اسم الكتاب: نيل المرام من تفسير آيات الأحكام
اسم المؤلف: أبو الطيب محمد صديق خان بن حسن بن علي ابن لطف الله الحسيني البخاري القِنَّوجي (ت ١٣٠٧هـ)
اسم المحقق، تحقيق: محمد حسن إسماعيل - أحمد فريد المزيدي
دار النشر: دار الكتب العلمية
تاريخ النشر: ٣٠/٠١/٢٠٠٣
عدد الصفحات: ٤٧١
فهرس الموضوعات
- سورة الأنعام [مائة وخمس وستون آية]
- [سورة الأنعام (٦) : آية ١٠٨]
- [سورة الأنعام (٦) : الآيات ١١٨ إلى ١١٩]
- [سورة الأنعام (٦) : آية ١٢١]
- [سورة الأنعام (٦) : آية ١٤١]
- [سورة الأنعام (٦) : آية ١٤٥]
- سورة الأعراف [وآياتها مائتان وخمس أو ست آيات]
- [سورة الأعراف (٧) : آية ٣١]
- [سورة الأعراف (٧) : آية ٣٢]
- [سورة الأعراف (٧) : آية ٣٣]
- [سورة الأعراف (٧) : الآيات ٢٠٤ إلى ٢٠٥]
- سورة الأنفال [وجملة آياتها خمس أو ست أو سبع وسبعون آية]
- [سورة الأنفال (٨) : آية ١]
- [سورة الأنفال (٨) : الآيات ١٥ إلى ١٦]
- [سورة الأنفال (٨) : الآيات ٣٨ إلى ٣٩]
- [سورة الأنفال (٨) : آية ٤١]
- [سورة الأنفال (٨) : آية ٤٦]
- [سورة الأنفال (٨) : آية ٥٨]
- [سورة الأنفال (٨) : الآيات ٦٠ إلى ٦١]
- [سورة الأنفال (٨) : الآيات ٦٦ إلى ٦٧]
- [سورة الأنفال (٨) : آية ٧٢]
- [سورة الأنفال (٨) : آية ٧٥]
- سورة براءة [آيها مائة وثلاثون أو سبع وعشرون آية]
- [سورة التوبة (٩) : الآيات ١ إلى ٧]
- [سورة التوبة (٩) : آية ١١]
- [سورة التوبة (٩) : الآيات ١٧ إلى ١٨]
- [سورة التوبة (٩) : الآيات ٢٨ إلى ٢٩]
- [سورة التوبة (٩) : آية ٣٤]
- [سورة التوبة (٩) : آية ٣٦]
- [سورة التوبة (٩) : آية ٤١]
- [سورة التوبة (٩) : الآيات ٤٤ إلى ٤٥]
- [سورة التوبة (٩) : آية ٦٠]
- [سورة التوبة (٩) : آية ٧٣]
- [سورة التوبة (٩) : الآيات ٨٣ إلى ٨٤]
- [سورة التوبة (٩) : الآيات ٩١ إلى ٩٣]
- [سورة التوبة (٩) : آية ١٠٣]
- [سورة التوبة (٩) : آية ١١٣]
- [سورة التوبة (٩) : الآيات ١٢٢ إلى ١٢٣]
- سورة هود وآياتها مائة وثلاث وعشرون آية
- [سورة هود (١١) : آية ١١٣]
- العودة الي كتاب نيل المرام من تفسير آيات الأحكام
سورة الأنعام [مائة وخمس وستون آية]
مكيّة إلا ست آيات نزلت بالمدينة وهي وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ
قَدْرِهِ إلى آخر ثلاث آيات مع اختلاف في العدد «١» .
[الآية الأولى]
وَلا
تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا
بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلى
رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٠٨) .
وَلا
تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا
بِغَيْرِ عِلْمٍ الموصول عبارة عن الآلهة التي كانت تعبدها الكفار.
والمعنى:
لا تسب يا محمد آلهة هؤلاء الكفار التي يدعونها من دون الله فيتسبب عن ذلك سبهم
الله، عدوانا وتجاوزا عن الحق، وجهلا منهم.
وفي هذه الآية دليل على أن
الداعي إلى الحق، والناهي عن الباطل، إذا خشي أن يتسبب عن ذلك، ما هو أشد منه من
انتهاك حرم، ومخالفة حق، ووقوع في باطل أشد، كان الترك أولى به، بل كان واجبا
عليه.
(١) قال ابن العربي: مكية كلها إلا آيات تسعا نزلت بالمدينة.
قلت:
وذلك على اختلاف الروايات، والآيات التسع المدنيات هي على المشهور [٢٠، ٢٣، ٩١،
٩٣، ١١٤، ١٤١، ١٥١- ١٥٣] وروي عن ابن عباس أنها مكية غير ست آيات منها، فإنها
مدنيات (١٥١- ١٥٣) و(٩١) ... وذكر مقاتل نحو هذا وزاد آيتين (٢٠) وروي عن ابن
عباس أيضا. وقتادة. وكذلك (١٤١)، وانظر في ذلك: الأحكام لابن العربي (٢/ ٧٢٦)،
والناسخ والمنسوخ (٢/ ٢١٠) ومحاسن التأويل (٦/ ٢٢٣٠) . [.....]
قال
الشوكاني في «فتح القدير» «١»: وما أنفع هذه الآية، وأجل فائدتها لمن كان من
الحاملين لحجج الله، المتصدين لبيانها للناس، إذا كان بين قوم من الصم البكم
الذين إذا أمرهم بمعروف تركوه، وتركوا غيره من المعروف، وإذا نهاهم عن منكر
فعلوه، وفعلوا غيره من المنكرات، عنادا للحق، وبغضا لاتباع المحقين، وجرأة على
الله، فإن هؤلاء لا يؤثر فيهم إلا السيف، وهو الحكم العدل لمن عاند الشريعة
المطهرة، وجعل المخالفة لها، والتجرؤ على أهلها ديدنه، وهجيراه كما يشاهد ذلك في
أهل البدع إذا دعوا إلى حق وقعوا في كثير من الباطل، وإذا أرشدوا إلى السنة
قابلوها بما لديهم من البدعة! فهؤلاء هم المتلاعبون بالدين، المتهاونون بالشرائع،
وهم أشر من الزنادقة، لأنهم يحتجون بالباطل، وينتمون إلى البدع، ويتظاهرون بذلك
غير خائفين ولا وجلين.
والزنادقة قد ألجمتهم سيوف الإسلام، وتحاماهم أهله،
وقد ينفق كيدهم، ويتم باطلهم وكفرهم، نادرا على ضعيف من ضعفاء المسلمين، مع تكتم
وتحرز وخيفة ووجل. انتهى.
وقد ذهب جمهور أهل العلم إلى أن هذه الآية محكمة
ثابتة، غير منسوخة، وهي أصل في سد الذرائع، وقطع التطرق إلى الشبه.
وقوله:
عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ
إِلى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٠٨)
منصوب على الحال، أو على المصدر، أو على أنه مفعول له.
[الآيتان: الثانية
والثالثة]
فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ
بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ (١١٨) وَما لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ
اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا
اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوائِهِمْ بِغَيْرِ
عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ (١١٩) .
فَكُلُوا
مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ: قيل إنها نزلت في سبب خاص، كما أخرج أبو
داود والترمذي وحسنه، والبزار وغيرهم، عن ابن عباس قال: جاءت اليهود إلى
(١)
انظره في (٢/ ١٥٠) .
النبي ﵌ فقالوا: إنا نأكل مما قتلنا ولا
نأكل مما قتل الله، فأنزل الله هذه الآية «١» .
ولكن الاعتبار بعموم اللفظ
لا بخصوص السبب، فكل ما ذكر الذبح عليه اسم الله حل، إن كان مما أباح الله
أكله.
وقال عطاء: في هذه الآية الأمر بذكر الله على الشراب والذبح، وكل
مطعوم «٢» .
[......] «٣» إلى قوله: وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ
عَلَيْكُمْ: أي بين لكم بيانا مفصلا يدفع الشك ويزيل الشبهة بقوله: قُلْ لا
أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا [الأنعام: ١٤٥] إلى آخر الآية.
ثم
استثنى فقال: إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ: أي من جميع ما حرمه الله عليكم
فإن الضرورة تحلل الحرام. وقد تقدم تحقيقه في البقرة «٤» .
[الآية
الرابعة]
وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ
وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ
لِيُجادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ (١٢١) .
وَلا
تَأْكُلُوا: نهى الله سبحانه عن الأكل:
مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ
عَلَيْهِ، بعد أن أمر بالأكل مما ذكر اسم الله عليه، وفيه دليل تحريم أكل ما لم
يذكر اسم الله عليه «٥» .
وقد اختلف أهل العلم في ذلك فذهب ابن عمر ونافع
مولاه، والشعبي وابن
(١) إسناده ضعيف: رواه أبو داود (٢٨١٩)، والطبري
(١٣٨٢٥)، والبيهقي في «الكبرى» (٩/ ٢٤٠) عن ابن عباس فذكره.
وأورده السيوطي
في «الدر» (٨/ ٣٤٦، ٣٤٧) وزاد ابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ وابن
مردويه.
وعلته في الضعف: عطاء بن السائب، لا يحتج بحديثه إلا ما رواه الثقات
عنه قبل اختلاطه.
وفيه أيضا: عمران بن عيينة وزياد البكائي، ليسا من
الثقات.
(٢) صحيح: رواه ابن جرير في «تفسيره» (١٣٧٩٠) بسند صحيح رجاله
ثقات.
(٣) يبدو من السياق وجود سقط وهو شرح نهاية الآية (١١٨) مع أول الآية
(١١٩) .
(٤) انظر ما سبق من تفسير سورة البقرة آية رقم (١٧٣) .
(٥)
انظر التعليق السابق عند آية (٤) من سورة المائدة.
سيرين، وهو
رواية عن مالك وعن أحمد بن حنبل، وبه قال أبو ثور وأبو داود الظاهري، إلى أن ما
لم يذكر اسم الله عليه من الذبائح حرام من غير فرق بين العامد والناسي لهذه
الآية، ولقوله تعالى في آية الصيد: فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ
وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ [المائدة: ٤] .
ويزيد هذا الاستدلال
تأكيدا قوله سبحانه في هذه الآية: وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ.
وقد ثبت في الأحاديث
الصحيحة الأمر بالتسمية، في الصيد وغيره.
وذهب الشافعي وأصحابه- وهو رواية
عن مالك ورواية عن أحمد- إلى أن التسمية مستحبة لا واجبة، وهو مروي عن ابن عباس
وأبي هريرة وعطاء بن أبي رباح.
وحمل الشافعي الآية على من ذبح لغير الله وهو
تخصيص بالآية بغير مخصص.
وقد روى أبو داود في «المراسيل» «١» أن النبي ﵌
قال: «ذبيحة المسلم حلال ذكر اسم الله عليه أو لم يذكر»، وليس في هذا المرسل ما
يصلح لتخصيص الآية نعم حديث عائشة أنها قالت للنبي ﵌: إن قوما يأتوننا بلحمان لا
ندري أذكر اسم الله عليه أم لا؟ فقال: «سموا أنتم وكلوا» «٢» يفيد أن التسمية عند
الأكل تجزىء مع التباس وقوعها عند الذبح.
وذهب مالك وأحمد في المشهور عنه
وأبو حنيفة وأصحابه، وإسحاق بن راهوية أن التسمية إن تركت نسيانا لم تضر، وإن
تركت عمدا لم يحل أكل الذبيحة، وهو مروي عن علي وابن عباس وسعيد بن المسيب وعطاء
وطاووس والحسن البصري وأبي مالك وعبد الرحمن بن أبي ليلى وجعفر بن محمد وربيعة بن
أبي عبد الرحمن.
واستدلوا بما أخرجه البيهقي عن ابن عباس عن النبي ﵌ قال:
«المسلم إن نسي أن يسمي حين يذبح فليذكر اسم الله وليأكله» «٣» .
(١) إسناده
ضعيف: رواه أبو داود في «المراسيل» (٣٧٨)، والبيهقي في «الكبرى» (٩/ ٢٤٠) .
وأورده الزيلعي في «نصب الراية» (٤/ ١٨٣)، وقال عن ابن القطان: وفيه مع الإرسال
أن الصلت السدوسي لا يعرف له حال، ولا يعرف بغير هذا، ولا روى عنه غير ثور بن
يزيد. اه..
(٢) حديث صحيح: رواه البخاري (٩/ ٦٣٤) .
(٣) صحيح موقوفا:
رواه البيهقي في «الكبرى» (٩/ ٢٣٩) عن ابن عباس مرفوعا.
ورواه عبد الرزاق
(٨٥٤٨)، والبيهقي أيضا (٩/ ٢٣٩) .
قلت: وعلة المرفوع- معقل بن عبيد الله
الجزري- صدوق يخطىء.
وهذا الحديث رفعه خطأ وإنّما هو من قول ابن
عباس.
وكذا أخرجه من قوله عبد الرزاق وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن
المنذر.
نعم يمكن الاستدلال لهذا المذهب بمثل قوله تعالى: رَبَّنا لا
تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا [البقرة: ٢٨٦]، وبقوله ﵌: «رفع عن أمتي
الخطأ والنسيان» «١» .
وأما حديث أبي هريرة الذي أخرجه ابن عدي: «أن رجلا
جاء إلى النبي ﵌ فقال: يا رسول الله أرأيت الرجل ذبح ونسي أن يسمي؟ فقال النبي ﵌:
«اسم الله على كل مسلم»، فهو حديث ضعيف قد ضعفه البيهقي وغيره «٢» .
والضمير
في قوله: إنه وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ يرجع إلى (ما) بتقدير مضاف، أي وإن أكل ما لم
يذكر لفسق، ويجوز أن يرجع إلى مصدر تأكلوا، أي فإن الأكل لفسق.
وقد تقدم
تحقيق الفسق «٣» .
وقد استدل من حمل هذه الآية على ما ذبح لغير الله بقوله:
وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ، ووجه الاستدلال أن الترك لا يكون فسقا، بل الفسق الذبح لغير
الله.
ويجاب عنه بأن إطلاق اسم الفسق على تارك ما فرضه الله عليه غير ممتنع
شرعا «٤» .
أما الموقوف فرجاله ثقات.
(١) حديث صحيح: رواه الطبراني في
«الصغير» (١٠/ ٢٧٠)، والدارقطني في «سننه» (٤/ ١٧٠، ١٧١)، والحاكم في «المستدرك»
(٢/ ١٩٨)، والبيهقي في «الكبرى» (٧/ ٣٥٦)، وابن حبان في «صحيحه» (٧٢١٩)، والطحاوي
في «شرح المعاني» (٣/ ٩٥) عن ابن عباس مرفوعا بنحوه.
(٢) حديث ضعيف: رواه
ابن عدي في «الكامل في الضعفاء» (٦/ ٣٨٥)، والبيهقي في «الكبرى» (٩/ ٢٤٠) عن أبي
هريرة مرفوعا.
قلت: وضعفه ابن عدي وكذا البيهقي.
(٣) وذلك عند تفسير
الآية (٣) من سورة المائدة.
(٤) انظر في تفسير هذه الآية: الناسخ والمنسوخ
لابن العربي (٢/ ٢١٤، ٢١٦)، والأحكام له (٢/ ٧٤٠)، الزجاج (٢/ ٣١٦)، ابن قتيبة
(١٦١)، النكت (١/ ٥٥٨)، زاد المسير (٣/ ١١٥)، اللباب (١٠٤)، القرطبي (٧/ ٧٧) .
[.....]
[الآية الخامسة]
وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ
مَعْرُوشاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ
وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشابِهًا وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ كُلُوا مِنْ
ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ
لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (١٤١) .
وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ قد
اختلف أهل العلم: هل هذه محكمة؟ أو منسوخة؟
أو محمولة على الندب؟ فذهب ابن
عمر وعطاء ومجاهد وسعيد بن جبير إلى أن الآية محكمة، وأنه يجب على المالك يوم
الحصاد أن يعطي من حضر من المساكين القبضة والضّغث «١» ونحوهما.
وذهب ابن
عباس ومحمد بن الحنفية والحسن والنخعي وطاووس وأبو الشعثاء، وقتادة والضحاك وابن
جريج إلى أن هذه الآية منسوخة بالزكاة، واختاره ابن جرير «٢» .
ويؤيده أن
هذه الآية مكية وآية الزكاة مدنية في السنة الثانية بعد الهجرة، وإلى هذا ذهب
جمهور أهل العلم من السلف والخلف.
وقالت طائفة من العلماء: إن الآية محمولة
على الندب لا على الوجوب.
وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ
الْمُسْرِفِينَ (١٤١): ومثلها في الأعراف «٣»، أي لا تسرفوا في التصدق.
وأصل
الإسراف في اللغة: الخطأ.
وفي الفقه: التبذير.
وقال سفيان: ما أنفقت في
غير طاعة الله تعالى فهو إسراف، وإن كان قليلا.
وقيل: هو خطاب للولاة يقال
لهم: لا تأخذوا فوق حقكم، وقيل: المعنى: لا تأخذوا الشيء بغير حقه، ولا تضعوه في
غير مستحقه.
(١) الضغث: القبضة من الحشيش مختلطة الرطب باليابس [اللسان!
ضغث] .
(٢) انظر: تفسير الطبري (٨/ ٥٩) .
(٣) عند الآية (٣١) .
[الآية
السادسة]
قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلى طاعِمٍ
يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ
خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ
اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٤٥) .
قُلْ
لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ: أمره الله سبحانه بأن يخبرهم أنه لا يجد في
شيء مما أوحى إليه أي القرآن، وفيه إيذان بأن مناط الحل والحرمة هو الوحي لا مجرد
العقل.
مُحَرَّمًا: غير هذه المذكورات، فدل ذلك على انحصار المحرمات فيها
لولا أنها مكية وقد نزل بعدها بالمدينة سورة المائدة، وزيد فيها على هذه المحرمات
المنخنقة، والموقوذة، والمتردية، والنطيحة «١» .
وصحّ عن رسول الله ﵌ تحريم
كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير «٢» .
وتحريم الحمر الأهلية «٣»،
والكلاب «٤»، ونحو ذلك.
وبالجملة فهذا العموم إن كان بالنسبة إلى ما يؤكل من
الحيوانات، كما يدل عليه السياق، ويفيده الاستثناء، فيضم إليه كل ما ورد بعده في
الكتاب والسنة، مما يدل على تحريم شيء من الحيوانات، وإن كان هذا العموم هو
بالنسبة إلى كل شيء حرمه الله من حيوان وغيره، فإنه يضم إليه كل ما ورد بعده مما
فيه تحريم شيء من الأشياء.
وقد روي عن ابن عباس وابن عمر وعائشة أنه لا حرام
إلا ما ذكره الله في هذه الآية، وروي ذلك عن مالك وهو قول ساقط ومذهب في غاية
الضعف لاستلزامه إهمال غيرها مما نزل بعدها من القرآن، وإهمال ما صح عن النبي ﵌
أنه قال بحرمة شيء مثلا، بعد نزول هذه الآية بلا سبب يقتضي ذلك، ولا موجب يوجبه،
مع أن
(١) تقدّم الكلام عليها في تفسير سورة المائدة آية (٣) .
(٢)
حديث صحيح: رواه البخاري (٩/ ٦٥٧)، (١٠/ ٢٤٩)، ومسلم (١٣/ ٨١، ٨٣)، عن أبي ثعلبة
الخشني نحوه.
(٣) حديث صحيح: رواه البخاري (٧/ ٤٨١)، ومسلم (١٣/ ٩٠، ٩١)،
ابن عمر مرفوعا، وذلك النهي كان في يوم خيبر، وروي عن جمع من الصحابة أيضا.
(٤)
تدخل ضمن تحريم كل ذي ناب من السباع.
التمسك بقول أحد، ولو كان
صحابيا، في مقابلة قوله ﵌ من سوء الاختيار وعدم الإنصاف.
وقوله مُحَرَّمًا:
صفة لموصوف محذوف، أي طعاما محرما.
عَلى أي طاعِمٍ يَطْعَمُهُ: من المطاعم،
وفي يَطْعَمُهُ زيادة تأكيد وتقرير لما قبله.
إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً:
أي ذلك الشيء، أو ذلك الطعام، أو العين، أو الجثة، أو النفس، قرىء بالتحتية
والفوقية وقرىء: ميتة، بالرفع على أن يكون تامة.
أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا وهو
الجاري، وغير المسفوح معفو عنه، كالدم الذي يبقى في العروق بعد الذبح، ومنه الكبد
والطحال، وهكذا ما يتلطخ به اللحم من الدم.
وقد حكى القرطبي الإجماع على هذا
«١» .
أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ: ظاهر تخصيص اللحم أنه لا يحرم الانتفاع منه بما
عدا اللحم، والضمير في: فَإِنَّهُ رِجْسٌ، راجع إلى اللحم أو إلى الخنزير.
والرجس:
النجس، وقد تقدم تحقيقه.
أَوْ فِسْقًا عطف على لَحْمَ خِنزِيرٍ.
وأُهِلَّ
لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ: صفة فسق، أي ذبح على الأصنام وغيرها، وسمي فسقا لتوغله في
باب الفسق، ويجوز أن يكون فسقا مفعولا له لأهلّ، أي أهلّ به لغير الله فسق على
عطف أهلّ على يكون، وهو تكلف لا حاجة إليه.
فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ
وَلا عادٍ: قد تقدم تفسير ذلك في سورة البقرة فلا نعيده «٢» .
فَإِنَّ
رَبَّكَ غَفُورٌ: أي كثير المغفرة.
رَحِيمٌ (١٤٥): أي كثير الرحمة، فلا
يؤاخذ المضطر لما دعت إليه ضرورته.
(١) انظر تفسيره (٧/ ١٢٤)، ومراتب
الإجماع لابن حزم (ص ١٧٢، ١٧٣) .
(٢) وذلك عند تفسير الآية (١٧٣) من سورة
البقرة.
وانظر في تفسير هذه الآية: المشكل لمكي بن أبي طالب (١/ ٢٩٧)،
والزجاج (٢/ ٣٣٠)، والتبيان (١/ ٢٦٤)، والفراء (١/ ٢٦٠)، وزاد المسير (٣/ ١٣٨)
.
سورة الأعراف [وآياتها مائتان وخمس أو ست آيات]
هي مكيّة إلا ثمان آيات، وهي قوله: وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ إلى
قوله: وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ. [قاله] «١» ابن عباس وابن الزبير،
وبه قال الحسن ومجاهد وعكرمة وعطاء وجابر بن زيد «٢» .
وقال قتادة: آية من
الأعراف مدنية: وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ وسائرها مكية.
وقد ثبت أن
النبي ﵌ كان يقرأ بها في المغرب، يفرقها في الركعتين «٣» .
[الآية
الأولى]
يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا
وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (٣١) .
يا
بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ هذا خطاب لجميع بني آدم
وإن كان واردا على سبب خاص، فالاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب «٤» .
والزينة:
ما يتزين به الناس من الملبوس، أمروا بالتزيين عند الحضور إلى المساجد للصلاة
والطواف «٥» .
(١) ما بين [المعقوفين] قال بدون الهاء في «المطبوعة» وهو غير
مناسب للسياق، والصواب ما أثبتناه.
(٢) انظر: الطبري (٨/ ٨٥)، وزاد المسير
(٣/ ١٦٤)، الدر المنثور (٣/ ٦٧) .
(٣) حديث صحيح: رواه البخاري (٢/ ٢٤٦)،
وأبو داود (٨١٢)، والنسائي (٢/ ١٦٩، ١٧٠)، وأحمد في «المسند» (٥/ ٤١٨)، والطبراني
(٣٨٩٣)، (٤٨٢٣) عن زيد بن ثابت مرفوعا.
(٤) فائدة: في سبب نزول هذه الآية
انظر: مسلم (١/ ١٦٢)، والطبري (٨/ ١٦٠)، والحاكم (٢/ ٣١٩، ٣٢٠)، وتفسير ابن كثير
(٢/ ٢١٠) .
(٥) انظر: زاد المسير لابن الجوزي (٣/ ١٨٧)، والطبري (٨/ ١٦٠)،
وابن كثير (٢/ ٢١٠)، والدر المنثور (٣/ ٧٨) . [.....]
وقد استدل
بالآية على ستر العورة في الصلاة، وإليه ذهب جمهور أهل العلم، بل سترها واجب في
كل حال من الأحوال، وإن كان الرجل خاليا، كما دلت عليه الأحاديث الصحيحة «١»،
والكلام على العورة وما يجب ستره منها مفصل في كتب الفروع «٢» .
[الآية
الثانية]
قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ
وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ
الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ
يَعْلَمُونَ (٣٢) .
قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ
لِعِبادِهِ الزينة: ما يتزين به الإنسان، من ملبوس أو غيره من الأشياء المباحة،
كالمعادن التي لم يرو نهي عن التزين بها، والجواهر ونحوها، وما قيل لها الملبوس
خاصة فلا وجه له بل هو من جملة ما تشمله الآية، فلا حرج على من لبس الثياب
الجيدة، الغالية القيمة، إذا لم يكن مما حرّمه الله، ولا حرج على من تزين بشيء من
الأشياء التي لها مدخل في الزينة، ولا يمنع منها مانع شرعي، ومن زعم أن ذلك يخالف
الزهد فقد غلط غلطا بينا.
وهكذا الطيبات من المطاعم والمشارب ونحوهما مما
يأكله الناس، فإنه لا زهد في ترك الطيّب منها، ولهذا جاءت الآية هذه معنونة
بالاستفهام المتضمن للإنكار على من حرّم ذلك على نفسه، أو حرمه على غيره.
(١)
حديث حسن: رواه أبو داود (٤٠١٧)، والترمذي (٢٧٦٩)، وابن ماجة (١٩٢٠)، وأحمد (٥/
٤٠٣)، والحاكم (٤/ ١٧٩، ١٨٠)، عن بهز بن حكيم عن أبيه مرفوعا، وبهز وأبوه صدوقان.
وحسنه الترمذي، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.
(٢) قال ابن حزم: «واتفقوا أن
ستر العورة في الصلاة لمن قدر على ثوب مباح لباسه له فرض. (مراتب الإجماع ص ٣٤)
.
قال ابن الحاجب: في ستر العورة في الرجل ثلاثة أقوال: السوأتان خاصة، ومن
السرّة إلى الركبة، والسرة حتى الركبة، وقيل: ستر جميع البدن واجب. (جامع الأمهات
ص ٨٩) .
قال الحصني: السرة والركبة ليستا من العورة وهو ذلك على الصحيح الذي
نصّ عليه الشافعي، انظر: كفاية الأخيار (ص ١١٩) . وكلام المصنف في «الروضة
النّدية (ص ٨١، ٨٢)» .
ونيل الأوطار للشوكاني (٢/ ٦١، ٧٠) .
وما
أحسن ما قاله ابن جرير الطبري: لقد أخطأ من آثر لباس الصوف والشعر على لباس
القطن، والكتّان مع وجود السبيل إليه من حله، ومن أكل البقول والعدس واختاره على
خبز البر، ومن ترك أكل اللحم خوفا من عارض الشهوة «١» .
وَالطَّيِّباتِ مِنَ
الرِّزْقِ: أي المستلذات من الطعام، وقيل: هو اسم عام كسيا ومطعما.
قُلْ
هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا: أي أنها لهم بالأصالة
والاستحقاق وإن شاركهم الكفار فيها ما داموا في الحياة.
خالِصَةً يَوْمَ
الْقِيامَةِ أي مختصة بهم يوم القيامة، لا يشاركهم فيها الكفار «٢» .
قرأ
نافع خالصة بالرفع، وهي قراءة ابن عباس على أنها خبر بعد خبر، وقرأ الباقون
بالنصب على الحال «٣» .
قال أبو علي الفارسي: ولا يجوز الوقف على الدنيا لأن
ما بعدها متعلق بقوله لِلَّذِينَ آمَنُوا حال بتقدير قُلْ هِيَ ثابتة للذين آمنوا
في الحياة الدنيا في حال خلوصها لهم يوم القيامة «٤» .
(١) انظر: الطبري (٨/
١١٣)، وزاد المسير (٣/ ١٨٩)، والنكت والعيون (٢/ ١٩)، ومعاني الفراء (١/ ٣٧٧)،
والقرطبي (٧/ ٢٠٠)، والبحر المحيط (٤/ ٢٨٣) .
(٢) قال ابن الأنباري: هي
للذين آمنوا في الدنيا مشتركة، وهي لهم في الآخرة خالصة (النكت ٢/ ٥٢، الزاد ٣/
١٨٩) .
(٣) قال الأزهري: «من رفع فقال: (خالصة) فهي على أنه خبر بعد خبر،
كما تقول: زيد عاقل لبيب، المعنى: قل هي ثابتة للذين آمنوا في الحياة الدنيا
خالصة يوم القيامة، أراد جلّ وعزّ أنها حلال للمؤمنين، يعني: الطيبات من الرّزق
ويشركهم فيها الكافر، واعلم أنها تخلص للمؤمنين في الآخرة لا يشركهم فيها
كافر.
ومن قرأ (خالصة) بالنصب نصبها على الحال، على أن العامل في قوله (في
الحياة الدنيا) في تأويل الحال، كأنك قلت: هي ثابتة للمؤمنين مستقرة في الحياة
الدنيا خالصة يوم القيامة (معاني القراءات ص ١٧٨) بتحقيقنا- المزيدي- وكذلك الحجة
لابن خالويه (ص ٨٤) والإقناع لابن الباذش، والمفتاح للمغربي- بتحقيقنا- أيضا- دار
الكتب- بيروت.
(٤) قال النحاس: «قال الأخفش (قل هي للذين آمنوا لأن المعنى:
هي خالصة يوم القيامة) هاهنا تمّ الكلام لأن المعنى: هي خالصة يوم القيامة للذين
آمنوا في الحياة الدنيا، قال أبو جعفر: وهذا شرح حسن، وفي المعنى قول آخر، قال
الضحاك وغيره من أهل التأويل أن المعنى: قل هي للذين آمنوا يشاركهم فيها غيرهم في
الحياة الدنيا وتخلص يوم القيامة للذين آمنوا، والتمام- كما قال الأخفش- على
المعنيين جميعا (القطع والائتناف) بتحقيقنا- دار الكتب العلميّة- بيروت.
[الآية
الثالثة]
قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما
بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ
ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا
تَعْلَمُونَ (٣٣) .
قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ جمع فاحشة،
وهي كل معصية.
ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ: أي ما أعلن منها وما أستر،
وقيل هي خاصة بفواحش الزنا! ولا وجه لذلك.
وَالْإِثْمَ: يتناول كل معصية
يتسبب عنها الإثم، وقيل: هو الخمر خاصة، ومنه قول الشاعر:
شربت الإثم حتى ضل
عقلي ... كذاك الإثم يذهب بالعقول
وقد أنكر التخصيص جماعة من أهل العلم،
وحقيقته أنه جميع المعاصي.
وقال الفراء: الإثم ما دون الحق والاستطالة على
الناس «١» . انتهى.
وليس في إطلاق الإثم على الخمر ما يدل على اختصاصه
به.
وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ: أي الظلم المجاوز للحد، وإفراده بالذكر
بعد دخوله فيما قبله لكونه ذنبا عظيما كقوله: وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ
وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ [النحل: ٩٠] .
وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ ما
لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطانًا أي وأن تجعلوا لله شريكا، لم ينزل عليكم به حجة،
والمراد التهكم بالمشركين لأن الله لا ينزل برهانا بأن يكون غيره شريكا.
وَأَنْ
تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٣٣): بحقيقته، وأن الله قاله، وهذا
مثل ما كانوا ينسبون إلى الله سبحانه من التحليلات والتحريمات التي لم يأذن
بها.
[الآية الرابعة]
وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ
وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٢٠٤)
(١) انظر: معاني الفرّاء (١/
٣٧٧، ٣٨)، وتفسير ابن عطية (٥/ ٤٨٤، ٤٨٥)، وزاد المسير (٣/ ١٩٠)، والطبري (٨/
١٢٣)، والنكت والعيون (٢/ ٢٥) .
وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ
فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا أمرهم الله سبحانه بالاستماع للقرآن، والإنصات
له عند قراءته، لينتفعوا به، ويتدبروا ما فيه من الحكم والمصالح.
قيل: هذا
الأمر خاص بوقت الصلاة عند قراءة الإمام وقيل: هذا خاص بقراءة رسول الله ﵌ للقرآن
دون غيره! ولا وجه لذلك، مع أن اللفظ أوسع من هذا، والعام لا يقصر على سببه فيكون
الاستماع والإنصات عند قراءة القرآن في كل حالة، وعلى أي صفة، مما يجب على
السامع، إلا ما استثنى الذي أنزل عليه القرآن ﵌، كقراءة المأموم الفاتحة خلف
إمامه سرا وجهرا، فإنه قد صح في ذلك أخبار شهيرة واضحة، وآثار كثيرة فائحة، توجب
تأكد قراءة فاتحة الكتاب، ولزومها للمقتدي، بل صرح غير واحد من أئمة الفقه
والحديث المعتبرين بكون ذلك مذهب أكثر الصحابة والتابعين رضوان الله تعالى عليهم
أجمعين.
ولم يصح أثر، فضلا عن خبر، صريح في النهي عن الفاتحة خاصة، وإن
استدل جماعة من أهل العلم بالعمومات الواردة فلينصف.
ولقد فصلت المرام بعون
الله في «مسك الختام» و«الروضة الندية» «١» و«هداية السائل إلى أدلة المسائل»
وفيه «إعلام الأعلام بقراءة الفاتحة خلف الإمام» لبعض الأحباب لنا، وهي مختصر
نفيس «٢» .
لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٢٠٤): أي تنالون الرحمة، وتفوزون بها،
بامتثال أمر الله ﷾.
[الآية الخامسة] وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ
تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ
وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ (٢٠٥) .
وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ:
أمره الله سبحانه أن يذكره في نفسه، فإن الإخفاء أدخل في الإخلاص، وأدعى
للقبول.
(١) انظر تفصيل كلامه ﵀ في «الروضة الندية»، (١/ ٨٧، ٨٩) ونقل قول
ابن قيم في أعلام الموقعين: «وردت النصوص المحكمة الصريحة الصحيحة في تعيين قراءة
الفاتحة ...» .
(٢) انظر: الطبري (٩/ ١٦٤)، ابن كثير (٣/ ٥٤١)، الدر المنثور
(٣/ ١٥٦)، وتفسير ابن عطية (٦/ ١٩٦) .
وقيل: المراد بالذكر هنا
ما هو أعم من القرآن وغيره من الأذكار التي يذكر الله بها.
وقال النحاس: لم
يختلف في معنى: وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ أنه الدعاء «١» .
وقيل: هو
خاص بالقرآن، أي اقرأ القرآن بتأمل وتدبر.
وتَضَرُّعًا وَخِيفَةً: تنتصبان
على الحال.
وَدُونَ الْجَهْرِ: أي المجهور به معطوف على ما قبله، أي اذكره
حال كونك متضرعا وخائفا ومتكلما بكلام هو دون الجهر.
مِنَ الْقَوْلِ، وفوق
السر يعني قصدا بينهما.
بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ: متعلق ب (اذكر)، أي: أوقات
الغدوات والأصائل.
والغدو: جمع غدوة.
والآصال: جمع أصيل، قاله الزجاج
والأخفش، مثل يمين وأيمان، وقيل:
الآصال جمع [أصل، والأصل] «٢» جميع أصيل،
فهو على هذا جمع الجمع. قاله الفرّاء «٣» .
قال الجوهري «٤»: الأصيل من بعد
العصر إلى المغرب، وجمعه أصل وآصال وأصائل كأنه جمع أصلية، وخص هذين الوقتين
لشرفهما، والمراد دوام الذكر لله كما قال تعالى: وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ
(٢٠٥) أي عن ذكر الله ﷿.
(١) انظر: معاني النحاس (٢/ ١٢٣) .
(٢) ما بين
[المعقوفين] سقط من المطبوعة واستدرك من فتح القدير (٢/ ٢٨١) .
(٣) انظر:
معاني الفراء (١/ ٤١٠)، والزجاج (٢/ ٤٤٨) .
(٤) انظر: الصحاح (أصل) .
سورة الأنفال [وجملة آياتها خمس أو ست أو سبع وسبعون آية]
صرح كثير من المفسرين بأنها مدنية ولم يستثنوا منها شيئا، وبه قال الحسن
وعكرمة وجابر بن زيد وعطاء. وقد روي مثل هذا عن ابن عباس أخرجه النحاس في
«ناسخه»، وأبو الشيخ وابن مردويه عنه.
وفي لفظ تلك سورة بدر، أي نزلت في
بدر.
وكان النبي ﵌ يقرؤوها في صلاة المغرب، كما أخرجه الطبراني بسند صحيح عن
أبي أيوب «١» .
[الآية الأولى]
يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ قُلِ
الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذاتَ
بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١) .
يَسْئَلُونَكَ
عَنِ الْأَنْفالِ: جمع نفل محركا، وهو الغنيمة.
وأصل النفل: الزيادة وسميت
الغنيمة نفلا لأنها زيادة فيما أحل الله لهذه الأمة مما كان محرما على غيرهم، أو
لأنها زيادة على ما يحصل للمجاهدين من أجر الجهاد.
ويطلق النفل على معان أخر
منها: اليمين، والابتغاء، ونبت معروف.
والنافلة: التطوع لكونها زائدة على
الواجب.
والنافلة: ولد الولد لأنها زيادة على الولد.
(١) حديث صحيح:
رواه الطبراني في «الكبير» (٢٧٠٢) وأورده الهيثمي في «المجمع» (٢/ ١١٨) وقال:
رجاله رجال الصحيح.
وكذلك رواه الطبراني أيضا في «الكبير» (٢٨٢٤)، عن زيد بن
ثابت مرفوعا.
وقال الهيثمي (٢/ ١١٨): رجاله رجال الصحيح. [.....]
وكان
سبب نزول الآية اختلاف الصحابة ﵃ في يوم بدر، بأن قال الشبان: هي لنا لأنا باشرنا
القتال، وقال الشيوخ: كنا ردءا لكم تحت الرايات، فنزع الله ما غنموه من أيديهم،
وجعله الله والرسول، فقال: قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ أي حكمها مختص
بهما، يقتسمها بينكم رسول الله ﵌ عن أمر الله سبحانه، فقسمها رسول الله ﵌ بينهم
على السواء.
رواه الحاكم في «المستدرك» «١»، وليس لكم حكم في ذلك.
وقد
ذهب جماعة من الصحابة والتابعين إلى أن الأنفال كانت لرسول الله ﵌ خاصة، ليس لأحد
فيها شيء حتى نزول قوله تعالى: وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ
فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ [الأنفال: ٤١] الآية، فهي على هذا منسوخة وبه قال مجاهد
وعكرمة والسدي.
وقال ابن زيد: محكمة مجملة، قد بين الله مصارفها في آية
الخمس ولا نسخ! «٢» .
(١) حديث صحيح: رواه الحاكم في «المستدرك» (٢/ ١٣١،
١٣٢، ٢٢١، ٢٢٢، ٣٢٦، ٣٢٧) .
وصححه، ووافقه الذهبي.
وكذلك رواه أبو داود
(٢٧٣٧)، (٢٧٣٨) (٢٧٣٩)، والنسائي في «تفسيره» (٢١٧)، وابن أبي شيبة في «المصنف»
(٨/ ٤٦٩) .
قلت: ورجال إسناده كلهم ثقات.
قلت: وهناك سبب آخر في نزول
قوله تعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ ... روى الترمذي (٤/ ١١٠) بسنده عن
مصعب بن سعد عن أبيه قال: لما كان يوم بدر جئت بسيف فقلت: يا رسول الله إن الله
قد شفى صدرك من المشركين أو نحو هذا، هب لي السيف؟ فقال: هذا ليس لي ولا لك،
فقلت: عسى أن يعطى هذا من لا يبلي بلائي فجاءني الرسول فقال: إنك سألتني وليس لي،
وإنه قد صار لي وهو لك، قال: فنزلت: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ الآية. وقال:
حديث حسن صحيح. وقد رواه سماك عن مصعب بن سعد أيضا.
والحديث رواه مسلم مطولا
ومختصرا (١٢/ ٥٣، ٥٤ نووي) وأبو داود (٣/ ٣٠، ٣١)، والطيالسي (١/ ٢٣٩)، وابن أبي
حاتم (٣/ ٢٢٢)، والحاكم (٢/ ١٣٢)، وصححه وأقرّه الذهبي، والبيهقي (٦/ ٢٢٩)، وابن
جرير (٩/ ١٧٣)، وأبو نعيم (٨/ ٣١٢) .
(٢) قال ابن العربي المعافري: «والصحيح
أن هذه الآية ناسخة لما سبق من حكم الله في تحريم الغنائم على الخلق، فأحلها الله
على هذه الأمة لما رأى من ضعفها وعجزها، وفي الصحيح [البخاري تيمم، صلاة ٥٦، خمس
٨/ مسلم مساجد ٣، ٥، أبو داود جهاد ١٢١، الدارمي صلاة ١٧١، أحمد (١/ ٣٠١)، (٣/
٣٠٤)، (٥/ ٣٢٦) عن جابر بن عبد الله وغيره: أحلت لي الغنائم، وثبت عن أبي هريرة ﵁
عن النبي ﵌ من طرق عديدة، واللفظ للبخاري (غرض الخمس ٨، نكاح ٥٨، مسلم جهاد ٣٢)
.. وهذا صحيح لا طعن فيه، وبيّن لا غبار عليه وانظر كلامه في
فَاتَّقُوا
اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ
كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١): أمرهم بالتقوى، وإصلاح ذات البين، وطاعة الله ورسوله
بالتسليم لأمرهما، وترك الاختلاف الذي وقع بينهما.
[الآيتان: الثانية
والثالثة]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا
زَحْفًا فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ (١٥) وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ
دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلى فِئَةٍ فَقَدْ
باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٦) .
يا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا: الزحف:
الدنو قليلا قليلا، وأصله الاندفاع على الألية، ثم سمى كل ماش في الحرب إلى آخر
زاحفا.
والتزاحف: التداني والتقارب. تقول زحف إلى العدو زحفا، وازدحف القوم:
أي مشى بعضهم إلى بعض.
وانتصاب زحفا، إما على أنه مصدر لفعل محذوف، أي:
يزحفون زحفا، أو على أنه حال من المؤمنين، أي: حال كونكم زاحفين إلى الكفار، أو
حال من الذين كفروا، أي حال كون الكفار زاحفين إليكم، أو حال من الفريقين، أي:
متزاحفين.
فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ (١٥): نهى الله المؤمنين أن
ينهزموا عن الكفار إذا لقوهم، وقد دب بعضهم إلى بعض للقتال. وظاهر هذه الآية
العموم لكل المؤمنين في كل زمن، وعلى كل حال إلا حالة: التحرف والتحيز.
وقد
روي عن عمر وابن عباس وأبي هريرة وأبي سعيد وأبي [نضرة] «١» .
وعكرمة ونافع
والحسن وقتادة و[يزيد] «٢» بن أبي حبيب والضحاك: أن تحريم الفرار من الزحف في هذه
الآية مختص بيوم بدر، وأن أهل بدر لم يكن لهم أن ينحازوا
(الناسخ والمنسوخ
٢/ ٢٢٥، ٢٢٦) .
(١) وقع في المخطوط (نصر) وهو خطأ، والتصويب من فتح القدير
(٢/ ٢٩٣) .
وأبو نضرة هو المنذر بن قطعة العبدي ثقة من رجال البخاري
ومسلم.
(٢) وقع في «المطبوعة» زيد وهو خطأ، والتصويب من جامع الطبري
(١٥٨١١)، وهو أبو جابر المصري أخرج له الستة في كتبهم وهو من الثقات.
ولو
انحازوا لا نحازوا إلى المشركين، إذ لم يكن في الأرض يومئذ مسلمون غيرهم ولا لهم
فئة إلا النبي ﵌ فأما بعد ذلك فإن بعضهم فئة لبعض. وبه قال أبو حنيفة.
قالوا:
ويؤيده قوله: وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ فإنه إشارة إلى يوم بدر.
وقيل:
إن هذه الآية منسوخة بآية الضعف «١» .
وذهب جمهور العلماء إلى أن هذه الآية
محكمة عامة غير خاصة، وأن الفرار من الزحف محرم ويؤيد هذا أن هذه الآية نزلت بعد
انقضاء الحرب في يوم بدر.
فأجيب عن قول الأولين: إن الإشارة في يومئذ إلى
يوم بدر بأن الإشارة إلى يوم الزحف، كما يفيده السياق، ولا منافاة بين هذه الآية
وآية الضعف، بل هذه الآية مقيدة بها، ويكون الفرار من الزحف محرما بشرط بينه الله
في آية الضعف.
ولا وجه لما ذكروه من أنه لم يكن في الأرض يوم بدر مسلمون غير
من حضرها، فقد كان بالمدينة إذ ذاك خلق كثير، لم يأمرهم النبي ﵌ بالخروج لأنه ﵊
ومن خرج معه لم يكونوا يرون- في الابتداء- أنه سيكون قتال.
ويؤيد هذا ما ورد
من الأحاديث الصحيحة المصرحة بأن الفرار من الزحف من جملة الكبائر كما في حديث:
«اجتنبوا السبع الموبقات» «٢» وفيه التولي يوم الزحف، ونحوه من الأحاديث.
وهذا
البحث تطول ذيوله وتتشعب طرقه وهو مبين في مواطنه.
قال ابن عطية: والأدبار:
جمع دبر والعبارة بالدبر في هذه الآية متمكنة في
(١) قال القاضي ابن العربي:
«قال بعضهم: والنسخ في هذا لا يجوز لأنه وعيد، والوعيد لا ينسخ لأنه خبر.
واختلف
الناس في المراد بهذه الآية على قولين أحدهما: أنها في يوم بدر خاصّة، وهو اختيار
الحسن، وروي عن ابن عباس ﵄، وقيل: هي عامة في الأزمنة مخصوصة في العدد، لقوله
تعالى: فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ
يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ والصحيح عمومها
لوجهين:
أحدهما: أنه ظاهر القرآن، لقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلا تُوَلُّوهُمُ
الْأَدْبارَ (١٥) وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ يعني يوم الزحف.
وثبت
عن النبي ﵌ أنه عدّ الكبائر فقال: والفرار من الزحف وهذا نص لا غبار عليه.
وانظر:
الناسخ والمنسوخ (٢/ ٢٢٨، ٢٢٩)، والأحكام (٢/ ٨٣٢) .
(٢) حديث صحيح: رواه
البخاري (٥/ ٣٩٣)، (١٢/ ١٨١)، ومسلم (٢/ ٨٢، ٨٣) .
الفصاحة لما
في ذلك من الشناعة على الفار والذم له.
إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتالٍ:
التحرف: الزوال عن جهة الاستواء والمراد به هنا التحرف من جانب إلى جانب في
المعركة، طلبا لمكايد الحرب، وخدعا للعدو، كمن يوهم أنه منهزم ليتبعه العدو فيكر
عليه ويتمكن منه، ونحو ذلك من مكايد الحرب فإن «الحرب خدعة» «١» كما في
الحديث.
أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلى فِئَةٍ: أي إلى جماعة من المسلمين، غير
الجماعة المقابلة للعدو، وانتصاب متحرفا أو متحيزا على الاستثناء من المولين، أي:
ومن يولهم دبره إلا رجلا منهم متحرفا أو متحيزا، ويجوز انتصابهما على الحال،
ويكون حرف الاستثناء لغوا لا عمل له.
فَقَدْ باءَ: جزاء الشرط.
والمعنى:
من ينهزم ويفر من الزحف فقد رجع بِغَضَبٍ كائن، مِنَ اللَّهِ:
إلا المتحرف
والمتحيز.
[الآية الرابعة]
قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا
يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ
الْأَوَّلِينَ (٣٨) .
قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا: أمر الله
سبحانه رسوله ﵌ أن يقول للكفار هذا المعنى سواء قاله بهذه العبارة أو غيرها.
قال
ابن عطية: ولو كان كما قال الكسائي إنه في مصحف عبد الله بن مسعود: قل للذين
كفروا إن تنتهوا- يعني بالفوقية- لما تأدت الرسالة إلا بتلك الألفاظ بعينها.
قال
في «الكشاف» «٢»: أي قل لأجلهم هذا القول، وهو: إن ينتهوا. ولو كان بمعنى خاطبهم
به لقيل: إن تنتهوا يغفر لكم وهي قراءة ابن مسعود ونحوه.
وَقالَ الَّذِينَ
كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كانَ خَيْرًا ما سَبَقُونا إِلَيْهِ [الأحقاف:
١١] خاطبوا به
(١) حديث صحيح: رواه البخاري (٦/ ١٥٨)، ومسلم (١٢/ ٤٤، ٤٥) عن
أبي هريرة وجابر مرفوعا.
(٢) انظر: تفسير الكشاف للزمخشري (٢/ ٢١٩) .
غيرهم
لأجلهم ليسمعوه.
أي: إن ينتهوا عما هم عليه من عداوة رسول الله ﵌، وقتاله،
بالدخول في الإسلام يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ لهم من العداوة. انتهى.
وقيل:
معناه: إن ينتهوا عن الكفر.
قال ابن عطية: والحامل على ذلك، جواب الشرط
فيغفر لهم ما قد سلف ومغفرة ما قد سلف لا تكون إلا لمنته عن الكفر وفي هذه الآية
دليل على أن الإسلام يحبّ ما قبله.
[الآية الخامسة] وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا
تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ
اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٣٩) .
وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ
فِتْنَةٌ: أي كفر وشرك.
وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ: تحريض للمؤمنين
على قتال الكفار. وقد تقدم تفسير ذلك في البقرة مستوفى.
[الآية السادسة]
وَاعْلَمُوا
أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي
الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ
آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ يَوْمَ
الْتَقَى الْجَمْعانِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٤١) .
وَاعْلَمُوا
أَنَّما غَنِمْتُمْ: قال القرطبي «١»: اتفقوا على أن المراد بالغنيمة، في هذه
الآية، مال الكفار إذا ظفر بهم المسلمون على وجه الغلبة والقهر.
قال: ولا
تقتضي اللغة هذا التخصيص، ولكن عرف الشرع قيّد اللفظ بهذا النوع.
وقد ادعى
ابن عبد البر الإجماع على أن هذه الآية بعد قوله: يَسْئَلُونَكَ عَنِ
الْأَنْفالِ،
(١) انظره في «تفسيره» (٨/ ١- ٣) .
وأن أربعة
أخماس الغنيمة مقسومة على الغانمين، وأن قوله: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ
نزلت حين تشاجر أهل بدر في غنائم بدر- على ما تقدمت الإشارة إليه» .
وقيل:
إنها- أعني يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ- محكمة غير منسوخة، وأن الغنيمة لرسول
الله ﵌، وليست مقسومة بين الغانمين وكذلك لمن بعده من الأئمة. حكاه [المازري] «٢»
عن كثير من المالكية.
قالوا: وللإمام أن يخرجها عنهم، واحتجوا بفتح مكة وقصة
حنين. وكان أبو [عبيد] «٣» يقول: افتتح رسول الله ﵌ مكة عنوة، ومنّ على أهلها
فردها عليهم، ولم يقسمها، ولم يجعلها فيئا.
وقد حكى الإجماع جماعة من أهل
العلم «٤»، على أن أربعة أخماس الغنيمة للغانمين، وممن حكى ذلك: ابن المنذر وابن
عبد البر والداودي والمازري والقاضي عياض وابن العربي، والأحاديث الواردة في قسمة
الغنيمة من الغانمين وكيفيتها كثيرة جدا.
قال القرطبي «٥»: ولم يقل أحد-
فيما أعلم- إن قوله تعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ الآية ناسخ لقوله
تعالى: وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ
الآية بل قال الجمهور: إن قوله: أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ، ناسخ، وهم الذين
لا يجوز عليهم التحريف ولا التبديل لكتاب الله.
وأما قصة فتح مكة فلا حجة
فيها لاختلاف العلماء في فتحها.
وأما قصة حنين، فقد عوض الأنصار لما قالوا:
يعطي المغانم قريشا ويتركنا وسيوفنا تقطر من دمائهم نفسه؟! فقال لهم: «أما ترضون
أن يرجع الناس بالدنيا وترجعون برسول الله ﵌ إلى بيوتكم؟» كما في مسلم وغيره «٦»
. وليس لغيره أن يقول.
هذا القول بل ذلك خاص به.
(١) وذلك عن تفسيره
للآية (١) من هذه السورة الكريمة.
(٢) وقع في المطبوعة (الماوردي) وهو خطأ،
والتصويب من «تفسير القرطبي» (٨/ ٢) .
(٣) في المطبوعة (أبو عبيدة) وهو خطأ،
وصوبناه من تفسير القرطبي (٨/ ٢) .
(٤) انظر: مراتب الإجماع للعلامة ابن حزم
(ص ١٣٣) ط. دار الآفاق بيروت. [.....]
(٥) انظره في «تفسيره» (٨/ ٤٢٣) .
(٦)
حديث صحيح: رواه البخاري (٨/ ٥٣)، ومسلم (٧/ ١٥١، ١٥٢) عن أنس مرفوعا.
وقوله
أَنَّما غَنِمْتُمْ يشمل كل شىء يصدق عليه اسم الغنيمة، إذ كان أصلها إصابة الغنم
من العدو.
ومِنْ شَيْءٍ بيان لما الموصولة، وقد خصص الإجماع، ومن عموم
الآية، الأسارى فإن الخيرة فيها إلى الإمام بلا خلاف. وكذلك سلب المقتول إذا نادى
به الإمام.
قيل: وكذلك الأرض المغنومة. وردّ بأنه لا إجماع على الأرض.
فَأَنَّ:
أي فحق أو واجب أن:
لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ: قد اختلف العلماء في
كيفية قسمة الخمس على أقوال ستة:
الأول: قالت طائفة: يقسم الخمس على ستة،
فيجعل السدس: للكعبة وهو الذي لله والثاني: لرسول الله ﵌، والثالث: لذوي القربى،
والرابع: لليتامى، والخامس: للمساكين، والسادس: لابن السبيل.
القول الثاني:
قال أبو العالية والربيع: إنها تقسم أي الغنيمة على خمسة، فيعزل منها سهم واحد،
ويقسم أربعة على الغانمين، ثم يضرب يده في السهم الذي عزله، فما قبضه من شىء جعله
للكعبة ويقسم بقية السهم الذي عزله على خمسة، للرسول ومن بعده في الآية.
القول
الثالث: عن زين العابدين علي بن الحسين أنه قال: إن الخمس لنا فقيل له: إن الله
يقول: واليتامى والمساكين وابن السبيل؟ فقال: يتامانا ومساكيننا وأبناء
سبيلنا.
القول الرابع: قول الشافعي: إن الخمس يقسم على خمسة وإن سهم الله
وسهم رسوله واحد، يصرف في مصالح المؤمنين، والأربعة الأخماس على الأصناف الأربعة
المذكورة في الآية.
القول الخامس: قول أبي حنيفة: إنه يقسم الخمس على ثلاثة:
اليتامى، والمساكين، وابن السبيل. وقد ارتفع حكم قرابة رسول الله ﵌ بموته، كما
ارتفع حكم سهمه. قال: ويبدأ من الخمس بإصلاح القناطر، وبناء المساجد، وأرزاق
القضاة
والجند. وروي نحو هذا عن الشافعي.
القول السادس:
قول مالك: أنه موكول إلى نظر الإمام واجتهاده، فيأخذ منه بغير تقدير، ويعطي منه
الغزاة باجتهاده، ويصرف الباقي في مصالح المسلمين.
قال القرطبي «١»: وبه قال
الخلفاء الأربعة وبه عملوا، وعليه يدل قوله ﵌: «مالي مما أفاء الله عليكم إلا
الخمس، والخمس مردود عليكم» «٢» فإنه لم يقسمه أخماسا ولا أثلاثا، وإنما ذكر ما
في الآية من ذكره على وجه التنبيه عليهم، لأنهم من أهم من يدفع إليه.
قال
الزجاج محتجا لهذا القول: قال الله تعالى: يَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ قُلْ
ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتامى
وَالْمَساكِينِ [البقرة: ٢١٥] وجائز، بالإجماع، أن ينفق في غير هذه الأصناف إذا
رأى ذلك «٣» .
وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ
السَّبِيلِ: قيل: إعادة اللام في ذي القربى دون من بعدهم يدفع توهم اشتراكهم في
سهم النبي ﵌، والمعنى أن سهما من خمس الخمس لأقاربه ﵌. وقد اختلف العلماء فيهم
على أقوال:
الأول: أنهم قريش كلها، روي ذلك عن بعض السلف واستدل بما روي عن
النبي ﵌ أنه لما صعد الصفا جعل يهتف ببطون قريش كلها قائلا: «يا بني فلان! يا بني
فلان!» «٤» .
[الثاني]: وقال الشافعي وأحمد وأبو ثور ومجاهد وقتادة وابن
جريج ومسلم بن خالد: هم بنو هاشم وبنو المطلب، لقوله ﵌: «إنما بنو هاشم وبنو
المطلب شيء
(١) انظره في تفسيره (٨/ ١١) .
(٢) حديث حسن: في إسناده
عمرو بن شعيب، وهو ووالده صدوقان وحديثهما حسن.
رواه أبو داود (٢٦٩٤)، وأحمد
في «المسند» (٢/ ١٨٤، ٢١٨، ٢١٩)، والنسائي (٦/ ٢٦٢، ٢٦٤)، (٧/ ١٣١، ١٣٢) والبيهقي
في «الكبرى» (٦/ ٣٣٦، ٣٣٧) .
ورواه عمرو بن عبسة، وعبادة بن الصامت وغيرهما
مرفوعا.
(٣) انظر: الإجماع لابن حزم (ص ١٣٣، ١٣٦)، كفاية الأخيار (ص ٥٠٧،
٥٠٨)، غاية المطلب (ص ٤٧٠)، وشرح البرنسي والغروي على أبي زيد (٢/ ٨) .
(٤)
حديث صحيح: رواه مسلم (٣/ ٨٢، ٨٣)، (٣/ ٧٩، ٨٢)، من حديث عبد الله بن عباس،
وعائشة وأبي هريرة وقبيصة بن المخارق وزهير بن عمرو جميعهم مرفوعا.
واحد
وشبك بين أصابعه» وهو في «الصحيح» «١» .
[الثالث]: وقيل: هم بنو هاشم خاصة،
وبه قال مالك والثوري والأوزاعي وغيرهم وهو مروي عن علي بن الحسين ومجاهد.
وكذا
اختلف أهل العلم هل ثبت وبقي سهمهم اليوم، أم سقط بوفاته ﵌، وصار الكل مصروفا إلى
الثلاثة الباقية؟ فذهب الجمهور- ومنهم مالك والشافعي- إلى الثبوت واستواء الفقراء
والأغنياء لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ [النساء: ١١] .
وقال أبو
حنيفة وأهل الرأي بسقوط ذلك، والتفصيل يطلب من مواطنه «٢» .
[الآية
السابعة]
وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا
وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (٤٦) .
وَلا
تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا: فيه النهي عن التنازع، وهو الاختلاف في الرأي، فإن ذلك
يتسبب عنه الفشل وهو الجبن في الحرب.
وأما المنازعة بالحجة لإظهار الحق
فجائزة كما قال: وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [النحل: ١٢٥]، بل هي مأمور
بها بشروط مقررة، والفاء جواب النهي، والفعل منصوب بإضمار أن. ويجوز أن يكون
الفعل معطوفا على تنازعوا مجزوما. بجازمه.
وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ قرىء بنصب
الفعل وجزمه عطفا على تفشلوا على الوجهين.
والريح: القوة والنصر كما يقال:
الريح لفلان، إذا كان غالبا في الأمر. وقيل:
الريح الدولة، شبهت في نفوذ
أمرها بالريح في هبوبها. ومنه قول الشاعر:
إذا هبت رياحك فاغتنمها ... فعقبى
كل خافقة سكون
وقيل: المراد بالريح ريح الصبا لأن بها كان ينصر النبي ﵌.
(١)
حديث صحيح: رواه البخاري (٦/ ٢٤٤، ٥٣٣)، (٧/ ٤٨٤)، وأبو داود (٢٩٨٠)، عن جبير بن
مطعم مرفوعا.
(٢) انظر: الروضة الندية للمصنف (٣٤١، ٣٤٣) .
[الآية
الثامنة]
وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ
عَلى سَواءٍ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ (٥٨) .
وَإِمَّا
تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ: من المعاهدين وهم قريظة وبنو النضير.
خِيانَةً أي
غشا ونقضا للعهد.
فَانْبِذْ: أي فاطرح.
إِلَيْهِمْ: العهد الذي بينك
وبينهم.
عَلى سَواءٍ: أي على طريق مستوية، والمعنى أنه يخبرهم إخبارا ظاهرا
مكشوفا بالنقض، ولا تناجزهم الحرب بغتة.
وقيل: معنى عَلى سَواءٍ على وجه
يستوي في العلم بالنقض أقصاهم وأدناهم، أو تستوي أنت لئلا يتهموك بالغدر وهم
فيه.
قال الكسائي: السواء: العدل وقد يكون بمعنى الوسط. ومنه قوله تعالى:
فِي سَواءِ الْجَحِيمِ (٥٥) [الصافات: ٥٥] وقيل: معناه على جهر، لا على سر.
والظاهر
أن هذه الآية عامة في كل معاهد يخاف من وقوع النقض منه.
قال ابن عطية: والذي
يظهر من ألفاظ القرآن أن أمر بني قريظة انقضى عند قوله فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ
خَلْفَهُمْ، [الأنفال: ٥٧] ثم ابتدأ ﵎ في هذه الآية يأمره بما يصنعه في المستقبل
مع من يخاف منه خيانة.
إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ (٥٨): تعليل
لما قبلها، يحتمل أن يكون تحذيرا لرسول الله ﵌ من المناجزة قبل أن ينبذ إليهم على
سواء، ويحتمل أن تكون عائدة إلى القوم الذين يخاف منهم الخيانة.
[الآية
التاسعة]
وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ
الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ
دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ
فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ (٦٠) .
وَأَعِدُّوا
لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ: أمر الله سبحانه بإعداد القوة: كل ما
يتقوى به في الحرب، ومن ذلك السلاح والقسي.
وقد ثبت في «صحيح مسلم» «١»
وغيره من حديث عقبة بن عامر قال: «سمعت رسول الله ﵌، وهو على المنبر، يقول:
وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ إلا أن القوة: الرمي! قالها
ثلاث مرات» .
وقيل: هي الحصون والمعاقل. والمصير إلى التفسير الثابت عن رسول
الله ﵌ متعين.
وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ: قال أبو حاتم: الرباط من الخيل
الخمس فما فوقها، وهي الخيل التي تربط بإزاء العدو، ومنه قول الشاعر:
أمر
الإله بربطها لعدوه ... في الحرب إن الله خير موفق
قال في «الكشاف» «٢»:
والرباط اسم للخيل التي تربط في سبيل الله، ويجوز أن يسمى بالرباط الذي هو بمعنى
المرابطة، ويجوز أن يكون جمع ربيط كفصيل وفصال.
انتهى.
وقد فسّر القوة
بكل ما يتقوى به في الحرب، جعل عطف الخيل عليها من عطف الخاص على العام.
تُرْهِبُونَ
بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ: في محل نصب على الحال.
والترهيب:
التخويف، والضمير في (به) عائد إلى (ما) في مَا اسْتَطَعْتُمْ أو إلى المصدر
المفهوم من وَأَعِدُّوا، وهو الإعداد، والمراد بعدو الله وعدوهم: هم المشركون من
أهل مكة وغيرهم من مشركي العرب.
(١) حديث صحيح: رواه مسلم (١٣/ ٦٤)، وأبو
داود (٢٥١٤)، وأحمد في «المسند» (٤/ ١٥٦)، وابن ماجة (٢٨١٣) عن عقبة بن عامر
مرفوعا.
(٢) انظره في «تفسير الزمخشري» (٢/ ٢٣٢) .
[الآية
العاشرة] وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ
إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٦١) .
وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ
فَاجْنَحْ لَها: الجنوح: الميل.
والسلم: الصلح.
وقد اختلف أهل العلم:
هل هذه الآية منسوخة أم محكمة «١»؟ فقيل: هي منسوخة بقوله تعالى: فَاقْتُلُوا
الْمُشْرِكِينَ [التوبة: ٥] قاله ابن عباس.
وقيل: ليست بمنسوخة لأن المراد
بها قبول الجزية، وقد قبلها منهم الصحابة فمن بعدهم، فتكون خاصة بأهل الكتاب.
قاله مجاهد.
وقيل: إن المشركين إن دعوا إلى الصلح جاز أن يجابوا إليه، وتمسك
المانعون من مصالحة المشركين بقوله تعالى: فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى
السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ [محمد: ٣٥]، وقيدوا عدم
الجواز بما إذا كان المسلمون في عزة وقوة لا إذا لم يكونوا كذلك فهو جائز كما وقع
منه ﵌ من مهادنة قريش، وما زالت الخلفاء والصحابة على ذلك، وكلام أهل العلم في
هذه المسألة معروف مقرر في مواطنه.
[الآية الحادية عشرة]
الْآنَ
خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ
مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ
يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (٦٦) .
الْآنَ
خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ
مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ
يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ أوجب على الواحد أن يثبت لإثنين من الكفار.
قيل: في
التنصيص على غلب المائة للمائتين، والألف للألفين، إنه بشارة للمسلمين بأن عساكر
الإسلام سيجاوز عددها العشرات والمئات إلى الألوف.
(١) انظر: الناسخ
والمنسوخ لابن العربي (٢/ ٢٣٢) .
وقد اختلف أهل العلم: هل هذا
التخفيف نسخ أم لا؟ ولا يتعلق بذكر ذلك كثير فائدة «١» .
أخرج البخاري
والنحاس في «ناسخه» وابن مردويه والبيهقي في «سننه» «٢» عن ابن عباس قال: «نزلت
إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ [الأنفال: ٦٥]
شق ذلك على المسلمين حين فرض عليهم أن لا يفر واحد من عشرة فجاء التخفيف بقوله:
الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ الآية. قال: فلما خفف الله عنهم من العدة نقص من
الصبر بقدر ما خفف عنهم» .
[الآية الثانية عشرة] ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ
يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا
وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٦٧) .
ما كانَ
لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ: هذا حكم آخر
من أحكام الجهاد.
ومعنى ما كان لنبي: ما صح له وما استقام.
والأسرى جمع
أسير. ويقال في جمع أسير أيضا: أسارى بضم الهمزة وبفتحها، وهو مأخوذ من الأسر،
وهو القد «٣»، لأنهم كانوا يشدون به الأسير.
وقال أبو عمرو بن العلاء:
الأسرى هم غير الموثقين عند ما يؤخذون، والأسارى هم الموثقون ربطا.
والإثخان
كثرة القتل والمبالغة فيه، يقال: أثخن فلان في هذا الأمر، أي بالغ فيه.
(١)
انظر: الناسخ والمنسوخ لابن العربي (٢/ ٢٢٩، ٢٣١) .
وانظر في سبب نزول هذه
الآية (البخاري ٩/ ٣٠٢)، والمطالب العالية (٣/ ٣٣٦)، وعزاه لابن راهويه، ورواه
أيضا ابن الجارود في «المنتقى» (ص ٣٥٠) وابن إسحاق (٨٢/ ق) وسيرة ابن هشام (١/
٦٧٦)، وأبو داود (٢/ ٣٤٩)، وابن جرير (١٠/ ٤٠) .
(٢) حديث صحيح: رواه
البخاري (٨/ ٣١٢)، والطبري في «تفسيره» (٩/ ٧٦) .
(٣) القدّ: هو الشقّ
الممتد الطويل. [صحاح: قد] . [.....]
فالمعنى ما كان لنبي أن
يكون له أسرى، حتى يبالغ في قتل الكافرين، ويستكثر من ذلك.
وقيل: معنى
الإثخان التمكن.
وقيل: هو القوة. أخبر الله سبحانه أن قتل المشركين يوم بدر
كان أولى من أسرهم وفداهم، ثم لما كثر المسلمون رخّص الله في ذلك فقال: فَإِمَّا
مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً [محمد: ٤] «١» .
[الآية الثالثة عشرة]
إِنَّ
الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي
سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ
بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ
شَيْءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ
النَّصْرُ إِلَّا عَلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ وَاللَّهُ بِما
تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٧٢) .
وَالَّذِينَ آمَنُوا: من المقيمين بمكة
المكرمة.
وَلَمْ يُهاجِرُوا: منها مبتدأ خبره.
ما لَكُمْ مِنْ
وَلايَتِهِمْ: أي من نصرتهم وإعانتهم أو من ميراثهم، ولو كانوا من قراباتكم.
مِنْ
شَيْءٍ لعدم وقوع الهجرة منهم.
مِنْ شَيْءٍ لعدم وقوع الهجرة منهم.
حَتَّى
يُهاجِرُوا: فيكون لهم ما كان للطائفة الأولى، الجامعين بين الإيمان والهجرة.
وَإِنِ
اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ: أي هؤلاء الذين آمنوا ولا يهاجروا إذا طلبوا منكم
النصرة لهم على المشركين.
فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ: أي فواجب عليكم، إِلَّا
أن يستنصروكم، عَلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ:
(١) انظر:
الناسخ والمنسوخ (٢/ ٢٣٤، ٢٣٥) ابن العربي، ومعاني الزجاج (٢/ ٤٧٠)، وزاد المسير
(٣/ ٣٧١) وابن كثير (٢/ ٣٢٥)، واللباب (١١٤)، والطبري (١٠/ ٣٠)، والنكت (٢/ ١١٢)
.
فلا تنصروهم، ولا تنقضوا العهد الذي بينكم وبين أولئك القوم
حتى تنقضي مدته، وهي عشر سنين.
[الآية الرابعة عشرة]
وَالَّذِينَ
آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولئِكَ مِنْكُمْ
وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ إِنَّ
اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٧٥) .
وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ
أَوْلى بِبَعْضٍ: من غيرهم ممن لم يكن بينه وبينهم رحم في الميراث، والمراد بهم
القرابات، فيتناول كل قرابة.
وقيل: المراد بهم هنا العصبات، كقول العرب:
صلتك رحم فإنهم لا يريدون قرابة الأم، ولا يخفى عليك أنه ليس في هذا ما يمنع من
إطلاقه على غير العصبات.
وقد استدل بهذه الآية من أثبت الميراث لذوي
الأرحام، وهم من ليس بعصبته ولا ذي سهم على حسب اصطلاح أهل علم المواريث، والخلاف
في ذلك معروف مقرر في مواطنه «١» .
وقد قيل إن هذه الآية ناسخة للميراث
بالموالاة والنصرة عند من فسّر ما تقدم، من قوله: بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ
[الأنفال: ٧٢] . وما بعده، بالتوارث.
وأما من فسّرها بالنصرة والمعونة،
فيجعل هذه الآية إخبارا منه ﷾ بأن القرابات بعضهم أولى ببعض.
فِي كِتابِ
اللَّهِ: أي في حكمه أو في اللوح المحفوظ، أو في القرآن، ويدخل في هذه الأولوية
في الميراث دخولا أوليا، لوجود سببه أعني القرابة «٢» .
(١) انظر في ذلك:
الرّوض المربع (٢٥٩) . وغاية المطلب (٣٠٦)، الروضة الندية (٣٢٥)، والمحلى (٩/
٢٥٢) .
(٢) قال القاضي ابن العربي: «لا خلاف ولا إشكال في أن الميراث كان في
صدر الإسلام بالولاية ثم صار في آخره بالقرابة، إلا أن هذه الآية محتملة أن يكون
المراد بنفي الولاية نفي النصرة، ويحتمل أن يكون المراد بها نفي الميراث فتكون
منسوخة والأول أظهر.. انظر: الناسخ والمنسوخ (٢/ ٢٣٨، ٢٣٩) .
سورة براءة [آيها مائة وثلاثون أو سبع وعشرون آية]
ولها أسماء منها: سورة التوبة لأن فيها التوبة على المؤمنين.
وتسمى:
الفاضحة لأنه ما زال ينزل فيها: ومنهم، ومنهم، حتى كادت أن لا تدع أحدا.
وتسمى:
البحوث لأنها تبحث عن أسرار المنافقين إلى غير ذلك. وهي مدنيّة.
قال القرطبي
«١»: باتفاق.
أخرج أبو الشيخ عن ابن عباس قال: نزلت (براءة) بعد فتح مكة
بالمدينة «٢» .
[الآيات: الأولى والثانية والثالثة والرابعة والخامسة]
بَراءَةٌ
مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١)
فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ
مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ (٢) وَأَذانٌ مِنَ
اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ
بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ
وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ
الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٣) إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ
الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ
أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ
يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (٤) فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا
الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا
لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ
فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥) .
(١) انظر في
«تفسيره» (٨/ ٦١) .
(٢) انظر: زاد المسير (٣/ ٣٩٣)، وابن كثير (٢/ ٣٣٢) .
بَراءَةٌ
مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ: أي هذه براءة، يقال: برئت من الشيء أبرأ براءة وأنا
منه بريء، إذا أزلته عن نفسك، وقطعت سبب ما بينك وبينه «١» .
إِلَى
الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١) العهد: العقد الموثق باليمين،
والخطاب للمسلمين وقد كانوا عاهدوا مشركي مكة وغيرهم بإذن من الله والرسول ﵌.
والمعنى
الإخبار للمسلمين بأن الله ورسوله قد برئا من تلك المعاهدة، بسبب ما وقع من
الكفار من النقض، فصار النبذ إليهم بعهدهم واجبا على المعاهدين من المسلمين.
ومعنى براءة الله سبحانه، وقوع الإذن منه- سبحانه- بالنبذ من المسلمين لعهد
المشركين بعد وقوع النقض منهم وفي ذلك من التفخيم بشأن البراءة والتهويل لها،
والتسجيل على المشركين بالذل والهوان ما لا يخفى.
فَسِيحُوا: أيها المشركون
«٢» .
فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ: هذا أمر منه سبحانه بالسياحة بعد
الإخبار بتلك البراءة.
والسياحة: السير، يقال: ساح فلان في الأرض، يسيح
سياحة وسيوحا وسيحانا.
ومعنى الآية أن الله سبحانه بعد أن أذن بالنبذ إلى
المشركين بعهدهم، أباح للمشركين الضرب في الأرض والذهاب إلى حيث يريدون،
والاستعداد للحرب هذه الأربعة الأشهر.
وليس المراد من الأمر بالسياحة
تكليفهم بها، قال محمد بن إسحاق وغيره: إن المشركين صنفان:
صنف كانت مدة
عهده أقل من أربعة أشهر، فأمهل تمام الأربعة الأشهر.
(١) قال ابن الجوزي أي:
قطع الموالاة والعصمة والأمان. (تذكرة الأريب ١/ ٢٠٩) .
(٢) قال ابن الجوزي:
أي انطلقوا آمنين من مكروه يقع بكم، وهذا الأمان لمن لم يكن له أمان ولا عهد.
قال
مجاهد: أول هذه الأشهر يوم النّحر، وآخرها العاشر من ربيع الآخر. (تذكرة الأريب
١/ ٢٠٩) .
والآخر كانت أكثر من ذلك، فقصر على أربعة أشهر،
ليرتاد لنفسه وهو حرب بعد ذلك لله ولرسوله وللمؤمنين يقتل حيث يوجد. وابتداء هذا
الأجل يوم الحج الأكبر وانقضاؤه إلى عشر من ربيع الآخر.
فأما من لم يكن له
عهد فإنما أجله انسلاخ الأشهر الحرم: وذلك خمسون يوما:
عشرون من ذي الحجة
وشهر محرم.
وقال الكلبي: إنما كانت الأربعة الأشهر لمن كان بينه وبين رسول
الله ﵌ عهد دون أربعة أشهر، ومن كان عهده أكثر من ذلك فهو الذي أمر الله أن يتم
له عهده، بقوله تعالى: فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ.
ورجح
هذا ابن جرير وغيره إلى قوله: إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ
ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا أي لم يقع منهم أي نقص، وإن كان يسيرا، وفيه
دليل على أنه كان من أهل العهد من خاس بعهده ومنهم من ثبت عليه، فأذن الله سبحانه
لنبيه ﵌ بنقض عهد من نقض، وبالوفاء لمن لم ينقض إلى مدته «١» .
وَلَمْ
يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ المظاهرة: المعاونة، أي لم يعاونوا أحدا من أعدائكم.
فَأَتِمُّوا
إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ: أي أدوا إليهم عهدهم تاما غير ناقص إلى مدتهم التي
عاهدتموهم إليها، وإن كانت أكثر من أربعة أشهر، ولا تعاملوهم معاملة الناكثين من
القتال بعد مضي المدة المذكورة سابقا، وهي أربعة أشهر، أو خمسون يوما على الخلاف
السابق «٢» . إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (٤) .
فَإِذَا انْسَلَخَ
الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ:
انسلاخ الشهر تكامله جزءا فجزءا إلى أن ينقضي، كانسلاخ الجلد عما يحويه، شبه خروج
المتزمن عن زمانه بانفصال المتمكن عن مكانه.
وقد اختلف العلماء في تعيين
الأشهر الحرم المذكورة هنا؟ فقيل: هي الأشهر الحرم المعروفة، التي هي: ذو القعدة
وذو الحجة ومحرم ورجب، ثلاثة سرد، وواحد فرد «٣» .
(١) انظر: الطبري (١٠/
٥٠)، زاد المسير (٣/ ٣٩٧)، القرطبي (٨/ ٧١) .
(٢) انظر: معاني الأخفش (٢/
٣٢٦)، الزجاج (٢/ ٤٧٦)، التبيان (٢/ ١١)، زاد المسير (٣/ ٣٩٨) .
(٣) دلّ على
ذلك ما رواه البخاري (٦/ ٢٩٣)، ومسلم (١١/ ١٦٧، ١٧٠)، عن أبي بكرة مرفوعا
ومعنى
الآية- على هذا- وجوب الإمساك عن قتال من لا عهد له من المشركين في هذه الأشهر
الحرم، وقد وقع النداء والنبذ إلى المشركين بعهدهم يوم النحر، فكان الباقي من
الأشهر الحرم التي هي الثلاثة المسرودة خمسين يوما تنقضي بانقضاء شهر المحرم،
فأمرهم الله بقتل المشركين حيث يوجدون من حل أو حرم، وبه قال جماعة من أهل العلم
منهم الضحاك. وروي عن ابن عباس واختاره ابن جرير «١» .
وقيل: المراد بها
شهور العهد المشار إليه بقوله: فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى
مُدَّتِهِمْ، وسميت حرما لأن الله سبحانه حرم على المسلمين فيها دماء المشركين
والتعرض لهم.
وإلى هذا ذهب جماعة من أهل العلم منهم: مجاهد وابن إسحاق وابن
زيد وعمرو بن شعيب.
وقيل: هي الأشهر المذكورة في قوله: فَسِيحُوا فِي
الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ. وقد روي ذلك عن ابن عباس وجماعة، ورجّحه ابن
كثير، وحكاه عن مجاهد وعمرو بن شعيب ومحمد بن إسحاق وقتادة والسدي وعبد الرحمن بن
زيد بن أسلم «٢» .
ومعنى وَخُذُوهُمْ: الأسر فإن الأخيذ هو الأسير.
ومعنى
وَاحْصُرُوهُمْ منعهم من التصرف في بلاد المسلمين إلا بإذن منهم.
وَاقْعُدُوا
لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ: هو الموضع الذي يرقب فيه العدو.
وهذه الآية المتضمنة
للأمر بقتل المشركين عند انسلاخ الأشهر الحرم لكل مشرك، لا يخرج عنها إلا من خصته
السنة، كالمرأة والصبي والعاجز الذي لا يقاتل وكذلك يخصص منها أهل الكتاب الذين
يعطون الجزية على فرض تناول المشركين لهم.
وهذه الآية نسخت كل آية فيها ذكر
الإعراض عن المشركين والصبر على أذاهم.
وقال الضحاك وعطاء والسدي: هي منسوخة
بقوله تعالى: فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً [محمد: ٤]، وأن الأسير لا
يقتل صبرا، بل يمن عليه أو يفادى.
وله ﵌ في خطبة حجّة الوداع: «إن الزمان قد
استدار كهيئته يوم خلق السموات والأرض، السنة اثنا عشر شهرا، منها أربعة حرم:
ثلاثة متواليات: ذو القعدة وذو الحجة والمحرم، ورجب مضر..» .
(١) انظر: زاد
المسير (٣/ ٣٩٨) .
(٢) انظر: الطبري (١٠/ ٥٦)، وزاد المسير (٣/ ٣٩٩)،
القرطبي (٨/ ٧٧)، والدر (٣/ ٢١٣) .
وقال مجاهد وقتادة: بل هي
ناسخة لقوله: فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً، وأنه لا يجوز في الأسارى
من المشركين إلا القتل.
وقال ابن زيد: الآيتان محكمتان.
قال القرطبي:
وهو الصحيح، لأن المنّ والقتل والفداء لم تزل من حكم رسول الله ﵌ فيهم من أول يوم
حاربهم وهو يوم بدر «١» .
فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا
الزَّكاةَ: أي تابوا عن الشرك الذي هو سبب القتل، وحققوا التوبة بفعل ما هو أعظم
أركان الإسلام، وهو إقامة الصلاة، وهذا الركن اكتفى به عن ذكر ما يتعلق بالأبدان
من العبادات، لكونه رأسها. واكتفى بالركن الآخر المالي وهو إيتاء الزكاة عن كل ما
يتعلق بالأموال والعبادات، لأنها أعظمها.
فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ: أي اتركوهم
وشأنهم، فلا تأسروهم، ولا تحصروهم، ولا تقتلوهم.
[الآية السادسة] وَإِنْ
أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ
اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ
(٦) .
وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ: يقال: استجرت فلانا،
أي طلبت أن يكون جارا لي، أي محاميا ومحافظا لي من أن يظلمني ظالم، أو يتعرض لي
معترض.
والمعنى: وإن استجارك أحد من المشركين الذين أمرت بقتالهم،
فَأَجِرْهُ: أي كن جارا له مؤمنا محاميا.
حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ:
منك ويتدبره حق تدبيره، ويقف على حقيقة ما تدعو إليه.
(١) قال القاضي ابن
العربي: «ومن الغريب ما روي عن الحسن أنه قال إن قوله: فَاقْتُلُوا
الْمُشْرِكِينَ منسوخ بقوله تعالى: فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً
[محمد: ٤] وقال: لا يحل قتل أسير صبرا، ومن شروط النسخ معرفة التاريخ، ومن له بأن
آية سورة محمد نزلت بعد براءة، وقد ثبت أن براءة من آخر ما نزل، ومع الاحتمال
يسقط المقال، وأغرب منه ما روى بعضهم عن ابن حبيب أنها منسوخة بقوله فَإِنْ
تابُوا وهذا فاسد وتعجبنا لخفاء هذا عليه مع علمه ﵀ (الناسخ والمنسوخ ٢/ ٢٤٦) .
[.....]
ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ: أي إلى الدار التي يأمن
فيها بعد أن يسمع كلام الله إن لم يسلم ثم بعد أن تبلغه مأمنه، قاتله فقد خرج من
جوارك، ورجع إلى ما كان عليه من إباحة دمه، ووجوب قتله حيث يوجد «١» .
[الآية
السابعة] كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ
رَسُولِهِ إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ فَمَا
اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ
(٧) .
كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ
رَسُولِهِ: والاستفهام هنا للتعجب المتضمن للإنكار.
إِلَّا الَّذِينَ
عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ: ولم ينقضوا، ولم ينكثوا فلا
تقاتلوهم.
فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ: على العهد الذي بينكم وبينهم.
فَاسْتَقِيمُوا
لَهُمْ: قيل: هم بنو بكر. وقيل: بنو كنانة وبنو ضمرة.
[الآية الثامنة]
فَإِنْ
تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ
وَنُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (١١) .
فَإِنْ تابُوا: عن الشرك
والتزموا أحكام الإسلام.
وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ
فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ: أي دين الإسلام، لهم ما لكم، وعليهم ما عليكم.
وعن
ابن عباس قال: حرمت هذه الآية قتال أهل الصلاة ودماءهم «٢» .
(١) انظر:
معاني الزجاج (٢/ ٤٧٨)، الطبري (١٠/ ٥٩)، النكت (٢/ ١٢١)، زاد المسير (٣/ ٤٠١)،
القرطبي (٨/ ٧٩)، ابن كثير (٢/ ٣٨) .
(٢) انظر: الطبري (١٠/ ٥٠)، وزاد
المسير (٣/ ٣٩٧)، القرطبي (٨/ ٧١) .
[الآيتان: التاسعة
والعاشرة]
ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللَّهِ
شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ وَفِي
النَّارِ هُمْ خالِدُونَ (١٧) إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ
بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَلَمْ
يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسى أُولئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (١٨)
.
ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللَّهِ: المراد
بالعمارة: إما المعنى الحقيقي الظاهر، أو المعنى المجازي، وهو ملازمته والتعبد
فيه؟ وكلاهما ليس للمشركين.
أما الأول فلأنه يستلزم المنّة على المسلمين
بعمارة مساجدهم.
وأما الثاني: فلكون الكفار لا عبادة لهم مع نهيهم عن قربان
المسجد الحرام.
فالمعنى: ما كان للمشركين وما صح لهم وما استقام، أن يفعلوا
ذلك حال كونهم شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ: أي بإظهار ما هو كفر، من
نصب الأوثان، والعبادة لها، وجعلها آلهة، فإن هذا شهادة منهم على أنفسهم بالكفر،
وإن أبوا ذلك بألسنتهم! فكيف يجمعون بين أمرين متنافيين: عمارة المساجد التي هي
من شأن المؤمنين، والشهادة على أنفسهم بالكفر، التي ليست من شأن من يتقرب إلى
الله بعمارة مساجده؟
وقيل: المراد بهذه الشهادة قولهم في طوافهم: لبيك لا
شريك لك لبيك، إلا شريك هو لك، تملكه وما ملك «١» .
وقيل: شهادتهم على
أنفسهم بالكفر، أن اليهودي يقول: هو يهودي، والنصراني يقول: هو نصراني، والصابىء
يقول: صابىء، والمشرك يقول: هو مشرك.
أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ: التي
يفتخرون بها ويظنون أنها من أعمال الخير، أي بطلت، ولم يبق لها أثر.
وَفِي
النَّارِ هُمْ خالِدُونَ (١٧): في هذه الجملة الاسمية، مع تقدم الظرف المتعلق
بالخبر، تأكيدا لمضمونها.
(١) انظر: الطبري (١٠/ ٦٦)، وزاد المسير (٣/ ٤٠٨)،
والنكت والعيون (٢/ ١٢٤)، وتفسير القرطبي (٨/ ٨٩)، وابن كثير (٢/ ٣٤٠) .
إِنَّما
يَعْمُرُ مَساجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ: وفعل ما
هو من لوازم الإيمان.
وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَلَمْ يَخْشَ
إِلَّا اللَّهَ فمن كان جامعا بين هذه الأوصاف، فهو الحقيق بعمارة المساجد، لا من
كان خاليا منها أو من بعضها، واقتصر على ذكر الصلاة والزكاة والخشية تنبيها بما
هو من أعظم أمور الدين، على ما عداه مما افترض الله على عباده، لأن كل ذلك من
لوازم الإيمان.
[الآية الحادية عشرة]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ
عامِهِمْ هذا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ
فَضْلِهِ إِنْ شاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٢٨) .
إِنَّمَا
الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ: هو مصدر لا يثنى ولا يجمع «١» .
وقد استدل بالآية من
قال بأن المشرك نجس الذات كما ذهب إليه بعض الظاهرية. وروي عن الحسن البصري- وهو
محكي عن ابن عباس.
وذهب الجمهور من السّلف والخلف- ومنهم أهل المذاهب
الأربعة- إلى أن الكافر ليس نجس الذات، لأن الله سبحانه أحل طعامهم.
وثبت عن
النبي ﵌ في ذلك من فعله وقوله ما يفيد عدم نجاسة ذواتهم فأكل في آنيتهم، وشرب
فيها، وتوضأ منها، وأنزلهم في مسجده «٢» .
فَلا يَقْرَبُوا: الفاء للتفريع،
فعدم قربانهم الْمَسْجِدَ الْحَرامَ متفرع عن نجاستهم.
والمراد بالمسجد
الحرام- على ما يروى عن عطاء- جميع الحرم.
(١) قال ابن عزيز السجستاني:
نَجَسٌ قذر ونجس: قذر، وإذا قيل رجس نجس: أسكن على الاتباع (ص ٣٣٨) ط. دار طلاس-
دمشق.
(٢) حديث صحيح: ما رواه البخاري (٩/ ٦٢٢)، ومسلم (١٣/ ٧٩، ٨٠) عن أبي
ثعلبة الخشني مرفوعا ما يفيد جواز الأكل والشرب في آنيتهم.
وذهب
غيره من أهل العلم إلى أن المراد المسجد الحرام نفسه، فلا يمنع المشركون من دخول
سائر الحرم.
وقد اختلف أهل العلم في دخول المشرك غيره من المساجد؟ فذهب أهل
المدينة إلى منع كل مشرك عن كل مسجد.
وقال الشافعي: الآية عامة في سائر
المشركين، خاصة في المسجد الحرام. فلا يمنعون من دخول غيره من المساجد.
قال
ابن العربي: وهذا جمود منه على الظاهر، لأن قوله: إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ
تنبيه على العلة بالشرك والنجاسة! ويجاب عنه بأن هذا القياس مردود بربطه ﵌ لثمامة
بن أثال في مسجده «١»، وإنزال وفد ثقيف فيه «٢» .
وروي عن أبي حنيفة مثل قول
الشافعي، وزاد أنه يجوز دخول الذمي سائر المساجد من غير حاجة، وقيده الشافعي
بالحاجة. وقال قتادة: إنه يجوز ذلك للذمي دون المشرك. وروي عن أبي حنيفة أيضا أنه
يجوز لهم دخول الحرم. ثم هو نهي للمسلمين عن أن يمكنوهم من ذلك، فهو من باب
قولهم: لا أرينّك هنا.
بَعْدَ عامِهِمْ هذا فيه قولان:
أحدهما: أنه سنة
تسع، وهي التي حج فيها أبو بكر على الموسم.
الثاني: أنه سنة عشر، قاله
قتادة.
قال ابن العربي: وهو الصحيح الذي يعطيه مقتضى اللفظ. وإن من العجب أن
يقال: إنه سنة تسع، وهو العام الذي وقع فيه الأذان. ولو دخل غلام رجل داره
يوما
(١) حديث صحيح: رواه البخاري (١/ ٥٥٥، ٥٦٠)، (٥/ ٧٥)، (٨/ ٨٧) عن أبي
هريرة مرفوعا، وفيه جواز إنزالهم في المسجد.
(٢) حديث إسناده ضعيف: علته
عنعنة الحسن البصري وهو مدلس، وكذلك روي معضلا عن ابن إسحاق.
ورواه أبو داود
(٣٠٢٦): وأحمد في «المسند» (٤/ ٢١٨)، عن الحسن عن عثمان بن أبي العاص.
ورواه
ابن هشام في «السيرة» (٢/ ٢٢٥، ٢٢٦)، عن ابن إسحاق معضلا.
فقال
له مولاه: لا تدخل هذا الدار بعد يومك، لم يكن المراد اليوم الذي دخل فيه.
انتهى.
ويجاب
عنه بأن الذي يعطيه اللفظ هو خلاف ما زعمه فإن الإشارة بقوله: بَعْدَ عامِهِمْ
هذا إلى العام المذكور قبل اسم الإشارة وهو عام النداء، وهكذا في المقال الذي
ذكره، المراد النهي عن دخولها بعد يوم الدخول الذي وقع فيه الخطاب، والأمر ظاهر
لا يخفى. ولعله أراد تفسير (بعد) المضاف إلى عامهم. ولا شك أنه عام عشر.
وأما
تفسير العام المشار إليه بهذا، فلا شك ولا ريب أنه عام تسع، وعلى هذا يحمل قول
قتادة.
وقد استدل من قال: بأنه يجوز للمشركين دخول المسجد الحرام وغيره من
المساجد بهذا القيد أعني قوله: عامهم هذا، قائلا: إن النهي مختص بوقت الحج
والعمرة، فهم ممنوعون عن الحج والعمرة فقط، لا عن مطلق الدخول.
ويجاب عنه
بأن ظاهر النهي عن القربان بعد هذا العام، يفيد المنع من القربان في كل وقت من
الأوقات الكائنة بعده، وتخصيص بعضها بالجواز يحتاج إلى مخصص.
[الآية الثانية
عشرة] قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ
وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ
الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ
يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ (٢٩) .
قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ
وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ
وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ: فيه الأمر
بقتال من جمع بين هذه الأوصاف.
حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ
وَهُمْ صاغِرُونَ (٢٩) الجزية وزنها فعلة من جزى يجزي.
وهي في الشرع: ما
يعطيه المعاهد على عهده «١» .
(١) قال الإمام تقي الدّين الحصني: «الجزية هي
المال المأخوذ بالتراضي لإسكاننا إياهم في ديارنا أو لحقن دمائهم وذراريهم
وأموالهم أو لكفنا عن قتالهم، واختار القاضي حسين الأخير وضعّف الأول بالمرأة
فإنها تسكن دارنا ولا جزية عليها، وضعّف الثاني بأنها تتكرر أي الجزية بتكرر
السنين وبدل
وقد ذهب جماعة من أهل العلم منهم الشافعي وأحمد
وأبو حنيفة وأصحابه والثوري وأبو ثور إلى أن الجزية لا تقبل إلا من أهل
الكتاب.
وقال الأوزاعي ومالك: إن الجزية تؤخذ من جميع أجناس الكفرة كائنا من
كان «١» .
ويدخل في أهل الكتاب على القول الأول المجوس.
قال ابن
المنذر: لا أعلم خلافا في أن الجزية تؤخذ منهم «٢» .
واختلف أهل العلم في
مقدار الجزية: فقال عطاء: لا مقدار لها وإنما تؤخذ على ما صولحوا عليه، به قال
يحيى بن آدم وأبو عبيد وابن جرير إلا أنه قال: أقلها دينار وأكثرها لا حد له.
وقال
الشافعي: دينار على الغني والفقير من الأحرار البالغين لا ينقص منه شيء، وبه قال
أبو ثور.
قال الشافعي: وإن صولحوا على أكثر من دينار جاز، وإذا زادوا وطابت
بذلك أنفسهم قبل منهم.
وقال مالك: إنها أربعة دنانير على أهل الذهب وأربعون
درهما على أهل الورق الغني والفقير سواء، ولو كان مجوسيا، لا يزيد ولا ينقص.
وقال
أبو حنيفة وأصحابه، ومحمد بن الحسن وأحمد بن حنبل: إثنا عشر، وأربعة وعشرون،
وثمانية وأربعون. والكلام في ذلك مقرر في مواطنه «٣» .
الحقن لا يتكرر، وقال
إمام الحرمين: الوجه أن بجمع مقاصدهم، ويقول هي: أي مقاصدهم تقابل الجزية. (كفاية
الأخيار ص ٥٠٨) .
(١) قال ابن الحاجب: «ويجوز أخذ الجزية من أهل الكتاب
إجماعا، وفي غيرهم- مشهورها تؤخذ وثالثها: تؤخذ إلا من مجوس العرب، ورابعها: إلا
من قريش. (جامع الأمهات ص ٢١٥) بتحقيقنا- بيروت. وانظر: الموطأ (٦١٧) .
(٢)
قال ابن حزم في «مراتب الإجماع» (ص ١٤٠): «واختلفوا هل تقبل جزية من غير اليهود
والنصارى الذين ذكرنا قبل، ومن كتابييّ العرب، أو لا يقبل منهم غير الإسلام أو
السيف، وكذلك النساء منهم اه.
(٣) قال الحصني: والأولى أن تقسّم الجزية على
الطبقات فيجعل على الفقير الكسوب دينار، وعلى المتوسط ديناران، وعلى الغني أربعة
دنانير اقتداء بعمر ﵁ لما بعث عثمان بن حنيف إلى
قال الشوكاني:
والحق من هذه الأقوال ما قررنا في «شرحنا للمنتقى» «١» وغيره من مؤلفاتنا.
انتهى.
وقد سبقه إلى ذلك السيد العلامة محمد الأمير برسالة مفردة في هذه
المسألة وأحكامها سماها «إفادة الأمة بأحكام أهل الذمة» وأجاد فيها وأفاد،
وتكلمنا على ذلك في «شرحنا على بلوغ المرام» فليرجع إليها.
[الآية الثالثة
عشرة]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبارِ
وَالرُّهْبانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ
سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا
يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٣٤) .
وَالَّذِينَ
يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ: قيل: هم المتقدم ذكرهم من الأحبار والرهبان،
وأنهم كانوا يصنعون هذا الصنع.
وقيل: هم من يفعل ذلك من المسلمين. والأولى
حمل الآية على عموم اللفظ فهو أوسع من ذلك.
وأصل الكنز في اللغة: الضم
والجمع، ولا يختص بالذهب والفضة.
قال ابن جرير «٢»: الكنز كل شيء مجموع بعضه
إلى بعض، في بطن الأرض كان أو على ظهرها. انتهى.
الكوفة، أمره أن يجعل على
الغني ثمانية وأربعين درهما، وعلى المتوسط أربعة وعشرين درهما وعلى الفقير اثنى
عشر درهما والاعتبار في الغني والفقير بوقت الأخذ لا بوقت العقد، ومن ادّعى منهم
أنه فقير أو متوسط قبل قبوله إلا أن تقوم بينه بخلاف؟ نعم أقل الجزية دينار لكل
سنة، نصّ عليه الشافعي وهو الوجوه في كتب الأصحاب، وحجة ذلك: «أنه ﵌ لما وجّه
معاذا إلى اليمن أمره أن يأخذ من كل حالم دينارا، أو عدله من المغافر» وهي ثياب
تكون باليمن والله أعلم (كفاية الأخيار ص ٥١٠) .
وقال المصنف ما يشابه كلامه
هنا بزيادة فائدة في «الروضة النّدية ص ٢٥٣) .
(١) انظر: نيل الأوطار (٨/
٢١٢، ٢٢٢)، والسّيل الجرار (٤/ ٥٦٩ فما بعدها) . [.....]
(٢) انظر: الطبري
(١٠/ ١٢١)، وزاد المسير (٣/ ٤٢٩)، وابن كثير (٢/ ٣٥٠)، القرطبي (٨/ ١٢٣)، الدر
المنثور (٣/ ٢٣٢) .
واختلف أهل العلم في المال الذي أديت زكاته
هل يسمى كنزا أم لا؟ فقال قوم:
هو كنز، وقال آخرون: ليس بكنز. ومن القائلين
بالقول الثاني عمر بن الخطاب وابن عمر وابن عباس وجابر وأبو هريرة وعمر بن عبد
العزيز وغيرهم، وهو الحق للأدلة «١» المصرحة بأن ما أديت زكاته فليس بكنز، وإنما
خصّ الذهب والفضة دون سائر الأموال بالذكر لأنها أثمان الأشياء وغالب ما يكنز،
وإن كان غيرهما له حكمهما في تحريم الكنز.
وَلا يُنْفِقُونَها: كناية عن عدم
أداء الزكاة ونحوها.
فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ
(٣٤) .
[الآية الرابعة عشرة]
إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ
اثْنا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ
مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ
أَنْفُسَكُمْ وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً
وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (٣٦) .
إِنَّ عِدَّةَ
الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنا عَشَرَ شَهْرًا: أي في حكمه وقضائه وحكمته، وذلك
أن الله سبحانه لما حكم في كل وقت بحكم خاص، غيّر الكفار تلك الأوقات بالنسيء
والكبيسة «٢»، فأخبرنا بما هو حكمه.
فِي كِتابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ
السَّماواتِ وَالْأَرْضَ: في هذه الآية بيان أن الله سبحانه وضع هذه الشهور،
وسماها بأسمائها على هذا الترتيب المعروف، يوم خلق الله السموات والأرض، وأن هذا
هو الذي جاءت به الأنبياء، ونزلت به الكتب، وأنه لا اعتبار بما عند العجم والروم
والقبط من الشهور التي يصطلحون عليها، ويجعلون بعضها ثلاثين يوما، وبعضها أكثر،
وبعضها أقل.
مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ: هي ذو العقدة وذو الحجة ومحرم، ورجب،
ثلاثة
(١) الصحيح منها: ما رواه البخاري (٢/ ١١١)، ومسلم (٧/ ٦٤، ٦٦)، عن
أبي هريرة وابن عمر مرفوعا.
(٢) يقال السنة كبيسة: أي يسترق منها يوم، وهذا
إنما يكون كل أربع سنوات [اللسان: كبس] .
متواليات وواحد فرد،
كما ورد بيان ذلك في السنة المطهرة «١» .
ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ: أي كون
هذه الشهور كذلك، ومنها أربعة حرم، هو الدين المستقيم، والحساب الصحيح، والعدد
المستوفى.
فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ أي في هذه الأشهر الحرم،
بإيقاع القتال فيها، وانتهاك حرمتها.
وقيل: إن الضمير يرجع إلى الشهور كلها،
الحرم وغيرها، وأن الله نهى عن الظلم فيها، والأول أولى.
وقد ذهب جماعة من
أهل العلم إلى أن تحريم القتال في الأشهر الحرم ثابت محكم لم ينسخ بهذه الآية
ولقوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ وَلَا
الشَّهْرَ الْحَرامَ [المائدة: ٢] ولقوله: فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ
الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ [التوبة: ٥] .
ويجاب عنه بأن الأمر
بقتل المشركين ومقاتلتهم مقيدة بانسلاخ الأشهر الحرم كما في الآية المذكورة،
فتكون سائر الآيات المتضمنة للأمر بالقتال مقيدة بما ورد في تحريم القتال في
الحرم، للأدلة الواردة في تحريم القتال فيه.
وأما ما استدلوا به من أنه ﵌
حاصر أهل الطائف في شهر حرام- وهو ذو القعدة كما ثبت في «الصحيحين» وغيرهما «٢» -
فقد أجيب عنه أنه لم يبتد محاصرتهم في ذي القعدة بل في شوال والمحرم إنما هو
ابتداء القتال في الأشهر الحرم، لا إتمامه، وبهذا يحصل الجمع.
وَقاتِلُوا
الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً: أي جميعا وهو مصدر في موضع الحال.
قال الزجاج: مثل
هذا من المصادر كعامة وخاصة، لا تثنّى ولا تجمع.
كَما يُقاتِلُونَكُمْ
كَافَّةً وفيه دليل على وجوب قتال المشركين، وأنه فرض على الأعيان، إن لم يقم به
البعض.
(١) حديث صحيح: رواه البخاري (٦/ ٢٩٣)، ومسلم (١١/ ١٦٧، ١٧٠) عن أبي
بكرة مرفوعا.
(٢) انظر: البخاري (٨/ ٤٣)، ومسلم (١٢/ ١٢٢، ١٢٣)، وانظر:
الناسخ والمنسوخ للقاضي أبي بكر (٢/ ٢٦٠، ٢٦١)، ومعاني الفرّاء (١/ ٤٣٦)، والطبري
(١٠/ ٩٢)، وزاد المسير (٣/ ٤٣٥) وابن كثير (٢/ ٣٥٦)، والقرطبي (٨/ ١٣٦)، والدر
المنثور (٣/ ٢٣٦)، والأحكام لابن العربي (٢/ ٩٢٤، ٩٢٨) .
[الآية
الخامسة عشرة]
انْفِرُوا خِفافًا وَثِقالًا وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ
وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ
تَعْلَمُونَ (٤١) .
انْفِرُوا حال كونكم خِفافًا وَثِقالًا.
وقيل:
المراد منفردين أو مجتمعين وقيل: نشاطا وغير نشاط، وقيل: فقراء وأغنياء، وقيل:
مقلين من السلاح ومكثرين منه، وقيل: أصحاء ومرضى، وقيل: شبابا وشيوخا، وقيل:
رجالا وفرسانا، وقيل: من لا عيال له ومن له عيال، وقيل: من سبق إلى الحرب
كالطلائع ومن يتأخر كالجيش، وقيل: غير ذلك. ولا مانع من حمل الآية على جميع هذه
المعاني لأن معنى الآية: انفروا خفّت عليكم الحركة أو ثقلت.
قيل: وهذه الآية
منسوخة بقوله تعالى: لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى [التوبة:
٩١]، وقيل: الناسخ لها قوله تعالى: فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ
طائِفَةٌ [التوبة: ١٢٢] الآية.
وقيل: هي محكمة وليست بمنسوخة «١» .
ويكون
إخراج الأعمى والأعرج بقوله: لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى
الْأَعْرَجِ حَرَجٌ [النور: ٦١]، وإخراج المريض والضعيف بقوله: لَيْسَ عَلَى
الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى [التوبة: ٩١]، من باب التخصيص لا من باب النسخ
على فرض دخول هؤلاء تحت قوله: خِفافًا وَثِقالًا، والظاهر عدم دخولهم تحت
العموم.
وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ
الأمر بالجهاد بالأموال والأنفس، وإيجابه على العباد: فالفقراء يجاهدون بأنفسهم،
والأغنياء بأموالهم وأنفسهم، والجهاد من آكد الفرائض وأعظمها، وهو فرض كفاية مهما
كان البعض يقوم بجهاد العدو
(١) قال القاضي ابن العربي: «قال بعضهم: قال ابن
عباس ﵄: نسخها قوله تعالى وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً وهذا
في قوله إِلَّا تَنْفِرُوا لا يحسن نسخه، لأنه خبر عن الوعيد، والمعنى: إذا احتيج
إليهم نفروا كلهم، فهي محكمة. (الناسخ والمنسوخ ٢/ ٢٤٨، ٢٤٩) .
فائدة: في
قوله خِفافًا وَثِقالًا ذكر له أهل التفسير أكثر من عشرة أقوال وانظر: الفراء (١/
٤٣٩)، وابن قتيبة (١٨٧)، والطبري (١٠/ ٩٧)، والنكت (٢/ ١٣٩)، والزاد (٣/ ٤٤٢)
.
ويدفعه، فإن كان لا يقوم بالعدو إلا جميع المسلمين- في قطر من
الأرض أو أقطار-، وجب عليهم ذلك وجوب عين.
[الآيتان: السادسة والسابعة
عشرة]
لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ
الْآخِرِ أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ
بِالْمُتَّقِينَ (٤٤) إِنَّما يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ
وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ
يَتَرَدَّدُونَ (٤٥) .
لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ
وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ
عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (٤٤): معناه- على ما يقتضي ظاهر اللفظ- أنه لا يستأذنك
المؤمنون في الجهاد بل دأبهم أن يبادروا إليه من غير توقف، ولا ارتقاب منهم لوقوع
الإذن منك، فضلا عن أن يستأذنوك في التخلف.
إِنَّما يَسْتَأْذِنُكَ: في
القعود عن الجهاد، والتخلف عنه:
الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ
وَالْيَوْمِ الْآخِرِ: وهم المنافقون، وذكر الإيمان بالله أولا، ثم باليوم الآخر
ثانيا في الموضعين لأنهما الباعثان على الجهاد في سبيل الله.
[الآية:
الثامنة عشرة]
إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ
وَالْعامِلِينَ عَلَيْها وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقابِ
وَالْغارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ
وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٦٠) .
إِنَّمَا الصَّدَقاتُ: إنما من صيغ القصر،
وتعريف الصدقات للجنس، أي جنس هذه الصدقات مقصورة على الأصناف الآتية لا
تتجاوزها، بل هي لهم لا لغيرهم.
وقد اختلف أهل العلم: هل يجب تقسيط الصدقات
على هذه الأصناف الثمانية، أو يجوز صرفها إلى البعض دون البعض على حسب ما يرى
الإمام أو صاحب الصدقة؟
فذهب إلى الأول الشافعي وجماعة من أهل العلم «١»
.
(١) قال الحصني الشافعي: «اعلم أنه يجب استيعاب الأصناف الثمانية عند
القدرة عليهم فإن فرق
وذهب إلى الثاني مالك «١» وأبو حنيفة، وبه
قال عمر وحذيفة وابن عباس وأبو العالية وسعيد بن جبير وميمون بن مهران «٢» .
قال
ابن جرير «٣»: وهو قول أكثر أهل العلم.
احتج الأولون بما في الآية من القصر
وبحديث زياد بن الحارث الصدائي عند أبي داود والدارقطني قال: «أتيت النبي ﵌
فبايعته فأتى رجل فقال: أعطني من الصدقة؟
فقال له إن الله لم يرض بحكم نبي
ولا غيره في الصدقات حتى حكم فيها هو، فجزأها ثمانية أصناف، فإن كنت من تلك
الأجزاء أعطيتك» «٤» .
وأجاب الآخرون بأن ما في الآية من القصر إنما هو
لبيان الصرف والمصرف لا لوجوب استيعاب الأصناف وبأن في إسناد الحديث عبد الرحمن
بن زياد بن [أنعم] «٥» الأفريقي وهو ضعيف.
ومما يؤيد ما ذهب إليه الآخرون
قوله تعالى: إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوها
وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ [البقرة: ٢٧١] .
بنفسه أو
فرّق الإمام وليس هناك عامل، فرّق على سبعة، وأقل ما يجزىء أن يدفع إلى ثلاثة من
كل صنف لأن الله تعالى ذكرهم بلفظ الجمع إلا العامل فإنه يجوز أن يكون واحدا يعني
إذا حصلت به الكفاية، فلو صرف إلى اثنين مع القدرة على الثالث غرم للثالث، ولو لم
يجد إلا دون الثلاثة من كل صنف أعطى من وجد، وهل يصرف باقي السهم إليه إن كان
مستحقا أم ينقله إلى بلد آخر! قال في زيادة الرّوضة: الأصح أنه يصرف إليه، وممن
صححه الشيخ نصر المقدسي، ونقله هو وغيره عن الشافعي، ودليله ظاهر، والله أعلم
(كفاية الأخيار ص ١٩٤) . ط- دار الخير- دمشق.
(١) قال ابن الحاجب: «ومصرف
الزّكاة الثمانية في قوله: إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ ولو
أعطيت لصنف أجزأ.
ثم قال: وفي إعطاء آل الرّسول ﵌ الصدقة ثالثها: يعطون من
التطوع دون الواجب ورابعها:
عكسه، وبنو هاشم آل، وما فوق غالب غير آل، وفيما
بينهما: قولان، وفي مواليهم: قولان، ولا تصرف في كفن ميت، ولا بناء مسجد ولا لعبد
ولا لكافر. (الأمهات ص ١٦٥، ١٦٦) ط- اليمامة- دمشق.
(٢) انظر: تحدث المفسرين
عن هذه الآية وذكر هذه الأقوال في «الطبري» ١/ ١٠٩، زاد المسير (٣/ ٤٥٥)،
والقرطبي (٨/ ١٦٧)، وابن كثير (٢/ ٣٦٤)، والنكت (٢/ ١٤٦) .
(٣) انظر: الطبري
(١٠/ ١١) .
(٤) إسناده ضعيف: رواه أبو داود (١٦٣٠)، والطبراني في «الكبير»
(٥/ ٢٦٢)، (٥٢٨٥)، والدارقطني في «سننه» (٢/ ١٣٧)، والطحاوي في «معاني الآثار»
(٣٠١١)، والبيهقي في «الكبرى» (٤/ ١٧٣، ١٧٤) .
وعلته: عبد الرحمن بن زياد
الأفريقي، ضعّفوه.
(٥) ما بين [] صحّف إلى (أكغم) وهو خطأ واضح والتصويب من
مصادر التخريج.
والصدقة تطلق على الواجبة كما تطلق على
المندوبة.
وصحّ عنه ﵌ أنه قال: «أمرت أن آخذ الصدقة من أغنيائكم وأردّها في
فقرائكم» «١» .
وقد ادّعى مالك الإجماع على القول الآخر.
قال ابن عبد
البر: بإجماع الصحابة، فإنه لا يعلم مخالفا منهم.
لِلْفُقَراءِ
وَالْمَساكِينِ: قدّمهم لأنهم أحوج من البقية على المشهور، لشدة فاقتهم
وحاجتهم.
وقد اختلف أهل العلم في الفرق بين الفقير والمسكين على أقوال:
فقال
يعقوب بن السّكيت والقتيبي ويونس بن حبيب: إن الفقير أحسن حالا من المسكين قالوا:
لأن الفقير هو الذي له بعض ما يكفيه ويقيمه، والمسكين الذي لا شيء له. وذهب إلى
هذا قوم من أهل الفقه منهم أبو حنيفة.
وقال آخرون بالعكس فجعلوا المسكين
أحسن حالا من الفقير «٢» واحتجوا بقوله
(١) صحيح: رواه البخاري (٣/ ٢٦١،
٣٢٢، ٣٥٧)، ومسلم (١/ ١٩٥، ١٩٧) عن ابن عباس أن معاذا قال: بعثني رسول الله ﵌
قال: «إنك تأتي قوما من أهل الكتاب، فادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأني
رسول الله، فإن هم أطاعوا ذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم
فتردّ في فقرائهم ...» الحديث. [.....]
(٢) قال المصنف في «الروضة الندية»
(١/ ٢٠٤): «الفقير عند الشافعي هو من لا مال له ولا حرفة يقع منه موقعا، وعند أبي
حنيفة من لا شيء له فيحتاج إلى المسألة لقوته، أو ما يواري بدنه، والعامل له مثل
عمله سواء كان فقيرا أو غنيّا، وعليه أهل العلم.
وقال ابن الحاجب المالكي:
«المشهور: أن الفقراء والمساكين صنفان، وعليه فيما اختلفا به مشهورها شدّة
الحاجة، فالمشهور في المسكين، وقيل: سؤال الفقير، وقيل العلم به.. (الجامع ١٦٤)
.
وقال الحصني: «الفقير الذي لا مال له ولا كسب أو له مال أو كسب ولكن لا
يقع موقعا من حاجته كمن يحتاج إلى عشرة مثلا ولا يملك إلا درهمين، وهذا لا يسلبه
اسم الفقر، وكذا ملك الدّار التي يسكنها، والثوب الذي يتجمل به لا يسلبه اسم
الفقر، وكذا العبد الذي يخدمه. قال ابن كج: ولو كان له مال على المسافة، مسافة
القصر يجوز له الأخذ إلى أن يصل إلى ماله، ولو كان له دين مؤجل فله أخذ كفايته
إلى حلول الدّين، ولو قدر على الكسب فلا يعطى لقوله ﵌: «لا حظ فيها لغني ولا لذي
مرّة سويّ وهي القوة» وفي رواية: «ولا لذي قوة مكتسب» ولو قدر على
.
تعالى:
أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ [الكهف:
٧٩]، فأخبر أن لهم سفينة من سفن البحر، وربما ساوت جملة من المال، ويؤيده تعوذ
النبي ﵌ من الفقر «١» مع قوله: «اللهم أحيني مسكينا وأمتني مسكينا» «٢» .
وإلى
هذا ذهب الأصمعي وغيره من أهل اللغة، وحكاه الطحاوي عن الكوفيين، وهو أحد قولي
الشافعي، وإليه ذهب ابن القاسم وسائر أصحاب مالك، وبه قال أبو يوسف.
وقال
قوم: الفقير: المحتاج للتعفف والمسكين: السائل. قاله الأزهري واختاره ابن شعبان،
وهو مروي عن ابن عباس. وقد قيل غير هذه الأقوال مما لا يأتي الاستكثار منه بفائدة
يعتد بها.
والأولى في بيان ماهيّة المسكين ما ثبت عن رسول الله ﵌ عند
البخاري ومسلم وغيرهما من حديث أبي هريرة: أن رسول الله ﵌ قال: «ليس المسكين بهذه
الطّواف، الذي يطوف على الناس فترده اللقمة واللقمتان، والتمرة والتمرتان، قالوا:
فما المسكين يا رسول الله؟ قال: الذي لا يجد غنى يغنيه، ولا يفطن له فيتصدق عليه،
ولا يسأل الناس شيئا» «٣» .
الكسب إلا أنه مشتغل بالعلوم الشرعية، ولو أقبل
على الكسب لانقطع عن التحصيل حلّت له الزكاة على الصحيح المعروف، وقيل: لا يعطى
مطلقا ويكتسب، وقيل: إن كان نجيبا يرجى تفقهه ونفعه استحق وإلا فلا، وكثيرا ما
يسكن المدارس من لا يتأتى منه التحصيل، بل هو معطل نفسه! فهذا لا يعطى بلا خلاف
ولو كان مقبلا على العبادة، لكن الكسب يمنعه عنها، وعن أوراده التي استغرق بها
الوقت، فهذا لا تحل له الزكاة لأن الاستغناء عن الناس أولى.
واعلم أن الفقير
المكفي بنفقته ممن تلزمه نفقته، وكذا الزوجة المكفية بنفقة زوجها لا يعطيان ...
وانظر: (الكفاية للحصني ص ١٩٠، ١٩١) .
(١) حديث صحيح: رواه البخاري (١١/
٧٦)، ومسلم (١٧/ ٢٨، ٢٩)، عن عائشة مرفوعا. وما رواه أبو داود (١٥٤٤)، والنسائي
(٨/ ٢٦١)، وأحمد في «المسند» (٢/ ٣٠٥، ٣٢٥، ٣٥٤)، والبخاري في «الأدب المفرد»
(٦٧٨)، عن أبي هريرة مرفوعا.
قلت: وكلا الحديثين فيهما تعوّذه ﵌ من الفقر.
أعاذنا الله منه.
(٢) حديث حسن: رواه ابن ماجة (٤١٢٦)، وعبد بن حميد في
«المنتخب» (١٠٠٢) عن أبي سعيد الخدري مرفوعا.
وفيه يزيد بن سنان، ضعفوه.
وله
شاهد من حديث أنس وعبادة كما رواهما البيهقي في «الكبرى» (٧/ ١٢) .
(٣) حديث
صحيح: رواه البخاري (٣/ ٣٤٠)، ومسلم (٧/ ١٢٩)، واللفظ له، وأبو داود (١٦٣١)،
وَالْعامِلِينَ
عَلَيْها: أي السّعاة الذين ينفقهم الإمام لتحصيل الزكاة فإنهم يستحقون منها
قسطا.
واختلف في القدر الذي يأخذونه منها؟
فقيل: الثّمن، روي ذلك عن
مجاهد والشافعي.
وقيل: على قدر أعمالهم من الأجرة، روي ذلك عن أبي حنيفة
وأصحابه.
وقيل: يعطون من بيت المال قدر أجرتهم، روي ذلك عن مالك. ولا وجه
لهذا، فإن الله تعالى قد أخبر بأن لهم نصيبا من الصدقة، فكيف يمنعون منها ويعطون
من غيرها؟! واختلفوا هل يجوز أن يكون العامل هاشميا أم لا؟ فمنعه قوم وأجازه
آخرون.
قالوا: ويعطى من غير الصدقة.
وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ: قوم
كانوا في صدر الإسلام.
فقيل: هم الكفار الذين كان النبي ﵌ يتألفهم ليسلموا،
وكانوا لا يدخلون في الإسلام بالقهر والسيف بل بالعطاء.
وقيل: هم قوم أسلموا
في الظاهر ولم يحسن إسلامهم، فكان رسول الله ﵌ يتألفهم بالعطاء.
وقيل: هم من
أسلم من اليهود والنصارى، وقيل: هم قوم من عظماء المشركين، ولهم أتباع، فأعطاهم
النبي ﵌ ليتألفوا أتباعهم على الإسلام، وأعطى النبي ﵇ جماعة ممن أسلم ظاهرا، كأبي
سفيان بن حرب والحارث بن هشام وسهيل بن عمرو وحويطب بن عبد العزى: أعطى كل واحد
منهم مائة من الإبل يؤلفهم بذلك، وأعطى آخرين دونهم «١» .
وأحمد في «المسند»
(٢/ ٢٦٠، ٤٦٩)، والنسائي (٥/ ٨٤، ٨٥)، والدارمي (١/ ٣٧٩) .
(١) حديث صحيح:
«رواه مسلم (٧/ ١٥٥)، عن رافع بن خديج مرفوعا أنه ﵌ أعطى أبا سفيان بن حرب وصفوان
بن أمية وعيينة بن حصين، والأقرع بن حابس كل إنسان منهم مائة من الإبل، وأعطى
عباس بن مرداس دون ذلك ...» الحديث.
«رواه البخاري (٥/ ٢٥١)، (٨/ ٥٥) ومسلم
(٧/ ١٥٧)، عن ابن مسعود مرفوعا أنه أعطى يوم حنين الأقرع بن حابس مائة من الإبل،
وعيينة مثل ذلك، وأعطى أناسا من أشراف العرب وآثرهم يومئذ في القسمة ...»
الحديث.
وقد اختلف العلماء: هل سهم المؤلفة قلوبهم باق بعد ظهور
الإسلام أم لا؟
فقال عمر والحسن والشعبي: قد انقطع هذا الصنف بعزة الإسلام
وظهوره. وهذا مشهور من مذهب مالك وأصحاب الرأي. وقد ادعى بعض الحنفية أن الصحابة
أجمعت على ذلك.
وقال جماعة من العلماء: سهمهم باق لأن الإمام ربما احتاج أن
يتألف على الإسلام، وإنما قطعهم عمر لما رأى من إعزاز الدين، وبه أفتى الماوردي
في كتابه «الأحكام السلطانية» «١»، قال يونس: سألت الزهري عنهم؟ فقال: لا أعلم
نسخ ذلك.
وعلى القول الأول يرجع سهمهم لسائر الأصناف.
وَفِي الرِّقابِ:
أي في فكها بأن يشتري رقابا ثم يعتقها، روي ذلك عن ابن عباس وابن عمر، وبه قال
مالك وابن حنبل وإسحاق وأبو عبيد.
وقال الحسن البصري ومقاتل بن حيان وعمر بن
عبد العزيز وسعيد بن جبير والنخعي والزهري وابن زيد: إنهم المكاتبون يعانون من
الصدقة على مال الكتابة، وهو قول الشافعي «٢» وأصحاب الرأي «٣» ورواية عن مالك
«٤» . والأولى حمل ما في الآية على القولين جميعا، لصدق الرقاب على شراء العبد
وإعتاقه، وعلى إعانة المكاتب على مال الكتابة.
وَالْغارِمِينَ: هم الذين
ركبتهم الديون ولا وفاء عندهم بها، ولا خلاف في ذلك إلا من لزمه دين في سفاهة
فإنه لا يعطى منها ولا من غيرها إلا أن يتوب. وقد أعان النبي ﵌ من الصدقة من تحمل
حمالة وأرشد إلى إعانته منها «٥» .
وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ: هم الغزاة
والمرابطون يعطون من الصدقة ما ينفقون في غزوهم ومرابطتهم، وإن كانوا أغنياء.
وهذا قول أكثر العلماء. قال ابن عمر: هم
(١) انظره في: (ص ١٥٧)، ورحمة الأمة
(ص ٨٥) .
(٢) انظر: كفاية الأخيار (ص ١٩٢)، تهذيب الأحكام الشرعية في فقه
الشافعية لشيخنا كمال العناني (٣٠٣) .
(٣) انظر: الروضة الندية (١/ ٢٠٤)،
ورحمة الأمة (ص ٨٥) .
(٤) انظر: جامع ابن الحاجب (ص ١٦٥) .
(٥) انظر:
شرح العبادات للكلوذاني (ص ١٩٧)، وجامع ابن الحاجب (ص ١٦٥)، وكفاية الأخيار (ص
١٩٣)، الروضة الندية (١/ ٢٠٤) .
الحجاج والعمار «١» .
وروي
عن أحمد وإسحاق أنهما جعلا الحج من سبيل الله «٢» .
وقال أبو حنيفة وصاحباه:
لا يعطى الغازي إلا إذا كان فقيرا منقطعا به.
وَابْنِ السَّبِيلِ: هو
المسافر «٣» .
والسبيل: الطريق ونسب إليها المسافر لملازمته إياها.
والمراد
الذي انقطعت به الأسباب في سفره عن بلده ومستقره، فإنه يعطى منها وإن كان غنيا في
بلده، وإن وجد من يسلفه.
وقال مالك: إذا وجد من يسلفه فلا يعطى «٤» .
قوله:
فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ: يعني كون الصدقات مقصورة على هذه الأصناف هو حكم لازم
فرضا لله على عباده نهاهم عن مجاوزته «٥» .
[الآية التاسعة عشرة]
يا
أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ
وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٧٣) .
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ
جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ: الأمر بهذا الجهاد أمر لأمته من بعده وجهاد
الكفار يكون بمقاتلهم حتى يسلموا، وجهاد المنافقين يكون بإقامة الحجة عليهم حتى
يخرجوا عنه ويؤمنوا بالله «٦» .
(١) انظر: جامع ابن الحاجب (ص ١٦٥)، وشرح
عبادات الكلوذاني لليعقوبي (ص ١٩٨)، وكفاية الأخيار (١٩٤) .
(٢) قال
الجراعي: وعنه الحجج ليس من السبيل والعكس المذهب (غاية المطلب ص ١٠٥) وقال
اليعقوبي: هم الغزاة (شرح العبادات للكلوذاني (ص ١٩٨) . [.....]
(٣) انظر:
غاية المطلب (ص ١٠٥)، الروض المربع (ص ١٢٠) ط- السّفلية.
(٤) مذهب المالكية
إن وجد مسلفا وهو مليء ببلده، فقولان (ابن الحاجب في الجامع ص ١٦٦) .
(٥)
وقال اليعقوبي: «فالمستحب أن يجمع بين الأصناف المذكورة في العطية، فإن دفعها إلى
صنف واحد أجزأه وكان تاركا للاستحباب» (ص ١٩٨) .
وقد ذكرنا قول أهل العلم في
هذه المسألة عند أول الكلام على آيات الصدقات.
(٦) انظر: الرّوضة الندية
للمصنف (ص ٣٣١) .
وقال الحسن: إن جهاد المنافقين بإقامة الحدود
عليهم. واختاره قتادة «١» .
قيل في توجيهه: إن المنافقين كانوا أكثر من يفعل
موجبات الحدود.
وقال ابن العربي: إن هذه دعوى لا برهان عليها، وليس العاصي
بمنافق، إنما المنافق بما يكون في قلبه من النفاق بما لا تتلبس به الجوارح ظاهرا،
وأخبار المحدودين تشهد بسياقها أنهم لم يكونوا منافقين.
وَاغْلُظْ
عَلَيْهِمْ الغلظ: نقيض الرأفة، وهو شدة القلب، وخشونة الجانب.
قيل: وهذه
الآية نسخت كل شيء من العفو والصبر والصفح، وفي «التحريم» «٢» مثلها.
[الآية
العشرون]
فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ
لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ
عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ
الْخالِفِينَ (٨٣) .
فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ: الرجع: متعد كالرد، والرجوع:
لازم، والفاء لتفريغ ما بعدها على ما قبلها وإنما قال: إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ:
لأن جميع من أقام بالمدينة لم يكونوا منافقين، بل كان فيهم غيرهم من المؤمنين لهم
أعذار صحيحة، وفيهم من المؤمنين من لا عذر له، ثم عفا عنهم رسول الله ﵌، وتاب
الله عليهم كالثلاثة الذين خلفوا «٣» .
وقيل: إنما قال إلى طائفة لأن منهم
من تاب عن النفاق وندم على التخلف.
فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ معك في
غزوة أخرى بعد غزوتك هذه.
(١) انظر: الطبري (١٠/ ١٢٦)، والنكت (٢/ ١٥٢)،
وزاد المسير (٣/ ٤٦٩)، والقرطبي (٨/ ٢٠٤)، وابن كثير (٢/ ٣٧١)، الدر المنثور (٣/
٢٥٨) .
(٢) آية رقم (٩) .
(٣) هم: كعب بن مالك، ومرارة بن الربيع
العمري، وهلال بن أمية الواقفي، وتخلفهم كان عن غزوة تبوك من غير عذر.
وانظر:
البخاري (٨/ ١١٣، ١١٦، ٣٤٣، ٣٤٤)، ومسلم (١٧/ ٨٧، ٩٩)، عن كعب بن مالك.
فَقُلْ
لهم: لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا: أي قل
لهم ذلك عقوبة لهم، ولما في استصحابهم من المفاسد.
إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ
بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ: للتعليل أي لن تخرجوا معي، ولن تقاتلوا لأنكم
رضيتم بالقعود والتخلف أول مرة، وهي غزوة تبوك.
فَاقْعُدُوا مَعَ
الْخالِفِينَ (٨٣): جمع خالف، والمراد بهم من تخلف عن الخروج.
وقيل: المعنى
فاقعدوا مع الفاسدين، من قولهم: (فلان خالف أهل بيته) إذا كان فاسدا فيهم.
[الآية
الحادية والعشرون] وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَدًا وَلا تَقُمْ
عَلى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَماتُوا وَهُمْ
فاسِقُونَ (٨٤) .
وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ: صفة لأحد.
وأَبَدًا
ظرف لتأييد النفي.
قال الزجاج: معنى قوله: وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ: أن
رسول الله ﵌ كان إذا دفن الميت وقف على قبره ودعا له «١»، فمنع هاهنا منه.
وقيل:
معناه لا تقم بمهمات إصلاح قبره.
وجملة: إِنَّهُمْ كَفَرُوا إلخ. تعليل
للنهي عن صلاة الجنازة، والقيام على قبور هؤلاء المنافقين «٢» .
(١) حديث
صحيح: رواه أبو داود (٣٢٢١)، والحاكم في «المستدرك» (١/ ٣٧٠) وصححه ووافقه
الذّهبي.
(٢) حديث صحيح: رواه البخاري (٣/ ١٣٨)، ومسلم (١٥/ ١٦٧)، عن ابن
عمر ﵄.
[الآيات: الثانية والثالثة والرابعة والعشرون]
لَيْسَ
عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما
يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ
مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٩١) وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما
أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا
وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا ما يُنْفِقُونَ
(٩٢) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِياءُ
رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ
فَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٩٣) .
لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ: وهم أرباب الزمانة
والهرم والعرج ونحو ذلك «١»، ثم ذكر العذر العارض فقال:
وَلا عَلَى
الْمَرْضى: والمراد بالمرض: كل ما يصدق عليه اسم المرض لغة أو شرعا.
وقيل:
إنه يدخل في المرضى الأعمى والأعرج ونحوهما، ثم ذكر العذر الراجع إلى المال لا
إلى البدن قائلا:
وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ: أي
ليست لهم أموال ينفقونها فيما يحتاجون إليه من التجهيز للجهاد، فنفى سبحانه عنهم
أن يكون عليهم حَرَجٌ: وأبان أن الجهاد مع هذه الأعذار ساقط عنهم، غير واجب عليهم
مقيدا بقوله:
إِذا نَصَحُوا: أصل النصح إخلاص العمل، ونصح له القول: أي
أخلصه له.
والنصح لِلَّهِ الإيمان به، والعمل بشريعته، وترك ما يخالفها
كائنا ما كان، ويدخل تحته دخولا أوليا نصح عباده، ومحبة المجاهدين في سبيله، وبذل
النصيحة لهم في أمر الجهاد، وترك المعاونة لأعدائهم بوجه من الوجوه.
ونصيحة
رَسُولِهِ ﵌ التصديق بنبوّته وبما جاء به، وطاعته في كل ما يأمر به أو ينهى عنه،
وموالاة من والاه، ومعاداة من عاداه، ومحبته، وتعظيم سنته، وإحياءها بعد موته بما
تبلغ إليه القدرة.
وقد ثبت في الحديث الصحيح أن النبي ﵌ قال: «الدين
النصيحة» ثلاثا، قالوا:
لمن؟ قال: «لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين
وعامتهم» «٢» .
(١) انظر: النكت (٢/ ١٥٨)، زاد المسير (٣/ ٤٨٥) .
(٢)
حديث صحيح: رواه مسلم (٥٥) .
وجملة: ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ
مِنْ سَبِيلٍ: مقررة لمضمون سبق أي ليس على المعذورين الناصحين طريق عقاب
ومؤاخذة.
وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٩١) وفي معنى هذه الآية قوله تعالى: لا
يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَها [البقرة: ٢٨٦]، وقوله: لَيْسَ عَلَى
الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ
[النور: ٦١]، وإسقاط التكليف عن هؤلاء المعذورين لا يستلزم عدم ثبوت ثواب الغزو
لهم الذي عذرهم الله عنه مع رغبتهم إليه لولا أن حبسهم العذر عنه.
ومنه حديث
أنس عن أبي داود وأحمد- وأصله في «الصحيحين» - أن رسول الله ﵌ قال: «لقد تركتم
بعدكم قوما ما سرتم من مسير، ولا أنفقتم من نفقة ولا قطعتم واديا إلا وهم معكم:
قالوا: يا رسول الله وكيف يكونون معنا وهم بالمدينة؟ فقال:
حبسهم العذر» «١»
.
وأخرجه أحمد ومسلم من حديث جابر «٢» .
ثم ذكر الله سبحانه من جملة
المعذورين من تضمنه قوله:
وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ
لِتَحْمِلَهُمْ: على ما يركبون عليه في الغزو.
قُلْتَ لا أَجِدُ ما
أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ: أي حال
كونهم باكين.
حَزَنًا: منصوب على المصدرية أو على الحالية.
أَلَّا
يَجِدُوا ما يُنْفِقُونَ (٩٢) لا عند أنفسهم ولا عندك.
إِنَّمَا السَّبِيلُ:
أي طريق العقوبة والمؤاخذة.
عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ: في التخلف
عن الغزو، والحال أن وَهُمْ أَغْنِياءُ: أي يجدون ما يحملهم وما يتجهزون به.
(١)
حديث صحيح: رواه أبو داود (٢٥٠٨)، وأحمد في «المسند» (٣/ ١٦٠، ٢١٤) عن أنس
مرفوعا. والبخاري معلقا (٦/ ٤٧) عن أنس.
وأصله في «الصحيحين» عند البخاري
(٦/ ٤٦، ٤٧) (٨/ ١٢٦)، عن أنس، ومسلم (١٣/ ٥٦، ٥٧) عن جابر مرفوعا.
(٢) حديث
صحيح: رواه مسلم (١٣/ ٥٦، ٥٧)، وابن ماجة (٢٧٦٥)، وأحمد في «المسند» (٣/ ٣٣٠)
(٣٤) عن جابر مرفوعا.
رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ
وَطَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ: أي أن سبب الاستئذان مع الغنى أمران:
أحدهما:
الرضا بالصفقة الخاسرة وهي أن يكونوا مع الخوالف.
والثاني: الطبع من الله
على قلوبهم.
فَهُمْ: بسبب هذا الطبع.
لا يَعْلَمُونَ (٩٣): ما فيه
الربح لهم حتى يختاروه على ما فيه الخسر.
[الآية الخامسة والعشرون]
خُذْ
مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها وَصَلِّ
عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١٠٣) .
خُذْ
مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً: قد اختلف أهل العلم في هذه الصدقة المأمور بها؟
فقيل:
هي صدقة الفرض.
وقيل: هي مخصوصة لهذه الطائفة المعترفين بذنوبهم لأنهم بعد
التوبة عليهم عرضوا أموالهم على رسول الله ﵌ فنزلت هذه الآية. و(من) للتبعيض على
التفسيرين.
قال السيوطي: فأخذ ثلث أموالهم فتصدق بذلك للكفارة فإن كل من أتى
ذنبا يسن له أن يتصدق، والآية مطلقة مبينة بالسنة المطهرة، والصدقة مأخوذة من
الصدق، إذ هي دليل على صدق مخرجها في إيمانه.
تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ
بِها: الضمير في الفعلين للنبي ﵌.
وقيل: للصدقة: أي تطهرهم هذه الصدقة
المأخوذة منهم، والأول أولى.
ومعنى التطهير: إذهاب ما يتعلق بهم من أثر
الذنوب، ومعنى التزكية: المبالغة في التطهير «١» .
وَصَلِّ عَلَيْهِمْ: أي
ادع لهم بعد أخذك لتلك الصدقة من أموالهم.
(١) انظر: الطبري (١١/ ١٣)، النكت
(٢/ ١٦٣)، زاد المسير (٣/ ٤٩٥)، القرطبي (٨/ ٢٤٤)، وابن كثير (٢/ ٣٨٥) .
[.....]
قال النحاس: وحكى أهل اللغة جميعا- فيما علمنا- أن
الصلاة في كلام العرب:
الدعاء.
إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ أي ما
تسكن إليه النفس، وتطمئن به.
[الآية السادسة والعشرون]
ما كانَ
لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ
كانُوا أُولِي قُرْبى مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ
الْجَحِيمِ (١١٣) .
ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ
يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى: ذكر أهل التفسير أن
(ما كان) في القرآن يأتي على وجهين:
الأول: على النفي نحو: وَما كانَ
لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ [آل عمران: ١٤٥] .
والآخر:
على معنى النهي نحو: وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ [الأحزاب:
٥٣]، وما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا
لِلْمُشْرِكِينَ الآية، فإن القرابة في مثل هذا الحكم لا تأثير لها، وهذه الآية
متضمنة لقطع الموالاة للكفار، وتحريم الاستغفار لهم والدعاء بما لا يجوز لمن كان
كافرا «١» .
ولا ينافي هذا ما ثبت عنه ﵌ في الصحيح أنه قال يوم أحد حين كسر
المشركون رباعيته وشجوا وجهه: «اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون» «٢»، لأنه يمكن
أن يكون ذلك قبل أن يبلغه تحريم الاستغفار للمشركين.
وعلى فرض أنه كان قد
بلغه- كما يفيده سبب النزول «٣» - فإنه قبل يوم أحد بمدة طويلة، فصدور هذا
الاستغفار منه لقومه إنما كان على سبيل الحكاية عمن تقدم من الأنبياء، كما في
«صحيح مسلم» عن عبد الله قال: «كأني أنظر إلى النبي ﵌ يحكي نبيا
(١) انظر:
الفتح الرّباني (١٨/ ١٦٤)، الطبري (١١/ ٣٠)، النكت (٢/ ١٧٠)، زاد المسير (٣/
٥٠٧)، القرطبي (٣/ ٥٠٩)، ابن كثير (٢/ ٣٩٣)، اللباب (١٢٦)، الدر المنثور (٣/ ١٨٢)
.
(٢) انظر تخريجه فيما بعده.
(٣) حديث صحيح: رواه البخاري (٨/ ٣٤١)،
ومسلم (٢٤)، وابن أبي حاتم (٤/ ١٠٢)، والأسماء والصفات (ص ٩٧، ٩٨)، والطبري (١١/
٤١) عن سعيد بن المسيّب عن أبيه فذكر الحديث.
من الأنبياء ضربه
قومه وهو يمسح الدم عن وجهه ويقول: رب اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون» «١» .
وفي
البخاري: أن النبي ﵌ ذكر نبيا قبله شجه قومه، فجعل يخبر عنه بأنه قال:
«اللهم
اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون» «٢» .
مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ
أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (١١٣): هذه الجملة تتضمن التعليل للنهي عن
الاستغفار.
والمعنى أن هذا التبين موجب لقطع الموالاة لمن كان هكذا وعدم
الاعتداد بالقرابة، لأنهم ماتوا على الشرك، وقد قال سبحانه إِنَّ اللَّهَ لا
يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ [النساء: ٤٨] فطلب المغفرة لهم في حكم المخالفة لوعد
الله ووعيده.
[الآية السابعة والعشرون]
وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ
لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ
لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا
إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (١٢٢) .
وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ
لِيَنْفِرُوا كَافَّةً: اختلف المفسرون في معناها؟ فذهب جماعة إلى أنه من بقية
أحكام الجهاد، لأنه سبحانه لما بالغ في الأمر بالجهاد والانتداب إلى الغزو كان
المسلمون إذا بعث رسول الله ﵌ سرية إلى الكفار، ينفرون جميعا ويتركون المدينة
خالية، فأخبرهم سبحانه بأنه ما كان لهم ذلك، أي ما صح لهم ولا استقام أن ينفروا
جميعا.
فَلَوْلا: بمعنى هلا، فهي تحضيضية على معنى الطلب.
نَفَرَ مِنْ
كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ: ويبقى من عدا هذه الطائفة النافرة، ويكون
الضمير في قوله: لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ: عائدا إلى الفرقة الباقية «٣»
.
والمعنى أن طائفة من هذه الفرقة تخرج إلى الغزو، ومن بقي من الفرقة
يقفون
(١) صحيح: رواه مسلم (١٢/ ١٤٩، ١٥٠) .
(٢) حديث صحيح: رواه
البخاري (٦/ ٥١٤) .
(٣) انظر: الطبري (١١/ ٥٥)، الزجاج (٢/ ٥٢٩) .
لطلب
العلم ويعلمون الغزاة إذا رجعوا إليهم من الغزو، أو يذهبون في طلبه إلى المكان
الذي يجدون فيه من يتعلمون منه ليأخذوا عنه الفقه في الدين «١» .
وَلِيُنْذِرُوا
قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ: عطف علة، ففيه إشارة إلى أنه ينبغي أن يكون
غرض المتعلم الاستقامة وتبليغ الشريعة، لا الترفع على العباد والتبسط في
البلاد.
وذهب آخرون إلى أن هذه الآية ليست من بقية أحكام الجهاد، بل هي حكم
مستقل بنفسه في مشروعية الخروج لطلب العلم والتفقه في الدين، جعله الله سبحانه
متصلا بما دل على إيجاب الخروج إلى الجهاد، فيكون السفر نوعين:
الأول: سفر
الجهاد.
والثاني: السفر لطلب العلم.
ولا شك أن وجوب الخروج لطلب العلم
إنما يكون إذا لم يجد الطالب من يتعلم منه في الحضر من غير سفر.
والفقه: هو
العلم بالأحكام الشرعية، وبما يتوصل به إلى العلم بها، من لغة ونحو وصرف وبيان
وأصول. وقد جعل الله سبحانه الغرض من هذا هو التفقه في الدين، وإنذار من لم
يتفقه، فجمع بين المقصدين الصالحين، والمطلبين الصحيحين، وهما:
تعلّم العلم
وتعليمه، فمن كان غرضه بطلب العلم غير هذين فهو طالب لغرض دنيوي لا لغرض ديني «٢»
.
[الآية الثامنة والعشرون] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا
الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً
وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (١٢٣) .
يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا
فِيكُمْ غِلْظَةً: أمر سبحانه المؤمنين بأن يجتهدوا في مقاتلة من يليهم من الكفار
في الدار والبلاد والنسب، وأن يأخذوا في حربهم بالغلظة والشدة.
والجهاد واجب
لكل الكفار، وإن كان الابتداء بمن يلي المجاهدين منهم أهم وأقدم، ثم الأقرب
فالأقرب.
(١) انظر: زاد المسير (٣/ ٥٢٠)، القرطبي (٨/ ٢٩٩) .
(٢) انظر:
الفقيه والمتفقه للخطيب (ص ١١) ط- دار الوطن.
سورة هود وآياتها مائة وثلاث وعشرون آية
مكيّة في قول الحسن وعكرمة وعطاء وجابر وغيرهم «١» .
قال ابن عباس
وقتادة: إلا آية «٢»، وهي قوله: وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ.
وقال
﵌: «اقرؤوا [هود] «٣» يوم الجمعة» .
أخرجه الدارمي وأبو داود في «مراسيله»
وأبو الشيخ وابن مردويه وابن عساكر والبيهقي في «الشعب» عن كعب «٤» .
[الآية
الأولى]
وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ
وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِياءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ (١١٣) .
وَلا
تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا: فسّر الأئمة من رواة اللغة الركون: بمطلق
الميل والسكون من غير تقييد بما قيد به صاحب «الكشاف» حيث قال: إن الركون هو
الميل اليسير، وهكذا فسّره المفسرون بمطلق الميل والسكون من غير تقييد، إلا من
كان من المتقيدين بما ينقله صاحب «الكشاف» .
ومن المفسرين من ذكر في تفسيره
للركون قيودا لم يذكرها أئمة اللغة.
(١) انظر: الطبري (١١/ ١٢٢)، وزاد
المسير (٤/ ٧٤) .
(٢) انظر: الطبري (١١/ ١٢٣)، زاد المسير (٤/ ٧٥) .
(٣)
ما بين [] حرّف لهود وهو خطأ واضح.
(٤) إسناده ضعيف: رواه الدارمي (٣٤٠٤)،
وأبو داود في «مراسيله» (٥٩) عن كعب بن ماتع مرفوعا.
وعلته: إرسال كعب
الأحبار فروايته للحديث مرسلا، وانظر: التهذيب (٨/ ١٩٣) .
قال
القرطبي في «تفسيره» «١»: الركون حقيقة الاستناد والاعتماد والسكون إلى الشيء
والرضا به، ومن أئمة التابعين من فسّر الركون بما هو بعض من معناه اللغوي:
فروي
عن قتادة وعكرمة في تفسير الآية: إن معناها لا تودوهم ولا تطيعوهم.
وقال عبد
الرحمن بن زيد بن أسلم في تفسير الآية: الركون هنا الإدهان، وذلك أن لا ينكر
عليهم كفرهم.
وقال أبو العالية: معناه لا ترضوا أعمالهم «٢» .
وقد
اختلف أيضا الأئمة من المفسرين في هذه الآية: هل هي خاصة بالمشركين؟
وأنهم
المرادون بالذين ظلموا؟ وقد روي ذلك عن ابن عباس.
وقيل: إنها عامة في الظلمة
من غير فرق بين كافر ومسلم، وهذا هو الظاهر من الآية. ولو فرضنا أن سبب النزول هم
المشركون لكان الاعتبار لعموم اللفظ لا لخصوص السبب.
فإن قلت: قد وردت
الأدلة الصحيحة البالغة عدد التواتر، الثابتة عن رسول الله ﵌ ثبوتا لا يخفى على
من له أدنى تمسك بالسنة المطهرة، بوجوب طاعة الأئمة والسلاطين والأمراء حتى ورد
في بعض ألفاظ الصحيح: «أطيعوا السلطان وإن كان عبدا حبشيا رأسه كالزبيبة» «٣»
.
وورد وجوب طاعتهم ما أقاموا الصلاة «٤»، وما لم يظهر منهم الكفر البواح
«٥»، وما لم يأمروا بمعصية الله «٦» .
(١) انظره في (٩/ ١٠٨) .
(٢)
انظر: الطبري (١٢/ ١٢٨)، الدر المنثور (٣/ ٣٥١) . [.....]
(٣) حديث صحيح:
رواه البخاري (٢/ ١٨٤، ١٨٨)، (١٣/ ١٢١)، ومسلم (١٢/ ٢٢٥)، عن أنس مرفوعا.
(٤)
حديث صحيح: رواه مسلم (١٢/ ٢٤٤) عن عوف بن مالك مرفوعا، وفيه: «لا ما أقاموا
الصلاة» .
(٥) حديث صحيح: رواه البخاري (١٣/ ٥)، ومسلم (١٢/ ٢٢٨)، عن عبادة
مرفوعا وفيه: «إلا أن تروا كفرا بواحا عندكم من الله فيه برهان» .
(٦) حديث
صحيح: رواه البخاري (١٣/ ١٢١، ١٢٢)، ومسلم (١٢/ ٢٢٦)، عن عبد الله بن عمر مرفوعا
قوله ﵌: «على المرء المسلم السمع والطاعة فيما أحب وكره إلا أن يؤمر بمعصية، فإن
أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة» .
وظاهر ذلك أنهم وإن بلغوا في
الظلم إلى أعلى مرتبة، وفعلوا أعظم أنواعه مما لم يخرجوا به إلى الكفر البواح،
فإن طاعتهم واجبة، حيث لم يكن ما أمروا به من معصية الله.
ومن جملة ما
يأمرون به تولي الأعمال لهم والدخول في المناصب الدينية التي ليس الدخول فيها من
معصية الله.
ومن جملة ما يأمرون به الجهاد وأخذ الحقوق الواجبة من الرعايا
وإقامة الشريعة بين المتخاصمين منهم وإقامة الحدود على من وجبت عليه.
وبالجملة
فطاعتهم واجبة على كل من صار تحت أمرهم ونهيهم، فكل ما يأمرون به مما لم يكن من
معصية الله، ولا بد في مثل هذا من المخالطة لهم والدخول عليهم ونحو ذلك مما لا بد
منه، ولا محيص عن هذا الذي ذكرناه من وجوب طاعتهم بالقيود المذكورة لتواتر الأدلة
الواردة به بل وقد ورد به الكتاب العزيز: أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا
الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ [النساء: ٥٩]، بل ورد أنهم يعطون الذي
لهم من الإطاعة وإن منعوا ما هو عليهم للرعايا، كما في بعض الأحاديث الصحيحة:
«أعطوهم الذي لهم واسألوا الله الذي لكم» «١» .
بل ورد الأمر بطاعة السلطان
وبالغ في ذلك النبي ﵌ حتى قال: «وإن أخذ مالك وضرب ظهرك» «٢» .
وإن اعتبرنا
مطلق الميل والسكون، فمجرد هذه الطاعة المأمور بها مع ما يستلزمه من المخالطة عن
ميل وسكون، وإن اعتبرنا الميل والسكون ظاهرا وباطنا، فلا يتناول النهي في هذه
الآية من مال إليهم في الظاهر بأمر يقتضي ذلك شرعا، كالطاعة أو للتقيّة مخافة
الضرر منهم، أو لجلب مصلحة عامة أو خاصة، أو لدفع مفسدة عامة أو خاصة، إذا لم يكن
له ميل إليهم في الباطن ولا محبة ولا رضا بأفعالهم.
قلت: أما الطاعة على
عمومها لجميع أقسامها- حيث لم تكن في معصية الله- فهي على فرض صدق مسمى الركون
عليها مخصّصة لعموم النهي عنه، ولا شك في هذا
(١) حديث صحيح: رواه الباري
(٦/ ٦١٢)، (١٣/ ٥)، ومسلم (١٢/ ٢٣١، ٢٣٢) عن ابن مسعود مرفوعا نحوه.
(٢)
حديث صحيح: رواه مسلم (١٢/ ٢٣٧، ٢٣٨)، عن حذيفة مرفوعا.
ولا
ريب، فكل من أمروه ابتداء أن يدخل في شيء من الأعمال التي أمرها إليهم- مما لم
يكن من معصية الله كالمناصب الدينية ونحوها- إذا وثق من نفسه بالقيام إلى ما وكل
إليه فذلك واجب عليه، فضلا عن أن يقال جائز له.
وأما ما ورد من النهي عن
الدخول في الإمارة، فذلك مقيد بعدم وقوع الأمر ممن تجب طاعته من الأئمة والسلاطين
والأمراء، جمعا بين الأدلة أو مع ضعف المأمور عن القيام بما أمر به، كما ورد
تعليل النهي عن الدخول في الإمارة بذلك في بعض الأحاديث الصحيحة «١» .
وأما
مخالطتهم والدخول عليهم لجلب مصلحة عامة أو خاصة، أو دفع مفسدة عامة أو خاصة، مع
كراهة ما هم عليه من الظلم وعدم ميل النفس إليها، ومحبتها لهم، وكراهة الموصلة
لهم- لولا جلب تلك المصلحة، أو دفع تلك المفسدة- فعلى فرض صدق مسمى الركون على
هذا فهو مخصص بالأدلة الدالة على مشروعية جلب المصالح ودفع المفاسد، والأعمال
بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى، ولا تخفى على الله خافية.
وبالجملة: فمن
ابتلي بمخالطة من فيه ظلم، فعليه أن يزن أقواله وأفعاله وما يأتي وما يذر بميزان
الشرع، فإن زاغ عن ذلك فعلى نفسها براقش تجني، ومن قدر على الفرار منهم، قبل أن
يؤمر من جهتهم بأمر يجب عليه طاعته فهو الأولى والأليق به.
يا مالك يوم
الدين إياك نعبد وإياك نستعين، اجعلنا من عبادك الصالحين الآمرين بالمعروف
والناهين عن المنكر، الذين لا يخافون فيك لومة لائم وقوّنا على ذلك، ويسره لنا،
وأعنا عليه.
قال القرطبي في «تفسيره» «٢»: وصحبة الظالم على التقيّة مستثناه
من النهي بحال الاضطرار. انتهى.
وقال النيسابوري في «تفسيره» «٣»: قال
المحققون: الركون المنهي عنه هو الرضا بما عليه الظلمة، أو تحسين الطريقة
وتزيينها عند غيرهم ومشاركتهم في شيء من تلك
(١) حديث صحيح: ما رواه مسلم
(١٢/ ٢١٠) عن أبي ذر مرفوعا قوله ﵌: «لا تأمرن اثنين، ولا تولين مال يتيم» .
(٢)
انظره في (٩/ ١٠٨) .
(٣) المسمّى بالتيسير في عالم «التفسير» لعبد الملك بن
هوازن- طبع بدار الغرب- بيروت ٣ مجلدات.
الأبواب. فأما مداخلتهم
لدفع ضرر أو اجتلاب مصلحة عاجلة فغير داخلة في الركون.
قال: وأقول: هذا من
طريق المعاش والرخصة، ومقتضى التقوى هو الاجتناب عنهم بالكلية. أَلَيْسَ اللَّهُ
بِكافٍ عَبْدَهُ [الزمر: ٣٦] انتهى.
فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ: بسبب الركون
إليهم وفيه إشارة إلى أن الظلمة أهل النار أو كالنار، ومصاحبة النار توجب لا
محالة مس النار.