الفصل الثاني: مواقف الإمام الشافعي في التفسير

  

اسم الكتاب ـ تفسير الإمام الشافعي
المؤلف: الإمام الشافعي؛ محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان ابن شافع الهاشمي القرشي المطلبي، أبو عبد الله
 المحقق: أحمد مصطفى الفران
 حالة الفهرسة: مفهرس فهرسة كاملة
 سنة النشر: 1427 - 2006
 عدد المجلدات: 3
رقم الطبعة: 1
عدد الصفحات: 1529
نبذة عن الكتاب: - أصل هذا الكتاب رسالة دكتوراة من جامعة القرآن الكريم والدراسات الإسلامية بالخرطوم - تم دمج المجلدات في ملف واحد للتسلسل تاريخ إضافته: 04 / 11 / 2008

 فهرست الموضوعات

1. الفصل الثاني: مواقف الإمام الشافعي في التفسير
2. تمهید
3. المبحث الأول موقفه من الآيات المتعلقة بأصول الاعتقاد
1. مذهبه في الإيمان وردّه على المرجئة
2. مذهبه في أسماء الله وصفاته
3. مذهبه في الرد على المعتزلة في خلق القرآن
4. مذهبه في إثبات المشيئة الله
5. مذهبه في القدر وخلق أفعال العباد
6. مذهبه في إثبات الرؤية الله يوم القيامة
7. مذهبه في إثبات رؤية الجن
8. مذهبه في أهل الكلام والفرق الضالة
9. مذهبه في تفضيل النبي صلى الله عليه وسلم وما يتعلق في ذلك
10. مذهبه في الصحابة الكرام وما حصل بينهم
4. المبحث الثاني موقفه من آيات الأحكام
1. ملخص موقفه من آيات الأحكام
5. -المبحث الثالث موقفه من النسخ
1. قاعدته في النسخ
2. الأدلة على قاعدة النسخ
3. ملخص كلام الشافعي في النسخ
4. بيان السنة للناسخ والمنسوخ الوارد في القرآن
6. المبحث الرابع موقفه من الاستحسان
1. أدلة الشافعي على إبطال الاستحسان
2. الاستحسان المرفوض والمذموم عنده
3. تفسيره للقرآن بالاستحسان
7. العودة الي كتاب تفسير الإمام الشافعي

 

الفصل الثاني مواقف الإمام الشافعي في التفسير

 تمهيد
رغم أن تفسير الإمام الشافعي رحمه الله يتعلق غالبه بتفسير آيات الأحكام، إلا أننا نستطيع استخلاص مواقفه في أصول العقائد، بتفسير بعض الآيات المتعلقة بها مما يستدل على صحة اعتقاده رحمه الله تعالى، كيف لا وهو إمام من أئمة الهدى أهل السنة والجماعة يجب الاتباع ويكره الابتداع يلتزم بالكتاب والسنة، ويكره الخوض في الكلام وجدل الفلاسفة، يعشق الفقه وينبذ المراء والجدل العقيم يدافع عن أهل السنة، ويلتزم مذهبهم، ويمقت مخالفيهم ويبغضهم.
يسير الشافعي رحمه الله على مذهب أهل السنة والجماعة في حب النبي وآل بيته مذهب الاعتدال والإنصاف، ونراه يرد على من غالي بذلك أو انتقص أحداً من الصحابة الكرام، وسنتكلم عن مواقفه هذه بما ورد من آرائه وتفسيره، ومذهبه المتعلق بهذه الموضوعات وفق المباحث التالية:
۹۵
________________________________________

المبحث الأول موقف الإمام الشافعي: من الآيات المتعلقة في أصول الاعتقاد

 
المطلب الأول: مذهبه في الإيمان وما يتعلق به، والرد على المرجئة

  أخبرنا أبو عبد الله محمد بن عبد الله (الحافظ قال: حدثني الزبير بن عبدالواحد الحافظ (بأسَدَاباذ) حدثني يونس بن عبد الأحد قال: حدثنا الربيع بن سليمان قال: سمعت الشافعي الله يقول : الإيمان قول وعمل، ويزيد وينقص)). وأخبرنا أبو عبد الله الحسين بن محمد بن الحسين الدينوري (بالدامغان) قال: حدثنا ظفران بن الحسين قال حدثنا أبو محمد بن أبي حاتم الرازي قال: حدثنا أبي قال: حدثنا عبد الملك بن عبد الحميد الميموني، قال: حدثني أبو عثمان محمد بن محمد الشافعي قال: سمعت أبي (محمد بن إدريس الشافعي يقول ليلة للحميدي: ما يحتج عليهم - :يعني على أهل الإرجاء - أحَجٌ من قوله : ( وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلوةَ
وَيُؤْتُوا الزَّكَوةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ ) [البيئة: ٥] (٢) الآية.
(۱) مناقب الشافعي / للبيهقي ج / ١ ص ۳۸۵ ، والإمام الشافعي للدقر ص/ ٢٥٧، وقد نقل الطبري عن الإمام الشافعي أنه حكى الإجماع على ذلك، كما حكاه غيره من الأئمة، انظر مناقب الإمام الشافعي لابن كثير ص/ ١٩٤ ، رقم / ٢٢٣ .
(۲) انظر مناقب الشافعي / للبيهقي ج / ١ ص / ٣٨٦ و ٣٨٧ ، وآداب الشافعي و مناقبه للرازي ص/ ۱۹۱ وانظر مناقب الشافعي لابن كثير ص/ ١٩٢ و ١٩٣.
٩٦
________________________________________
وفي قول الربيع سمعت الشافعي يقول: (الإيمان قول وعمل، ويزيد وينقص ونستطيع أن نسوق ما يدل على هذا المعتقد، ودفاع الشافعي رحمه الله عنه، ما أورده حرملة بن يحيى حيث يقول: اجتمع حفص الفرد ومصلاق الإباضي عند الشافعي في دار (الجروي) يعني: بمصر، فاختصما في الإيمان، فاحتج مصلاق في الزيادة والنقصان واحتج حفص الفرد في أن الإيمان قول.
(1)
فعلا حفص على مصلاق وقوي عليه، وضعف مصلاق.
فحمي الشافعي، وتقلد المسألة على أن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص. فطحن حفصاً الفرد، وقطعه )
(۲)
أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، قال أخبرني أبو عبد الله (محمد بن إبراهيم المؤذن)، عن عبد الواحد بن محمد الأرغياني عن أبي محمد الزبيري قال: قال رجل للشافعي: أي الأعمال عند الله أفضل ؟ قال الشافعي: ما لا يقبل عملاً إلا به قال: وما ذاك؟ قال : الإيمان بالله الذي لا إله إلا هو، أعلى الأعمال درجة وأشرفها منزلة، وأسناها حظاً.
قال الرجل : ألا تخبرني عن الإيمان قول وعمل، أو قول بلا عمل؟ قال الشافعي: الإيمان عمل الله، والقول بعض ذلك العمل.
قال الرجل : صف لي ذلك
حتى
أفهمه.
(۱) ورد في مناقب الشافعي البيهقي أن اسمه مصلان الأنماطي، وهذا ما رجحه محقق كتاب /
آداب الشافعي، انظر ص / ۱۹۲ (الهامش)، برقم/ ۳
(۲) آداب الشافعي ومناقبه للرازي ص/ ۱۹۲ وانظر مناقب الشافعي للبيهقي ج/۱ ص / ۳۸۷
۹۷
________________________________________
قال الشافعي: إن الإيمان حالات ،وطبقات فمنها التام المنتهي تمامه والناقص البين نقصانه، والراجح الزائد رجحانه.
قال الرجل: وإن الإيمان ليتم وينقص ويزيد ؟ قال الشافعي: نعم. قال: وما الدليل على ذلك؟
قال الشافعي: إن الله جل ذكره فرض الإيمان على جوارح بني آدم، فقسمه فيها وفرقه عليها فليس من جوارحه جارحة إلا وقد وكلت من الإيمان بغير ما وكلت به أختها بفرض من الله تعالى.
(یداه)
(۱)
ومنها:
فمنها: (قلبه) (١) ... ومنها: (عيناه) (۲)، ومنها: (أذناه) (۳)، (٤) و (رجلاه) (٥)، (وفرجه) (٦) و (لسانه) و (رأسه أي الوجه
(V)
(۷)
- ثم ذكر الآيات المتعلقة بكل جارحة من جوارح الإنسان ومالها من الإيمان التي وكلت به - (۹) وقال : فذلك ما فرض الله على هذه الجوارح.
ويتابع الشافعي رحمه الله نقاشه قائلاً: وسمّى الطهور والصلوات إيماناً في كتابه، وذلك حين صرف الله تعالى وجه نبيه من التوجه بالصلاة إلى بيت
(۱) انظر تفسير الآيات / ١٠٦ - النحل، ۲۸ - الرعد ٤١ - المائدة، ۲۸٤ - البقرة، و ٣٦ - الإسراء (۲) انظر تفسير الآيتين ٣٠ و ٣١- النور، و٣٦- الإسراء.
(۳) انظر تفسير الآيات / ١٤٠ - النساء ۱۸ - الزمر، ٦٨ - الأنعام ، ٥٥-القصص، ٧٢- الفرقان،
١ - ٤ المؤمنون، ٣٦- الإسراء.
(٤) انظر تفسير الآيتين/ ٦ - المائدة، ٤ - محمد
(٥) انظر تفسير الآية / ٣٧- الإسراء. (٦) انظر تفسير الآيتين ٥ - المؤمنون، ۲۲- فصلت.
(۷) انظر تفسير الآيتين / ٨٣ و ١٣٦ - البقرة. (۸) انظر تفسير الآيتين / ۷۷ - الحج، ۱۸ - الجن. (۹) مناقب الشافعي للبيهقي، ج / ١ ، ص / ٣٨٧-٣٩٢.
۹۸
________________________________________
المقدس، وأمره بالصلاة إلى الكعبة. وكان المسلمون قد صلوا إلى بيت المقدس ستة عشر شهراً، فقالوا يا رسول أرأيت صلاتنا التي كنا نصليها إلى بيت المقدس، ما حالها وما حالنا؟ فأنزل الله تعالى: ﴿ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَنكُمْ إنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ ﴾ [البقرة: ١٤٣] الآية، فسمّى الله الصلاة إيماناً، فمن لقي الله حافظاً لصلواته، حافظاً لجوارحه، مؤدياً بكل جارحة من جوارحه
ما أمر الله به، وفرض عليه لقي الله مستكمل الإيمان من أهل الجنة، ومن لشيء منها تاركاً متعمداً مما أمر الله به، لقي الله ناقص الإيمان.
كان
قال - الرجل - وقد عرفت نقصانه وإتمامه فمن أين جاءت زيادته؟ قال الشافعي رحمه الله: قال الله جل ذكره: ( وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُم مِّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِمة إيمَناً فَأَمَّا الَّذِينَ ءَامَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَنًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَفِرُونَ } [التوبة: ١٢٤-١٢٥] الآيتان.
وقال: (إِنَّهُمْ فِتْيَةُ ءَامَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْتَهُمْ هُدًى ) [الكهف: ١٣] الآية. قال الشافعي رحمه الله : ولو كان هذا الإيمان كله واحداً لا نقصان فيه ولا زيادة، لم يكن لأحد فيه فضل واستوى الناس، وبطل التفضيل.
ولكن بتمام الإيمان دخل المؤمنون الجنة، وبالزيادة في الإيمان تفاضل المؤمنون في الدرجات عند الله بالجنة، وبالنقصان من الإيمان دخل المفرِّطُون النار.
وقال الشافعي رحمه الله: إن الله ل سابق بين عباده كما سوبق بين الخيل
يوم الرهان.
११
________________________________________
ثم إنهم على درجاتهم من سبق عليه فجعل كل امرئ على درجة سَبْقِه، لا ينقصه فيها حقه، ولا يُقدَّم مسبوق على سابق، ولا مفضول على فاضل. وبذلك فُضّل أول هذه الأمة على آخرها، ولو لم يكن لمن سبق إلى الإيمان فضل على من أبطأ عنه، لَلَحِق آخر هذه الأمة بأولها
(1)
وعند الشافعي أنه لا يحكم لأحد بالإيمان إلا بإقراره بالشهادتين، والتبرؤ مما خالف الإسلام من دين ويجب زيادة شرط ثالث وهو: الإقرار بالبعث بعد الموت وما أشبهه.
والدليل على ذلك حديث الجارية التي لطم وجهها معاوية بن الحكم، حيث قال لرسول الله : علي رقبة، أفأعتقها؟ فقال لها رسول الله : اين الله؟ قالت في السماء فقال: من أنا؟ فقالت أنت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فأعتقها الحديث. وزاد فيه غير الشافعي: «أعتقها فإنها مؤمنة ( الحديث.
(۲)
الله
بن عبد الله
وفي رواية الزعفراني عن الشافعي في القديم حديث عبيد ابن عتبة مرسلاً أن رجلاً من الأنصار جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بجارية له سوداء فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أتشهدين أن لا إله إلا الله؟ قالت: نعم. قال: أتشهدين أن محمداً رسول الله؟ قالت: نعم. قال: أتؤمنين بالبعث بعد الموت! قالت: نعم. فقال رسول الله : أعتقها ( الحديث .
60
(۳)
(۱) مناقب الشافعي / للبيهقي ، ج ١ ، ص / ٣٩٢ و ٣٩٣. (۲) انظر الأم، ج / ٥ ، ص / ٢٦٦ ، والحديث رواه مسلم ومالك في الموطأ، ج/ ٢، ص/ ٧٧٦، والسنن الكبرى للبيهقي، ج ۷، ص / ۳۸۸ ومناقب الشافعي / للبيهقي، ج ١، ص / ٣٩٤
و ٣٩٥، وسنن أبي داود ج/ ١-٣٣٦-٣٣٨.
(۳) الحديث رواه مالك في الموطأ ج / ۲-۷۷ والسنن الكبرى ج / ۷-۳۸۸، ومناقب الشافعي للبيهقي ، ج / ١ ص / ٣٩٥.
۱۰۰
________________________________________
ويقول البيهقي رحمه الله: - وفيما سبق من الحديثين - إشارة من الشافعي رحمه الله إلى أن الإيمان والإسلام اسمان لمسمى واحد إذا كانا حقيقة، أو كانا في اللسان دون العقيدة في حقن الدم، وإنما يفترقان إذا كان أحدهما حقيقة والآخر بمعنى: الاستسلام خوفاً من السيف.
قال الشافعي رحمه الله - في رواية الربيع - أخبر الله تعالى عن قوم من الأعراب، فقال: قَالَتِ الْأَعْرَابُ ءَامَنا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَئِكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا
يَدْخُلِ الْإِيمَن فِي قُلُوبِكُمْ ﴾ [الحجرات: (١٤) الآية، فأعلمه الله - تعالى - أنه لم يدخل الإيمان قلوبهم، وأنهم أظهروه وحقن به دمائهم (1).
(۱)

المطلب الثاني مذهبه في أسماء الله وصفاته
يجعل الإمام الشافعي رحمه الله الحلف باسم من أسماء الله تعالى كاليمين بالله تعالى، ومن حلف بشيء غير الله فلا كفارة عليه، ولا يقال في أسمائه وصفاته أنها ،أغيار وإنما يقال : أغيار لما يكون مخلوقاً.
وحق
قال الشافعي رحمه الله في رواية للبيهقي عن أبي سعيد وحده: فإنه قال: الله وعظمة الله وجلال الله، وقدرة الله يريد بهذا كله اليمين أولانية له فهي يمين فإن لم يرد به اليمين فليس بيمين ؛ لأنه يحتمل أن يكون وحق الله واجب على كل مسلم وقدرة الله ماضية عليه لا أنه يمين. وإنما يكون يميناً بأن لا ينوي شيئاً، أو بأن ينوى يميناً.
ويعلق البيهقي قائلاً: فجعل الشافعي هذه الألفاظ للذات، وبعضها لصفة الذات، حتى جعل الحلف بها يميناً عند إرادة اليمين بها ؛ وعند الإطلاق، وهو ؛ لأن الحق هو المتحقق وجوده، والعظمة والجلال معناهما إلى يرجع استحقاق الذات وإعظامه وإجلاله والقدرة من صفات الذات.
صحيح
(۱) مناقب الشافعي للبيهقي، ج ١، ص / ٣٩٤-٣٩٦.
۱۰۱
________________________________________
فإن أراد الحق الحقوق التي هي واجبة الله على كل مسلم فهي أغيار وهي العبادات التي أمره بها، واجتناب الفواحش التي نهى عنها، وهي من اكتساب العباد، وهي مخلوقة.
وإن أراد بالقدرة أيضاً ما قدره على عباده بقدرته فذلك خلقه، وهو غَيْر وإن أراد بالعظمة والجلال ما في ملكوت السماوات والأرض من آياته فهو مخلوق، والحلف بذلك يكون حلفاً بغير الله فلا يكون يميناً (۱).
يقول الربيع بن سليمان سمعت الشافعي يقول: مَنْ حلف باسم من أسماء الله فعليه كفارة ؛ لأن أسماءه غير مخلوقة. ومن حلف بالبيت والكعبة فلا كفارة عليه.
(۲)
قال يونس بن عبد الأعلى سمعت الشافعي رحمه الله يقول: إذا سمعت الرجل يقول : الاسم غير المسمى. فاشهد عليه بالزندقة وحكى المزني عن الشافعي أنه قال بقوله : ( إِلَّا لِتَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ ) [البقرة: ١٤٣] الآية، وعِلْمُ الله كان، قبل اتباعهم وبعده سواء.
 

المطلب الثالث: الرد على المعتزلة في خلق القرآن أو هل كلام الله مخلوق أم غير مخلوق) ؟!
يعتقد الشافعي رحمه الله بأن القرآن كلام الله تعالى غير مخلوق (۳)، ونجد ذلك في مناظرة الشافعي لحفص الفرد والحكم عليه بالكفر لقوله: إن القرآن مخلوق.
(۱) مناقب الشافعي / للبيهقي ج ١ ص / ٤٠٤ و ٤٠٥ .
(۲) مناقب الشافعي للبيهقي ج ١ ص ٤٠٥ .
(۳) مناقب الشافعي / للبيهقي ج / ١ ص / ٤٠٧ ، وانظر مناقب الشافعي لابن كثير ص/
۱۸۹ وآداب الشافعي للرازي ص/ ١٩٤.
۱۰۲
________________________________________
أخبرنا أبو عبد الرحمن السلمي، قال: سمعت عبد الله بن محمد بن علي بن
زياد يقول : سمعت محمد بن إسحاق بن خزيمة يقول : سمعت الربيع يقول: لما كلّم الشافعي رحمه الله حفص الفرد، فقال حفص القرآن مخلوق، قال الشافعي: كفرت بالله العظيم
(1)
في رواية عن الربيع قال : حضرت الشافعي، أو حدثني أبو شعيب، إلا أني أعلم أنه حضر عبد الله بن عبد الحكم، ويوسف بن عمرو بن يزيد، وحفص
بن
الفرد - وكان الشافعي يسميه حفص المنفرد - فسأل حفص عبد الله عبدالحكم فقال: ما تقول في القرآن؟ فأبى أن يجيبه، فسأل يونس بن عمرو بن يزيد فلم يجبه وكلاهما أشار إلى الشافعي فسأل الشافعي فاحتج عليه الشافعي، وطالت فيه المناظرة فأقام الشافعي الحجة عليه بأن القرآن كلام الله غير مخلوق. وكفر حفصاً الفرد.
قال الربيع : فلقيت حفصاً الفرد في المجلس بعد، فقال: أراد الشافعي قتلي
(۲)
أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، قال أخبرني أبو عبد الله (محمد بن إبراهيم المؤذن)، عن عبد الواحد بن محمد الأرغياني عن أبي محمد الزبيري قال: قال رجل للشافعي: أخبرني عن القرآن، خالق هو ؟ قال الشافعي: اللهم لا. قال: فمخلوق؟ قال الشافعي: اللهم لا . قال فغير مخلوق؟ قال الشافعي: اللهم نعم. قال: فما الدليل على أنه غير مخلوق؟ فرفع رأسه - الشافعي - وقال: تقر بأن القرآن كلام الله؟ قال: نعم.
(۱) مناقب الشافعي للبيهقي ج / ١ / ٤٠٧ ، وانظر مناقب الشافعي لابن كثير ص/ ۱۸۸ و ۱۸۹ بروايتين، وزاد بعد الرواية الثانية قول الشافعي: (ما لقيت أحداً منهم - يعني:
من أستاذيه - إلا قال: من قال القرآن ،مخلوق فهو كافر) ، والمراد بأستاذيه: مالك وسفيان.
(۲) آداب الشافعي للرازي ص / ١٩٤ و ۱۹٥ ، وانظر توالي التأسيس لابن حجر ص/ ۸۲
________________________________________
قال الشافعي: سُقْت في هذه الكلمة قال الله تعالى ذكره: ( وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَمَ اللَّهِ ) [التوبة: ٦] الآية. وقال: ( وَكَلَّمَ
اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا ) [النساء: ١٦٤] الآية.
قال الشافعي: فتقر بأن الله كان وكان كلامه؟ أو كان الله، ولم يكن كلامه؟!
فقال الرجل : بل كان الله وكان كلامه.
قال: فتبسم الشافعي رحمه الله :وقال يا كوفيون إنكم لتأتون بعظيم من القول، إذ كنتم تُقِرُّون بأن الله كان قبل القبل وكان كلامه، فمن أين لكم الكلام إن الكلام الله، أو سوى الله، أو غير الله، أو دون الله؟ قال: فسكت
(1)
الرجل وخرج أخبرني أبو سعيد بن أبي عمرو قال حدثنا أبو العباس الأصم، قال: حدثنا الربيع، قال: قال الشافعي رحمه الله يعني في مسألة ذكرها فيمن حلف لا يكلم رجلاً فأرسل إليه رسولاً:
-۱- فمن قال: يحنث، ذهب إلى أن الله تعالى قال: ﴿ وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيا أَوْ مِن وَرَآيِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ، مَا يَشَاءُ ) [الشورى: ٥١] الآية، وقال: إن الله تعالى يقول للمؤمنين في المنافقين: ( قُل لَّا تَعْتَذِرُوا لَن تُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ ) [التوبة: ٩٤] الآية، وإنما نبأهم من أخبارهم بالوحي الذي ينزل به جبریل علیه السلام على النبي ، ويخبرهم
النبي
الله.
(۱) مناقب الشافعي للبيهقي ج ١ ص / ٤٠٩,٤٠٨
________________________________________
٢- ومن قال: لا يحنث قال: إن كلام الآدميين لا يشبه كلام الله : كلام الآدميين بالمواجهة ألا ترى أنه لو هجر رجل رجلاً كانت الهجرة محرمة عليه فوق ثلاث ليال وكتب إليه أو أرسل إليه، وهو يقدر على كلامه، لم يخرجه هذا من هجرته التي يأثم بها؟ فسمى الشافعي رحمه الله : على القولين جميعاً، إخبار الله بالوحي الذي نزل به جبريل عليه السلام على النبي ، وأخبر الله به النبي تكليم الله عباده المؤمنين.
حي من
الله،
فالمؤمن يسمع كلام الله ع من صاحب الرسالة، ويحفظه ويتلوه،
ويكتبه، ويكون المسموع، والمحفوظ ، والمتلو، والمكتوب كلام الله (۱). ويوضح الشافعي أصل الاختلاف بينه وبين من قالوا بخلق كلام الله تعالى - ومنهم: إبراهيم بن إسماعيل بن عَلِيَّة - فيقول أنا مخالف له في كل شيء، وفي قوله: (لا إله إلا الله) لست أقول كما يقول أنا أقول: لا إله إلا الله كلم موسى من وراء حجاب، وذاك يقول: الذي خلق كلاماً أَسْمَعَه موسى من وراء حجاب
 

المطلب الرابع: مذهبه في إثبات المشيئة لله تعالي
(۲)
يثبت الشافعي أن المشيئة هي إرادة الله تعالى وأنها له دون خلقه، وأن مشيئة خلقه مرتبطة بمشيئته سبحانه وتعالى ونجد ذلك في تفسيره لقول الله : ( وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللهُ ) [الإنسان : ۳۰ (۳) الآية، فأعلم الله خلقه أن المشيئة له دون خلقه، وأن مشيئتهم لا تكون إلا أن يشاء، والمشيئة إرادة الله .
(۱) مناقب الشافعي للبيهقي، ج ١، ص / ٤٠٨ و ٤٠٩.
(۲) مناقب الشافعي للبيهقي، ج / ١، ص / ٤٠٩ .
(۳) انظر مناقب الشافعي / للبيهقي ج / ١ ، ص / ٤١٢ و ٤٥٢ و ٤٥٣ .
۱۰۵
________________________________________
وقال الشافعي فيما ينقله البيهقي عنه من رواية الربيع: إن مشيئة العباد هي إلى الله تعالى ولا يشاؤون إلا أن يشاء الله رب العالمين ؛ فإن الناس لم
يخلقوا أعمالهم وهي خلق من خلق الله تعالى أفعال العباد.

المطلب الخامس: مذهبه في القضاء والقدر، وخلق الأفعال
كان الشافعي يكره الصلاة خلف القَدَري، ويعتبرهم مجوس هذه الأمة، وأن القدر خيره وشره من الله تعالى. يروي الربيع بن سليمان عن الشافعي أنه كان يكره الصلاة خلف القَدَرِي.
>>
:
:
وروى المزني قال سمعت الشافعي يقول : القدرية: الذين قال رسول الله الأمة)(۱) هم مجوس هذه الأمة (۱) الحديث.
أخبرنا يحيى بن إبراهيم بن محمد بن يحيى قال: حدثنا الزبير بن عبدالواحد قال حدثني حمزة بن علي العطار قال: حدثنا الربيع قال: سُئِل الشافعي عن القدر، فقال:
و
(۲)
و (٣) ما شئت كان وإن لم أشأ وما شئت إن لم تشأ لم يكن خلقت العباد على ما علمت ففي العلم يمضي الفتى والمسن على ذا مننت وهذا خذلت وهذا أعنت وذا لم تعن
فمنهم شقي ومنهم سعيد ومنهم قبيح ومنهم حسن
(۳)
(۱) الحديث منقطع ضعيف، أخرجه أحمد في المسند ج/ ٨-٤-٦ من حديث ابن عمر، وأخرجه الحاكم في المستدرك وقد رد ابن حجر على من زعم أن هذا الحديث موضوع واعتبره
صحيحاً على شرط مسلم لأن أبي حازم عاصر ابن عمر ويكتفي مسلم بالمعاصرة. (۲) وردت في الديوان وفي المناقب ما شئت كان والأضبط وما شئت كان لأن البحر من المتقارب، وقد وردت برواية: فما شئت كذلك.
(۳) مناقب الشافعي / للبيهقي ج / ۱ ص / ٤١٢ و ٤١٣ ، وانظر مناقب الشافعي لابن كثير ص/ ١٩١
1.7
________________________________________
ورُوي عن المزني أنه قال: قال لي الشافعي تدري من القدري؟ القدري الذي يقول: إن الله ل لم يخلق الشر حتى عُمِل به
الشر
(1)
يقول البيهقي معلقاً على هذه الرواية وفي هذا دليل على أنه كان يرى خلقاً من خلق الله ل وكسباً من كسب مَنْ عمل به، وكان يرى
الاستطاعة في العمل.
وذكر الربيع عن الشافعي قوله في تفسير قول الله تعالى: (وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِى مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ) [يونس: ٢٥] الآية، فهدى بكتابه، ثم على لسان نبيه ، من أنعم عليه، يعني: من أنعم عليه بالسعادة والتوفيق للطاعة دون من حُرمها، فبين بهذا أن الدعوة عامة، والهداية - التي هي: التوفيق للطاعة والعصمة من المعصية – خاصة
.
(۲)

المطلب السادس مذهبه في إثبات الرؤية
يقرر الشافعي رحمه الله أن رؤية الله يوم القيامة حق، كما قرره الله ورسوله لعباد الله وأوليائه في الجنة.
قال الربيع: سمعت الشافعي يقول في قول الله : ( كَلَّا إِنَّهُمْ عَن بِّهِمْ يَوْمَئِذٍ مَحْجُوبُونَ ﴾ [المطففين: ١٥] الآية، علمنا أن قوماً غير محجوبين ينظرون
إليه، لا يُضامُون في رؤيته، كما جاء عن النبي أنه قال: «ترون ربكم كما
(۳)
ترون الشمس لا تضامون في رؤيتها ) الحديث.
(۱) مناقب الشافعي للبيهقي ج ١ ص / ٤١٤ (۲) مناقب الشافعي للبيهقي، ج / ١ ، ص / ٤١٥ .
6
(۳) الحديث صحيح رواه البخاري ومسلم وذكر الغماري في إتحاف ذوي الفضائل المشتهرة بأنه حديث رواه تسعة وعشرون صحابياً، مما يجعل حديث الرؤية من الأحاديث المتواترة، وانظر
مناقب الشافعي لابن كثير، ص / ۱۹۰) المتن والهامش).
۱۰۷
________________________________________
وفي رواية ثانية عن الربيع أنه قال: كنت ذات يوم عند الشافعي رحمه الله وجاءه كتاب من الصعيد يسألونه عن قول الله جل ذكره: ( كَلَّا إِنَّهُمْ عَن مِّهِمْ يَوْمَبِذٍ مَحْجُوبُونَ ﴾ [المطففين: ١٥] الآية، فكتب فيه لما حجب قوماً بالسخط، دل على أن قوماً يرونه بالرضا.
قال الربيع قلت له أو تدين بهذا يا سيدي؟ فقال: والله لو لم يوقن محمد بن إدريس أنه يرى ربّه في المعاد لما عبده في الدنيا
حدثنا سعيد بن
(1)
أسد قال : قلت :للشافعي ما تقول في حديث الرؤية؟ فقال
لي: يا ابن أسد اقض علي حييت أو مت أن كل حديث صح عن رسول الله
فإني أقول به، وإن لم يبلغني
(۲)
وفي رواية المزني يقول: سمعت ابن هَرم القرشي (يعني إبراهيم بن محمد بن هرم - وكان من عِلْيّةِ أصحاب الشافعي يقول: سمعت الشافعي يقول في قول الله : ( كَلَّا إِنَّهُمْ عَن هِمْ يَوْمَبِذٍ مَحْجُوبُونَ ﴾ [المطففين: ١٥] الآية، فلما
عل.
أحجبهم في السخط كان في هذا دليل على أنهم يرونه في الرضا. فقال له أبو النجم القزويني: يا أبا إبراهيم (يعني المزني)، وبه تقول ؟ قال: نعم، وبه أدين
الله عل
(۳)
(۱) مناقب الشافعي للبيهقي، ج / ١ ، ص / ٤١٩ . (۲) مناقب الشافعي للبيهقي، ج / ١، ص / ٤٢١ .
(۳) مناقب الشافعي للبيهقي، ج / ١ ، ص / ٤٢٠ ، وانظر مناقب الشافعي لابن كثير ص/ ١٩٠
و ۱۹۱.
۱۰۸
________________________________________

المطلب السابع : مذهبه في رؤية الجن
كان الشافعي رحمه الله يقول : (من زعم من أهل العدالة أنه يرى الجن، أبطلنا شهادته يقول تعالى: ( إِنَّهُ يَرَنكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْهُمْ )
[الأعراف: ۲۷] الآية، إلا أن يكون نبياً) (1) .
من
 

المطلب الثامن: مذهبه في أهل الكلام والفرق الضالة
همة الشافعي كانت متجهة إلى الكتاب والسنة وفقههما، وما يتعلق بها اللغة ،وغيرها مما يحتاج إليه الفقيه وكان يكره الكلام، وينفر من مجالسة المتكلمين، بل لا يحب أن يسمع مقالاتهم، ولكننا نجد له مواقف في الرد على بعض هؤلاء المتكلمين وقد سبق أن ذكرنا نماذج من ذلك
ولنذكر هنا طرفاً من أقواله في هؤلاء المتكلمين:
(۲)
يقول الحسين بن علي الكرابيسي: قال الشافعي رحمه الله: (كل متكلم من الكتاب والسنة فهو الحق، وما سواهما هذيان
(۳)
وقال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله : كان الشافعي إذا ثبت عنده الحديث قلده، وغير خصاله لم يكن يشتهي الكلام، إنما همته الفقه)
(٤)
(۱) الإمام الشافعي / للدقر ، ص / ٢٦٧ .
(۲) انظر المبحث الثاني: (مذهبه في القضاء والقدر ... ) ، والمبحث الثالث: (مذهبه في مسألة خلق القرآن والرد على المعتزلة والمبحث السادس: إثبات الرؤية).
(۳) الإمام الشافعي / للدقر، ص / ٢٤٧.
(٤) مناقب الشافعي لابن كثير، ص / ١٨٥ .
1.9
________________________________________
وقال ابن أبي حاتم سمعت الربيع :قال أخبرني من سمع الشافعي يقول: (لأن يلقى الله المرء بكل ذنب - خلا الشرك بالله تبارك وتعالى - خيراً له على من أن يلقاه بشيء من الأهواء)
(۱)
وقال محمد بن عبد الله بن عبد الحكم سمعت الشافعي يقول: لو علم الناس ما في الكلام في الأهواء، لفرُّوا منه، كما يُفَرُّ من الأسد) (۲)
أما حكم الشافعي في أهل الأهواء فهو كما نقله غير واحد عنه: (حكمي في أهل الكلام أن يضربوا بالجريد ويطاف بهم في العشائر والقبائل، ويقال: هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة، وأخذ في الكلام
(۳)
ونقل أبو تميم بن عدي وغيره قال داود بن سليمان، عن الحسين بن علي، سمع الشافعي يقول : حُكْمِي في أهل الكلام حكم عمر في صبيغ
(٤)
ويذكر الربيع شهادة الشافعي عن الرافضة فيقول : سمعت الشافعي يقول:
ما رأيت قوماً أشهد للزور من الرافضة) (٥) .
(۱) مناقب الشافعي للبيهقي، ص / ٤٥٢ ، وفي رواية بشيء من الهوى، وانظر مناقب الشافعي لابن كثير ص/ ١٨٥ .
(۲) مناقب الشافعي لابن كثير، ص / ١٨٦ ، وانظر آداب الشافعي، ص/ ۱۸۲ وقد زاد فيها: ولقد اطلعت من أصحاب الكلام على شيء ما ظننت أن مسلماً يقول ذلك.
(۳) الإمام الشافعي / للدقر ص / ٢٤٩
(٤) مناقب الشافعي لابن كثير ص/ ١٨٦ و ١٨٧ ، وصبيغ هذا جاء يسأل عن متشابه القرآن زمن الخليفة عمر ، فضربه حتى أدمى رأسه ويقال: مائة سوط، وكرر الضرب مرتين، وفي الثالثة قال صبيغ : حسبك يا أمير المؤمنين، قد ذهب ما كنت أجده في رأسي، ثم نفاه - إلى
البصرة - (٥) آداب الشافعي ومناقبه ص/ ۱۸۹، وسميت الرافضة بهذا الاسم، لأنهم رفضوا متابعة زيد ابن علي في احترامه للشيخين وعدم سبهما ، أو لرفضهم ،إمامتهما، وتقديمها الإمام علي بن
أبي
طالب في الخلافة عليهما.
۱۱۰
________________________________________

المطلب التاسع : مذهبه في تفضيل النبي على جميع الخلق وما يتعلق به
١- يعتقد الشافعي رحمه الله بأن محمداً خيرة الله المصطفى لوحيه، المنتخب لرسالته المفضل على جميع خلقه، بفتح رحمته، وختم نبوته، وأعم ما أرسل به مُرسل ،قبله، المرفوع ذكره مع ذكرهِ في الأولى، والشافع المشفع في الأخرى، أفضل خلقه نفساً، وأجمعهم لكل خُلُقٍ رضية في دين ودنيا، وخيرهم نسباً وداراً: محمداً عبده ورسوله .
وعرَّفنا وخلقه نعمه الخاصة العامة النفع في الدين والدنيا، فقال: ( لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ ) [التوبة: ۱۲۸] الآية.
قال الشافعي رحمه الله : أخبرنا ابن عيينة، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: ( وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ ) [الشرح: ٤] الآية، قال: لا أذكرُ إلا ذكرت معي: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله - يعني: والله أعلم -: ذكره عند الإيمان بالله والأذان ويحتمل ذكره عند تلاوة الكتاب، وعند العمل بالطاعة، والوقوف عن المعصية
—
(1)
- وكان الشافعي يحب الإكثار من الصلاة والسلام على يعتبره من مكملات تسميته على الذبيحة.
نبيه
بل
قال الشافعي رحمه الله : والتسمية على الذبيحة باسم الله، فإذا زاد على ذلك شيئاً من ذكر الله فالزيادة خير، ولا أكره مع التسمية على الذبيحة، أن يقول : صلى الله على رسول الله، بل أحبه له، وأحب له أن يكثر الصلاة عليه،
(۱) الرسالة الفقرات / ٢٧ - ٢ ص / ۱۲ و ۱۳ والفقرتان/ ٣٧ و ٣٨ ص / ١٦ .
۱۱۱
________________________________________
فصلى الله عليه في كل الحالات ؛ لأن ذكر الله والصلاة عليه إيمان بالله تعالى، وعبادة له يُؤجر عليها، إن شاء الله تعالى لمن قالها
(1)
حتى إنه يقول : ولقد خشيت أن يكون الشيطان أدخل على بعض أهل الجهالة، النهي عن ذكر اسم رسول الله عند الذبيحة ؛ ليمنعهم الصلاة عليه في حال لمعنى يَعْرِضُ في قلوب أهل الغفلة، وما يصلي عليه أحد إلا إيماناً بالله تعالى، وإعظاماً له، وتقرباً إليه ، وقربنا بالصلاة عليه منه زُلْفَى
(۲)
-٣- أخبرنا أبو سعيد بن أبي عمرو قال: حدثنا أبو العباس الأصم قال: حدثنا الربيع بن سليمان قال أخبرنا الشافعي رحمه الله قال: قال الله سبحانه النبيه : (قُلْ مَا كُنتُ بِدْءًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِى مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ ) [الأحقاف: ٩] الآية، ثم أنزل الله على نبيه ، أن غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، يعني: قول الله : ( إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ ) [الفتح: ۱-۲] الآيتان، يعني - والله أعلم -: ما تقدم من ذنبه قبل الوحي، وما تأخر أن يعصمه فلا ذنب له فعلم ما يفعل به من رضاه عنه، وأنه أول شافع، وأول مشفّع يوم القيامة، وسيد الخلائق
(۳)
٤- روى الحسين بن علي ( يعني الكرابيسي)، قال: سمعت الشافعي يقول : يكره للرجل أن يقول : قال الرسول ولكن يقول: قال رسول الله ، تعظيماً له.
(1) الأم ج ۲ ص / ۲۳۹ ، وانظر مناقب الشافعي للبيهقي، ج/ ١، ص / ٣٨٦. (۲) الأم، ج ۲، ص / ٢٤٠ ، وانظر مناقب الشافعي / للبيهقي ج ١ ص / ٣٨٦ مع تقديم
وتأخير في نص الأم.
(۳) مناقب الشافعي للبيهقي، ج/ ١، ص / ٤٢٤ .
۱۱۲
________________________________________
من يوجب
وقال البيهقي: قال المزني، فيما بلغني عنه: ما رأيت من العلماء للنبي في كتبه ما يوجبه الشافعي ؛ لحسن ذكره رسول الله . رحمة الله عليه
وه
龋
(1)
وحدث عمرو بن سواد السرحي قال: سمعت محمد بن إدريس الشافعي
يقول: ما أعطى الله نبياً قط شيئاً، إلا وقد أعطى محمداً أكثر.
قال عمرو فقلت له قد أعطى الله عيسى أكثر منه أن يحيى الموتى.
قال الشافعي: فالجدْعُ الذي كان يخطب إلى جنبه قبل أن يجعل له المنبر حين حن إلى النبي ؟! يعني: فهو أكثر من ذلك
(۲)

المطلب :العاشر مذهبه في الصحابة الكرام وما يتعلق بذلك
ذكرنا في الفصل الأول من هذا الباب مبحثاً خاصاً عن تفسير الشافعي للقرآن بأقوال الصحابة الكرام وهنا نود أن نضيف آراءه في جملة الصحابة، وتفضيله الخلفاء الراشدين وما ورد عنه بشأن الفتنة التي حصلت زمن الصحابة رضوان الله عليهم.
أولاً: فنراه في الجملة يثني ثناءً عظيماً على الصحابة الكرام، فهذا البيهقي
يقول: قرأت في كتاب الرسالة القديمة - رواية الحسن بن محمد الزعفراني
-
عن الشافعي رحمه الله أنه قال: وقد أثنى الله تبارك وتعالى، على أصحاب رسول الله في القرآن والتوراة والإنجيل، وسبق لهم على لسان رسوله ، من
(۱) مناقب الشافعي للبيهقي، ج / ١ ، ص / ٤٢٥ . (۲) مناقب الشافعي للبيهقي ج/ ١، ص / ٤٢٦ .
۱۱۳
________________________________________
الفضل ما ليس لأحد بعدهم، فرحمهم الله وهنأهم بما آتاهم من
أعلى منازل الصديقين والشهداء والصالحين
(1)
ذلك، ببلوغ
ثانياً: يقرر أن الخلفاء الراشدين هم أفضل الصحابة على الترتيب لهم بالخلافة، ويصرح بأكثر من رواية وردت عنه في تفاضلهم.
يقول الربيع بن سليمان: سمعت الشافعي يقول في الخلافة التفضيل يبدأ بأبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم
(۳)
(۲)
ويقول محمد بن عبد الله بن عبد الحكم سمعت محمد بن إدريس الشافعي يقول : أفضل الناس بعد رسول الله ، أبو بكر ثم عمر ثم عثمان، ثم علي رضي الله عنهم يقول داود بن علي الأصبهاني: سمعت أبا ثور يقول: سمعت الشافعي يقول: (ما اختلف أحد من الصحابة والتابعين من تفضيل أبي بكر وعمر رضي الله عنهما وتقديمهما على جميع الصحابة، وإنما اختلف من اختلف منهم في علي وعثمان منهم من قدم علياً على عثمان ومنهم من قدم عثمان على علي، ونحن لا نخطئ أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما فعلوا)
(٤)
وروى محمد بن عبد الله بن عبد الحكم قال: سمعت الشافعي يقول: ما أرى أن الناس ابتُلُوا بشتم أصحاب رسول الله ، إلا ليزيدهم الله - أي: للصحابة الكرام - ثواباً بذلك عند انقطاع عملهم.
(۱) مناقب الشافعي / للبيهقي ج ١ ص / ٤٤٢ ، وكأنه يشير إلى الآية رقم ٢٩ من سورة الفتح فانظر تفسيرها.
(۲) مناقب الشافعي / للبيهقي ج / ١ ص / ٤٣٢ و ٤٣٣ ، وانظر مناقب الشافعي لابن كثير، ص / ١٩٤. (۳) مناقب الشافعي للبيهقي ج / ١ ص / ٤٣٢ - ٤٣٣ وانظر مناقب الشافعي لابن كثير
۱۸۰
ص / ١٨٠ .
(۳) مناقب الشافعي / للبيهقي ج ١ ص / ٤٣٤
١١٤
________________________________________
(1)
وفي رواية الربيع بزيادة: إلا ليجري الله جل لهم الحسنات وهم أموات . ويستحسن بنا أن ننقل هذه الأبيات برواية الربيع بن سليمان، فيقول سمعت الشافعي ينشد:
شهدت بأن الله لا شيء غيره وأشهد أن البعث حق وأخلص وأن عُرى الإيمان قول محسن وفعل زكي قد يزيد وينقص وأن أبا بكر خليفة أحمد وكان أبو حفص على الخير يحرص وأشهد ربي أن عثمان فاضل وأن علياً فضله متخصص أئمة قوم يقتدى بفعالهم الله من إياهم يتنقص
فما لِغُوَاةٍ يشتمون سفاهة وما لسفيه لا يجاب فيحرص ويعتبر الشافعي أن الخلفاء الراشدين خمسة، بإضافة عمر بن عبد العزيز إلى الخلفاء الراشدين الأربعة.
قال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا حرملة بن يحيى قال: سمعت الشافعي يقول : الخلفاء خمسة أبو بكر وعمر وعثمان، وعلي، وعمر بن
الله عبدالعزيز رضي
عنهم
(۳)
(۱) مناقب الشافعي / للبيهقي ج ١ ص / ٤٤١
(۲) مناقب الشافعي / للبيهقي ج ١ ص / ٤٤٠ و ٤٤١ ، وانظر مناقب الشافعي لابن كثير ص/ ۱۹۷ مع تغير ببعض الألفاظ في الأبيات دون الإخلال بالمعنى.
(۳) آداب الشافعي للرازي ص ۱۸۹ ، وانظر مناقب الشافعي لابن كثير ص/ ١٩٤، وهذا رأي سفيان الثوري حيث نقل عنه الأمراء خمسة .. ومن سواهم فهو مبتز أي سالبون للحكم ،معتدون وإنما زاد الخليفة الخامس عمر بن عبد العزيز لما يرى من حسن سيرته وأخذه الحكم بطريقة الخلافة الراشدة، وهذا مذهب أهل السنة والجماعة.
________________________________________
يأتي
بعد الخلفاء الراشدين الأربعة بقية العشرة المبشرين بالجنة، ثم المهاجرون الأولون ثم الأنصار ، ثم من أسلم قبل الفتح، ثم من أسلم بعد
الفتح حتى وفاة النبي صلى الله عليه وسلم
(1)
ثالثاً: رأيه في الفتنة أن كلاً من الطائفتين مؤمنتان، ونجد ذلك في تفسيره لهذه الآية: ﴿ وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا ... ) إلى قوله:
بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ) [الحجرات: ٩] الآية، يقول الشافعي في تفسيرها فذكر الله تعالى اقتتال الطائفتين والطائفتان الممتنعتان: الجماعتان كل واحدة تمتنع أشد الامتناع أو أضعف إذا لزمهما اسم الامتناع، وسماهم الله : الْمُؤْمِنِينَ ) الآية، وأمر بالإصلاح بينهم.. وأمر الله تعالى بقتال الباغية، وهي مسماة باسم الإيمان حتى تفى إلى أمر الله، فإذا فاءت لم يكن لأحد قتالها (٢).
ويلخص الإمام البيهقي معتقد الشافعي في مسألة الفتنة فيقول: وفي كل هذا دلالة على أن الشافعي رحمه الله كان يعتقد في (علي) ه أنه كان محقاً في قتاله مَنْ خرج عليه، وأن معاوية) ومن قاتله لم يخرجوا بالبغي من الإيمان ؛ لأن الله تعالى سمّى الطائفتين جميعاً مؤمنين والآية عامة.
وجرى عليه في قتالهم مجرى قتال الإمام العادل من خرج من طاعته من المؤمنين وسار بسيرتهم في قتالهم وقصد به حملهم على الرجوع إلى الطاعة كما قال الله تعالى: ﴿ فَقَتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ ﴾ [الحجرات: ٩] الآية. ويقول في موضع آخر وقد روينا في كتاب فضائل الصحابة توبة من أصحاب النبي ( يوم الجمل ) وروينا اعتراف (معاوية) بذنوبه من
قاتل علياً
(۱) انظر مناقب الشافعي للبيهقي ج ١ ص / ٤٤٣و ٤٤٤ . (۲) مناقب الشافعي للبيهقي ج ١ ص / ٤٤٥ و ٤٤٦ .
١١٦
________________________________________
في قصة المسور بن مَحْرَمَة، وأنه يرجو النجاة بكلمة الشهادة، وما يقيمه من حدود، وقتال المشركين مع صحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم - والله أعلم
ونقل يونس بن عبد الأعلى قال: سمعت الشافعي يقول: سئل عمر بن عبد العزيز عن أهل صفين؟ فقال: تلك دماء طهر الله منها يدي، فلا أحب أن أخضب لساني بها.
ويعلق البيهقي على ذلك بقوله : وهذا رأي حسن جميل من عمر بن عبد العزيز ، في السكوت عما لا يعنيه إذا لم يحتج إلى قول فيه. فأما من احتاج إلى تعلم السيرة في قتال الفئة الباغية، فلا بد له من متابعة علي بن أبي طالب
وسيرته في قتالهم كما فعل الشافعي رحمه الله في كتاب (قتال أهل البغي)
(1)
(۱) مناقب الشافعي للبيهقي ج / ١ ص / ٤٤٨ و ٤٤٩ ، وهنا كان احتجاج الشافعي رحمه الله في کتابه قتال أهل البغي يحتج بفعل علي بن أبي طالب الله في قتال البغاة من أول الكتاب إلى
آخره، انظر مناقب الشافعي، ج ١، ص / ٤٥١ .
۱۱۷
________________________________________

=
المبحث الثاني موقف الإمام الشافعى من آيات الأحكام
إذا استقر أنا تفسير الإمام الشافعي، نجد أن معظمه يتعلق بالآيات الكريمة التي تتضمن أحكام التشريع الإسلامي، لذا نجد الإمام البيهقي صنف كتاب أحكام القرآن استناداً لأبواب الفقه الإسلامي، دون النظر إلى تصنيفها على طريقة التفسير، ولهذا فقد فاتته آيات كثيرة، لم يذكرها تزيد على الأربعمائة آية، وقد وردت في كتب الرسالة والأم، واختلاف الحديث، وجماع العلم، والسنة المأثورة والمسند ،والمناقب، وتوالي التأسيس وغيرها مما اعتمدنا الأخذ منه، والاعتماد في النقل عليه.
 

وملخص موقف الشافعي من آيات الأحكام بالنقاط التالية:
-۱ نرى الشافعي يستفيض في تفسيره آيات الأحكام، لما ينبني عليها من قواعد أصولية، وأحكام فقهية وما يتفرع عنهما من مسائل.
-
ونراه يستنبط الأحكام المتنوعة من الآية وترد في مواضع كثيرة من كتبه، وقد تجد استنباطات من الآية لا تخطر على بال طالب العلم، ولا أبالغ إذا قلت على بال أكثر العلماء.
-۳ ونجد أن أكثر السور والآيات التي تم التفريع عليها في التفسير، كانت مما يتعلق بالأحكام الفقهية الواردة في سور القرآن الكريم مثل: (البقرة، والنساء والتوبة والمائدة، والأنعام وآل عمران، والنور، والأحزاب،
۱۱۸
________________________________________
والأعراف، والنحل، والإسراء، والشعراء، وهود، والأنفال، والحج،
(۱)
والأنبياء) (1).
دَعمَ تفسيره غالباً بما ورد في السنة لهذه الأحكام إذا وجد، واجتهد في الفروع التي لا يوجد فيها نص.
لا حاجة إلى ذكر نماذج من ذلك ؛ لأن التفسير كما قلت أغلبه في آيات
الأحكام، فلتنظر في تفسيره.
-{
(۱) جريت في ذكر السور هنا على الترتيب في عدد الآيات المفسرة من الشافعي إذ تتراوح ما بين (۸۳) آية من سورة البقرة إلى (۱۲) آية من سورة الأنبياء، انظر فهرس الآيات العام.
۱۱۹
________________________________________

المبحث الثالث موقف الإمام الشافعي من النسخ

=
الحساب.
يقرر الإمام الشافعي ابتداءً الناسخ والمنسوخ بقوله: (إن الله خلق الخلق لما سبق في علمه مما أراد الله بخلقهم وبهم لا معقب لحكمه، وهو سريع وأنزل عليهم الكتاب تبياناً لكل شيء وهدى ورحمة، وفرض فيه فرائض أثبتها، وأخرى نسخها رحمة لخلقه بالتخفيف عنهم وبالتوسعة عليهم، زيادة فيما ابتدأهم به من نعمه وأثابهم على الانتهاء إلى ما أثبت عليهم جنته، والنجاة من عذابه، فعمتهم رحمته فيما أثبت ونسخ، فله الحمد على نعمه)).

أولاً: قاعدة في النسخ:
ويقرر أن النسخ في القرآن يكون بقرآن مثله، وكذلك بالنسبة للسنة يكون النسخ بسنة مثلها، ولذلك نجده ابتدأ ببيان نسخ الكتاب فقال: (وأبان لهم أنه إنما نسخ ما نسخ من الكتاب بالكتاب، وأن السنة لا ناسخة للكتاب، وإنما هي تبع الكتاب بمثل ما نزل نصاً ومفسرة معنى ما أنزل الله منه جملاً) (٢).

ثانياً : الأدلة على قاعدة النسخ:
وقد استدل الشافعي على كلامه بالنصوص التالية:
(۱) انظر الرسالة الفقرتين / ٣١٢ و ٣١٣ ص / ١٠٦
(۲) انظر الرسالة الفقرة / ٣١٤ ص / ١٠٦
۱۲۰
________________________________________
من يوجب
وقال البيهقي: قال المزني، فيما بلغني عنه: ما رأيت من العلماء للنبي في كتبه ما يوجبه الشافعي ؛ لحسن ذكره رسول الله . رحمة الله عليه
وه
龋
(1)
وحدث عمرو بن سواد السرحي قال: سمعت محمد بن إدريس الشافعي
يقول: ما أعطى الله نبياً قط شيئاً، إلا وقد أعطى محمداً أكثر.
قال عمرو فقلت له قد أعطى الله عيسى أكثر منه أن يحيى الموتى.
قال الشافعي: فالجدْعُ الذي كان يخطب إلى جنبه قبل أن يجعل له المنبر حين حن إلى النبي ؟! يعني: فهو أكثر من ذلك
(۲)
 

(1)
(۱) مناقب الشافعي للبيهقي ج / ١ ص / ٤٤٨ و ٤٤٩ ، وهنا كان احتجاج الشافعي رحمه الله في کتابه قتال أهل البغي يحتج بفعل علي بن أبي طالب الله في قتال البغاة من أول الكتاب إلى
آخره، انظر مناقب الشافعي، ج ١، ص / ٤٥١ .
۱۱۷
________________________________________
_____________
والأعراف، والنحل، والإسراء، والشعراء، وهود، والأنفال، والحج،
(۱)
والأنبياء) (1).
دَعمَ تفسيره غالباً بما ورد في السنة لهذه الأحكام إذا وجد، واجتهد في الفروع التي لا يوجد فيها نص.
لا حاجة إلى ذكر نماذج من ذلك ؛ لأن التفسير كما قلت أغلبه في آيات
الأحكام، فلتنظر في تفسيره.
-{
(۱) جريت في ذكر السور هنا على الترتيب في عدد الآيات المفسرة من الشافعي إذ تتراوح ما بين (۸۳) آية من سورة البقرة إلى (۱۲) آية من سورة الأنبياء، انظر فهرس الآيات العام.

١- قوله تعالى : ( مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَآيِ نَفْسِي ) [يونس: ١٥]
الآية، يقول الشافعي رحمه الله: (لا ينسخ كتاب الله إلا كتابه، كما كان المبتدئ
لفرضه فهو المزيل المثبت لما شاء منه جل ثناؤه، ولا يكون لأحد من خلقه). ۲- قول الله سبحانه: ( يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَبِ ) [الرعد: ٣٩] الآية، يقول الشافعي رحمه الله: (وقد قال بعض أهل العلم في هذه الآية - والله أعلم - دلالة على أن الله جعل لرسوله أن يقول من تلقاء نفسه بتوفيقه، فيما لم ينزل به كتاباً – والله أعلم - وقيل : في قوله: ﴿ يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ) [الرعد: ۳۹] الآية، يمحو فرض ما يشاء، ويثبت فرض ما يشاء، وهذا يشبه ما قيل - والله أعلم -
وفي كتاب الله دلالة عليه، قال الله: ( مَا نَنسَحْ مِنْ ءَايَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ يخيرِ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) [البقرة: ١٠٦] الآية. يقول الشافعي رحمه الله : فأخبر الله أن نسخ القرآن وتأخير إنزاله لا يكون إلا بقرآن مثله.
٤- وقال جل ثناؤه: ( وَإِذَا بَدَّلْنَا ءَايَةً مِّكَانَ وَايَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنتَ مُفْتَرٍ ) (النحل: ١٠١] الآية.
وهكذا سنة رسول الله لا ينسخها إلا سنة لرسول الله ، ولو أحدث الله لرسوله في أمر ، سنَّ فيه غير ما سنَّ رسول الله ، لسن فيما أحدث الله إليه، حتى
يبين للناس أن له سنة ناسخة للتي قبلها مما يخالفها، وهكذا مذكور في سنته .
فإن قال قائل هل تنسخ السنة بالقرآن ؟ قيل لو نسخت السنة بالقرآن، كانت للنبي فيه سنة، تبين أن سنته الأولى منسوخة بسنته الآخرة، حتى تقوم الحجة على الناس بأن الشيء ينسخ بمثله.
۱۲۱
________________________________________
ويقول الشافعي رحمه الله في هذا الصدد: ولو جاز أن يقال: قد سنّ رسول الله ثم نسخ سنته بالقرآن ولا يؤثر عن رسول الله السنة الناسخة جاز أن يقال : فيما حرّم رسول الله من البيوع كلها قد يحتمل أن يكون حرمها قبل أن يُنزل عليه : ( وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرّبوا ) [البقرة: ٢٧٥] الآية – وضرب أمثلة
أخرى عن إقامة حد الرجم على الزاني المحصن، والمسح على الخفين، وقطع يد رد السنن بهذين حتى قال - وجاز - بذلك
السارق بشروط السرقة
>>
الوجهين، فتركت كل سُنَّةٍ معها كتاب جملة تحتمل سنته أن توافقه، وهي لا تكون أبداً إلا موافقة له (۱).

قلت: وملخص كلام الإمام الشافعي رحمه الله في مسألة النسخ هو:
١ - أن القرآن لا ينسخ إلا بقرآن مثله مما يماثله للأدلة السابقة. ٢- أن السنة لا تنسخ إلا بسنة مثلها كذلك حتى يعلم الناس السنة من المنسوخة.
الناسخة
٣- أن القرآن إذا نسخ سنة أتت سنة أخرى تنسخ السنة السابقة، فيتوافق النسخ في الكتاب والسنة.
٤ - السنة المبينة لنسخ القرآن للقرآن، وهذا نوع من بيان القرآن والسنة مبينة للقرآن، كما قال الله تعالى : ( وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ ) [النحل: ٤٤] الآية وبهذا نرى أن بيان النسخ الوارد في القرآن، كان بمعونة من سنة رسول الله ، دلت على الناسخ والمنسوخ من هذه الآيات.
(۱) انظر الرسالة الفقرات / ٣١٧-٣٣٥ ص/ ١٠٧-١١٣
۱۲۲
________________________________________

ثالثاً: بيان السنة للناسخ والمنسوخ الوارد في القرآن الكريم: 

إذا أمعنا النظر في هذه المسألة تبين لنا أيضاً ثلاثة أنواع:
النوع الأول: ناسخ ومنسوخ يدل الكتاب على بعضه، والسنة على بعضه. ومثاله: قال الله تعالى : ( يَتَأَهَا الْمُؤْمِلُ قُمِ اليل إلا قليلاً * نِصْفَهُ أو أنقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْءَانَ تَرْتِيلاً ) [المزمل: ١-٤] الآيات، ثم نسخ هذا في السورة معه فقال : ( إِنَّ رَبِّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِن ثُلُقَى اليل وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ، وَطَائِفَةٌ مِّنَ الَّذِينَ مَعَكَ ) إلى : ( فَأَقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَوةَ وَمَا تُوا الزَّكَوةَ ) [المزمل: (۲۰) الآية .
يقول الشافعي رحمه الله: فلما ذكر الله بعد أمره بقيام الليل نصفه إلا قليلاً أو الزيادة عليه فقال: ( أدنى مِن ثلثي الَّيْلِ وَنِصْفَهُ، وَثَلَثَهُ، وَطَائِفَةٌ مِّنَ الَّذِينَ مَعَكَ ) فخفف
فقال: ( عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُم مِّرْضَى ( قرأ إلى : ( فَأَقْرَهُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ ) الآية.
قال الشافعي رحمه الله فكان بيناً في كتاب الله تعالى نسخ قيام الليل، ونصفه، والنقصان من النصف والزيادة عليه بقوله : ( فَأَقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ ﴾ الآية،
فاحتمل قول الله : فَأَقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ ) الآية، معنيين:
أحدهما: أن يكون فرضاً ثابتاً، لأنه أزيل به فرض غيره.
والآخر أن يكون فرضاً منسوخاً أزيل بغيره كما أزيل به غيره، وذلك لقول الله: وَمِنَ الَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا ) [الإسراء: ۷۹] الآية فاحتمل قول الله: (فَأَقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ ) الآية، أن يتهجد بغير الذي فُرض عليه، مما تيسر منه فكان الواجب طلب الاستدلال بالسنة
۱۲۳
________________________________________
على أحد المعنيين فوجدنا سنة رسول الله تدل على الاً واجب من الصلاة إلا الخمس، فصرنا إلى أن الواجب الخمس، وأن ما سواها من واجب من صلاة قبلها منسوخ بها ... : قلت: ثم ذكر حديث طلحة بن عبيد الله، في سؤال الأعرابي للنبي فرائض الإسلام وحديث عبادة بن الصامت بالتأكيد على أن الصلوات
عن
المفروضة خمس، ويعتبر ما عداها نفل وما كان بالليل ،فتهجد، بما تيسر من قراءة كتاب الله في صلاة التهجد.
النوع الثاني: ما دل الكتاب ثم السنة على نسخه:
ومن
الأمثلة عليه:
الله
1- قال الله تعالى: ﴿وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ ﴾ [البقرة: ٢٢٢] الآية.
قال الشافعي رحمه الله: (افترض الله الطهارة على المصلي في الوضوء والغسل من الجنابة فلم تكن لغير طاهر صلاة، ولما ذكر الله المحيض فأمر باعتزال النساء فيه حتى يطهرن، فإذا تطهرن ،أتين، استدللنا على أن تطهرهن بالماء بعد زوال المحيض في كتاب الله وسنة رسوله وسنة رسوله - ثم ذكر حديث عائشة رضي الله عنها في حج المرأة الحائض ومنعها من الطواف حتى تطهر
قال الشافعي رحمه الله: فاستدللنا على أن الله إنما أراد بفرض الصلاة من توضأ واغتسل طهر، فأما الحائض فلا تطهر بواحد منهما، وكان الحيض شيئاً خلق فيها، لم تجتلبه على نفسها فتكون عاصية به، فزال عنها فرض الصلاة أيام
١٢٤
________________________________________
ج
حيضها، فلم يكن عليها قضاء ما تركت منها في الوقت الذي يزول عنها فيه فرضها - وقاس عليها المغمى عليه والمغلوب على عقله بعارض من أمر الله
ما دام في حالته
(1)
ج
ب- قال الله تعالى: ﴿ يَتَأَيُّها النَّبِيُّ حَرِضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِن يَكُن
ج
مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَبِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِنكُم مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِّنَ الَّذِينَ
كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ ) [الأنفال: ٦٥) الآية.
قال الشافعي رحمه الله : ثم أبان في كتابه أنه وضع عنهم أن يقوم الواحد بقتال العشرة، وأثبت عليهم أن يقوم الواحد بقتال الاثنين، فقال: (الكَنَ خَفِّفَ اللهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا ( إلى : ( يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ ) [الأنفال: ٦٦] : الآية، فكتب - الله تعالى - أن لا يفر المائة من المائتين
(۲)
ج- قال الله تعالى: ﴿ قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَهَا فَوَلِ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ ) [البقرة: ١٤٤] الآية، وقوله تعالى: (سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّنهُمْ عَن قِبْلِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا ﴾ [البقرة: ١٤٢] الآية.
يقول الشافعي رحمه الله كان أول ما فرض الله على رسوله في القبلة أن يستقبل بيت المقدس للصلاة، فكان بيت المقدس القبلة التي لا يحل لأحد أن يصلّي إلا إليها، في الوقت الذي استقبلها فيه رسول الله ، فلما نسخ الله قبلة
(۱) الرسالة الفقرات / ٣٤٦ - ٣٥٢ ص / ١١٧-١٢٠
سے
(۲) انظر الرسالة الفقرات / ٣٧٢ - ٣٧٤ ص / ١٢٧ و ١٢٨
۱۲۵
________________________________________
بيت المقدس، ووجه رسوله والناس إلى الكعبة كانت الكعبة القبلة التي لا يحل المسلم أن يستقبل المكتوبة - في غير حال الخوف - غيرها، ولا يحل أن يستقبل بيت المقدس أبداً.
رضي
-
وكل كان حقاً في وقته بيت المقدس من حين استقبله النبي إلى أن حول عنه الحق في القبلة، ثم البيت الحرام الحق في القبلة إلى يوم القيامة. وهكذا كل منسوخ في كتاب الله وسنة نبيه - وذكر حديث ابن عمر الله عنهما في تحويل القبلة - وقال الشافعي رحمه الله : وهذا مع إبانته لك الناسخ والمنسوخ من الكتاب والسنة - دليل لك على أن النبي إذا سن سنة حوله الله عنها إلى غيرها، سنّ أخرى يصير إليها الناس بعد التي حول عنها، لئلا يذهب الناس على عامتهم عن الناسخ فيثبتون على المنسوخ ؛ ولئلا يُشبه على أحد بأن رسول الله يسن، فيكون في الكتاب شيء - يرى من جهل اللسان، أو العلم بموقع السنة مع الكتاب، أو إبانتها معانيه - أن الكتاب ينسخ السنة.
فقال - أي: المحاور - أَفَيُمْكِنُ أن تخالف السنة في هذا الكتاب؟ قلت (أي: (الشافعي) لا، وذلك لأن الله جل ثناؤه أقام على خلقه الحجة من وجهين أصلهما في الكتاب
١ - كتابه.
٢- ثم سنة نبيه ، بفرضه في كتابه اتباعها.
فلا يجوز أن يسنَّ رسول الله له سنة لازمة فتنسخ، فلا يَسُنُّ ما نَسَحْها، وإنما يعرف الناسخ بالآخر من الأمرين، وأكثر الناسخ في كتاب الله إنما عرف بدلالة سنن رسول الله ، فإذا كانت السنة تدل على ناسخ القرآن وتفرق بينه وبين
١٢٦
________________________________________
صلى الله عليه وسلم
منسوخة، لم يكن أن تنسخ السنة بقرآن إلا أحدث رسول الله تنسخ سنته الأولى لتذهب الشبهة على من أقام الله عليه الحجة من خلقه
القرآن سنة
(1)
النوع الثالث: الناسخ والمنسوخ الذي تدل عليه السنة والإجماع: ومثاله: قال الله تعالى: كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْرًا
الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ ﴾ [البقرة: ١٨٠] الآية. يقول الشافعي رحمه الله: فكانت الآية محتملة لأن تثبت الوصية للوالدين والأقربين والميراث مع الوصايا وكانت محتملة - أيضاً - أن تكون المواريث ناسخة للوصايا، فلما احتملت الآية ما وصفنا كان على أهل العلم طلب الدلالة من كتاب الله، فإن لم يجدوا طلبوه في سنة رسول الله ، ووجدنا أن أهل الفتيا، حفظنا ومن عنهم من أهل العلم بالمغازي من قريش وغيرهم، لا يختلفون في أن قال عام الفتح: لا وصية لوارث، ولا يقتل مؤمن كافر الحديث، وينقله عامة عن عامة، وكذلك وجدنا أهل العلم مجمعين عليه
النبي
(۳)
(۲)
(۱) انظر الرسالة الفقرات / ٣٥٩-٣٦٦ ص/ ١٢١ - ١٢٥ ، والفقرات / ٦٠١ و ٦٠٩ ص | ۲۲۲-۲۲۰، وانظر الرسالة الفقرات / ٦١٦ - ٢٦٧٣ ص / ٢٢٣-٢٤١، ثم ذكر بعد ذلك أمثلة كثيرة عن النسخ يمكن الرجوع إليها في كتاب الرسالة لمن أراد المزيد من الأمثلة، وانظر أول المبحث الثاني في تفسير الإمام الشافعي للقرآن بالسنة المطهرة. (۲) ذكر الشافعي هنا حديثين الفقرة الأولى منه لا وصية لوارث حديث إسناده مرسل وهو صحیح موصولاً بكثرة الطرق انظر شفاء العي بتحقيق مسند الشافعي ج/ ٢ ص / ٤١٧ - ٤٢٠، برقم ٦٧٧ ، والفقرة الثانية: ولا يقتل مؤمن بكافر حديث صحيح ورد بأربع روايات ( في اثنين منها إسناده مرسل (ضعيف) انظر شفاء العي بتحقيق مسند الشافعي ج/ ٢ ص/ ٢٠٨-٢٠٩ ، برقم / ٣٤٦ و ٣٤٧ و ٣٤٨ و ٣٤٩، وانظر الرسالة الفقرة ٤٠٢ ص ١٤٠ - ١٤٢ الهامش).
(۳) وانظر الرسالة الفقرات / ٣٩٣ - ٩٩ ص / ۱۳۷-۱۳۹
۱۲۷
________________________________________
قلت: فثبت نسخ الوصية للورثة الذين لهم ميراث فقط، وبقيت الوصية لغيرهم بالسنة والإجماع.
وذكر أمثلة كثيرة في هذا المقام نكتفي بما ذكرنا خشية الإطالة، ومن أراد الاستزادة فليرجع إلى كتب الإمام الشافعي رحمه الله فيما يتعلق بالنسخ.
۱۲۸
________________________________________
 

المبحث الرابع موقف الإمام الشافعي من الاستحسان
وضحنا أن الشافعي يعتمد في تفسيره، بل منهجه الاجتهادي على النصوص من الكتاب والسنة، ثم الإجماع، ثم القياس، ولا يعتمد الاستحسان كمصدر للاجتهاد، بل أبطله وهاجم من يعتمد الاستحسان، وعقد كتاباً خاصاً في الأم (1) وسماه (كتاب إبطال الاستحسان)، وفقرات في الرسالة (٢)، وفصلاً في أحكام القرآن (۳).
(۱)
ولذا نجده يقرر : ( أنه ليس لأحد دون رسول الله أن يقول إلا باستدلال
(٤)
بما وصفت في هذا ، وفي العدل وفي جزاء الصيد، ولا يقول بما استحسن، فإن
القول بما استحسن شيء يحدثه لا على مثال سبق)

أولاً : أدلة الشافعي على إبطال الاستحسان:
(0)
١ - قول الله تعالى : ( أَتَحْسَبُ الإِنسَنُ أَن يُتْرَكَ سُدى ) [القيامة: ٣٦] الآية.
(۱) انظر الأم ج / ٧ ص / ٢٩٤ - ٣٠٤ كتاب إبطال الاستحسان). (۲) انظر الرسالة الفقرتان / ٦٩ و ٧٠ ص / ٢٥ ، والفقرات / ١٤٥٦ - ١٤٦٨ ص / ٥٠٣-٥١٠
باب الاستحسان).
(۳) انظر أحكام القرآن ج ١ ص / ٣٦-٣٧
(٤) يقصد: التوجه إلى جهة المسجد الحرام إذا لم يكن يعانيه (٥) الرسالة الفقرة / ٧٠ ص / ٢٥ ، والفقرة / ١٤٦٨ ص / ٥٠٨
۱۲۹
________________________________________
قال الشافعي رحمه الله: فلم يختلف أهل العلم بالقرآن فيما علمت أن
السُّدَى الذي لا يؤمر ولا ينهي
(۱)
ومن أفتى أو حكم بما لم يؤمر به فقد أجاز لنفسه أن يكون في معاني السدى، وقد أعلمه الله أنه لم يتركه سدى، ورأى أن قال: أقول ما شئت
وادَّعى ما نزل القرآن ،بخلافه في هذا، وفي السنن فخالف منهاج النبيين وعوام حكم جماعة من روى عنه من العالمين
ter
(۲)
۲ في الإجابة على سؤال من سأله: فأين ما ذكرت من القرآن، ومنهج
النبيين صلى الله عليهم وسلم أجمعين؟
قال الشافعي رحمه الله:
1- قال الله له : ( أَتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ ) [الأنعام: ١٠٦] الآية. ب وقال تعالى: ( وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ ﴾ [المائدة: ٤٩] الآية. ج- ثم جاءه قوم فسألوه عن أصحاب الكهف وغيرهم فقال: أعلمكم غداً، يعني: أسأل جبريل عليه السلام ثم أعلمكم، فأنزل الله : ( وَلَا تَقُولَنَّ
لِشَأيْ ءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا ﴾ [الكهف: ٢٣] الآية.
- وجاءته امرأة أوس بن صامت تشكو إليه أوساً فلم يجبها، حتى أنزل : قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّتِي تُجدِلُكَ فِي زَوْجِهَا ﴾ [المجادلة: ١] الآية.
وجاءه العجلاني يقذف امرأته، قال: لم ينزل فيكما، وأنْتَظِرُ الوحي، فلما نزل دعاهما، فلاعن بينهما كما أمره الله (۳) .
(۱) احكام القرآن ج ١ ص / ٣٦ ، وانظر الرسالة الفقرة/ ٦٩ ص/ ٢٥ (۲) أي: خالف منهج النبيين ومن روى عنهم من اتباعهم ما نزل عليهم من رب العالمين. (۳) إشارة إلى آية اللعان الواردة في سورة النور الآيات/ ٦-١٠
۱۳۰
________________________________________
و-
وقال النبيه : ( وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ ﴾ [المائدة: ٤٩] الآية. ز وقال : ( يَندَاوُردُ إِنَّا جَعَلْنَكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ ) [ص: ٢٦] الآية
قال الشافعي رحمه الله: وليس يؤمر أحد يحكم بحق إلا وقد علم الحق، ولا يكون الحق معلوماً (۱) إلا عن الله نصاً، أو دلالة من الله، فقد جعل الله الحق في كتابه، ثم سنة نبيه .
٣- حديث المطلب بن حنطب ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما تركت شيئاً مما أمركم الله به إلا وقد أمرتكم به، ولا شيئاً مما نهاكم عنه إلا وقد نهيتكم عنه، وإن الروح الأمين قد ألقى في روعي أنه لن تموت نفس حتى تستوفي رزقها، فأجملوا في الطلب الحديث.
(۲)
قال الشافعي رحمه الله: وما فرض رسول الله شيئاً قط إلا بوحي، فمن الوحي ما يتلى ومنه ما يكون وحياً إلى رسول الله فيستن به. وقد قيل: ما لم يتل قرآناً، إنما ألقاه جبريل عليه السلام في رُوْعِه بأمر الله، فكان وحياً إليه. وقيل: جعل الله إليه لما شهد له به أنه: (يهدي إلى صراط مستقيم) (۳) أن يسن وأيهما كان فقد ألزمها الله خلقه، ولم يجعل لهم الخيرة من أمره فيما يسن لهم وفرض عليهم اتباع سنته
(0)
(٤)
(1) الأم ج ۷ ص / ۲۹۸ ، وانظر أحكام القرآن ج / ١ ص / ٣٦ و ٣٧، فقد ورد مختصراً في بعض المواضع. (۲) الحديث سبق ،تخريجه سنده مرسل وقد صح معناه، ولكثرة طرقه وشهرته أصبح صحيحاً،
انظر شفاء العي بتحقيق مسند الشافعي ج ۲ ص / ٤١٣ - ٤١٥، برقم / ٦٧٥ (۳) اقتباس من الآية / ٥٢ من سورة الشورى، لذا آثرت جعلها بين قوسين للبيان. (٤) اقتباس من الآية / ٣٦ من سورة الأحزاب، لذا آثرت جعلها بين قوسين للبيان. (5) الأم ج/ ٧ ص ٢٩٩
۱۳۱
________________________________________
- حديث عمرو بن العاص : إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران، وإن أخطأ فله أجر (۱) الحديث قال الشافعي رحمه الله: فاعلم أن للحاكم الاجتهاد والمقيس في موضع الحكم، ومن استجاز أن يحكم أو يفتي بلا خبر لازم، ولا قياس عليه كان محجوباً بأن معنى قوله : أفعل ما هويت وإن لم أومر به، فخالف معنى الكتاب والسنة، فكان محجوباً على لسانه.
(Y)
وقال أيضاً: لا أعلم أحداً من أهل العلم رخص لأحد من أهل العقول والآداب، في أن يفتي ولا يحكم برأي نفسه إذا لم يكن عالماً بالذي تدور عليه أمور القياس من الكتاب والسنة والإجماع، والعقل لتفصيل المشتبة وقال في موضع آخر (۳) : أفرأيت إذا قال الحاكم والمفتي في النازلة، ليس فيها نص خبر ولا قياس، وقال: أستحسن فلا بد أن يزعم أن جائزاً لغيره أن يستحسن خلافه، فيقول كل حاكم في بلد ومفت بما يستحسن، فيقال في الشيء الواحد بضروب من الحكم والفتيا.

ثانياً : الاستحسان المرفوض والمذموم عند الشافعي:
لهذه الأدلة نرى أن الشافعي أبطل القول بالاستحسان، وشن حملة شديدة على من اعتبره من مصادر التشريع، والاجتهاد.
هما
ولكننا نرى بالاستقراء لمذهب الشافعي أنه يحارب الاستحسان لأمرين
(۱) الحديث صحيح، انظر شفاء العي بتحقيق مسند الشافعي، ص / ٣٧٧ و ٣٧٨، برقم/ ٦٢٢ و ٦٢٣ .
(۲) الأم ج / ٧ ص / ٣٠٠
(۳) الأم ج ۷ ص / ۳۰۱
۱۳۲
________________________________________
۱- إذا خالف الاستحسان الخبر، لذا روي عنه أنه قال: حرام على أحدٍ
أن يقول بالاستحسان، إذا خالف الاستحسان الخبر، والخبر من الكتاب والسنة) (١) الحديث.
وعلى ذلك وغيره مما سنذكره قرر الشافعي (أن القول بالاستحسان باطل) (٢) ، فهذا هو الاستحسان الباطل والمحرم.
(۲)
- إذا كان الاستحسان لاتباع الهوى والتشهي، لذا نجده في الرسالة يقول: (وكان حلال الله ،وحرامه أولى ألا يقال فيهما بالتعسف، والاستحسان، وإنما الاستحسان (تلذذ (۳) ، أي أن الاستحسان قول بالتشهي، وقد يقدم فيه العقل على الشرع، لذا نراه في موضع آخر يقول: (ولو قال بلا خبر لازم ولا قياس، كان أقرب من الإثم من الذي قال وهو غير عالم، وكان القول لغير أهل العلم جائزاً) (٤) ؛ لأن العقل متوافر عند العالم وغيره، ولا يعتمد على العقل وحده في الشرع، والتشريع الله وحده.
ويجيب الشافعي رحمه الله عما ورد في آخر حديث معاذ الله عندما أرسله
:((
لليمن قاضياً، ومعلماً، حيث قال للرسول : أجتهد رأيي ولا آلو الحديث، بأن هذا القول من معاذ ، كان بحدود الأمر في طاعة الله ورسوله،
(۱) الرسالة الفقرة/ ١٤٥٦ ص / ٥٠٤
(۲) الشافعي ناصر السنة د. محمد سلام مدكور من مقالة في مجلة الفيصل العدد/ ٢٣ ص / ٥٤
لسنة ۱۳٩٩ هـ - ۱۹۷۹
-
(۳) الرسالة الفقرتان / ١٤٦٣ و ١٤٦٤ ص / ٥٠٧
(٤) الرسالة الفقرة / ١٤٦٧ ص / ٥٠٨
(٥) الحديث صحيح، سبق تخريجه.
۱۳۳
 ________________________________________
العامة في قول الله تعالى ( وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ ) [البقرة: ۱۳۲] الآية، لذا
كان اجتهاد معاذ الله مبنياً على الكتاب والسنة.
فالاستحسان المنهي عنه والمذموم عند الشافعي رحمه الله: هو أن يحدث القائس شيئاً ليس له مثال سبق، فإذا شفعت له مثل سابقة بررته ؛ لأن تعريف الاستحسان في واقع الأمر عدول من المجتهد عن الحكم في المسألة ؛ بمثل ما يحكم به في نظائرها إلى غيره لدليل أقوى يقتضي العدول عن الدليل الأول، المثبت لحكم هذه النظائر، رجوعاً إلى ما علم من قصد الشارع، في أمثال الأشياء
المعروضة.
وعلى هذا نجد أن مسائل ،الاستحسان ما هي إلا مسائل خرجت عن حكم نظائرها، إما بنص الشارع كما في استثناءات بعض النصوص، أو باتفاق المجتهدين، أو برأي مجتهد بذاته تبعاً للمصلحة اعتماداً على دليل يعارض القياس، أو قياس خفي غير القياس الجلي، وإن شئت قلت: هو تخصيص قياس بدليل أقوى منه، أو عدول عن قياس لقياس أقوى منه .(۱) .
مثل:
-
وبهذا يقول الشافعي رحمه الله في بعض المسائل التي اجتهد فيها استحساناً،
۱ - استحسانه إجازة التعاقد على دخول الحمام مع جهالة المدة التي سيمكنها المستحمم، ومقدار الماء الذي سيستهلكه.
واستحسانه بترك شيء من نجوم المكاتبة للمكاتب.
(۱) الإمام الشافعي ناصر السنة عبد الحليم الجندي ص / ٢٤٣ و ٢٤٤ بتصرف)، الطبعة الثانية - دار المعارف بمصر - القاهرة/ ۱۹۸۲م.
١٣٤
________________________________________
واستحسانه أن لا تقطع يد السارق اليمنى، إذا قدم اليسرى وقت الحد
وقطعت، وغيرها (١).

ثالثاً: تفسيره للقرآن بالاستحسان:
لا نجد أن الشافعي استخدم الاستحسان في تفسير النصوص القرآنية، فيما ،نعلم استناداً لما سبق بيانه وموقفه من الاستحسان، وما ورد من أمثلة لأخذه بالاستحسان المبني على النص ما هو إلا النادر القليل جداً في بعض الفروع
الفقهية، ويُرجعه غالباً إلى القياس.
(۱) الشافعي ناصر السنة د/ محمد سلام مدكور من مقالة في مجلة الفيصل العدد ٢٣، ص / ٥٤
السنة ١٣٩٩ هـ – ۱۹۷۹م. -
۱۳۵