبار جاءت بغسل الأرجل ومسح الرؤوس، ومن جعل مسح الأرجل
كمسح الرؤوس خطوطا بالأصابع فقد خالف ما صحّ عن رسول الله ﵌ أنه قال: «ويل
للعراقيب من النار» و«ويل للأعقاب من النار» . وأخبرني أبو بكر بن عثمان عن أبي
حاتم عن أبي زيد الأنصاري أنه قال: المسح عند العرب يكون غسلا، فلا بدّ من غسل
الرجلين إلى الكعبين. (معاني القراءات ص ١٣٩، ١٤٠) ومادة مسح من تهذيب اللغة
للأزهري.
وانظر: كفاية الأخبار للحصني ﵁ (ص ٢٥) -.
قال
داود الظاهري: يجب الجمع بين الأمرين على اقتضاء القراءتين.
وقال ابن
العربي: اتفقت الأمة على وجوب غسلهما، وما علمت من ردّ ذلك إلا الطبري من فقهاء
المسلمين، والرافضة من غيرهم! وتعلق الطبري بقراءة الجر! «١» .
قال القرطبي
«٢»: قد روي عن ابن عباس أنه قال: الوضوء غسلتان ومسحتان «٣» .
قال: وكان
عكرمة يمسح رجليه، وقال: ليس في الرجلين غسل إنما نزل فيهما المسح «٤» .
وقال
عامر الشعبيّ: نزل جبرئيل بالمسح «٥» .
قال: وقال قتادة: افترض الله مسحتين
وغسلتين «٦» .
قال «٧»: وذهب ابن جرير الطبري إلى أن فرضهما التخيير بين
الغسل والمسح، وجعل القراءتين كالروايتين، وقوّاه النحاس، ولكنه قد ثبت في السنة
المطهرة بالأحاديث الصحيحة من فعله ﵌ وقوله غسل الرجلين فقط «٨» .
وثبت عنه
أنه قال: «ويل للأعقاب من النار» وهو في «الصحيحين» «٩» وغيرهما، فأفاد وجوب غسل
الرجلين، وأنه لا يجزىء مسحهما لأن شأن المسح أن يصيب ما أصاب، ويخطىء ما أخطأ،
فلو كان مجزيا لما قال: «ويل للأعقاب من النار» .
(١) انظر الطبري (٦/ ١٣٠)
.
(٢) انظره في تفسيره (٦/ ٩٢) .
(٣) إسناده ضعيف: رواه ابن جرير
(١١٤٧٤)، عن ابن جريح عن عمرو بن دينار عن عكرمة عن ابن عباس فذكره، وأورده
القرطبي في «تفسيره» (٦/ ٩٢) .
(٤) رواه الطبري (١١٤٧٨) . وأورده القرطبي
(٦/ ٩٢) .
(٥) إسناده حسن: رواه الطبري (١١٤٨٥) .
(٦) أثر صحيح: رواه
الطبري (١١٤٨٧) . [.....]
(٧) أي القرطبي (٦/ ٩٢) .
(٨) رواه البخاري
(١/ ٢٨٩، ٢٩٤، ٢٩٧)، ومسلم (٣/ ١٢١، ١٢٣)، (٢٣٥) عن عبد الله بن زيد مرفوعا.
وفي
الباب عن الإمام عليّ وابن عباس.
(٩) رواه البخاري (١/ ٢٦٥)، ومسلم (٣/
١٢٨)، وأبو داود (٩٧)، والنسائي (١/ ٧٧)، وابن ماجة (٤٥٠)، وأحمد (٢/ ١٩٣) عن عبد
الله بن عمرو بن العاص مرفوعا.
وقد ثبت أنه قال بعد أن توضأ
وغسل رجليه: «هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به» «١» .
وقد ثبت في «صحيح
مسلم» «٢» وغيره أن رجلا توضأ فترك على قدمه مثل موضع الظفر فقال له: «ارجع فأحسن
وضوءك» .
وأما المسح على الخفين فهو ثابت بالأحاديث المتواترة «٣» .
وقوله:
إِلَى الْكَعْبَيْنِ: معناه معهما، كما بينت السنة، والكلام فيه كالكلام في قوله:
إِلَى الْمَرافِقِ، وقد قيل في وجه جمع المرافق وتثنية الكعاب إنه لما كان في كل
رجل كعبان ولم يكن في كل يد إلّا مرفق واحد لم يتوهم وجود غيره- ذكر معنى هذا ابن
عطية.
وقال الكواشي «٤»: ثنى الكعبين وجمع المرافق، لنفي توهم أن في كل واحد
من الرجلين كعبين، وإنما في كل واحدة كعب واحد، له طرفان من جانبي الرجل، بخلاف
المرافق فهي أبعد عن الوهم. انتهى.
فهذه الفروض الأربعة في الوضوء، وبقي من
فرائضه النية والتسمية، ولم يذكرا في هذه الآية، بل وردت بهما السنة «٥» .
وقيل:
إن في هذه الآية ما يدل على النية لأنه لما قال: إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ
فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ كان تقدير الكلام فاغسلوا وجوهكم لها، وذلك هو النية
المعتبرة، لا ما تعارف اليوم بين الناس، من التلفظ بعبارات مبتدعة! فقد صرح غير
واحد بإنكار ذلك، وعدم وروده عن النبي ﵌، بل ولا عن أحد من الصحابة وتابعيهم ومن
بعدهم
(١) إسناده ضعيف: رواه ابن ماجة (٤١٩)، والدارقطني كما في «التلخيص»
(١/ ٨٢، ٨٣) .
(٢) حديث صحيح: رواه مسلم (٣/ ١٣١، ١٣٢)، عن جابر مرفوعا.
(٣)
انظر: صحيح البخاري (١/ ٣٠٥)، ومسلم (٣/ ١٧٣) .
(٤) في تفسيره وهو مخطوط
بدار الكتب المصرية، ومعهد المخطوط العربية بالقاهرة، وهو تفسير جيد عظيم الفوائد
البيانية، وكذا مختصره للمنصف أيضا.
(٥) أولا النية: ما رواه البخاري (١/ ٩،
١٣٥)، ومسلم (١٩٠٧) عن عمر مرفوعا.
ثانيا التسمية: رواه أحمد (٢/ ٤١٨)، وأبو
داود (١٠١)، وابن ماجة (٣٩٩) عن أبي هريرة مرفوعا قوله ﵌: «لا صلاة لمن لا وضوء
له، ولا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه» .
وانظر: فتح القدير (٢/ ١٧، ١٨)
.
من الأئمة المعتبرين رضوان الله عليهم أجمعين «١» .
وَإِنْ
كُنْتُمْ جُنُبًا: المراد بالجنابة هي الحاصلة بدخول حشفة، أو نزول مني الاحتلام،
ونحو ذلك.
فَاطَّهَّرُوا: أي فاغتسلوا بالماء.
وقد ذهب عمر بن الخطاب
وابن مسعود إلى أن الجنب لا يتيمم البتة، بل يدع الصلاة حتى يجد الماء، استدلالا
بهذه الآية.
وذهب الجمهور إلى وجوب التيمم للجنابة مع عدم الماء. وهذه الآية
هي للواجد، على أن التطهر هم أعمل من الحاصل بالماء، أو بما هو عوض عنه مع عدمه
وهو التراب.
[وقد] «٢» صح عن عمر وابن مسعود الرجوع إلى ما قاله الجمهور،
للأحاديث الصحيحة الواردة في تيمم الجنب مع عدم الماء «٣» .
وَإِنْ كُنْتُمْ
مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ
لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا
فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ: قد قدم تفسير المرض والسفر
والمجيء من الغائط في سورة النساء مستوفى، وكذلك تقدم الكلام على ملامسة النساء،
وعلى التيمم وعلى الصعيد.
ومن قوله مِنْكُمْ لابتداء الغاية، وقيل:
للتبعيض.
قيل: وجه تكرير هذا هو استيفاء الكلام في أنواع الطهارة.
ما
يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ: أي ما يريد بأمركم بالطهارة
بالماء، أو بالتراب التضييق عليكم في الدّين، ومنه قوله تعالى: ما يُرِيدُ
اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ
(١)
وانظر في بدعيّة الجهر بالنية: زاد المعاد (١/ ٢١، ٥٧)، والإنصاف للمرداوي (١/
٤٢١) وفتح القدير (١/ ١٨٦)، والأمر بالاتباع للسيوطي (٢٩٥) .
(٢) حرّف في
«المطبوعة» إلى (وقال) وهو خطأ واضح والتصويب من فتح القدير (٢/ ١٨) .
(٣)
منها: ما رواه البخاري (١/ ٤٤٧، ٤٤٨)، ومسلم (٥/ ١٨٩، ١٩٢) عن عمران بن حصين
مرفوعا.
وانظر: القرطبي (٤/ ٢١٠٠، ٢١٠١)، ط. دار الشعب- ومفاتيح الغيب (٥/
٥٩٨، ٥٩٩) ط. دار الغد العربي.
وانظر ما تقدم من تفسير سورة النساء عند
الآية (٤٣) .
من الذنوب والخطايا لأن الوضوء من كفارتها كما في
الحديث «١» .
وقيل: من الأصغر والأكبر «٢» .
[الآية السابعة]
فَبَعَثَ
اللَّهُ غُرابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوارِي سَوْأَةَ
أَخِيهِ قالَ يا وَيْلَتى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا الْغُرابِ
فَأُوارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ (٣١) .
فَبَعَثَ
اللَّهُ غُرابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوارِي سَوْأَةَ
أَخِيهِ قيل: إنه لما قتل أخاه لم يدر كيف يواريه، لكونه أول ميت مات من بني آدم،
فبعث الله غرابين أخوين، فاقتتلا فقتل أحدهما صاحبه، فحفر له ثم [حثا] «٣» عليه،
فلما رآه قابيل قال:
يا وَيْلَتى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا
الْغُرابِ فَأُوارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فواراه «٤» .
[الآيتان: الثامنة
والتاسعة]
إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ
وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ
تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ
ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (٣٣)
إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا
أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣٤) .
إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ
اللَّهَ وَرَسُولَهُ قد اختلف الناس في سبب نزول هذه الآية،
(١) حديث صحيح:
وهو عن أبي سعيد الخدري عند أحمد في «المسند» (٣/ ٣)، وابن ماجة (٤٢٧)، والدارمي
(١/ ١٧٨)، والحاكم في «المستدرك» (١/ ١٩١، ١٩٢)، وصححه ووافقه الذهبي.
وبنحوه
عند مسلم (٣/ ١٤١) عن أبي هريرة مرفوعا.
(٢) يقصد بذلك الذنوب منها الصغائر،
ومنها الكبائر.
(٣) وقع في «المطبوعة» حتى، وهو خطأ ظاهر، والصواب ما أثبت
وكما في «فتح القدير» (٢/ ٣٢) . [.....]
(٤) انظر: الطبري (٦/ ١٢٠)، والنكت
للماوردي (١/ ٤٥٦)، وزاد المسير (٢/ ٢٣١)، وابن كثير (٢/ ٤١)، والقرطبي (٦/ ١٣٣)،
والدر المنثور (٢/ ٢٧٣) .
فذهب الجمهور: إلى أنها نزلت في
[العرنيين] «١» .
وقال مالك والشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي: إنها نزلت فيمن
خرج من المسلمين يقطع الطريق، ويسعى في الأرض بالفساد.
قال ابن المنذر: قول
مالك صحيح.
قال أبو ثور محتجا لهذا القول: إن قوله في هذه الآية: إِلَّا
الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ [المائدة: ٣٤] يدل على
أنها نزلت في غير أهل الشرك، لأنهم قد أجمعوا على أن أهل الشرك إذا وفقوا في
الدنيا، فأسلموا فإن دماءهم تحرم، فدلّ ذلك على أن الآية نزلت في أهل الإسلام.
انتهى «٢» .
وهكذا يدل على هذا قوله: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ
يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ.
وقوله ﵌: «الإسلام يهدم ما
قبله» أخرجه مسلم «٣» وغيره.
وحكى ابن جرير الطبري في «تفسيره» «٤» عن بعض
أهل العلم: أن هذه الآية- أعني آية المحاربة- نسخت فعل النبي ﵌ في [العرنيين]
ووقف الأمر على هذه الحدود.
وروي عن محمد بن سيرين أنه قال: كان هذا قبل أن
تنزل الحدود، يعني فعله ﵌ [العرنيين] «٥» .
وبهذا قال جماعة من أهل
العلم.
وذهب جماعة آخرون إلى أن فعله ﵌ بالعرنيين منسوخ فنهى النبي ﵌ عن
المثلة. والقائل بهذا مطالب ببيان تأخر الناسخ. والحق أن هذه الآية تعم المشرك
وغيره، ممن ارتكب ما تضمنته ولا اعتبار بخصوص السبب، بل الاعتبار بعموم اللفظ «٦»
.
(١) صحفت في «المطبوعة» إلى (العرينين)، والتصويب من البخاري (٢/ ٣٣٥)،
(٨/ ٢٧٣)، ومسلم (١١/ ١٥٣، ١٥٥) .
(٢) وانظر: الطبري (٦/ ١٣٢)، النكت (١/
٤٦١)، وزاد المسير (٢/ ٣٤٥)، القرطبي (٦/ ١٥٠)، ابن كثير (٢/ ٤٨) .
(٣) حديث
صحيح: رواه مسلم (٢/ ١٣٦، ١٣٩) عن عمرو بن العاص مرفوعا.
(٤) انظره في (٦/
٢٠٩) .
(٥) أثر ضعيف: رواه أبو داود (٤٣٧١)، وضعّفه الألباني كما في «ضعيف
أبي داود» (٩٣٩) .
(٦) انظر كلام القاضي ابن العربي في هذه المسألة (٢/ ١٨٩،
١٩١) .
قال القرطبي في «تفسيره» «١»: ولا خلاف بين أهل العلم في
أن حكم هذه الآية مترتب في المحاربين من أهل الإسلام وإن كانت نزلت في المرتدين
أو اليهود. انتهى.
ومعنى قوله مترتب أي ثابت.
وقيل: المراد بمحاربة
الله المذكورة في الآية: هي محاربة رسول الله ﵌، ومحاربة المسلمين في عصره، ومن
بعد عصره بطريق العبارة، دون الدلالة ودون القياس، لأن ورود النص ليس بطريق خطاب
المشافهة حتى يختص حكمه بالمكلفين عند النزول، فيحتاج في تعميم الخطاب لغيرهم إلى
الدليل.
وقيل: إنها جعلت محاربة الله ولرسوله، إكبارا لحربهم وتعظيما
لأذيتهم لأن الله سبحانه لا يحارب ولا يغالب.
والأولى: أن تفسر محاربة الله
سبحانه بمعاصيه، ومخالفة شرائعه ومحاربة الرسول تحمل على معناها الحقيقي، وحكم
أمته حكمه وهم السوية.
والسعي في الأرض فسادا: يطلق على أنواع من الشر كما
قدمنا قريبا.
قال ابن كثير في «تفسيره» «٢»: قال كثير من السلف منهم سعيد بن
المسيب: إن فرض الدراهم والدنانير من الإفساد في الأرض، وقد قال تعالى: وَإِذا
تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ
وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ (٢٠٥) [البقرة: ٢٠٥] . انتهى.
إذا تقرر لك
ما قررناه من عموم الآية، ومن معنى المحاربة، والسعي في الأرض فسادا، فاعلم أن
ذلك يصدق على كل من وقع منه ذلك، سواء كان مسلما أو كافرا، في مصر أو غير مصر، في
كل قليل وكثير وجليل وحقير، وإن حكم الله في ذلك هو ما ورد في هذه الآية من القتل
أو الصلب أو قطع الأيدي والأرجل من خلاف، أو النفي من الأرض، ولكن لا يكون هذا
حكم من فعل أي ذنب من الذنوب، بل من كان ذنبه هو التعدي على دماء العباد وأموالهم
فيما عدا ما قد ورد له حكم غير هذا الحكم، من كتاب الله، أو سنة رسوله ﵌، كالسرقة
وما يجب فيه القصاص، لأنا نعلم أنه قد كان في زمنه ﵌ من يقع منه ذنوب ومعاصي غير
ذلك، ولا يجري عليه ﵌ هذا الحكم المذكور في هذه الآية، وبهذا يعرف ضعف ما روي عن
مجاهد، في تفسير المحاربة
(١) انظره في (٦/ ١٥٠) .
(٢) انظره في (٢/
٥٠) .
المذكورة، وفي هذه الآية: أنها الزنا والسرقة «١» .
ووجه
ذلك، أن هذين الذنبين قد ورد في كتاب الله وفي سنة رسول الله ﵌ لهما حكم غير هذا
الحكم.
وإذا عرفت ما هو الظاهر من معنى هذه الآية- على مقتضى لغة العرب،
التي أمرنا بأن نفسر كتاب الله وسنة رسوله ﵌ بها- فإياك أن تغترّ بشيء من
التفاصيل المروية، والمذاهب المحكية، إلا أن يأتيك الدليل الموجب لتخصيص هذا
العموم، أو تقييد هذا المعنى المفهوم من لغة العرب، فأنت وذاك، اعمل به وضعه في
موضعه، وأما ما عداه:
فدع عنك نهبا صيح في حجراته ... وهات حديثا ما حديث
الرواحل
على أنا سنذكر من هذه المذاهب ما تسمعه «٢»:
اعلم أنه قد اختلف
العلماء في من يستحق اسم المحاربة، فقال ابن عباس وسعيد ابن المسيب ومجاهد وعطاء
والحسن البصري وإبراهيم النخعي والضحاك وأبو ثور: إن من شهر السلاح في قبة
الإسلام وأخاف السبيل، ثم ظفر به، وقدر عليه، فإمام المسلمين فيه بالخيار: إن شاء
قتله، وإن شاء صلبه، وإن شاء قطع يده ورجله.
وبهذا قال مالك، وصرح: بأن
المحارب عنده من حمل على الناس في مصر، أو برية، أو كابرهم على أنفسهم وأموالهم،
دون نائرة «٣»، ولا [ذحل] «٤»، ولا عداوة.
قال ابن المنذر: اختلف عن مالك في
هذه المسألة، فأثبت المحاربة في المصر مرة، ونفى ذلك مرة.
وروي عن ابن عباس
غير ما تقدم، فقال في قطاع الطريق: إذا قتلوا وأخذوا المال، قتلوا وصلبوا، وإذا
قتلوا ولم يأخذوا المال، قتلوا ولم يصلبوا، وإذا أخذوا المال ولم يقتلوا، قطعت
أيديهم وأرجلهم من خلاف، وإذا أخافوا السبيل ولم يأخذوا
(١) رواه الطبري
(١١٨٢٧)، (١١٨٢٨) .
(٢) انظر: تفسير الطبري (٦/ ٢٠٦، ٢٠٧)، والقرطبي (٦/
١٥١)، والشوكاني (٢/ ٣٥)، مفاتيح الغيب (٥/ ٦٦٥) .
(٣) أي من غير هائجة.
(٤)
صحفت إلى (دخل) في المطبوعة، والتصويب من فتح القدير (٢/ ٣٠)، والذحل: الثأر.
مالا،
نفوا من الأرض «١» .
وروي عن أبي مجلز وسعيد بن جبير وإبراهيم النخعي والحسن
وقتادة والسدي وعطاء على اختلاف في الرواية عن بعضهم البعض، وحكاه ابن كثير عن
الجمهور «٢» .
وقال أيضا: وهكذا عن غير واحد من السلف والأئمة.
قال أبو
حنيفة: إذا قتل قتل، وإذا أخذ المال ولم يقتل، قطعت يده ورجله من خلاف، وإذا أخذ
المال وقتل فالسلطان مخير فيه إن شاء قطع يديه ورجليه وإن شاء لم يقطع وقتله
وصلبه.
وقال أبو يوسف: القتل يأتي على كل شيء، ونحوه قول الأوزاعي.
وقال
الشافعي: إذا أخذ المال قطعت يده اليمنى وحسمت، ثم قطعت رجله اليسرى وحسمت وخلّي،
لأن هذه الجناية زادت على السرقة بالجزاء به، وإذا قتل قتل، وإذا أخذ المال وقتل
قتل وصلب. وروي عنه أنه قال: يصلب ثلاثة أيام.
وقال أحمد: إن قتل قتل، وإن
أخذ المال قطعت يده ورجله، كقول الشافعي «٣» .
ولا أعلم لهذه التفاصيل دليلا
من كتاب الله، ولا من سنة رسوله ﵌ إلا ما رواه ابن جرير في «تفسيره»، وتفرّد
بروايته فقال:
حدّثنا عليّ بن سهل حدثنا الوليد بن مسلم عن يزيد بن أبي حبيب
أن عبد الملك بن مروان كتب إلى أنس بن مالك يسأله عن هذه الآية؟ فكتب إليه يخبره:
أن هذه الآية نزلت في أولئك النفر العرنيين- وهم من بجيلة-، قال أنس: فارتدوا عن
الإسلام، وقتلوا الراعي، واستاقوا الإبل، وأخافوا السبيل، وأصابوا الفرج الحرام.
قال أنس:
فسأل رسول الله ﵌ جبريل عن القضاء فيمن حارب؟ فقال: من سرق وأخاف
السبيل فاقطع يده بسرقة، ورجله بإخافته، ومن قتل فاقتله، ومن قتل وأخاف السبيل
واستحل
(١) أورده السيوطي في «الدر» (٣/ ٦٨) وعزاه للشافعي في الأم وعبد
الرزاق والفريابي وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم وابن
المنذر والبيهقي. [.....]
(٢) انظر: القرطبي (٤/ ٢١٤٨، ٢١٤٩) ط. دار الشعب،
والأحكام لابن العربي (٢/ ٥٩٠، ٦٠١) وابن كثير (٢/ ٥٣)، مفاتيح الغيب (٥/ ٦٦٧)
.
(٣) وانظر: كفاية الأخيار (ص ٤٨٨)، وجامع الأمهات (ص ٥٢٣) . وغاية المطلب
(ص ٤٤٦) .
الفرج الحرام فاصلبه «١» .
وهذا مع ما فيه من
النكارة الشديدة لا يدرى كيف صحته.
قال ابن كثير في «تفسيره» «٢» بعد ذكره
شيئا من هذه التفاصيل التي ذكرناها ما لفظه: ويشهد لهذا التفصيل الحديث الذي رواه
ابن جرير في «تفسيره»، إن صحّ سنده، ثم ذكره.
وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ
فَسادًا: هو إما منتصب على المصدرية، أو على أنه مفعول له، أو على الحال
بالتأويل: أي مفسدين.
أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا: ظاهره أنهم يصلبون
أحياء حتى يموتوا لأنه أحد الأنواع التي خيّر الله بينها.
وقال قوم: الصلب
إنما يكون بعد القتل ولا يجوز أن يصلب قبل القتل، فيحال بينه وبين الصلاة والأكل
والشرب!! ويجاب بأن هذه عقوبة شرعها الله في كتابه لعباده.
أَوْ تُقَطَّعَ
أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ: ظاهره قطع إحدى اليدين، وإحدى الرجلين
من خلاف سواء كانت المقطوعة من اليدين هي اليمنى أو اليسرى، وكذلك الرجلان، ولا
يعتبر إلا أن القطع من خلاف، إما يمنى اليدين، مع يسرى الرجلين، أو يسرى اليدين،
مع يمنى الرجلين. وقيل: المراد بهذا قطع اليد اليمنى والرجل اليسرى فقط.
أَوْ
يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ: اختلف المفسرون في معناه: فقال السدي: هو أن يطلب
بالخيل والرجل، حتى يؤخذ ويقام عليه الحد، أو يخرج من دار الإسلام هربا «٣» .
وهو
محكيّ عن ابن عباس وأنس ومالك والحسن البصري والسدي والضحاك وقتادة وسعيد بن جبير
والربيع بن أنس والزهري، حكاه [الرماني] «٤» في كتابه عنهم.
(١) إسناده
ضعيف: رواه الطبري (١١٨١٦)، (١١٨٥٤) (١١٥٨) بهذا الإسناد فذكره وبنحوه.
وعلته:
عبد الله ابن لهيعة، ضعّف لسوء حفظه. وكذلك يزيد بن أبي حبيب لم يسمع من أنس، بل
ولا من أحد من الصحابة.
(٢) انظره في (٢/ ٥٣) .
(٣) انظر: تفسير
القرطبي (٦/ ١٥٢) .
(٤) صحّفت إلى (الربّاني) والصحيح ما أثبت، وهو أبو
الحسن الرماني المفسّر اللغوي المعتزلي له حاشية على سيبويه، وتفسير الجامع
الكبير، يوجد منه جزء بمعهد المخطوطات العربية.
وحكي عن الشافعي
أنهم يخرجون من بلد إلى بلد ويطلبون لتقام عليهم الحدود، وبه قال الليث بن سعد
«١» .
وروي عن مالك أن ينفى من البلد الذي أحدث فيه إلى غيره، ويحبس فيه
كالزاني. ورجحه ابن جرير والقرطبي «٢» .
وقال الكوفيون نفيهم سجنهم، فينفى
من سعة الدنيا إلى ضيقها.
والظاهر من الآية أنه يطرد من الأرض التي وقع فيها
ما وقع، من غير سجن ولا غيره، والنفي قد يقع لمعنى الإهلاك، وليس هو مرادا
هنا.
ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا: الإشارة إلى ما سبق ذكره من
الأحكام.
والخزي: الذّل والفضيحة.
إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ
أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣٤)
استثنى الله سبحانه التائبين، قبل القدرة عليهم، من عموم المعاقبين بالعقوبات
السابقة.
والظاهر عدم الفرق بين الدماء والأموال وبين غيرها من الذنوب
الموجبة للعقوبات المعينة المحدودة، فلا يطالب التائب قبل القدرة بشيء من ذلك،
وعليه عمل الصحابة، وذهب بعض أهل العلم إلى أنه لا يسقط القصاص وسائر حقوق
الآدميين بالتوبة قبل القدرة. والحق الأول.
وأما التوبة بعد القدرة فلا تسقط
بها العقوبة المذكورة في الآية، كما يدل عليه ذكر قيد: قَبْلِ أَنْ
تَقْدِرُوا.
قال القرطبي: وأجمع أهل العلم على أن السلطان وليّ من حارب فإن
قتل محارب أخا [امرأ أو أباه في حال] «٣» المحاربة فليس إلى طالب الدم من أمر
المحاربة شيء، ولا يجوز عفو وليّ الدم.
(١) انظر: ترشيح المستعيدين (ص ٣٨٨)
.
(٢) انظر: جامع الأمهات (ص ٥٢٣)، والقرطبي (٦/ ١٥٢، ١٥٣)، والطبري (٦/
٢١٧، ٢١٨) .
(٣) وقع في «المطبوعة» [امرئ وآتاه في حال] وهو خطأ ظاهر، وصوّب
من القرطبي (٦/ ١٥٦) .
[الآية العاشرة]
وَالسَّارِقُ
وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما جَزاءً بِما كَسَبا نَكالًا مِنَ
اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٣٨) .
لما ذكر الله سبحانه من يأخذ
المال جهارا وهو المحارب، عقبه بذكر من يأخذ المال خفية، وهو السارق، فقال:
وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما جَزاءً بِما كَسَبا وذكر
السارقة مع السارق لزيادة البيان، لأن غالب القرآن الاقتصار على الرجال في تشريع
الأحكام.
وقد اختلف أئمة النحو في خبر السارق والسارقة: هل هو مقدر أم هو
فاقطعوا؟
فذهب إلى الأول سيبويه وقال: تقديره فيما فرض عليكم، أو فيما يتلى
عليكم السارق والسارقة أي حكمهما. وذهب المبرد والزجاج إلى الثاني.
ودخول
الفاء لتضمين المبتدأ معنى الشرط. إذ المعنى: الذي سرق والتي سرقت «١» .
وقرىء
وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ بالنصب على تقدير اقطعوا، ورجح هذه القراءة سيبويه.
قال: الوجه في كلام العرب النصب كما تقول زيدا اضرب لكن العامة أبت إلا الرفع-
يعني عامة القراء «٢» .
والسرقة بكسر الراء: اسم الشيء المسروق، والمصدر من
سرق يسرق سرقا.
قاله الجوهري «٣» . وهو: أخذ الشيء في خفية من الأعين، ومنه
استرق السمع وسارقه النظر.
والقطع: معناه الإبانة والإزالة. وجمع الأيدي
لكراهة الجمع بين اثنتين.
وقد بينت السّنّة المطهرة أن موضع القطع الرسغ «٤»
.
(١) نقل ذلك القرطبي في «تفسيره» (٤/ ٢١٦٣) ط. دار الشعب، وردّ قول سيبويه
بخمسة وجوه الرازي في «مفاتيح الغيب» (٦/ ١٠، ١١، ١٢) .
(٢) قراءة النصب
لعيسى بن عمر كما في «المصادر السابقة» .
(٣) انظر: الصحاح ومختاره واللسان
(سرق) .
(٤) صحيح: ما ذكره الألباني في «إرواء الغليل» (٨/ ٨١) . وذكر
البخاري تعليقا عن الإمام علي أنه-
وقال قوم: يقطع من
المرفق.
وقال الخوارج: من المنكب.
والسرقة لا بد أن تكون ربع دينار
فصاعدا «١»، ولا بد أن تكون من حرز كما وردت بذلك الأحاديث الصحيحة «٢» .
وقد
ذهب إلى اعتبار ربع الدينار الجمهور، وذهب قوم إلى التقدير بعشرة دراهم، وذهب
الجمهور إلى اعتبار الحرز.
وقال الحسن البصري: إذا جمع الثياب في البيت
قطع.
وقد أطال الكلام في بحث السرقة أئمة الفقه وشراح الحديث بما لا يأتي
التطويل به هاهنا بكثير فائدة «٣» .
وقوله: جَزاءً بِما كَسَبا مفعول له، أي
فاقطعوا للجزاء، أو مصدر مؤكد لفعل محذوف، أي مجازاة وهما جزاء، والباء سببية،
وما مصدرية، أي: بسبب، أو موصولة، أي: جزاء الذي كسباه من السرقة.
[الآية
الحادية عشرة]
سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جاؤُكَ
فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ
يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ
اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (٤٢) .
فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ
أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ فيه تخيير لرسول الله ﵌، بين الحكم بينهم والإعراض
عنهم.
قطع من الكفّ (١٢/ ٩٦) وقال الحافظ: وصله الدارقطني. [.....]
(١)
رواه البخاري (١٢/ ٩٦)، ومسلم (١١/ ١٨) عن عائشة مرفوعا.
(٢) ما رواه
البيهقي في «الكبرى» (٨/ ٢٦٣) بإسناد حسن عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده سئل
رسول الله ﷺ في كم تقطع اليدين فقال: «لا تقطع اليد في ثمر معلّق، فإذا ضمّه
الجرين قطعت في ثمن المجن، ولا تقطع في حريشة الجبل، فإذا آوى المراح قطعت في ثمن
المجن» .
(٣) انظر في ذلك: جامع الأمهات (ص ٥١٩، ٥٢٢)، غاية المطلب (ص ٤٤٢،
٤٤٦)، الروضة الندية (٢/ ٢٧٦، ٢٨٠)، ترشيح المستفيدين (ص ٣٨٤، ٣٨٦)، كفاية
الأخيار (ص ٤٨٣، ٤٨٧) .
وقد استدل به على أن حكّام المسلمين
مخيرون بين الأمرين.
وقد أجمع العلماء على أنه يجب على حكام المسلمين أن
يحكموا بين المسلم والذمي إذا ترافعا إليهم.
واختلفوا في أهل الذمة إذا
ترافعوا فيما بينهم: فذهب قوم إلى التخيير، وذهب آخرون إلى الوجوب، وقالوا: إن
هذه الآية منسوخة بقوله: وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ
[المائدة: ٤٩]، وبه قال ابن عباس ومجاهد وعكرمة والزهري وعمر بن عبد العزيز
والسدي، وهو الصحيح من قول الشافعي، وحكاه القرطبي عن أكثر العلماء «١» .
[الآية
الثانية عشرة]
إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ
بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ
وَالْأَحْبارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللَّهِ وَكانُوا عَلَيْهِ
شُهَداءَ فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَنًا
قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ
الْكافِرُونَ (٤٤) ... وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ
هُمُ الظَّالِمُونَ (٤٥) .
... وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ
فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (٤٧) .
وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ
اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ لفظ (من) من صيغ العموم، وتفيد أن هذا غير
مختص بطائفة معينة، بل لكل من ولي الحكم. وقيل: إنها مختصة بأهل الكتاب «٢» .
(١)
انظر: تفسير الطبري (٦/ ٢٤٢، ٢٤٤)، والقرطبي (٦/ ١٨٤، ١٨٥)، مفاتيح الغيب (٦/ ٢٣،
٢٥)، معاني الزجاج (٢/ ١٩٢)، والنكت (١/ ٤٦٦)، وزاد المسير (٢/ ٣٥٨)، ولباب
النقول (٩٢)، والمفردات للرّاغب (سحت ٣٣٠) .
واختلف العلماء في هذه الآية
أمنسوخة هي أم محكمة؟ ينظر: الناسخ والمنسوخ للنحاس (١٢٨)، والإيضاح لمكي (٢٣٤)،
والنكت للماوردي (١/ ٤٦٨) . والمصفّى لابن الجوزي (٢٠٤)، وزاد المسير (٢/ ٣٦١)،
والقرطبي (٦/ ١٨٥)، والدر المنثور (٢/ ٢٨٤)، والبصائر للفيروزآبادىّ (١/ ١٨٠)،
وابن العربي (٢/ ٢٠١) .
(٢) انظر: زاد المسير (٢/ ٣٦٦)، وابن كثير (٢/ ٥٩)
.
وقيل: بالكفار مطلقا، لأن المسلم لا يكفر بارتكاب الكبيرة.
وقيل:
هو محمول على أن الحكم بغير ما أنزل الله وقع استخفافا أو استحلالا أو جحدا.
والإشارة بقوله: فَأُولئِكَ إلى مِنْ والجمع باعتبار معناها، وكذلك ضمير الجماعة
في قوله: هُمُ الْكافِرُونَ (٤٤) .
وأخرج [الفريابي] وسعيد بن منصور وابن
المنذر وابن أبي حاتم والحاكم- وصححه- والبيهقي في «سننه» عن ابن عباس في قوله
تعالى هذا قال: إنه ليس بالكفر الذي يذهبون إليه وإنه ليس كفرا ينقل من الملة بل
كفر دون كفر» .
وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن [عطاء] بن أبي رباح في
قوله تعالى هذا.
وقوله: هُمُ الظَّالِمُونَ (٤٥)، هُمُ الْفاسِقُونَ (٤٧)،
قال: كفر دون كفر، وظلم دون ظلم، وفسق دون فسق «٢» .
[الآية الثالثة عشرة]
وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ
بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ
بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ
وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٤٥)
.
وَكَتَبْنا: معناه فرضنا.
عَلَيْهِمْ فِيها: أي في التوراة.
أَنَّ
النَّفْسَ بِالنَّفْسِ: بيّن الله سبحانه في هذه الآية فرضه على بني إسرائيل من
القصاص، في النفس والعين والأنف والأذن والسن والجروح.
وقد استدلّ أبو حنيفة
وجماعة من أهل العلم بهذه الآية فقالوا: إن المسلم يقتل
(١) انظر: السلسلة
الصحيحة للألباني (٢٥٥٢) وصحّف الفريابي إلى العرماني وهو خطأ واضح، والفريابي هو
أبو جعفر صاحب كتاب الذكر والقدر وفضائل القرآن وجزء أحاديث الطعام.
(٢)
انظر أقوال أهل العلم في المسألة وترجيح قول ابن عباس، وهو الصواب والله أعلم.
في
فتح القدير (٢/ ٤٥)، الدر المنثور (٣/ ٨٧)، والقرطبي (٤/ ٢١٨٧، ٢١٨٨) ط. الشعب،
ومفاتيح الغيب للرازي (٦/ ٣٣، ٣٥) .
بالذمي لأنه نفس، وقال
الشافعي وجماعة من أهل العلم: إن هذه الآية خبر عن شرع من قبلنا وليس بشرع
لنا.
وقد قدمنا في البقرة في شرح قوله تعالى: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ
فِي الْقَتْلى [البقرة: ١٧٨] ما فيه كفاية.
وقد اختلف أهل العلم في شرع من
قبلنا: هل يلزمنا أم لا؟؟ فذهب الجمهور إلى أنه يلزمنا إذا لم ينسخ وهو الحق.
وقد
ذكر ابن الصباغ في «الشامل» إجماع العلماء على الاحتجاج بهذه الآية على ما دلّت
عليه.
قال ابن كثير في «تفسيره»: وقد احتج الأئمة كلهم على أن الرجل يقتل
بالمرأة لعموم هذه الآية الكريمة. انتهى.
وقد أوضح الشوكاني ما هو الحق في
شرحه على «المنتقى» وغيره في غيره «١» .
وفي هذه الآية توبيخ لليهود، وتقريع
لكونهم يخالفون ما كتبه الله عليهم في التوراة- كما حكاه هنا- ويفاضلون بين
الأنفس، كما سبق بيانه، وقد كانوا يقيدون بني النضير من بني قريظة، ولا يقيدون
بني قريظة من بني النضير.
وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ الظاهر من النظم القرآني،
أن العين إذا فقئت، حتى لم يبق فيها مجال للإدراك، أنها تفقأ عين الجاني بها.
وَالْأَنْفَ
بِالْأَنْفِ: أي إذا جدعت جميعها فإنها يجدع أنف الجاني بها.
وَالْأُذُنَ
بِالْأُذُنِ: إذا قطعت جميعها فإنها تقطع أذن الجاني بها. وكذلك وَالسِّنَّ
بِالسِّنِّ.
فأما لو كانت الجناية ذهبت ببعض إدراك العين، أو ببعض الأنف، أو
ببعض الأذن، أو ببعض السن، فليس في هذه الآية ما يدل على ثبوت القصاص.
(١)
انظر في تحقيق المسألة: الطبري (٦/ ١٣٣)، النكت والعيون (١/ ٤٦١)، زاد المسير (٢/
٣٤٥)، القرطبي (٦/ ١٥٠)، والتمهيد للأسنوي (ص ٤٤١)، وابن كثير (٢/ ٤٨)، والإحكام
في أصول الأحكام لابن حزم (١/ ١٥٣) . ونيل الأوطار شرح منتقى الأخيار (٧/ ١٦٠)،
وما بعدها، والروضة النّدية (٢/ ٣٠٠، ٣٠٢) .
وقد اختلف أهل
العلم في ذلك إذا كان معلوم القدر يمكن الوقوف على حقيقته وكلامهم مدون في كتب
الفروع. والظاهر من قوله: وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ أنه لا فرق بين الثنايا والأنياب
والأضراس والرباعيات، وأنه يؤخذ بعضها ببعض، ولا فضل لبعضها على بعض، وإليه ذهب
أكثر أهل العلم كما قال ابن المنذر.
وخالف في ذلك عمر بن الخطاب ﵁ ومن تبعه.
وكلامهم مدون في مواطنه ولكنه ينبغي أن يكون المأخوذ في القصاص من الجاني هو
المماثل للسن المأخوذة من المجني عليه، فإن كانت ذاهبة فما يليها.
وَالْجُرُوحَ
قِصاصٌ أي ذوات قصاص.
وقد ذكر أهل العلم، أنه لا قصاص في الجروح التي يخاف
منها التلف، ولا فيما كان لا يعرف مقداره عمقا أو طولا أو عرضا.
وقد قدّر
أئمة الفقه أرش «١» كل جراحة بمقادير معلومة، وليس هذا موضع بيان كلامهم، ولا
موضع استيفاء بيان ما ورد له أرش مقدر.
فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ
كَفَّارَةٌ لَهُ: أي من تصدق من المستحقين للقصاص بالقصاص، بأن عفا عن الجاني،
فهو كفارة للمتصدق، يكفر الله عنه به ذنوبه.
وقيل: إن المعنى هو كفارة
للجارح، فلا يؤاخذ بجنايته في الآخرة لأن العفو يقوم مقام أخذ الحق منه، والأول
أرجح لأن الضمير يعود- على هذا التفسير الآخر- إلى غير مذكور.
[الآية
الرابعة عشرة]
وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِما
بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ
بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِّ
لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجًا وَلَوْ شاءَ اللَّهُ
لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ
فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ
بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (٤٨) .
(١) الأرش هو: الدّية.
فَاحْكُمْ
بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ: أي بما أنزله إليك في القرآن، لاشتماله على
جميع ما شرعه الله لعباده في جميع الكتب السابقة عليه.
وَلا تَتَّبِعْ
أَهْواءَهُمْ: أي أهواء أهل الملل السابقة.
عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِّ
متعلق بلا تتبع، على تضمينه معنى لا تعدل أو لا تنحرف عما جاءك من الحق متبعا
لأهوائهم. وقيل: متعلق بمحذوف، أي لا تتبع أهواءهم عادلا أو منحرفا عن الحق.
وفي
النهي له ﵌ عن أن يتبع أهواء أهل الكتاب، ويعدل عن الحق الذي أنزله الله عليه فإن
كل ملة من الملل تهوى أن يكون الأمر على ما هم عليه، وأدركوا عليه سلفهم، وإن كان
باطلا منسوخا أو محرفا عن الحكم الذي أنزله الله على الأنبياء، كما وقع في الرجم
«١» ونحوه مما حرفوه من كتب الله.
[الآية الخامسة عشرة]
يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا
تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (٨٧) .
يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ: الطيبات:
هي المستلذات مما أحله الله لعباده، نهى الله الذين آمنوا عن أن يحرموا على
أنفسهم شيئا منها، إما لظنهم أن في ذلك طاعة لله، وتقربا إليه، وأنه من الزهد في
الدنيا، وقمع النفس عن شهواتها، أو لقصد أن يحرموا على أنفسهم شيئا مما أحله لهم،
كما يقع من كثير من العوام من قولهم: حرام عليّ، وحرمته على نفسي، ونحو ذلك من
الألفاظ التي تدخل تحت هذا النهي القرآني.
قال ابن جرير الطبري: لا يجوز
لأحد من المسلمين تحريم شيء مما أحل الله لعباده المؤمنين على نفسه من طيبات
المطاعم والملابس والمناكح. ولذلك رد النبي ﵌ التبتل على عثمان بن مظعون «٢»،
فثبت أنه لا فضل في ترك شيء مما أحله لعباده، وأن
(١) حديث تحريف اليهود
لآية رجم الزاني والزّانية رواه البخاري (٦/ ٦٣١)، (١٢/ ١٦٦)، ومسلم (١١/ ٢٠٨،
٢٠٩) عن عبد الله بن عمر مرفوعا.
(٢) حديث صحيح: رواه البخاري (٩/ ١١٧)،
ومسلم (٩/ ١٧٦، ١٧٧) .
الفضل والبر، إنما هو في فعل ما ندب الله
عباده إليه، وعمل به رسول الله ﵌، وسنّة لأمته، واتبعه على منهاجه الأئمة
الراشدون، إذ كان خير الهدي هدي نبينا محمد ﵌.
فإذا كان ذلك كذلك تبين خطأ
من آثر لباس الشّعر والصوف على لباس القطن والكتان، إذا قدر على لباس ذلك من حله،
وآثر أكل الخشن من الطعام وترك اللحم وغيره حذرا من عارض الحاجة إلى النساء.
قال:
فإن ظنّ ظانّ، أن الفضل في غير الذي قلنا، لأن في لباس الخشن وأكله، من المشقة
على النفس، وصرف ما فضل بينهما من القيمة إلى أهل الحاجة طاعة فقد ظن خطأ وذلك أن
الأولى بالإنسان صلاح نفسه، وعونه لها على طاعة ربها، فلا شيء أضر للجسم من
المطاعم الرديئة، لأنها مفسدة لعقله، ومضعفة لأدواته التي جعلها الله سببا إلى
طاعته.
[الآية السادسة عشرة]
لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي
أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ فَكَفَّارَتُهُ
إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ
كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ
أَيَّامٍ ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا
أَيْمانَكُمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ
(٨٩) .
لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ: قد تقدم
تفسير اللغو والخلاف فيه، في سورة البقرة «١» .
فِي أَيْمانِكُمْ صلة
يُؤاخِذُكُمُ. قيل: و(في) بمعنى (من) .
والأيمان: جمع يمين.
وفي الآية
دليل على أن أيمان اللغو لا يؤاخذ الله الحالف بها، ولا تجب فيها الكفارة. وقد
ذهب الجمهور من الصحابة، ومن بعدهم إلى أنها قول الرجل: لا والله! وبلى والله في
كلامه، غير معتقد لليمين، وبه فسّر الصحابة الآية، وهم أعرف بمعاني القرآن.
(١)
انظر ما سبق من تفسير سورة البقرة آية (٢٢٥) .
قال الشافعي:
وذلك عند اللجاج والغضب والعجلة.
وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ
الْأَيْمانَ والعقد على ضربين: حسّي كعقد الحبل، وحكمي كعقد البيع واليمين،
فاليمين المعقدة من عقد القلب ليفعلن أو لا يفعلن في المستقبل، أي ولكن يؤاخذكم
بأيمانكم المعقدة، الموثقة بالقصد والنية، إذا حنثتم فيها.
وأما اليمين
الغموس فهي يمين مكر وخديعة وكذب قد باء الحالف بإثمها وليست بمعقودة ولا كفارة
فيها كما ذهب إليه الجمهور.
وقال الشافعي: هي يمين معقودة لأنها مكتسبة
بالقلب، معقودة غير مقرونة باسم الله، والراجح الأول، وجميع الأحاديث الواردة في
تكفير اليمين موجهة إلى المعقودة، ولا يدل شيء منها على الغموس بل ما ورد في
الغموس إلا الوعيد والترهيب، وأنها من الكبائر، وفيها نزل قوله تعالى: إِنَّ
الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا [آل
عمران: ٧٧] الآية.
فَكَفَّارَتُهُ: هي مأخوذة من التكفير، وهو التستر وكذلك
الكفر: هو الستر، والكافر هو الساتر، لأنها تستر الذنب وتغطيه، والضمير في كفارته
راجع إلى ما في قوله: بِما عَقَّدْتُمُ.
إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ مِنْ
أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ: المراد بالوسط هنا: المتوسط بين طرفي
الإسراف والتقتير، وليس المراد به الأعلى- كما في غير هذا الموضع- أي أطعموهم من
المتوسط مما تعتادون إطعام أهليكم منه، ولا يجب عليكم أن تطعموهم من أعلاه ولا
يجوز لكم أن تطعموهم من أدناه، وظاهره أنه يجزىء إطعام عشرة حتى يشبعوا.
وقد
روي عن علي بن أبي طالب ﵁ أنه قال: لا يجزىء إطعام العشرة غداء دون عشاء، حتى
يغديهم ويعشيهم.
قال ابن عمر: هو قول أئمة الفتوى بالأمصار.
وقال الحسن
البصري وابن سيرين: يكفيه أن يطعم عشرة مساكين أكلة واحدة، خبزا وسمنا، أو خبزا
ولحما.
وقال عمر بن الخطاب وعائشة ومجاهد والشعبي وسعيد بن جبير
وإبراهيم النخعي وميمون بن مهران وأبو مالك والضحاك والحكم ومكحول وأبو قلابة
ومقاتل: يدفع إلى كل واحد من العشرة نصف صاع من برّ أو تمر.
وروي ذلك عن
عليّ ﵇.
وقال أبو حنيفة: نصف صاع بر، وصاع مما عداه.
وقد أخرج ابن ماجه
وابن مردويه عن ابن عباس قال: كفّر رسول الله ﵌ بصاع من تمر، [وأمر] «١» الناس
به، ومن لم يجد فنصف صاع من بر.
وفي إسناده عمر بن عبد الله الثقفي وهو مجمع
على ضعفه.
وقال الدارقطني: متروك «٢» .
أَوْ كِسْوَتُهُمْ: عطف على
إطعام، قرىء بضم الكاف وكسرها، وهما لغتان مثل أسوة وإسوة.
والكسوة في
الرجال: نصف على ما يكسو البدن ولو كان ثوبا واحدا، وهكذا في كسوة النساء، وقيل:
الكسوة للنساء درع وخمار، وقيل: المراد بالكسوة ما تجزىء به الصلاة.
أَوْ
تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ: أي إعتاق مملوك.
والتحرير: الإخراج من الرّق. ويستعمل
التحرير في فك الأسير، وإعفاء المجهود بعمل عن عمله، وترك إنزال الضرر به، ولأهل
العلم أبحاث في الرقبة التي تجزىء في الكفارة، وظاهر هذه الآية أنها تجزىء كل
رقبة على أي صفة كانت! وذهب جماعة منهم الشافعي، إلى اشتراط الإيمان فيها قياسا
على كفارة القتل.
فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ: أي من لم
يجد شيئا من الأمور المذكورة، فكفارته صيام ثلاثة أيام، وقرىء متتابعات، حكي ذلك
عن ابن مسعود وأبيّ، فتكون
(١) ما بين [] حرّف إلى (وكفر) والتصويب من سنن
ابن ماجة.
والأثر رواه ابن ماجة (٢١١٢)، وقال البوصيري: في إسناده عمر بن
عبد الله بن يعلى، ضعيف.
(٢) انظره في «الضعفاء والمتروكين» (٣٧٦) له.
[.....]
هذه القراءة مقيدة لمطلق الصوم، وبه قال أبو حنيفة
[والثوري] «١»، وهو أحد قولي الشافعي.
وقال مالك والشافعي- في قوله الآخر:
يجزىء التفريق.
ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ: أي ذلك
المذكور كفارة أيمانكم إذا حنثتم.
وَاحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ: أمرهم بحفظ
الأيمان، وعدم المسارعة إليها والحنث بها «٢» .
[الآية السابعة عشرة] يا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ
وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ
تُفْلِحُونَ (٩٠) .
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا: خطاب لجميع المؤمنين.
إِنَّمَا
الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ: وقد تقدم الميسر في البقرة.
وَالْأَنْصابُ: هي
الأصنام المنصوبة للعبادة.
وَالْأَزْلامُ: قد تقدم تفسيرها في هذه
السورة.
رِجْسٌ: يطلق على العذرة والاقذار، وهو خبر الخمر، وخبر المعطوف
عليه محذوف.
مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ: صفة لرجس، أي كائن من عمل الشيطان،
بسبب تحسينه لذلك وتزيينه له. وقيل: هو الذي كان عمل هذه الأمور بنفسه، فاقتدى به
بنو آدم، والضمير في:
فَاجْتَنِبُوهُ، راجع إلى الرجس أو إلى المذكور.
لَعَلَّكُمْ
تُفْلِحُونَ (٩٠) علة لما قبله.
قال في «الكشاف» «٣»: أكد تحريم الخمر
والميسر وجوها من التأكيد، منها تصدر
(١) صحّفت إلى (الصوري) بالصاد وهو خطأ
واضح.
(٢) انظر في تحقيق مسألة الأيمان: تفسير الطبري (٦/ ١٧، ٢١)، القرطبي
(٦/ ٢٧٧)، وفتح القدير (٢/ ٧٢)، والدر المنثور (٧/ ١٥١)، مفاتيح الغيب (٦/ ١٢٠،
١٢٧)، الرّوضة النّدية (٢/ ١٧٣، ١٧٤) .
(٣) للزمخشري (١/ ٦٤١، ٦٤٢) .
الجملة
بإنما، ومنها أنه قرنهما بعبادة الأصنام، ومنه قوله ﵌: «شارب الخمر كعابد الوثن»
«١»، ومنها أنه جعلهما رجسا كما قال: فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ
[الحج: ٣٠] ومنها أنه جعلهما من عمل الشيطان، لا يأتي منه إلا الشر البحت، ومنها
أنه أمر بالاجتناب، ومنها أنه جعل الاجتناب من الفلاح، وإذا كان الاجتناب فلاحا
كان الارتكاب خيبة ومحقة، ومنها أنه ذكر ما ينتج فيهما من الوبال، وهو وقوع
التعادي والتباغض بين أصحاب الخمر والقمر، وما يؤديان إليه من الصد عن ذكر الله،
وعن مراعاة أوقات الصلوات. انتهى.
وهذه الآية دليل على تحريم الخمر، لما
تضمنه الأمر بالاجتناب من الوجوب وتحريم الصد، ولما تقرر في الشريعة من تحريم
قربان الرجس، فضلا عن جعله شرابا يشرب.
قال أهل العلم من المفسرين وغيرهم:
كان تحريم الخمر بتدريج ونوازل كثيرة، لأنهم كانوا قد ألفوا شربها وحببها الشيطان
إلى قلوبهم، فأول ما نزل في أمرها:
يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ
وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ [البقرة: ٢١٩]،
فترك عند ذلك بعض المسلمين شربها، ولم يتركه آخرون، ثم نزل قوله تعالى: لا
تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى [النساء: ٤٣]، فتركها البعض أيضا،
وقالوا: لا حاجة لنا فيما يشغلنا عن الصلاة، وشربها البعض في غير أوقات الصلاة
حتى نزلت هذه الآية إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ ...، فصارت حراما عليهم حتى
كان يقول بعضهم: ما حرّم الله شيئا أشدّ من الخمر وذلك لما فهموه من التشديد فيما
تضمنته هذه الآية من الزواجر، وفيما جاءت به الأحاديث الصحيحة من الوعيد لشاربها،
وأنها من كبائر الذنوب «٢» .
وقد أجمع على ذلك المسلمون إجماعا لا شك فيه
ولا شبهة.
وأجمعوا أيضا على تحريم بيعها، والانتفاع بها، ما دامت خمرا «٣»
.
(١) صحيح: رواه أبو عبيد القاسم بن سلّام في «الإيمان» (١١٦) .
(٢)
انظر بعض الأحاديث الصحيحة الدّالة على ذلك في «الترغيب والترهيب» للمنذري (٣/
١٩٧، ٢١٢)، وصحيح الجامع للألباني (٦٣٠٩)، (٦٣١٣) .
(٣) حديث صحيح: ما رواه
الترمذي (١/ ٢٤٣)، وابن ماجة (٣٣٨١) عن أنس مرفوعا قوله ﵌:
«لعن رسول الله
في الخمر عشرة: عاصرها ومعتصرها، وشاربها، وحاملها، والمحمولة إليه، وساقيها،
وبائعها، وآكل ثمنها، والمشتري له» .
وكما دلت هذه الآية على
تحريم الخمر، دلّت أيضا على تحريم الميسر والأنصاب والأزلام.
وقد رويت في
سبب النزول روايات كثيرة موافقة لما ذكرناه «١» .
وقد وردت أحاديث كثيرة في
ذم الخمر وشاربها، والوعيد الشديد عليه، وأن كل مسكر حرام «٢»، وهي مدونة في كتب
الحديث فلا نطول المقام بذكرها، وقد بسطنا الكلام عليها في شرحنا «مسك الختام
لبلوغ المرام» فليرجع إليه «٣» .
[الآية الثامنة عشرة]
يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ
مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ
ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعامُ
مَساكِينَ أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِيامًا لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ
عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو
انْتِقامٍ (٩٥) .
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ
وَأَنْتُمْ حُرُمٌ: هذا النهي شامل لكل أحد من ذكور المسلمين وإناثهم لأنه يقال:
رجل حرام وامرأة حرام، والجمع حرم، وأحرم الرجل:
دخل في الحرم.
وَمَنْ
قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا: المتعمد هو القاصد للشيء مع العلم بالإحرام.
والمخطئ:
هو الذي يقصد شيئا فيصيب صيدا.
والناسي: هو الذي يعتمد الصيد ولا يذكر
إحرامه.
وقد استدل ابن عباس وأحمد- في رواية عنه- وداود باقتصاره سبحانه على
العامد بأنه لا كفارة على غيره، بل لا تجب إلا عليه وحده، وبه قال سعيد بن جبير
وطاووس وأبو ثور.
(١) رواه ابن جرير (٧/ ٣٤)، والحاكم (٤/ ١٤٢)، والبيهقي
(٨/ ٢٨٦)، وقال الهيثمي (٧/ ١٨):
رواه الطبراني ورجاله رجال صحيح.
(٢)
حديث صحيح: رواه مسلم (٦/ ١٠٠، ١٠١)، وأبو داود (٣٦٧٩)، والنسائي (٢/ ٣٢٥)، وأحمد
في «المسند» (٢/ ٢٩) .
(٣) وانظر: ابن قتيبة (١٤٦)، النكت (١/ ٤٨٥)، وزاد
المسير (٢/ ٤٢٠)، والزجاج (٢/ ٢٢٧)، والقرطبي (٦/ ٣٠٠)، ابن كثير (٢/ ٩٧) .
وقيل:
إن الكفارة تلزم المخطئ والناسي كما تلزم المتعمد وجعلوا قيد التعمد خارجا مخرج
الغالب، روي عن عمر والحسن والنخعي والزهري، وبه قال مالك والشافعي وأبو حنيفة
وأصحابه، وروي عن ابن عباس.
وقيل: إنه يجب التكفير على العامد والناسي
لإحرامه، وبه قال مجاهد. قال: فإن كان ذاكرا لإحرامه فقد حل، ولا حج له لارتكابه
محظور إحرامه فبطل عليه كما لو تكلم في الصلاة، أو أحدث فيها.
فَجَزاءٌ
مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ: أي فعليه جزاء مماثل لما قتله- ومن النعم: بيان
للجزاء المماثل.
قيل: المراد بالمماثلة المماثلة في القيمة، وقيل: في
الخلقة. وقد ذهب إلى الأول أبو حنيفة، وذهب إلى الثاني مالك والشافعي وأحمد
والجمهور، وهو الحق لأن البيان للمماثل بالنعم يفيد ذلك، وكذلك يفيده هَدْيًا
بالِغَ الْكَعْبَةِ.
وروي عن أبي حنيفة أنه يجوز إخراج القيمة، ولو وجد
المثل، وأن المحرم مخير، وقرىء: فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ، وقرىء: فَجَزاءٌ
مِثْلُ على إضافة جزاء إلى مثل «١» .
يَحْكُمُ بِهِ: أي بالجزاء أو بمثل ما
قتل.
ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ: أي رجلان معروفان بالعدالة بين المسلمين، فإذا
حكما بشيء لزم، وإن اختلفا رجع إلى غيرهما.
ولا يجوز أن يكون الجاني أحد
الحكمين، وقيل: يجوز.
وبالأول قال أبو حنيفة، وبالثاني قال الشافعي- في أحد
قوليه- وظاهر الآية يقتضي حكمين غير الجاني.
هَدْيًا بالِغَ الْكَعْبَةِ:
نصب هديا على الحال أو البدل من «مثل»، وبالغ الكعبة
(١) قال أبو منصور:
«قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو «فجزاء مثل ما» مضافا، وقرأ الباقون «فجزاء مثل
ما» منونا» .
وقال: من قرأ (فجزاء مثل) فعلى الإضافة والمضاف إليه مكسور،
وممن قرأ (فجزاء مثل ما) جعل (مثل) نعتا للجزاء والمعنى: فعليه جزاء مثل ما قتل
من النّعم. (معاني القراءات ص ١٤٥) بتحقيقنا ط. دار الكتب العلمية- بيروت.
صفة
لهدي، لأن الإضافة غير حقيقة.
والمعنى أنهما إذا حكما بالجزاء، فإنه يفعل به
ما يفعل بالهدي من الإرسال إلى مكة، والنحر هنالك، والإشعار والتقليد. ولم يرد
الكعبة بعينها فإن الهدي لا يبلغها.
وإنما أراد الحرم، ولا خلاف في هذا.
أَوْ
كَفَّارَةٌ: معطوف على محل من النعم، وهو الرفع لأنه خبر مبتدأ محذوف.
طَعامُ
مِسْكِينٍ: عطف بيان لكفارة أو بدل منه، أو خبر مبتدأ محذوف.
أَوْ عَدْلُ
ذلِكَ: معطوف على طعام، وقيل: هو معطوف على جزاء، وفيه ضعف! والجاني غير مخير بين
هذه الأنواع المذكورة، وعدل الشيء: ما عادله من غير جنسه.
صِيامًا: منصوب
على التمييز.
وقد قدّر العلماء عدل كل صيد من الإطعام والصيام، وقد ذهب إلى
أن الجاني مخيّر بين هذه الأنواع المذكورة جمهور العلماء.
وروي عن ابن عباس
أنه لا يجزىء المحرم الإطعام والصوم إلا إذا لم يجد الهدي.
والعدل بفتح
العين وكسرها، لغتان وهما المثل، قاله الكسائي.
وقال الفرّاء: عدل الشيء،
بكسر العين: مثله من جنسه، وبفتح العين: مثله من غير جنسه. ومثل قول الكسائي قال
البصريون «١» .
[الآية التاسعة عشرة] أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ
وَطَعامُهُ مَتاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ
الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُمًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ
(٩٦) .
(١) في تفسير وتحقيق الأقوال لهذه الآية انظر: زاد المسير (٢/ ٤٢٢،
٤٢٥)، القرطبي (٦/ ٣٠٥، ٣١٥)، ابن كثير (٢/ ١٠٠) مفاتيح الغيب (٦/ ١٣٧، ١٥١)،
وجامع الأمهات (ص ٢١٥، ٢١٦)، وغاية المطالب (ص ١٣١، ١٣٢)، كفاية الأخيار (ص ٢٢٣)،
الروضة النّدية للمصنف (١/ ٢٥٥) . والناسخ والمنسوخ للقاضي ابن العربي (٢/ ٢٠٤)
.
أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ: الخطاب لكل مسلم، أو
للمحرمين خاصة.
وصيد البحر: ما يصاد فيه.
والمراد بالبحر هنا: كل ماء
يوجد فيه صيد بحري، وإن كان بئرا أو غديرا.
وَطَعامُهُ مَتاعًا لَكُمْ
وَلِلسَّيَّارَةِ: الطعام اسم لكل ما يطعم، وقد تقدم. وقد اختلف في المراد به
هنا، فقيل: هو ما قذف به البحر وطفا عليه، وبه قال كثير من الصحابة والتابعين.
وقيل: طعامه ما ملح منه وبقي، وبه قال جماعة، وروي عن ابن عباس.
وقيل: طعامه
ملحه الذي ينعقد من مائه سائر ما فيه من النبات وغيره، وبه قال قوم.
وقيل:
المراد به ما يطعم من الصيد، أي ما يحل أكله، وهو السمك فقط، وبه قالت
الحنفية.
والمعنى أحل لكم الانتفاع بجميع ما يصاد في البحر، وأحل لكم
المأكول منه وهو السمك فيكون كالتخصيص بعد التعميم، وهو تكلف لا وجه له. ونصب
متاعا على أنه مصدر، أي متّعتم به متاعا، وقيل: مفعول به مختص بالطعام، أي أحل
لكم طعام البحر متاعا، وهو تكلف جاء به من قال بالقول الأخير بل إذا كان مفعولا
له كان من الجميع، أي أحل لكم مصيد البحر وطعامه تمتيعا لكم، أي لمن كان مقيما
منكم يأكله طريا. وللسيارة أي المسافرين منكم، يتزودونه، ويجعلونه قديدا. وقيل:
السيارة:
هم الذين يركبونه خاصة.
وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ
ما دُمْتُمْ حُرُمًا أي حرم عليكم ما يصاد في البر ما دمتم محرمين، وظاهره تحريم
صيده على المحرم ولو كان المصيد حلالا، وإليه ذهب الجمهور، إن كان الحلال صاده
للحرم، لا إذا كان لم يصده لأجله، وهو القول الراجح، وبه يجمع بين الأحاديث،
وقيل: إنه يحل مطلقا، وإليه ذهب جماعة، وقيل:
يحرم عليه مطلقا، وإليه ذهب
آخرون.
وقد بسط الشوكاني هذا في «شرحه للمنتقى» «١» .
(١) انظر: نيل
الأوطار (٥/ ٨٦، ٩٣)، باب منع المحرم من أكل لحم الصيد إلا إذا لم يصد لأجله، ولا
أعان عليه.
[الآية العشرون]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى
اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٠٥)
.
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ: أي ألزموا أنفسكم
واحفظوها. كما تقول:
عليك زيدا أي الزمه.
لا يَضُرُّكُمْ: قرىء بالجزم
على أنه جواب الأمر الذي يدل عليه اسم الفعل.
وقرأ نافع بالرفع على أنه
مستأنف، أو على أن ضم الراء للاتباع. وقرىء بكسر الضاد. وقرىء: لا يضيركم «١»
.
مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ: يعني لا يضركم ضلال من ضل من الناس إذا
اهتديتم للحق أنتم في أنفسكم، وليس في الآية ما يدل على سقوط الأمر بالمعروف،
والنهي عن المنكر، فإن من تركه- مع كونه من أعظم الفروض الدينية- فليس بمهتد، وقد
قال الله سبحانه: إِذَا اهْتَدَيْتُمْ.
وقد دلت الآيات القرآنية والأحاديث
المتكاثرة على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وجوبا مضيقا متحتما فتحمل
هذه الآية على من لا يقدر على القيام بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أو
لا يظن التأثير بحال من الأحوال، أو يخشى على نفسه أن يحل به ما يضره ضررا يسوغ
له معه الترك.
إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِما
كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٠٥) في الدنيا فيجازي المحسن بإحسانه، والمسيء
بإساءته.
وقد أخرج ابن أبي شيبة وأحمد وعبد بن حميد وأبو داود والترمذي-
وصححه- والنسائي وابن ماجه وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن حبان
والدارقطني، وأيضا في «المختارة» وغيرهم عن قيس بن أبي حازم قال: قام أبو بكر
فحمد الله، وأثنى عليه، وقال: يا أيها الناس إنكم تقرءون هذه الآية: يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا
اهْتَدَيْتُمْ
(١) انظر الناسخ والمنسوخ لابن العربي (٢/ ٢٠٤، ٢٠٧)،
والأحكام له (٢/ ٧٠٢)، والطبري (٧/ ٧٥)، القرطبي (٤/ ٢٣٣٩) ط. دار الشعب، مفاتيح
الغيب (٦/ ١٦٩، ١٧٢) .
وإنكم تضعونها في غير مواضعها!! وإني
سمعت رسول الله ﵌ يقول: «إن الناس إذا رأوا المنكر ولم يغيروه أوشك أن يعمهم الله
بعقاب» «١» .
وأخرج الترمذي- وصححه- وابن ماجه وابن جرير والبغوي في معجمه
وابن أبي حاتم والطبراني وأبو الشيخ والحاكم- وصححه- وابن مردويه والبيهقي في
«الشعب» عن أبي أمية [الشعباني] قال: «أتيت أبا ثعلبة الخشني فقلت له: كيف تصنع
في هذه الآية؟ قال: أية آية؟ قلت: قوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ قال: أما
والله لقد سألت عنها خبيرا، سألت عنها رسول الله ﵌، فقال: «بل ائتمروا بالمعروف
وتناهوا عن المنكر، حتى إذا رأيت شحا مطاعا، وهوى متبعا، ودنيا مؤثرة، وإعجاب كل
ذي رأي برأيه، فعليك بخاصة نفسك، ودع عنك أمر العوام، فإن من ورائكم أياما الصبر
فيهن مثل القبض على الجمر، للعامل فيهن أجر خمسين رجلا يعملون مثل عملكم» «٢»
.
وفي رواية عن عامر الأشعري في هذه الآية، قال رسول الله ﵌: «أين ذهبتم؟!
إنما هي لا يضركم من ضل من الكفار إذا اهتديتم»، رواه أحمد والطبراني وابن أبي
حاتم وابن مردويه «٣» .
وأخرج عبد الرزاق وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن
جرير وابن المنذر
(١) حديث صحيح: رواه أحمد في «المسند» (١/ ١٦، ٢٩، ٣٠،
٥٣)، وأبو داود (٤٣٣٨)، والترمذي (٢١٦٨)، (٣٠٥٧)، وابن ماجة (٤٠٠٥)، وابن أبي
شيبة في «المصنف» (٨/ ٦٦٧، ٦٦٨)، والحميدي (٣) وابن جرير (١٢٨٧٦)، (١٢٨٧٨)، وابن
حبان (٣٠٤)، (٣٠٥)، والطحاوي في «المشكل» (٢/ ٦٢، ٦٤)، عن أبي بكر الصديق مرفوعا.
[.....]
(٢) إسناده ضعيف: رواه أبو داود (٤٣٤١)، والترمذي (٣٠٥٨)، وابن ماجة
(٤٠١٤)، والبغوي في «شرح السنة» (١٤/ ٣٤٧، ٣٤٨)، والطبراني في «الكبير» (٢٢/
٢٢٠)، (٥٨٧)، وابن جرير (١٢٨٦٢)، (١٢٨٦٣)، وأبو نعيم (٢/ ٣٠)، والطحاوي في
«المشكل» (٢/ ٦٤، ٦٥)، والبيهقي في «السنن» (١٠/ ٩٢) وقال أبو عيسى: حسن غريب.
والشعباني:
حرّفت إلى الشيباني في «المطبوعة» وهو خطأ.
(٣) حديث صحيح: رواه أحمد (٤/
١٢٩، ٢٠١، ٢٠٢)، والطبراني في «الكبير» (٢٢/ ٣١٧)، (٧٩٩) عن أبي عامر الأشعري
مرفوعا.
وقد قال الهيثمي (٧/ ١٩): «رجالهما ثقات إلا أني لم أجد لعليّ بن
مدرك سماعا من أحد من الصحابة» .
قلت: بل سمع من أبي مسعود البدري وعامر ومن
غيرهما كما في «ثقات ابن حبان» (٣/ ١٨٠) .
والطبراني وأبو الشيخ
عن الحسن أن ابن مسعود سأله رجل عن قوله: عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ قال: يا أيها
الناس إنه ليس بزمانها إنها اليوم مقبولة، ولكنه قد أوشك أن يأتي زمان، تأمرون
بالمعروف، فيصنع بكم كذا وكذا- أو قال: فلا يقبل منكم-، فحينئذ عَلَيْكُمْ
أَنْفُسَكُمْ ... الآية «١» .
وفي لفظ عنه قال: «مروا بالمعروف وانهوا عن
المنكر ما لم يكن من دون ذلك السوط والسيف فإذا كان كذلك فعليكم أنفسكم» «٢» .
وأخرج
ابن جرير وابن مردويه عن ابن عمر أنه قال: في هذه الآية: إنها لأقوام يجيئون من
بعدنا إن قالوا لم يقبل منهم «٣» .
وأخرج ابن مردويه عن أبي سعيد الخدري
قال: ذكرت هذه الآية عند رسول الله ﵌ فقال نبي الله: «لم يجىء تأويلها لا يجىء
تأويلها حتى يهبط عيسى ابن مريم ﵇» «٤» .
والروايات في هذا الباب كثيرة.
وفيما ذكرنا كفاية، ففيه ما يرشد إلى ما قدمناه من الجميع بين هذه الآية وبين
الآيات والأحاديث الواردة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
(١) إسناده
ضعيف: رواه الطبري في «تفسيره» (١٢٨٤٨)، (١٢٨٤٩)، (١٢٨٥٠)، (١٢٨٥٥)، والطبراني في
«الكبير» (٩/ ٢٢١)، (٩٠٧٢) .
وقال الهيثمي (٧/ ١٩): «رواه الطبراني ورجاله
رجال الصحيح، إلا أن الحسن البصري لم يسمع من ابن مسعود، والله أعلم» .
(٢)
إسناده ضعيف جدا: رواه سعيد بن منصور في «سننه» (٤/ ١٦٥٦)، عن ابن مسعود.
وعلته:
جويبر بن سعد قال ابن حيان فيه: يروي عن الضحاك أشياء مقلوبة، قد
رواه عن الضحاك، وهو كثير الإرسال.
(٣) إسناده ضعيف: رواه الطبري (١٢٨٥١) .
وعلته: الربيع بن صبيح السعدي، ضعّفه النسائي وابن معين والحافظ ابن حجر.
(٤)
أورده السيوطي في «الدر المنثور» (٣/ ٢١٧) وعزاه لابن مردويه فقط.
[الآيات:
الحادية والثانية والثالثة والعشرون] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ
بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنانِ ذَوا
عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي
الْأَرْضِ فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ
الصَّلاةِ فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا
وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ
الْآثِمِينَ (١٠٦) فَإِنْ عُثِرَ عَلى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآخَرانِ
يَقُومانِ مَقامَهُما مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيانِ
فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ لَشَهادَتُنا أَحَقُّ مِنْ شَهادَتِهِما وَمَا
اعْتَدَيْنا إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (١٠٧) ذلِكَ أَدْنى أَنْ يَأْتُوا
بِالشَّهادَةِ عَلى وَجْهِها أَوْ يَخافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ بَعْدَ
أَيْمانِهِمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ
الْفاسِقِينَ (١٠٨) .
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا: قال مكيّ: هذه الآيات
الثلاث عند أهل المعاني من أشكل ما في القرآن إعرابا، ومعنى، وحكما.
قال ابن
عطية: هذا كلام من لم يقع له النتاج في تفسيرها وذلك بين من كتابه- ﵀ يعني من
كتاب مكي.
قال القرطبي «١»: ما ذكره مكي ذكره أبو جعفر النحاس قبله أيضا.
قال
السعد في حاشيته على «الكشاف»: واتفقوا على أنها أصعب ما في القرآن إعرابا،
ونظما، وحكما.
شَهادَةُ بَيْنِكُمْ: إضافة الشهادة في البين توسعا لأنها
جارية بينهم وقيل: أصله شهادة ما بينكم، فحذفت (ما) أو أضيفت إلى الظرف كقوله
تعالى: بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ [سبأ: ٣٣]، ومنه قوله تعالى: هذا
فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ [الكهف: ٧٨] .
قيل: والشهادة هنا بمعنى الوصية،
وقيل: بمعنى الحضور للوصية.
وقال ابن جرير الطبري «٢»: هي هنا بمعنى اليمين،
فيكون المعنى يمين ما بينكم أن يحلف اثنان. واستدل على ما قاله بأنه لا يعلم لله
حكما يجب فيه على الشاهد يمين.
واختار هذا القول القفال، وضعف ذلك ابن عطية،
واختار أن الشهادة هنا هي الشهادة التي تؤدى من الشهود.
(١) انظره في تفسيره
(٦/ ٣٤٦) .
(٢) انظره في «جامع البيان» له (٧/ ١٠٢) .
وإِذا
حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ: ظرف للشهادة، والمراد إذا حضرت علاماته، لأن من مات
لا يمكنه الإشهاد، وتقديم المفعول للاهتمام، ولكمال تمكن الفاعل عند النفس.
حِينَ
الْوَصِيَّةِ: ظرف لحضر، أو للموت، أو بدل من الظرف الأول.
اثْنانِ: خبر
شهادة على تقدير محذوف، أي شهادة اثنين، أو فاعل للشهادة على أن خبرها محذوف، أي
فيما فرض عليكم شهادة بينكم اثنان، على تقدير أن يشهد اثنان. ذكر الوجهين أبو علي
الفارسي.
ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ: صفة للاثنين، وكذا منكم، أي كائنان منكم، أي
من أقاربكم.
أَوْ آخَرانِ معطوف على اثنان.
ومِنْ غَيْرِكُمْ صفة له،
أي كائنان من الأجانب. وقيل: إن الضمير في مِنْكُمْ للمسلمين وفي غَيْرِكُمْ
للكفار، وهو الأنسب بسياق الآية وبه قال أبو موسى الأشعري وعبد الله بن عباس
وغيرهما.
فيكون في الآية، دليل على جواز شهادة أهل الذمة على المسلمين في
السفر، في خصوص الوصايا، كما يفيده النظم القرآني ويشهد له سبب النزول «١»، فإذا
لم يكن مع الموصي من يشهد على وصيته من المسلمين، فليشهد رجلان من أهل الكفر فإذا
قدما وأدّيا الشهادة على وصيته، حلفا بعد العصر أنهما ما كذبا ولا بدّلا، وأن ما
شهدا به حق، فيحكم به حينئذ بشهادتهما.
فإن [عثر] «٢» بعد ذلك على أنهما
كذبا أو خانا، حلف رجلان من أولياء الموصي وغرّم الشاهدان الكافران ما ظهر عليهما
من خيانة أو نحوهما، هذا معنى الآية عند من تقدم ذكره، وبه قال سعيد بن المسيب
ويحيى بن يعمر وسعيد بن جبير وأبو مجلز والنخعي وشريح وعبيد السلماني وابن سيرين
ومجاهد وقتادة والسدي والثوري وأبو عبيد وأحمد بن حنبل.
(١) صحيح: رواه
البخاري (٦/ ٣٣٩)، والترمذي (٤/ ١٠١)، وأبو داود (٣/ ٣٣٧)، وابن جرير (٧/ ١٥)،
والبيهقي (١٠/ ١٦٥) .
(٢) حرّف في «المطبوعة» إلى (عنته) وهو خطأ واضح،
وصوّبنا من «فتح القدير» (٢/ ٨٦) .
وذهب إلى الأول- أعني تفسير
ضمير (منكم) بالقرابة أو العشيرة، وتفسير من (غيركم) بالأجانب- الزهري والحسن
وعكرمة.
وذهب مالك والشافعي وأبو حنيفة وغيرهم من الفقهاء، إلى أن الآية
منسوخة! واحتجوا بقوله تعالى: مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ [البقرة:
٢٨٢]، وقوله: وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ [الطلاق: ٢] والكفار ليسوا
بمرضيين ولا عدول.
وخالفهم الجمهور فقالوا: الآية محكمة وهو الحق لعدم وجود
دليل صحيح يدل على النسخ.
وأما قوله تعالى: مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ
الشُّهَداءِ، وقوله: وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ فهما عامّان في الأشخاص
والأزمان والأحوال، وهذه الآية خاصة بحال الضرب في الأرض، وبالوصية، وبحالة عدم
الشهود المسلمين ولا تعارض بين عام وخاص.
إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي
الْأَرْضِ: فاعل فعل محذوف يفسره ضَرَبْتُمْ، أو مبتدأ وما بعده خبره. والأول
مذهب الجمهور من النحاة، والثاني مذهب الأخفش والكوفيين.
والضرب في الأرض:
هو السفر.
فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ: معطوف على ما قبله، وجوابه
محذوف، أي إن ضربتم في الأرض، فنزل بكم الموت، وأردتم الوصية، ولم تجدوا شهودا
عليها مسلمين، ثم ذهبا إلى ورثتكم بوصيتكم، وبما تركتم، فارتابوا في أمرهم، أو
ادّعوا عليهما خيانة، فالحكم أن تحبسوهما.
ويجوز أن يكون استئنافا لجواب
سؤال مقدر، كأنهم قالوا: فكيف نصنع إن ارتبنا في الشهادة؟ فقال:
تَحْبِسُونَهُما
مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ: إن ارتبتم في شهادتهما. وخص بعد الصلاة، أي صلاة العصر-
قاله الأكثر- لكونه الوقت الذي يغضب الله على من حلف فيه فاجرا كما في الحديث
الصحيح «١»، وقيل: لكونه وقت اجتماع الناس، وقعود الحكام للحكومة، وقيل: صلاة
الظهر، وقيل: أي صلاة كانت.
قال أبو علي الفارسي: يحبسونهما صفة لآخران،
واعترض بين الصفة والموصوف
(١) حديث صحيح: رواه البخاري (٥/ ٤٣)، (١٣/ ٤٢٣،
٤٢٤)، ومسلم (٢/ ١١٦، ١١٧) .
بقوله: إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ
فِي الْأَرْضِ.
والمراد بالحبس: توقيف الشاهدين في ذلك الوقت لتحليفهما،
وفيه دليل على جواز الحبس بالمعنى العام، وعلى جواز التغليظ على الحالف بالزمان
والمكان ونحوهما.
فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ: معطوف على يحبسونهما، أي يقسم
بالله الشاهدان على الوصية أو الوصيات.
وقد استدل بذلك ابن أبي ليلى على
تحليف الشاهدين مطلقا إذا حصلت الريبة في شهادتهما، وفيه نظر لأن تحليف الشاهدين
هنا إنما هو بوقوع الدعوى عليهما بالخيانة أو نحوها.
إِنِ ارْتَبْتُمْ: جواب
هذا الشرط محذوف، دل عليه ما تقدم كما سبق.
لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا: جواب
القسم، والضمير في به راجع إلى الله تعالى، والمعنى لا نبيع حظنا من الله تعالى
بهذا العرض النزر فنحلف به كاذبين، لأجل المال الذي ادعيتموه علينا، وقيل: يعود
إلى القسم، أي لا نستبدل بصحة القسم بالله عرضا من أعراض الدنيا. وقيل: يعود إلى
الشهادة، وإنما ذكر الضمير لأنها بمعنى القول. أي لا نستبدل بشهادتنا ثمنا.
قال
الكوفيون: المعنى ذا ثمن، فحذف المضاف، وأقيم المضاف إليه مقامه، وهذا مبني على
أن العروض لا تسمى ثمنا، وعند الأكثر أنها تسمى ثمنا كما تسمى مبيعا.
وَلَوْ
كانَ ذا قُرْبى: أي ولو كان المقسم له، أو المشهود له قريبا، فإنا نؤثر الحق
والصدق، ولا نؤثر العرض الدنيوي ولا القرابة. وجواب (لو) محذوف لدلالة ما قبلها
عليه، أي ولو كان ذا قربى لا نشتري به ثمنا.
وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ
اللَّهِ: معطوف على لا نَشْتَرِي داخل معه في حكم القسم، وأضاف الشهادة إلى الله
سبحانه، لكونه الآمر بإقامتها، والناهي عن كتمها.
إِنَّا إِذًا لَمِنَ
الْآثِمِينَ (١٠٦) .
فَإِنْ عُثِرَ عَلى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا:
عثر على كذا: اطلع عليه. يقال: عثرت منه على خيانة، أي اطلعت، وأعثرت غيري عليه.
ومنه قوله تعالى: وَكَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ
[الكهف: ٢١]
. وأصل العثور: الوقوع والسقوط على الشيء.
والمعنى أنه إذا اطلع، بعد
التحليف، على أن الشاهدين أو الوصيين استحقا إثما:
أي استوجبا إثما، إما
لكذب في الشهادة، أو اليمين، أو لظهور خيانة.
قال أبو عليّ الفارسي: الإثم
هنا اسم الشيء المأخوذ لأن آخذه يأثم بأخذه.
يسمّى إثما كما سمّي ما يؤخذ
بغير حق مظلمة.
وقال سيبويه: المظلمة اسم ما أخذ منك فكذلك سمي هذا المأخوذ
باسم المصدر.
فَآخَرانِ يَقُومانِ مَقامَهُما: أي فشاهدان آخران، أو حالفان
آخران، فيقومان مقام اللذين عثر على أنهما استحقا إثما، فيشهدان أو يحلفان على ما
هو الحق، وليس المراد أنهما يقومان مقامهما في أداء الشهادة التي شهدها المستحقان
للإثم.
مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيانِ: استحق مبني
للمفعول في قراءة الجمهور.
وقرأ علي وأبيّ وابن عباس وحفص على البناء
للفاعل. والأوليان- على القراءة الأولى- مرتفع على أنه خبر مبتدأ محذوف، أي هما
الأوليان. كأنه قيل: من هما؟ فقيل هما الأوليان. وقيل: هو بدل من الضمير في
يقومان، أو من آخران.
وقرأ يحيى بن وثاب والأعمش وحمزة: الأوّلين جمع أول
على أنه بدل من الّذين، أو من الهاء والميم في عليهم.
وقرأ الحسن: الأولان،
والمعنى على بناء الفعل للمفعول من الذين استحق عليهم الإثم: أي جنى عليهم، وهم
أهل الميت وعشيرته فإنهم أحق بالشهادة أو اليمين من غيرهم. فالأوليان تثنية أولى
والمعنى- على قراءة البناء للفاعل- من الذين استحق عليهم الأوليان من بينهم
بالشهادة أن يجردوهما للقيام بالشهادة، ويظهروا بما كذب الكاذبين، لكونهما
الأقربين إلى الميت «١» .
فالأوليان فاعل استحق، ومفعوله أن تجردوهما للقيام
بالشهادة. وقيل: المفعول محذوف، والتقدير: من الذين استحق عليهم الأوليان بالميت
وصيته التي أوصى بها.
(١) انظر توجيه ابن جني للقراءات في هذه الآية من
كتابه «المحتسب» (١/ ٢٢٠، ٢٢٢) ط. المجلس الأعلى- القاهرة.
فَيُقْسِمانِ
بِاللَّهِ: عطف على يقومان، أي فيحلفان بالله.
لَشَهادَتُنا أي يميننا.
فالمراد بالشهادة هنا اليمين، كما في قوله: فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ
شَهاداتٍ بِاللَّهِ [النور: ٦] أي يحلفان: لشهادتنا على أنهما كاذبان خائنان.
أَحَقُّ
مِنْ شَهادَتِهِما أي من يمينهما على أنهما صادقان أمينان.
وَمَا
اعْتَدَيْنا: أي تجاوزنا الحق في يميننا.
إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ
(١٠٧) إن كنا حلفنا على باطل.
ذلِكَ أَدْنى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهادَةِ
عَلى وَجْهِها: أي ذلك البيان الذي قدمه الله سبحانه، في هذه القصة وعرفنا كيف
يصنع من أراد الوصية في السفر، ولم يكن عنده أحد من أهله وعشيرته وعنده كفار.
وأَدْنى:
أي أقرب إلى أن يؤدي الشهود المتحملون للشهادة على الوصية بالشهادة على وجهها،
فلا تحرفوا، ولا تبدلوا، ولا تخونوا، وهذا كلام مبتدأ يتضمن ذكر المنفعة والفائدة
في هذا الحكم الذي شرعه الله في هذا الموضع من كتابه، فالضمير في يأتوا عائد إلى
شهود الوصية من الكفار، وقيل: إنه راجع إلى المسلمين المخاطبين بهذا الحكم.
والمراد
تحذيرهم من الخيانة، وأمرهم بأن يشهدوا بالحق.
أَوْ يَخافُوا أَنْ تُرَدَّ
أَيْمانٌ بَعْدَ أَيْمانِهِمْ: أي ترد على الورثة فيحلفون على خلاف ما يشهد به
شهود الوصية، فيفتضح حينئذ شهود الوصية. وهو معطوف على قوله: أَنْ يَأْتُوا،
فتكون الفائدة في شرع الله سبحانه لهذا الحكم في أحد الأمرين:
إما احتراز
لشهود الوصية عن الكذب والخيانة، فيأتون بالشهادة على وجهها.
أو يخافوا
الافتضاح إذا ردت الأيمان على قرابة الميت، فحلفوا بما يتضمن كذبهم أو خيانتهم
فيكون ذلك سببا لتأدية شهادة شهود الوصية على وجهها من غير كذب ولا خيانة. وقيل:
أن يخافوا معطوف على مقدر بعد الجملة الأولى، والتقدير: ذلك أدنى أن يأتوا
بالشهادة على وجهها ويخافوا عذاب الآخرة بسبب الكذب والخيانة، أو يخافوا الافتضاح
برد اليمين، فأيّ الخوفين وقع حصل المقصود.
حاصل ما تضمنه هذا المقام من
الكتاب العزيز: أن من حضرته علامات الموت
أشهد على وصيته عدلين
من عدول المسلمين، فإن لم يجد شهودا مسلمين- وكان في سفره- ووجد كفارا، جاز له أن
يشهد رجلين منهم على وصيته، فإن ارتاب بهما ورثة الموصي حلفا بالله على أنهما
شهدا بالحق، وما كتما من الشهادة شيئا، ولا أخفيا مما تركه الميت شيئا، فإن تبين
بعد ذلك خلاف ما أقسما عليه، من خلل في الشهادة، أو ظهور شيء من تركه الميت، زعما
أنه قد صار في ملكهما بوجه من الوجوه، حلف رجلان من الورثة، وعمل بذلك «١» .
والله أعلم.
(١) انظر في تفسير وتحقيق الأقوال في هذه الآية: التبيان
للعكبري (١/ ٢٣١)، الطبري (٧/ ٦٧)، زاد المسير (٢/ ٤٤٣، ٤٥٣)، والزجاج (٢٣٦)،
النكت (١/ ٤٩٥)، القرطبي (٦/ ٣٤٦)، وابن كثير (٢/ ١١١)، اللباب (٩٩)، الدر
المنثور (٢/ ٣٤١)، مفاتيح الغيب (٦/ ١٧٢، ١٨٢)، الناسخ والمنسوخ لابن العربي (٢/
٢٠٧، ٢٠٩)، والأحكام له (٢/ ٧٠٥، ٧٢٥) .