اسم الكتاب: قصة المذهب الشافعي من التأسيس حتى الكمال
عن الكتاب: وهو اختصارٌ لكتاب "المدخل إلى مَذهَبِ الإمَامِ الشَّافعيِّ" للدكتور أكرم القواسمي وفقه الله مع زِيَادَاتٍ مُهِمَّةٍ وإثرَاءاتٍ نفيسة
المؤلف: محمد بن محمد الأسطل
فهرس الموضوعات
- توطئة ١
- الفصل الأول: سيرة الإمام الشافعي ونشأته وما يتصل بها حتى وفاته
- المبحث الأول: الملامح العامة لعصر الإمام الشافعي
- المطلب الأول: الناحية السياسية
- المطلب الثاني: الناحية العلمية
- المبحث الثاني: اسم الإمام الشافعي ومولده ونسبه
- المبحث الثالث: المرحلة الأولى من حياة الإمام الشافعي ونشأته بمكة
- المبحث الرابع: المرحلة الثانية من حياة الإمام الشافعي وصحبته للإمام مالك
- المبحث الخامس: المرحلة الثالثة من حياة الشافعي ورحلته إلى اليمن للعمل
- المبحث السادس: المرحلة الرابعة من حياة الشافعي ولقائه بمحمد بن الحسن ببغداد
- المبحث السابع: المرحلة الخامسة من حياة الشافعي في مكة وظهور مذهبه
- المبحث الثامن: المرحلة السادسة من حياة الشافعي ورحلته الثانية إلى بغداد
- المبحث التاسع: المرحلة السابعة من حياة الشافعي وتنقله بين مكةوبغداد
- المبحث العاشر: المرحلة الأخيرة من حياة الشافعي في مصر ووفاته فيها
- الفصل الثاني: علوم الإمام الشافعي وما يتصل بها
- المبحث الأول: الشخصية الاجتهادية للإمام الشافعي
- المطلب الأول: المحطات المؤثرة في التكوين العلمي للإمام الشافعي
- المطلب الثاني: سعة علوم الإمامِ الشافعي ومقوِّمات ذلك
- المبحث الثاني: إحاطة الإمام الشافعي باللغة العربية وعلومها
- المبحث الثالث: رسوخ الإمام الشافعي في تفسير القرآن الكريم
- المبحث الرابع: رسوخ قدم الإمام الشافعي في الحديث النبويِّ روايةً ودراية
- المبحث الخامس: إحاطة الإمام الشافعي بفقه الإمام مالك بن أنس وأصوله
- المطلب الأول: جذور فقه الإمام مالك ٠
- المطلب الثاني: النشأة االكية للإمام الشافعي
- المبحث السادس: إحاطة الإمام الشافعي بفقه الإمام أبي حنيفة وأصوله ٦٥
- المطلب الأول: جذور فقه الإمام أبي حنيفة ٦٥
- المطلب الثاني: تلقي الإمام الشافعي لفقه الحنفية ٦٧
- المطلب الثالث: دلائل إحاطةِ الإمام الشافعي بفقه الحنفية وأصولهم ٦٩
- المبحث السابع: اطلاع الإمام الشافعي على فقه الإمام الأوزاعي ٧٢
- المطلب الأول: جذور فقه الإمام الأوزاعي ٧٢
- المطلب الثاني: اطلاع الإمام الشافعي على فقه الإمام الأوزاعي ٧٤
- المبحث الثامن: اطلاع الإمام الشافعي على فقه الإمام الليث بن سعد ٧٦
- المطلب الأول: جذور فقه الإمام الليث بن سعد ٧٦
- المطلب الثاني: اطلاع الإمام الشافعي على فقه الإمام الليث بن سعد ٧٨
- الفصل الثالث: آثار الإمام الشافعي ٧٩
- المبحث الأول: مصنفات الإمام الشافعي التي لم تصل ٧٩
- المطلب الأول: بدء تصنيف الإمام الشافعي للكتب وطريقته في ذلك ٧٩
- المطلب الثاني: مصنفات الإمام الشافعي التي لم تصل إلى زمن كتابة هذه الرسالة ٨١
- المبحث الثاني: مصنفات الإمام الشافعي التي وصلت إلى زمن كتابة هذه الرسالة ٨٥
- المطلب الأول: مصنفات الإمام الشافعي في الفقه العام ٨٥
- المطلب الثاني: مصنفات الإمام الشافعي في الفقه المقارن ٨٧
- المطلب الثالث: مصنفات الإمام الشافعي في أصول الفقه ٨٨
- المبحث الثالث: المُصَنَّفاتُ المجموعةُ من آثار الشافعي بعد عصره والمصنفات المنسوبة إليه ٩٦
- الباب الثاني: المذهب الشافعي ١٠٢
- الفصل الأول: التطور التاريخي للمذهب الشافعي ١٠٢
- المبحث التمهيدي: بيان تقسيمات مفيدة للأدوار التاريخية لعلوم الفقه الإسلامي ١٠٣
- المبحث الأول: أدوار تطور المذهب الشافعي ١٠٦
- المبحث الثاني: ظهور فقه الإمام الشافعي ونقله
- المطلب الأول: ظهور المذهب القديم للإمام الشافعي ١١٠
- المطلب الثاني: ظهور المذهب الجديد للإمام الشافعي ١١٢
- المطلب الثالث: نقل تلاميذ الإمام الشافعي لفقهه ١١٥
- المطلب الرابع: أ رز معالم هذه المرحلة ١١٦
- المبحث الثالث: ظهور مذهب الشافعية واستقراره [ ٢٧٠
- المطلب الأول: ظهور مذهب الشافعية وانتشاره ١١٩
- المطلب الثاني: أ رز معالم هذه المرحلة [ ٢٧٠
- المطلب الثالث: استقرار مذهب الشافعية وثباته [ ٤٠٤
- العامل الثاني: رعاية السلطة الحاكمة لمذهب الشافعية ١٣٢
- المطلب الرابع: أ رز معالم هذه المرحلة [
- المبحث الرابع: التنقيح الأول لمذهب الشافعية [ ٥٠٥
- المطلب الأول: الجهود السابقة لعمل الإمامين الرافعي والنووي في خدمة المذهب ١٣٧
- المطلب الثاني: جهود الإمامين الرافعي والنووي في تنقيح المذهب ١٣٩
- المطلب الثالث: أرز معالم هذا الطور
- المبحث الخامس: التنقيح الثاني لمذهب الشافعية [ ٦٧٦
- المطلب الأول: الجهود السابقة لعمل الإمامين الهيتمي والرملي [ ٦٧٦
- المطلب الثاني: جهود الإمامين الهيتمي والرملي في التنقيح الثاني للمذهب [ ٩٢٦
- المطلب الثالث: أرز معالم هذا الطور
- المبحث السادس: خدمة مصنفات التنقيحين الأول والثاني للمذهب
- المطلب الأول: الأمور السياسية المؤثرة في مسيرة المذهب الشافعي في هذا الطور ١٦٠
- المطلب الثاني: التعريف بعددٍ من أشهر أعلام الشافعية في هذا الطور
- المطلب الثالث: أرز معالم هذا الطور
- المبحث السابع: انحسار التمذهب بالمذهب الشافعي وتطور الدراسات وحتى اليوم] ١٧٠ الفقهية المعاصرة [ ١٣٣٥
- المطلب الأول: انحسار التمذهب بالمذهب الشافعي ١٧٠
- المطلب الثاني: تطور الدراسات الفقهية المعاصرة في هذا الطور ١٧١
- المطلب الثالث: مصير التصنيف في طبقات الشافعية وتراجمهم ١٧٦
- الفصل الثاني: مصطلحات الشافعية وأوجه الانتفاع بمصنفاتهم الفقهية والأصولية ١٧٩
- المبحث الأول: مصطلحات الشافعية ١٨٠
- المطلب الأول: أهمية معرفة مصطلحات الشافعية ومظانها ١٨٠
- المطلب الثاني: مصطلحات الشافعية ١٨١
- المبحث الثاني: عرض المصنفات الفقهية الشافعية ١٨٥
- أولًا: مصنفات الإمام الشافعي ١٨٥
- ثانيًا: مصنفات التنقيح الأول للمذهب ١٨٥
- ثالثًا: مصنفات التنقيح الثاني للمذهب ١٨٧
- رابعًا: مصنفات الفقه المقارن ١٨٨
- خامسًا: المصنفات الفقهية المتخصصة ١٨٩
- سادسًا: المصنفات الفقهية التي لا تندرج تحت واحد من الأقسام ١٩٠
- الخمسة السابقة
- سابعًا: المصنفات المعاصرة ١٩١
- المبحث الثالث: عرض المصنفات الأصولية الشافعية ١٩٤
- ملحق [ ١]: المعراج التفصيلي للفقه الشافعي ١٩٨
- ملحق [ ٢] المعراج التفصيلي لعلم أصول الفقه ٢٢٢
- المراجع ٢٣٤
- فهرس الموضوعات
ملاحظة:
صفُّ الكتاب صفٌّ شخصي، وقد تعجلت بنشره قبل تولي إحدى دور النشر أمرطباعته
، لمصلحة برنامج "كفاية الفقيه" الذي فُتح بابُ الالتحاق به في شهر ربيع أول ١٤٤٣
وعسى أن يُطبع الكتاب قريبًا.
وقد تمَّ إلقاءُ مادة الكتاب في المعتكف العلمي الأول للبرنامج في ( ١٢ ) محاضرة مسجلةً
يا، ويتولى "مركز ابن القيم للعلوم الشرعية" نشرها على موقعه على التليغرام مرئ
ضًا على قناتي الشخصية. واليوتيوب، وأقوم بالنشر أ
ه وصحبه ومن الحمد لله رب العالمين، والصلاةُ والسلام على نبينا محمد، وعلى آ
تبعه بإحسانٍ إلى يوم الدين، أما بعد:
فهذا مختصرٌ لطيفٌ لكتاب "المدخل إلى مذهب الإمام الشافعي" للدكتور الفاضل
أكرم القواسمي وفقه الله تعالى، مع بعض الزيادات المهمة، وإثراء بعض الأفكار
والمفاهيم الواردة فيه، أردت أن يكون جرعةً يرتشفها المتفقه إلى جانب اشتغاله بعلم
المسائل والفروع.
م كتابًا أو كتابين من الفروع.. فإنَّه يحسن به أن يقرأ رزمةً من كتب فإذا ما أ
المداخل إلى علم الفقه عامة والمذهب الشافعي خاصة؛ لدورها الكريم في رسم
التصورات الفقهية والمفاهيم المذهبية والشرعية، وقد دوَّنت خطةً مقترحةً لذلك ضمن
حقته بهذا المختصر فينظرها من شاء. معراج علم الفقه الذي أ
أما عن سياسةِ هذا المختصر.. فإني أمسك قلم الاختصار وآخذ أكتب، وما يمليه
الخاطر من إثراءٍ للفكرة التي يخطها القلم، أو إضافةٍ خادمةٍ وزيادةٍ مؤيدةٍ.. فإنها تختلط
ه ما يشق معه الفصل بين الزيادة والأصل، فكأ بنفس مادة الكتاب الأصل اختلاطًا تا
كتابٌ مستقلٌّ ولكن بمراجع محدودة.
فليس هذا الكتاب متنًا يُشرح فتعزو كل قطعةٍ لصاحبها، وليس شرحًا يُختصر
فاظٍ أقل؛ وإنما هو شحنٌ للمعاني في نفس الوقت الذي ليس فيه إلا عرضُ المعنى في أ
٢
تجري فيه عملية الاختصار، فهو بالعصير الذي يتكون من فواكه متعددة أشبه، فإنها تُخلَطُ
ادته. ببعضها وتُصهَرُ حتى تخرج على هيئةٍ لا يسهل معها أن ترد كلَّ لونٍ
ائة، أما عن نسبة الإثراء والإضافة.. فأحسبها تتردد بين العشرين والثلاثين با
وهذا في النظر الأعم؛ فربما تمحضت فقرةٌ زيادةً، وربما تمحضت فقرةٌ اختصارًا، والمقارنةُ
مع الأصل في كلِّ ذلك هو الذي يعطيك النتائج دقيقةً.
وتلخَّصَ مما تقرر أنَّ هذا الكتاب هو اختصارٌ وإثراءٌ وزيادة، ويبقى الفضل
بتها القلم. للمؤلف؛ فإنَّ ما خطَّه هو الذي ثوَّر المعاني المتناثرة في صدري حتى أ
ناء الاختصار فكرةً في الأصل تحتاج لمزيدِ بيان، أو ومن عملي أني ربما شرحت أ
نضَّجت مفهومًا يحتاج لاكتمال، أو قيَّدت فيه شيئًا، أو طوَّرتُ من دلالته.
والكتابةُ في هذا الموضوع ليست ثغرةً بحثيةً ومساحةَ فراغٍ لتتحتم الكتابة فيه؛
ولكني كنت قد قرأت الكتاب ولخَّصته لنفسي ولبعض إخواني الذين سمعوا مني خلاصتَه
شر التلخيص للإخوة، وتجددت الفكرة بين في مجالس علميةٍ، وطلب بعض الكرام أن أ
ام بمادة المختصر، فأمسكت القلم وأعدت يدي برنامجٍ علميٍّ سيعقد ومن مقرراته الإ
كتابته ليكون مختصرًا محررًا يمكن أن يُطَّلَعَ عليه وينشر، وهو يوفر الوقت لمن شقَّ عليه
النظر في الأصل، وكان الاختصار فرصةً لبث المفاهيم الفقهية التي أريد في ثنايا صفحات
الكتاب.
ا وقد تمت الجولة الأولى من البرنامج، وشُرِحَ الكتابُ في اثني عشر مجلسًا علمي
بفضل الله تعالى، ولعلها تبث عبر الشبكة عن قريبٍ بإذنه تعالى، وهذا نظرٌ جديدٌ في
الكتاب ومراجعةٌ بين يدي دفعه إلى الطباعة، يسَّر الله تعالى ذلك.
٣
وقد جاء الكتاب لتحقيق ثلاثة أهداف:
الأول: تسليط الضوء على الشخصية الاجتهادية للإمام الشافعي رحمه الله، من
ه هو من حيث العواملُ المؤثرةُ في تكوينها، والآثارُ العلميةُ المنبثقةُ عنها، ويعين في ذلك أ
تولى تدوين فقهه وأصوله بنفسه، بخلاف الأئمة الثلاثة أبي حنيفة ومالك وأحمد.
الثاني: دراسة التطور التاريخي للمذهب الشافعي، من التأسيس حتى الكمال، بل
وحتى يوم الناس هذا.
رز المصطلحات الواردة في الثالث: تيسير مهمة الدارس للفقه الشافعي بشرح أ
كتب المذهب، وبيان أهم المصنفات في الفقه وأصوله.
أما خطة الكتاب.. فجعلها المؤلف في بابين:
أما البابُ الأولُ.. فقد اندرج تحته ثلاثة فصول، تحدث الأول عن سيرة الإمام
ه حتى الوفاة، وتطرق الثاني لعلوم الإمام الشافعي، وتناول الثالث آثاره الشافعي ونشأ
العلمية.
وأما الباب الثاني.. فتحدث عن المذهب الشافعي نفسه، وجاء في فصلين، تناول
الأول التطور التاريخي للمذهب الشافعي، وتولى الثاني بيان مصطلحات الشافعية وعرض
رز المصنفات الفقهية والأصولية. أ
َّه موجودٌ في الأصل بعزوه، وما أضيفه به أنَّ ما أذكره هنا من غير عزوٍ مردُّه أ وأ
خالصًا مما سبيله النقل فإني أعزوه لمظانِّه.
حقتُ بهذا المختصرِ المعراجَ العلميَّ المقترحَ لكلٍّ من علم الفقه وأصوله، وقد أ
وكنت قد كتبته في كتاب "معارج العلوم" ضمن معارج العلوم الشرعية الأخرى،
٤
واستللته هنا تتمةً للفائدة، ولوجود نوع ارتباط بين المدخل إلى المذهب والدراية بخطة
الدراسة فيه.
ا طلال على ا محمد وأخي الشيخ محمد خلف أ وأشكر أخي الشيخ عماد الداية أ
تفضلهما بمراجعة الكتاب مراجعةً دقيقة، وقد أفدت منهما وانتفعت كتب الله لهما ولكم
كل خيرٍ وفضلٍ وفضيلة، وجمع فيهما وفيكم من الفضائل ما تفرق في غيركم من الأفاضل.
أسأل الله تعالى أن ينفع بهذا المختصر كما نفع بأصله، وأن يُشيِّع نفعه بين العباد،
وأن يتقبله، وأن يوفق ويسدد ويعين ويغفر ويتوب ويستر.
جزت تدوينه وترتيبه، فإن أحسنت.. فهذا محض فضل الله عليَّ، وإن وهذا ما أ
ا منه براءٌ براء، وأستنصحكم زللتُ.. فالزلل منسوبٌ إليَّ، وأعوذ بالله أن أذكركم به وأ
بقول العلامة الحريري في خاتمة المُلحَةِ:
فَانظُرْ إليها نَظَرَ المُستَحسِنِ وأحسِنِ الظَّنَّ بها وحَسِّنِ
( وإنْ تَجِدْ عَيبًا فَسُدَّ الخَلَلا فَجَلَّ مَنْ لا عَيبَ فيهِ وَعَلا( ١
والله الموفق، والهادي إلى سواء السبيل، والحمد لله رب العالمين
مُحَمَّد بن مُحَمَّد الأَسطَل
فلسطين - غزة – خان يونس
:( للتواصل( ٢
Mastal٢٠١٠@hotmail.com
.( ١) ملحة الإعراب ص ( ٨٧ )
٢) ويمكن التواصل على الفيس بوك على حساب: "محمد بن محمد الأسطل". )
٥
الفصل الأول
سيرة الإمام الشافعي ونشأته وما يتصل ا حتى وفاته
يهدف هذا الفصلُ إلى عرض سيرة الإمام الشافعي عرضًا يمكن من خلاله
الوقوف على العوامل المؤثرة في تكوين شخصيته الاجتهادية الكبيرة التي استطاعت أن
تؤسس ثالث المذاهب الفقهية.
وعرض الدكتور أكرم القواسمي وفقه الله سيرةَ الإمام الشافعي في عشرة
مباحث، تضمنت الملامح العامة للعصر الذي عاش فيه، واسمه ونسبه ومراحله التي
تنقل بينها، ورحلاته المتعددة، واشتغاله بتأسيس المذهب وتدوينه في العراق أولًا ثم إعادة
م مشروعه بفضل الله عليه، ودونك التدوين في مصر، وتنضيجه حتى قضى نحبه وقد أ
بيان ذلك:
٦
المبحث الأول
الملامح العامة لعصر الإمام الشافعي
وفيه مطلبان، تكلم الأول عن الناحية السياسية، وتطرق الثاني للناحية العلمية،
وإليك بسطَ ذلك:
ه عاصر ستةً ، وهذا يعني أ وتوفي عام ٢٠٤ وُلِد الإمام الشافعي سنة ١٥٠
و جعفر المنصور، وتولى الخلافة من سنة ١٣٦ من خلفاء بني العباس، وهم على التوالي: أ
أمون، ، ثم جاء المهدي ثم الهادي ثم هارون الرشيد ثم الأمين ثم ا إلى سنة ١٥٨
. إلى سنة ٢١٨ وهذا تولى الخلافة ابتداءً من سنة ١٩٨
ك الخلفاء بالاستقرار السياسي النسبي، عبر بسط وامتازت حقبةُ حكمِ أو
سلطان الدولة في الداخل، وتجريد السيف على الخارجين عليها، ومهابة الجانب فيما يتعلق
بالعلاقة مع العدو من خلال شحن الثغور، وخروج الحملات العسكرية في الصيف
والشتاء المعروفة بالصوائف والشواتي، والغالبُ في حال المسلمين صائفةٌ في كلِّ سنة،
وربما خرجت صائفةٌ وشاتيةٌ في نفس السنة، أو أكثر من صائفةٍ في وقتٍ واحدٍ في اتجاهين
مختلفين، كلُّ ذلك بحسب الحاجة.
ر الاستقرار السياسي والانتعاش الاقتصادي على الازدهار العلمي ولا يخفى أ
فسهم وأموالهم والثقافي في كلِّ زمانٍ ومكان؛ لأنَّ العلم صنعة، وإذا أمِن الناس في أ
دعوا في صنائعهم، وما حال المسلمين بالمدينة بعد الهجرة من مكة عنك ببعيد. أ
٧
رعى خلفاء بني العباس العلم، وأغدقوا الأموال على العلماء في عامة الفنون،
وجاراهم في ذلك الولاةُ والوزراء، وكان أول من سنَّ ذلك وجعله تقليدًا للدولة الخلفية
.( ١٦٩- محمد المهدي ( ١٥٨
وبنى الخلفاء المكتبات بعد أن أصبحت الكتبُ مادةً أساسيةً للمعرفة في هذا
أمون أشبه بالمنتدى العلمي في كلِّ العصر، وفتحوا مجالسهم أمام العلماء، فكان مجلس ا
فنون المعرفة، وتحول في كثيرٍ من الأحيان لساحةٍ واسعةٍ للجدال والمناظرة.
واتجه العلماء في هذا العصر إلى تدوين العلوم في سائر الفنون، حتى تمايزت العلوم
عن بعضها وظهر الاختصاصُ فيها، ولئن كان الخطُّ العامُّ الذي تلمح به الحركةَ العلمية
في زمن الخلافة العباسية هو تمكينَ الدين.. فإنه كان زمن الدولة الأموية تثبيتَ الدين؛
ا خشي أهل كلِّ علمٍ على علمهم من الآفات التي ظهرت.. هُرِعوا إلى جمع ه وذلك أ
مادته من غير تدوينٍ نهائيٍّ ليحفظوا العلم.
ف النحو فلما بدأ اللحن ينتشر في الألسنة بعد الاختلاط بين العرب والعجم.. أُ ِّ
ليضبط النطق ويعصم من اللحن.
ا اختلط الكلام الفصيح بالأعجمي والمُولَّد.. جمع علماء اللغة المفردات و
اللغوية من أفواه العرب الموثوق بعربيتهم.
فت ا حصل الاختلال في إدراك بيان القرآن وأسلوبه وفهمه على وجهه.. أُ ِّ و
البلاغة.
ا كثر الوضع في الحديث.. شرع المحدثون في جمع نصوص السنة، وهكذا. و
٨
فجاء من بعدهم فوجدوا تَرِكَةً عظيمةً وإرثًا ضخمًا استطاعوا أن يعيدوا ترتيبه
والزيادة عليه فضلًا عن الابتكار وإنتاج الطارف الجديد، ومن ثم نشطت حركة التدوين
حينئذٍ، وظهر في هذا العصر المصنفات؛ كموطأ الإمام مالك ورسالة الإمام الشافعي
وكتب محمد بن الحسن الشيباني وأضراب ذلك.
وإذا كان يُحسَبُ لهذا العصر دقةُ التدوين وبراعةُ التخصص.. فقد كان يُحسب
ادة العلمية حاملةً للعصر الذي قبله اجتماع العلوم في وعاءٍ واحدٍ، بحيث تكون ا
للمشتغل بها أن ينظر لعلوم الشريعة واللغة نظرًا متكاملًا صحيحًا.
والقصد من تقرير هذا المعنى الإشارة إلى حالة التضخم الذي صارت إليه
التخصصات، حتى صار المشتغل بدقائق علمٍ ومُلحِه لا يدري شيئًا عن العلوم الأخرى
كما هو الشائع اليوم، في حين أنَّ الشريعة كصرحٍ عظيم، وكل علمٍ منها بمنزلة حجرةٍ فيه
أو بابٍ أو جناح، فمن قضى عمره في علمٍ استطاع أن يبين لك تفاصيله، لكنه لم يلتقط
صورةً وافيةً عن الشريعة التي يحمل، فينقص تصورُهُ عن الدين بقدر النقص الحاصل
عنده.
ام بعامة العلوم إجمالًا، والجادة المقترحة لعلاج ذلك أن تجعل شطر وقتك للإ
والشطر الآخر للإحاطة بتخصصك تفصيلًا، وقد بسطت القول في تقرير هذا الداء وبيان
الدواء في كتاب "معارج العلوم".
وقد اتسعت رقعة الدولة العباسية حتى وصلت إلى حدود الصين شرقًا وأطراف
المغرب غربًا، وضمَّت لذلك خليطًا من الأعراق والثقافات واللغات، وكان من نتاج
ذلك ظهورُ تياراتٍ فكرية وسياسية متقابلة فيما بينها، فتحاورت وتجادلت حينًا
وتصارعت وتحاربت حينًا آخر.
٩
فظهرت فرقة الشيعة بصفتها العقدية والفقهية بعد أن كانت فرقةً سياسيةً صرفة
في العصر الأموي، ثم ما لبثت أن انقسمت على نفسها، فكان منها الإمامية والزيدية
والإسماعيلية وغير ذلك.
وظهرت فرقة المعتزلة بصفتهم مذهبًا فكريًا، ثم تحولت إلى فرقةٍ ذات أصول
خمسة وهي التوحيد والعدل والوعد والوعيد والمنزلة بين المنزلتين والأمر بالمعروف
أمون، حتى تبنى قولهم والنهي عن المنكر( ١)، وارتادوا مجالس الخلفاء وخاصة الخليفة ا
وقرَّبهم ومكن لهم، واعتبر قولهم بخلق القرآن قضيةً أساسيةً في حياة المجتمع الإسلامي،
ونتج عن ذلك فتنة خلق القرآن فيما بعد.
وتحول الخوارج كذلك إلى فرقةٍ عقديةٍ سياسيةٍ في هذا العصر بعد أن كانوا حركة
فسهم؛ فكان منهم الأزارقة والصفرية تمردٍ في العصر الأموي، وقد انقسموا على أ
والنجدات وغير ذلك.
والباحثُ في أصول الفِرَق وظروف النشأةِ والتكوين ومراحل التطور أو التدهور
يجد ساحةً خصبةً في هذا العصر وإن كان السواد الأعظم من المسلمين على منهج أهل
السنة والجماعة، فتكاد أن تكون الشيعة والخوارج والمعتزلة بالإضافة إلى المرجئة هي أشهر
١) لكن معنى التوحيد عنهم يتضمن نفي الصفات، ومعنى العدل عندهم يتضمن التكذيب بالقدر، وهو خلق )
أفعال العباد وإرادة الكائنات والقدرة على شيء، وأما المنزلة بين المنزلتين فهي عندهم أنَّ الفاسق لا يسمى
مؤمنًا بوجهٍ من الوجوه كما لا يسمى كافرًا، فنزلوه بين منزلتين، وإنفاذ الوعيد عندهم معناه أن فساق الملة
مخلدون في النار لا يخرجون منها بشفاعةٍ ولا غير ذلك، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يتضمن عندهم
.(٣٨٧-٣٨٦/ جواز الخروج على الأئمة وقتالهم بالسيف. انظر: مجموع الفتاوى لابن تيمية ( ١٣
١٠
ير على المشهد الفرق التي تفرع عنها غيرها، بل لا زالت هذه الفرق الأربع تحتفظ بالتأ
الفكري حتى يوم الناس هذا!.
وإلى جانب هذه الفِرق كان تلاميذ أئمة فقهاء أهل السنة يتناظرون ويتحاورون
ر بعضهم بطريقة في المساجد وفي مجالس الخلفاء والولاة في مسائل الفقه والأصول، وتأ
مناطقة اليونان التي عُرِفت بعد ترجمة كتبهم إلى العربية.
وفي هذا العصر صارت المناقشات والمناظرات سمةً للمشتغلين بالعلم، حتى
ظهر علم الخلاف المسمى اليوم بالفقه المقارن، ومن أقدم ما وصلنا من تلك المناقشات
المقارنة ما كتب الإمام الشافعي كما سيأتي.
و ولعلَّ من أحسن ما وُصِف به عصر الإمام الشافعي ما رقمَهُ العلامة محمد أ
زهرة في ذلك إذ قال: وإن شئت أن تسمي عصر الشافعي عصر المناظرات الفقهية
المثمرة.. فسمِّه، وإن شئت أن تقول: إنَّ الفقه الإسلامي الذي استُنبط كان مدينًا لهذه
المناظرات المخلصة الشريفة في غايتها.. فقُل!.
إلا أنَّ هذا الثراء النافع العظيم الذي فاز به الفقه ضاع اليوم -رغم انهمار
المستجدات والنوازل والحاجة إلى ذلك أشد الحاجة- بسبب تعظيم الذات والتعصب
للجماعات وتحقير المخالف، وظهرت الأخلاق الرديئة من مثل تعظيم القائل لا القول،
وعدم الإقرار بالحق، والجدل، والفجور في الخصومة؛ بحيث لا يُعترف بحسنات
المخالف؛ بل يؤصل لدفنها، واشتدت سطوة الخضوع لسلطان الحزب والجماعة، وبغياب
بعض الأخلاق غاب كثيرٌ من الأرزاق العلمية، ولله الأمر من قبل ومن بعد.
إنَّ عصرَ الإمام الشافعي تميز بأمورٍ خمسة:
١١
١. الاستقرار السياسي وقوة السلطة الحاكمة.
٢. الازدهار الاقتصادي وكثرة الأموال.
٣. رعاية السلطة الحاكمة للعلم وأهله.
٤. ظهور الفرق السياسية والعقدية والمذاهب الفقهية وكثرة المناظرات فيما
بينها.
٥. نشاط حركة الترجمة وتدوين العلوم.
فكانت البيئة السياسية والعلمية معينةً للإمام الشافعي في مشروعه الكبير.
١٢
المبحث الثاني
اسم الإمام الشافعي ومولده ونسبه
و عبد الله محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع بن السائب هو الإمام أ
بن عبيد بن عبد يزيد بن هاشم بن المطلب بن عبد مناف المطلبي القرشي.
ه صحابيٌّ ابن صحابيٍّ ابن صحابي ابن صحابي، والسائب أسلم ونُسِبَ لشافعٍ؛ لأ
بعد معركة بدر وحسن إسلامه، وعبيدٌ صحابيٌّ أُمُّهُ الشفاءُ بنت الأرقم، وعبد يزيد
، شيخًا كبيرًا، فاجتمع للشافعيِّ أربعةُ أجدادٍ من الصحابة صحابيٌّ أدرك النبيَّ
وأولهم هو شافع ولهذا نُسب إليه.
يا وكونه في عبد مناف، وشرفُ نَسَبِهِ يرجع لكونه قرش ويلتقي الشافعي بالنبيِّ
ا كان بينهم يا، وعند البخاري: "إِنَّمَا بَنُو هَاشِمٍ وَبَنُو المُْطَّلِبِ شَيْءٌ وَاحِدٌ"( ١)؛ وذلك مُطَّلب
من التناصر في الجاهلية والإسلام، وبنو المطلب هم الذين دخلوا الحصار مع بني هاشم في
شعب أبي طالب.
وأم الشافعي أزديةٌ من قبيلة الأزد، وقد رعت ولدها رعايةً حسنةً، ولم تشغله
بطلب الحرفة رغم الفقر وموت الأب، وهي التي وجَّهته إلى طلب العلم وحسنت نيتها
ه ليس من فيه، ولم يكن بيته بيتَ علم، وإذا استحضرت أنَّ الشافعي عاش يتيمًا فقيرًا وأ
َّه لم يُعمِّر.. أدركت أنَّ العلم هبةٌ من الله ورزق، وأنَّ الله إذا أعطى أدهش. بيتِ علمٍ وأ
وه إدريس بن العباس فقد كان يقيم في المدينة النبوية، فظهر فيها بعض ما أما أ
يكرهه فخرج إلى عسقلان، فأقام بها ومات فيها بعد مولد الشافعي بقليل.
.( ١) صحيح البخاري، رقم الحديث: ( ٣٥٠٢ )
١٣
، ويُجمع بين القولين بأنَّ غزة هي وقد وُلِد الشافعيُّ بغزة أو بعسقلان سنة ١٥٠
القرية وعسقلان هي المدينة، فمؤدى القولين واحد، وروى البيهقي بسنده إلى الشافعي
.( قوله: "وُلِدت بغزة وحملتني أمي إلى عسقلان"( ١
وعادت به أمه إلى مكة بعد قرابة السنتين من مولده، فوصلها طفلًا رضيعًا.
.(١١٨/ ١) معرفة السنن والآثار ( ١ )
١٤
المبحث الثالث
المرحلة الأولى من حياة الإمام الشافعي ونشأته بمكة
تعلم الشافعيُّ القراءةَ والكتابةَ في سنٍّ مبكرة، ورافق ذلك حفظَهُ للقرآن الكريم،
فم جم عََْهُ في السابعة من عمره، ثم حفظ ما تيسر له من أشعار العرب، ثم موطأ الإمام أ
دا. مالك وهو ابن عشر، وكان سريعَ الحفظ ج
وتلقى القرآن عن إسماعيل بن قسطنطين أحد قراء مكة في زمانه، وأخذه إسماعيل
، عن النبيِّ عن شِبْلٍ عن عبد الله بن كثير عن مجاهد عن ابن عباس ڤ عن أُبَيٍّ
في سلسلة التلاوة ستةُ رجال. فبينه وبين النبيِّ
ثم قصد قبيلةَ هُذيلٍ وهي أفصح العرب يومئذٍ؛ وذلك من أجل تلقي العربية من
العرب الأقحاح الذين لم يخالط لسانَهم العربي شيءٌ من اللحن أو العجمة، وكان يرحل
ه صار حجةً في اللغة، ولهذا قال مرت هذه المخالطة التامة أ برحيلهم وينزل بنزولهم، وأ
ابن هشام صاحب المغازي: "الشافعي ممن تؤخذ عنه اللغة".
وقال الأصمعي: صحَّحتُ أشعارَ الهُذليين على شابٍّ من قريشٍ بمكة يقال له:
محمد بن إدريس الشافعي.
ام الناس وقال محمد ابن بنت الشافعي: أقام الشافعي على قراءة العربية وأ
عشرين سنة، وقال: وما أردت بهذا إلا الاستعانة على الفقه.
ولم تكن إقامته بهذيل متصلة.
ن تؤكل الكتف، وفهم مبكرًا أنَّ ا عبد الله الشافعي عرف من أ والحق أنَّ إمامنا أ
اللغةَ هي سبيله إلى الفقه والأصول وفهم الشريعة، وأنَّ نبع اللغة إنما هو في شعر العرب
١٥
وأدبهم وتاريخهم ولسانهم الذي يؤخذ من أفواههم، والذي أُودِع كتب المعاجم، واليوم ما
زال طالب العلم يتعثر في كتب النحو والصرف، ويحسب أنَّ اللغةَ محصورةٌ في قانون
الكلام وسلامته من اللحن، ويمضي حياته في ذلك ولا يتجاوز.
وتجدر الإشارةُ إلى أنَّ الشافعي كان يؤلف كتبه باللغة العربية البسيطة؛ تحصيلًا
تَ الشافعي وحسنَ لمصلحة الرواج في الناس، ونبَّه الربيع المرادي على ذلك فقال: "لو رأ
فَ هذه الكتب على عربيته التي كان يتكلم بها لم ه أَ َّ بيانه وفصاحته لتعجبت منه، ولو أ
يُقدر على قراءة كتبه".
ساب، ونبغ واستفاد الشافعي خلال إقامته بالبوادي معرفة السير والتواريخ والأ
ام الناس من الشافعي". ت أحدًا أعلم بأ في ذلك حتى قال مصعب الزبيري: "ما رأ
رز الشيوخ الذين كان لهم الذي يتأمل المسيرة العلمية للإمام الشافعي يجد أنَّ أ
ر في حياته ثلاثة: أحسن الأ
.[ أولهم: الإمام سفيانُ بن عيينة محدث الحرم في زمانه [ت: ١٩٨
وهذا هو الذي زرع بذور فقه مدرسة الحديث في عقلية الشافعي، وقال الشافعي
ت أحدًا ةِ العلم ما في سفيان بن عيينة، وما رأ تُ أحدًا من الناس فيه من آ فيه: "ما رأ
تُ أحدًا أحسنَ لتفسير الحديث منه". أكفَّ عن الفُتيا منه، وما رأ
وقال: "لولا مالكٌ وسفيان لضاع علمُ الحجاز".
١٦
وثانيهم: الإمام مسلم بن خالد الزَّنجي شيخ الحرم ومفتي مكة وإمامها في زمانه
]، أخذ عنه الفقه وتمكن فيه حتى أذن له بالإفتاء وهو ابن خمسة عشر عامًا، [ت: ١٧٩
وصحبةُ الفحول تُفحِّل.
ا رآه يطلب وهذا الإمام هو الذي أقنع الشافعي بتلقي الفقه والعناية به؛ فإنه
ه من بني عبد مناف قال له: "لقد شرَّفَك الله في الدنيا والآخرة، ألا جعلت النحو وعلم أ
فَهمَكَ هذا في الفقه فكان أحسن بك"!.
ومن هذا اليوم صار الشافعي يطلب النحو وعلوم العربية على أنها وسيلةٌ للتمكن
في الشريعة والفقه بعد أن كان يطلبها غايةً، ومرَّ بنا قول محمد ابن بنت الشافعي: "أقام
ام الناس عشرين سنة، وقال: وما أردت بهذا إلا الاستعانة الشافعي على قراءة العربية وأ
على الفقه".
والإمام مسلم بن خالد لم يكن للشافعي مجرد فقيه؛ بل كان مربيًا ومرشدًا علاوة
على كونه معلمًا.
ريُّ الفقهيُّ للإمام الشافعي منه؛ فإنه أخذ الفقه عنه، وهو الذي يبدأ السندُ الأ
، وفقهاء الصحابة وهو أخذه عن ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس ڤعن النبي
في سلسلة الفقه أربعةُ رجال. فبينه وبين النبي
]، فإن الشافعي س إمام دار الهجرة [ت: ١٧٩ وثالثهم: هو الإمام مالك بن أ
ا أخذ حظه من علوم أهل مكة قصد الإمام مالكًا بالمدينة، وقرأ عليه الموطأ وقد كان
يحفظه.
لكن صحبته للإمام مالك لم تأخذ طابع الملازمة إلا في السنوات الأخيرة من
حياته، أما قبل ذلك فكان يتردد على مكة وعلى القبائل العربية، مما يعني أنَّ ملازمته للإمام
١٧
مالك لم تكن ممانعةً له من سفره فضلًا عن اختياراته الشخصية كما خلص إلى ذلك الشيخ
و زهرة. العلامة محمد أ
وسيأتي مزيدُ بيانٍ لصحبته للإمام مالك في المبحث الآتي.
١٨
المبحث الرابع
المرحلة الثانية من حياة الإمام الشافعي وصحبته للإمام مالك
المدينة المنورة وهي قبلة العلم والعلماء، ولم يُؤَثِّرْ على منذ أن استوطن النبي
ثم إلى دمشق ، ذلك نقلُ العاصمة السياسية إلى الكوفة في عهد سيدنا علي بن أبي طالب
وموضع الأسانيد العالية ، في عهد بني أمية؛ وذلك لأنها محل إقامة جمهور الصحابة
للأحاديث النبوية، والاجتهادات الفقهية والأقضية بين الناس.
ومن ثم ورث التابعون من أهل المدينة هذا العلم الجم، وأشهر الفقهاء الفقهاءُ
و بكر بن عبد الرحمن بن الحارث، السبعة وهم: سعيد بن المسيب وعروة بن الزبير وأ
[ ، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود [ت: ٩٨ وثلاثتهم توفي عام ٩٤
] والقاسم بن محمد بن أبي بكر وسليمان بن يسار، وخارجة بن زيد بن ثابت [ت: ١٠٠
، وجمعهم بعضهم بقوله: وكلاهما توفي عام ١٠٧
ألا كل من لا يقتدي بأئمة فقسمته ضيزى عن الحق خارجه
و بكر خارجه فخذهم عبيد الله عروة قاسم سعيد سليمان أ
وجاء بعدهم جماعةٌ من أكابر علماء التابعين مثل: ربيعة بن أبي عبد الرحمن المسمى
بربيعة الرأي شيخ الإمام مالك، فأضحى المسجد النبوي جامعةً إسلاميةً كبرى أغنت
الإمام مالكً ا عن الرحلة في طلب العلم، وأضحت المدينةُ مهدَ مدرسةِ أهل الحديث.
ه الذي ورث علم أهل والمستقرئ لسيرة الإمام مالك وزمانه العلمي يدرك أ
ه بات الشخصية العلمية الأولى في بلاد المسلمين قاطبةً بعد وفاة أبي حنيفة، المدينة، وأ
١٩
ت رياسة مدرسة أهل الحديث في عصره، وصار هو قبلة المستفتين من شتى أرجاء وإليه آ
الدولة الإسلامية، حتى قيل: "لا يُفتى ومالكٌ في المدينة".
وقد تولى الإمام مالك الإفتاء والتدريس بالمسجد النبوي، وكان شديدَ التعظيم
وكان صلبًا في دينه، بعيدًا عن الملوك والأمراء، بل قُذِفَت مهابتُهُ في ، لحديث النبي
قلوبهم فضلًا عن غيرهم.
ا قصده الشافعيُّ لتلقي العلم ووقف بين يديه في أول لقاءٍ به نظر إليه الإمام و
مالك ساعةً( ١) ثم قال له: "اتق الله واجتنب المعاصي؛ فإنه سيكون لك شأنٌ من الشأن"!.
وقرأ عليه الشافعي الموطأ روايةً ودرايةً، وما اتصل به من علم الجرح والتعديل،
وتلقى في حلقته أصول مدرسة أهل الحديث ليتمم بهذا ما بدأه عند شيخه سفيان بن عيينة
بمكة، حتى أصبح الإمام مالك الشيخَ الأول للشافعي لطول الملازمة.
يا أولَ أمره، فكان يفتي بآراء الإمام مالك وأقواله، ولم تظهر وكان الشافعيُّ مالك
له في هذه المرحلة شخصيةٌ علميةٌ مستقلةٌ ذاتُ اختياراتٍ شخصية، أما كتاب "اختلاف
مالك والشافعي".. فقد صنَّفه بمصر بعد أكثر من عشرين عامًا مضت على صحبة الإمام
مالك، وكان له باعثٌ وسبب سيأتي بيانه، وكان يومها قد بلغ مبلغًا عظيمًا في الاجتهاد
ورسوخ القدم في الفقه، وليس هو من سمَّاه بهذه التسمية.
س، ومالك وسجَّلت المرويات قول الشافعي: "ما أحد أمنَّ عليَّ من مالك بن أ
س معلمي وعنه أخذت العلم"، وقوله: "ما في الأرض كتابٌ من العلم أكثر صوابًا بن أ
من موطأ مالك".
١) الساعة هنا هي الجزء من الوقت لا الجزء من أربعة وعشرين جزءًا من اليوم. )
٢٠
بقيت الإشارة إلى أنَّ تلمذةَ الشافعي لم تنحصر في الإمام مالك في المدينة؛ بل عدَّ
الإمام البيهقي ثلاثة عشر شيخًا للشافعي أخذ عنهم العلم بالمدينة سوى الإمام مالك.
٢١
المبحث الخامس
المرحلة الثالثة من حياة الشافعي ورحلته إلى اليمن للعمل
كان الإمام الشافعيُّ فقيرًا، وبعد وفاة شيخه مالك رأى أن يتَّجه إلى العمل
ال، يستعين به على طلب العلم وعلى إصلاح حاله وحال أهله، ليُحصِّلَ شيئًا من ا
يا في البداية وأحسن فيه، فذهب إلى اليمن وكان عمره يومئذ ٢٩ سنة، وعمل عملًا إدار
فوُلِّي على إثر الإجادة فيه ولايةً عامةً في نجران، وإن لم تكن هي القضاء فهي ذاتُ صلةٍ به،
با وقبولًا. وانعقدت عليه القلوب ح
وحمل هذا القبول حُسَّادَ الشافعي وأصحاب المصالح أن يكيدوا له عند أمير
المؤمنين هارون الرشيد، عبر تلفيق تهمةٍ له بالخروج مع العلويين على الدولة العباسية،
وكانت الأجواء المشحونة بمحاولات الخروج تجعل اتهام أي شخصٍ بذلك سبيلًا
للبطش به ولو لشبهة.
وتعرض الشافعي بسبب ذلك لفتنةٍ شديدة إلا أنها انتهت بنجاته من القتل، وكان
للإمام محمد بن الحسن الشيبانيِّ دورٌ كريمٌ في ذلك؛ فقد زكاه عند الخليفة ثم آواه عنده،
وبدأت رحلة الاشتغال بالعلم في العراق.
وبهذا غادر اليمن مسوقًا إلى العراق ليتربع بين يدي أحد أكبر فقهاء الديار
رز رجال مدرسة الرأي، فهو قد ذهب إلى اليمن يريد العمل الإسلامية يومها، وأحد أ
لكنَّ الله أراد له العلم، وما أعجبه من قدر حين يقاد الشخص للتفقه وإتمام مشروع
الإمامة في الدين بالسلاسل!.
٢٢
ولم تنقطع صلةُ الإمامِ الشافعيِّ خلال عمله باليمن بالعلم؛ بل مضى يأخذه، ومن
و عبد الرحمن هشام بن يوسف الصنعاني قاضي صنعاء وفقيهها. رز من أخذ عنهم أ أ
ه خالط الناس ومن أهم حسنات الرحلة إلى اليمن والتي مكثت خمس سنواتٍ أ
على اختلاف مستوياتهم، واطلع على مشكلاتهم بعد أن كان اختلاطه بالعلم وأهله
فحسب، والذي يعايش الناس ويتعرف إلى أحوالهم ويعرف عوائدهم وطرق تفكيرهم
يصبح يحس بهم، ويكون أقرب إلى الاندماج في أوساطهم والتعرف على خبيئة نفوسهم،
ويدرك على إثر ذلك أنَّ العلم ليس مجرد معلومات؛ وإنما هو مفاهيم وتصورات، وهذا
يعود على مادة العلم والإفتاء والدعوة بالقوة والرسوخ وحسن الفهم وكمال التصور.
٢٣
المبحث السادس
المرحلة الرابعة من حياة الشافعي ولقائه بمحمد بن الحسن ببغداد
مُتَّهَمًا بالسعي للخروج مع أُخِذَ الإمامُ الشافعي إلى الخليفة في بغداد سنة ١٨٤
العلويين على الخلافة العباسية، وانتهى الأمر بنجاته كما مرَّ.
والذي يعنينا هنا أنَّ الإمام الشافعي استوطن بغداد بعد انتهاء المحنة، ولم يرجع
إلى اليمن أو الحجاز؛ فقد استهوته مجالس العلم في عاصمة الخلافة، وكانت سوق العلم
فيها رائجة، وتاقت نفسه إلى أخذ فقه مدرسة أهل الرأي وأصولها، والتي كان معظم
أعلامها قد استوطنوا العراق عامة وبغداد والكوفة خاصة، والمراد بالرأي الاجتهاد
المنضبط بالأصول والقواعد.
ت إليه وبدأت رحلةُ التلمذةِ عند الإمام محمد بن الحسن الشيباني، وهو الذي آ
رياسة الفقه في العراق بعد أبي يوسف القاضي، وكان حامل لواء مدرسة أهل الرأي في
عصره.
ومحمد بن الحسن أخذ الفقه عن أبي حنيفة، ثم عن أبي يوسف، ولازم الإمام
مالكًا في المدينة ثلاث سنين وكَسْرًا، كما ولقي الإمام الأوزاعي فقيه الشام وسمع منه،
وكان مُقدَّمًا في العربية والنحو والفقه والأصول، وكان من أفصح الناس، جلس للتدريس
وهو ابن عشرين سنة، وهو الذي تولى تدوين فقه الإمام أبي حنيفة ونشر مذهبه، ولمؤلفاته
مكانةٌ سامقةٌ في المذهب الحنفي، وفي مقدمتها ما يسمى بكتب ظاهر الرواية، وهي الأصلُ
والجامعُ الصغير والجامع الكبير والسِّيَرُ الصغير والسير الكبير والزيادات.
٢٤
ومن فضل الله تعالى على الشافعي أن يسَّر له التلمذة الطويلة على هذا الإمام؛ فإنَّ
صحبة الفحول تُفحِّل، ومجالسة الكبار تجعل الإنسان من الكبار، وإذا كانت القراءة
للمتقدمين تُقَدِّم.. فكيف بالأخذ المباشر عنهم!.
قال الشافعي: "حملت عن محمد بن الحسن وِقْرَ بعير ليس عليه إلا سماعي منه"،
الكٍ ثم لمحمد بن الحسن". وقال: "إني لأعرف الأستاذية
وبهذا تمت النعمةُ على الشافعي إذ أخذ الفقه عن فقيه مكة في زمانه مسلم بن
خالد الزنجي، ثم عن فقيه مدرسة أهل الحديث الإمام مالك في المدينة، ثم عن فقيه
مدرسة أهل الرأي في زمانه محمد بن الحسن في العراق.
وفي الوقت الذي كان يوجه كثيرٌ من طلاب مدرسة الحديث سهامَهُ لرجال
ديهم ويأخذ عنهم وفي نفس الوقت يناقشهم مدرسة الرأي كان الشافعي يتتلمذ على أ
ويرد عليهم!.
ه يمكن أن يتحول اذا يتنازع طلاب العلم والمشتغلون به فيما بينهم مع أ
الخلاف إلى مجالس درسٍ ومدارسةٍ ومناظرةٍ يُثرى بها العلم وينضج بها أهله!.
إنَّ الخلاف مع المخالف فيما لو حصل هو خلاف حجةٍ لا خلاف قلوب كما
ذ نقاش المخالف وسط سمعت ذلك من شيخنا عبد الهادي الخضر وفقه الله، وما أ
ابتسامة الوجوه وغياب البغض وحضور الحب والعدل والإنصاف!.
بقيت الإشارةُ إلى أنَّ الإمامَ الشافعيَّ لم تنحصر تلمذته ببغداد في الإمام محمد بن
رزهم: وكيع بن الجراح محدث العراق [ت: الحسن؛ بل أخذ عن جملةٍ من أهل العلم من أ
]، وقد كان يفتي بمذهب أبي حنيفة. ١٩٧
٢٥
وأخذ كذلك عن إسماعيل بن إبراهيم البصري المعروف بابن عُليَّة وهي أمه [ت:
]، وكان فقيهًا إمامًا مفتيًا من أئمة الحديث. ١٩٣
]، وهذا وأخذ كذلك عن الإمام عبد الوهاب بن عبد المجيد الثقفي [ت: ١٩٤
الذي قال فيه الحافظ ابن حجر: "ثقةٌ مشهور، لا يُنكر له إذا انفرد بحديثٍ بل وبعشرة"!.
وهكذا ساق الله الشافعي إلى مجالس الفقه ليأخذ عن أكابر أهله بعد أن أراد
حُسَّادُه أن يفتكوا به، والعجيب أنَّ أسماءهم لم يُحتفظ بها، وذكر الدكتور أكرم القواسمي
ه لم يستطع أن يترجم لأحدٍ منهم، فقد درسهم التاريخ وغيَّبهم وحفظ الشافعي وفقه الله أ
ره، ولا يمر يوم تطلع عليه الشمس إلا وينتفع الناس من علمه، ويذكرون أدبه ومآ
وفضله وخيره.
ك أنهم أدواتٌ في تنفيذ القدر ليكونوا سببًا في تقديم خدمة فهل خطر ببال أو
ذات خطرٍ للإمام الشافعي كانت من أهم عوامل جعله من الشخصيات المحورية في
تاريخ الأمة الإسلامية!.
٢٦
المبحث السابع
المرحلة الخامسة من حياة الشافعي في مكة وظهور مذهبه
على الراجح، وذلك بعد غادر الإمامُ الشافعيُّ بغداد إلى مكة المكرمة عام ١٨٩
وفاة شيخه الإمام محمد بن الحسن الشيباني، فيكون قد مكث في العراق خمس سنوات.
واتخذ له حلقةً للتدريس بالمسجد الحرام، وكان يجلس بفناء زمزم قبالة ميزاب
لا عن غيره، فهو الذي الكعبة المشرفة، وفي هذه الحلقة بدأ يظهر فقه الإمام الشافعي مستق
ينشئ الفُتيا في هذه المرحلة، ويعرض المسائل من غير إحالةٍ على شيخه مالك وموطئه،
وإن لم يكن من حيث النتيجة مخالفًا له في أكثر الأحكام.
وإنما بدا الخلاف ظاهرًا في بعض مسائل الأصول وطرق الاستدلال أكثر منه في
النتيجة والحكم، وبدأت شخصية المجتهد المطلق آخذةً في التشكل، والمجتهد المطلق هو
الذي يستقل باجتهاده في الأصول والفروع والاستنباط من الأدلة.
ةً انفرد فيها عن الأئمة الثلاثة، وأحصى ابن كثيرٍ في كتابه المناقب ٢٨٠ مسأ
واليوم توجد دراسات تستقرئ الموسوعات الفقهية، وتقف على مفردات المذهب عن
المذاهب الثلاثة.
اجستير: وأحصى الباحث جمال عبود محمد الديب الجزائري في رسالته ا
ةً أصوليةً بارزة الكٍ في المسائل الأصولية" خمسًا وعشرين مسأ "مخالفات الشافعي
حصل فيها الخلاف، وجلَّى تمايز أصول الإمامين على ما آل إليه الأمر بعد ظهور المذهب
الجديد للإمام الشافعي في مصر.
٢٧
وعُرف اجتهاد الإمام الشافعي الذي ظهر في هذه المرحلة بالمذهب القديم،
وذلك عند المقابلة مع فقهه في مصر الذي دوَّنه ومات عليه والذي عُرِف بالمذهب الجديد،
ة بإذنه تعالى. وسيأتي مزيدُ تفصيلٍ لهذه المسأ
ه دمج بين طريقة رز السمات التي تميز بها طرحُ الإمامِ الشافعي في دروسه أ ومن أ
مدرسة الحديث ومدرسة الرأي بعد أن اجتمع له فقه المدرستين عن مشافهةٍ وقُرب، فلم
يكن يكتفي بسرد روايات الحديث وشواهده ومتابعاته وعدم الغوص في فقهه على طريقة
المحدثين، ولم يكن يستطرد في الأقيسة وإعمال الرأي مع وفرة النصوص والآثار على
طريقة أصحاب أبي حنيفة؛ بل جمع بين فضل المدرستين، وكان يعرض آيات القرآن
وأحاديث السنة وآثار الصحابة مع حسن فقهٍ وتفسيرٍ وتدبرٍ واستنباط.
رزهم وفي هذه المرحلة اتصل به عددٌ من أهل العلم الذين أخذوا عنه، ومن أ
الإمام إسحاق بن راهويه، وكذلك الإمام أحمد بن حنبل.
ا كان الإمام أحمد يأتي مكة صار يؤثر مجلس الإمام الشافعي على مجلس الإمام و
سفيان بن عيينة، مع صغر سنِّ الأول وعلو إسناد الثاني وكونه شيخًا للإمام الشافعي
نفسه.
ا رأى الفضل بن إسحاق البغدادي ذلك منه -وكان رفيقًا له في الرحلة- قال و
ا عبد الله تركت ابن عيينة وعنده فلان وفلان –وذكر جماعةً من كبار التابعين-! له: يا أ
فقال له: "اسكت؛ فإن فاتك حديثٌ بعلوٍّ تجده بنزول لا يضرك في دينك ولا في عقلك،
ت أحدًا أفقه في كتاب الله وإن فاتك أمر هذا الفتى أخاف أن لا تجده إلى يوم القيامة، ما رأ
من هذا الفتى القرشي".
٢٨
ه قال: "ما أحد مس بيده محبرة وقلمًا إلا وللشافعي رت عنه أ ومن الأقوال التي أُ
في عنقه منة".
وقال: "كان الفقه قُفلاً على أهله حتى فتحه الله بالشافعي".
نا الشافعي". ى حنيفة حتى رأ وقال: "كانت أقفيتنا لأصحاب أ
فبينها وقال: "ما كان أصحاب الحديث يعرفون معاني أحاديث رسول الله
لهم".
وقال: "هذا الذي ترون كله أو عامته من الشافعي، ما بت مدة أربعين سنة إلا
وأدعو الله للشافعي وأستغفر له".
ا قدم علينا الشافعي سرنا على المحجة البيضاء". وقال: "
." وكان مع بعض نفر فمر الشافعي فقال: "هذا رحمة الله عز وجل لأمة محمد
تِ أي رجل كان الشافعي؛ فإني أسمعك تكثر الدعاء له؟ ه ولده: يا أ ا سأ و
فقال: "يا بني؛ كان الشافعي رحمه الله كالشمس للدنيا والعافية للناس، فانظر هل لهذين
من عِوَضٍ أو خلف".
والإمام أحمد معدودٌ من نقلة المذهب القديم، ثم استقل بمذهبه، كما حصل مع
الك الشافعي من تلقيه العلم عن الإمام مالك ثم استقلاله، وإن كانت صحبة الشافعي
رًا من صحبة الإمام أحمد للشافعي، وأحسب أنَّ انتفاعَ الإمام أحمد أطول زمنًا وأكثر أ
بالشافعي كان في الأصول والاستنباط ومناهج الاستدلال أعظم منه في فروع الفقه.
يا ثم استقل بمذهبٍ له، وكان أحمد بن حنبل ويمكن القول: كان الشافعي مالك
يا ثم استقل بمذهبٍ له، هكذا فلتكن أخبار الأئمة وقصص النجاح، فالعالم الحق هو شافع
من يؤصلك ليوصلك، لا ليعلمك فحسب.
٢٩
وبالجملة فقد كانت حلقةُ الإمامِ الشافعيِّ في المسجد الحرام سببًا لانتشار صيته في
ون المسجد الحرام في رحلة الحج والعمرة سائر البلاد الإسلامية، فلا يزال الناس يأ
ر ويجلسون إلى علماء مكة، وينشرون كلامهم وفضلهم في الناس شرقًا وغربًا، ولا يخفى أ
العواصم في نشر الأفكار وأخبار العلماء والأمراء وذوي الهيئات، والانتفاع بالعواصم
ضًا في حال الأئمة الثلاثة أبي حنيفة ومالك وأحمد. نجده أ
ومكث الشافعي في مكة في هذه القدمة ست سنوات، وتوفر له فيها الانصراف
الكافي والتأمل المبصر لاستخراج قواعد استنباط الأحكام، بعيدًا عن ضَجَّةِ العراقِ
وتناحر الآراء فيه.
٣٠
المبحث الثامن
صفُّ الكتاب صفٌّ شخصي، وقد تعجلت بنشره قبل تولي إحدى دور النشر أمرطباعته
، لمصلحة برنامج "كفاية الفقيه" الذي فُتح بابُ الالتحاق به في شهر ربيع أول ١٤٤٣
وعسى أن يُطبع الكتاب قريبًا.
وقد تمَّ إلقاءُ مادة الكتاب في المعتكف العلمي الأول للبرنامج في ( ١٢ ) محاضرة مسجلةً
يا، ويتولى "مركز ابن القيم للعلوم الشرعية" نشرها على موقعه على التليغرام مرئ
ضًا على قناتي الشخصية. واليوتيوب، وأقوم بالنشر أ
ه وصحبه ومن الحمد لله رب العالمين، والصلاةُ والسلام على نبينا محمد، وعلى آ
تبعه بإحسانٍ إلى يوم الدين، أما بعد:
فهذا مختصرٌ لطيفٌ لكتاب "المدخل إلى مذهب الإمام الشافعي" للدكتور الفاضل
أكرم القواسمي وفقه الله تعالى، مع بعض الزيادات المهمة، وإثراء بعض الأفكار
والمفاهيم الواردة فيه، أردت أن يكون جرعةً يرتشفها المتفقه إلى جانب اشتغاله بعلم
المسائل والفروع.
م كتابًا أو كتابين من الفروع.. فإنَّه يحسن به أن يقرأ رزمةً من كتب فإذا ما أ
المداخل إلى علم الفقه عامة والمذهب الشافعي خاصة؛ لدورها الكريم في رسم
التصورات الفقهية والمفاهيم المذهبية والشرعية، وقد دوَّنت خطةً مقترحةً لذلك ضمن
حقته بهذا المختصر فينظرها من شاء. معراج علم الفقه الذي أ
أما عن سياسةِ هذا المختصر.. فإني أمسك قلم الاختصار وآخذ أكتب، وما يمليه
الخاطر من إثراءٍ للفكرة التي يخطها القلم، أو إضافةٍ خادمةٍ وزيادةٍ مؤيدةٍ.. فإنها تختلط
ه ما يشق معه الفصل بين الزيادة والأصل، فكأ بنفس مادة الكتاب الأصل اختلاطًا تا
كتابٌ مستقلٌّ ولكن بمراجع محدودة.
فليس هذا الكتاب متنًا يُشرح فتعزو كل قطعةٍ لصاحبها، وليس شرحًا يُختصر
فاظٍ أقل؛ وإنما هو شحنٌ للمعاني في نفس الوقت الذي ليس فيه إلا عرضُ المعنى في أ
٢
تجري فيه عملية الاختصار، فهو بالعصير الذي يتكون من فواكه متعددة أشبه، فإنها تُخلَطُ
ادته. ببعضها وتُصهَرُ حتى تخرج على هيئةٍ لا يسهل معها أن ترد كلَّ لونٍ
ائة، أما عن نسبة الإثراء والإضافة.. فأحسبها تتردد بين العشرين والثلاثين با
وهذا في النظر الأعم؛ فربما تمحضت فقرةٌ زيادةً، وربما تمحضت فقرةٌ اختصارًا، والمقارنةُ
مع الأصل في كلِّ ذلك هو الذي يعطيك النتائج دقيقةً.
وتلخَّصَ مما تقرر أنَّ هذا الكتاب هو اختصارٌ وإثراءٌ وزيادة، ويبقى الفضل
بتها القلم. للمؤلف؛ فإنَّ ما خطَّه هو الذي ثوَّر المعاني المتناثرة في صدري حتى أ
ناء الاختصار فكرةً في الأصل تحتاج لمزيدِ بيان، أو ومن عملي أني ربما شرحت أ
نضَّجت مفهومًا يحتاج لاكتمال، أو قيَّدت فيه شيئًا، أو طوَّرتُ من دلالته.
والكتابةُ في هذا الموضوع ليست ثغرةً بحثيةً ومساحةَ فراغٍ لتتحتم الكتابة فيه؛
ولكني كنت قد قرأت الكتاب ولخَّصته لنفسي ولبعض إخواني الذين سمعوا مني خلاصتَه
شر التلخيص للإخوة، وتجددت الفكرة بين في مجالس علميةٍ، وطلب بعض الكرام أن أ
ام بمادة المختصر، فأمسكت القلم وأعدت يدي برنامجٍ علميٍّ سيعقد ومن مقرراته الإ
كتابته ليكون مختصرًا محررًا يمكن أن يُطَّلَعَ عليه وينشر، وهو يوفر الوقت لمن شقَّ عليه
النظر في الأصل، وكان الاختصار فرصةً لبث المفاهيم الفقهية التي أريد في ثنايا صفحات
الكتاب.
ا وقد تمت الجولة الأولى من البرنامج، وشُرِحَ الكتابُ في اثني عشر مجلسًا علمي
بفضل الله تعالى، ولعلها تبث عبر الشبكة عن قريبٍ بإذنه تعالى، وهذا نظرٌ جديدٌ في
الكتاب ومراجعةٌ بين يدي دفعه إلى الطباعة، يسَّر الله تعالى ذلك.
٣
وقد جاء الكتاب لتحقيق ثلاثة أهداف:
الأول: تسليط الضوء على الشخصية الاجتهادية للإمام الشافعي رحمه الله، من
ه هو من حيث العواملُ المؤثرةُ في تكوينها، والآثارُ العلميةُ المنبثقةُ عنها، ويعين في ذلك أ
تولى تدوين فقهه وأصوله بنفسه، بخلاف الأئمة الثلاثة أبي حنيفة ومالك وأحمد.
الثاني: دراسة التطور التاريخي للمذهب الشافعي، من التأسيس حتى الكمال، بل
وحتى يوم الناس هذا.
رز المصطلحات الواردة في الثالث: تيسير مهمة الدارس للفقه الشافعي بشرح أ
كتب المذهب، وبيان أهم المصنفات في الفقه وأصوله.
أما خطة الكتاب.. فجعلها المؤلف في بابين:
أما البابُ الأولُ.. فقد اندرج تحته ثلاثة فصول، تحدث الأول عن سيرة الإمام
ه حتى الوفاة، وتطرق الثاني لعلوم الإمام الشافعي، وتناول الثالث آثاره الشافعي ونشأ
العلمية.
وأما الباب الثاني.. فتحدث عن المذهب الشافعي نفسه، وجاء في فصلين، تناول
الأول التطور التاريخي للمذهب الشافعي، وتولى الثاني بيان مصطلحات الشافعية وعرض
رز المصنفات الفقهية والأصولية. أ
َّه موجودٌ في الأصل بعزوه، وما أضيفه به أنَّ ما أذكره هنا من غير عزوٍ مردُّه أ وأ
خالصًا مما سبيله النقل فإني أعزوه لمظانِّه.
حقتُ بهذا المختصرِ المعراجَ العلميَّ المقترحَ لكلٍّ من علم الفقه وأصوله، وقد أ
وكنت قد كتبته في كتاب "معارج العلوم" ضمن معارج العلوم الشرعية الأخرى،
٤
واستللته هنا تتمةً للفائدة، ولوجود نوع ارتباط بين المدخل إلى المذهب والدراية بخطة
الدراسة فيه.
ا طلال على ا محمد وأخي الشيخ محمد خلف أ وأشكر أخي الشيخ عماد الداية أ
تفضلهما بمراجعة الكتاب مراجعةً دقيقة، وقد أفدت منهما وانتفعت كتب الله لهما ولكم
كل خيرٍ وفضلٍ وفضيلة، وجمع فيهما وفيكم من الفضائل ما تفرق في غيركم من الأفاضل.
أسأل الله تعالى أن ينفع بهذا المختصر كما نفع بأصله، وأن يُشيِّع نفعه بين العباد،
وأن يتقبله، وأن يوفق ويسدد ويعين ويغفر ويتوب ويستر.
جزت تدوينه وترتيبه، فإن أحسنت.. فهذا محض فضل الله عليَّ، وإن وهذا ما أ
ا منه براءٌ براء، وأستنصحكم زللتُ.. فالزلل منسوبٌ إليَّ، وأعوذ بالله أن أذكركم به وأ
بقول العلامة الحريري في خاتمة المُلحَةِ:
فَانظُرْ إليها نَظَرَ المُستَحسِنِ وأحسِنِ الظَّنَّ بها وحَسِّنِ
( وإنْ تَجِدْ عَيبًا فَسُدَّ الخَلَلا فَجَلَّ مَنْ لا عَيبَ فيهِ وَعَلا( ١
والله الموفق، والهادي إلى سواء السبيل، والحمد لله رب العالمين
مُحَمَّد بن مُحَمَّد الأَسطَل
فلسطين - غزة – خان يونس
:( للتواصل( ٢
Mastal٢٠١٠@hotmail.com
.( ١) ملحة الإعراب ص ( ٨٧ )
٢) ويمكن التواصل على الفيس بوك على حساب: "محمد بن محمد الأسطل". )
٥
الفصل الأول
سيرة الإمام الشافعي ونشأته وما يتصل ا حتى وفاته
يهدف هذا الفصلُ إلى عرض سيرة الإمام الشافعي عرضًا يمكن من خلاله
الوقوف على العوامل المؤثرة في تكوين شخصيته الاجتهادية الكبيرة التي استطاعت أن
تؤسس ثالث المذاهب الفقهية.
وعرض الدكتور أكرم القواسمي وفقه الله سيرةَ الإمام الشافعي في عشرة
مباحث، تضمنت الملامح العامة للعصر الذي عاش فيه، واسمه ونسبه ومراحله التي
تنقل بينها، ورحلاته المتعددة، واشتغاله بتأسيس المذهب وتدوينه في العراق أولًا ثم إعادة
م مشروعه بفضل الله عليه، ودونك التدوين في مصر، وتنضيجه حتى قضى نحبه وقد أ
بيان ذلك:
٦
المبحث الأول
الملامح العامة لعصر الإمام الشافعي
وفيه مطلبان، تكلم الأول عن الناحية السياسية، وتطرق الثاني للناحية العلمية،
وإليك بسطَ ذلك:
ه عاصر ستةً ، وهذا يعني أ وتوفي عام ٢٠٤ وُلِد الإمام الشافعي سنة ١٥٠
و جعفر المنصور، وتولى الخلافة من سنة ١٣٦ من خلفاء بني العباس، وهم على التوالي: أ
أمون، ، ثم جاء المهدي ثم الهادي ثم هارون الرشيد ثم الأمين ثم ا إلى سنة ١٥٨
. إلى سنة ٢١٨ وهذا تولى الخلافة ابتداءً من سنة ١٩٨
ك الخلفاء بالاستقرار السياسي النسبي، عبر بسط وامتازت حقبةُ حكمِ أو
سلطان الدولة في الداخل، وتجريد السيف على الخارجين عليها، ومهابة الجانب فيما يتعلق
بالعلاقة مع العدو من خلال شحن الثغور، وخروج الحملات العسكرية في الصيف
والشتاء المعروفة بالصوائف والشواتي، والغالبُ في حال المسلمين صائفةٌ في كلِّ سنة،
وربما خرجت صائفةٌ وشاتيةٌ في نفس السنة، أو أكثر من صائفةٍ في وقتٍ واحدٍ في اتجاهين
مختلفين، كلُّ ذلك بحسب الحاجة.
ر الاستقرار السياسي والانتعاش الاقتصادي على الازدهار العلمي ولا يخفى أ
فسهم وأموالهم والثقافي في كلِّ زمانٍ ومكان؛ لأنَّ العلم صنعة، وإذا أمِن الناس في أ
دعوا في صنائعهم، وما حال المسلمين بالمدينة بعد الهجرة من مكة عنك ببعيد. أ
٧
رعى خلفاء بني العباس العلم، وأغدقوا الأموال على العلماء في عامة الفنون،
وجاراهم في ذلك الولاةُ والوزراء، وكان أول من سنَّ ذلك وجعله تقليدًا للدولة الخلفية
.( ١٦٩- محمد المهدي ( ١٥٨
وبنى الخلفاء المكتبات بعد أن أصبحت الكتبُ مادةً أساسيةً للمعرفة في هذا
أمون أشبه بالمنتدى العلمي في كلِّ العصر، وفتحوا مجالسهم أمام العلماء، فكان مجلس ا
فنون المعرفة، وتحول في كثيرٍ من الأحيان لساحةٍ واسعةٍ للجدال والمناظرة.
واتجه العلماء في هذا العصر إلى تدوين العلوم في سائر الفنون، حتى تمايزت العلوم
عن بعضها وظهر الاختصاصُ فيها، ولئن كان الخطُّ العامُّ الذي تلمح به الحركةَ العلمية
في زمن الخلافة العباسية هو تمكينَ الدين.. فإنه كان زمن الدولة الأموية تثبيتَ الدين؛
ا خشي أهل كلِّ علمٍ على علمهم من الآفات التي ظهرت.. هُرِعوا إلى جمع ه وذلك أ
مادته من غير تدوينٍ نهائيٍّ ليحفظوا العلم.
ف النحو فلما بدأ اللحن ينتشر في الألسنة بعد الاختلاط بين العرب والعجم.. أُ ِّ
ليضبط النطق ويعصم من اللحن.
ا اختلط الكلام الفصيح بالأعجمي والمُولَّد.. جمع علماء اللغة المفردات و
اللغوية من أفواه العرب الموثوق بعربيتهم.
فت ا حصل الاختلال في إدراك بيان القرآن وأسلوبه وفهمه على وجهه.. أُ ِّ و
البلاغة.
ا كثر الوضع في الحديث.. شرع المحدثون في جمع نصوص السنة، وهكذا. و
٨
فجاء من بعدهم فوجدوا تَرِكَةً عظيمةً وإرثًا ضخمًا استطاعوا أن يعيدوا ترتيبه
والزيادة عليه فضلًا عن الابتكار وإنتاج الطارف الجديد، ومن ثم نشطت حركة التدوين
حينئذٍ، وظهر في هذا العصر المصنفات؛ كموطأ الإمام مالك ورسالة الإمام الشافعي
وكتب محمد بن الحسن الشيباني وأضراب ذلك.
وإذا كان يُحسَبُ لهذا العصر دقةُ التدوين وبراعةُ التخصص.. فقد كان يُحسب
ادة العلمية حاملةً للعصر الذي قبله اجتماع العلوم في وعاءٍ واحدٍ، بحيث تكون ا
للمشتغل بها أن ينظر لعلوم الشريعة واللغة نظرًا متكاملًا صحيحًا.
والقصد من تقرير هذا المعنى الإشارة إلى حالة التضخم الذي صارت إليه
التخصصات، حتى صار المشتغل بدقائق علمٍ ومُلحِه لا يدري شيئًا عن العلوم الأخرى
كما هو الشائع اليوم، في حين أنَّ الشريعة كصرحٍ عظيم، وكل علمٍ منها بمنزلة حجرةٍ فيه
أو بابٍ أو جناح، فمن قضى عمره في علمٍ استطاع أن يبين لك تفاصيله، لكنه لم يلتقط
صورةً وافيةً عن الشريعة التي يحمل، فينقص تصورُهُ عن الدين بقدر النقص الحاصل
عنده.
ام بعامة العلوم إجمالًا، والجادة المقترحة لعلاج ذلك أن تجعل شطر وقتك للإ
والشطر الآخر للإحاطة بتخصصك تفصيلًا، وقد بسطت القول في تقرير هذا الداء وبيان
الدواء في كتاب "معارج العلوم".
وقد اتسعت رقعة الدولة العباسية حتى وصلت إلى حدود الصين شرقًا وأطراف
المغرب غربًا، وضمَّت لذلك خليطًا من الأعراق والثقافات واللغات، وكان من نتاج
ذلك ظهورُ تياراتٍ فكرية وسياسية متقابلة فيما بينها، فتحاورت وتجادلت حينًا
وتصارعت وتحاربت حينًا آخر.
٩
فظهرت فرقة الشيعة بصفتها العقدية والفقهية بعد أن كانت فرقةً سياسيةً صرفة
في العصر الأموي، ثم ما لبثت أن انقسمت على نفسها، فكان منها الإمامية والزيدية
والإسماعيلية وغير ذلك.
وظهرت فرقة المعتزلة بصفتهم مذهبًا فكريًا، ثم تحولت إلى فرقةٍ ذات أصول
خمسة وهي التوحيد والعدل والوعد والوعيد والمنزلة بين المنزلتين والأمر بالمعروف
أمون، حتى تبنى قولهم والنهي عن المنكر( ١)، وارتادوا مجالس الخلفاء وخاصة الخليفة ا
وقرَّبهم ومكن لهم، واعتبر قولهم بخلق القرآن قضيةً أساسيةً في حياة المجتمع الإسلامي،
ونتج عن ذلك فتنة خلق القرآن فيما بعد.
وتحول الخوارج كذلك إلى فرقةٍ عقديةٍ سياسيةٍ في هذا العصر بعد أن كانوا حركة
فسهم؛ فكان منهم الأزارقة والصفرية تمردٍ في العصر الأموي، وقد انقسموا على أ
والنجدات وغير ذلك.
والباحثُ في أصول الفِرَق وظروف النشأةِ والتكوين ومراحل التطور أو التدهور
يجد ساحةً خصبةً في هذا العصر وإن كان السواد الأعظم من المسلمين على منهج أهل
السنة والجماعة، فتكاد أن تكون الشيعة والخوارج والمعتزلة بالإضافة إلى المرجئة هي أشهر
١) لكن معنى التوحيد عنهم يتضمن نفي الصفات، ومعنى العدل عندهم يتضمن التكذيب بالقدر، وهو خلق )
أفعال العباد وإرادة الكائنات والقدرة على شيء، وأما المنزلة بين المنزلتين فهي عندهم أنَّ الفاسق لا يسمى
مؤمنًا بوجهٍ من الوجوه كما لا يسمى كافرًا، فنزلوه بين منزلتين، وإنفاذ الوعيد عندهم معناه أن فساق الملة
مخلدون في النار لا يخرجون منها بشفاعةٍ ولا غير ذلك، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يتضمن عندهم
.(٣٨٧-٣٨٦/ جواز الخروج على الأئمة وقتالهم بالسيف. انظر: مجموع الفتاوى لابن تيمية ( ١٣
١٠
ير على المشهد الفرق التي تفرع عنها غيرها، بل لا زالت هذه الفرق الأربع تحتفظ بالتأ
الفكري حتى يوم الناس هذا!.
وإلى جانب هذه الفِرق كان تلاميذ أئمة فقهاء أهل السنة يتناظرون ويتحاورون
ر بعضهم بطريقة في المساجد وفي مجالس الخلفاء والولاة في مسائل الفقه والأصول، وتأ
مناطقة اليونان التي عُرِفت بعد ترجمة كتبهم إلى العربية.
وفي هذا العصر صارت المناقشات والمناظرات سمةً للمشتغلين بالعلم، حتى
ظهر علم الخلاف المسمى اليوم بالفقه المقارن، ومن أقدم ما وصلنا من تلك المناقشات
المقارنة ما كتب الإمام الشافعي كما سيأتي.
و ولعلَّ من أحسن ما وُصِف به عصر الإمام الشافعي ما رقمَهُ العلامة محمد أ
زهرة في ذلك إذ قال: وإن شئت أن تسمي عصر الشافعي عصر المناظرات الفقهية
المثمرة.. فسمِّه، وإن شئت أن تقول: إنَّ الفقه الإسلامي الذي استُنبط كان مدينًا لهذه
المناظرات المخلصة الشريفة في غايتها.. فقُل!.
إلا أنَّ هذا الثراء النافع العظيم الذي فاز به الفقه ضاع اليوم -رغم انهمار
المستجدات والنوازل والحاجة إلى ذلك أشد الحاجة- بسبب تعظيم الذات والتعصب
للجماعات وتحقير المخالف، وظهرت الأخلاق الرديئة من مثل تعظيم القائل لا القول،
وعدم الإقرار بالحق، والجدل، والفجور في الخصومة؛ بحيث لا يُعترف بحسنات
المخالف؛ بل يؤصل لدفنها، واشتدت سطوة الخضوع لسلطان الحزب والجماعة، وبغياب
بعض الأخلاق غاب كثيرٌ من الأرزاق العلمية، ولله الأمر من قبل ومن بعد.
إنَّ عصرَ الإمام الشافعي تميز بأمورٍ خمسة:
١١
١. الاستقرار السياسي وقوة السلطة الحاكمة.
٢. الازدهار الاقتصادي وكثرة الأموال.
٣. رعاية السلطة الحاكمة للعلم وأهله.
٤. ظهور الفرق السياسية والعقدية والمذاهب الفقهية وكثرة المناظرات فيما
بينها.
٥. نشاط حركة الترجمة وتدوين العلوم.
فكانت البيئة السياسية والعلمية معينةً للإمام الشافعي في مشروعه الكبير.
١٢
المبحث الثاني
اسم الإمام الشافعي ومولده ونسبه
و عبد الله محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع بن السائب هو الإمام أ
بن عبيد بن عبد يزيد بن هاشم بن المطلب بن عبد مناف المطلبي القرشي.
ه صحابيٌّ ابن صحابيٍّ ابن صحابي ابن صحابي، والسائب أسلم ونُسِبَ لشافعٍ؛ لأ
بعد معركة بدر وحسن إسلامه، وعبيدٌ صحابيٌّ أُمُّهُ الشفاءُ بنت الأرقم، وعبد يزيد
، شيخًا كبيرًا، فاجتمع للشافعيِّ أربعةُ أجدادٍ من الصحابة صحابيٌّ أدرك النبيَّ
وأولهم هو شافع ولهذا نُسب إليه.
يا وكونه في عبد مناف، وشرفُ نَسَبِهِ يرجع لكونه قرش ويلتقي الشافعي بالنبيِّ
ا كان بينهم يا، وعند البخاري: "إِنَّمَا بَنُو هَاشِمٍ وَبَنُو المُْطَّلِبِ شَيْءٌ وَاحِدٌ"( ١)؛ وذلك مُطَّلب
من التناصر في الجاهلية والإسلام، وبنو المطلب هم الذين دخلوا الحصار مع بني هاشم في
شعب أبي طالب.
وأم الشافعي أزديةٌ من قبيلة الأزد، وقد رعت ولدها رعايةً حسنةً، ولم تشغله
بطلب الحرفة رغم الفقر وموت الأب، وهي التي وجَّهته إلى طلب العلم وحسنت نيتها
ه ليس من فيه، ولم يكن بيته بيتَ علم، وإذا استحضرت أنَّ الشافعي عاش يتيمًا فقيرًا وأ
َّه لم يُعمِّر.. أدركت أنَّ العلم هبةٌ من الله ورزق، وأنَّ الله إذا أعطى أدهش. بيتِ علمٍ وأ
وه إدريس بن العباس فقد كان يقيم في المدينة النبوية، فظهر فيها بعض ما أما أ
يكرهه فخرج إلى عسقلان، فأقام بها ومات فيها بعد مولد الشافعي بقليل.
.( ١) صحيح البخاري، رقم الحديث: ( ٣٥٠٢ )
١٣
، ويُجمع بين القولين بأنَّ غزة هي وقد وُلِد الشافعيُّ بغزة أو بعسقلان سنة ١٥٠
القرية وعسقلان هي المدينة، فمؤدى القولين واحد، وروى البيهقي بسنده إلى الشافعي
.( قوله: "وُلِدت بغزة وحملتني أمي إلى عسقلان"( ١
وعادت به أمه إلى مكة بعد قرابة السنتين من مولده، فوصلها طفلًا رضيعًا.
.(١١٨/ ١) معرفة السنن والآثار ( ١ )
١٤
المبحث الثالث
المرحلة الأولى من حياة الإمام الشافعي ونشأته بمكة
تعلم الشافعيُّ القراءةَ والكتابةَ في سنٍّ مبكرة، ورافق ذلك حفظَهُ للقرآن الكريم،
فم جم عََْهُ في السابعة من عمره، ثم حفظ ما تيسر له من أشعار العرب، ثم موطأ الإمام أ
دا. مالك وهو ابن عشر، وكان سريعَ الحفظ ج
وتلقى القرآن عن إسماعيل بن قسطنطين أحد قراء مكة في زمانه، وأخذه إسماعيل
، عن النبيِّ عن شِبْلٍ عن عبد الله بن كثير عن مجاهد عن ابن عباس ڤ عن أُبَيٍّ
في سلسلة التلاوة ستةُ رجال. فبينه وبين النبيِّ
ثم قصد قبيلةَ هُذيلٍ وهي أفصح العرب يومئذٍ؛ وذلك من أجل تلقي العربية من
العرب الأقحاح الذين لم يخالط لسانَهم العربي شيءٌ من اللحن أو العجمة، وكان يرحل
ه صار حجةً في اللغة، ولهذا قال مرت هذه المخالطة التامة أ برحيلهم وينزل بنزولهم، وأ
ابن هشام صاحب المغازي: "الشافعي ممن تؤخذ عنه اللغة".
وقال الأصمعي: صحَّحتُ أشعارَ الهُذليين على شابٍّ من قريشٍ بمكة يقال له:
محمد بن إدريس الشافعي.
ام الناس وقال محمد ابن بنت الشافعي: أقام الشافعي على قراءة العربية وأ
عشرين سنة، وقال: وما أردت بهذا إلا الاستعانة على الفقه.
ولم تكن إقامته بهذيل متصلة.
ن تؤكل الكتف، وفهم مبكرًا أنَّ ا عبد الله الشافعي عرف من أ والحق أنَّ إمامنا أ
اللغةَ هي سبيله إلى الفقه والأصول وفهم الشريعة، وأنَّ نبع اللغة إنما هو في شعر العرب
١٥
وأدبهم وتاريخهم ولسانهم الذي يؤخذ من أفواههم، والذي أُودِع كتب المعاجم، واليوم ما
زال طالب العلم يتعثر في كتب النحو والصرف، ويحسب أنَّ اللغةَ محصورةٌ في قانون
الكلام وسلامته من اللحن، ويمضي حياته في ذلك ولا يتجاوز.
وتجدر الإشارةُ إلى أنَّ الشافعي كان يؤلف كتبه باللغة العربية البسيطة؛ تحصيلًا
تَ الشافعي وحسنَ لمصلحة الرواج في الناس، ونبَّه الربيع المرادي على ذلك فقال: "لو رأ
فَ هذه الكتب على عربيته التي كان يتكلم بها لم ه أَ َّ بيانه وفصاحته لتعجبت منه، ولو أ
يُقدر على قراءة كتبه".
ساب، ونبغ واستفاد الشافعي خلال إقامته بالبوادي معرفة السير والتواريخ والأ
ام الناس من الشافعي". ت أحدًا أعلم بأ في ذلك حتى قال مصعب الزبيري: "ما رأ
رز الشيوخ الذين كان لهم الذي يتأمل المسيرة العلمية للإمام الشافعي يجد أنَّ أ
ر في حياته ثلاثة: أحسن الأ
.[ أولهم: الإمام سفيانُ بن عيينة محدث الحرم في زمانه [ت: ١٩٨
وهذا هو الذي زرع بذور فقه مدرسة الحديث في عقلية الشافعي، وقال الشافعي
ت أحدًا ةِ العلم ما في سفيان بن عيينة، وما رأ تُ أحدًا من الناس فيه من آ فيه: "ما رأ
تُ أحدًا أحسنَ لتفسير الحديث منه". أكفَّ عن الفُتيا منه، وما رأ
وقال: "لولا مالكٌ وسفيان لضاع علمُ الحجاز".
١٦
وثانيهم: الإمام مسلم بن خالد الزَّنجي شيخ الحرم ومفتي مكة وإمامها في زمانه
]، أخذ عنه الفقه وتمكن فيه حتى أذن له بالإفتاء وهو ابن خمسة عشر عامًا، [ت: ١٧٩
وصحبةُ الفحول تُفحِّل.
ا رآه يطلب وهذا الإمام هو الذي أقنع الشافعي بتلقي الفقه والعناية به؛ فإنه
ه من بني عبد مناف قال له: "لقد شرَّفَك الله في الدنيا والآخرة، ألا جعلت النحو وعلم أ
فَهمَكَ هذا في الفقه فكان أحسن بك"!.
ومن هذا اليوم صار الشافعي يطلب النحو وعلوم العربية على أنها وسيلةٌ للتمكن
في الشريعة والفقه بعد أن كان يطلبها غايةً، ومرَّ بنا قول محمد ابن بنت الشافعي: "أقام
ام الناس عشرين سنة، وقال: وما أردت بهذا إلا الاستعانة الشافعي على قراءة العربية وأ
على الفقه".
والإمام مسلم بن خالد لم يكن للشافعي مجرد فقيه؛ بل كان مربيًا ومرشدًا علاوة
على كونه معلمًا.
ريُّ الفقهيُّ للإمام الشافعي منه؛ فإنه أخذ الفقه عنه، وهو الذي يبدأ السندُ الأ
، وفقهاء الصحابة وهو أخذه عن ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس ڤعن النبي
في سلسلة الفقه أربعةُ رجال. فبينه وبين النبي
]، فإن الشافعي س إمام دار الهجرة [ت: ١٧٩ وثالثهم: هو الإمام مالك بن أ
ا أخذ حظه من علوم أهل مكة قصد الإمام مالكًا بالمدينة، وقرأ عليه الموطأ وقد كان
يحفظه.
لكن صحبته للإمام مالك لم تأخذ طابع الملازمة إلا في السنوات الأخيرة من
حياته، أما قبل ذلك فكان يتردد على مكة وعلى القبائل العربية، مما يعني أنَّ ملازمته للإمام
١٧
مالك لم تكن ممانعةً له من سفره فضلًا عن اختياراته الشخصية كما خلص إلى ذلك الشيخ
و زهرة. العلامة محمد أ
وسيأتي مزيدُ بيانٍ لصحبته للإمام مالك في المبحث الآتي.
١٨
المبحث الرابع
المرحلة الثانية من حياة الإمام الشافعي وصحبته للإمام مالك
المدينة المنورة وهي قبلة العلم والعلماء، ولم يُؤَثِّرْ على منذ أن استوطن النبي
ثم إلى دمشق ، ذلك نقلُ العاصمة السياسية إلى الكوفة في عهد سيدنا علي بن أبي طالب
وموضع الأسانيد العالية ، في عهد بني أمية؛ وذلك لأنها محل إقامة جمهور الصحابة
للأحاديث النبوية، والاجتهادات الفقهية والأقضية بين الناس.
ومن ثم ورث التابعون من أهل المدينة هذا العلم الجم، وأشهر الفقهاء الفقهاءُ
و بكر بن عبد الرحمن بن الحارث، السبعة وهم: سعيد بن المسيب وعروة بن الزبير وأ
[ ، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود [ت: ٩٨ وثلاثتهم توفي عام ٩٤
] والقاسم بن محمد بن أبي بكر وسليمان بن يسار، وخارجة بن زيد بن ثابت [ت: ١٠٠
، وجمعهم بعضهم بقوله: وكلاهما توفي عام ١٠٧
ألا كل من لا يقتدي بأئمة فقسمته ضيزى عن الحق خارجه
و بكر خارجه فخذهم عبيد الله عروة قاسم سعيد سليمان أ
وجاء بعدهم جماعةٌ من أكابر علماء التابعين مثل: ربيعة بن أبي عبد الرحمن المسمى
بربيعة الرأي شيخ الإمام مالك، فأضحى المسجد النبوي جامعةً إسلاميةً كبرى أغنت
الإمام مالكً ا عن الرحلة في طلب العلم، وأضحت المدينةُ مهدَ مدرسةِ أهل الحديث.
ه الذي ورث علم أهل والمستقرئ لسيرة الإمام مالك وزمانه العلمي يدرك أ
ه بات الشخصية العلمية الأولى في بلاد المسلمين قاطبةً بعد وفاة أبي حنيفة، المدينة، وأ
١٩
ت رياسة مدرسة أهل الحديث في عصره، وصار هو قبلة المستفتين من شتى أرجاء وإليه آ
الدولة الإسلامية، حتى قيل: "لا يُفتى ومالكٌ في المدينة".
وقد تولى الإمام مالك الإفتاء والتدريس بالمسجد النبوي، وكان شديدَ التعظيم
وكان صلبًا في دينه، بعيدًا عن الملوك والأمراء، بل قُذِفَت مهابتُهُ في ، لحديث النبي
قلوبهم فضلًا عن غيرهم.
ا قصده الشافعيُّ لتلقي العلم ووقف بين يديه في أول لقاءٍ به نظر إليه الإمام و
مالك ساعةً( ١) ثم قال له: "اتق الله واجتنب المعاصي؛ فإنه سيكون لك شأنٌ من الشأن"!.
وقرأ عليه الشافعي الموطأ روايةً ودرايةً، وما اتصل به من علم الجرح والتعديل،
وتلقى في حلقته أصول مدرسة أهل الحديث ليتمم بهذا ما بدأه عند شيخه سفيان بن عيينة
بمكة، حتى أصبح الإمام مالك الشيخَ الأول للشافعي لطول الملازمة.
يا أولَ أمره، فكان يفتي بآراء الإمام مالك وأقواله، ولم تظهر وكان الشافعيُّ مالك
له في هذه المرحلة شخصيةٌ علميةٌ مستقلةٌ ذاتُ اختياراتٍ شخصية، أما كتاب "اختلاف
مالك والشافعي".. فقد صنَّفه بمصر بعد أكثر من عشرين عامًا مضت على صحبة الإمام
مالك، وكان له باعثٌ وسبب سيأتي بيانه، وكان يومها قد بلغ مبلغًا عظيمًا في الاجتهاد
ورسوخ القدم في الفقه، وليس هو من سمَّاه بهذه التسمية.
س، ومالك وسجَّلت المرويات قول الشافعي: "ما أحد أمنَّ عليَّ من مالك بن أ
س معلمي وعنه أخذت العلم"، وقوله: "ما في الأرض كتابٌ من العلم أكثر صوابًا بن أ
من موطأ مالك".
١) الساعة هنا هي الجزء من الوقت لا الجزء من أربعة وعشرين جزءًا من اليوم. )
٢٠
بقيت الإشارة إلى أنَّ تلمذةَ الشافعي لم تنحصر في الإمام مالك في المدينة؛ بل عدَّ
الإمام البيهقي ثلاثة عشر شيخًا للشافعي أخذ عنهم العلم بالمدينة سوى الإمام مالك.
٢١
المبحث الخامس
المرحلة الثالثة من حياة الشافعي ورحلته إلى اليمن للعمل
كان الإمام الشافعيُّ فقيرًا، وبعد وفاة شيخه مالك رأى أن يتَّجه إلى العمل
ال، يستعين به على طلب العلم وعلى إصلاح حاله وحال أهله، ليُحصِّلَ شيئًا من ا
يا في البداية وأحسن فيه، فذهب إلى اليمن وكان عمره يومئذ ٢٩ سنة، وعمل عملًا إدار
فوُلِّي على إثر الإجادة فيه ولايةً عامةً في نجران، وإن لم تكن هي القضاء فهي ذاتُ صلةٍ به،
با وقبولًا. وانعقدت عليه القلوب ح
وحمل هذا القبول حُسَّادَ الشافعي وأصحاب المصالح أن يكيدوا له عند أمير
المؤمنين هارون الرشيد، عبر تلفيق تهمةٍ له بالخروج مع العلويين على الدولة العباسية،
وكانت الأجواء المشحونة بمحاولات الخروج تجعل اتهام أي شخصٍ بذلك سبيلًا
للبطش به ولو لشبهة.
وتعرض الشافعي بسبب ذلك لفتنةٍ شديدة إلا أنها انتهت بنجاته من القتل، وكان
للإمام محمد بن الحسن الشيبانيِّ دورٌ كريمٌ في ذلك؛ فقد زكاه عند الخليفة ثم آواه عنده،
وبدأت رحلة الاشتغال بالعلم في العراق.
وبهذا غادر اليمن مسوقًا إلى العراق ليتربع بين يدي أحد أكبر فقهاء الديار
رز رجال مدرسة الرأي، فهو قد ذهب إلى اليمن يريد العمل الإسلامية يومها، وأحد أ
لكنَّ الله أراد له العلم، وما أعجبه من قدر حين يقاد الشخص للتفقه وإتمام مشروع
الإمامة في الدين بالسلاسل!.
٢٢
ولم تنقطع صلةُ الإمامِ الشافعيِّ خلال عمله باليمن بالعلم؛ بل مضى يأخذه، ومن
و عبد الرحمن هشام بن يوسف الصنعاني قاضي صنعاء وفقيهها. رز من أخذ عنهم أ أ
ه خالط الناس ومن أهم حسنات الرحلة إلى اليمن والتي مكثت خمس سنواتٍ أ
على اختلاف مستوياتهم، واطلع على مشكلاتهم بعد أن كان اختلاطه بالعلم وأهله
فحسب، والذي يعايش الناس ويتعرف إلى أحوالهم ويعرف عوائدهم وطرق تفكيرهم
يصبح يحس بهم، ويكون أقرب إلى الاندماج في أوساطهم والتعرف على خبيئة نفوسهم،
ويدرك على إثر ذلك أنَّ العلم ليس مجرد معلومات؛ وإنما هو مفاهيم وتصورات، وهذا
يعود على مادة العلم والإفتاء والدعوة بالقوة والرسوخ وحسن الفهم وكمال التصور.
٢٣
المبحث السادس
المرحلة الرابعة من حياة الشافعي ولقائه بمحمد بن الحسن ببغداد
مُتَّهَمًا بالسعي للخروج مع أُخِذَ الإمامُ الشافعي إلى الخليفة في بغداد سنة ١٨٤
العلويين على الخلافة العباسية، وانتهى الأمر بنجاته كما مرَّ.
والذي يعنينا هنا أنَّ الإمام الشافعي استوطن بغداد بعد انتهاء المحنة، ولم يرجع
إلى اليمن أو الحجاز؛ فقد استهوته مجالس العلم في عاصمة الخلافة، وكانت سوق العلم
فيها رائجة، وتاقت نفسه إلى أخذ فقه مدرسة أهل الرأي وأصولها، والتي كان معظم
أعلامها قد استوطنوا العراق عامة وبغداد والكوفة خاصة، والمراد بالرأي الاجتهاد
المنضبط بالأصول والقواعد.
ت إليه وبدأت رحلةُ التلمذةِ عند الإمام محمد بن الحسن الشيباني، وهو الذي آ
رياسة الفقه في العراق بعد أبي يوسف القاضي، وكان حامل لواء مدرسة أهل الرأي في
عصره.
ومحمد بن الحسن أخذ الفقه عن أبي حنيفة، ثم عن أبي يوسف، ولازم الإمام
مالكًا في المدينة ثلاث سنين وكَسْرًا، كما ولقي الإمام الأوزاعي فقيه الشام وسمع منه،
وكان مُقدَّمًا في العربية والنحو والفقه والأصول، وكان من أفصح الناس، جلس للتدريس
وهو ابن عشرين سنة، وهو الذي تولى تدوين فقه الإمام أبي حنيفة ونشر مذهبه، ولمؤلفاته
مكانةٌ سامقةٌ في المذهب الحنفي، وفي مقدمتها ما يسمى بكتب ظاهر الرواية، وهي الأصلُ
والجامعُ الصغير والجامع الكبير والسِّيَرُ الصغير والسير الكبير والزيادات.
٢٤
ومن فضل الله تعالى على الشافعي أن يسَّر له التلمذة الطويلة على هذا الإمام؛ فإنَّ
صحبة الفحول تُفحِّل، ومجالسة الكبار تجعل الإنسان من الكبار، وإذا كانت القراءة
للمتقدمين تُقَدِّم.. فكيف بالأخذ المباشر عنهم!.
قال الشافعي: "حملت عن محمد بن الحسن وِقْرَ بعير ليس عليه إلا سماعي منه"،
الكٍ ثم لمحمد بن الحسن". وقال: "إني لأعرف الأستاذية
وبهذا تمت النعمةُ على الشافعي إذ أخذ الفقه عن فقيه مكة في زمانه مسلم بن
خالد الزنجي، ثم عن فقيه مدرسة أهل الحديث الإمام مالك في المدينة، ثم عن فقيه
مدرسة أهل الرأي في زمانه محمد بن الحسن في العراق.
وفي الوقت الذي كان يوجه كثيرٌ من طلاب مدرسة الحديث سهامَهُ لرجال
ديهم ويأخذ عنهم وفي نفس الوقت يناقشهم مدرسة الرأي كان الشافعي يتتلمذ على أ
ويرد عليهم!.
ه يمكن أن يتحول اذا يتنازع طلاب العلم والمشتغلون به فيما بينهم مع أ
الخلاف إلى مجالس درسٍ ومدارسةٍ ومناظرةٍ يُثرى بها العلم وينضج بها أهله!.
إنَّ الخلاف مع المخالف فيما لو حصل هو خلاف حجةٍ لا خلاف قلوب كما
ذ نقاش المخالف وسط سمعت ذلك من شيخنا عبد الهادي الخضر وفقه الله، وما أ
ابتسامة الوجوه وغياب البغض وحضور الحب والعدل والإنصاف!.
بقيت الإشارةُ إلى أنَّ الإمامَ الشافعيَّ لم تنحصر تلمذته ببغداد في الإمام محمد بن
رزهم: وكيع بن الجراح محدث العراق [ت: الحسن؛ بل أخذ عن جملةٍ من أهل العلم من أ
]، وقد كان يفتي بمذهب أبي حنيفة. ١٩٧
٢٥
وأخذ كذلك عن إسماعيل بن إبراهيم البصري المعروف بابن عُليَّة وهي أمه [ت:
]، وكان فقيهًا إمامًا مفتيًا من أئمة الحديث. ١٩٣
]، وهذا وأخذ كذلك عن الإمام عبد الوهاب بن عبد المجيد الثقفي [ت: ١٩٤
الذي قال فيه الحافظ ابن حجر: "ثقةٌ مشهور، لا يُنكر له إذا انفرد بحديثٍ بل وبعشرة"!.
وهكذا ساق الله الشافعي إلى مجالس الفقه ليأخذ عن أكابر أهله بعد أن أراد
حُسَّادُه أن يفتكوا به، والعجيب أنَّ أسماءهم لم يُحتفظ بها، وذكر الدكتور أكرم القواسمي
ه لم يستطع أن يترجم لأحدٍ منهم، فقد درسهم التاريخ وغيَّبهم وحفظ الشافعي وفقه الله أ
ره، ولا يمر يوم تطلع عليه الشمس إلا وينتفع الناس من علمه، ويذكرون أدبه ومآ
وفضله وخيره.
ك أنهم أدواتٌ في تنفيذ القدر ليكونوا سببًا في تقديم خدمة فهل خطر ببال أو
ذات خطرٍ للإمام الشافعي كانت من أهم عوامل جعله من الشخصيات المحورية في
تاريخ الأمة الإسلامية!.
٢٦
المبحث السابع
المرحلة الخامسة من حياة الشافعي في مكة وظهور مذهبه
على الراجح، وذلك بعد غادر الإمامُ الشافعيُّ بغداد إلى مكة المكرمة عام ١٨٩
وفاة شيخه الإمام محمد بن الحسن الشيباني، فيكون قد مكث في العراق خمس سنوات.
واتخذ له حلقةً للتدريس بالمسجد الحرام، وكان يجلس بفناء زمزم قبالة ميزاب
لا عن غيره، فهو الذي الكعبة المشرفة، وفي هذه الحلقة بدأ يظهر فقه الإمام الشافعي مستق
ينشئ الفُتيا في هذه المرحلة، ويعرض المسائل من غير إحالةٍ على شيخه مالك وموطئه،
وإن لم يكن من حيث النتيجة مخالفًا له في أكثر الأحكام.
وإنما بدا الخلاف ظاهرًا في بعض مسائل الأصول وطرق الاستدلال أكثر منه في
النتيجة والحكم، وبدأت شخصية المجتهد المطلق آخذةً في التشكل، والمجتهد المطلق هو
الذي يستقل باجتهاده في الأصول والفروع والاستنباط من الأدلة.
ةً انفرد فيها عن الأئمة الثلاثة، وأحصى ابن كثيرٍ في كتابه المناقب ٢٨٠ مسأ
واليوم توجد دراسات تستقرئ الموسوعات الفقهية، وتقف على مفردات المذهب عن
المذاهب الثلاثة.
اجستير: وأحصى الباحث جمال عبود محمد الديب الجزائري في رسالته ا
ةً أصوليةً بارزة الكٍ في المسائل الأصولية" خمسًا وعشرين مسأ "مخالفات الشافعي
حصل فيها الخلاف، وجلَّى تمايز أصول الإمامين على ما آل إليه الأمر بعد ظهور المذهب
الجديد للإمام الشافعي في مصر.
٢٧
وعُرف اجتهاد الإمام الشافعي الذي ظهر في هذه المرحلة بالمذهب القديم،
وذلك عند المقابلة مع فقهه في مصر الذي دوَّنه ومات عليه والذي عُرِف بالمذهب الجديد،
ة بإذنه تعالى. وسيأتي مزيدُ تفصيلٍ لهذه المسأ
ه دمج بين طريقة رز السمات التي تميز بها طرحُ الإمامِ الشافعي في دروسه أ ومن أ
مدرسة الحديث ومدرسة الرأي بعد أن اجتمع له فقه المدرستين عن مشافهةٍ وقُرب، فلم
يكن يكتفي بسرد روايات الحديث وشواهده ومتابعاته وعدم الغوص في فقهه على طريقة
المحدثين، ولم يكن يستطرد في الأقيسة وإعمال الرأي مع وفرة النصوص والآثار على
طريقة أصحاب أبي حنيفة؛ بل جمع بين فضل المدرستين، وكان يعرض آيات القرآن
وأحاديث السنة وآثار الصحابة مع حسن فقهٍ وتفسيرٍ وتدبرٍ واستنباط.
رزهم وفي هذه المرحلة اتصل به عددٌ من أهل العلم الذين أخذوا عنه، ومن أ
الإمام إسحاق بن راهويه، وكذلك الإمام أحمد بن حنبل.
ا كان الإمام أحمد يأتي مكة صار يؤثر مجلس الإمام الشافعي على مجلس الإمام و
سفيان بن عيينة، مع صغر سنِّ الأول وعلو إسناد الثاني وكونه شيخًا للإمام الشافعي
نفسه.
ا رأى الفضل بن إسحاق البغدادي ذلك منه -وكان رفيقًا له في الرحلة- قال و
ا عبد الله تركت ابن عيينة وعنده فلان وفلان –وذكر جماعةً من كبار التابعين-! له: يا أ
فقال له: "اسكت؛ فإن فاتك حديثٌ بعلوٍّ تجده بنزول لا يضرك في دينك ولا في عقلك،
ت أحدًا أفقه في كتاب الله وإن فاتك أمر هذا الفتى أخاف أن لا تجده إلى يوم القيامة، ما رأ
من هذا الفتى القرشي".
٢٨
ه قال: "ما أحد مس بيده محبرة وقلمًا إلا وللشافعي رت عنه أ ومن الأقوال التي أُ
في عنقه منة".
وقال: "كان الفقه قُفلاً على أهله حتى فتحه الله بالشافعي".
نا الشافعي". ى حنيفة حتى رأ وقال: "كانت أقفيتنا لأصحاب أ
فبينها وقال: "ما كان أصحاب الحديث يعرفون معاني أحاديث رسول الله
لهم".
وقال: "هذا الذي ترون كله أو عامته من الشافعي، ما بت مدة أربعين سنة إلا
وأدعو الله للشافعي وأستغفر له".
ا قدم علينا الشافعي سرنا على المحجة البيضاء". وقال: "
." وكان مع بعض نفر فمر الشافعي فقال: "هذا رحمة الله عز وجل لأمة محمد
تِ أي رجل كان الشافعي؛ فإني أسمعك تكثر الدعاء له؟ ه ولده: يا أ ا سأ و
فقال: "يا بني؛ كان الشافعي رحمه الله كالشمس للدنيا والعافية للناس، فانظر هل لهذين
من عِوَضٍ أو خلف".
والإمام أحمد معدودٌ من نقلة المذهب القديم، ثم استقل بمذهبه، كما حصل مع
الك الشافعي من تلقيه العلم عن الإمام مالك ثم استقلاله، وإن كانت صحبة الشافعي
رًا من صحبة الإمام أحمد للشافعي، وأحسب أنَّ انتفاعَ الإمام أحمد أطول زمنًا وأكثر أ
بالشافعي كان في الأصول والاستنباط ومناهج الاستدلال أعظم منه في فروع الفقه.
يا ثم استقل بمذهبٍ له، وكان أحمد بن حنبل ويمكن القول: كان الشافعي مالك
يا ثم استقل بمذهبٍ له، هكذا فلتكن أخبار الأئمة وقصص النجاح، فالعالم الحق هو شافع
من يؤصلك ليوصلك، لا ليعلمك فحسب.
٢٩
وبالجملة فقد كانت حلقةُ الإمامِ الشافعيِّ في المسجد الحرام سببًا لانتشار صيته في
ون المسجد الحرام في رحلة الحج والعمرة سائر البلاد الإسلامية، فلا يزال الناس يأ
ر ويجلسون إلى علماء مكة، وينشرون كلامهم وفضلهم في الناس شرقًا وغربًا، ولا يخفى أ
العواصم في نشر الأفكار وأخبار العلماء والأمراء وذوي الهيئات، والانتفاع بالعواصم
ضًا في حال الأئمة الثلاثة أبي حنيفة ومالك وأحمد. نجده أ
ومكث الشافعي في مكة في هذه القدمة ست سنوات، وتوفر له فيها الانصراف
الكافي والتأمل المبصر لاستخراج قواعد استنباط الأحكام، بعيدًا عن ضَجَّةِ العراقِ
وتناحر الآراء فيه.
٣٠
المبحث الثامن
المرحلة السادسة من حياة الشافعي ورحلته الثانية إلى بغداد
قاصدًا بغداد عاصمة الخلافة من جديد، غادر الإمام الشافعي مكة عام ١٩٥
بعد أن قضى ست سنوات بمكة يعلم ويدرس، وكان قد ضعف أمر المدينة بعد وفاة الإمام
مالك، وصار ببغداد أهلُ الحديثِ والرأي معًا.
ولم تذكر كتبُ السِّيرِ والتراجم سببَ انتقال الإمام الشافعي من مكة إلى بغداد في
هذه المرحلة، ورجح الدكتور أكرم القواسمي وفقه الله أن يكون السبب هو البدءَ بتدوين
مذهبه أصولًا وفروعًا بعد أن استقل به، وانتهى فيه إلى قدرٍ يصح إخراجه وعرضه على
فقهاء الأمة الإسلامية.
وحجته في ذلك أنَّ الإمام الشافعي بدأ في هذه الرحلة بتدوين كتابه الرسالة في
رز بين جهده الأصول والحجة في الفقه الذي صار كتاب "الأم" فيما بعد، والفارق الأ
العلمي في مكة وبغداد هو اقتران الأخير بالتدوين الواضح الصريح دون الاكتفاء بالإملاء
على التلاميذ.
أما أن يكون هذا المشروع في بغداد لا في مكة فمرده أنَّ بغداد يومئذٍ هي مركز
النشاط في تدوين العلوم الذي امتاز به هذا العصر عن سابقه، وهي عاصمة الخلافة،
فإليها يفد العلماء والأمراء، وفي مساجدها تحتدم المناظرات، ومدونات شتى العلوم
متوفرةٌ في المكتبات، وهذا كله من عوامل نجاح نشر المذهب في الأمة.
ويُضاف إلى ذلك أنَّ الإمام الشافعي كان يجد راحته النفسية في بغداد، ومن شرع
في التدوين يعرف ركنية الراحة النفسية والسكينة القلبية في نجاح المشاريع الكبرى
٣١
ت ه قال ليونس الصدفي: هل رأ ا بذلك أ بأ ه في مكة، والذي أ وإتمامها، فهو فيها كأ
ت الدنيا!، وقال: ما دخلت بلدًا إلا عددته سفرًا إلا بغداد؛ بغداد؟ قال: لا، قال: ما رأ
فإني حين دخلتها عددتها وطنًا!.
و جعفر المنصور، ا استقر ببغداد اتخذ له حلقةً في الجامع الكبير الذي بناه أ و
وكانت الحِلق قد ازدحمت فيه، فأخذ يعرض فقهه ويجيب مدلِّلًا ومُقعِّدًا لقواعد
الاستدلال، وكان يتعرض في حلقته إلى المسائل المتداولة في فقه مدرسة الرأي، ولكن
بأسلوبٍ جديدٍ يحيل فيه دومًا على نصوص القرآن الكريم والسنة النبوية وآثار الصحابة
وأقضيتهم، فهو يدور في فلك النصوص إعمالًا لها أو قياسًا عليها، وهكذا بدأ يزرع فقه
الكتاب والسنة في قلب مدرسة الرأي، وهو بهذا يقربهم من مدرسة الحديث كما كان يعمل
على تقريب مدرسة الحديث منهم.
ه وازن بين الأدلة لئلا تتضخم الأقيسة وهذا الذي جعله يوصف بناصر السنة؛ لأ
والأدلة التبعية على حساب نصوص الكتاب والسنة.
باع المذاهب الأخرى أشد وكانت الأسئلة الواردة عليه في هذه الحلقة من أ
وأعمق من تلك الواردة عليه في حلقته في المسجد الحرام، ولهذا كثيرًا ما كانت تنقلب تلك
الأسئلة إلى مناظرات فقهية تجلى فيها رسوخ قدمه في الفقه، وجمعه بين فقه مدرسة الحديث
.( ة"( ١ ومدرسة الرأي، وقد قال ابن شهاب: "العلم خزائن وتفتحها المسأ
.( ر: ( ٥٦٦ ٤٥٨ )، رقم الأ / ١) سنن الدارمي ( ١ )
٣٢
ر، ولهذا بدأ التفاعل معه من أول يوم، ومن شواهد ذلك وكان لكلامه أحسن الأ
ه قال: "قدم الشافعي بغداد وفي المسجد الجامع عشرون ما رُوي عن إبراهيم الحربي أ
حلقة لأصحاب الرأي، فلما كان يوم الجمعة الثانية لم يثبت منها إلا ثلاث حلق أو أربع".
ه كان عارفًا بالسنة وعارفًا بالنظر والجدل، وكان مع ولعلَّ مما أعانه على ذلك أ
ذلك فصيح اللسان، ولديه قدرةٌ على الحجاج والرأي، وهذه عدةٌ كافيةٌ لتقريب كلِّ
مدرسةٍ من الأخرى؛ وذلك أنَّ أهل الحديث كانوا بحاجةٍ إلى الاستنباط وقوة النظر، وهذا
ام بالنصوص ووفرة الآثار، الذي يتميز به أهل الرأي، وكان أهل الرأي بحاجةٍ إلى الإ
وهذا الذي يتميز به أهل الحديث.
ا ورد الشافعي العراق و ثور رحمه الله، فإنه قال: خذ في ذلك مثلًا ما صرَّح به أ
جاءني حسين الكرابيسي، وكان يختلف معي إلى أصحاب الرأي فقال: قد ورد رجلٌ من
أصحاب الحديث يتفقه فقم بنا نسخر به!.
ةٍ فلم يزل الشافعي ه الحسين عن مسأ فقمت وذهبنا حتى دخلنا عليه، فسأ
.( حتى أظلم علينا البيت، فتركنا بدعتنا واتبعناه!( ١ يقول: قال الله وقال رسول الله
رزهم الثلاثة الآتية أسماؤهم: باع، ومن أ مر هذا المنهج زيادة التلاميذ والأ وأ
و ثور الكلبي الذي تقدم خبره، وهذا قد بلغ رتبة الاجتهاد، ولهذا لا يعد الأول: أ
. تفرده برأي وجهًا في المذهب، وقد توفي عام ٢٤٠
]، فإنه تفقه أولًا على و علي الحسين بن علي الكرابيسي [ت: ٢٤٨ الثاني: أ
مذهب الرأي ثم على الإمام الشافعي، وأصبح أحد رواة المذهب القديم.
.(٦٨/ ١) تاريخ بغداد ( ٦ )
٣٣
ه قال: "ما كنا ندري ما الكتاب والسنة نحن ولا ومن ثنائه على الإمام الشافعي أ
الأولون حتى سمعنا من الشافعي الكتاب والسنة والإجماع".
بل من مجلس الشافعي، وكان يحضره أهل الحديث ت مجلسًا قط أ وقال: "ما رأ
يه كبراء أهل الفقه والشعر، فكلٌّ يتعلم منه ويستفيد". وأهل الفقه وأهل الشعر يأ
وقال: "رحمةُ الله على الشافعي ما فهمنا استنباط أكثر السنن إلا بتعليم الشافعي
أبي عبد الله إيانا".
]، ومن أقواله: "كان أصحاب الحديث الثالث: الحسن الزعفراني [ت: ٢٦٠
قظهم الشافعي"، وقال: "إني لأقرأ كتب الشافعي وتقرأ عليَّ من خمسين رقودًا حتى أ
سنة".
وفي هذه القدمة تجدد اللقاء بالإمام أحمد، وأخذ عنه وواصل الثناء عليه.
وأشير في ختام هذا المبحث إلى أنَّ هذه المرحلة شهدت تدوين كتابيه: الرسالة
القديمة في الأصول والحجة في الفقه.
وكتابُ الرسالة كان بإشارةٍ من المحدث المشهور عبد الرحمن بن مهدي، وذلك
ا كان يكلم الناس في المسائل احتاج إلى قواعد عامة في فهم الأدلة والاستنباط تكون ه أ
محل اتفاقٍ بينه وبينهم؛ ليحيلهم عليها، وقد علم ما عند الشافعي من قوة الحجة والمناظرة
مع حفظه للسنة، فكتب إليه أن يضع كتابًا يتضمن معاني القرآن وقبول الأخبار فيه،
وحجة الإجماع وبيان الناسخ والمنسوخ من القرآن والسنة وغير ذلك، فوضع له كتاب
ر عنه قوله: "ما أصلي صلاة الرسالة، وفرح به عبد الرحمن بن مهدي فرحًا عظيمًا، حتى أ
إلا وأدعو للشافعي فيها".
٣٤
وكان الكتابُ في أصله رسالةً جوابيةً أرسلها لابن مهدي وهو في البصرة، فسُمِّيَ
ا أعاد تصنيفها في مصر، ومما لا ينتهي منه العجب بالرسالة، ثم طورها وأضاف عليها
أنها ما زالت تحتفظ بمكانتها وقيمتها العلمية واحتلالها لموقعٍ متقدمٍ من الصدارة رغم أنها
أول تدوينٍ في أصول الفقه، ورغم قناطير المصنفات التي تلتها، وهذا فضل الله يؤتيه من
يشاء والله ذو الفضل العظيم.
٣٥
المبحث التاسع
المرحلة السابعة من حياة الشافعي وتنقله بين مكة وبغداد
متوجهًا إلى مكة، وأقام فيها عامًا واحدًا غادر الإمام الشافعي بغداد سنة ١٩٧
ثم عاد إلى بغداد، وهي رحلته الثالثة إليها، وأقام بها عدة أشهر ثم غادرها إلى مكة في رحلةٍ
. سريعة ثم قصد مصر، وكان هذا في خواتيم سنة ١٩٩
وسبب انتقاله إلى مصر إما نفوره من علو المعتزلة، وتقريب الخليفة لهم وتبنيه
لآرائهم ومعاداته لمخالفيهم، وغلبة العنصر الفارسي على العنصر العربي في الدولة كما
و زهرة، بالإضافة إلى الفتن التي اشتعلت ببغداد سنة ١٩٨ يرجح الشيخ العلامة محمد أ
أمون البيعةَ أمون والأمين ليقتل الأمين شر قتلة ويأخذ ا ا حصل الاقتتال بين جند ا
لنفسه.
وإما بغرض البحث عن التلاميذ الأكفاء الذين يحملون عنه الفقه وأصوله وسائر
علوم الشريعة، خاصة مع سيادة مذهب أبي حنيفة في العراق ومذهب مالك في الحجاز كما
يرجح الدكتور أكرم القواسمي.
ويمكن أن يُضاف إلى ذلك سعيه الحثيث في نشر مشروعه الإصلاحي؛ فإنه عمل
شأ مذهبًا متوازنًا على تقريب مدرسة الحديث من الرأي ومدرسة الرأي من الحديث، وأ
بينهما، وصار ينشر قواعد الاستنباط وفقه التعامل مع النصوص في البلدان، وهذه هي
مادة علم أصول الفقه الذي اشتغل على تدوينه وتقريره.
٣٦
الكية، ولعله باع الحنفية وا دا يومئذٍ في مصر بين أ وذلك أنَّ الخلاف كان مشت
أراد المقام بأرضٍ ذات استقرارٍ سياسيٍّ ليمضي في مشروع التدوين والتدريس، وهذا ما
كان يتوفر بمصر يومئذٍ.
وثمة أمرٌ هنا يظهر بمجموع ما تقرر، وذكرته في كتاب "معارج العلوم" مع بسطٍ
في الفكرة؛ وهو أنَّ الإمام الشافعيَّ كان لا يكتفي بتقرير العلم؛ بل كان يقصد إلى الدخول
في مسائل الخلاف، ولا يكتفي بالسباحة في المساحات الآمنة، فهو قد اقتحم المواطن
المخوفة في المعارك الشرسة التي كانت تجري بين رجال مدرسة الحديث ومدرسة الرأي،
وأخذ يعالج معضلة اضطراب مرجعية الاستدلال والاحتجاج عند الفريقين.
وهو الذي رد على محمد بن الحسن في مسائل وصارت بينه وبينه مناظرات،
طل الاستحسان الذي يأخذون به، وجمع المسائل التي خالف فيها فقهاء العراق عامة وأ
وفقهاء الحنفية خاصة عليَّ بن أبي طالب وابن مسعود، وهما المرجع الأعلى للفقه العراقي،
وكتب كتابه "اختلاف عليٍّ وعبد الله بن مسعود".
وكتب كتابه "اختلاف العراقيين" وكان أصله من تصنيف أبي يوسف تلميذ أبي
و حنيفة مع محمد بن عبد الرحمن بن أبي حنيفة، ذكر فيه المسائل التي اختلف فيها شيخه أ
ليلى، فجاء الشافعي وأعاد التصنيف وقرر اجتهاده ورجَّح.
ا حنيفة كتب كتابًا في الجهاد، فاستدرك ف كتابه "سير الأوزاعي"، وأصله أنَّ أ وأ
و يوسف لشيخه أبي حنيفة وردَّ عليه بكتاب، فجاء عليه الأوزاعي في كتاب، فانتصر أ
ه بالدليل، وانتصر للأوزاعي في أكثر الشافعي وناقش اجتهادات الثلاثة، وقرر رأ
المسائل.
٣٧
ا ذهب إلى مصر وجد من الظروف ما حمله أن يتتبع المسائل التي حصل فيها و
اضطرابٌ عند الإمام مالك في الاستدلال بالأحاديث والاحتجاج بها، فكتب كتابه
ه التلميذ الأشهر للإمام مالك. "اختلاف مالك والشافعي"، مع أ
ولعلَّ القارئَ يعجب من هذا الاقتحام المتكرر للشافعي في ظروفٍ حرجةٍ من
الخلاف الشرس بين رجال المذاهب، مع أنَّ المستفيضَ من سمعة الإمام الشافعي تحليه
باللطف واللين، لكن الشافعي كان من النوع الذي لو اضطر إلى أقسى قول فإنه يعرضه
طف طرح، مع أدبٍ وحكمةٍ وحجةٍ وشفقةٍ وتعظيمٍ لقائله، وعندئذٍ يقع كلامه موقع بأ
التسليم.
فلم يكن هدف الشافعي القضاء على خصومه؛ وإنما تعظيمهم في الذي أحسنوا فيه،
وأخذه عنهم، وتقريبهم للحق الذي يرى، بالحكمة والموعظة الحسنة.
ومن نظر إلى عناوين كتبه والباعث عليها ثم وجده يقول: "الناس في الفقه عيالٌ على
س"، و إني أبي حنيفة"، و "إذا ذكر العلماء فمالك النجم، وما أحد أمن علي من مالك بن أ
الكٍ ثم لمحمد بن الحسن، وقد حملت عن محمد بن الحسن وِقْرَ لأعرف الأستاذية عليَّ
بعير ليس عليه إلا سماعي منه".. عرف لم ساد الشافعي في زمانه وبعد مماته!.
فالإمام الشافعي من الكبار، والكبار لهم أحكام الكبار، فهو صاحبُ مشروعٍ
علميٍّ ومشروعٍ إصلاحي، ويريد أن يجمع بين العلوم وبين المدارس العلمية في عصره،
ه كلما دخل بلدًا نفع وانتفع وعلَّم وتعلم ودرَّس ويستفيد منها ويفيد، وسَمْتُه البارز أ
ائة الثانية. ودرَس وفقَّه وتفقه، وهذا كله يقوي عدَّه مجدد ا
٣٨
المبحث العاشر
المرحلة الأخيرة من حياة الشافعي في مصر ووفاته فيها
، وقضى فيها أربع سنوات حتى وصل الإمام الشافعي مصر خواتيم سنة ١٩٩
ه عن أهل مصر ا التقى به الربيع المرادي بنَصِيبين قريبًا من الفرات سأ لقي الله تعالى، و
باع أبي حنيفة ومالك فقال: "أرجو أن أقدم مصر إن شاء الله وآتيهم فذكر له الخلاف بين أ
بشيءٍ أشغلهم به عن القولين جميعًا"، قال الربيع: "ففعل ذلك والله حين دخل مصر".
ه كان يدون ويعلم ويُملي في مجلسٍ واشتغل بالتصنيف والتدريس، ومن عبقريته أ
واحد بطريقةٍ لعله لم يُسبق بها، وهذا يدل على رسوخه واستقرار العلم في صدره، وبدأ
بهذا في تدوين مذهبه الجديد.
رزهم هؤلاء الثلاثة: وصار له في مصر تلاميذ مَهَرَةٌ بررة، أ
:[ و يعقوب يوسف بن يحيى البويطي [ت: ٢٣١ الأول: أ
وهذا الذي خلفه في درسه بعد وفاته، وكان مقدَّمًا عنده، وكان يحيل عليه في
الفُتيا ويرسله عند الحاجات والطلب ويقول: "هذا لساني"، وله كتاب المختصر الذي
اختصره من كلام الشافعي.
وبلغ درجة الاجتهاد في المذهب، وكان أفقه تلاميذ الشافعي عند وفاته، إلا أنَّ
المزني والربيع المرادي قد بلغا مبلغًا أعظم فيما بعد؛ فقد عاش كلٌّ منهما بعد وفاته بأكثر من
ثلاثين عامًا.
وأوذي البويطي في فتنة القول بخلق القرآن، ومات في سجنه مرابطًا على جبهة
العقيدة ثابتًا رحمة الله عليه.
٣٩
:[ و إبراهيم إسماعيل بن يحيى المزني [ت: ٢٦٤ الثاني: أ
ه كان مكثرًا من التعبد، وكان غواصًا في المعاني، وآية في الِحجاج ره أ ومن مآ
والمناظرة، وصنف كتبًا كثيرة، وأشهرها مختصر المزني، وعلى مثاله رتَّب فقهاء الشافعية
كتبهم، قال البيهقي عنه: "لا أعلم كتابًا صُنِّفَ في الإسلام أعظم نفعًا وأعم بركة وأكثر
ثمرة من كتابه".
ونقل جمال الدين الإسنوي أنَّ المُزَنِيَّ انتهى حاله إلى كونه صاحب مذهبٍ
مستقل، وهذا أمرٌ نلمحه في غير واحدٍ من تلامذة الشافعي الذين بلغوا درجة الاجتهاد؛
كأبي ثورٍ في العراق والبويطي في مصر، مما يعني أنَّ الإمامَ الشافعيَّ كان مشغولًا بتربية
أئمة، والذي يسلك طريق الإمامة حتى يصير إمامًا يصبح يدري طريقها وما يعين عليها.
:[ الثالث: الربيع بن سليمان المرادي [ت: ٢٧٠
وإذا أطلق الربيع في كتب المذهب.. فإنه المراد، وهذا أطول تلامذة الإمام حياةً
بعده، وهيَّأ الله الأسباب بذلك لنشر المذهب في الناس؛ فإنَّ الربيعَ كان له أعظم الفضل في
نشر كتب الإمام الشافعي بالسند العالي المتصل، وصارت الرحال تشد إليه من سائر
الأمصار لسماع كتب الإمام منه، حتى نقل تدوين الشافعي إلى عددٍ هائلٍ من التلاميذ على
مدار نصف قرنٍ من الزمان أو يزيد.
ولهذا ليس من المبالغة عدُّ جهدِ الربيع أحدَ مقوماتِ استقرار المذهب الشافعي
وعدم اندثاره، وإلا فلا يبعد أن يبقى إرث الشافعي كتبًا ينتفع بها دون أن يصبح مادةً
لمدرسةٍ فقهيةٍ ينتسب إليها الناس ولا تنقطع.
٤٠
ه ا رابط بالاسكندرية، وذكر عنه أ والربيع المرادي هو الذي صحب الشافعي
كان يصلي الصلوات الخمس في المسجد الجامع ثم يسير إلى المَحرس فيستقبل البحر
بوجهه جالسًا يقرأ القرآن في الليل والنهار، فجمع بذلك بين الصيام والرباط والتعبد.
أما وفاة الشافعي.. فإنه قد مرض بمرض الباسور في آخر حياته، وطال عليه
المرض واشتد، وانتهى الأمر بوفاته نتيجة للنزف الشديد والمتواصل، قال يونس بن عبد
نا أحدًا لقي من السَّقَم ما لقي الشافعي". الأعلى: "ما رأ
ليلة الجمعة عن أربع ام شهر رجب سنة ٢٠٤ وفاضت روحه الشريفة في آخر أ
وخمسين سنة، رحمه الله تعالى وجعله من سادات أهل العلم والحق في الآخرة كما كان في
آمين آمين. في أعلى جنة الخلد، الدنيا، ورزقه مرافقة النبي
٤١
الفصل الثاني
علوم الإمام الشافعي وما يتصل ا
تميز الإمامُ الشافعيُّ بسعة الاطلاع والتلقي؛ فقد أحاط بفقه مدرسة مكة والمدينة
والعراق، وما آواه ذلك من فقه أبي حنيفة ومالك وأصولهما، واطَّلع على فقه الإمام
الأوزاعي والليث، وتيسر له بذلك وغيره التحصلُ على مقومات الاجتهاد المطلق.
وفي هذا الفصل بيانٌ لهذا الجانب من حياته رحمه الله، وينتظم ذلك في ثمانية
مباحث، تناولت الشخصيةَ الاجتهاديَّةَ للإمام الشافعي، وإحاطته باللغة العربية وعلومها،
ورسوخ قدمه في تفسير القرآن الكريم والحديث النبوي روايةً ودراية، وإحاطته بفقه
الإمامين مالك وأبي حنيفة وأصولهما، واطلاعه على فقه الإمامين الأوزاعي والليث بن
سعد.
ودونك بيان ذلك:
٤٢
المبحث الأول
الشخصية الاجتهادية للإمام الشافعي
وفي ذلك مطلبان: يتناول الأول المحطات المؤثرة في التكوين العلمي للإمام
الشافعي، ويتحدث الثاني عن سعة علومه والعوامل التي أعانته في ذلك، وهذا بيانُ ذلك:
ر واضح في تكوين شخصيته كان في حياة الإمام الشافعي خمسُ محطاتٍ ذات أ
العلمية، وكل محطةٍ منها تهيئه للمحطة التي بعدها.
المحطة الأولى: رعاية أمه له؛ فقد أرضعته حبَّ العلم والحرص على صحبة
العلماء، ولم تصرفه عن ذلك لدنيا يصيبها أو حرفةٍ يتكسب منها رغم يتمه وفقره، فجزاها
الله خيرًا كثيرًا.
المحطة الثانية: إقامته بالبوادي وقبائل العرب عامة وهُذيل خاصة وهي أفصح
العرب يومئذٍ، فتلقى العربية من أفواه أهلها الأقحاح، حتى صار حجةً في اللغة.
المحطة الثالثة: تلقيه الفقه على يد مفتي مكة وإمامها مسلم بن خالد الزَّنجي.
س في المدينة، حيث قرأ عليه الموطأ المحطة الرابعة: صحبته للإمام مالك بن أ
وأخذ عنه الفقه والحديث، وفقه الإفتاء ومعاملة الناس.
المحطة الخامسة: صحبته للإمام محمد بن الحسن الشيباني في بغداد، وتلقيه عنه فقه
الحنفية، ثم ما أفضى به ذلك إلى المناظرات والمحاورات التي نضجت ملكته الفقهية.
٤٣
كان الإمام الشافعي موسوعةً في علوم الشريعة، وكان هذا معلومًا للناس في
باع أو أصحاب التراجم. حياته، وليس من المبالغات التي يُولع بها بعض الأ
ومما يدلك على هذا ما حدث به الربيع بن سليمان المرادي إذ قال: كان الشافعي
رحمه الله يجلس في حلقته إذا صلى الصبح، فيجيئه أهل القرآن، فإذا طلعت الشمس قاموا،
ونه تفسيره ومعانيه، فإذا ارتفعت الشمس قاموا، فاستوت الحلقة وجاء أهل الحديث فيسأ
للمذاكرة والنظر، فإذا ارتفع الضحى تفرقوا، وجاء أهل العربية والعَرُوض والنحو
والشعر، فلا يزالون إلى قرب انتصاف النهار، ثم ينصرف رضي الله عنه.
و زهرة رحمه الله أن توجيه الإنسان إلى العلوم والمعارف ثم وبيَّنَ العلامة محمد أ
واعها يرجع إلى عناصر أربعة: موهبة الشخص واستعداده، ومن تحديد مقاديرها وأ
يصادفهم من الموجهين والشيوخ، وحياته وتجاربه الشخصية، والعصر الذي يعيش فيه
والبيئة الفكرية التي تغذيه، ثم بدأ يطبق هذه العناصر على سيرة الإمام الشافعي محللًا
ومفصلًا.
يا تنوعُ المصادر الثقافية في عصره، والتي ومن أعون العوامل التي جعلته موسوع
أعانته أن يجمع بين الفقه واللغة والتفسير والحديث والأصول والمناظرة، وظهر هذا في
المنتج العلمي الذي قدمه الشافعي؛ فإنَّه ما ورثه من نتاجٍ فقهي رفيع يمثل مدرسةً مستقلةً
ليس في الأحكام الشرعية فحسب؛ بل في الأسلوب العلمي المتأدب، وفي التفكير
والمنهج.
٤٤
ويرى الدكتور أكرم القواسمي وفقه الله بعد استقرائه لسيرة الإمام الشافعي
ونظره في كتبه طويلًا أنَّ العقل العلمي الموسوعي الذي امتاز به وإبداعه الفقهي
والأصولي يرجع إلى أسبابٍ أربعة:
الأول: إخلاصه لله تعالى في التعلم والتعليم مع تحليه بالتقوى والورع، وتلمح
هذا في خصاله وأخباره وأقواله، ومن ذلك قوله: "وددت أنَّ الناس يفهمون ما في كتبي
من معاني الكتاب والسنة وينشرون ذلك وإن لم ينسبوه إليَّ".
قال المرادي: وسمعته يقول: "لا يطلب هذا العلم أحدٌ بالملك وعز النفس
فيُفلح؛ ولكن من طلبه بِذِلَّةِ النَّفسِ وضيق العيش وخدمة العلم وتواضع النفس أفلح".
وقال المزني: دخلتُ يومًا على الشافعي وكان يُصنِّف كتابًا فقلت له: رحمك الله إنَّ
أصحاب مالك وأصحاب أبي حنيفة صنفوا الكتب الكثيرة، ويجتهدون في العلم أكثر من
يس ترى ما نحن فيه؟! –وكان يتأذى بالبواسير- ثم ا إبراهيم أ اجتهادك، فقال لي: يا أ
قال: "نُصَنِّفُ ويُصنِّفون، وما كان لله تعالى يبقى إلى الدهر".
الثاني: ما أكرمه الله به من الاستعداد الفطري لتلقي العلم وحسن النظر فيه، وما
ا يبذله من عرق في الدربة والمران تيسر له بذلك من تحصيل الملكة الفقهية، بالإضافة
على ذلك.
الثالث: العصر الذي عاش فيه، والذي امتاز بقوة الدولة والاستقرار السياسي
باع بشكلٍ عام، ونشاط حركة التدوين في شتى المعارف والعلوم، مع كثرة المناظرات بين أ
المذاهب مع قوةٍ ورسوخ، فكان عصره أرضًا خصبةً للإبداع العلمي.
٤٥
الرابع: العلماء الذين يسَّر الله له أن يعاصرهم ويلتقي بهم ويأخذ عنهم، وهم أئمة
س زمانه، وفي مقدمتهم أربعةٌ وهم: سفيان بن عيينة ومسلم بن خالد الزَّنجي ومالك بن أ
ومحمد بن الحسن الشيباني.
ويُضاف إلى هذه الأربعة خطةُ الرجلِ في الجمع بين المدارس والشيوخ والعلوم
والمواهب، وهمته في الرحلة لأجل ذلك، وما تقدم من تنوع المصادر الثقافية، كل ذلك
تضافر حتى خرَّج لنا إمامًا من أئمة الهدى، وبحرًا من بحار العلم والتحقيق.
وأختم هذا المبحث بما صرَّح به الشيخ أحمد محمد شاكر في مقدمة تحقيقه البارع
ا كان أولى الناس لكتاب الرسالة للإمام الشافعي إذ قال: "ولو جاز لعالمٍ أن يُقَلِّدَ عا ً
عندي أن يقلد الشافعي، فإني أعتقد -غير غالٍ ولا مسرف- أنَّ هذا الرجل لم يظهر مثله
في علماء الإسلام في الكتاب والسنة، ونفوذ النظر فيهما ودقة الاستنباط، مع قوة العارضة
ونور البصيرة والإبداع في إقامة الحجة وإفحام مناظره، فصيح اللسان، ناصع البيان، في
الذروة العليا من البلاغة، تأدب بأدب البادية، وأخذ العلوم والمعارف عن أهل الحضر،
حتى سما عن كل عالمٍ قبله وبعده".
وعقب الذي تسطَّر أوصي نفسي وإياك بإدمان النظر في كتاب الرسالة في الأصول
وكتاب الأم في الفقه لتعرف أيَّ علمٍ ترك، وأيَّ أسلوبٍ ومنهجٍ ورَّث!.
ومن راح يقتات من إرثه مباشرةً، ثم رأى جمهرةَ الطلبة يطيلون النظر في كتب
المتأخرين ويقتصرون على ذلك.. أدرك كم ضيَّع طلبة العلم من خيرٍ وتأصيلٍ ورسوخٍ
علميٍّ وبناءٍ عقليٍّ ومنهجيٍّ تحت شعار ملاحقة المعتمد وما استجد من الفروع!.
٤٦
المبحث الثاني إحاطة الإمام الشافعي باللغة العربية وعلومها
تقدم أنَّ الشافعي أقام بين قبائل العرب وخاصة قبيلة هذيل، وكان ذلك بقصد
مر هذا نتاجًا عظيمًا في حصيلته ه عربيُّ الدارِ واللسانِ والعصر، وأ تعلم اللغة مع أ
العلمية؛ فقد كان حجةً في اللغة، وكان حافظًا للشعر، وناظمًا له، وتميز بشعر الحكمة، وهو
ا بالنحو وغريب اللغة، الذي صحَّح للأصمعي أشعار الهذليين، وكان إلى جانب ذلك عا ً
وهو على هذا كله لا ينزل عن رتبة فحول اللغة العربية في زمانه أمثال الكسائي وتلميذه
الفراء والأصمعي والمبرِّد.
ومن هنا توجهت الألسنة والأقلام في الثناء عليه في ذلك؛ قال الإمام أحمد:
"الشافعي فيلسوفٌ في أربعة أشياء: في اللغة واختلاف الناس والمعاني والفقه".
وأخرج الحافظ البيهقي الكثيرَ من الروايات المسندة إلى الإمامِ الشافعي يبدي فيها
ملاحظاتٍ لغويةً هي من دقائق علم المعاني والنحو تحت عنوان: "باب ما يستدل به على
.( فصاحة الشافعي ومعرفته باللغة وديوان العرب"( ١
حاث والكتب ومن الشواهد التي تريك إمامة الشافعي في اللغة تلك الأ
والرسائل العلمية التي انتبهت لهذا الجانب من حياته، ومن ذلك:
أ - كتب الأستاذ عبد الفتاح الحموز بحثًا بعنوان: "كلام الإمام الشافعي
رز نتائجه أنَّ اختيارات والاحتجاج به وجهٌ من سعة العربية"، وكان من أ
الشافعي تعد مظهرًا من مظاهر سعة العربية؛ من حيث الاحتجاجُ وبناءُ
.(٤١/ ١) مناقب الشافعي للبيهقي ( ٢ )
٤٧
ه لم يكن في عصور الاحتجاج اللغوي، وأنَّ الأصل النحوي واللغوي، مع أ
هذه الاختيارات ليست من اللحن والخطأ في اللغة، بل وينبغي تدوينها في
مظانها من كتب النحو والصرف.
رها ب - وكتب الدكتور سيد رزق الطويل بحثًا بعنوان: "لغة الإمام الشافعي وأ
في نتاجه الفقهي والأصولي"، ودرس فيه عددًا من اجتهادات الإمام الشافعي
الفقهية الدالة على إمامته في اللغة العربية.
ت - وكتب الأستاذ حكمت صالح دراسةً قيمةً بعنوان: "دراسةٌ فنيةٌ في شعر الإمام
الشافعي"، واستغرقت أكثر من ٣٤٠ صفحة، وخلص فيها المؤلف إلى أنَّ
الشافعي كان من كبار أدباء عصره، ولهذا تُرجم له في معجم الأدباء، كما
ترجم له في كتاب "طبقات النحاة واللغويين".
ث - وجعل الدكتور عبد المنعم طوعي موضوع رسالته الدكتوراه في تخصص
أصول اللغة العربية في جامعة الأزهر تحقيق مخطوطة كتاب "الزاهر في غريب
فاظ الشافعي" من تصنيف أبي منصور الأزهري. أ
وتقدم أنَّ الشافعيَّ كان إذا تكلم استعمل اللغة العربية البسيطة ليُفهم عنه، وإلا..
تموه فقد كان لسانُهُ أفصحَ من قلمه كما أفاد تلامذته، بل قال الربيع بن سليمان: "لو رأ
لقلتم: إنَّ هذه ليست كتبه، كان والله لسانه أكبر من كتبه".
واب ومع ذلك يُكتب غريبُ لفظِهِ من أجل معالجة الألفاظ الغامضة الواردة في أ
الفقه، وأهميةُ الكتابِ تكمنُ في كونِهِ من أقدم الكتب اللغوية التي شرحت الألفاظ
الفقهية، وهو من الكتب التي لا يستغني عنها طالبُ الفقه الشافعي.
٤٨
ضًا: "المصباح المنير في غريب الشرح الكبير"، وهو ومن الكتب المهمة في الباب أ
معجمٌ يعين الفقهاء لا سيما الشافعية، كما أن "مختار الصحاح" يعين اللغويين والفقهاء لا
سيما الحنفية.
َّه كان يتعامل مع اللغة أنها والذي يؤخذ من سيرة الإمام الشافعي ويلاحظ أ
قضيةٌ شرعية، ومن أقواله التي تنصر هذه الملاحظة ما صرَّح به في كتابه الرسالة بقوله:
إلا الله، "فعلى كل مسلم أن يتعلم من لسان العرب ما بلغه جهده، حتى يشهد به أن لا إ
وأن محمدًا عبده ورسوله، ويتلو به كتاب الله، وينطق بالذكر فيما افتُرض عليه من التكبير
وأمر به من التسبيح والتشهد وغير ذلك".
ام الناس وتقدم قول محمد ابن بنت الشافعي: "أقام الشافعي على قراءة العربية وأ
عشرين سنة، وقال: ما أردت بهذا إلا الاستعانة على الفقه".
وقال المزني: سمعت الشافعي يقول: "إعراب القرآن أحبُّ إليَّ من حفظ بعض
حروفه، تعلموا العربية؛ فإنها تُثَبِّتُ العقلَ وتزيدُ في المروءة"، ورُوي الشطر الثاني من
كذلك. الكلمة عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب
وأختم بهذه الرزمة من الأقوال التي تقرر الرسوخ اللغوي الذي عليه الشافعي،
والتي جاءت سردًا في "مختصر تاريخ دمشق":
قال يونس بن عبد الأعلى: "ما كان الشافعي إلا ساحرًا، ما كنا ندري ما يقول إذا
فاظ الشافعي كأنها سُكَّ ر". قعدنا حوله، كانت أ
وقال عبد الملك بن هشام النحوي: "طالت مجالستنا محمد بن إدريس الشافعي فما
سمعتُ منه لحنةً قط، ولا كلمة غيرها أحسن منها"!.
وقال الربيع بن سليمان: "كان الشافعي عربي النفس، عربي اللسان".
٤٩
وقال: "كلما ذكرت ما أكل التراب من لسان الشافعي هانت علي الدنيا".
وقال: سمعت عبد الملك بن هشام النحوي يقول: "الشافعي ممن تؤخذ عنه
اللغة".
ا عبد الله، كان الشافعي حجة في اللغة؟ وقيل لمحمد بن عبد الله بن الحكم: يا أ
فقال: "إن كان أحدٌ من أهل العلم حجةً في شيء.. فالشافعي حجة في كل شيء"!.
وقال المبرد: "رحم الله الشافعي، كان من أشعر الناس، وآدب الناس، وأفصح
الناس، وأعرفهم بالقراءات".
وقرأ رجل على الشافعي فلحن، فقال الشافعي: أضرستني.
ته: وقال الزبير بن بكار: أخذت شعر هذيل ووقائعها عن عمي مصعب، فسأ
.( عمن أخذتها؟ فقال: أخذتها من محمد بن إدريس الشافعي حفظًا( ١
وهذه السيرة تستفز طالب العلم ألا يكتفي بالنحو والصرف والكتب الأولى
منهما؛ بل يجاوز لكتب البلاغة والمعاجم والشعر الجاهلي والأدب؛ فهناك اللغة.
.(٤٣٧/ ١) مختصر تاريخ دمشق لابن منظور ( ٦ )
٥٠
المبحث الثالث رسوخ الإمام الشافعي في تفسير القرآن الكريم
عنايةُ أيِّ عالمٍ بالقرآنِ الكريمِ وتفسيره وطول النظر في ذلك أمرٌ لا ينبغي أن
يستغرب؛ لأنَّ القرآن الكريم هو المصدرُ الأولُ للتشريع الإسلامي، وإنما صار هذا
يستغرب بعد مهزلة التخصص الجامعي في شكله الحديث؛ من كون المتخصص في علمٍ لا
يدري ما لا بد منه من العلوم الشرعية الأخرى.
وربما وجدت السواد الأعظم من طلبة كلية التفسير لم يقرءوا تفسيرًا واحدًا
مطولًا من التفاسير التي عليها المدار؛ كالطبري والقرطبي والزمخشري مثلًا.
إذا تقرر هذا؛ فإنَّ إمامنا الشافعي لم يشغله الفقه عن التفسير، بل جعل التفسير في
خدمة الفقه، ولهذا حرص على جمع أقوال المفسرين في زمانه، حتى بلغ درجة الإجادة فيه،
ه شهد وفي هذا يقول يونس بن عبد الأعلى الصَّدَفِي: "كان الشافعي إذا أخذ في التفسير كأ
التنزيل"!.
ا أخذ في كتابه "الرسالة" في بيان منزلة القرآن الكريم راح يقول: "فكلُّ ما و
زل في كتابه جل ثناؤه رحمةٌ وحجةٌ، عَلِمَه من علمه وجهله من جهله، فحقٌّ على طلبة أ
العلم بلوغ غاية جهدهم في الاستكثار من علمه، والصبر على كلِّ عارضٍ دون طلبه،
صا واستنباطًا، والرغبة إلى الله في العون عليه؛ فإنه وإخلاص النية لله في استدراك علمه ن
صا واستدلالًا، ووفقه الله لا يدرك خيرٌ إلا بعونه، فإنَّ من أدركَ علمَ أحكامِ الله في كتابه ن
٥١
للقول والعمل بما علم منه.. فاز بالفضيلة في دينه ودنياه، وانتفت عنه الرِّيَب، ونورت في
.( قلبه الحكمة، واستوجب في الدين موضع الإمامة"( ١
وتعرض الشافعي في كتاب "الأم" إلى تفسير أكثر من ٤٤٣ آية، وتعرض في كتاب
ة التي يوردها "الرسالة" إلى تفسير أكثر من ٢٠٠ آية، وكان يأتي بالآية كدليلٍ على المسأ
من الفقه أو الأصول، فيُفهم من استدلاله بها المعنى الذي تبناه في تفسيرها، وفي أحيانٍ
أخرى كان يقصد الآية بالتفسيرِ أصالةً لاستنباط حكم فقهي أو قاعدة أصوليةٍ منها،
ويحصل كثيرًا أن يتعرض للآية الواحدة في أكثر من موضع ليتعدد استدلاله بها ونوع
استنباطه منها بحسب السياق.
هذا مع العلم أنَّ الآيات سابقة الإحصاء في الأم والرسالة لا يقتصر موضوعها
على آيات الأحكام؛ بل فيها من آيات القصص القرآني وآيات العقيدة وغيرهما من
موضوعات القرآن الكريم.
وقد جمع الحافظ البيهقي أقوال الإمام الشافعي في التفسير، وجعلها في كتابٍ
واحدٍ سماه: "أحكام القرآن" كما صرَّح بذلك في آخر صفحةٍ من كتابه "مناقب الشافعي"
حيث قال: "وقد جمعت أقاويل الشافعي رحمه الله في أحكام القرآن وتفسيره في جزءين".
وجمع الشيخ مجدي بن منصور سيد الشورى الآيات التي فسرها الشافعي
ه لم يستوعب ما جاء في مصنفات وأخرجها في كتابٍ، وطبعته دار الكتب العلمية، إلا أ
الإمام الشافعي.
ومن الدراسات القرآنية المتعلقة بإرث الإمام الشافعي ما خطَّه الدكتور محب
اجستير التي بعنوان: "منهج الإمام الشافعي في تفسير الدين عبد السَّبحان في رسالته ا
.( ١) الرسالة ص ( ٢٠ )
٥٢
آيات الأحكام"، وكذلك ما كتبه الدكتور عبد الخالق نور في رسالته التي بعنوان: "الإمام
الشافعي ومذهبه في التفسير في كتابيه الأم والأحكام"، والمقصود بكتاب الأحكام أحكام
و بكر البيهقي. القرآن للإمام الشافعي الذي جمعه الحافظ أ
وخلص الدكتور أكرم القواسمي وفقه الله إلى أنَّ من منهج الشافعي في التفسير
فاظ القرآن، ور والتفسير بالرأي، وكان عارفًا بمعاني أ أ ه كان يجمع بين التفسير با أ
ويستعين بالآثار والأشعار في شرح غريب الآيات، مع حسن الاستنباط للأحكام منها.
ولإمامة الشافعي في التفسير ترجم له شمس الدين الداوودي في كتابه: "طبقات
المفسرين"، وهذا من أهم الكتب في بابه.
٥٣
المبحث الرابع رسوخ قدم الإمام الشافعي في الحديث النبوي روايةً ودراية
ضًا؛ لأنَّ الحديث من جملة عنايةُ أيِّ عالمٍ بالحديث النبوي لا ينبغي أن تستغرب أ
الوحي الذي عليه المتكأ في الأحكام.
ا كان بمكة على يد سفيان بن وقد تلقى الإمامُ الشافعيُّ الحديث النبوي مبكرًا
عيينة، ثم بالمدينة النبوية على يد الإمام مالك.
وأخذ الإمام الشافعي الحديث النبوي حفظًا له وفقهًا لأحكامه ونقدًا لأسانيده
وعلمًا بما يتصل بذلك، وبرع في كلِّ ذلك، وهو ما عُرِف فيما بعد بعلم الحديث النبوي
روايةً ودراية.
وأفعاله وتقريراته أما علم الحديث رواية.. فهو علمٌ يشتمل على أقوال النبيِّ
فاظها. وصفاته وروايتها وضبطها وتحرير أ
و العباس الأصم جانبًا من وقد كان الإمام الشافعي من رواة الحديث، وجمع أ
الأحاديث التي رواها الإمام الشافعي في كتبه في مصنفٍ واحدٍ سمَّاه "مسند الشافعي".
و جعفر الطحاوي عددًا كبيرًا من الأحاديث التي رواها الإمام وجمع كذلك أ
الشافعي في كتابٍ سماه "السنن"، خرَّج فيه الأحاديث بروايته عن خاله أبي إبراهيم المزني
عن الإمام الشافعي.
هو ذاك ا رواه الشافعي من الأحاديث والآثار عن الصحابة وأجمع كتابٍ
الذي جمعه الحافظ البيهقي في مُصنَّفه العظيم الذي سماه: "معرفة السنن والآثار"، وهذا
من أعظم الكتب التي لا يستغني عنها طالبٌ يتفقه على المذهب.
٥٤
أما فقه الحديث والآثار وما فيها من المعاني والأحكام.. فقد كان الإمام الشافعي
فارسَ ميدانه، وكتبه مزدحمةٌ بشواهد ذلك.
والإمام الشافعي هو صاحب كتاب "اختلاف الحديث"، والذي يعتبر أولَ
مُصنِّفٍ في علم مختلف الحديث ومشكله، وقد عرض فيه أكثر من ٢٧٠ حديثًا مختلفة في
ظاهرها، وبين طرق جمعها والتوفيق بينها؛ ليكون هذا الجهد مثالًا ينسج أهل العلم على
منواله.
وأمَّا علم الحديث النبويِّ درايةً.. فهو علمٌ بقوانين يعرف بها أحوال السند والمتن،
ويطلق عليه مصطلح الحديث أو علوم الحديث أو أصول الحديث.
وقد ضرب الإمام الشافعي في هذا الميدان بسهمٍ عظيم؛ فقد كانت له أقوالٌ
معتبرةٌ في نقد أسانيد الأحاديث ومتونها، وبيان شروط الحديث الصحيح، وبيان قواعد
الجرح والتعديل، والكلام على بعض الرواة تجريحًا وتعديلًا، بل وتكلم في علل الحديث
سواءٌ كانت في السند أو في المتن.
لا تحت عنوان: "باب العلل في الأحاديث"، وعقد في كتابه "الرسالة" بابًا مستق
ه استدرك على شيخيه سفيان ومالك في بعض روايتهما، وكشف عن عللٍ وبلغ من تمكنه أ
دقيقةٍ في الإسناد خفيت عليهما.
وأفاد الدكتور نور الدين عتر رحمه الله أنَّ ما دوَّنه الشافعي في الرسالة أو في
مقدمة كتابه: "مختلف الحديث" هو من أقدم ما وصل زماننا من علوم الحديث مُدوَّنًا في
كتاب.
نى الشيخ العلامة أحمد شاكر رحمه الله على مباحث علوم الحديث في كتاب وأ
واب الكتاب ومسائله التي عرض الشافعي فيها للكلام على "الرسالة" فقال: "إنَّ أ
٥٥
حديث الواحد والحجة فيه وإلى شروط صحة الحديث وعدالة الرواة ورد الخبر المرسل
والمنقطع إلى غير ذلك هو عندي أدق وأغلى ما كتب العلماء في أصول الحديث، بل إن
ه جمع ذلك المتفقه في علوم الحديث يفهم أن ما كُتِبَ بعده إنما هو فروعٌ منه وعالةٌ عليه، وأ
."( وه!( ١ وصنَّفَهُ على غير مثالٍ سبق، لله أ
وأحصى الحافظ ابن حجر تسعة وسبعين شيخًا روى عنهم الإمام الشافعي
الحديث.
وخلص الباحث الدكتور عبد الرزاق موسى في رسالته العلمية: "الرواية على
الإبهام والتعديل عليها عند الإمام الشافعي في الأحاديث المرفوعة" إلى أنَّ الإمام الشافعي
ذو قدمٍ راسخةٍ في قواعد الجرح والتعديل وعلل الحديث في السند والمتن، وأنَّ هذا يجعله
من أئمة المحدثين في عصره.
اجستير: وإلى نفس هذه النتيجة خلص الباحث عبد الحميد عباس في رسالته ا
"الإمام الشافعي ومكانته بين المحدثين".
ولا ننسى أنَّ الإمام الشافعي من رؤوس مدرسة الحديث، بل هو الذي رفع
رأسهم في المناقشات والمناظرات التي كانت تجري مع فقهاء مدرسة الرأي.
ومن هنا كثرت شهادات التزكية له في هذه الجانب، ومن ذلك:
قظهم الشافعي، وما حمل قال الزعفراني: كان أصحاب الأحاديث رقودًا حتى أ
.( أحد محبرة إلا وللشافعي عليه منة( ٢
.( ١) الرسالة للشافعي تحقيق أحمد شاكر ص ( ٩ )
.(٧٣/ ٢) وفيات الأعيان لابن خلكان ( ٢ )
٥٦
نا الشافعي، ى حنيفة حتى رأ وقال أحمد بن حنبل: كانت أقفيتنا لأصحاب أ
فبينها لهم. وقال: ما كان أصحاب الحديث يعرفون معاني أحاديث رسول الله
وقال الكرابيسي: ما فهمنا استنباط أكثر السنن إلا بتعليم الشافعي إيانا، وقال: ما
كنا ندرى ما الكتاب والسنة والإجماع حتى سمعنا الشافعي.
وقال داود بن على الظاهري: كان الشافعي رضي الله عنه سراجًا لحملة الآثار
.( ونقلة الأخبار، ومن تعلق بشيء من بيانه صار محجاجًا( ١
ولعلك الآن تدرك حجم المهزلة ممن يجعل الإمام الشافعي وفقهه في جانب،
والحديث النبوي والمحدثين في جانب، وكأنَّ المذاهب قسيمةٌ للأدلة، والكلام عن هذه
ة. ة يطول ويطول، وعسى أن تتيسر مناسبة لفك النزاع في هذه المسأ المسأ
ه لم يشتغل بالعلم الذي قرره من ويتحصل أنَّ الشافعيَّ ذو عبقريةٍ عزَّ نظيرها، وأ
سبقه فحسب؛ بل شق مسارات لم يسبق إليها؛ فهو من دوَّن طرفًا من قواعد علم الحديث
والعلل كما مرَّ، وهو أول من صنَّف في علم مختلف الحديث كما مرَّ، وتطرق الإمام
فيته إلى هذا فقال: السيوطي في أ
( أوََّلُ مَنْ صَنفََّ فِي المْخُْتلَفِِ الشَّافعِِي، فكَُنْ بِذَا النَّوْعِ حَفِي( ٢
وهو أول من دوَّن أصول الفقه في كتابه الرسالة، وهو العلم الذي يبين فقه
التعامل مع نصوص الكتاب والسنة، واستطاع أن يخُطَّ منهجَ نظرٍ يَجمَعُ عليه أرباب
المدارس الفقهية، ويحمي به النصوص من اعتداء اللصوص.
.(٢٠٣/ ٩٠ )، الجرح والتعديل للرازي ( ٧ -٨٦/ ١) تهذيب الأسماء للنووي ( ١ )
.( فية السيوطي في علم الحديث ص ( ٤١ )، رقم البيت: ( ٦٣٩ ٢) أ )
٥٧
ف ه من وضع كتاب السبق والمناضلة في الفقه، وقد أ َّ ومن مفرداته كذلك: أ
خمسة كتب تعد من أقدم ما وصل إلى زماننا في علم الخلاف الملقب اليوم بالفقه المقارن؛
وهي: كتاب اختلاف أبي حنيفة وابن أبي ليلى، واختلاف علي وعبد الله بن مسعود،
واختلاف مالك والشافعي، والرد على محمد بن الحسن، وسِيَرِ الأوزاعي.
رزها بقيت الإشارةُ للشبهات التي تنفي عن الإمام الشافعي تمكنه من الحديث، وأ
هذه الثلاث:
تم أعلم بالحديث والرجال مني، فإذا كان ما قاله الإمام الشافعي للإمام أحمد: "أ
ا، حتى أذهب إليه إن كان يا أو شامي ا كان أو بصر الحديث صحيحًا فأعلموني؛ كوفي
ه يقر بضعفه في علم الحديث. صحيحًا"؛ فإنَّ ظاهر هذا الكلام أ
ه ليس مقصرًا في وأجيب عن ذلك: بأنَّ هذا من التواضع أمام أهل الحديث، وأ
هذا العلم بدليل ما تقدم، وأنَّ الإمام أحمد كان من كبار المحدثين العراقيين والأعلم
بأحوال رواتهم وأسانيدهم، فكان مرجعًا في معرفة روايات أهل العراق بالنسبة إلى الإمام
يا"، ولم يا أو شام ا كان أو بصر الشافعي الذي جمع حديث الحجازيين، ولهذا قال: "كوفي
ه أخذها عن علماء الحرمين واليمن. يا"؛ لأ يا أو يمن يا أو مك يقل: مدن
نى الإمام أحمد على الإمام م، ولهذا أ أو أنَّ اشتغال الإمام أحمد بالحديث أ
ه ما كان يكتفي بالقليلِ من الحديث. الشافعي بأ
ا سُئل عن الشافعي قال: ليس بثقة، ويحيى بن ه ما رُوي عن يحيى بن معين أ
معين من أئمة الجرح والتعديل في عصره كما لا يخفى.
٥٨
وأجيب عن ذلك: بأنَّ هذه الرواية عن يحيى بن معين مُقابَلةٌ بما أخرجه الخطيب
البغدادي والحافظ البيهقي واللفظ بسنديهما إلى الزعفراني يقول: كنت مع يحيى بن معين في
ا زكريا ما تقول في الشافعي؟ قال: "دعنا؛ لو كان الكذب له مطلقًا جنازة، فقلت له: يا أ
لكانت مروءته تمنعه من الكذب".
هذا علاوة على أنَّ الحافظ ابن حجر نقل عن الحاكم النيسابوري موافقًا إياه ردَّ
الرواية عن يحيى بن معين في تضعيفه للإمام الشافعي، والتصريح بعدم ثبوتها عنه.
ولو صحَّ ذلك عنه.. فقد عقَّب الحافظ ابن عبد البر على ذلك بقوله: "وكلام
العلماء بعضهم في بعضهم يجب أن لا يلتفت إليه، ولا يُعرَّج عليه فيمن صحت إمامته،
وعظمت بالعلم عنايته".
والذي تدل عليه الروايات أنَّ يحيى بن معين كان له موقفٌ سلبيٌّ من الإمام
الشافعي، والذي تولى الدفاع عن الإمام الشافعي هو الإمام أحمد.
وهذا يتضح فيما أخرجه الحافظ البيهقي والحافظ ابن عبد البر واللفظ له بسنديهما
وك مما إلى صالح بن الإمام أحمد بن حنبل قال: لقيني يحيى بن معين فقال لي: أما يستحي أ
ته قد ته مع الشافعي والشافعي راكبٌ وهو راجلٌ، ورأ يفعل؟ فقلت: وما يفعل؟ قال: رأ
أخذ بركابه، فقلت ذلك لأبي، فقال لي: قل له إذا لقيته: إن أردت أن تتفقه فتعال فخذ
بركابه الآخر"!.
عدم إخراج البخاري ومسلم لأحاديث الشافعي في الصحيحين، وهذا يدل على
عدم توثيقهما له.
٥٩
وأجاب الخطيب البغدادي عن ذلك: بأنَّ الشيخين قد تيسرت لهما أحاديث الإمام
الشافعي بأسانيد أعلى من إسناده، وعلو السند مطلبٌ مهمٌّ لدى المحدثين.
ور أنَّ البخاري ومسلمًا ذكرا الشافعي بالمدح والتعظيم، وترك الرواية لا أ وا
يدل على الجرح، أما المدح والتعظيم فإنه دليلٌ على التعديل.
وبين الإمام مسلم في كتابه: "الانتفاع بأَهب السباع" مكانة الشافعي وعلو منزلته
بين المحدثين، وعده في هذا الكتاب من الأئمة الذين يُرجع إليهم في الحديث والجرح
والتعديل كما نقل الحافظ ابن حجر ذلك عنه.
٦٠
المبحث الخامس إحاطة الإمام الشافعي بفقه الإمام مالك بن أنس وأصوله
وفيه مطلبان: يتناول الأول جذور فقه الإمام مالك، ويتطرق الثاني إلى النشأة
الكية للإمام الشافعي، ودونك البيان: ا
تمتد جذور فقه الإمام مالك إلى كبار فقهاء الصحابة الذين استوطنوا الحجاز
رزهم عمر بن الخطاب وابنه عبد الله وزيد بن ثابت وعائشة أم المؤمنين وماتوا فيه، ومن أ
وعلي بن أبي طالب، وعن هؤلاء الصحابة وغيرهم أخذ الفقه عددٌ كبيرٌ من التابعين برز
منهم سبعة، وهم المعروفون بالفقهاء السبعة وقد تقدمت أسماؤهم.
وعن هؤلاء السبعة انتقل فقه الصحابة إلى الكثير من صغار التابعين وتابعي
و الزناد ]، وأ رزهم هؤلاء الخمسة: محمد بن شهاب الزهري [ت: ١٣٠ التابعين من أ
و عثمان ربيعة بن أبي عبد الرحمن المعروف بربيعة ]، وأ عبد الله بن ذكوان [ت: ١٣٠
]، وعبد الله بن صاري [ت: ١٤٣ و سعيد يحيى بن سعيد الأ ]، وأ الرأي [ت: ١٣٦
.[ هرمز [ت: ١٤٨
وعن هؤلاء الخمسة وغيرهم أخذ الإمام مالك فقه الصحابة وأفتى على منهاجه
ت إليه زعامة مدرسة أهل الحديث في عصره، والتي أرسى قواعدها وبرع فيه حتى آ
الفقهاء السبعة.
٦١
فالإمام مالك ورث تركة فقه الصحابة في الحجاز ومن بعدهم من الفقهاء السبعة
ومن تلاهم حتى صب كلُّ ذلك في مذهبه، وهذا بخلاف الفقهاء الثلاثة؛ فكلٌّ منهم هو
الذي أسس مذهبه بنفسه.
ولأجل ذلك كان الإمام مالك قبلةَ طلبة العلم من سائر البلاد الإسلامية، وكان
تقريبًا إلى سنة وفاة الإمام مالك الشافعي من جملة من قصده، وصحبه من سنة ١٦٣
ه ، مما يعني أ ، إلا أنَّ الصحبة لم تأخذ طابع الملازمة الدائمة إلا بعد سنة ١٧٠ ١٧٩
أخذ عنه آخر أقواله في الفقه وآخر مروياته في السنة، بعد أن بلغ الذروة في إنضاج ملكته
الكي أصولًا وفروعًا. الفقهية الكبيرة التي أسست للمذهب ا
؛ رية المذاهب عبر السند الفقهي المتصل إلى النبيِّ ة أ وبما تسطر يُنبَّه على مسأ
ومن ، فكلُّ مذهبٍ فقهيٍّ من المذاهب الأربعة ينزع إلى صحابةٍ بأعيانهم، ويرد إلى النبيِّ
أحاط بخارطة فقه الصحابة في الجملة اهتدى بيسرٍ إلى خارطة فقه الأئمة الأربعة.
رزهم سبعة: عمر بن الخطاب وعلي بن أبي والصحابة الذين انتشر عنهم الفقه أ
طالب وعبد الله بن عباس وعبد الله بن عمر وعبد الله بن مسعود وزيد بن ثابت وعائشة
. أم المؤمنين
وأكثر فقه أبي حنيفة يعود لمدرسة عليِّ بن أبي طالبٍ وابن مسعود ڤوكانا
بالعراق، وأكثر فقه مالك يعود لمدرسة ابن عمر ڤ وكان بالمدينة، وأكثر فقه الشافعي
له فضلٌ مستفيضٌ على يعود لمدرسة ابن عباس ڤ وكان بمكة، وعمر بن الخطاب
المذاهب الأربعة، وأما الإمام أحمد فقد تلقى الفقه المدني وأخذ عن الشافعي وتلقى طرفًا
حسنًا من الفقه العراقي.
٦٢
رها في أقوال الأئمة الأربعة يحتاج لمقالٍ أو ريَّةِ المذاهبِ وأ ةِ أ والحديثُ في مسأ
بحثٍ مفردٍ، ولعلَّ القلم ينشط لكتابته وتتبع البحث فيه، وتكفي هذه الإشارةُ لإحالةِ
الحريص أن يبحث ويفتش ويرصد.
س، وتشرَّب فقهه وأصول مذهبه الذي كان ر الشافعيُّ بشيخه مالك بن أ تأ
يُمثِّل مدرسة أهل الحديث في ذلك العصر.
وكان الإمام الشافعي فقيهًا على مذهب الإمام مالك، يفتي بقوله، وعندما كان
ه من أصحاب مالك، ولهذا كان يقول في يناظر أصحاب الرأي كان يناظرهم على أ
المناظرات: قال صاحبنا، وذهب صاحبنا؛ يشير إلى الإمام مالك، ولهذا ترجم له القاضي
عياض في كتابه: "ترتيب المدارك وتقريب المسالك لمعرفة أعلام مذهب مالك".
الكي. ولهذا يمكن القول: إنَّ المذهبَ الشافعيَّ خرج من رحم المذهبِ ا
يا باستثناء ما كان في مصر، فبينما ومن اللافت للنظر أنَّ المذهبين لم يتجاورا جغراف
دلس.. امتد المذهبُ الشافعيُّ في المشرق الكي في المغرب الإسلامي والأ امتد المذهب ا
الإسلامي متجاورًا مع مذهب أبي حنيفة، والحديث عن جغرافية المذاهب يطول، وهناك
حاثٌ مفردةٌ تطرقت له. أ
الكي حتى ا كنت ببلاد شنقيط، -وهي على المذهب ا ومن المستظرف أني
النخاع-، وعرفوا أني شافعي التلقي قال أحدهم يُعرِّضُ بفضل الإمام مالك: ما أعظم
بغ تلامذة الإمام مالك!. الشافعي؛ لقد كان أ
والمفاضلةُ بين الأئمة لا طائل منها، فأقام الله الإسلام بالأربعة، ولكنَّ صاحبنا
كان يستظرف.
٦٣
وبدأ الإمام الشافعي يخرج عن أقوال الإمام مالك بعد الذي تيسَّر له من مقومات
، وكان ا عاد من بغداد إلى مكة سنة ١٨٩ الاجتهاد، وذلك بعد وفاة شيخه بست سنين
خروجه يزداد شيئًا فشيئًا مع تطور ملكته الفقهية وعلوه في درجات الاجتهاد، فكثرت
اختياراته التي لم تكن مخرَّجةً على أصول مالك أو فتاويه، وكان ينشئها من فقهه فيما عُرِف
في كتابيه: الحُجَّة والرسالة بالمذهب القديم، والذي عاد إلى بغداد ليدونه سنة ١٩٥
العراقية.
وبهذا نرى أنَّ الإمام الشافعي توجَّهت همَّتُهُ إلى تشييد صرحٍ جديدٍ بالرؤية
الأصولية والفقهية التي تكونت لديه، ولم يجعل جهده في جمع أقوال شيخه وأصوله
وتدوينها كما فعل عبد السلام بن سعيد التَّنوخي المُلقَّب بسَحنون، والذي جمع إجابات
ةٍ، ورتَّبها فيما عُرِف بالمُدوَّنة، الإمام مالك عن المسائل الفقهية حتى بلغت ٦٢٠٠ مسأ
وقد رواها عن عبد الرحمن بن قاسم عن مالك ثم شرحها بعد ذلك وأصبحت أصلَ الفقه
الكي. ا
ومع بلوغ الإمام الشافعي الذروة في الاجتهاد المطلق أخرج مذهبه الجديد بمصر،
ونشط لديه قلمُ التدوينِ والإملاء، سواءٌ ما قصد تقريره كما في كتابه "الأم"، أو ما كان عن
حاجةٍ حملته على ذلك؛ كالحال في كتابه: "اختلاف مالك والشافعي".
يفه هو معالجةُ حالة التعصب الشديد التي رآها والذي يظهر أنَّ الباعث على تأ
باع الإمام مالك، حتى لكأنهم يثبتون له العصمة. من بعض أ
الك؛ أي قلنسوة يستسقى دلس كُمَّةً وقد رُوي أنَّ الإمام الشافعي بلغه أنَّ بالأ
فيقولون: قال مالك، فقال الشافعي: إن مالكًا آدميٌّ بها، وكان يقال لهم: قال رسول الله
٦٤
قد يخطئ ويغلط، فكتب الكتاب وكان يقول: كرهت أن أفعل ذلك ولكني استخرت الله
في ذلك سنة!.
أما مادة الكتاب.. فقد عالج فيها ما يراه اضطرابًا في الاحتجاج بالسنة عند الإمام
بت للحجة عليكم في اختلاف أقاويلكم مالك، وفي ذلك يقول في بدايته: "ليكون أ
دون غيره وتَدَعون له ما خالفه، ثم تَدَعُون الحديثَ فتستغنون مرة بالحديث عن النبي
مرة أخرى بغير حديث يخالفه".
ه قال: قدمت مصر ولا أعرف أن مالكًا يخالف من الأحاديث إلا وجاء عنه أ
ستة عشر حديثًا، فنظرت؛ فإذا هو يقول بالأصل ويدع الفرع، ويقول بالفرع ويدع
الأصل!.
ولا يكاد يخلو فقيهٌ من تناقض، وهذا يبين أهمية وجود التنقيح المستمر الذي قام
باع المذاهب، مع الحفاظ على حالة التوافق والربط بين الفروع والأصول والقواعد. به أ
ومن تمام التجلية للشخصية الاجتهادية للإمام الشافعي قارن الدكتور أكرم
، ومات بعد القواسمي وفقه الله بينه وبين أشهب بن عبد العزيز؛ فإنه وُلِد سنة ١٤٥
موت الشافعي بشهر، وقد صحب الإمام مالكًا مدة مقاربةً لمصاحبة الشافعي له، وهو
الكية بمصر بعد وفاة ابن القاسم سنة بت الناس في فقه مالك، وانتهت إليه رياسة ا أ
، لكنه لم يبلغ درجة الاجتهاد المطلق. ١٩١
نا الشافعي يستقل بمذهبه أصولًا وفروعًا، ومرَّ بنا أنَّ مخالفات الشافعي بينما رأ
ةً أصوليةً بارزة، كما أحصاها الك في المسائل الأصولية بلغت خمسًا وعشرين مسأ
الباحث جمال الجزائري في رسالته العلمية، وجلَّى فيها تمايز أصول الإمامين على ما آل إليه
ا خُلِق له. الأمرُ بعد ظهورِ المذهبِ الجديدِ للإمام الشافعي في مصر، وكلٌّ ميسرٌ
٦٥
المبحث السادس إحاطة الإمام الشافعي بفقه الإمام أبي حنيفة وأصوله
وفيه ثلاثة مطالب: يتناول الأول جذور فقه الإمام أبي حنيفة، ويتولى الثاني بيان
تلقي الإمام الشافعي لفقه الحنفية، ويشير الثالث إلى دلائل إحاطته بفقههم وأصولهم،
ودونك البيان:
، عندما أمر عمر بن تمتد جذورُ فقهِ أبي حنيفة في أرض العراق إلى سنة ١٧
ليعلم الناس أحكام ببناء الكوفة، ثم بعث إليها عبد الله بن مسعود الخطاب
الإسلام ويفقههم في الدين، وقد قوي مركز الكوفة العلمي بعد انتقال سيدنا علي بن أبي
. إليها واتخاذها عاصمةً للخلافة سنة ٣٦ طالب
وعن عليٍّ وابن مسعود ڤانتشر الفقه في الكوفة خاصة وفي العراق عامة، وأخذ
رزهم: الفقه عنهما وعن الصحابة الذين استوطنوا الكوفة عددٌ كبيرٌ من كبار التابعين من أ
،[ ]، والقاضي شريح بن الحارث الكندي [ت: ٧٨ مسروق بن الأجدع [ت: ٦٢
] وغيرهم. ]، وعلقمة بن قيس النخعي [ت: ٦٥ وعبد الرحمن بن أبي ليلى [ت: ٨٢
ولعلَّ أفقههم علقمة، وكان بعض الصحابة يستفتونه، وعنه أخذ إبراهيم النخعي
]، وهو خليفته في ]، وعنه أخذ حماد بن أبي سليمان [ت: ١٢٠ ابن أخته [ت: ٩٦
ت ]، وهو مؤسس الفقه الحنفي، وإليه آ و حنيفة النعمان [ت: ١٥٠ الإفتاء، وعنه أخذ أ
زعامة مدرسة أهل الرأي التي أرسى قواعدها إبراهيم النخعي.
٦٦
وعلى ما تقرر؛ فإنَّ مذهبَ أبي حنيفة هو خلاصةُ فقهِ كبار التابعين في العراق عامة
وفي الكوفة خاصة، وفقههم هو خلاصة فقه عليٍّ وابن مسعود ڤ.
ومن نتائج الرسائل العلمية التي ركَّزت على هذا الجانب ما خلص إليه الدكتور
اجستير: "تطور الفكر الأصولي الحنفي" أنَّ ابتناء هيثم عبد الحميد علي خزنة في رسالته ا
وإلى أنَّ آراء إبراهيم النخعي الأصولية هي ، المذهب الحنفي كان على أقوال ابن مسعود
بدايات أصول الفقه عند الحنفية، وحشد لإثبات هاتين النتيجتين الكثير من النقولات
والروايات النافعة.
ومن الرسائل العلمية التي خاضت في نفس الاتجاه ما قدمه الدكتور عبد الرزاق
اسكندر إلى كلية دار العلوم بجامعة القاهرة في رسالته التي جعل عنوانها: "عبد الله بن
مسعود إمام الفقه العراقي"، وكذا ما خطه خضران بن مساعد الزهراني في رسالته
ره في فقه أبي حنيفة". اجستير: "فقه ابن مسعود في الحدود والتعزير والجنايات وأ ا
و يوسف رزهم القاضي أ أما حملة فقه أبي حنيفة ومن تولى نشرَ مذهبِهِ.. فإنَّ أ
وزُفَر بن الهُذيل ومحمد بن الحسن الشيباني.
ومحمد بن الحسن هو صاحب الفضل في تدوين الفقه الحنفي؛ فهو الذي جمع
أقوال إمامه وأصحابه ورتبها وحرَّرها، وأشهرُ كتبِهِ ما عُرف بكتب ظاهر الرواية، التي
أصبحت أصل فقه الحنفية، وعليها بنى فقهاؤهم مدوناتهم في الفروع.
إلى بغداد متَّهمًا بالخروج وقدَّر الله تعالى أن يُحمل الشافعي من اليمن سنة ١٨٤
على الدولة العباسية لتنتهي المحنة بالتلمذة المباشرة على يد محمد بن الحسن، والشافعي لم
يقصد الرحلة إليه كما قصد الرحلة إلى مالك، لكن الله شاء بمَنِّهِ وفضله أن يكتمل
التكوين المنهجي للإمام الشافعي عبر التلقي المباشر عن أئمة مدرسة الرأي.
٦٧
رِ في تثوير المفاهيم الشرعية في صدر وأحسب أنَّ هذه الجولة كان لها أحسنُ الأ
الإمام الشافعي، خاصة ما يتعلق بأصول الفقه ومناهج الاستدلال، وكم يتحسر الإنسان
على المشتغلين بالعلم الذين لا يجاوزون حدود مدارسهم الفكرية، مع أنَّ الله تعالى حصر
حصرًا ووزَّعه في أمته نثرًا، ولكن كم اختبأ التعصب تحت شعار الحق في شخص النبيِّ
الثبات والتجرد!، ومن هنا حمد الناس الأسفار ولقاء الكبار.
ا ورَّثَهُ ويمكن القول: إنَّ الأحناف أصحابُ فضلٍ عظيمٍ على الإمام الشافعي؛
الفقهُ الحنفي من زيادةِ علمٍ وعقلٍ وتدبرٍ واستنباط، وبما هيأه له من المقارنة بين المدارس
ومعرفة مواقع الاضطراب في مناهج الاستدلال، وإنَّ الإمام الشافعي صاحب فضلٍ على
ت إليه المذاهب في الأحناف إذ قرَّبهم من أصول مدرسة الحديث، ليكون الشكل الذي آ
صورته اليوم ليس هو ذات الشكل الذي كانت عليه المذاهب زمن التأسيس في أول يوم،
وهكذا يستفيد الأئمة من بعضهم، ويسدد بعضهم بعضًا.
لازم الإمام الشافعي محمد بن الحسن وأخذ عنه كتب ظاهر الرواية، ومكث في
تحصيل ذلك خمس سنوات حتى هضم المذهب الحنفي جيدًا.
وأشار الإمام الذهبي إلى ذلك وهو يبين السند الفقهي المتصل للفقه الحنفي
خلال ترجمته لحماد بن أبي سليمان فقال: "فأفقهُ أهل الكوفة عليُّ بن أبي طالب وعبدُ الله بن
مسعود، وأفقهُ أصحابهما علقمةُ بن قيس، وأفقهُ أصحابه إبراهيمُ النخعي، وأفقهُ أصحابه
و يوسف، وانتشر أصحاب و حنيفة، وأفقهُ أصحابه أ حمادُ بن أبي سليمان، وأفقهُ أصحابه أ
و عبد الله محمد بن إدريس أبي يوسف في الآفاق، فأفقههم محمد بن الحسن، وأفقه أصحابه أ
الشافعي".
٦٨
قال الشافعي: "حملتُ عن محمد بن الحسن وِقْرَ بعيرٍ ليس عليه إلا سماعي منه،
ت الكراهة في وجهه إلا محمد بن الحسن". ةٍ فيها نظرٌ إلا رأ ت أحدًا سُئِلَ عن مسأ وما رأ
فقت على كتب محمد بن الحسن ستين دينارًا، ثم تدبَّرْتُها فوضعتُ إلى وقال: "أ
ة حديثًا". جنب كل مسأ
ت تراه هنا ينفق على التلقي مالًا لبدًا، ويستدل لفقه إمامه وهو من مدرسةٍ وأ
أخرى، وهكذا يفعل التجرد للحق بأصحابه حتى تذوب نفوسهم في الحق لا في تمجيد
لغ العظات رهم، وهذه من أ ارهم ومآ ذواتهم، وعلم الله صدقهم فخلَّد ذكرهم، ونفع بآ
التي يتعطش لها السالكون في سبيل طلب العلم والعمل.
ومن علائم التجرد للحق الإشادةُ بالقول والتفاعلُ معه عند الموافقة، والمناقشة
عند المخالفة، فلم يَحُلْ الثناء العاطر المتواصل من الإمام الشافعي على الإمام محمد بن
الحسن من مخالفته عند موجبات ذلك مع التحلي بالحجة وحلية الأدب.
ومن ذلك ما قاله الشافعي: قال لي محمد بن الحسن ذات يوم في الغصب: بلغني
ك تخالفنا، قلت: إنما ذلك شيءٌ أقوله على المناظرة، فقال: قد بلغني غير هذا فناظرني، أ
ى قلت: هات. فقلت: إني أجلُّك وأرفعك عن المناظرة، فقال: لا بد من ذلك، فلما أ
ولم يكن الإمام الشافعي من النوع الذي يحرص أن يبين صوابه وخطأ مخالفه؛ بل
تراه يقدر للناس قدْرَهم ويعطيهم منزلتهم، ويثني عليهم رغم المخالفة، فهو الذي يخالف
صف الناس الفقهاء لعلموا أنهم لم يروا مثل محمد بن الحسن وهو الذي يقول فيه: "لو أ
محمد بن الحسن، ما جالست فقيهًا قط أفقه منه، ولا فتق لساني بالفقه مثله، لقد كان يحسن
من الفقه وأسبابه شيئًا يعجز عنه الأكابر"!.
٦٩
وقال: "ما أحدٌ في الرأي إلا وهو عيالٌ على أهل العراق".
وقال: "من أراد الفقه فهو عيالٌ على أبي حنيفة".
ما تقدَّم في ترجمة الشافعي كافٍ في بيان إحاطة الشافعي بفقه الحنفية وأصولهم،
َّه كتب ثلاثة كتب تُصنَّف في علم الخلاف، ومع ذلك فإنَّ مما يجلي هذا الأمر ويبينه أ
وثلاثتها في الخلاف داخل مدرسة الرأي، ابتداءً من جذورها وانتهاءً بالمرحلة التي عاشها
الإمام الشافعي، ودونك بيان الكتب الثلاثة والباعث على كتابتها:
ڤ
بين شيخ الإسلام ابن تيمية الباعث عليه فقال: "وقد جمع الشافعيُّ كتابًا فيه
ة فيقولون: قال علي وابن ا كان أهل العراق يناظرونه في المسأ خلافُ عليٍّ وابن مسعود
مسعود ويحتجون بقولهما، فجمع الشافعي كتابًا ذكر فيه ما تركوه من قول عليٍّ وابن مسعود
.( ڤ( ١
وقال المحدث الحنفي الإمام التَّهَانَوِي ملتمسًا للحنفية عذرهم في ذلك في سياق
يف الإمام الشافعي للكتاب: وعُلِم عرض ما أورده شيخ الإسلام ابن تيمية في سبب تأ
وإنما ، بهذا الكلام أنَّ بناء مذهب أبي حنيفة على أقوال ابن مسعود وعليٍّ عن النبيِّ
يا في بعض المسائل حيث لاح لهم القوة في و حنيفة وأصحابه ابن مسعود وعل خالف أ
أقوال غيرهما من الصحابة كما هو مبسوط في كتب أصحابنا.
.(٣١٤/ ١) منهاج السنة النبوية ( ٦ )
٧٠
فالكتابُ إشعارٌ بإدراك الشافعي التام أنَّ فقه الصحابيين الجليلين يمثِّل مرجعية
فقه أهل العراق عامة والحنفية خاصة.
أما منهجه في الكتاب.. فقد عرض فيه اجتهادات كلٍّ من عليٍّ وابن مسعود
ڤفيما خالفهما فيه أصحاب أبي حنيفة وفقهاء العراق من مسائل الفقه، مرتبًا إياها على
ة مع الدليل إن وُجِد واب الفقهية، يرويها بسنده إليهما، وبعد أن يروي رأيهما في المسأ الأ
يُعقِّب هو باجتهاده مبينًا ما يرجحه وما يأخذ به مؤيدًا ذلك بما يناسبه من الأدلة.
هذا الكتاب في أصله من تصنيف القاضي أبي يوسف، جمع فيه المسائل التي
و يوسف بسنده و حنيفة مع محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، يرويها أ اختلف فيها شيخه أ
إليهما ويزيد عليهما برواية بعض الأحاديث والآثار المسندة، بالإضافة لشيء من اجتهاده في
المسائل المتعددة، وقد روى محمد بن الحسن كتاب شيخه أبي يوسف.
واب الفقه، وزاد عليه ثم جاء الإمام الشافعي فأعاد الكتاب ورتَّبَهُ على أ
ه بالأدلةِ المناسبة. اجتهاداته في الترجيح بين الأقوال أو بالخروج بقولٍ جديد، مدعمًا رأ
وسِرُّ اختيارِ الخلافِ بين هذه الرجلين أنهما يمثلان الخلافَ داخل مدرسة الرأي،
سواء في الفروع أو في بعض الأصول.
ا حنيفة تلقى الفقه عن حماد عن إبراهيم النخعي عن علقمة عن وبيانُ ذلك: أنَّ أ
ا من أبي حنيفة- فقد تلقى الفقه عن وأما محمد بن أبي ليلي –وهو الأكبر سن ابن مسعود
يه عبد الرحمن بن أبي ليلى عن ابن مسعودٍ وعلي بن أبي طالب ڤ ومع الشعبي وعن أ
٧١
الحراك الفقهي فقد أضافت اجتهادات كبار التابعين وصغارهم الكثير إلى فقه الصحابيين،
مما أدى إلى تمايز فقه أبي حنيفة عن فقه محمد بن أبي ليلى وإن كانا ينتميان إلى نفس المدرسة.
هذا بالإضافة إلى أنَّ ابن أبي ليلى اشتغل بالقضاء، والقضاء يمثل الجانب التطبيقي
و حنيفة يستدرك عليه، واشتهرت بعض الحوادث في للفقه الإسلامي، وكثيرًا ما كان أ
ذلك، ويمكن النظر في كتاب "أخبار أبي حنيفة وأصحابه" للصَّيْمَرِي للاطلاع على طرفٍ
من ذلك.
عرض الإمام الشافعي في هذا الكتاب مئات المسائل المتعلقة بأحكام القصاص
والدِّيات، ينقل فيها اجتهادات أبي حنيفة وغيره مع بيان استدلالات محمد بن الحسن على
ةِ مع ه في المسأ أقوال إمامه أبي حنيفة ومخالفاته له أحيانًا، ثم يوضح الإمام الشافعي رأ
دليله المناسب في حوارٍ ومناظرةٍ هادئةٍ هي من أرقى صور الفقه المقارن.
ه أقدمُ كتابٍ في فقهِ الدِّيَاتِ والقصاص المقارن وصل وتكمن أهميةُ الكتابِ في أ
إلى زماننا.
ه يقتحم مواضع الخلاف، ولا يكتفي بالسباحة في المناطق ت ترى بذلك أ وأ
الآمنة، ولكن يقتحم بأدبٍ وحكمةٍ وعدلٍ وإنصافٍ بل وتعظيمٍ وإجلالٍ وإكبار، وبهذا
ينزل كلامه منزل القبول عند الموافق والمخالف، وصدق الله إذ يقول: {وَمَنْ يؤُْتَ الحِْكْمَةَ
.[ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} [البقرة: ٢٦٩
٧٢
المبحث السابع اطلاع الإمام الشافعي على فقه الإمام الأوزاعي
وفيه مطلبان: يتناول الأول جذور فقه الإمام الأوزاعي، ويكشف الثاني عن
اطلاع الإمام الشافعي على فقه الإمام الأوزاعي، ودونك البيان:
تمتد جذورُ فقه الإمامِ الأوزاعي إلى فقه الصحابة الذين استوطنوا بلاد الشام
، وواثلة بن وتوفي في حمص سنة ٨١ ، و أمامة الباهلي وماتوا فيها، ومن أشهرهم أ
. وتوفي في دمشق سنة ٨٣ ، الأسقع
دمشق وقوي مركز بلاد الشام العلمي بعد أن جعل معاوية بن أبي سفيان
، وانتهى العلمُ في بلاد الشام إلى أربعة من عاصمة الخلافة في دولة بني أمية منذ سنة ٤٠
رز في نشر الفقه فيها، وهم: معاذ بن جبل، وتوفي كبار فقهاء الصحابة، كان لهم الدور الأ
، وعبادة بن و الدرداء، وتوفي في دمشق سنة ٣٢ ، وأ في غور الأردن سنة ١٨
. ، والنعمان بن بشير، وتوفي في حمص سنة ٦٥ الصامت، وتوفي في الرملة سنة ٣٤
وعن هؤلاء الصحابة وغيرهم أخذ الفقهَ عددٌ كبيرٌ من التابعين في بلاد الشام، من
.[ ]، وشهر بن حَوشَب [ت: ١٠٠ و إدريس الخولاني [ت: ٨٠ رزهم: أ أ
وعنهما وعن غيرهما من كبار التابعين انتقل فقه الصحابة إلى الكثير من صغار
]، ومكحول بن عبد الله [ت: رزهم: رجاء بن حيوة الكندي [ت: ١١٢ التابعين من أ
رز فقهاء ]، ولعله أفقه أهل الشام في عصره، وعنه أخذ الإمام الأوزاعي ليصبح أ ١١٣
الشام في عصره بلا منازع، وفقهه هو خلاصة فقه الصحابة الذين استوطنوا الشام.
٧٣
وعلاوة على ذلك؛ فإنَّ الأوزاعي قام برحلاتٍ علميةٍ للعراق والحجاز ومصر،
ه كان من الأئمة المجتهدين في عصره، وبلغ في الاجتهاد المطلق وأجمع كل من ترجم له أ
مبلغ الاستقلال بمذهبٍ له أصوله وفروعه، وكان على طريقة مدرسة أهل الحديث.
دلس بعد نصف قرنٍ ه اندثر في الأ دلس، إلا أ وانتشر مذهبه في بلاد الشام والأ
من وفاته، واندثر في الشام بعد قرنين، ولعلَّ انقراض مذهبه يعود لسببين رئيسين:
الأول: احتراق كتبه في آخر حياته بعد أن أمضى في تدوينها سنين، وذلك في زلزالٍ
عظيمٍ أصاب بلام الشام، ولا يخفى أنَّ بقاء المدونات من عوامل بقاء المذهب واستقراره
وانتشاره، وهذا ما أدركه جمعٌ من أرباب المذاهب؛ كالإمام محمد بن الحسن والإمام
الكي. الشافعي وسَحنون ا
الثاني: أنَّ تلاميذ الإمام الأوزاعي لم يقوموا بخدمة مذهب إمامهم وتنضيجه
وتطويره بعده؛ إما لأنهم لم يكونوا على قدرٍ كبيرٍ من الفقه بمستوى تلاميذ الأئمة الأربعة،
أو لاشتغالهم بالجهاد في سبيل الله، كما كان حال تلميذه عبد الله بن المبارك؛ حيث كان
يرابط في ثغور الشام مراتٍ ومرات، والأوزاعي نفسه كان قد استوطن بيروت بنية الرباط
. إلى أن مات فيها سنة ١٥٧
وكانت بلاد الشام متاخمةً للدولة البيزنطية، وسوق الجهاد فيها قائمة، ولا زالت
الشام هدفًا للغزاة، حيث الحملات الصليبية المتتالية في القديم، وحيث الاستعمار
الأوروبي في العصر الحاضر في القرن العشرين، والذي انتهى بوقوع فلسطين تحت
ظمة الاستبداد، الاحتلال الصهيوني وبقية بلاد الشام والبلاد العربية والإسلامية تحت أ
والاحتلالُ والاستبدادُ أخوان من أمٍّ واحدةٍ لكن الشكل متباين.
٧٤
وبناءً على ذلك؛ فلم يصلنا من مصنفات الإمام الأوزاعي إلا كتاب "سير
الأوزاعي"، وهو في أحكام الجهاد.
ورغم اندثار المذهب إلا أنَّ فقهاء المذاهب الأخرى تناقلوا بعض أقواله وفتاويه،
وقام بعض الباحثين بتتبعها، ومن الجهود العلمية في هذا الباب ما قام به الدكتور عبد الله
الجبوري من جمع أقوال الإمام الأوزاعي في رسالته الدكتوراه في الفقه من الأزهر وسماها:
"فقه الإمام الأوزاعي"، وجاءت في مجلدين.
اجستير في تخصص أصول الفقه وجعل الباحث علي بن سعد الضويحي رسالته ا
من جامعة محمد بن سعود بعنوان: "أصول فقه الأوزاعي من خلال فقهه المدوَّن".
واب كتب وقام الشيخ مروان محمد الشعَّار بجمع أقواله وفتاويه وترتيبها على أ
شروح الحديث في كتابٍ سماه: "سنن الأوزاعي.. أحاديث وآثار وفتاوى".
َّا كنت بالسودان التقيت بالشيخ علي الأهدل اليمني وفقه الله، والذي جعل و
ته يومها: هل تضمَّن فقهُهُ أقوالًا رسالته الدكتوراه عن فقه الإمام الأوزاعي، وسأ
وتقريراتٍ فقهية تشتد الحاجة إليها تعد من مفردات مذهبه عن المذاهب الأربعة؟ فقال:
نعم، وإنَّ له إضافاتٍ قوية.
ا كان بمصر أن يطَّلع على فقه الإمام الأوزاعي، وزكَّاه يسَّر الله تعالى للشافعي
ت رجلًا أشبه فقهه بحديثه من الأوزاعي". تزكيةً دقيقةً بقوله: "ما رأ
وكان التلقي بواسطة تلاميذه؛ فقد خرج من الفسطاط إلى تِنِّيس –وهي مدينةٌ
قرب دمياط- ليلتقي بتلميذين من تلاميذ الإمام الأوزاعي، هما: عمر بن أبي سلمة
]، وهذا كان من أقران ]، وبشر الجبلي [ت: ٢٠٥ الدمشقي ثم التنيسي [ت: ٢١٤
٧٥
الشافعي، وأخذ عنه الشافعي فقه الأوزاعي، وتبع هو الشافعي في كثيرٍ من المسائل، فأفاد
كلٌّ منهم الآخر.
وبهذا نرى أنَّ إمامة الشافعي لم تزهده في التعلم بعد أن بلغ الغاية في العلم
والتعليم، وهذا هو المنهج القويم المرتضى، وأذكر أني استشرت شيخنا العلامة د. محمد
الزحيلي وفقه الله في تأخير تدريس الفقه المذهبي إلى حين إنجاز الفقه المقارن على وجهه،
ى ذلك، وقال: "المنهجُ الإسلاميُّ أن يعيشَ الرَّجُلُ معلمًا ومتعلمًا في آنٍ واحد". فأ
بقيت الإشارةُ إلى أنَّ الإمام الشافعي دوَّن كتابًا ينتصر فيه لأقوال الإمام
الأوزاعي؛ وهو كتاب "سير الأوزاعي"، والكتاب في أصله ردٌّ للأوزاعي على أبي حنيفة
و يوسف بتصنيف كتابٍ يرد عليه فيه، وينتصر في مسائل فقهية في باب الجهاد، فقام أ
لأقوال إمامه أبي حنيفة بما يسوقه من الأدلة، وسماه: "الرد على سير الأوزاعي"، وهو
كتابٌ مطبوع.
فجاء الإمام الشافعي فصنَّف كتاب "سير الأوزاعي"؛ ليرد على أبي حنيفة وأبي
يد ذلك بالأدلة. يوسف مرجحًا قول الأوزاعي في أكثر المسائل، مع تأ
ه يعد من أقدم كتب الفقه المقارن التي وصلت وتكمن أهمية كتاب الشافعي أ
إلينا، وهو يجمع أقوال أربعة أئمة: الإمام الأوزاعي والإمام أبي حنيفة والإمام أبي يوسف
والإمام الشافعي، ومادة الكتاب نافعةٌ في مباحث العلاقات الدولية في الإسلام.
ومن اللطيف أنَّ الدكتور محمود أحمد غازي استجلى الشخصية الاجتهادية
الكبيرة للإمام الشافعي في فقه العلاقات الدولية من هذا الكتاب، وذلك في بحثه المفيد:
ر مبادئ الإمام الشافعي على القانون الدولي"، وقد تعرَّض فيه إلى تحليل كتاب سير "أ
الأوزاعي للإمام الشافعي.
٧٦
المبحث الثامن اطلاع الإمام الشافعي على فقه الإمام الليث بن سعد
،[وفيه مطلبان: يتناول الأول جذور فقه الإمام الليث بن سعد [: ١٧٥
ويكشف الثاني عن اطلاع الإمام الشافعي على فقه الإمام الليث، ودونك البيان:
تمتد جذورُ فقه الإمام الليث بن سعد إلى فقه الصحابة الذين استوطنوا مصر
،[ ]، وابنه عبد الله [ت: ٦٥ رزهم: عمرو بن العاص [ت: ٤٣ وماتوا فيها، ومن أ
.[ وعقبة بن عامر [ت: ٥٨
وعن هؤلاء الصحابة وغيرهم أخذ الفقه جمعٌ كبيرٌ من التابعين في مصر، من
رزهم: عبد الرحمن الصُّنَابِحِي، وهذا توفي زمن الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان، أ
.[ ]، ومرثد اليَزَنِي قاضي الإسكندرية [ت: ٩٠ وعبد الله بن مالك الجَيْشَاني [ت: ٧٧
وعن هؤلاء وغيرهم انتقل الفقه إلى صغار التابعين، وبرز منهم: بكَُير بن عبد الله
]، ثم انتقل فقه و أمية عمرو بن الحارث [ت: ١٤٨ ]، وأ بن الأشج [ت: ١٢٧
رز فقهاء مصر في عصره بلا منازع، ففقهه هو ك إلى الإمام الليث بن سعد، وكان أ أو
الذين استوطنوا مصر ومن جاء بعدهم من فقهاء التابعين. خلاصةُ فقه الصحابة
وعلاوة على جمع الإمام الليث لفقه أهل مصر.. فقد تعددت رحلته في طلب
العلم إلى الحجاز وغيره، فأخذ عن الزهري وسمع منه الحديث، وكانت بينه وبين ربيعة
الرأي شيخ مالك مناظراتٌ قوية، وكانت بينه وبين الإمام مالك مراسلات، وإذا قال
٧٧
مالك: "أخبرني من أرضى من أهل العلم".. فإنه يقصد الإمام الليث كما أفاد عبدُ الله بن
وهب تلميذ الإمام مالك.
والليث بلغ في الاجتهاد مبلغًا عظيمًا، حتى صار صاحبَ مذهبٍ مستقل في
الأصول والفروع نُسِب إليه، وكان أقرب إلى مدرسة الحديث منه إلى مدرسة الرأي، إلا أنَّ
مذهبه لم يستمر، ولعلَّ ذلك يرجع إلى سببين رئيسين:
ه لم يدون فقهه بنفسه، وكان له كتابٌ في بعض المسائل لكنه مفقود. الأول: أ
والثاني: أنَّ تلاميذه كانوا أدنى من تلاميذ غيره من الأئمة، سواء في مستواهم
العلمي أو في خدمتهم لمذهب إمامهم وتطويره من بعده.
والتلاميذُ عاملٌ رئيسٌ في استقرار المذاهب، فهم الذين يحملون العلم ويواصلون
المسير، وأشار الإمام الشافعي إلى ذلك بقوله: "الليث أفقه من مالك إلا أنَّ أصحابه لم
يقوموا به"، وهذه كلمةٌ ذاتُ وزنٍ وخطرٍ لمن أعطاها قدرًا من التأمل.
ومع اندثار المذهب إلا أنَّ الفقهاء تناقلوا بعض أقواله وفتاويه، وقد كانت خطوة
في الاتجاه الصحيح أن يجعل الدكتور هلال أحمد عاشور موضوع رسالته الدكتوراه بكلية
الشريعة بجامعة أم القرى بعنوان: "الليث بن سعد وفقهه في العبادات".
وجمع الدكتور عبد الحليم محمود أحد شيوخ الأزهر بعضًا من الأحاديث النبوية
واب التي يرويها الإمام الليث مخرجةً في الصحيحين وغيرهما من طريقه، ورتبها على أ
الفقه، مع شيءٍ من التعليق والفوائد؛ استجلاءً لفقه الإمام الليث، وأخرج ذلك في كتابٍ
سماه: "الليث بن سعد إمامُ أهلِ العصر".
٧٨
يَسَّر الله تعالى للشافعي أن يطَّلع على فقه الإمام الليث عندما أقام بمصر، وذلك
مما سمعه من أشهب بن عبد العزيز وعبد الله بن عبد الحكم، بل وخرج إلى تِنِّيس ليأخذ
عن يحيى بن حسان وغيره من تلاميذ الليث.
قال الربيع: "كان الشافعي إذا قال: أخبرنا الثقة.. فإنه يريد به يحيى بن حسان".
وتحسَّرَ الإمامُ الشافعيُّ -وهو العليم بأقدار الرجال- على عدم لقائه بالإمام
الليث، وسُجِّل قوله: "ما اشتد علي فوتُ أحدٍ من العلماء مثل فوت ابن أبي ذئب والليث
بن سعد".
س بقوله: ره به ما صرَّح به من تفضيله على إمامه مالك بن أ ويدلك على عظيم تأ
"الليث أفقه من مالك إلا أنَّ أصحابه لم يقوموا به"، فإنه على كثرة من زكى من أهل العلم
ه لم يصرِّح بالتفضيل كما صرَّح به هنا. إلا أ
ويرى الدكتور أكرم القواسمي وفقه الله أنَّ مذهب الإمام الشافعي الجديد بمصر
ر بفقه الإمام الليث، وهذا ما فطن له الدكتور سيد أحمد خليل إذ قال مبينًا ذلك في كتابه تأ
المفيد: "الليث بن سعد فقيه مصر": ولا نكاد نلحظ فرقًا بين طبيعة اتجاه الليث واتجاه
الشافعي إلا من حيث إنَّ الأول مهَّد السبيل لمن جاء بعده، وأزال من جو الحياة التشريعية
ما كان يظللها من الغيوم".
٧٩
الفصل الثالث
آثار الإمام الشافعي
امتاز الإمامُ الشَّافعيُّ بتدوينه لفقهه وأصوله بنفسه، وما وصلنا من إرثه توزَّع على
مشارب؛ فثمةَ مصنَّفاتٌ كتبها ووصلت، وثمة مصنفاتٌ كتبها ولم تصل، وثمة مصنفاتٌ
جم عُِت من آثاره أو نسبت إليه، وبيان ذلك في ثلاثة مباحث:
المبحث الأول مصنفات الإمام الشافعي التي لم تصل
في هذا المبحث مطلبان: يتطرق الأول إلى عناية الشافعي بالتدوين وطريقته في
ذلك، ويكشف الثاني عن المصنفات التي لم تصل، مع طرفٍ من الحديث عنها، ودونك
البيان:
عاش الإمام الشافعي في عصر حركة الترجمة والتدوين في شتى العلوم، وكان
ما بمسك القلم منذ الصغر عندما كان يدوِّنُ ما يستفيده من أهل العلم، ولم يكن يقدر مهت
أن يشتري القراطيس فكان يكتب على العظم.
فق في ذلك مالًا كثيرًا، وقال: ه كان يكتب عن محمد بن الحسن، وأ وقد مرَّ بنا أ
"حملت عن محمد بن الحسن وِقرَ بعيرٍ ليس عليه إلا سماعي منه".
٨٠
قال الربيع المرادي: كان الشافعي جزأ الليل ثلاثة أجزاء: الأول يكتب، والثاني
يصلي، والثالث ينام.
وكان رحمه الله يتأملُ المسائلَ ويقلِّبُهَا في هدوء الليل وظلمته يستعين بذلك على
جمع العقل والفكر؛ ليصل إلى حسن استنباط القواعد والأحكام، وكان يطفئ السِّراج
لأجل ذلك ويقول: إنَّ السِّراج يشغل قلبي.
وكان يُصنِّفُ ويُدرِّسُ ويُملي في مجلسٍ واحد، فكان يملي عليهم فيظهر للناظر
أنهم كالنساخ، لكنهم في المجلس نفسه كانوا يتدارسون مع شيخهم المسائل بجانب
الكتابة عنه، فكان الدرس أشبه بالندوة العلمية، وكان ربما صنَّف هو خلال الدرس.
وظاهرٌ أنَّ الذي يمليه يعد من كتبه، وأنَّ الذي يكتبه التلاميذ من عبارته ليس من
كتبه.
وخلص الدكتور أكرم القواسمي وفقه الله بعد نظره في كتب الإمام الشافعي إلى
ه أملى طرفًا حسنًا على تلاميذه خلال ه صنَّف القسم الأكبر من مصنفاته بقلمه، وأ أ
الدرس، وتلمح في ترتيب المسائل وتسلسلها أنَّ قصدَ التصنيفِ حاضرٌ عنده، وليس
كلامه مجرد رغبةٍ في تدريس بعض مسائل الفقه لتلاميذه في المسجد وإملائها عليهم.
وبارك الله له في قلمه؛ فقد وضع عامة الكتب في أربع سنين، لكنها ميراث
الأهلية التي حصلها على مدار ما يزيد عن أربعين عامًا.
ةِ من جميع جوانبها، بطريق وكانت طريقته في عرض فقهه تتمثل في تقليب المسأ
الحوار مع المخالفين له فيها؛ استجلاءً لوجه الصَّوابِ مع الدليلِ المناسب، وكان يفترض
أسئلةً قد ترد على قوله ودليله ليرد عليها بأسلوبٍ ممتع يشد القارئ، مع قوةٍ في عرض
الحجة والانتصار لها.
٨١
وهذه الطريقة تشبه طريقة تدريس مادة الفقه المقارن في الكليات الشرعية اليوم،
والذي يظهر أنَّ هذا هو السمت العام لكتابات الإمام الشافعي؛ لكثرة الكتب التي وردت
على هذا النهج، ولهذا لا يغني النظر في كتب المتأخرين عن إدمان النظر في كتب الإمام
نفسه.
و سليمان في دراسته لأسلوب الإمام الشافعي وقد أجاد الدكتور عبد الوهاب أ
ومنهجه في عرض فقهه تحت عنوان: "الإبداع المنهجي في فقه الإمام الشافعي"؛ حيث
عرض تسعة عناصر للمنهج المتبع عند الإمام، وهي بإيجاز:
١. استقراء آيات القرآن الكريم.
٢. استقراء نصوص السنة النبوية والآثار عن الصحابة.
٣. الاعتماد على اللغة العربية في فهم النصوص.
٤. تطبيق القواعد الأصولية.
٥. الاستدلال بالمعقول.
٦. ضبط المسائل والأحكام المستنبطة بالقواعد والضوابط الفقهية.
٧. التوضيح بالفروق الفقهية.
٨. منهج الخلاف العالي المعروف اليوم بالفقه المقارن.
٩. الحرص على أدب الخلاف.
٨٢
اشتغل الإمام الشافعي بالتدوين وهو في العراق وكثَّف منه في مصر، والمصنفات
العراقية التي يسميها بعضهم بالكتب القديمة هي التي تُمَثِّلُ المذهبَ القديم، والمصنفات
المصرية التي يسميها بعضهم بالكتب الجديدة هي التي تمثل المذهب الجديد.
والقسمُ الأكبرُ من المُصَنَّفَاتِ المصرية ما هي إلا تطويرٌ للمصنفات العراقية؛
حيث قام بتنقيحها والزيادة عليها والحذف منها وتعديل الكثير من الاجتهادات
والاستدلالات فيها، فكتاب الأم تطويرٌ لكتاب الحُجَّة، وكتاب الرسالة تطويرٌ للرسالة
العراقية القديمة.
َّه سمَّى مصنَّفًا من مصنفاته بنفسه، وأغلب التسميات الموجودة َّه لم يثبت أ على أ
هي من وضع تلاميذه الذين نقلوا عنه الكتب ورووا ما فيها، خاصة الحسن الزعفراني
والربيع المرادي، ولعلَّ هذا يُفسِّر لك سببَ وجود عدة تسمياتٍ للمُصنَّفِ الواحد، مما
أوهم أنها مصنفاتٌ مختلفة.
والذي كان يأتي في لسان الشافعي شيءٌ من الوصف لهذه الكتب؛ فكان يصف
كتابه الحجة مثلًا بالكتاب البغدادي، وكان يشير إلى كتاب الرسالة بقوله: "كتابنا".
فهناك نقلٌ لأقواله وأدلته كما أملاها من غير اجتزاء، كما حصل من رواية الحسن
الزعفراني لكتابي الحُجَّة والرسالة العراقية، ورواية الربيع المرادي لكتابي الأم والرسالة
الجديدة.
وهناك نقلٌ لفقهه مختصرًا من أقواله وكتبه التي صنَّفها وأملاها من غير نقل عين
ما كتب وأملى؛ كحال المزني في مختصره المشهور، وحال البويطي في مختصريه الصغير
٨٣
والكبير، وهنا تظهر شخصية التلميذ مع حسن اختصاره وتصرفه في كلام إمامه، بل
ومخالفته أحيانًا.
اجستير: "الإمام المزني ومخالفاته وقد أحصى الطالب ناصر ناجي في رسالته ا
ةً خالف فيها المزني إمامه الشافعي، للإمام الشافعي في كتابه المختصر" تسعًا وستين مسأ
وهذا في المختصر وحده.
رزها أربعة: الحجة، والرسالة العراقية، أما أسماء الكتب التي لم تصل؛ فأ
.[ والمبسوط، والسنن برواية حرملة التُجيبي [ت: ٢٤٣
ه حجةٌ على أهل أما الحُجَّة.. فإنه من تسمية الزعفراني، ولعل هذا إشارةٌ منه إلى أ
الرأي نظير ما فعله محمد بن الحسن عندما صنَّف كتابًا سماه: "الحجة على أهل المدينة".
وأما الرسالةُ العراقية.. فهي الرسالة القديمة في أصول الفقه، وكانت رسالةً
دينا اليوم من رواية الربيع المرادي وهي المصرية. موجزة، والتي بأ
لا؛ وإنما هو اسمٌ أُطلِقَ على كلٍّ ه ليس كتابًا مستق وأما المبسوط.. فالذي يظهر أ
ه الحُجَّة، فتكون التسمية من الأم والحُجَّة، ولا يشمل كتاب الرسالة، وذكر بعضهم أ
مجاراةً لتسمية أكبر كتب ظاهر الرواية بالمبسوط.
وأما السنن.. فهو كتابٌ مستقلٌّ وفيه زياداتٌ كثيرةٌ من الأخبار والآثار والمسائل،
وقد جمع فيه حرملةُ التُجيبي ما رواه عن إمامه من أقوالٍ وأدلةٍ كتبها خلفه إملاءً أو قرأها
عليه من مصنفاته، وفيه ما تفرَّد بروايته، والغالب أنَّ التسمية منه، وهو من رواة المذهب
الجديد.
وشارك الإمامُ المزنيُّ حرملةَ التُجيبي في رواية كتاب السنن، ولعله كان من أهم ما
اعتمد عليه في كتابة مختصره المشهور.
٨٤
إلا أنَّ كتاب السنن لم يصل، وربما كان السبب أنَّ عناية الفقهاء بمرويات الربيع
كانت أكثر من غيره.
أما عدم وصول الكتب العراقية.. فإنَّه مفسَّرٌ بنهي الشافعي عن ذلك؛ إذ قال
صراحة: "لا يحل عدُّ القديم من المذهب، ولا أجعل في حِلٍّ من رواه عني"، وهذا فيه عظةٌ
للمشتغل بالتدوين أن يكون جريئًا في المراجعة، وألا يتعجل في إخراج الكتب إلا حيث
استوفت حاجتها من التحقيق والتجويد والنظر والمراجعة.
وهذا بخلاف الكتب المصرية؛ فإنها التي أذاعها الإمامُ الشافعي، فضلًا عما تيسَّر
لها من عوامل الانتشار، والتي من أهمها جهدُ المرادي في نقلها وروايتها، ومما أعانه على
. ذلك دِقَّةُ حفظهِ وامتداد عمره إذ توفي سنة ٢٧٠
وأختم هذا المبحث بما نبَّهَ عليه الدكتور عبد المعطي أمين قلعجي في مقدمة تحقيقه
ر كتب الفقهاء عامة وكتب ورة للإمام الشافعي برواية الطحاوي من تأ أ لكتاب السنن ا
الشافعي خاصة بمصنفات محمد بن الحسن الشيباني.
٨٥
المبحث الثاني مصنفات الإمام الشافعي التي وصلت إلى زمن كتابة هذه الرسالة
بدايةً لا بد من التنبيه على أنَّ جميع مصنفات الإمام الشافعي التي وصلت إلينا
تحتوي على مناقشات الفقه المقارن، بالإضافة إلى عرض القواعد الأصولية والاحتجاج
بها، فالفقه وأصوله ارتبطا عند الإمام الشافعي ارتباطًا محكمًا ومثمرًا، ولهذا عدَّ الدكتور
و سليمان كتب الإمام الشافعي الفقهية كتبًا في أصول الفقه التطبيقي، عبد الوهاب أ
وتخريجِ الفروع على الأصول، وهذا ما يَضْعُفُ حضورُهُ في كتب المتأخرين.
ومما يميز مُصنَّفاتِ الإمام الشافعي أنها كُتبت بأسلوبٍ فصيحٍ خالٍ من الركاكة
والتعقيد، ودرجةُ وضوحِ الأسلوب منفكةٌ عن كون الكتاب هل هو للمبتدئين أو
للمتقدمين؟، فكم سهُل كتابٌ متقدم وعسُر كتابٌ مبتدئ!.
وقسَّم الدكتور أكرم القواسمي وفقه الله كتب الشافعي إلى ثلاثة أصناف: صنف
للفقه العام، وصنف للفقه المقارن، وصنف لأصول الفقه، وأشار أنَّ هذا إنما هو بالنظر إلى
الصفة الغالبةِ على الكتاب، ودونك الكلام عن مادة كلِّ صنفٍ في مطلبٍ مستقل:
وابه، والكتاب الذي المقصود بالفقه العام هنا هو عرض مسائل الفقه في جميع أ
يمثل هذا الأمر هو كتاب الأم برواية الربيع المرادي، وهو صاحب التسمية للكتاب.
٨٦
وقام الدكتور أحمد بدر الدين حسون الذي لم ينتفع بعلمه( ١) بتحقيق كتاب الأم،
ضًا كتب الاختلافات وكتبًا أخرى للإمام الشافعي، وضمَّها جميعًا إلى كتاب الأم، وحقق أ
وسمَّى هذه المجموعة "موسوعة الإمام الشافعي".
وهذه الموسوعة تشتمل على جميع ما صنَّفه الإمام الشافعي وأملاه باستثناء كتابي
الرسالة واختلاف الحديث، فهي تشتمل على كتاب الأم وتسعة كتب أخرى مستقلة هي:
اختلاف العراقيين وهو كتاب اختلاف أبي حنيفة وابن أبي ليلى، واختلاف عليٍّ وعبد الله
بن مسعود، واختلاف مالك والشافعي، وجماع العلم، وبيان فرائض الله، وصفة نهي
وإبطال الاستحسان، والرد على محمد بن الحسن الشيباني، وسير ، رسول الله
الأوزاعي.
وسياسةُ الربيعِ المرادي في كتاب الأم الروايةُ لا غير، ومردُّ ترحمه على الإمام
ه هو الذي رواه عنه بعد وفاته الشافعي بداية كل باب بقوله: "أخبرنا الشافعي رحمه الله" أ
ه في المسائل محل َّه كان يبدي رأ بعد أن كان قد أخذه عنه في حياته إجازةً أو إملاء، على أ
البحث أحيانًا لكن على قلة.
رز الجهود العلمية في ذلك أنَّ الحافظ وعظُمَت الخدمةُ لكتاب الأم، ومن أ
البيهقي خرَّج أحاديثه في كتابٍ مفرد تخريجًا مستوعبًا.
اجستير بكلية دار العلوم بالقاهرة وقدم الباحث محمد زين الدين سعيد رسالة ا
بعنوان: "مرويات الإمام الشافعي في كتاب الأم من أوله إلى أول كتاب البيوع"، وتابع
ةً تسوغ له أفعال الطغيان والإجرام ١) هو مفتي المجرم بشار الأسد الذي رضي أن يكون منديلًا تحت يده، وآ )
في حق الشعب السوري العظيم.
٨٧
الباحث ياسر إبراهيم أحمد نفس المشروع من أول كتاب البيوع إلى أول كتاب النكاح، في
حين تولي الباحث محمد أحمد حسن محمود دراسة نفس الموضوع من جوف الجزء السادس
حتى نهاية الكتاب.
اجستير بكلية الشريعة بجامعة وكتب الباحث عبد الوهاب خليل رسالته ا
الإمام محمد بن سعود الإسلامية بعنوان: "القواعد والضوابط الفقهية في كتاب الأم للإمام
الشافعي جمعًا وترتيبًا ودراسة".
وج عل الباحث أحمد عواد جمعة الكُبيسي رسالته الدكتوراه في جامعة بغداد
بعنوان: "وصل مرسلات الإمام الشافعي في كتاب الأم"، حيث أحصى في رسالته
الأحاديث المرسلة في كتاب الأم فوجدها ١٦٤ حديثًا، وتم وصلها كلها إلا ١٤ حديثًا
ذكر الباحث شواهد لبعضها تقويةً لها.
وعِدَّتُها خمسة كتب:
١. اختلاف أبي حنيفة وابن أبي ليلى، ويُسمَّى باختلاف العراقيين، ويقع في
موسوعة الإمام الشافعي في ٢٣٠ صفحة.
٢. اختلاف علي وعبد الله بن مسعود، ويقع في الموسوعة في ١٠٠ صفحة.
٣. اختلاف مالكٍ والشافعي، وهو بطريق الإملاء على الربيع، ويقع في الموسوعة
في أكثر من ٢٥٠ صفحة.
٤. الرد على محمد بن الحسن، ويقع في الموسوعة في ٩٤ صفحة.
٥. سير الأوزاعي، ويقع في الموسوعة في ١١٤ صفحة.
٨٨
وقد تقدَّم موضوع كلٍّ منها، وما يميزها أنها من أقدم ما وصل إلينا في علم
الخلاف، وأنَّ الجوَّ الأصوليَّ فيها حاضر.
ولعلك لحظت أنَّ بعض هذه المصنفات اقتصر على موضوعات معينة؛ كما في
كتاب سير الأوزاعي الذي اقتصر على أحكام الجهاد، وكتاب الرد على محمد بن الحسن
الذي اقتصر على أحكام القصاص والديات، وبعضها توجه لمناقشة أقوال فقهاء بأعيانهم؛
كما في بقية الكتب.
لا يخفى أنَّ الإمام الشافعي هو أول من صنَّف في الأصول، وأنَّ أعظم مصنفاته
الرسالة المصرية، وفي هذا المطلب وقوفٌ عند هذه المصنفات لنطَّلع على مادتها بإيجاز،
وعِدَّتُها ستة، ودونك الحديثَ عنها:
يف هذا الكتاب لها باعثٌ عامٌّ وباعثٌ خاص. وقصة تأ
ا اشتد الخلاف بين مدرسة الحديث ومدرسة الرأي، أما الباعثُ العام.. فإنه
باع كلِّ مدرسةٍ ومذهب.. لاحظ الإمام الشافعي من خلال طول وكثرت المناظرات بين أ
عيشه في الحجاز والعراق، وتلقيه فقه كل مدرسة عن كبار أئمتها، وتلمذته الطويلة التي
جعلته خبيرًا بهم عن قرب لاحظ أنَّ ثمة اضطرابًا في مرجعية الاستدلال عند المتناظرين،
واكتشف ثغرات كلِّ فريق، وحمله ذلك على التفكير في الأصول والكليات إلى جانب
عنايته بالفروع والجزئيات، وصار يفتش عن موضع الخلل، ويجتهد في تحرير موضع
النزاع، ووجد مثلًا أنَّ مدرسة الرأي كلما فقدت النص استنجدت بالرأي، وأن أهل
الحجاز يأخذون النص دون التوغل في فهم دواخله.
٨٩
ومما أعان الشافعي على هذه المهمة العظيمة تنقُّلُه بين المدارس الذي هيأ له فرصة
المقارنة بينها، وتبحُّرُهُ في اللغة الذي يسَّر عليه التفكير في قوانين الفهم وأصول الاستدلال
توحيدًا للمرجعية، فبدأ يعتني بتثبيت أصول الاستنباط الصحيحة الراجحة، وترسيخها
ونفي الدخيل العقيم، ومعالجة الخلل الناشئ عن دخول اللحن إلى الألسنة بعد
الفتوحات، وجهلِ كثيرٍ من الناس بالألفاظ ودلالاتها.
وأمَّا الباعثُ الخاص.. فهو أنَّ عبد الرحمن بن مهدي أحد كبار المحدثين في عصره
كان إذا كلَّم الناس في المسائل احتاج إلى قواعد عامة في فهم الأدلة والاستنباط تكون محل
اتفاقٍ بينه وبينهم ليحيلهم عليه، وقد علم رسوخ الشافعي في هذا الباب فكتب إليه أن
يصنِّف كتابًا يتضمن موضوعات هي من صلب مباحث أصول الفقه؛ مثل معاني القرآن
وقبول الأخبار فيه وحجة الإجماع وبيان الناسخ والمنسوخ من القرآن والسنة وغير ذلك،
فوافق ذلك عناية الشافعي بهذا الباب، فوضع له كتابَ الرِّسالة كما مرَّ.
والمشروع كما ترى من أهم مقاصده تضييق الفجوة بين مدرسة الحديث ومدرسة
الرأي، وقد حقق الله أمله بهذا المشروع العظيم، الذي لا عليه لو فاضت روحه بعده
ه سيرحل عن الدنيا قرير العين بعد أن جمع أهل الإسلام على منهجية مباشرة؛ لأ
الاستدلال ومرجعية الاستنباط والنظر.
بقيت الإشارة لثلاثٍ من المعلومات المهمة عن الرسالةِ وما يتعلق بها:
أولًا: رجَّحَ الشيخُ أحمد شاكر رحمه الله أنَّ كتابة الشافعي للرسالة كانت بعد
كتابته أكثر كتبه في الفقه العام والفقه المقارن، وأن الذي كتبها هو الربيع المرادي بإملاء
بعد أن تجاوز التسعين من العمر، ثم أجاز شيخه، وبقي يرويها عنه حتى سنة ٢٦٥
نسخها عن نسخته، وحشد الشيخ أحمد شاكر الأدلة على ذلك.
٩٠
ه أول تدوينٍ أصولي، وابَ الأصولية بحكم أ ثانيًا: لم يستوعب كتاب الرسالة الأ
كار ا تضمنه من مادةٍ رصينةٍ أصيلة، وما جاء فيه من أ ه بقي محتفظًا بموقعه؛ إلا أ
الأفكار.
ومن المباحث التي آواها الكتاب: مكانة القرآن الكريم وحجيته وبيانه للأحكام
الشرعية، وبيان السنة للأحكام وعلاقتها بالقرآن، ثم عن العام والخاص وصورهما في
النصوص الشرعية، ثم عن العلل في الأحاديث وصورها مع التطبيقات من المسائل
طل الفقهية، ثم تكلم عن حجية خبر الواحد والإجماع، وتكلم عن القياس والاجتهاد، وأ
حجية الاستحسان، وختم كتابه بالحديث عن الاختلاف الفقهي وما يجوز منه وما لا
يجوز.
ه عثر على أسماء ثالثًا: ذكر الشيخ أحمد شاكر في مقدمة تحقيقه لكتاب الرسالة أ
خمسة شراح للرسالة دون أن يعثر على أيِّ نسخةٍ مخطوطةٍ لأيٍّ من الشروح، وجميعهم من
،[ و الوليد النيسابوري [ت: ٣٤٩ ]، وأ و بكر الصيرفي [ت: ٣٣٠ الشافعية وهم: أ
و محمد الجويني والد ]، وأ و بكر الجَوزقي [ت: ٣٨٨ ]، وأ والقفال الكبير [ت: ٣٦٥
.[ إمام الحرمين [ت: ٤٣٨
وأحسبُ أنَّ تحقيق الشيخ أحمد شاكر سدَّ ثغرةً مهمة لحسنه وجودته، وقام
الأستاذ الدكتور عبد الفتاح بن ظافر كَبَّارة بتحقيق الكتاب تحقيقًا تدارك فيه بعض
ه خرَّج الأحاديث وشرح شرحًا الثغرات التي فاتت الشيخ أحمد شاكر، وكان من عمله أ
موجزًا الكثيرَ من المسائل الأصولية والفقهية.
وهناك طبعةٌ جديدةٌ حسنةٌ صدرت عن دار ابن الجوزي تقع في ثلاثة مجلدات،
وهي من تحقيق وتعليق الدكتور علي ونيس.
٩١
وللشيخ مصطفى مخدوم وفقه الله شرحٌ ضافٍ صدر من قريب عن دار الظاهرية
للنشر والتوزيع، وللشيخ عنايةٌ كريمةٌ بكتاب الرسالة تدريسًا وتصنيفًا.
وقرأت لأحد ذوي العناية بالأصول أنَّ الفكر الأصولي يؤخذ من ثلاثة كتب:
الرسالة للشافعي والمستصفى للغزالي والموافقات للشاطبي.
ولا عجب ولا مبالغة إذن في قول المزني: "قرأتُ كتابَ الرسالةِ للشافعي خمس
مائة مرة، ما من مرةٍ منها إلا واستفدت منها فائدةً جديدةً لم أستفدها في الأخرى".
ه لا يعتمد على النص في عبارته ولا إشارته ولا دلالته؛ ولكن وسر إبطاله له: أ
على ما ينقدح في نفس الفقيه أو على روح الشريعة وذوق الفقيه الذي تربى بالتمرس
بالشريعة والحذق فيها.
ه يُفسَّر بأكثر من وجه، والمشهور على أنَّ مصطلح الاستحسان لا بد أن يُحرر؛ لأ
ه يراد به أمران: الأول: ترجيح قياس خفي على قياس جلي بناءً على دليل، والآخر: أ
ة جزئية من أصل كلي أو قاعدة عامة بناء على دليلٍ خاصٍّ يقتضي ذلك، ولهذا استثناء مسأ
لم يَخْلُ فقهاءُ مدرسة الحديث من استعمال الاستحسان في اجتهاداتهم.
ا ذكره في كتاب الرسالة، واستغرق من موسوعة وهذا الكتاب تتميمٌ وتفصيلٌ
الإمام الشافعي ٣١ صفحة.
وتطرق الإمام الشافعي في ثلثه الأول إلى أنَّ الحكم على الناس يكون بحسب
ه يفسر الشريعة تفسيرًا و زهرة رحمه الله يصفه بأ الظاهر، وهذا الذي جعل العلامة أ
ه يعتمد في تفسيره للشريعة واستخراج أحكامها والاستدلال بأصولها على يا، وأ ظاهر
فروعها على الظاهر الذي تدل عليه النصوص.
٩٢
قلت: وهذا الكلام ليس على إطلاق التآخي بين الفكر الشافعي والفكر
الظاهري؛ فلا يخفى التباين الواضح الكبير بين المنهجين، ولا تخطئ العين في كتب المذهب
َّنا قد نشتم رائحةً ضعيفة من رد كثيرٍ من آراء الظاهرية بل والتشنيع على بعضها، إلا أ
واب، كتلك الفروع التي تقف عند حرفية النَّفَسِ الظاهري في بعض الفروع في بعض الأ
الألفاظ فيما لا تتشدد الشريعة فيه، وينبغي أن تتغلب فيه المقاصد والأعراف.
اء الذي كان فيه عصير، إلا والعاقل يجد فرقًا واضحًا بين كأس العصير وكأس ا
ام بأصول ر اللون باقٍ، والباحث المُجِد يمكن بعد ضبط أصول المذهب والإ أن أ
واب؛ ر الحاضر في بعض الفروع والأ الظاهرية أن يستقرأ فروع المذهب ليرى قدر الأ
ليقدم خلاصةً مركزةً دقيقةً لإخوانه المتفقهين، لا سيما أنَّ في بعض الفروع التزامًا بأحكام
الظاهر ومخالفةً للمقاصد والأعراف إلى الحد الذي يتعسر فيه التزام المذهب ويكاد أن
يتحتم التقليد؛ لتصحيح عبادات الناس وعدم إيقاعهم في الحرج والمَشَاق.
تضمن هذا الكتاب ثلاثة موضوعات: حجية خبر الواحد وبيان السنة لأحكام
القرآن وعلاقتها به، ووصف الإجماع الصحيح الذي تقوم به الحجة، والاختلاف الفقهي
ما يجوز منه وما لا يجوز.
وجاء الكتاب في ٧٠ صفحة في موسوعة الإمام الشافعي.
وصلة الكتاب بكتاب الرسالة قوية؛ فإنَّه يعد تفصيلًا لبعض ما أُجمِل فيه، وفيه
إجمالٌ لبعض ما فُصِّل فيه، وهو زاخرٌ بالتطبيقات من المسائل الفقهية.
وكتبه الإمام الشافعي بطريقة الحوار مع المخالف المُفترض، والرد على أي أدلة
متوقعة، في مناقشةٍ أصوليةٍ هي من أرقى ما كُتِب في أصول الفقه.
٩٣
افتتح الإمام الشافعي هذا الكتاب بمقارناتٍ لطيفةٍ بين الفروض الأربعة: الصلاة
والزكاة والصيام والحج، وذكر ما بينها من متشابهاتٍ ومختلفاتٍ في الأحكام، متلمسًا
حكمة التشريع فيها.
إلا أنَّ المساحةَ الأكبرَ من الكتاب خصَّصها لشرح بيان السنة للأحكام الشرعية
إما بتفصيل ما أجمله القرآن، أو بإنشاء أحكامٍ جديدةٍ لم يتطرق إليها القرآن، مستشهدًا
ببعض التطبيقات من المسائل الفقهية.
وينتصر في الكتاب لحجية خبر الواحد خصوصًا ولحجية السنة النبوية عمومًا.
والكتاب صغير الحجم، وقد استغرق من موسوعة الإمام الشافعي ١٤ صفحة.
يشرح الإمام الشافعي في هذا الكتاب قاعدةً أصوليةً مهمة وهي: أنَّ النهي في
النصوص الشرعية يفيد التحريم ما لم تصرفه قرينةٌ إلى الكراهة.
ا أورده في الرسالة تحت عنوان: صفة نهي الله ونهي رسوله والكتاب تلخيصٌ
حاث وجاء في موسوعة الإمام الشافعي في سبع صفحاتٍ فقط، فهو بالمقالات أو الأ ،
ه مستقل. المختصرة أشبه، لكنه عد كتابًا لأ
وهذا أولُ مُصنَّفٍ في علم مختلف الحديث، وهو العلم الذي يبحث في الأحاديث
التي ظاهرها التعارض، فيزيل تعارضها أو يوفق بينها، كما يبحث في الأحاديث التي
يشكل فهمها أو تصورها، فيدفع إشكالها ويوضح حقيقتها، ولهذا أطلق بعض العلماء على
هذا العلم اسم: مشكل الحديث أو اختلاف الحديث أو تأويل الحديث.
٩٤
وعليه؛ فإنَّ علم مختلف الحديث فرعٌ عن موضوع درء التعارض والتراجيح بين
الأدلة، وهو من أدق مباحث أصول الفقه، فيكون الإمام الشافعي قد دوَّن أصل العلم وما
ه تعرض لموضوع اختلاف الحديث في زال يتمم المساحات الأصولية تدوينًا وتنظيرًا، مع أ
كتابه الرسالة.
والسببُ الذي حدا به أن يكتب هو ما رآه من تخبطٍ تجاه الأحاديث المتعارضة؛ إذ
كل حديث جاء يخالف غيره ولو من وجهٍ واحدٍ؛ كعامٍّ وخاصٍّ ومطلقٍ ومقيد أو غير
ذلك.. فإنَّ علماء العصر يسمونه نسخًا، وهذا في نظر الشافعي خطأ، وبينه أحسن بيان
حتى قال من قال بأنَّهم ما عرفوا الناسخ من المنسوخ حتى جاء الشافعي.
وبين في الكتاب أنَّ السببَ الرئيس لحصول التعارض هو تقصير الرواة من خلال
تأديتهم للحديث مختصرًا أو مبتورًا، أو أن يكون الحديث جوابًا عن سؤال، فيحدث
الراوي بالجواب دون السؤال.
هذا بالإضافة إلى وجود أحاديث ضعيفة لا تثبت معارضتها للأحاديث
الصحيحة.
وتحدث في الكتاب عن حجية السنة النبوية عمومًا وحجية خبر الواحد
خصوصًا.
أما سياسةُ الإمامِ الشَّافعيِّ في معالجةِ الأحاديثِ المختلفة.. فقد بيَّن في مقدمة
رز القواعد التي سار عليها، والتي تتلخص في الجمع بين الحديثين ما أمكن، فإن الكتاب أ
كان الاختلاف من قبيل النسخ.. فهنا يعمل بالحديث الناسخ ويترك المنسوخ، وبيَّن
الأمور التي يُعرف بها الناسخُ من المنسوخ، فإذا لم يمكن الجمع بين الحديثين وليس
أحدهما ناسخًا والآخر منسوخًا.. فيجب الترجيح بالدلائل.
٩٥
فالطرق ثلاثة على الترتيب: الجمع ثم النسخ ثم الترجيح.
ولم يذكر حالة التوقف عن العمل بأحد الحديثين لعدم وجود مرجح؛ لأنَّها
َّه لا يرى وجود حديثين متعارضين من كل افتراضٌ عقليٌّ لا وجود له في واقع السنة؛ لأ
وجهٍ ولا يمكن فك التعارض بينهما بأيِّ طريقٍ من الطرق الثلاثة.
وبعد مقدمة الكتاب التي تعتبر من مظان معرفة أصول الإمام الشافعي بما حوته
ا قرره من من قضايا أصولية مهمة عرض الإمام الشافعي تطبيقاتٍ من السنة النبوية
قواعد درء التعارض الظاهري، فعرض ٢٧٦ حديثًا يسوقها جميعًا بإسناده، وذلك عبر ٧٩
موذجًا للآلية الأصولية المنضبطة في إزالة التعارض، ممهدًا الطريق ة فقهية تعد أ مسأ
لغيره في هذا الباب ليُسلك.
فمن ذلك ما قام به الأستاذ عامر أحمد ..
ضًا الأستاذ ا بالتخريجات والتوضيحات المفيدة، وقام أ حيدر من تحقيق الكتاب تحقيقًا غني
محمد أحمد عبد العزيز زيدان بتحقيقه تحقيقًا جيدًا تميز بفهارسه المستوعبة.
وعقب الذي تسطَّر في هذا المطلب.. فإنَّ من اطَّلع على كتب الإمام الشافعي،
ورأى عنايته بالسنة وخبر الواحد من حيث إثبات حجية السنة وبيان علاقتها بالقرآن،
واب التي خطها في علم المصطلح.. وتوضيح منهج فقهها واستنباط الأحكام منها، والأ
علم لم سمَّى أهل بغداد وغيرهم الإمامَ الشافعي بناصر السنة أو ناصر الحديث.
وهذا ما بيَّنه الدكتور على يوسف المحمدي في بحثه القيم: "الشافعي محدثًا" الذي
. قدَّمه لندوة الإمام الشافعي التي انعقدت في ماليزيا سنة ١٩٩٠
٩٦
المبحث الثالث اُلمصنفا ت اموع ُ ة من آثار الشافعي بعد عصره والمصنفات المنسوبة إليه
ا فيها اهتم العلماء قديمًا وحديثًا بمصنفات الإمام الشافعي، وقاموا على خدمتها
رز المصنفات التي جم عُِت من آثار الإمام الشافعي الأربعة الآتية: من فقه عٍظيم، وأ
وهذا الكتاب جمع فيه الإمام البيهقي ما استدل به الإمام الشافعي في كتبه من
الأحاديث النبوية والآثار عن الصحابة، حيث ساقها بسنده إلى الإمام الشافعي مع ذكر
سنده كما ورد في كتبه، وعرض الشواهد والمتابعات مناقشًا إياها تصحيحًا وتضعيفًا وبيانًا
واب الفقهية في مختصر المزني. للعلل، ورتَّب ما جمعه على الأ
وبعد الذي قَرَأَتْ عينُك وتأمله عقلُك هل شَقَّت عظمةُ هذا المشروع شغافَ
قلبِكَ لتعرف فضل الإمام البيهقي في تطوير مادة المذهب؟!.
لعلك تستحضر الآن قول الجويني: "ما من فقيهٍ شافعيٍّ إلا وللشافعيِّ عليه منةٌ
ا بكر البيهقي؛ فإنَّ المنَّةَ له على الشافعيِّ؛ لتصانيفه في نصرة مذهبه"!. إلا أ
والكتابُ بذلك يعد من مظان مرويات الإمام الشافعي من الأحاديث والآثار
بأسانيده، وأدلته في الاجتهادات الفقهية، ودراسة علل الأحاديث دراسةً تطبيقية، فهو
بذلك موسوعةٌ في أدلة الإمام الشافعي، ويشكل مع كتاب الأم مادةً علميةً ذات نفع
عظيم.
وقام الدكتور عبد المعطي أمين قلعجي من سوريا بتحقيق الكتاب تحقيقًا ضخمًا،
توسع فيه في خدمة حواشي الكتاب.
٩٧
ا بالفوائد، ضًا تحقيقًا غني وقام الأستاذ سيد كسروي حسن من مصر بتحقيقه أ
َّه خرَّج الأحاديث وعزاها إلى الطبعات الحديثة، بالإضافة لتسجيل وكان من عمله أ
ملاحظاته وتوضيحاته حول بعض المسائل.
وهذا الكتاب جمع فيه الإمام البيهقي أقاويل الشافعي في أحكام القرآن وتفسيره،
ورتَّبه على الموضوعات لا على السور، على غرار التفسيرِ الموضوعي.
وأشار الدكتور محمد الدين عبد السَّبحان إلى أنَّ البيهقيَّ لم يستوعب الآيات التي
فسَّرها الإمام الشافعي في مصنفاته المتعددة.
ه لا ه مفقود، وأ والمتقرر عند العلماء أنَّ الشافعيَّ صنَّف كتابًا بنفس العنوان، إلا أ
أمل في العثور عليه، وهو الذي ذكره الدكتور أكرم القواسمي وفقه الله تبعًا لذلك، إلا أنَّ
الكتاب تم العثور عليه من قريب على يد البحاثة الشيخ عبد الله الداغستاني وفقه الله.
وقصة اكتشاف الكتاب حكاها الشيخ في مقالٍ منشورٍ على الشبكة بعنوان:
"كتاب أحكام القرآن للإمام الشافعي"، ولا تغني هذه الإشارة عن مطالعته.
رز ما جاء فيه: أنَّ طرف الخيط الذي دلَّه عليه تلك النقول التي كان ومن أ
يوردها المزني من الكتاب، ثم إذا هي موجودة بنصها في كتاب الأم، والإمام الزركشي قد
ضًا. استوعب قضايا الكتاب الأصولية ثم إذ بالنصوص الدالة عليها في كتاب الأم أ
فدعا هذا إلى البحث حتى تم العثور على المخطوطة، وتبين أنَّ الكتاب مفرَّقٌ في
كتاب الأم في ثلاثة مواضع، ثم وجد شرحًا للكتاب نفسه في مخطوطةٍ بالمكتبة الظاهرية.
واب الفقهية، يبدأ كل بابٍ منه بما نزل فيه وكتاب الإمام الشافعي مبوبٌ على الأ
من الآيات.
٩٨
وهذا الكتاب من الكتب التي تجمع الأصول وتدل على الفروع، وإذا كان الإمام
الشافعي في الرسالة يقرر المعنى الأصولي أصالةً ثم يشفعه بما يجليه من التطبيق على الفروع
المختلفة.. فإنه في أحكام القرآن يقرر الفروع قريبة الاستنباط من القرآن، وخلال ذلك
يأتي بالأصول المختلفة يضبط بها اجتهاداته واستنباطاته، والكتاب بهذا الاعتبار يمكن أن
يفٍ في مجال التطبيق الأصولي. يعتبر أول تأ
والكتاب أحد الأصول الثلاثة التي قام عليها صرحُ أصولِ الشافعية وهي:
.( الرسالة واختلاف الحديث وأحكام القرآن( ١
ا أراد الشافعي أن يصنف يف هذا الكتاب يقول الربيع المرادي: " وفي قصة تأ
أحكام القرآن قرأ القرآن مائة مرة"!.
يف، وقد جرَّبته فوجدت فيه خيرًا وهذا منهجٌ عظيمٌ يُتَّبع لمن أمسك بقلم التأ
الغ إن قلت: لا يتعسَّر أن تخرج من كلِّ ختمةٍ أشبه أن يكون نبعًا لا ينقطع ماؤه، ولا أ
قرآنيةٍ بكتاب لمن كان عقله حاضرًا وقلمه ودفتره بيده طيلة التلاوة، وإنه لعملٌ شاق!.
يف في موضوعٍ فليبدأ تلاوة القرآن مستحضرًا لهاجس وعليه؛ فمن أراد التأ
الموضوع ومعالمه وحدوده، ويبقى خلال التلاوة يتردد في ذهنه، وعندئذٍ يتيسر له أن يرى
منهج القرآن في تقريره، ويلتفت إلى مادته وفقهه، ويدرك مقاصده وأسراره، حتى تتشعب
به آفاق الموضوع إلى حدودٍ ما كانت لتخطر له ببالٍ قط، ومن صبر وأدمن النظر.. أوتي من
الخير ما لا يقدر معه على واجب الشكر، والله يفتح على من يشاء، والله ذو الفضل
العظيم.
١) انظر مقال: "كتاب أحكام القرآن للإمام الشافعي" للشيخ عبد الله الداغستاني. )
٩٩
وقد بسطت معالم هذا المنهج في كتاب: "معارج العلوم" عند الحديث عن كيفية
صناعة المعرفة، تحت عنوان: "هواجس الإنتاج"، فلينظره من شاء.
] بجمع عددٍ غيرِ قليلٍ من هذا الكتاب قام فيه المحدث الأصم [ت: ٣٤٦
مرويات الإمام الشافعي من الأحاديث النبوية والآثار عن الصحابة في كتابٍ واحدٍ سماه:
"مسند الشافعي"، يروي ما فيه عن الربيع المرادي عن الإمام الشافعي، إلا أربعةَ أحاديث
يرويها المرادي عن البويطي عن الشافعي.
واب و العباس على الأسانيد أو المتون، ولم يرتب ما جمعه على الأ ولم يعلق أ
الفقهية، أو على مسانيد الصحابة، وإنما اكتفى بالتقاط الأحاديث والآثار من كتب الأم
وغيرها كيفما اتفق، ولذلك وقع فيه تكرارٌ في كثيرٍ من المواضع، وبقي من حديث الشافعي
شيءٌ كثيرٌ لم يقع في هذا المسند، ومن أراد الوقوف على حديث الشافعي فعليه بكتاب
م تتبع. معرفة السنن والآثار؛ فإنَّه تتبع ذلك أ
من هنا بقي المسند بحاجةٍ إلى خدمةٍ حتى جاء المحدث محمد عابد السِّندي [ت:
واب والمواضيع وحذف المكرر من الأحاديث، وهو ] فعني بترتيبه على الأ ١٢٥٧
المنتشر اليوم والمعروف في طبعاتٍ متعددة.
ه آوى ما يقرب من مائة حديثٍ رواها الإمام الشافعي بما ومما يتميز به المسند أ
يسميه علماء الحديث بسلسلة الذهب؛ وهو رواية الإمام الشافعي عن الإمام مالك بن
س عن نافعٍ عن عبد الله بن عمر ڤ وهي من أصح أسانيد الأحاديث. أ
١٠٠
] بجمع عددٍ غيرِ قليلٍ من و جعفر الطحاوي [ت: ٣٢١ قام المحدث الحنفي أ
واب مرويات الإمام الشافعي من الأحاديث النبوية والآثار عن الصحابة، ورتَّبها على الأ
ورة"، وعُرِف بسنن الشافعي. أ في كتاب سماه "السنن ا
وهو يسوق ما فيه بسنده عن خاله أبي إبراهيم المزني عن الإمام الشافعي، على
و العباس الأصم، مع وجود مساحةٍ مشتركةٍ بين الكتابين، ومساحة انفرد غرار ما قام به أ
فيها كلٌّ منهما عن الآخر، لكن فكرة الكتابين واحدة، وهي جمع ما رواه الإمام الشافعي
من السنن والآثار.
ولعلَّ هذا ما حمل الشيخ أحمد بن عبد الرحمن البنا والد الشهيد حسن البنا [ت:
واب والمواضيع، وسماه: "بدائع ] على جمع الكتابين في كتابٍ واحدٍ مرتبًا على الأ ١٣٧١
المنن في جمع وترتيب مسند الشافعي والسنن"، ثم قام بشرحه في كتابٍ سماه: "القول
الحسن في شرح بدائع المنن".
وأفاد رحمه الله أنَّ أحاديث المسند أكثر من أحاديث السنن دون أن يشير إلى رقمٍ
معين.
ا وقام الدكتور عبد المعطي أمين قلعجي بتحقيق كتاب السنن مفردًا تحقيقًا غني
بالفوائد.
بقيت الإشارةُ في ختام هذا المبحث إلى أنَّ هناك من جمع أشعار الإمام الشافعي في
ديوانٍ، وإلى أنَّ عددًا من المصنفات نُسبِت للإمام الشافعي دون أن تصحَّ نسبتها إليه؛
كالفقه الأكبر في العقيدة، والعقيدة المختصرة، والتمهيد في أصول التوحيد، وغير ذلك مما
١٠١
ذكره الدكتور أكرم القواسمي وفقه الله، وبين عدم صحة نسبته إليه، وأقام الأدلة على
ذلك.
١٠٢
الباب الثاني المذهب الشافعي
في هذا الباب فصلان: يتناول الأول التطور التاريخي للمذهب الشافعي، ويقف
الثاني عند مصطلحات الشافعية وأوجه الانتفاع بمصنفاتهم الفقهية والأصولية، وإليك
بيانَ ذلك:
في هذا المبحث مطلبان: يتطرق الأول إلى عناية الشافعي بالتدوين وطريقته في
ذلك، ويكشف الثاني عن المصنفات التي لم تصل، مع طرفٍ من الحديث عنها، ودونك
البيان:
عاش الإمام الشافعي في عصر حركة الترجمة والتدوين في شتى العلوم، وكان
ما بمسك القلم منذ الصغر عندما كان يدوِّنُ ما يستفيده من أهل العلم، ولم يكن يقدر مهت
أن يشتري القراطيس فكان يكتب على العظم.
فق في ذلك مالًا كثيرًا، وقال: ه كان يكتب عن محمد بن الحسن، وأ وقد مرَّ بنا أ
"حملت عن محمد بن الحسن وِقرَ بعيرٍ ليس عليه إلا سماعي منه".
٨٠
قال الربيع المرادي: كان الشافعي جزأ الليل ثلاثة أجزاء: الأول يكتب، والثاني
يصلي، والثالث ينام.
وكان رحمه الله يتأملُ المسائلَ ويقلِّبُهَا في هدوء الليل وظلمته يستعين بذلك على
جمع العقل والفكر؛ ليصل إلى حسن استنباط القواعد والأحكام، وكان يطفئ السِّراج
لأجل ذلك ويقول: إنَّ السِّراج يشغل قلبي.
وكان يُصنِّفُ ويُدرِّسُ ويُملي في مجلسٍ واحد، فكان يملي عليهم فيظهر للناظر
أنهم كالنساخ، لكنهم في المجلس نفسه كانوا يتدارسون مع شيخهم المسائل بجانب
الكتابة عنه، فكان الدرس أشبه بالندوة العلمية، وكان ربما صنَّف هو خلال الدرس.
وظاهرٌ أنَّ الذي يمليه يعد من كتبه، وأنَّ الذي يكتبه التلاميذ من عبارته ليس من
كتبه.
وخلص الدكتور أكرم القواسمي وفقه الله بعد نظره في كتب الإمام الشافعي إلى
ه أملى طرفًا حسنًا على تلاميذه خلال ه صنَّف القسم الأكبر من مصنفاته بقلمه، وأ أ
الدرس، وتلمح في ترتيب المسائل وتسلسلها أنَّ قصدَ التصنيفِ حاضرٌ عنده، وليس
كلامه مجرد رغبةٍ في تدريس بعض مسائل الفقه لتلاميذه في المسجد وإملائها عليهم.
وبارك الله له في قلمه؛ فقد وضع عامة الكتب في أربع سنين، لكنها ميراث
الأهلية التي حصلها على مدار ما يزيد عن أربعين عامًا.
ةِ من جميع جوانبها، بطريق وكانت طريقته في عرض فقهه تتمثل في تقليب المسأ
الحوار مع المخالفين له فيها؛ استجلاءً لوجه الصَّوابِ مع الدليلِ المناسب، وكان يفترض
أسئلةً قد ترد على قوله ودليله ليرد عليها بأسلوبٍ ممتع يشد القارئ، مع قوةٍ في عرض
الحجة والانتصار لها.
٨١
وهذه الطريقة تشبه طريقة تدريس مادة الفقه المقارن في الكليات الشرعية اليوم،
والذي يظهر أنَّ هذا هو السمت العام لكتابات الإمام الشافعي؛ لكثرة الكتب التي وردت
على هذا النهج، ولهذا لا يغني النظر في كتب المتأخرين عن إدمان النظر في كتب الإمام
نفسه.
و سليمان في دراسته لأسلوب الإمام الشافعي وقد أجاد الدكتور عبد الوهاب أ
ومنهجه في عرض فقهه تحت عنوان: "الإبداع المنهجي في فقه الإمام الشافعي"؛ حيث
عرض تسعة عناصر للمنهج المتبع عند الإمام، وهي بإيجاز:
١. استقراء آيات القرآن الكريم.
٢. استقراء نصوص السنة النبوية والآثار عن الصحابة.
٣. الاعتماد على اللغة العربية في فهم النصوص.
٤. تطبيق القواعد الأصولية.
٥. الاستدلال بالمعقول.
٦. ضبط المسائل والأحكام المستنبطة بالقواعد والضوابط الفقهية.
٧. التوضيح بالفروق الفقهية.
٨. منهج الخلاف العالي المعروف اليوم بالفقه المقارن.
٩. الحرص على أدب الخلاف.
٨٢
اشتغل الإمام الشافعي بالتدوين وهو في العراق وكثَّف منه في مصر، والمصنفات
العراقية التي يسميها بعضهم بالكتب القديمة هي التي تُمَثِّلُ المذهبَ القديم، والمصنفات
المصرية التي يسميها بعضهم بالكتب الجديدة هي التي تمثل المذهب الجديد.
والقسمُ الأكبرُ من المُصَنَّفَاتِ المصرية ما هي إلا تطويرٌ للمصنفات العراقية؛
حيث قام بتنقيحها والزيادة عليها والحذف منها وتعديل الكثير من الاجتهادات
والاستدلالات فيها، فكتاب الأم تطويرٌ لكتاب الحُجَّة، وكتاب الرسالة تطويرٌ للرسالة
العراقية القديمة.
َّه سمَّى مصنَّفًا من مصنفاته بنفسه، وأغلب التسميات الموجودة َّه لم يثبت أ على أ
هي من وضع تلاميذه الذين نقلوا عنه الكتب ورووا ما فيها، خاصة الحسن الزعفراني
والربيع المرادي، ولعلَّ هذا يُفسِّر لك سببَ وجود عدة تسمياتٍ للمُصنَّفِ الواحد، مما
أوهم أنها مصنفاتٌ مختلفة.
والذي كان يأتي في لسان الشافعي شيءٌ من الوصف لهذه الكتب؛ فكان يصف
كتابه الحجة مثلًا بالكتاب البغدادي، وكان يشير إلى كتاب الرسالة بقوله: "كتابنا".
فهناك نقلٌ لأقواله وأدلته كما أملاها من غير اجتزاء، كما حصل من رواية الحسن
الزعفراني لكتابي الحُجَّة والرسالة العراقية، ورواية الربيع المرادي لكتابي الأم والرسالة
الجديدة.
وهناك نقلٌ لفقهه مختصرًا من أقواله وكتبه التي صنَّفها وأملاها من غير نقل عين
ما كتب وأملى؛ كحال المزني في مختصره المشهور، وحال البويطي في مختصريه الصغير
٨٣
والكبير، وهنا تظهر شخصية التلميذ مع حسن اختصاره وتصرفه في كلام إمامه، بل
ومخالفته أحيانًا.
اجستير: "الإمام المزني ومخالفاته وقد أحصى الطالب ناصر ناجي في رسالته ا
ةً خالف فيها المزني إمامه الشافعي، للإمام الشافعي في كتابه المختصر" تسعًا وستين مسأ
وهذا في المختصر وحده.
رزها أربعة: الحجة، والرسالة العراقية، أما أسماء الكتب التي لم تصل؛ فأ
.[ والمبسوط، والسنن برواية حرملة التُجيبي [ت: ٢٤٣
ه حجةٌ على أهل أما الحُجَّة.. فإنه من تسمية الزعفراني، ولعل هذا إشارةٌ منه إلى أ
الرأي نظير ما فعله محمد بن الحسن عندما صنَّف كتابًا سماه: "الحجة على أهل المدينة".
وأما الرسالةُ العراقية.. فهي الرسالة القديمة في أصول الفقه، وكانت رسالةً
دينا اليوم من رواية الربيع المرادي وهي المصرية. موجزة، والتي بأ
لا؛ وإنما هو اسمٌ أُطلِقَ على كلٍّ ه ليس كتابًا مستق وأما المبسوط.. فالذي يظهر أ
ه الحُجَّة، فتكون التسمية من الأم والحُجَّة، ولا يشمل كتاب الرسالة، وذكر بعضهم أ
مجاراةً لتسمية أكبر كتب ظاهر الرواية بالمبسوط.
وأما السنن.. فهو كتابٌ مستقلٌّ وفيه زياداتٌ كثيرةٌ من الأخبار والآثار والمسائل،
وقد جمع فيه حرملةُ التُجيبي ما رواه عن إمامه من أقوالٍ وأدلةٍ كتبها خلفه إملاءً أو قرأها
عليه من مصنفاته، وفيه ما تفرَّد بروايته، والغالب أنَّ التسمية منه، وهو من رواة المذهب
الجديد.
وشارك الإمامُ المزنيُّ حرملةَ التُجيبي في رواية كتاب السنن، ولعله كان من أهم ما
اعتمد عليه في كتابة مختصره المشهور.
٨٤
إلا أنَّ كتاب السنن لم يصل، وربما كان السبب أنَّ عناية الفقهاء بمرويات الربيع
كانت أكثر من غيره.
أما عدم وصول الكتب العراقية.. فإنَّه مفسَّرٌ بنهي الشافعي عن ذلك؛ إذ قال
صراحة: "لا يحل عدُّ القديم من المذهب، ولا أجعل في حِلٍّ من رواه عني"، وهذا فيه عظةٌ
للمشتغل بالتدوين أن يكون جريئًا في المراجعة، وألا يتعجل في إخراج الكتب إلا حيث
استوفت حاجتها من التحقيق والتجويد والنظر والمراجعة.
وهذا بخلاف الكتب المصرية؛ فإنها التي أذاعها الإمامُ الشافعي، فضلًا عما تيسَّر
لها من عوامل الانتشار، والتي من أهمها جهدُ المرادي في نقلها وروايتها، ومما أعانه على
. ذلك دِقَّةُ حفظهِ وامتداد عمره إذ توفي سنة ٢٧٠
وأختم هذا المبحث بما نبَّهَ عليه الدكتور عبد المعطي أمين قلعجي في مقدمة تحقيقه
ر كتب الفقهاء عامة وكتب ورة للإمام الشافعي برواية الطحاوي من تأ أ لكتاب السنن ا
الشافعي خاصة بمصنفات محمد بن الحسن الشيباني.
٨٥
المبحث الثاني مصنفات الإمام الشافعي التي وصلت إلى زمن كتابة هذه الرسالة
بدايةً لا بد من التنبيه على أنَّ جميع مصنفات الإمام الشافعي التي وصلت إلينا
تحتوي على مناقشات الفقه المقارن، بالإضافة إلى عرض القواعد الأصولية والاحتجاج
بها، فالفقه وأصوله ارتبطا عند الإمام الشافعي ارتباطًا محكمًا ومثمرًا، ولهذا عدَّ الدكتور
و سليمان كتب الإمام الشافعي الفقهية كتبًا في أصول الفقه التطبيقي، عبد الوهاب أ
وتخريجِ الفروع على الأصول، وهذا ما يَضْعُفُ حضورُهُ في كتب المتأخرين.
ومما يميز مُصنَّفاتِ الإمام الشافعي أنها كُتبت بأسلوبٍ فصيحٍ خالٍ من الركاكة
والتعقيد، ودرجةُ وضوحِ الأسلوب منفكةٌ عن كون الكتاب هل هو للمبتدئين أو
للمتقدمين؟، فكم سهُل كتابٌ متقدم وعسُر كتابٌ مبتدئ!.
وقسَّم الدكتور أكرم القواسمي وفقه الله كتب الشافعي إلى ثلاثة أصناف: صنف
للفقه العام، وصنف للفقه المقارن، وصنف لأصول الفقه، وأشار أنَّ هذا إنما هو بالنظر إلى
الصفة الغالبةِ على الكتاب، ودونك الكلام عن مادة كلِّ صنفٍ في مطلبٍ مستقل:
وابه، والكتاب الذي المقصود بالفقه العام هنا هو عرض مسائل الفقه في جميع أ
يمثل هذا الأمر هو كتاب الأم برواية الربيع المرادي، وهو صاحب التسمية للكتاب.
٨٦
وقام الدكتور أحمد بدر الدين حسون الذي لم ينتفع بعلمه( ١) بتحقيق كتاب الأم،
ضًا كتب الاختلافات وكتبًا أخرى للإمام الشافعي، وضمَّها جميعًا إلى كتاب الأم، وحقق أ
وسمَّى هذه المجموعة "موسوعة الإمام الشافعي".
وهذه الموسوعة تشتمل على جميع ما صنَّفه الإمام الشافعي وأملاه باستثناء كتابي
الرسالة واختلاف الحديث، فهي تشتمل على كتاب الأم وتسعة كتب أخرى مستقلة هي:
اختلاف العراقيين وهو كتاب اختلاف أبي حنيفة وابن أبي ليلى، واختلاف عليٍّ وعبد الله
بن مسعود، واختلاف مالك والشافعي، وجماع العلم، وبيان فرائض الله، وصفة نهي
وإبطال الاستحسان، والرد على محمد بن الحسن الشيباني، وسير ، رسول الله
الأوزاعي.
وسياسةُ الربيعِ المرادي في كتاب الأم الروايةُ لا غير، ومردُّ ترحمه على الإمام
ه هو الذي رواه عنه بعد وفاته الشافعي بداية كل باب بقوله: "أخبرنا الشافعي رحمه الله" أ
ه في المسائل محل َّه كان يبدي رأ بعد أن كان قد أخذه عنه في حياته إجازةً أو إملاء، على أ
البحث أحيانًا لكن على قلة.
رز الجهود العلمية في ذلك أنَّ الحافظ وعظُمَت الخدمةُ لكتاب الأم، ومن أ
البيهقي خرَّج أحاديثه في كتابٍ مفرد تخريجًا مستوعبًا.
اجستير بكلية دار العلوم بالقاهرة وقدم الباحث محمد زين الدين سعيد رسالة ا
بعنوان: "مرويات الإمام الشافعي في كتاب الأم من أوله إلى أول كتاب البيوع"، وتابع
ةً تسوغ له أفعال الطغيان والإجرام ١) هو مفتي المجرم بشار الأسد الذي رضي أن يكون منديلًا تحت يده، وآ )
في حق الشعب السوري العظيم.
٨٧
الباحث ياسر إبراهيم أحمد نفس المشروع من أول كتاب البيوع إلى أول كتاب النكاح، في
حين تولي الباحث محمد أحمد حسن محمود دراسة نفس الموضوع من جوف الجزء السادس
حتى نهاية الكتاب.
اجستير بكلية الشريعة بجامعة وكتب الباحث عبد الوهاب خليل رسالته ا
الإمام محمد بن سعود الإسلامية بعنوان: "القواعد والضوابط الفقهية في كتاب الأم للإمام
الشافعي جمعًا وترتيبًا ودراسة".
وج عل الباحث أحمد عواد جمعة الكُبيسي رسالته الدكتوراه في جامعة بغداد
بعنوان: "وصل مرسلات الإمام الشافعي في كتاب الأم"، حيث أحصى في رسالته
الأحاديث المرسلة في كتاب الأم فوجدها ١٦٤ حديثًا، وتم وصلها كلها إلا ١٤ حديثًا
ذكر الباحث شواهد لبعضها تقويةً لها.
وعِدَّتُها خمسة كتب:
١. اختلاف أبي حنيفة وابن أبي ليلى، ويُسمَّى باختلاف العراقيين، ويقع في
موسوعة الإمام الشافعي في ٢٣٠ صفحة.
٢. اختلاف علي وعبد الله بن مسعود، ويقع في الموسوعة في ١٠٠ صفحة.
٣. اختلاف مالكٍ والشافعي، وهو بطريق الإملاء على الربيع، ويقع في الموسوعة
في أكثر من ٢٥٠ صفحة.
٤. الرد على محمد بن الحسن، ويقع في الموسوعة في ٩٤ صفحة.
٥. سير الأوزاعي، ويقع في الموسوعة في ١١٤ صفحة.
٨٨
وقد تقدَّم موضوع كلٍّ منها، وما يميزها أنها من أقدم ما وصل إلينا في علم
الخلاف، وأنَّ الجوَّ الأصوليَّ فيها حاضر.
ولعلك لحظت أنَّ بعض هذه المصنفات اقتصر على موضوعات معينة؛ كما في
كتاب سير الأوزاعي الذي اقتصر على أحكام الجهاد، وكتاب الرد على محمد بن الحسن
الذي اقتصر على أحكام القصاص والديات، وبعضها توجه لمناقشة أقوال فقهاء بأعيانهم؛
كما في بقية الكتب.
لا يخفى أنَّ الإمام الشافعي هو أول من صنَّف في الأصول، وأنَّ أعظم مصنفاته
الرسالة المصرية، وفي هذا المطلب وقوفٌ عند هذه المصنفات لنطَّلع على مادتها بإيجاز،
وعِدَّتُها ستة، ودونك الحديثَ عنها:
يف هذا الكتاب لها باعثٌ عامٌّ وباعثٌ خاص. وقصة تأ
ا اشتد الخلاف بين مدرسة الحديث ومدرسة الرأي، أما الباعثُ العام.. فإنه
باع كلِّ مدرسةٍ ومذهب.. لاحظ الإمام الشافعي من خلال طول وكثرت المناظرات بين أ
عيشه في الحجاز والعراق، وتلقيه فقه كل مدرسة عن كبار أئمتها، وتلمذته الطويلة التي
جعلته خبيرًا بهم عن قرب لاحظ أنَّ ثمة اضطرابًا في مرجعية الاستدلال عند المتناظرين،
واكتشف ثغرات كلِّ فريق، وحمله ذلك على التفكير في الأصول والكليات إلى جانب
عنايته بالفروع والجزئيات، وصار يفتش عن موضع الخلل، ويجتهد في تحرير موضع
النزاع، ووجد مثلًا أنَّ مدرسة الرأي كلما فقدت النص استنجدت بالرأي، وأن أهل
الحجاز يأخذون النص دون التوغل في فهم دواخله.
٨٩
ومما أعان الشافعي على هذه المهمة العظيمة تنقُّلُه بين المدارس الذي هيأ له فرصة
المقارنة بينها، وتبحُّرُهُ في اللغة الذي يسَّر عليه التفكير في قوانين الفهم وأصول الاستدلال
توحيدًا للمرجعية، فبدأ يعتني بتثبيت أصول الاستنباط الصحيحة الراجحة، وترسيخها
ونفي الدخيل العقيم، ومعالجة الخلل الناشئ عن دخول اللحن إلى الألسنة بعد
الفتوحات، وجهلِ كثيرٍ من الناس بالألفاظ ودلالاتها.
وأمَّا الباعثُ الخاص.. فهو أنَّ عبد الرحمن بن مهدي أحد كبار المحدثين في عصره
كان إذا كلَّم الناس في المسائل احتاج إلى قواعد عامة في فهم الأدلة والاستنباط تكون محل
اتفاقٍ بينه وبينهم ليحيلهم عليه، وقد علم رسوخ الشافعي في هذا الباب فكتب إليه أن
يصنِّف كتابًا يتضمن موضوعات هي من صلب مباحث أصول الفقه؛ مثل معاني القرآن
وقبول الأخبار فيه وحجة الإجماع وبيان الناسخ والمنسوخ من القرآن والسنة وغير ذلك،
فوافق ذلك عناية الشافعي بهذا الباب، فوضع له كتابَ الرِّسالة كما مرَّ.
والمشروع كما ترى من أهم مقاصده تضييق الفجوة بين مدرسة الحديث ومدرسة
الرأي، وقد حقق الله أمله بهذا المشروع العظيم، الذي لا عليه لو فاضت روحه بعده
ه سيرحل عن الدنيا قرير العين بعد أن جمع أهل الإسلام على منهجية مباشرة؛ لأ
الاستدلال ومرجعية الاستنباط والنظر.
بقيت الإشارة لثلاثٍ من المعلومات المهمة عن الرسالةِ وما يتعلق بها:
أولًا: رجَّحَ الشيخُ أحمد شاكر رحمه الله أنَّ كتابة الشافعي للرسالة كانت بعد
كتابته أكثر كتبه في الفقه العام والفقه المقارن، وأن الذي كتبها هو الربيع المرادي بإملاء
بعد أن تجاوز التسعين من العمر، ثم أجاز شيخه، وبقي يرويها عنه حتى سنة ٢٦٥
نسخها عن نسخته، وحشد الشيخ أحمد شاكر الأدلة على ذلك.
٩٠
ه أول تدوينٍ أصولي، وابَ الأصولية بحكم أ ثانيًا: لم يستوعب كتاب الرسالة الأ
كار ا تضمنه من مادةٍ رصينةٍ أصيلة، وما جاء فيه من أ ه بقي محتفظًا بموقعه؛ إلا أ
الأفكار.
ومن المباحث التي آواها الكتاب: مكانة القرآن الكريم وحجيته وبيانه للأحكام
الشرعية، وبيان السنة للأحكام وعلاقتها بالقرآن، ثم عن العام والخاص وصورهما في
النصوص الشرعية، ثم عن العلل في الأحاديث وصورها مع التطبيقات من المسائل
طل الفقهية، ثم تكلم عن حجية خبر الواحد والإجماع، وتكلم عن القياس والاجتهاد، وأ
حجية الاستحسان، وختم كتابه بالحديث عن الاختلاف الفقهي وما يجوز منه وما لا
يجوز.
ه عثر على أسماء ثالثًا: ذكر الشيخ أحمد شاكر في مقدمة تحقيقه لكتاب الرسالة أ
خمسة شراح للرسالة دون أن يعثر على أيِّ نسخةٍ مخطوطةٍ لأيٍّ من الشروح، وجميعهم من
،[ و الوليد النيسابوري [ت: ٣٤٩ ]، وأ و بكر الصيرفي [ت: ٣٣٠ الشافعية وهم: أ
و محمد الجويني والد ]، وأ و بكر الجَوزقي [ت: ٣٨٨ ]، وأ والقفال الكبير [ت: ٣٦٥
.[ إمام الحرمين [ت: ٤٣٨
وأحسبُ أنَّ تحقيق الشيخ أحمد شاكر سدَّ ثغرةً مهمة لحسنه وجودته، وقام
الأستاذ الدكتور عبد الفتاح بن ظافر كَبَّارة بتحقيق الكتاب تحقيقًا تدارك فيه بعض
ه خرَّج الأحاديث وشرح شرحًا الثغرات التي فاتت الشيخ أحمد شاكر، وكان من عمله أ
موجزًا الكثيرَ من المسائل الأصولية والفقهية.
وهناك طبعةٌ جديدةٌ حسنةٌ صدرت عن دار ابن الجوزي تقع في ثلاثة مجلدات،
وهي من تحقيق وتعليق الدكتور علي ونيس.
٩١
وللشيخ مصطفى مخدوم وفقه الله شرحٌ ضافٍ صدر من قريب عن دار الظاهرية
للنشر والتوزيع، وللشيخ عنايةٌ كريمةٌ بكتاب الرسالة تدريسًا وتصنيفًا.
وقرأت لأحد ذوي العناية بالأصول أنَّ الفكر الأصولي يؤخذ من ثلاثة كتب:
الرسالة للشافعي والمستصفى للغزالي والموافقات للشاطبي.
ولا عجب ولا مبالغة إذن في قول المزني: "قرأتُ كتابَ الرسالةِ للشافعي خمس
مائة مرة، ما من مرةٍ منها إلا واستفدت منها فائدةً جديدةً لم أستفدها في الأخرى".
ه لا يعتمد على النص في عبارته ولا إشارته ولا دلالته؛ ولكن وسر إبطاله له: أ
على ما ينقدح في نفس الفقيه أو على روح الشريعة وذوق الفقيه الذي تربى بالتمرس
بالشريعة والحذق فيها.
ه يُفسَّر بأكثر من وجه، والمشهور على أنَّ مصطلح الاستحسان لا بد أن يُحرر؛ لأ
ه يراد به أمران: الأول: ترجيح قياس خفي على قياس جلي بناءً على دليل، والآخر: أ
ة جزئية من أصل كلي أو قاعدة عامة بناء على دليلٍ خاصٍّ يقتضي ذلك، ولهذا استثناء مسأ
لم يَخْلُ فقهاءُ مدرسة الحديث من استعمال الاستحسان في اجتهاداتهم.
ا ذكره في كتاب الرسالة، واستغرق من موسوعة وهذا الكتاب تتميمٌ وتفصيلٌ
الإمام الشافعي ٣١ صفحة.
وتطرق الإمام الشافعي في ثلثه الأول إلى أنَّ الحكم على الناس يكون بحسب
ه يفسر الشريعة تفسيرًا و زهرة رحمه الله يصفه بأ الظاهر، وهذا الذي جعل العلامة أ
ه يعتمد في تفسيره للشريعة واستخراج أحكامها والاستدلال بأصولها على يا، وأ ظاهر
فروعها على الظاهر الذي تدل عليه النصوص.
٩٢
قلت: وهذا الكلام ليس على إطلاق التآخي بين الفكر الشافعي والفكر
الظاهري؛ فلا يخفى التباين الواضح الكبير بين المنهجين، ولا تخطئ العين في كتب المذهب
َّنا قد نشتم رائحةً ضعيفة من رد كثيرٍ من آراء الظاهرية بل والتشنيع على بعضها، إلا أ
واب، كتلك الفروع التي تقف عند حرفية النَّفَسِ الظاهري في بعض الفروع في بعض الأ
الألفاظ فيما لا تتشدد الشريعة فيه، وينبغي أن تتغلب فيه المقاصد والأعراف.
اء الذي كان فيه عصير، إلا والعاقل يجد فرقًا واضحًا بين كأس العصير وكأس ا
ام بأصول ر اللون باقٍ، والباحث المُجِد يمكن بعد ضبط أصول المذهب والإ أن أ
واب؛ ر الحاضر في بعض الفروع والأ الظاهرية أن يستقرأ فروع المذهب ليرى قدر الأ
ليقدم خلاصةً مركزةً دقيقةً لإخوانه المتفقهين، لا سيما أنَّ في بعض الفروع التزامًا بأحكام
الظاهر ومخالفةً للمقاصد والأعراف إلى الحد الذي يتعسر فيه التزام المذهب ويكاد أن
يتحتم التقليد؛ لتصحيح عبادات الناس وعدم إيقاعهم في الحرج والمَشَاق.
تضمن هذا الكتاب ثلاثة موضوعات: حجية خبر الواحد وبيان السنة لأحكام
القرآن وعلاقتها به، ووصف الإجماع الصحيح الذي تقوم به الحجة، والاختلاف الفقهي
ما يجوز منه وما لا يجوز.
وجاء الكتاب في ٧٠ صفحة في موسوعة الإمام الشافعي.
وصلة الكتاب بكتاب الرسالة قوية؛ فإنَّه يعد تفصيلًا لبعض ما أُجمِل فيه، وفيه
إجمالٌ لبعض ما فُصِّل فيه، وهو زاخرٌ بالتطبيقات من المسائل الفقهية.
وكتبه الإمام الشافعي بطريقة الحوار مع المخالف المُفترض، والرد على أي أدلة
متوقعة، في مناقشةٍ أصوليةٍ هي من أرقى ما كُتِب في أصول الفقه.
٩٣
افتتح الإمام الشافعي هذا الكتاب بمقارناتٍ لطيفةٍ بين الفروض الأربعة: الصلاة
والزكاة والصيام والحج، وذكر ما بينها من متشابهاتٍ ومختلفاتٍ في الأحكام، متلمسًا
حكمة التشريع فيها.
إلا أنَّ المساحةَ الأكبرَ من الكتاب خصَّصها لشرح بيان السنة للأحكام الشرعية
إما بتفصيل ما أجمله القرآن، أو بإنشاء أحكامٍ جديدةٍ لم يتطرق إليها القرآن، مستشهدًا
ببعض التطبيقات من المسائل الفقهية.
وينتصر في الكتاب لحجية خبر الواحد خصوصًا ولحجية السنة النبوية عمومًا.
والكتاب صغير الحجم، وقد استغرق من موسوعة الإمام الشافعي ١٤ صفحة.
يشرح الإمام الشافعي في هذا الكتاب قاعدةً أصوليةً مهمة وهي: أنَّ النهي في
النصوص الشرعية يفيد التحريم ما لم تصرفه قرينةٌ إلى الكراهة.
ا أورده في الرسالة تحت عنوان: صفة نهي الله ونهي رسوله والكتاب تلخيصٌ
حاث وجاء في موسوعة الإمام الشافعي في سبع صفحاتٍ فقط، فهو بالمقالات أو الأ ،
ه مستقل. المختصرة أشبه، لكنه عد كتابًا لأ
وهذا أولُ مُصنَّفٍ في علم مختلف الحديث، وهو العلم الذي يبحث في الأحاديث
التي ظاهرها التعارض، فيزيل تعارضها أو يوفق بينها، كما يبحث في الأحاديث التي
يشكل فهمها أو تصورها، فيدفع إشكالها ويوضح حقيقتها، ولهذا أطلق بعض العلماء على
هذا العلم اسم: مشكل الحديث أو اختلاف الحديث أو تأويل الحديث.
٩٤
وعليه؛ فإنَّ علم مختلف الحديث فرعٌ عن موضوع درء التعارض والتراجيح بين
الأدلة، وهو من أدق مباحث أصول الفقه، فيكون الإمام الشافعي قد دوَّن أصل العلم وما
ه تعرض لموضوع اختلاف الحديث في زال يتمم المساحات الأصولية تدوينًا وتنظيرًا، مع أ
كتابه الرسالة.
والسببُ الذي حدا به أن يكتب هو ما رآه من تخبطٍ تجاه الأحاديث المتعارضة؛ إذ
كل حديث جاء يخالف غيره ولو من وجهٍ واحدٍ؛ كعامٍّ وخاصٍّ ومطلقٍ ومقيد أو غير
ذلك.. فإنَّ علماء العصر يسمونه نسخًا، وهذا في نظر الشافعي خطأ، وبينه أحسن بيان
حتى قال من قال بأنَّهم ما عرفوا الناسخ من المنسوخ حتى جاء الشافعي.
وبين في الكتاب أنَّ السببَ الرئيس لحصول التعارض هو تقصير الرواة من خلال
تأديتهم للحديث مختصرًا أو مبتورًا، أو أن يكون الحديث جوابًا عن سؤال، فيحدث
الراوي بالجواب دون السؤال.
هذا بالإضافة إلى وجود أحاديث ضعيفة لا تثبت معارضتها للأحاديث
الصحيحة.
وتحدث في الكتاب عن حجية السنة النبوية عمومًا وحجية خبر الواحد
خصوصًا.
أما سياسةُ الإمامِ الشَّافعيِّ في معالجةِ الأحاديثِ المختلفة.. فقد بيَّن في مقدمة
رز القواعد التي سار عليها، والتي تتلخص في الجمع بين الحديثين ما أمكن، فإن الكتاب أ
كان الاختلاف من قبيل النسخ.. فهنا يعمل بالحديث الناسخ ويترك المنسوخ، وبيَّن
الأمور التي يُعرف بها الناسخُ من المنسوخ، فإذا لم يمكن الجمع بين الحديثين وليس
أحدهما ناسخًا والآخر منسوخًا.. فيجب الترجيح بالدلائل.
٩٥
فالطرق ثلاثة على الترتيب: الجمع ثم النسخ ثم الترجيح.
ولم يذكر حالة التوقف عن العمل بأحد الحديثين لعدم وجود مرجح؛ لأنَّها
َّه لا يرى وجود حديثين متعارضين من كل افتراضٌ عقليٌّ لا وجود له في واقع السنة؛ لأ
وجهٍ ولا يمكن فك التعارض بينهما بأيِّ طريقٍ من الطرق الثلاثة.
وبعد مقدمة الكتاب التي تعتبر من مظان معرفة أصول الإمام الشافعي بما حوته
ا قرره من من قضايا أصولية مهمة عرض الإمام الشافعي تطبيقاتٍ من السنة النبوية
قواعد درء التعارض الظاهري، فعرض ٢٧٦ حديثًا يسوقها جميعًا بإسناده، وذلك عبر ٧٩
موذجًا للآلية الأصولية المنضبطة في إزالة التعارض، ممهدًا الطريق ة فقهية تعد أ مسأ
لغيره في هذا الباب ليُسلك.
فمن ذلك ما قام به الأستاذ عامر أحمد ..
ضًا الأستاذ ا بالتخريجات والتوضيحات المفيدة، وقام أ حيدر من تحقيق الكتاب تحقيقًا غني
محمد أحمد عبد العزيز زيدان بتحقيقه تحقيقًا جيدًا تميز بفهارسه المستوعبة.
وعقب الذي تسطَّر في هذا المطلب.. فإنَّ من اطَّلع على كتب الإمام الشافعي،
ورأى عنايته بالسنة وخبر الواحد من حيث إثبات حجية السنة وبيان علاقتها بالقرآن،
واب التي خطها في علم المصطلح.. وتوضيح منهج فقهها واستنباط الأحكام منها، والأ
علم لم سمَّى أهل بغداد وغيرهم الإمامَ الشافعي بناصر السنة أو ناصر الحديث.
وهذا ما بيَّنه الدكتور على يوسف المحمدي في بحثه القيم: "الشافعي محدثًا" الذي
. قدَّمه لندوة الإمام الشافعي التي انعقدت في ماليزيا سنة ١٩٩٠
٩٦
المبحث الثالث اُلمصنفا ت اموع ُ ة من آثار الشافعي بعد عصره والمصنفات المنسوبة إليه
ا فيها اهتم العلماء قديمًا وحديثًا بمصنفات الإمام الشافعي، وقاموا على خدمتها
رز المصنفات التي جم عُِت من آثار الإمام الشافعي الأربعة الآتية: من فقه عٍظيم، وأ
وهذا الكتاب جمع فيه الإمام البيهقي ما استدل به الإمام الشافعي في كتبه من
الأحاديث النبوية والآثار عن الصحابة، حيث ساقها بسنده إلى الإمام الشافعي مع ذكر
سنده كما ورد في كتبه، وعرض الشواهد والمتابعات مناقشًا إياها تصحيحًا وتضعيفًا وبيانًا
واب الفقهية في مختصر المزني. للعلل، ورتَّب ما جمعه على الأ
وبعد الذي قَرَأَتْ عينُك وتأمله عقلُك هل شَقَّت عظمةُ هذا المشروع شغافَ
قلبِكَ لتعرف فضل الإمام البيهقي في تطوير مادة المذهب؟!.
لعلك تستحضر الآن قول الجويني: "ما من فقيهٍ شافعيٍّ إلا وللشافعيِّ عليه منةٌ
ا بكر البيهقي؛ فإنَّ المنَّةَ له على الشافعيِّ؛ لتصانيفه في نصرة مذهبه"!. إلا أ
والكتابُ بذلك يعد من مظان مرويات الإمام الشافعي من الأحاديث والآثار
بأسانيده، وأدلته في الاجتهادات الفقهية، ودراسة علل الأحاديث دراسةً تطبيقية، فهو
بذلك موسوعةٌ في أدلة الإمام الشافعي، ويشكل مع كتاب الأم مادةً علميةً ذات نفع
عظيم.
وقام الدكتور عبد المعطي أمين قلعجي من سوريا بتحقيق الكتاب تحقيقًا ضخمًا،
توسع فيه في خدمة حواشي الكتاب.
٩٧
ا بالفوائد، ضًا تحقيقًا غني وقام الأستاذ سيد كسروي حسن من مصر بتحقيقه أ
َّه خرَّج الأحاديث وعزاها إلى الطبعات الحديثة، بالإضافة لتسجيل وكان من عمله أ
ملاحظاته وتوضيحاته حول بعض المسائل.
وهذا الكتاب جمع فيه الإمام البيهقي أقاويل الشافعي في أحكام القرآن وتفسيره،
ورتَّبه على الموضوعات لا على السور، على غرار التفسيرِ الموضوعي.
وأشار الدكتور محمد الدين عبد السَّبحان إلى أنَّ البيهقيَّ لم يستوعب الآيات التي
فسَّرها الإمام الشافعي في مصنفاته المتعددة.
ه لا ه مفقود، وأ والمتقرر عند العلماء أنَّ الشافعيَّ صنَّف كتابًا بنفس العنوان، إلا أ
أمل في العثور عليه، وهو الذي ذكره الدكتور أكرم القواسمي وفقه الله تبعًا لذلك، إلا أنَّ
الكتاب تم العثور عليه من قريب على يد البحاثة الشيخ عبد الله الداغستاني وفقه الله.
وقصة اكتشاف الكتاب حكاها الشيخ في مقالٍ منشورٍ على الشبكة بعنوان:
"كتاب أحكام القرآن للإمام الشافعي"، ولا تغني هذه الإشارة عن مطالعته.
رز ما جاء فيه: أنَّ طرف الخيط الذي دلَّه عليه تلك النقول التي كان ومن أ
يوردها المزني من الكتاب، ثم إذا هي موجودة بنصها في كتاب الأم، والإمام الزركشي قد
ضًا. استوعب قضايا الكتاب الأصولية ثم إذ بالنصوص الدالة عليها في كتاب الأم أ
فدعا هذا إلى البحث حتى تم العثور على المخطوطة، وتبين أنَّ الكتاب مفرَّقٌ في
كتاب الأم في ثلاثة مواضع، ثم وجد شرحًا للكتاب نفسه في مخطوطةٍ بالمكتبة الظاهرية.
واب الفقهية، يبدأ كل بابٍ منه بما نزل فيه وكتاب الإمام الشافعي مبوبٌ على الأ
من الآيات.
٩٨
وهذا الكتاب من الكتب التي تجمع الأصول وتدل على الفروع، وإذا كان الإمام
الشافعي في الرسالة يقرر المعنى الأصولي أصالةً ثم يشفعه بما يجليه من التطبيق على الفروع
المختلفة.. فإنه في أحكام القرآن يقرر الفروع قريبة الاستنباط من القرآن، وخلال ذلك
يأتي بالأصول المختلفة يضبط بها اجتهاداته واستنباطاته، والكتاب بهذا الاعتبار يمكن أن
يفٍ في مجال التطبيق الأصولي. يعتبر أول تأ
والكتاب أحد الأصول الثلاثة التي قام عليها صرحُ أصولِ الشافعية وهي:
.( الرسالة واختلاف الحديث وأحكام القرآن( ١
ا أراد الشافعي أن يصنف يف هذا الكتاب يقول الربيع المرادي: " وفي قصة تأ
أحكام القرآن قرأ القرآن مائة مرة"!.
يف، وقد جرَّبته فوجدت فيه خيرًا وهذا منهجٌ عظيمٌ يُتَّبع لمن أمسك بقلم التأ
الغ إن قلت: لا يتعسَّر أن تخرج من كلِّ ختمةٍ أشبه أن يكون نبعًا لا ينقطع ماؤه، ولا أ
قرآنيةٍ بكتاب لمن كان عقله حاضرًا وقلمه ودفتره بيده طيلة التلاوة، وإنه لعملٌ شاق!.
يف في موضوعٍ فليبدأ تلاوة القرآن مستحضرًا لهاجس وعليه؛ فمن أراد التأ
الموضوع ومعالمه وحدوده، ويبقى خلال التلاوة يتردد في ذهنه، وعندئذٍ يتيسر له أن يرى
منهج القرآن في تقريره، ويلتفت إلى مادته وفقهه، ويدرك مقاصده وأسراره، حتى تتشعب
به آفاق الموضوع إلى حدودٍ ما كانت لتخطر له ببالٍ قط، ومن صبر وأدمن النظر.. أوتي من
الخير ما لا يقدر معه على واجب الشكر، والله يفتح على من يشاء، والله ذو الفضل
العظيم.
١) انظر مقال: "كتاب أحكام القرآن للإمام الشافعي" للشيخ عبد الله الداغستاني. )
٩٩
وقد بسطت معالم هذا المنهج في كتاب: "معارج العلوم" عند الحديث عن كيفية
صناعة المعرفة، تحت عنوان: "هواجس الإنتاج"، فلينظره من شاء.
] بجمع عددٍ غيرِ قليلٍ من هذا الكتاب قام فيه المحدث الأصم [ت: ٣٤٦
مرويات الإمام الشافعي من الأحاديث النبوية والآثار عن الصحابة في كتابٍ واحدٍ سماه:
"مسند الشافعي"، يروي ما فيه عن الربيع المرادي عن الإمام الشافعي، إلا أربعةَ أحاديث
يرويها المرادي عن البويطي عن الشافعي.
واب و العباس على الأسانيد أو المتون، ولم يرتب ما جمعه على الأ ولم يعلق أ
الفقهية، أو على مسانيد الصحابة، وإنما اكتفى بالتقاط الأحاديث والآثار من كتب الأم
وغيرها كيفما اتفق، ولذلك وقع فيه تكرارٌ في كثيرٍ من المواضع، وبقي من حديث الشافعي
شيءٌ كثيرٌ لم يقع في هذا المسند، ومن أراد الوقوف على حديث الشافعي فعليه بكتاب
م تتبع. معرفة السنن والآثار؛ فإنَّه تتبع ذلك أ
من هنا بقي المسند بحاجةٍ إلى خدمةٍ حتى جاء المحدث محمد عابد السِّندي [ت:
واب والمواضيع وحذف المكرر من الأحاديث، وهو ] فعني بترتيبه على الأ ١٢٥٧
المنتشر اليوم والمعروف في طبعاتٍ متعددة.
ه آوى ما يقرب من مائة حديثٍ رواها الإمام الشافعي بما ومما يتميز به المسند أ
يسميه علماء الحديث بسلسلة الذهب؛ وهو رواية الإمام الشافعي عن الإمام مالك بن
س عن نافعٍ عن عبد الله بن عمر ڤ وهي من أصح أسانيد الأحاديث. أ
١٠٠
] بجمع عددٍ غيرِ قليلٍ من و جعفر الطحاوي [ت: ٣٢١ قام المحدث الحنفي أ
واب مرويات الإمام الشافعي من الأحاديث النبوية والآثار عن الصحابة، ورتَّبها على الأ
ورة"، وعُرِف بسنن الشافعي. أ في كتاب سماه "السنن ا
وهو يسوق ما فيه بسنده عن خاله أبي إبراهيم المزني عن الإمام الشافعي، على
و العباس الأصم، مع وجود مساحةٍ مشتركةٍ بين الكتابين، ومساحة انفرد غرار ما قام به أ
فيها كلٌّ منهما عن الآخر، لكن فكرة الكتابين واحدة، وهي جمع ما رواه الإمام الشافعي
من السنن والآثار.
ولعلَّ هذا ما حمل الشيخ أحمد بن عبد الرحمن البنا والد الشهيد حسن البنا [ت:
واب والمواضيع، وسماه: "بدائع ] على جمع الكتابين في كتابٍ واحدٍ مرتبًا على الأ ١٣٧١
المنن في جمع وترتيب مسند الشافعي والسنن"، ثم قام بشرحه في كتابٍ سماه: "القول
الحسن في شرح بدائع المنن".
وأفاد رحمه الله أنَّ أحاديث المسند أكثر من أحاديث السنن دون أن يشير إلى رقمٍ
معين.
ا وقام الدكتور عبد المعطي أمين قلعجي بتحقيق كتاب السنن مفردًا تحقيقًا غني
بالفوائد.
بقيت الإشارةُ في ختام هذا المبحث إلى أنَّ هناك من جمع أشعار الإمام الشافعي في
ديوانٍ، وإلى أنَّ عددًا من المصنفات نُسبِت للإمام الشافعي دون أن تصحَّ نسبتها إليه؛
كالفقه الأكبر في العقيدة، والعقيدة المختصرة، والتمهيد في أصول التوحيد، وغير ذلك مما
١٠١
ذكره الدكتور أكرم القواسمي وفقه الله، وبين عدم صحة نسبته إليه، وأقام الأدلة على
ذلك.
١٠٢
الباب الثاني المذهب الشافعي
في هذا الباب فصلان: يتناول الأول التطور التاريخي للمذهب الشافعي، ويقف
الثاني عند مصطلحات الشافعية وأوجه الانتفاع بمصنفاتهم الفقهية والأصولية، وإليك
بيانَ ذلك:
الفصل الأول
التطور التاريخي للمذهب الشافعي
يهدف هذا الفصلُ إلى بيان مسيرة المذهب الشافعي عبر التاريخ الإسلامي منذ
، بيانًا يمكن من خلاله وحتى زمن صدور هذه الرسالة سنة ١٤٢٣ سنة ١٩٥
رز أعلامه الوقوف على أسباب ظهور المذهب واستقراره وعدم اندثاره، مع التعريف بأ
وآثارهم العلمية؛ لدور التراجم المهم في بيان معالم تطور الفقه الإسلامي عبر التاريخ.
وجاء هذا الفصل في تمهيدٍ وسبعةِ مباحث، تحدثت عن أدوار تطور المذهب
الشافعي ابتداءً من ظهوره ونقله، مرورًا باستقراره وتنقيحه وخدمته، وانتهاءً بانحسار
التمذهب في العصر الحاضر، وتطور الدراسات الفقهية المعاصرة مع توصيف الحال
الفقهي الذي صار الناس إليه.
وآن الآن أوانُ الشروعِ في المقصود بعون الربِّ المعبود.
١٠٣
المبحث التمهيدي بيان تقسيمات مفيدة للأدوار التاريخية لعلوم الفقه الإسلامي
بسط الدكتور أكرم القواسمي وفقه الله القولَ في تقسيمات الأدوار التاريخية لعلم
الحديث وعلم الفقه؛ لتكون هذه التقسيمات بمثابة الأرضية المُمَهِّدةِ للمضي في بيان تطور
المذهب الشافعي، وأسكتُ هنا عن أدوار علم الحديث؛ اكتفاء بعلم الفقه الذي نحن
بصدده.
وذكر الشيخ وفقه الله ستة تقسيمات للتطور التاريخي لعلم الفقه، يُنظر إليها في
الكتاب الأصل، علمًا أنَّ التقسيمات يمكن ألا تنحصر عند حدٍّ بعينه؛ لاختلاف زاوية
النظر عند المُقسِّم والهدف من التقسيم، إلا أنَّ الأغلب في التقسيمات أنها تراعي أحد
جوانب ثلاثة:
الأول: مراعاة الأحداث السياسية الرئيسة في العالم الإسلامي؛ لأنَّ الحركة
رٍ بالظروف السياسية التي لا بد وأن تصنع حدودًا ومحطاتٍ في تاريخ ر نوع تأ العلمية تتأ
الأمم.
الثاني: مستوى الاجتهاد الفقهي وآثار المجتهدين في كلِّ دور، ويتركز النظر هنا
إلى ما يمر به العلم من محطاتِ قوةٍ أو ضعف، وكمالٍ أو انحطاط بالنظر إلى حال الاجتهاد
والتقليد.
ولهذا تجد منهم من يُشبِّه أطوار الفقه بأطوار الإنسان، فالأستاذ محمد الحجوي
] مثلًا يقسم الفقه لأربعة أطوار: الأول: طور التكوين والطفولية، الفاسي [ت: ١٣٧٦
والثاني: طور الشباب، ويستمر إلى آخر القرن ، وذلك من أول البَعثة إلى وفاة النبيِّ
١٠٤
الثاني، والثالث: طور الكهولة، ويستمر إلى نهاية القرن الرابع، والرابع: طور الشيخوخة
والهرم، وذلك من أول القرن الخامس إلى العصر الحاضر.
و العينين بدران وهو ينطلق من هذا المنهج في وهذا ما أشار إليه الدكتور بدران أ
التقسيم بقوله: "درج الباحثون في تاريخ الفقه الإسلامي على تقسيم حياة التشريع
الإسلامي إلى أدوارٍ متعددةٍ تبعًا لتطوره من بناءٍ وتأسيسٍ، فانتشارٍ وتفريع، فازدهارٍ
وتوسيع، ثم جمودٍ وتقليد، إلى نهضةٍ وتجديد".
الثالث: نوعية المصنفات في الفقه وما اتصل به من علوم الشريعة كأصول الفقه؛
وذلك لأنَّ طبيعةَ المصنفات هي التي تعبِّرُ عن مستوى العلم الذي اختصت به في العصر
الذي دُوِّنت فيه نضجًا أو ضعفًا.
وهذا المعيار في تقسيم الفقه والذي قبله أرجح من التقسيم باعتبار مراعاة
الأحداث السياسية، مع أنَّ المتأمل لعددٍ من التقسيمات يجد تداخلًا بينها، مما يعني وجودَ
رٍ مهمٍّ لكلِّ جانبٍ منها في تطور الحركة الفقهية. أ
على أنَّ مجردَ التقسيم ليس هو الذي يهم؛ وإنما إبراز المنهج الذي نستعين به على
] بقوله: "ونحن تثوير الفقه، وهذا ما نبَّه عليه الدكتور عبد الكريم زيدان [ت: ١٤٣٥
ه لنرى كيف نما ام الفقه الأولى لننظر كيف نشأ ثم نتابعه في نشأ نريد أن نرجع إلى أ
َّرت في أطواره هذه وازدهر ثم كيف ركد ووقف، ولنقف على العوامل والأسباب التي أ
كلها".
وليس القصد أن ندرك هذا فحسب؛ وإنما إذا استحضرنا أنَّ لكلِّ زمنٍ ذوقَه
ه ينبغي أن يُنتج له من العلم نسجًا على أصول كل علم وقواعده ما يلبي وحوائجه، وأ
نا خطتهم في حوائجه، ويتناول مستجداته ونوازله.. أطلنا النظر في إرث المتقدمين، ورأ
١٠٥
ه ثم في تنميته وتطويره؛ لنصنع مثل الذي صنعوا ونزيد عليه، وعندئذٍ تأسيس العلم ونشأ
يكون النظر في تاريخ الفقه ذا روحٍ ساريةٍ، وليس كحال جثةٍ هامدةٍ لا حراك فيها كالذي
أذكره من الشعور إزاء تلقي هذا المساق على مقاعد الطلب.
وقد بسطتُّ القولَ في هذا المعنى في كتاب "معارج العلوم" في مبحثٍ مطوَّل
بعنوان: "صناعة المعرفة"، فلينظره من أحب.
بقيت الإشارةُ في ختام هذا المبحث إلى أنَّ التقسيمات الستة التي أوردها الدكتور
أكرم القواسمي وفقه الله متقاربةٌ فيما بينها كما قال، ولست أختار تقسيمًا بعينه، ولكن
يعجبني أنَّ تكون الأطوار ستة:
الأول: طور النشأة والتأسيس، وهو عهد النبوة والخلافة الراشدة.
الثاني: طور البناء والتكوين، وهو عهد المدارس الفقهية وفقه التابعين.
الثالث: طور النضج الفقهي وظهور المذاهب، وهو عهد نشأة المذاهب المتبوعة وفي
مقدمتها المذاهب الأربعة.
الرابع: طور التنقيح والخدمة.
الخامس: طور الركود، والاكتفاء بتخريج الفروع وسدِّ الثغرات وخدمة المصنفات.
السادس: العصر الحاضر وما شهده من انحسار التمذهب.
وكلُّ طورٍ له ملامح تميزه عن غيره، وبسط ذلك يطول.
١٠٦
المبحث الأول أدوار تطور المذهب الشافعي
مهَّد الدكتور أكرم القواسمي وفقه الله للتقسيم الذي قرره بتقسيمين قبله، الأول
للدكتور محمد إبراهيم أحمد علي، والثاني للدكتور أحمد النحراوي عبد السلام الإندونيسي.
أما التقسيمُ الأولُ.. فقد عرض صاحبه مسيرة المذهب في أربعة أطوار:
الأول: طور التأسيس: ويشمل حياة الإمام الشافعي التي تجلى فيها اجتهاده
المطلق، وظهور مذهبه القديم في العراق ثم مذهبه الجديد في مصر، وينتهي هذا الطور
. بوفاته سنة ٢٠٤
الثاني: طور النقل: وفيه جهودُ تلاميذِ الإمام الشافعي في نقل المذهب وخدمته
ونشره واستقراره، ويمتد من وفاة الإمام الشافعي إلى أواخر القرن السادس.
الثالث: طور تحرير المذهب وتنقيحه: ويبدأ من أواخر القرن السادس بظهور جهد
الإمام الرافعي ومن بعده جهد الإمام النووي في تنقيح المذهب وتهذيبه وتحرير المعتمد من
الأقوال، وذلك بالجهد الضخم الذي قاما به في مراجعة مصنفات الشافعية قبلهما.
الرابع: طور الاستقرار: ويبدأ هذا الطور من أواخر القرن التاسع الهجري بظهور
،[ ] والشهاب الرملي [ت: ٩٥٧ صاري [ت: ٩٢٦ جهود كلٍّ من الشيخ زكريا الأ
] وشمس الدين الرملي [ت: لِتَصِلَ الخدمةُ ذروتَها على يد ابن حجر الهيتمي [ت: ٩٧٣
]؛ فقد نقحا المذهب مرةً أخرى. ١٠٠٤
ولم يُسَمِّ الدكتور محمد إبراهيم علي الفترةَ الزمنيَّةَ بعد وفاة الشمس الرملي
بوصفٍ، وظاهر كلامه أنَّ طورَ الاستقرار عنده يمتد إلى زمننا الحاضر.
١٠٧
ه اعتبر في التقسيم جهودَ علماءِ الشافعية في خدمة المذهب، من والذي يظهر أ
خلال مصنفاتهم التي تعبر عن هذه الخدمة، والتي حالت دون اندثار المذهب كما حصل
لغيره.
وأما التقسيمُ الثاني.. فقد جعل صاحبُه الدكتور أحمد النحراوي الأطوار أربعةً إلا
ه قرر ه رَكَّزَ على أطوار المذهب بالنظر إلى الإمام الشافعي نفسه لا بالنظر إلى الشافعية؛ لأ أ
التقسيم في رسالته الدكتوراه التي بعنوان: "الإمام الشافعي في مذهبيه القديم والجديد"،
فهذا هو مركز النظر عنده، والأطوار هي:
الأول: طور الإعداد والتكوين: ويتركز هذا الطور من بعد وفاة الإمام مالك إلى
، وفي هذا الطور بدأت تنضج قدوم الإمام الشافعي إلى بغداد المرة الثانية سنة ١٩٥
ملكته الفقهية وتسير به نحو الاجتهاد المطلق.
الثاني: طور الظهور والنمو لمذهبه القديم: ويمتد هذا الطور إلى قدومه إلى مصر
لا عن اجتهادات شيخه ، وفي هذا الطور أظهر مذهبه إلى الناس مستق في آخر سنة ١٩٩
الإمام مالك، سواء على صعيد الأصول أو الفروع، وبدأ في هذا الطور في تدوين مذهبه.
الثالث: طور النضج والتكامل لمذهبه الجديد: ويستغرق هذا الطور مدة إقامة
، وفي هذا الطور أظهر المذهب الشافعي في مصر من قدومه وحتى وفاته سنة ٢٠٤
الجديد وقام بمشروع التدوين له أصولًا وفروعًا.
الرابع: طور التخريج والتذييل: ويمتد هذا الطور من وفاته إلى منتصف القرن
الخامس، وفي هذا الطور نشط المجتهدون في المذهب في تصحيح الأقوال فيه وفي تخريج
المسائل على قواعد الإمام الشافعي وأصوله.
١٠٨
ا تقرر أنَّ عنايته تركزت على دراسة شخصية الإمام ولم يسم أطوارًا بعد ذلك؛
الشافعي نفسه، وبروز مذهبيه القديم والجديد.
أما التقسيمُ الذي اقترحه الدكتور أكرم القواسمي وفقه الله وارتضاه ومشى عليه..
فقد جاء في ستةِ أطوار:
مرورًا بظهور المذهب ويمتد هذا الطور من ظهور المذهب القديم سنة ١٩٥
، وانتهاء بنقل التلاميذ للمذهب وروايتهم للمصنفات المتعددة، بدءًا الجديد سنة ١٩٩
سنة وفاة الربيع المرادي. إلى سنة ٢٧٠ من سنة ٢٠٤
سنة وفاة الإمام الغزالي، وفي إلى سنة ٥٠٥ ويمتد هذا الطور من سنة ٢٧٠
هذا الطور انتشر المذهب وظهرت شخصيته المستقلة التي لها فقهاؤها وقضاتها
ومصنفاتها، وفيها تُرجِم لأعلام المذهب، واستقر في مناطق جغرافية واسعة.
وذلك على يد الإمامين الرافعي والنووي، ويتضمن الجهود التي مهَّدت لعملهما،
سنة وفاة الإمام النووي. إلى سنة ٦٧٦ ويمتد هذا الطور من سنة ٥٠٥
وذلك على يد الإمامين ابن حجر الهيتمي وشمس الدين الرملي، ويشمل الجهود
التي تقدمت عليهما مثل جهود آل السبكي وابن الرفعة والإسنوي وشيخ الإسلام زكريا
سنة وفاة الشمس الرملي. إلى سنة ١٠٠٤ صاري، ويمتد هذا الطور من سنة ٦٧٦ الأ
١٠٩
سنة وفاة العلامة سيد إلى سنة ١٣٣٥ ويمتد هذا الدور من سنة ١٠٠٤
علوي بن أحمد السقاف المكي.
إلى زمن كتابة هذه الرسالة. ويمتد هذا الطور من سنة ١٣٣٥
ورُوعِيَ في التقسيم مستوى الإنتاج العلمي، وتحري أسباب استقرار المذهب،
سب ر في مسيرة المذهب؛ لأنها هي أ وتحديد نهاية الأطوار بوفياتِ الأعلام أصحاب الأ
ما يشيرُ إلى نهاية كلِّ طور وبدء آخر؛ لأنَّ الأطوار متداخلةٌ فيما بينها، وليست الفواصلُ
يا في مرحلةٍ انتقاليةٍ قد تمتدُّ إلى عشرات حديةً؛ إذ التغيرُ من طورٍ لآخر كان يتم تدريج
السنين.
١١٠
المبحث الثاني ظهور فقه الإمام الشافعي ونقله
١٩٥ ه - ٢٧٠ ه] ]
يتضمن هذا المبحث أربعة مطالب: يبين المطلب الأول ظهور المذهب القديم
، ويتطرق الثالث لنقل ، ويبين الثاني ظهور المذهب الجديد سنة ١٩٩ سنة ١٩٥
، ويقف الرابع عند ويمتد إلى سنة ٢٧٠ التلاميذ للمذهب ويبدأ ذلك من سنة ٢٠٤
رز معالم هذا الطور، ودونك الكلامَ عن ذلك: أ
بدأت الشخصية الاجتهادية للإمام الشافعي بالظهور عقب مغادرته بغداد سنة
متوجهًا إلى مكة، حيث اتخذ له حلقةً في المسجد الحرام يفقه الناس ويعلمهم، ١٨٩
وصار ينشئ المسائل من فقهه هو.
لكن هذه الشخصية الاجتهادية تجلت واقعًا ملموسًا في مذهبٍ مستقلٍّ له أصوله
ا سافر إليها ثانيةً سنة ١٩٥ ا عرض مذهبه على الأمة في عاصمة الخلافة بغداد وفروعه
، وشرع في تدوين كتابيه الحُجَّة والرسالة العراقية، والتف التلاميذ حوله.
ه كان قيد تغييرٌ في أصوله وفروعه، لكن الذي يظهر أ ولم يظهر لغاية سنة ١٩٩
التأمل والنظر وإعادة بلورة قطاعٍ من المسائل.
وبمناسبةِ الحديث عن نشأة المذهب يحسن أن يتقرر المراد بالمذهب، فأقول:
١١١
المذهب لغةً: الطريق الذي يسار فيه ويمر منه، ومن المجاز: استعماله بمعنى
الطريقة والمعتقد الذي يُذهب إليه، يقال: ذهب مذهب فلان.. إذا قصد قصده
.( وطريقته( ١
ا كان ه واصطلاحًا: ما قاله المجتهد بدليلٍ ومات قائلًا به، وسُمِّيَ بذلك؛ لأ
لكل إمامٍ طريقٌ يسلكها في استنباط الأحكام.. استعير الطريق الحسي لطريق الاستنباط
الفقهي، حتى صار اللفظ حقيقةً عرفيةً في الدلالة على ذلك.
فالمذهب إذن هو المنهج الفقهي الذي يسلكه فقيهٌ مجتهدٌ اختص به أدى به إلى
اختيارٍ جملةٍ من الأحكام، مما يعني أنَّ الفروع المستنبطة تخرج من ذات مشكاة الأصول
والقواعد التي يبنى عليها المذهب.
باعه، إذا وعيت هذا؛ علمت بإمكان وجودِ مساحةٍ بين فقه إمام المذهب وفقه أ
فإذا تكلمنا عن مذهب الشافعية.. عنينا تلك الجهود العلمية في الفقه وأصوله لمئاتٍ من
العلماء الذين ساروا على منهج الإمام الاجتهادي في أصوله وفروعه.
وهم في هذه الجهود يحققون ويُخرِّجون الفروع على الأصول والفروع، وربما
استدركوا بعض ما يُظن فيه السهو أو الخطأ، وإذا أُطلق مذهب الشافعية.. فلا يقصد ما
قاله الإمام الشافعي فحسب؛ بل ما قيل على مذهبه على أصوله وقواعده.
ه يخالفه منضويًا باعه عن مذهبه؛ لأ ولا يخرج المخالف له في شيءٍ من الفقه من أ
لا بوجود من يخالف المذهب من تحت أصوله وقواعده، ولهذا من يعادي التمذهب مستد
داخله لم يتيقظ إلى أنَّ المخالفَ إنما خالف المذهب بأصوله وقواعده.
١١١ )، لسان / ٤٥٠ )، القاموس المحيط ( ١ / ١) الصحاح في اللغة للجوهري ص ( ٢٣٠ )، تاج العروس ( ٢ )
.(٢١١/ ٣٩٣ )، المصباح المنير ( ١ / العرب ( ١
١١٢
، وأعاد فيها تدوين الكتب وظهر سافر الإمامُ الشافعيُّ إلى مصر آخر سنة ١٩٩
المذهب الجديد.
ةُ ظهورِ المذهبِ الجديد أسيء فهمُها من بعض المتفقهة فضلًا عمن دونهم؛ ومسأ
فحصل الظنُّ بوجود فقهين مختلفين متباعدين، وأنَّ هذا التجديد كان لاختلاف البيئة
وتغير العوائد، دون أن يعطي من يظن كلا الأمرين أو أحدهما لنفسه مساحةً من التأمل
والنظر لهذا الأمر ذي الخطر.
إنَّ مصطلح القديم والجديد اصطلاحيٌّ محض، وإلا.. فإنَّ مذهب الشافعي هو
مذهبٌ واحدٌ لا غير، سواءٌ في الأصول أو في الفروع، وإنما الذي جرى إحداث بعض
التغيير الذي يتناغم مع قانون النمو والتطور.
أصغِ إلى الإمام النووي وهو يقول: "واعلم أنَّ قولهم: القديم ليس مذهبًا
للشافعي أو مرجوعًا عنه أو لا فتوى عليه.. المُرَادُ به قديمٌ نصَّ في الجديد على خلافه، أما
ة في الجديد.. فهو مذهبُ الشافعيِّ قديمٌ لم يخالفه في الجديد، أو لم يتعرض لتلك المسأ
.( واعتقادُهُ ويُعمَلُ به ويفتى عليه؛ فإنَّهُ قاله ولم يرجع عنه"( ١
وقد أحصى الدكتور الناجي لمين المسائل التي فيها قديمٌ وجديدٌ فكان الإحصاء
ة، وكتاب الصلاة ( ٥٥ )، وكتاب الزكاة ( ٣٠ )، وكتاب كالآتي: كتاب الطهارة ( ٢٩ ) مسأ
الصيام والاعتكاف ( ١٢ )، وكتاب الحج ( ٣١ )، وكتاب البيوع وما يشاكلها من العقود
.(٦٨/ ١) المجموع ( ١ )
١١٣
٢٧ )، وكتاب النكاح وما يتعلق به ( ١١ )، وكتاب الطلاق وما يتعلق به ( ٢٠ )، وكتاب )
.!( ١)، والمجموع الكلي ( ٢٣٣ )( واب الفقهية ( ١٨ الجراح والقصاص وبقية الأ
فمرده أنَّ ظهور المصطلحين كان بسبب الانتقال الجغرافي
َّه أعاد تصنيف الكتب الذي قارن الوقت الذي تغير فيه اجتهاده في قطاعٍ من المسائل، وأ
مع منع رواية المصنفات الأولى، وصاحب هذا اختلافَ التلاميذ، فصار عندنا مشهدان
متميزان في الموقع الجغرافي وفي المصنفات وفي التلاميذ، وصار ما يُروى في العراق يختلف
في مساحةٍ منه مع الذي يُروى في مصر.
ولو أنَّ الإمام الشافعي بقي في العراق وبرفقته نفس التلاميذ يروون عنه
ا انقسمت آراؤه إلى قديمٍ المصنفات على ما كان سيحدثه فيها من تغييرٍ وزيادةٍ وحذفٍ..
ا وجدت هذه التسمية مسوغًا لها، كما حصل مع الإمام مالك من مراجعة وجديد، و
بعض الأقوال وإعادة النظر في بعض أحاديث الموطأ، لكن في نفس البقعة ومع نفس
التلاميذ وفي ذات الكتاب، وقُلْ مثل ذلك مع الإمام أبي حنيفة النعمان.
فمرد ..
ذلك إلى أسبابٍ منها:
أولًا: مراجعاته الأصولية، وإعادة الاجتهاد في الأصول ينتج عنه تغييرٌ كثيرٌ في
ه كان يقول في العراق بحجية مذهب الصحابي وتراجع عن ذلك في الفروع، ومن ذلك أ
مصر.
ثانيًا: اطلاعه على مرويات جديدةٍ من السنن والآثار.
.( ر فقه الإمام الشافعي بالبيئة المصرية للدكتور ناجي لمين ص ( ٢٩ ١) دحض مقالة تأ )
١١٤
ثالثًا: اطلاعه على فقه الإمام الأوزاعي والإمام الليث بالإضافة لإفادته من كبار
تلاميذ شيخه الإمام مالك، الذين استوطنوا مصر ينشرون فيها مذهب إمامهم.
رابعًا: اعتماده على أقيسةٍ جديدةٍ أرجح من تلك التي استعملها في المذهب
القديم.
ويؤيد ذلك أنَّ المتأمل في منهاج الإمام النووي يلحظ أنَّ المسائل التي فيها قولٌ
قديمٌ وقولٌ جديدٌ تعتمد في أكثرها على نصوصٍ أو قياسٍ على نصوص، وهذا ما بسط فيه
اجستير: "الإمام الشافعي ومذهبه القول الباحث سلوان عبد الخالق علي في رسالته ا
القديم والجديد ضمن المنهاج للنووي".
ة من وهو ما توصل إليه الدكتور أحمد نحراوي من خلال تحليله لأدلة ١٤ مسأ
موذجًا على الاختلاف الفقهي بين المذهبين المسائل التي فيها قديمٌ وجديدٌ اختارها أ
القديم والجديد.
أما تفسيرُ ذلك بتغير البيئة واختلاف العوائد.. فلا ينزع إلى دليلٍ من الحسِّ أو
العقل؛ لمحدودية المسائل التي ترجع إلى ذلك، والتفاوت بين مصر والعراق يومئذٍ -على
قى الإمام افتراض وجوده- لا يؤدي إلى هذا التراجع الكبير، ولو كان موجودًا لأ
ه الذي يناسبهم ويلائم ا نهى عن روايته؛ لأ الشافعي المذهبَ العراقيَّ قائمًا في العراق و
عوائدهم، وتلاميذ الشافعي الذين هم أدرى بإمامهم لم يذكروا هذا السبب لا عبارةً ولا
إشارة.
وقد وقفتُ على دراسةٍ قيمةٍ منشورةٍ للدكتور ناجي لَمِين وفقه الله تتبع فيها عامَّةَ
ةٍ منها ترجع إلى اختلاف المسائل التي حصل فيها الاختلاف بين المذهبين فلم يجد أيَّ مسأ
١١٥
ا من الشافعية ذكر شيئًا من ذلك( ١)!، فالاختلاف اختلافُ العوائد والأعراف، ولم يجد أ
نظرٍ ومنهج لا اختلاف بيئةٍ وعرف.
ا توفي الإمام الشافعي ورث عنه تلامذتُهُ إرثًا كبيرًا من المصنفات، فأخذوا
يبلغونها للناس، وقد ذاع صيت الإمام الشافعي في سائر البلاد الإسلامية، فشد طلاب
العلم الرحال من سائر الأمصار إلى تلامذته ليسمعوا منهم، لا سيما حملة المذهب الجديد.
قنوا عنه الحفظ، مع توفر وقد يسَّر الله للشافعي تلاميذ أحسنوا عنه الفهم، وأ
أهليةٍ وشعورٍ بالمسئولية، فقاموا بالمهمة أحسن قيام، سواءٌ في مصر أو في العراق، وإن كان
. الاهتمام بالمصنفات العراقية انحسر بعد وفاة الزعفراني سنة ٢٦٠
، والتقى روى الإمام البيهقي بسنده أنَّ الربيع بن سليمان حجَّ البيت سنة ٢٤٠
في الحج مع أبي علي الحسن بن محمد الزعفراني بمكة، فسلَّم أحدُهما على الآخر، فقال له
ا بالمغرب نبثُّ هذا العلم؛ يعني علم الشافعي. ت بالمشرق وأ ا علي أ الربيع: يا أ
]، وحرملة التُجيبي و يعقوب البويطي [ت: ٢٣١ أ
و ]، وأ ]، والربيع بن سليمان الجيزي [ت: ٢٥٧ راوي كتاب السنن [ت: ٢٤٣
]، وبحر بن ] ويونس بن عبد الأعلى الصدفي [ت: ٢٦٤ إبراهيم المزني [ت: ٢٦٤
.[ ]، والربيع بن سليمان المرادي [ت: ٢٧٠ نصر الخَوْلاني [ت: ٢٦٧
وكل واحدٍ منهم له بصمةٌ واضحةٌ في حفظ تراث الإمام الشافعي، وأكثرهم في
ذلك البويطي والمزني والمرادي.
.( ر فقه الإمام الشافعي بالبيئة المصرية للدكتور ناجي لمين ص ( ٢٩ ١) انظر: دحض مقالة تأ )
١١٦
فقد كان البويطي هو الأفقه، وهو الذي خلف الشافعي في درسه لأكثر من
عشرين عامًا.
وأما المزني.. فهو الذي خلف البويطي في الدرس، وهو الذي نصر المذهب
بالحجة القوية والمصنفات الرصينة، فهو صاحب المختصر الذي صار بداية سلسلة
ف عام. المصنفات الشافعية التي امتدت لأكثر من أ
وأما المرادي.. فهو الذي أوتي الحفظ والضبط وطول النَّفس في الرواية، مع قبولٍ
له في صدور العباد.
قال محمد بن أحمد الطرائفي البغدادي: "حضرته وقد حطَّ على بابِ داره تسع
مائة راحلة في سماع كتب الشافعي".
ونظرًا لطول عمر المزني والمرادي أخذ عنهما عددٌ كبيرٌ من التلاميذ الذين أصبح
لهم شأنٌ كريمٌ بعد ذلك، حيث انتقل المذهب بأصوله وفروعه بالسند العالي عنهما إلى
علماء القرن الرابع الهجري.
رزَ المعالمِ تتجلَّى في الأمور الأربعة الآتية: لعلَّ أ
أولًا: همة التلاميذ في نقل المذهب، وهذه لبنةٌ في صرح قيام المذهب لولا أن منَّ
ه شأن أي الله بها ويسَّرها لاندثر المذهب، ولكان إنتاج الإمام الشافعي من الكتب شأ
صاحب إنتاج علمي، يستفاد منه دون أن يكون مذهبًا ينتسب إليه الناس.
ثانيًا: لم يتقلد أحدٌ من تلاميذ الإمام الشافعي منصب القضاء في أيٍّ من بلاد
و المسلمين، وبقي هذا الجانب متوافرًا في علماء الحنفية منذ أن تولى القضاء القاضي أ
]، والذي كان يتولى قضاء مصر في هذا الطور هو شيخ الحنفية في يوسف [ت: ١٨٢
١١٧
]، فالقضاء حنفي والفقه يمشي على الأرض بحسب وقته أحمد بن أبي عمران [ت: ٢٨٠
هوية المذاهب القائمة.
ثالثًا: لم يشهد هذا الطور تدوين مصنفاتٍ جديدةٍ في أصول الفقه، وكان الاعتماد
على كتب الإمام الشافعي وإدمان النظر فيها، واستنباط الأحكام على وفقها.
ظر في كتاب الرسالة عن الشافعي منذ خمسين ا أ تأمل إمامنا المزني وهو يقول: "أ
ا أستفيد شيئًا لم أكن عرفته"!. سنة، وما أعلم أني نظرتُ فيه من مرةٍ إلا وأ
وتأمل جهد إمامنا المرادي وهو ماضٍ في رواية كتاب الرسالة بدءًا من سنة ٢٠٤
، ثم أذن للتلاميذ بنسخها عن نسخته بعد أن تقدَّم به العمر. إلى سنة ٢٦٥
بينما شهد هذا الطور تدوينٌ أصولي في المذاهب الأخرى.
رابعًا: لم توجد في هذه المرحلة مصنفاتٌ تُعنى بالترجمة لتلاميذ الإمام الشافعي
باسم كتب طبقات الشافعية، وهذا سيظهر في الطور الآتي بعد وفاة المرادي بأكثر من ١٣٠
سنة.
بقيت الإشارةُ في ختام المبحث إلى أنَّ المذهبَ الظاهريَّ خرجَ من رحم المذهب
الشافعي؛ لقيامه على الاجتهاد المنضبط وزيادة التحري للدليل الصحيح وتقارب
الأصول.
] من المتفقهين على وكان داود بن علي الأصفهاني الظاهري [ت: ٢٧٠
المذهب، وأخذ عن التلاميذ العراقيين كأبي ثورٍ وإسحاق بن راهويه، ثم استقلَّ بمذهبٍ
له يقوم على الأخذ بظواهر النصوص، لكنه تطرَّفَ في بعض المسائل والأصول؛ كإبطاله
التقليد وإبطاله حجية القياس الذي يعد امتدادًا متطرفًا لإبطال الشافعي للاستحسان.
١١٨
رٍ إلى اليوم، هذا ر به نوع تأ ومذهبه معدودٌ في المذاهب المندثرة وإن بقي من يتأ
مع بقاء العديد من مصنفات علمائه التي أغنت التراث الفقهيَّ والأصولي؛ وذلك أنَّ
وجود الكتب وحدها دون من يحملها وينشرها في الناس لا يكفي، فضلًا عن الحاجة
المتحتمة لبقاء التطوير المستمر للمذهب، وسدِّ ثغراته، واستدراك أخطائه، والمضي في
تحقيق مسائله، وعلاج المستجدات والنوازل بحسب أصوله وقواعده، وهذا ما يقوم به
باع. التلاميذ والأ
١١٩
المبحث الثالث ظهور مذهب الشافعية واستقراره
٢٧٠ ه - ٥٠٥ ه] ]
آوى هذا المبحثُ إليه أربعةَ مطالب، يعرض الأول والثاني المرحلةَ الأولى من هذا
رزَ معالمها، والتي ظهر فيها المذهب وانتشر، ويعرض الثالث والرابع المرحلةَ الطور وأ
رز معالمها، والتي استقر فيها المذهبُ استقرارًا حال دون اندثاره الثانية من هذا الطور وأ
في العصور التالية، ودونك بسطَ الكلامِ عن ذلك:
بعد أن نشر تلاميذ الإمام الشافعي فقهَهُ في الآفاق، وانتشر تلاميذهم في
الأمصار، وصاروا في تزايدٍ.. صار هناك ما يشبه الرابطة التي تجمع بينهم، وأخذت
باع الإمام طريقتهم في الاجتهاد والإفتاء والكتب التي يتدارسونها في التميز عن طريقة أ
فها محمد بن الحسن، وعن أبي حنيفة الذين كانوا يتدارسون كتب ظاهر الرواية التي أ َّ
باع الإمام مالك الذين كانوا يروون الموطأ ويتدارسون المُدوَّنةَ التي جمعها طريقة أ
سَحنون التَّنُوخي.
وخلال القرن الرابع زادت هذه الرابطةُ من التقريبِ بين المتصلين بها، وظهرت
تسميتُهَا بالمذهب الشافعي أو مذهب الشافعية؛ نسبةً إلى من كانت اجتهاداته ومصنفاته
هي محور هذه الرابطة، وتناقلت الألسنةُ هذه النسبة، وصار يُلقَّبُ بها من على طريقة الإمام
الشافعي، حتى صارت علمًا على طريقتهم في الاجتهاد والإفتاء ثم في القضاء.
١٢٠
وف أن يُنسَبَ الرَّجلُ لمذهبه الفقهي بالإضافة إلى أ وفي هذا القرن صار من ا
وفًا قبل نسبته إلى بلده أو قبيلته، فيقال مثلًا: فلان الشيرازي الشافعي، ولم يكن هذا مأ
ذلك.
ويرى الدكتور أكرم القواسمي وفقه الله أنَّ أوضح علامةٍ يمكن الاستدلال بها
على ظهور المذهب وانتشاره هي تصنيف كتب تُتَرجم لفقهاء المذهب، فيما عُرِف بكتب
طبقات الفقهاء؛ فإنَّ هذا يعني وجودَ جمهورٍ عريضٍ من العلماء المنتسبين للمذهب، وأنَّ
الرابطة الجامعة بينهم -التي محورها فقهُ الإمام الشافعي ومصنفاتُه وكثرةُ المتصلين بها من
باع المذاهب. العلماء- آخذةٌ في التمايز عن غيرهم من أ
وهذا الذي نلمحه من أول كتابٍ صدر في هذا الفن، وهو كتاب "المُذهَب في ذكر
] صنَّفه للإمام أبي أئمة المذهب" لأبي حفص عمر بن علي المُطَّوِّعي الشافعي [ت: ٤٤٠
]، وبعد هذا الكتاب توالت المصنفات في طبقات الطيب الصعلوكي [ت: ٤٠٤
الشافعية وتراجمهم في عناوين متقاربة.
رز هؤلاء سبعة: أ
ماطي، أخذ الفقه عن المزني والمرادي و القاسم عثمان بن سعيد الأ الأول: أ
، وكان هو السبب في ولازمهما، ثم رحل إلى بغداد واستوطنها حتى توفي سنة ٢٨٨
اشتغال الناس ببغداد بفقه الإمام الشافعي ومصنفاته المصرية الجديدة، وعنه أخذ كثيرٌ من
و العباس ابن سريج. العلماء وفي مقدمتهم أ
ولا يخفى دور نشر المذهب في عاصمة الخلافة في تيسر نشره في سائر الأمصار
الإسلامية؛ لأنَّ دار الخلافة هي مركز ثقل الأمة الإسلامية؛ لأنها قبلة العلم والعلماء،
١٢١
وإليها يفد الولاة والأمراء والتجار من سائر الأمصار، فينتشر ما فيها في الأمصار بقوة
إلى المدينة لم ينشغل بدعوة القبائل إلى الإسلام، وإنما ا هاجر النبي المركز، ولهذا
صوَّب الجهد على مكة حتى فتحها، وبإسلامها أسلم العرب ثم من تلاهم، وعلى هذا فإنَّ
باعه ه قصد بغداد يوم أن أراد أن يظهر مذهبه، وكذلك يفعل أ من علائم فقه الشافعي أ
الآن من بعده.
ماطي، و العباس أحمد بن عمر بن سريج البغدادي، أخذ الفقه عن الأ الثاني: أ
وعنه أخذ الكثيرُ من العلماء، وكان إمامَ الشافعيَّةِ في عصره بلا منازع، وكان يُسمَّى بشيخ
المذهب، وعنه انتشر المذهب في معظم بلاد المسلمين، وهو من أوائل الشافعية الذين تولوا
القضاء، فقد تولى القضاء في مدينة شيراز في بلاد فارس، ثم انتقل إلى العاصمة بغداد،
ائة الثالثة. ه المجدد على رأس ا ، ويرى بعض علماء السِّيَر أ وتوفي فيها سنة ٣٠٦
رز في علماء الشافعية في عصره في نشر المذهب وابن سريج كان صاحب الدور الأ
ماطي، ولعلَّ توليه وتثبيت دعائمه في العاصمة وفي سائر البلاد، تتميمًا لجهد شيخه الأ
القضاء وكثرة مصنفاته التي جاوزت الأربعمائة الدالة على فقهه ومكانته كان مما ساعده
على ذلك، فضلًا أنَّ المذهب قويٌّ في ذاته، ويحمل عوامل انتشاره بعون الله وتوفيقه.
]، أخذ الفقه و زرعة محمد بن عثمان بن إبراهيم الدمشقي [ت: ٣٠٢ الثالث: أ
عن الربيع المرادي، وسكن مصر وولي القضاء فيها، ولعله أول قاضٍ شافعيٍّ بمصر، ثم
انتقل إلى دمشق وولي القضاء فيها، ونجح في نشر المذهب في بلاد الشام بعد أن كان
مذهب الإمام الأوزاعي هو السائد فيها، وكان يهب لمن يحفظ مختصر المزني مائة دينار،
وكان راسخ القدم في الحديث روايةً ودرايةً.
١٢٢
وله ولدٌ اسمه الحسين ولي القضاء بعده، وسار على طريقته في نشر المذهب، وتوفي
. سنة ٣٢٧
و محمد عبد الله بن محمد بن عيسى المَرْوَزي المعروف بعَبْدَان [ت: ٢٩٣ الرابع: أ
]، رحل إلى مصر، ولازم فيها المُزني والمرادي، وبعد وفاتهما انتقل إلى مرو حاملًا معه
مختصر المزني، لينشر فيها وما حولها مذهبَ الشافعي، ومرو تقع في الشمال الشرقي من بلاد
فارس.
]، أخذ و عوانة يعقوب بن إسحاق الإسفراييني [ت: ٣١٦ الخامس: الحافظ أ
الفقه عن المزني والمرادي، ورحل إلى موطنه إسفرايين، وهي تقع في نواحي نيسابور،
وكلتاهما تقع في دولة تركمانستان في زمان كتابة هذه الرسالة، وكان أول من أدخل مذهب
الشافعية إليها.
وكان جامعًا بين الفقه والحديث، وصنَّف مسنَدَهُ المشهور باسمه وهو مطبوع.
و العباس محمد بن يعقوب النيسابوري المعروف بالأصم [ت: ٣٤٦ السادس: أ
]، رحل في جمع الحديث، وغلب الحفظ عنده على الفقه، سمع مصنفات الإمام الشافعي
من الربيع المرادي في مرحلةٍ متأخرةٍ من حياته، ثم بقي يرويها ويحدث بمسموعاته من
ه بقي يروي مصنفات الإمام الشافعي ، مما يعني أ السُّنَّةِ ضابطًا لها حتى توفي سنة ٣٤٦
٧٦ سنة بعد وفاة الربيع، وكان يرتحل إليه طلبًا لعلو السند.
ولا غرابة بعد ذلك أن تكون النسخ العشر المخطوطة لكتاب الأم والتي حققها
بت ذلك في أحمد حسون كلها من رواية أبي العباس الأصم عن الربيع المرادي كما أ
تحقيقه.
١٢٣
،[ و بكر محمد بن علي بن إسماعيل القفَّال الكبير الشاشي [ت: ٣٦٥ السابع: أ
رز علماء الشافعية في عصره، وهو الذي أخذ الفقه عن ابن سريج وبرع فيه حتى كان أ
أدخل المذهب إلى بلاد ما وراء نهر جيحون، وتشمل هذه البلاد في زماننا أوزبكستان
وطاجكستان وقِرغِيزستان وغيرها.
وله مصنفاتٌ نافعة منها أدب القضاة، ومحاسن الشريعة، وهذا الكتاب لا ينبغي
أن تخلو منه مكتبة فقيهٍ أو متفقه.
ويستفاد من جملة ما تقرر أنَّ من أهم العوامل المؤثرة في نشر الأفكار هذه الأمور
الخمسة:
باع والتلاميذ. ١. رابطةُ الأ
٢. المُصَنَّفَاتُ التي تحافظ على مادة العلم وتيسر التلقي والنشر والتطوير المستمر.
٣. رعايةُ السلطةِ الحاكمة.
٤. تولي منصبِ القضاء.
٥. التمركزُ في العواصم التي تُمَثِّلُ ثقل الأمة الإسلامية.
ولا يكاد يخلو مذهبٌ اندثر من تخلفِ عاملٍ من هذه العوامل، ويمكن دراسة
المذاهب التي سارت حينًا من الدهر ثم اندثرت والوقوف عند أسباب ذلك لتكشف
المزيد من الأسباب.
رزها الأمور الأربعة الآتية: وأ
والأفكار تنتشر بالرجال. ،
١٢٤
رزهم هذان من أ ،
ان: العا
،[ و بكر محمد بن إبراهيم بن المنذر النيسابوري [ت: ٣١٨ الأول: الإمام أ
صاحب كتاب الإجماع، وكتاب الأوسط في السنن والإجماع والاختلاف، وكتاب
الإشراف على مذاهب أهل العلم، سمع من الربيع المرادي والحسن الزعفراني، ورسخت
قدمه في الفقه حتى بلغ الاجتهاد المطلق، بل ووُجِد من سمَّى طريقته في الاجتهاد
بالمنذرية.
]، صاحب التفسير و جعفر محمد بن جرير الطبري [ت: ٣١٠ الثاني: الإمامُ أ
ا رسخت قدمه استقل بمذهبٍ والتاريخ، أخذ عن الربيع المرادي والحسن الزعفراني، و
باعه لكنه له أصوله وفروعه، ونُسِب إليه باسم المذهب الجريري، وكان له فقهاؤه وأ
اندثر.
رزهم هؤلاء من أ
الثلاثة:
] صاحب و بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة [ت: ٣١١ الأول: الحافظ أ
ا رسخت قدمه ا، و الصحيح، تفقه على المزني وسمع من المرادي وروى عنه، وبدأ شافعي
مضى في طريق الاجتهاد حتى كانت له آراؤه واجتهاداته، وكان اشتغاله بالحديث
والتصنيف فيه أكثر من اشتغاله بالفقه، وقد لقِّب بإمام الأئمة وكان إمام خراسان في
عصره بلا منازع.
]، كان و محمد عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي [ت: ٣٢٧ الثاني: الحافظ أ
ا بأحوال الرواة، من أئمة عصره في الجرح والتعديل وعلم العلل، وقد حافظًا متقنًا عا ً
١٢٥
تفقه بالمذهب الشافعي، ومن مصنفاته: آداب الشافعي ومناقبه، وهو مطبوع بتحقيق
الأستاذ الدكتور عبد الغني عبد الخالق.
]، صاحب السنن و الحسن علي بن عمر الدارقطني [ت: ٣٨٥ الثالث: الإمام أ
وكتاب العلل، ولد بدار القطن وهي محلةٌ كبيرةٌ ببغداد ونُسِبَ إليها، كان من كبار
] وسيأتي ذكره، من المحدثين في عصره، تفقه على يد أبي سعيد الإصطخري [ت: ٣٢٨
رز مصنفاته: سنن الدارقطني وكتاب العلل الذي يعد عمدة المتأخرين في علم العلل. أ
] في كتابه "طبقات الشافعية" في سياق وذكر جمال الدين الإسنوي [ت: ٧٧٢
حديثه عما تميز به مذهب الشافعية أنَّ كبار أئمة الحديث هم إما من جملة أصحاب الإمام
باعه؛ كالإمام أحمد بن حنبل والترمذي والنسائي وابن الشافعي الآخذين عنه أو عن أ
ماجه وابن المنذر وابن حبان وابن خزيمة والبيهقي والحاكم والخطابي والخطيب وأبي
نعيم، وإما من جملة الناقلين لأقواله؛ كالبخاري؛ فإنه ينقل عنه في صحيحه ما يذهب إليه
وذلك في الركاز وفي العرايا، وإنما لم ينقل عنه في سلسلة الحديث؛ لأنَّ المحدثين يحرصون
على الرواية عن الأسبق والأقدم، فقيهًا كان أو غيره؛ محافظةً على علو الإسناد.
وذلك أنَّ السلطةَ الحاكمةَ في ،
الدولة العباسية -سواء كانت ممثلةً في الخليفة العباسي في بغداد أو في أمراء الأقاليم- كانت
تراعي المذهب الأكثر انتشارًا في البلد لتختار قاضيها من فقهائه؛ ضبطًا لأحوال الناس
ووقايةً لهم من الاختلاف وما يجره ذلك من فتن.
ومن فقهاء الشافعية الذين تولوا القضاء في هذه المرحلة هؤلاء الخمسة:
] تولى قضاء شيراز كما مرَّ. ١. ابنُ سريجٍ [ت: ٣٠٦
] تولى قضاء مصر ثم دمشق كما مرَّ. و زرعة الدمشقي [ت: ٣٠٢ ٢. أ
١٢٦
] تولى قضاء قم، وتقع في و سعيد الحسن بن أحمد الإصطخري [ت: ٣٢٨ ٣. أ
الجنوب الغربي من إيران، وله مصنفاتٌ في القضاء منها أدب القضاء وكتاب
الشروط والوثائق والمحاضر والسجلات.
] تولى قضاء القضاة في بغداد سنة ٣٣٨ و السائب الهمذاني [ت: ٣٥٠ ٤. أ
وهو أول من ولي هذا المنصب من الشافعية.
] تولى قضاء بغداد بتوجيهٍ من و بشر عمر بن أكثم الأسدي [ت: ٣٢٧ ٥. أ
قاضي القضاة أبي السائب، ثم تولى قضاء القضاة بعد أبي السائب.
أيُّ فكرةٍ ناهضةٍ تمر بثلاثة أطوار كبرى: الوجود ثم الاستقرار ثم النمو، ولا تثبت
الأفكار والمشاريع إلا في طور الاستقرار وبقاء السعي للنمو، ولهذا من سياسة العدو في
دًا؛ لئلا تتجاوزه إلى الاستقرار فضلًا عن عالم السياسة أن يشغلك بالتهديد الوجودي أ
النمو.
ومرحلة الاستقرار في المقام الذي نحن بصدده هي التي تميز المذاهب الباقية عن
المذاهب المندثرة، فمذهب الليث بن سعد قام واستمر ٣٠ عامًا، ومذهب الإمام
الأوزاعي قام وترعرع واستمر ١٥٠ عامًا، لكن المذاهب تشترك في مرحلة الظهور
وتتفاوت في مرحلة الاستقرار، بل إنَّ المذهب الظاهري قد وجد واستقر واستمر قائمًا
ه لم يَنمُ النموَّ الكافي وأخذته أسباب الضعف لقرابة منتصف القرن الثامن الهجري، إلا أ
فضعف حضوره في المشهد.
١٢٧
ومعنى الاندثار انقطاعُ المتفقهين بذلك المذهب، وانقطاعُ التصنيف فيه، لتبقى
أقوالُ فقهائه متناثرةً في كتب الفقه المقارن للمذاهب الأخرى دون أن يكون له شخصيةٌ
مستقلةٌ مكتملة القواعد والأصول والفروع.
وعليه؛ فإنَّ العلماءَ المجتهدين عبر التاريخ كثر، لكن ليس كل مجتهد مطلق صار
له مذهبٌ ينسبُ إليه، وليس كل مذهب وجد ترعرع واستقر ونما.
فهي ..
جملة العوامل الخمسة التي مرَّت قريبًا؛ فكلٌّ منها له بصمةٌ واضحةٌ في تثبيت دعائم
المذهب.
واكتفى الدكتور أكرم القواسمي وفقه الله بذكر ثلاثة عوامل وفصَّل فيها وهي:
وفرة العلماء حملة المذهب، والتصنيف فيه، ورعاية السلطة الحاكمة، ودمج بين العاملين
الأول والثاني، فصار هناك عاملان أساسيان، هذا بسط الكلامِ عليهما:
وفرة عدد من العلماء المتبحرين الذين حملوا المذهب وأجادوا في
خدمته وأكثروا من التصنيف فيه، ومصنفاتُ هذه المرحلة هي التي اقتات عليها علماء
ا فيها واختصارًا لها وبناءً عليها. العصور الآتية؛ روايةً لها وشرحًا
ومما يدل على كثرة المصنفات في هذه المرحلة والتي استغرقت القرن الخامس..
ظهورُ طريقتين في التصنيف، عُرِفَت الأولى ب "طريقة العراقيين"، والثانية ب "طريقة
الخراسانيين"؛ وذلك نسبةً إلى البقعة الجغرافية التي انتشر فيها أعلامُ كلِّ طريقة.
وتعددُ الطريقة لا يعني انقسامَ المذهب؛ بل المذهب واحدٌ، لكن الشكل المتحرك
على الأرض يصنع شخصيةً مستقلةً لكلِّ فريق، كما مرَّ بنا من انقسام المذهب لقديمٍ
١٢٨
وجديد؛ فالمذهب واحد، إلا أنَّ الذي أوهم التعدد هو اختلاف البقعة والمصنفات
والتلاميذ وتغيير قطاعٍ من الآراء قارن ذلك.
وهكذا الحال هنا؛ فالمذهب واحدٌ لا يختلف، لكن التمايز حصل باختلاف البقعة
والعلماء والمصنفات وطريقة التصنيف ومستوى دقة النقل في الأقوال.
يقول الإمام النووي: "واعلم أنَّ نقل أصحابنا العراقيين لنصوص الشافعي
بتُ غالبًا، والخراسانيون أحسنُ تصرفًا قنُ وأ وقواعد مذهبه ووجوه متقدمي أصحابنا أ
.( وبحثًا وتفريعًا وترتيبًا غالبًا"( ١
ةُ راجعةٌ إلى طريقةِ عرضِ المسائل وأدلتها ثم التخريج عليها، وإلى مستوى فالمسأ
الدقة في نقل أقوال فقهاء المذهب وعزوها إلى مظانها، فما قرره شيوخ كل مدرسة تناقله
التلاميذ، وقرروه في دروسهم وكتبهم ونافحوا عنه، حتى وُجد نوعُ اختلافٍ فيما ينقل عن
الإمام أو أصحاب الوجوه مع تباعد البلدان وامتداد السنين.
وهذا الاختلاف علاوة على كونه يدل على غزارة التصنيف في هذه المرحلة.. فإنه
وف في حياة المذاهب والأفكار. أ يعتبرُ من سنن التطور العلمي ا
ومن كتب العراقيين: المجموع واللباب والمقنع للمحاملي، والذخيرة لأبي علي
البندنيجي وتعليق القاضي أبي الطيب الطبري والحاوي الكبير للماوردي والمهذب والتنبيه
لأبي إسحاق الشيرازي والشامل لابن الصباغ.
ومن كتب الخراسانيين: النهاية لإمام الحرمين والوسيط للغزالي وتعليق القاضي
حسين والتتمة للمتولي والتهذيب للبغوي وبحر المذهب لأبي المحاسن الروياني.
.(٦٩/ ١) المجموع ( ١ )
١٢٩
والنسبُ إلى أيٍّ من المدرستين نسبٌ علميٌّ لا جغرافي، ولهذا لا غرابة في أن يكون
ا حامدٍ الإسفراييني، وهو من إسفرايين بلدة بخراسان، لكنه إمامُ المدرسةِ العراقيَّةِ هو أ
عراقيُّ التفقه، فالنسبةُ تكون بحسب الشيوخ الذي يؤخذ عنهم والبلد المركزي للتفقه لا
بحسب بلد المتفقه نفسه.
ضًا بطريقة المراوزة، فتارة وطريقةُ الخراسانيين بإمامة القفال الصغير تُسمَّى أ
يقولون: أصحابنا الخراسانيون، وتارةً يقولون: أصحابنا المراوزة، وسبب ذلك أنَّ شيخ
باعه مراوزة، فهو الاسم الأخص وذاك الأعم؛ وذلك لأنَّ طريقة الخراسانيين ومعظم أ
مدن خراسان العظيمة أربع: مرو ونيسابور وبَلْخ وهَرَاة، والقفال شيخ المدرسة كان
و إسحاق المروزي، فنُسبَت و زيد المروزي، وشيخ شيخه هو أ يا وشيخه هو أ مروز
المدرسةُ كلها إلى مرو.
ولا توجد طريقةٌ مصريةٌ رغم أن مستقر الإمام الشافعي الأخير كان فيها؛ لأنَّ
نصرت بقوة السيف وامتدت إلى سنة ٥٦٧ الدولة الفاطمية التي قامت سنة ٣٦٢
الفرقة الإسماعيلية الباطنية، وحاربت أهل السنة والجماعة وعقيدتهم ومذاهبهم الفقهية،
كلُّ ذلك قبل ظهور طريقتي العراقيين والخراسانيين خارج مصر.
أما أعلام طريقة العراقيين فمن أشهرهم:
]، ولد في و حامد الإسفراييني شيخ طريقة العراقيين [ت: ٤٠٦ ١- الإمام أ
يا، وقد إسفرايين التي إليها ينتسب، وهي تقع في الجنوب الشرقي من دولة تركمانستان حال
ه المجدد للأمة دينها على رأس الأربعمائة، وخلَّفَ الكثيرَ من اعتبر عددٌ ممن ترجم له أ
رٌ بارزٌ في النهضة بمذهب الشافعية في هذه المرحلة. التلاميذ النجباء الذي كان لهم أ
١٣٠
ا حامدٍ ]، لازم أ و الطيب طاهر بن عبد الله الطبري [ت: ٤٥٠ ٢- القاضي أ
رز فقهاء طريقته، وعرف بالتحقيق وجودة النظر، الإسفراييني وأخذ عنه حتى صار من أ
ه تولى القضاء. والظاهر أ
]، صاحب الحاوي اوردي [ت: ٤٥٠ و الحسن علي بن محمد ا ٣- الإمام أ
الكبير والأحكام السلطانية، أخذ عن أبي حامدٍ الإسفراييني وسار على طريقته، ويرع في
علوم الشريعة عامة والفقه خاصة.
وأما أعلام طريقة الخراسانيين فمن أشهرهم:
و بكر عبد الله بن أحمد المروزي المعروف بالقفَّال الصغير شيخ طريقة ١- الإمام أ
]، كان قد اشتغل في أول حياته بعمل الأقفال فنسب إليها، الخراسانيين [ت: ٤١٧
صنَّف المصنفات النافعة ودرَّس حتى تخرج عليه عددٌ كبيرٌ من فقهاء الشافعية في هذه
المرحلة، وكان ثاقب الفهم دقيق النظر مصيبًا في الاستنباط والتخريج.
] وهو والدُ إمامِ و محمد عبد الله بن يوسف الجويني [ت: ٤٣٨ ٢- الإمام أ
الحرمين، رحل إلى مرو ليلتقي بأبي بكر المروزي، وأخذ عنه طريقته في فقه الشافعية حتى
، فجلس للتدريس والتصنيف صار من أعلامها، ورجع بعد ذلك لنيسابور سنة ٤٠٧
والإفتاء، وكان رحمه الله مهيبًا زاهدًا ورعًا مجتهدًا.
و علي الحسين بن محمد بن أحمد المروزي المشهور بالقاضي حسين ٣- الإمام أ
رز تلاميذه السائرين على ]، لازم القفال الصغير وأخذ عنه، حتى صار من أ [ت: ٤٦٢
طريقته، وكان غواصًا في الدقائق والمعاني، وله كتاب "أسرار الفقه".
١٣١
في مرحلةٍ متقدمةٍ من القرن الخامس برز من العلماء من جمع بين الطريقتين وإن
كانوا في نشأتهم العلمية ينتمون إلى إحداهما، فكانوا ينقلون عن مصنفات الطريقتين في
ك: تحرير المسائل وعرض الأدلة وعزو أقوال أئمة المذهب، ومن أشهر أو
] صاحب و المعالي عبد الملك بن عبد الله الجويني [ت: ٤٧٨ ١- إمام الحرمين أ
الورقات ونهاية المطلب في دراية المذهب، وإذا أطلق الإمام في كتب المذهب فهو
المقصود.
]، أخذ عن إمام و حامد حجة الإسلام محمد الغزالي [ت: ٥٠٥ ٢- الإمام أ
الحرمين، من كتبه البسيط والوسيط والوجيز والخلاصة، وأكثرُ الإرثِ الفقهيِّ الذي تقدَّمه
صبَّه في مصنفاته، والذي سيتكئ عليه الرافعي والنووي فيما بعد.
رٌ لا يقل عن ضًا والذين كان لهم أ ومن أعلام الشافعية البارزين في هذه المرحلة أ
ر من تقدَّم من أعلام الطريقتين: أ
]، وهو الذي برع و بكر أحمد بن الحسين بن علي البيهقي [ت: ٤٥٨ ١- الحافظ أ
في الحديث روايةً ودراية، وأحسن في خدمة مصنفات المذهب من هذه الزاوية، لا سيما في
كتابه: "معرفة السنن والآثار"، وله كتاب "مناقب الشافعي"، وهو أوسعُ ترجمةٍ للإمام
الشافعي بالروايات المسندة وصلت إلى زمن كتابة هذه الرسالة.
] صاحب المُهذَّب و إسحاق إبراهيم بن علي الشيرازي [ت: ٤٧٦ ٢- الإمام أ
َّه رأى والتنبيه واللمع وشرحه، وإذا أطلق الشيخ فهو المراد، وكان يحب أن ينادى به؛ لأ
في منامه وخاطبه بذلك، والشيرازي ممن رسخت قدمه في العلم، وأوتي الفهم النبيَّ
١٣٢
ودقة النظر، واستفاضت شهرته في الناس، وانتفع به خلقٌ كثيرون، وهو الذي بنى له
الوزير نظام الملك المدرسة النظامية في بغداد، يدرس فيها ويفتي.
ر السلطة الحاكمة في نصرة مذهبٍ عقديٍّ أو فقهي في بقائه وديمومته، لا يخفى أ
وإن كان ذلك لا يكفي وحده؛ فلا بد من وجود العلماء المتمكنين الذين ينصرون هذا
المذهب بالتصنيف والتدريس، ولا بد من وجود الهيئة التأصيلية للمسائل لضمان الثبات
والرواج.
وليس أدل على هذه الحقيقة من أن نصرة الدولة الفاطمية في مصر بكلِّ طاقتها
للفرقة الإسماعيلية لأكثر من مائتي عام لم تفلح في استقرار هذه الفرقة في مصر بعد زوال
الدولة الفاطمية، بل إنَّ الجامع الأزهر الذي بناه الفاطميون لبث عقيدة الإسماعيلية
وفقهها تحول إلى جامعة كبيرةٍ لتدريس فقه المذاهب الأربعة عند أهل السنة.
]، مكث خليفةً أربعين عامًا، وكان ١- الخليفة العباسي القادر بالله [ت: ٤٢٢
متفقهًا على مذهب الشافعية، وصنَّف كتابًا في أصول الفقه، وكان يقرأ في كل جمعةٍ بجامع
المهدي في حلقة أصحاب الحديث.
]، كان ٢- السلطان نصر بن إبراهيم بن نصر المُلَقَّب بشمس الملك [ت: ٤٩٢
ملكًا لبلاد ما وراء نهر جيحون للدولة العباسية، وقد تفقه على المذهب الشافعي وكان
رٌ في التمكين لعلماء الشافعية وقضاتهم في البلاد التي تحت خطيبًا فصيحًا، وكان له أ
حكمه.
١٣٣
و علي الحسن بن علي بن إسحاق الطوسي الملقب بنظام الملك [ت: ٣- الوزير أ
ب أرسلان ثم وزيرًا لابنه، بقي وزيرًا من سنة ]، كان وزيرًا للسلطان السلجوقي أ ٤٨٥
حيث قتله باطنيٌّ غيلةً بخنجر وكان شديدًا على الفرق الباطنية إلى سنة ٤٨٥ ٤٥٥
عامة والإسماعيلية خاصة.
امه دولة أهل العلم؛ فقد نصر ونظام الملك تفقه على مذهب الشافعية، وكانت أ
السنة وقرَّب العلماء وبنى تسع مدارس في كبرى المدن الإسلامية تشبه الجامعات اليوم،
رزها التي ببغداد، وتصدَّى للتدريس فيها سُمِّيت بالمدارس النظامية نسبةً له، كان من أ
الإمام الشيرازي، والتي بنيسابور، وأول من ولي التدريس فيها إمام الحرمين الجويني.
وكان عهده بركةً على أهل العلم، ويدل على عظيم منزلته أنَّ الإمام الجويني -
وهو من أكابر الشافعية في عصره- صنَّف له كتابًا في أحكام السياسة الشرعية ووجهه إليه
وسماه بالنظامي لكنه مفقود، ثم صنَّف كتابًا سماه الغياثي ووجهه إليه نسبة إلى غياث
قاب نظام الملك، وهو في أحكام السياسة الشرعية، وجعل قسمًا كبيرًا منه الدولة أحد أ
نى عليه ثناءً حسنًا. موجهًا إليه بعد أن أ
ر في وكان لنظام الملك اثنان من أقربائه من علماء الشافعية البارزين أصحاب الأ
و ]، وحفيده الأمير أ و المعالي الطوسي [ت: ٥١٥ خدمة المذهب هما: ابن أخيه الوزير أ
]، وكلاهما ممن درَّس في نصر محمد بن علي بن أحمد بن الوزير نظام الملك [ت: ٥٦١
المدارس النظامية.
رزها الأمور الأربعة الآتية: وأ
١٣٤
وف في هذه المرحلة أن يتولى فقهاء الشافعية لمناصب القضاء أ أولًا: صار من ا
في المشرق الإسلامي بعد استفاضة المذهب في الناس.
ثانيًا: انحسار ظاهرة الاجتهاد المطلق؛ فقد اشتغل أكثر العلماء بخدمة المصنفات
آل عن الاتجاه المباشر إلى القائمة وهضم ما فيها والبناء عليها فشغلوا من حيث النتيجة وا
باع إلى التعصب المذهبي، وتحولت فقه القرآن والسنة، وآل هذا الأمر عند بعض الأ
المناظرات الفقهية الهادئة التي تثري الفقه إلى ميدان للجدل المذموم بسبب الجهل والتقليد
المحض واتباع الهوى.
صا بالمذهب الشافعي؛ بل كان أمرًا مشتركًا بين سائر ولم يكن هذا أمرًا خا
المذاهب.
ثالثًا: ظهور موسوعات فقهية شافعية تعنى بالفقه المقارن، ومن أهمها: الحاوي
يف في المذاهب الأخرى كذلك. الكبير ونهاية المطلب، وحضر هذا النوع من التآ
وليس هذا أول ظهور لهذا النوع من المؤلفات؛ فقد ظهر في المرحلة الأولى من
هذا الطور كتاب الإشراف على مذاهب أهل العلم لابن المنذر، والإمام الشافعي من أول
من قرر هذه المنهجية، إلا أنَّ المصنفات في هذا الطور امتازت باستيعاب الأقوال وبسط
الأدلة والمناقشات وإيراد أقوال فقهاء الصحابة والتابعين وفقهاء المذاهب، مما جعلها
ا قبلها. ضخمةً في حجمها جامعة
رابعًا: تصنيف علماء الشافعية في أصول الفقه على ما سمي بطريقة المتكلمين:
والتي تقوم على تقرير القواعد الأصولية مجردة عن الفروع الفقهية مع الاستدلال العقلي
على ذلك.
١٣٥
وهذه الطريقة في مقابل طريقة الحنفية التي تقوم على ملاحظة الاجتهادات
الفقهية للأئمة المجتهدين، فهي تقرر القواعد الأصولية على مقتضى ما نقل عنهم من
ك الأئمة عندما اجتهدوا الفروع، على اعتبار أنَّ هذه القواعد هي التي راعاها أو
واستنبطوا من الفروع، وهذا المنهج يجعل الدرس الأصولي مزدحمًا بالمسائل والشواهد
والأمثلة.
يف، فالأصوليون الأحناف يعمدون إلى أقوال أئمتهم فالنظر إذن إلى منهج التأ
وفتاواهم ويستنبطون القواعد الأصولية في ظلال التصرفات الفقهية، فيستنطقون الأئمة
من خلال الفروع المدونة عنهم، ولهذا تسمى هذه الطريقة بطريقة الفقهاء؛ لأنها تعتمد على
الفقه مباشرة، حتى إنك لتجد رزمةً من الفروع الفقهية في سياق تقرير القاعدة الأصولية،
ولهذا لا تجد مصادمةً بين الأصول والفقه في المذهب الحنفي في الجملة.
الكية والشافعية والحنابلة.. فلا أما طريقة المتكلمين وهي طريقة الجمهور من ا
تتجه هذا المسلك، فلا تعمد إلى فتاوى أئمة المذهب والفقه المدون لاستخراج القواعد،
وإنما يقررون القاعدة ويستدلون لها من حيث هي بالأدلة الشرعية والعقلية، بغض النظر
عن السلوك العملي لرجال المذهب، ويرون أنَّ هذا من تمام الموضوعية، وأنَّ طريقةَ الحنفيةِ
التي تجعل الفروع أصلًا للأصول مخالفةٌ للمنطق.
وتسمية هذه الطريقة بطريقة المتكلمين لا تعني أنَّ من يسلكها هو من علماء
رت في جملةٍ الكلام المذموم الذي بدأ بترجمة علوم اليونان وإدخالها للحقل الشرعي حتى أ
من العقائد؛ وإنما المراد أنَّ هذه الطريقة هي التي تشبه طريقة علماء الكلام التي تقوم على
تقرير المسائل ومحاكمتها عقلًا، ولهذا لا تخلو طريقة الجمهور من الاستدلال العقلي على ما
يتجهون إليه في المسائل.
١٣٦
والحاصل: أنَّ التمايز بين الطريقتين هو تمايز منهج ونظر في طريقة التدوين
والتقرير للقواعد.
ولا يَطَّرِدُ ذلك في أئمة كلِّ مذهب؛ بل تجد من أئمة الحنفية من يسلك مسلك
المتكلمين في التصنيف، وتجد من أئمة الجمهور من يسلك مسلك الحنفية في التصنيف،
ولعلك وعيت بذلك أنَّ اتحادَ الجمهور في الطريقة لا يعني بحالٍ اتفاقَهُم في القواعد
والمسائل، وإلا لصاروا أقرب إلى الاتفاق في الفروع الفقهية.
رز الكتب في هذه المرحلة على طريقة المتكلمين: اللمع للشيرازي والبرهان ومن أ
للجويني والمستصفى للغزالي.
وكانت هذه المرحلة هي الفترة الذهبية في تاريخ علم أصول الفقه.
١٣٧
المبحث الرابع التنقيح الأول لمذهب الشافعية
٥٠٥ ه - ٦٧٦ ه] ]
يتضمن هذا المبحث ثلاثة مطالب: يعرض الأول منها الجهود التي سبقت عمل
الإمامين الرافعي والنووي، ويتناول الثاني جهودهما في تنقيح المذهب، بينما يشير الثالث
رز معالم هذا الطور من حياة المذهب، ودونك تفصيلَ ذلك: إلى أ
من الأحداث المؤثرة في القرن السادس في حياة المذهب عودته إلى موطنه مصر،
] الذي حكم مصر وبي [ت: ٥٨٩ وكانت العودة قويةً على يد السلطان صلاح الدين الأ
، واسترد بيت المقدس بعد معركة حطين سنة ٥٨٣ غى الخلافة الفاطمية سنة ٥٦٧ وأ
وجعل الدعاء على المنابر للخليفة العباسي المستضيء بالله.
ه كان حريصًا على نصرة ورغم اشتغال صلاح الدين بالجهاد ضد الصليبين إلا أ
فقهاء أهل السنة في مصر وغيرها من البلاد الخاضعة لسلطانه، وقرَّب العلماء وفسح لهم
صت إليهم، واستجاب لآرائهم ومقترحاتهم. السبل، وأ
يا، وكانت ولقي فقهاء المذهب الشافعي أحسن الرعاية من السلطان، وكان شافع
سيرته معهم قريبةً من سيرة نظام الملك الذي كان له دورٌ بارزٌ في تثبيت دعائم المذهب
الشافعي في المشرق الإسلامي كما مرَّ.
١٣٨
، رز الأعمال التي قام بها: بناؤه للمدرسة الناصرية في القاهرة سنة ٥٦٦ ومن أ
والتي كانت أول مدرسة اختصت بتعليم فقه أهل السنة بعد عهد الدولة الفاطمية، وبناؤه
، وهي منسوبةٌ إليه، وكانت مختصةً بتدريس الفقه كذلك للمدرسة الصلاحية سنة ٥٧٥
رز العلماء الذين درَّسوا فيها في عهد صلاح الدين: الشافعي، ومن أ
]، بلغت و العباس أحمد بن المظفر الدمشقي [ت: ٥٩١ ١- ابن زين التُّجَّار أ
ه منزلته في المدرسة الناصرية مبلغًا عظيمًا حتى اشتهرت بمدرسة ابن زين التُّجَّار، بحكم أ
أول من ولي التدريس بها، ثم عُرفت فيما بعد بالمدرسة الشريفية.
]، كان معظَّمًا و البركات محمد بن الموفق الخَبُوشَاني [ت: ٥٨٧ ٢- نجم الدين أ
ا بنيت فوض إليه أمر عند صلاح الدين، وهو الذي أشار إليه ببناء المدرسة الناصرية، و
التدريس فيها، وهو أول من دعا في خطبة الجمعة للخليفة العباسي المستضيء بالله معلنًا
زوال حكم الدولة الفاطمية في مصر بتوجيهٍ من صلاح الدين.
] دورٌ كريمٌ في تحفيز و علي اللخمي [ت: ٥٩٦ وكان للقاضي الفاضل أ
السلطان على التمكين لفقهاء أهل السنة عامة، وكان هو وزيره وكاتبه وأمين سره
ومستشاره الأول وصاحب الكلمة النافذة عنده، وكان من المتفقهين على المذهب
الشافعي، وولادته بعسقلان.
رز علماء الشافعية الذين خدموا المذهب خلال القرن السادس: ومن أ
١- الإمام الحسين بن مسعود البغوي [ت: ٥١٧ ]، وكان جامعًا بين الفقه
رز علماء الشافعية في بلاد خراسان بعد وفاة الإمام الغزالي، وله والحديث، واعتبر أ
مصنفاتٌ منها شرح السنة ومصابيح السنة، وكلاهما في فقه الحديث، ومعالم التنزيل وهو
في التفسير، والتهذيب في فقه الإمام الشافعي.
١٣٩
٢- الإمام محمد بن يحيى بن منصور النيسابوري، انتهت إليه رياسة الشافعية في
نيسابور، له مصنفاتٌ منها: المحيط في شرح الوسيط، والإنصاف في مسائل الخلاف، وله
عن اثنين وسبعين عامًا، أدبٌ وشعر، قتل شهيدًا في نيسابور في شهر رمضان سنة ٥٤٨
مخلفًا وراءه الكثير من التلاميذ النجباء!.
رز فقهاء الشافعية ]، كان أ ٣- الإمام شرف الدين ابن أبي عَصْرون [ت: ٥٨٥
بالشام بلا منازع، و كان معظَّمًا عند السلطان نور الدين زنكي، تولى قضاء دمشق سنة
، بنى مدرسةً تعرف بالعصرونية ودفن فيها. ٥٧٣
] صاحب التفسير والمؤلفات ٤- الإمام فخر الدين الرازي [ت: ٦٠٦
المشهورة، والتي تعتبر من الكتب الرئيسة في موضوعها؛ مثل كتاب المحصول في علم
الأصول، فهو من أهم كتب أصول الفقه على طريقة المتكلمين إن لم يكن أهمها على
الإطلاق؛ فقد أرسيت المؤلفات في الأصول عليه وعلى الإحكام للآمدي، ودارت
المؤلفات بعدهما عليهما.
التنقيح لغةً هو التهذيب، ويراد به في الاصطلاح تهذيب المذهب من الأقوال
المرجوحة والشاذة، وبيان المعتمد عند فقهائه في الفتوى؛ توحيدًا لمرجعية القضاة والمفتين
من المذهب في بيان الحكم الشرعي وفقًا لاجتهادات أئمتهم.
اسَّةُ للقيام بمشروع التنقيح للمذهب، ومرد وفي هذا الطور ظهرت الحاجةُ ا
ذلك: أنَّ عمر المذهب الآن يدنو من أربعة قرون، وفي هذه المدة الممتدة كثرت المصنفات
في المذهب كثرة كاثرة، وقد أقام مصنفوها في أزمنةٍ مختلفة وبقاعٍ متباعدة، وكان من
الطبيعي أن يوجد في الكتب من الاستنباطات المرجوحة أو الاجتهادات الشاذة أو
١٤٠
التخريجات المخالفة لأصول المذهب وقواعده، فأصبحت الحاجة ملحَّةً للقيام بعملية
تهذيب واسعة لتلك المصنفات الكثيرة على مدار القرون الأربعة، خاصة بعد استقرار
المذهب الشافعي وانتشاره في البلاد.
ر وأحسنه فتصدى إمامٌ عظيمٌ لهذا المشروع الضخم، والذي كان له أكبر الأ
و القاسم عبد الكريم بن محمد بن عبد وأجوده في تاريخ المذهب فيما بعد، وهو الإمام أ
]، فقام بأعباء هذا الكريم القزويني الرافعي مرجعية الشافعية في زمانه [ت: ٦٢٣
المشروع العظيم، ويسَّر الله له وفتح عليه.
والذي يمثِّل جهده في تنقيح المذهب ثلاثة كتب: المحرر واختصره من
الوجيز( ١)، وشرحه الصغير على الوجيز، وشرحه الكبير المسمى "العزيز شرح الوجيز".
وديدن العلماء المتقدمين الدندنة حول كتبٍ بعينها وصولًا إلى استظهارها
وتثويرها وإنتاج المعرفة منها، وديدنُ المتفقهةِ المعاصرين اليوم التنقلُ من كتابٍ إلى كتابٍ،
ومن بابٍ إلى بابٍ، ومن علمٍ إلى علم.
و زكريا يحيى بن شرف النووي [ت: واستلم الرايةَ بعد الإمامِ الرافعيِّ الإمامُ أ
رز فقهاء الشافعية في زمانه ]، الذي جمع بين العلوم، وأجاد في الفقه، حتى صار أ ٦٧٦
ه شرقًا وغربًا بلا منازعٍ وهو شاب، فانطلق يواصل مشروع التنقيح، وأعانه على ذلك أ
١) كما ذهب إلى ذلك البجيرمي، وقال ابن حجر: بل هو مستقل، وقال بعضهم: بل هو مختصرٌ من الخلاصة، )
ه مشتغل به، وكتب عليه شرحين، ه استفاد من الوجيز الاستفادة الأكبر، لا سيما أ والذي يقع في الظن أ
وهو الذي كتب كتابه "العلاوة والتذنيب" وهو عبارة عن فوائد على الوجيز، لكن الإمام الرافعي لم يكن
ادة وقد انصهرت بعلمه وعقله وثقافته، فإذا فاظ أقل، بل كان يعيد ا من النوع الذي يختصر المعلومة في أ
عرضها فكأنها غرسٌ جديد، والله أعلم.
١٤١
كان دقيق النظر، واسع الاطلاع على كتب المذهب المتداولة في عصره، أعطى العلم كل
وقته.
ه صنع منهجًا للترجيح، بسطه في مقدمة كتابه "المجموع"، ومن مهمات أعماله أ
وبنى جهده على جهد الإمام الرافعي، واقتات على إرثه، حتى شكَّل معه وحدةً واحدةً
تمثِّل التنقيحَ المركزيَّ الأول في تاريخ المذهب.
نا غزارة الإنتاج عند النووي؛ فالمنهاج اختصارُ ا رأ َّه لولا الرافعي وأحسب أ
المحرر، والروضةُ اختصار الشرح الكبير، فالرافعيُّ هو من يسَّر له الأمرَ ومهَّد له السبيل،
ليعيد غربلة المصنفات ويرمم ما بقي ويحسم الكلمة في جمهورٍ من المسائل.
وليس هذا تقليلًا من جهده، كلا؛ فإنه نظر في الإرث المتقدم وحقَّق وفتش ونقَّح
ونظر، فكتبه مؤلفات في صورة مختصرات، تتضمن من التحقيق الذروة السامقة منه، لكنه
استفاد في الجملة من تركة الإمام الرافعي.
ومن عيون مؤلفاته: المجموع شرح المهذب، ولم يكتمل، وشرحه على صحيح
مسلم، والأربعون النووية ورياض الصالحين والأذكار وتهذيب الأسماء واللغات، ومنها
فاظ التنبيه والفتاوى، ودقائق ضًا: الإيضاح في المناسك وتصحيح التنبيه وتحرير أ أ
المنهاج ودقائق الروضة والتنقيح والتحقيق ولم يكتملا، والتبيان في آداب حملة القرآن،
وغير ذلك.
وكان الناس قبل الرافعي والنووي يعتمدون مهذَّب الشيرازي ووسيط الغزالي،
فكانا الأكثر تمثيلًا للمذهب الشافعي، فلما جاءا اشتغل الناس بهما وصارا من الشخصيات
المحورية في مسيرة المذهب، حتى إنه لا يعتمد على الكتب المتقدمة عليهما إلا بعد التحري
ه المذهب. والفحص حتى يغلب على الظن أ
١٤٢
وليس هذا دعوةً لهجر المصنفات السابقة لهما؛ بل قد يوجد فيها ما لا يوجد في
غيرها، وإذا كان العلم بالمعتمد في المذهب يعرف من كتب المتأخرين.. فإنَّ بناءَ العقل
وصياغةَ منهج النظر ومعرفة سر صناعة المعرفة وطريق الوصول إلى الراجح أمور تحصل
بإدمان النظر في كتب المتقدمين، وكم ضيَّع طلب المعتمد وملاحقته من فرصةٍ لبناء عقلٍ
فقهيٍّ راشد يعرف طريقَ الإمامةِ في الدين!.
رزها في الأمور الثلاثة الآتية: وأ
أولًا: وجود التقليد المذموم والتعصب المذهبي: والتقليد المذموم هو الاشتغال
بأقوال المذهب من غير طلب الدليل، ولم تخل المرحلة من محاولاتٍ اجتهاديةٍ من أهمها ما
ا رسخت قدمه في الفقه اتجه إلى ]؛ فإنه كان من العز بن عبد السلام [ت: ٦٦٠
الاجتهاد المطلق، وله مصنفاتٌ نافعة من أهمها قواعد الأحكام والغاية في اختصار النهاية،
ما عناية، وكان من دعاة الجهاد في سبيل الله وله مواقف مشهودة. وكان معتنيًا به أ
وكذلك ما كان من الإمام أبي القاسم شهاب الدين المقدسي المعروف بأبي شامة
]، وسمي بذلك لشامةٍ كبيرةٍ كانت فوق حاجبه، وأصله من القدس، أخذ [ت: ٦٦٥
قن النحو وعلوم العربية وصنَّف فيها، وهو مشاركٌ في عن العز بن عبد السلام، وأ
العلوم.
وله مصنفاتٌ منها: تاريخ دمشق ومختصره، والمرشد الوجيز في علوم تتعلق
بالكتاب العزيز، والوصول في الأصول، وشرح سنن الحافظ أبي بكر البيهقي، ومختصر
كتاب المؤمَّل للرد إلى الأمر الأول، وهذه الكتب بعضها موجود مطبوع وبعضها مفقود
وبعضها مخطوط.
١٤٣
ه دعا إلى فتح باب الاجتهاد المنضبط بالقواعد المعتبرة في ومن أهم ما يؤثر عنه أ
ه بلغ الاجتهاد المطلق أو قريبًا منه. أصول الفقه، وذكر غير واحدٍ أ
ومن رأى حاله وعى مقاله؛ فربما وجدتَ من يستشهد بكلامه على فتح باب
الاجتهاد ويأخذ في الاجتهاد وهو لم يسلك مسلكه، ولا حمل عدَّته، ونظرةٌ خاطفةٌ
مشحونةٌ بالتأمل في ترجمته وأسماء مصنفاته تريك أي رجلٍ هو!.
ثانيًا: تطوير التصنيف الأصولي وولادة منهجيات جديدة: وذلك من خلال ظهور
الأمرين الآتيين:
الأول: طريقة الجمع بين طريقتي المتكلمين والفقهاء، وهي تقوم على جمع محاسن
كلِّ طريقة، فتعرض القواعد الأصولية وتناقشها وتقيم الأدلة على إثباتها مقارنة بين ما قاله
كلٌّ من المتكلمين والفقهاء في شأنها، مع الإتيان ببعض الفروع المخرَّجة على تلك
القواعد.
رز المصنفات على هذه الطريقة: "بديع النظام الجامع بين أصول البزدوي ومن أ
،[ والإحكام" من تصنيف الإمام مظفر الدين أحمد بن علي الساعاتي الحنفي [ت: ٦٩٤
جمع فيه بين كتاب "كنز الوصول إلى معرفة الأصول" وهو على طريقة الحنفية صنَّفه الإمام
] وكتاب "الإحكام في أصول الأحكام" وهو فخر الدين البزدوي الحنفي [ت: ٤٨٢
.[ على طريقة المتكلمين، صنفه الإمام سيف الدين الآمدي [ت: ٦٣٠
الثاني: طريقة تخريج الفروع على الأصول: وهي تقوم على ربط الفروع الفقهية
بالقواعد الأصولية التي استنبطت تلك الفروع بالاستناد إليها، مع مناقشة القاعدة وما
حصل فيها من اختلافٍ بين العلماء بصورةٍ إجمالية.
١٤٤
والتخريجُ -كما عرَّفه الدكتور الباحسين- هو العلمُ الذي يبحث عن علل
الأحكام الشرعية أو مآخذها لردِّ الفروع إليها بيانًا لأسباب الخلاف، أو لبيان حكم ما لم
.( ه نصٌّ عن الأئمة بإدخاله ضمن قواعدهم أو أصولهم( ١ يرد بشأ
ه أن يُخرِجَ الأصولَ من الجانبِ النظريِّ إلى الجانبِ التطبيقي، وهذا من شأ
فيحصل الإخاء والربط بينه وبين الفقه.
رز كتب هذا الفن: "تخريج الفروع على الأصول" لشهاب الدين محمود بن ومن أ
]، و "التمهيد في تخريج الفروع على الأصول" للإمام الإسنوي أحمد الزنجاني [ت: ٦٥٦
.[ [ت: ٧٧٢
رزهم: ثالثًا: تفقه عددٍ من كبار المحدثين في هذا العصر بالمذهب الشافعي: من أ
و السعادات المبارك بن محمد الشيباني ير الجزري، الإمام مجد الدين أ ١- ابن الأ
]، صاحب جامع الأصول والنهاية في غريب الحديث والشافي في شرح مسند [ت: ٦٠٦
الشافعي.
و عمرو عثمان بن عبد الرحمن الكردي [ت: ٢- ابن الصلاح، الإمام تقي الدين أ
قن المذهب أصولًا وفروعًا، وبرع في الحديث روايةً ودراية، وكان ذا همةٍ في ] أ ٦٤٣
التدريس والتصنيف، وإذا أطلق الشيخ في علوم الحديث.. فهو المراد، من مصنفاته:
واع علم الحديث المعروف بمقدمة ابن الصلاح، وطبقات الفقهاء الشافعية، معرفة أ
وتعليقاتٌ على الوسيط للغزالي.
.(٥٥- ١) انظر باعثه على هذا التعريف في كتابه التخريج عند الفقهاء والأصوليين ص ( ٥٣ )
١٤٥
٣- الحافظ المنذري، زكي الدين عبد العظيم بن عبد القوي المنذري [ت: ٦٥٦
]، تفقه على المذهب الشافعي، وسمع الحديث ورحل في طلب العلم، وكان راسخ القدم
في معرفة غريب الأحاديث والآثار ومعانيها، له مصنفاتٌ منها: الترغيب والترهيب من
الحديث الشريف، ومختصر صحيح مسلم، وشرح التنبيه للشيرازي في الفقه.
بقيت الإشارةُ في ختام هذا المبحث أنَّ هذا الطور من تاريخ المذهب شهد أحداثًا
سياسيةً عنيفةً نزلت بالمسلمين في العراق وبلاد الشام ومصر، تمثلت بالغزو الصليبي لبلاد
الشام في حملاتٍ متتاليةٍ، ثم الغزو التتري للعراق والشام وما تخلل ذلك من حروبٍ
واقتتالٍ بين أمراء الممالك حتى تحالف بعضهم مع الصليبيين، وسقوط بغداد على يد
وما جرى فيها من مقتلةٍ كبيرةٍ وأهوالٍ عظيمة. هولاكو سنة ٦٥٦
وقد نزلت بأهل ذلك العصر محنٌ وابتلاءاتٌ شديدةٌ من جرَّاء تلك الأحداث،
ومع ذلك استمرَّت مادةُ العلمِ في الأمة؛ لانفكاك الحالة العلمية عن الحالة السياسية،
فضلًا عن أنَّ أهل العلم لا يقعدون ولا يقنطون، ولهم مواقف صالحة ومواطن مشهودةٌ
ومبرورةٌ في الجمع بين الجهاد والعلم، وقد تحدثت عن هذا الأمر وما يتعلق به من فقهٍ
ومفاضلةٍ في كتاب "الرباط وأحكامه في الفقه الإسلامي"، وهو منشورٌ على الشبكة،
فينظره من شاء.
١٤٦
المبحث الخامس التنقيح الثاني لمذهب الشافعية
٦٧٦ ه - ١٠٠٤ ه] ]
قام هذا المبحثُ على ثلاثة مطالب: يعرض الأول الجهود التي سبقت عمل
الإمامين ابن حجر الهيتمي وشمس الدين الرملي في خدمة المذهب، ويفصِّل الثاني في
رز معالم هذا جهودهما في القيام بأعباء التنقيح الثاني للمذهب، بينما يشيرُ الثالث إلى أ
الطور، هذا الإجمال ودونك التفصيل:
صاري. والتي امتدت من وفاة الإمام النووي إلى وفاة الشيخ زكريا الأ
رز الجهود هي لعلماء الشافعية في مصر وبلاد الشام، وتزامنت هذه وكانت أ
المرحلة مع العهد المملوكي نسبةً إلى دولة المماليك، والذين حكموا مصر من سنة ٦٤٨
، وانقسم العهد المملوكي إلى مرحلتين: إلى سنة ٩٢٣
المرحلة الأولى: دولة المماليك البحرية، ويسمون بالصالحية نسبةً إلى السلطان
، بك، وقتل سنة ٦٥٥ وب، وأول سلاطينهم عز الدين أ وبي الصالح نجم الدين أ الأ
، وتعاقب على حكم دولتهم وآخرهم السلطان الصالح حاجي، وتم خلعُه سنة ٧٩٢
ثمانيةٌ وعشرون سلطانًا، قُتِل منهم تسعة وخُلِع اثنا عشر.
المرحلة الثانية: دولة المماليك البُرجية، ويسمون بالجَرَاكِسَة؛ نسبةً إلى أصولهم التي
ينتمون إليها، وموطن الجَرَاكِسَة هو الأرض المشرفة على البحر الأسود من جهة الشمال
١٤٧
الشرقي، وكانت بلادهم مسرحًا للحروب فأُسِرَ الكثيرُ منهم وسيقوا إلى أسواق الرقيق،
فاشترى السلطان المنصور قلاوون عددًا كبيرًا منهم، والتسمية بالبرجية نسبة إلى القلعة
ا جاء بهم. التي وضعهم فيها السلطان قلاوون
]، وآخرهم السلطان قَانْصُوه وأول سلاطينهم الظاهر برقوق [ت: ٨٠١
، وجاء بعده ابن أخيه السلطان طومان باي وقُتِل سنة ٩٢٣ الغُورِي، وقُتِل سنة ٩٢٢
وتعاقب على حكم دولتهم سبعةٌ وعشرون سلطانًا، قُتِل منهم سبعة وخُلِع اثنا عشر.
وبشكلٍ عام فقد اتَّصف العهدُ المملوكيُّ بالعزلةِ عن العالم الخارجي وضعف
الاتصالات مع الحضارات آنذاك؛ بسبب الحروب المتلاحقة في المنطقة ضد الصليبيين
ا سببته هذه الحروب من اضطراب الأمن على طرق التجارة وتعطيل والتتار، بالإضافة
الصناعة والإضرار بالزراعة، وثلاثتها أركان الحياة الاقتصادية، وانعكس هذا سلبًا على
الحياة الاجتماعية فانتشر الفقر والحاجة بين الناس.
وهذه الأجواء تؤثر بلا أدنى شكٍّ على الحياة العلمية، لكنها لا تصل إلى درجة
ا تقدَّم من انفكاك السلطة العلمية عن السلطة الانهيار كما يحصل في الحياة السياسية؛
السياسية، ولهذا لم تخل المرحلة من جهودٍ كريمةٍ في خدمة المذهب أصولًا وقواعد
رز الأعلام الشافعية في هذه المرحلة هؤلاء التسعة: وفروعًا، ومن أ
قن المذهب، وانتهت إليه ]، أ ١- الإمام نجم الدين أحمد ابن الرفعة [ت: ٧١٠
رياسة الشافعية بمصر، وولي حسبةَ الوجهِ القبلي في مصر، وله مصنفاتٌ منها: الكفاية في
شرح التنبيه للشيرازي، والمطلب في شرح الوسيط للغزالي.
]، أخذ عن ابن الرفعة، وقد ولي ٢- الإمام تقي الدين السبكي [ت: ٧٥٦
القضاء في بلاد الشام، وأُضِيفَت إليه الخطابةُ في الجامع الأموي بدمشق، وكان لا يخشى في
١٤٨
قن المذهب أصولًا وفروعًا، له مصنفاتٌ منها: الابتهاج في شرح المنهاج الله لومةَ لائم، أ
للنووي في الفقه، والإبهاج في شرح المنهاج للبيضاوي، لكنه وصل فيه إلى حدِّ الواجب،
ثم انصرف عنه وأكمله ولده، رحل في آخر حياته إلى القاهرة وتوفي فيها.
] وهو ابن الإمام تقي الدين، وعنايةُ ٣- الإمام تاج الدين السبكي [ت: ٧٧١
والده به كانت وافرة في العلم والأدب والتربية.
ه كان لا يسمح له بالنوم بعد منتصف الليل ولو بأن ومما أعجبني في سياسته أ
يلعب، تفقه تاج الدين على والده، ولازم الذهبي والمزي، وخلف والده على قضاء الشام،
وكان قوي الحجة دقيق الاستنباط والنظر.
ولتاج الدين مصنفاتٌ طارت في الناس شهرةً منها: طبقات الشافعية، ورفع
الحاجب عن مختصر ابن الحاجب، والإبهاج شرح المنهاج.
ومختصر ابن الحاجب ومنهاج البيضاوي هما المتنان العظيمان اللذان اشتغل العلماء
بهما، وبكتابة تاج الدين شرحٍ على كلٍّ منهما صار مستوعبًا لهما، فشق طريقه إلى المتون
ه جمع فيه المتون الجامعة التي انتهى اشتغال وكتب كتابه: "جمع الجوامع"؛ إشارةً إلى أ
العلماء إليها.
ا كان قاضيًا وعُزِل غير مرةٍ وسُجِن لكنه صبر حتى عاد وقد امتحن رحمه الله
إلى القضاء مكرمًا.
]، أخذ عن تقي الدين السبكي، ٤- الإمام جمال الدين الإسنوي [ت: ٧٧٢
وحفظ التنبيه للشيرازي، وكان راسخ القدم في أصول الفقه، كان زاهدًا كثير العطف على
ال بمصر ثم عزل نفسه متفرغًا للتدريس والتصنيف. الفقراء والمساكين، تولى بيت ا
١٤٩
من أهم مؤلفاته: نهاية السول شرح منهاج علم الأصول للبيضاوي، ولعله أفضل
شروح المنهاج، وطبقات الشافعية، والمهمات في شرح الروضة والرافعي، والمبهمات على
الروضة للنووي، وهو كتاب استدرك فيه على النووي عددًا من تحقيقاته في كتابه الروضة.
]، ولد في أذرعات الشام وإليها ٥- الإمام شهاب الدين الأذرعي [ت: ٧٨٣
ينتسب، وهي المعروفة اليوم ب "دَرْعَا"، رحل إلى القاهرة وأخذ عن كبار علمائها، وكان
فقيه النفس صادق اللهجة ورعًا، له مصنفاتٌ منها: غنية المحتاج وقوت المحتاج، وكلاهما
شرحٌ لمنهاج النووي، وجمع التوسط والفتح بين الروضة والشرح، جمع فيه بين الروضة
للنووي والشرح الكبير للرافعي مع الاختصار والإيجاز.
]، أخذ عن الإسنوي في مصر، ثم ٦- الإمام بدر الدين الزركشي [ت: ٧٩٤
قن المذهب أصولًا وفروعًا، وله رحل إلى دمشق وحلب وأخذ عن الأذرعي، وأ
مصنفاتٌ منها: البحر المحيط وتشنيف المسامع بجمع الجوامع، والمنثور في القواعد،
والديباج في توضيح المنهاج للنووي وإعلام الساجد بأحكام المساجد.
]، حفظ القرآن الكريم وهو ابن ٧- الإمام سراج الدين البلقيني [ت: ٨٠٥
سبع سنين، ثم حفظ المحرر، وكان سريع الحفظ قوي الذاكرة، أخذ عن علماء القاهرة،
رز أعلام الشافعية في عصره بلا منازع، وحفظ المذهب أصولًا وفروعًا، حتى صار أ
ه استجمع شروطَ الاجتهاد المطلق، ولُقِّب بشيخ الإسلام، وذكر بعضُ من ترجم له أ
ائة التاسعة، له مصنفاتٌ منها: تصحيح المنهاج وشرح ه كان المجدد للأمة على رأس ا وأ
سنن الترمذي.
]، برع في علوم الشريعة عامة وفي ٨- الإمام جلال الدين المحلي [ت: ٨٦٤
المذهب الشافعي أصولًا وفروعًا خاصة، وكان مهيبًا عند الخاصة والعامة، وغلب الفهم
١٥٠
عنده على الحفظ، وكان مفرط الذكاء دقيق النظر والاستنباط، عاش متقشفًا يأكل من
كسب يده في التجارة ورفض تولي القضاء، وكان شديدًا في الحقِّ لا يخشى في الله لومةَ
لائم.
له مصنفاتٌ كثيرةٌ منها: البدر الطالع في حلِّ جمع الجوامع، وشرح الورقات، وكنز
الراغبين في شرح منهاج الطالبين، وهو صاحب التفسير الذي أكمله السيوطي المشهور
بتفسير الجلالين، ولكتبه في الناس قبولٌ عجيب.
]، تلقى العلم في الأزهر، وأخذ صاري [ت: ٩٢٦ ٩- شيخ الإسلام زكريا الأ
قن علوم العربية عن علماء عصره كالحافظ ابن حجر، ضبط الأصول وحفظ الفروع وأ
وسمع الحديث حتى غدا فقيه الديار المصرية بلا منازع، وصار تلاميذه علماء عصرهم
بعده، وهو مجمع الأسانيد، ولي قضاء القضاة في مصر، وكان كثير الصدقات والتعبد، وقد
ائة العاشرة. َّه المجدد للأمة على رأس ا وصفه بعض من ترجم له بأ
وهو مكثرٌ من التصنيف في عِدَّةِ علوم، ومن عيون مصنفاته في الفقه وأصوله:
غاية الأصول إلى علم الأصول، والغرر البهية شرح البهجة الوردية في الفقه الشافعي،
ومنهج الطلاب وهو مختصر منهاج الطالبين، وتحرير تنقيح اللباب وهو مختصر تنقيح
اللباب لولي الدين ابن العراقي، وتحفة الطلاب شرح تحرير تنقيح اللباب، وأسنى المطالب
شرح روض الطالب، وشرح زبد ابن رسلان.
كلم بنبذةٍ عنهما: وبين يدي بيان جهود الإمامين أ
١٥١
و العباس أحمد بن محمد بن حجر أما الهيتمي.. فهو الإمام شهاب الدين أ
الهيتمي، ولد في محلة أبي الهيتم بمصر وإليها ينتسب، ثم انتقل للأزهر وأخذ عن كبار
صاري وشهاب الدين الرملي، واستوطن مكة علمائه وفي مقدمتهم شيخ الإسلام زكريا الأ
وجاور بالمدينة مرات، ودرَّس الفقه الشافعي في الحرمين، وذاع صيته حتى غدا المرجع
يه الأسئلة من سائر الأمصار. الأول للشافعية في بلاد الحجاز واليمن وغيرهما، وكانت تأ
ومن مصنفاته: تحفة المحتاج شرح المنهاج والمنهاج القويم شرح المقدمة
الحضرمية والفتاوى، وتناول الدكتور أمجد رشيد شخصيته في رسالةٍ علميةٍ عنه بعنوان:
ره في الفقه الشافعي"، توفي رحمه الله في مكة المكرمة سنة "الإمام ابن حجر الهيتمي وأ
. ٩٧٤
وأما الرمليُّ.. فهو الإمام شمس الدين محمد بن أحمد بن حمزة الرملي المشهور
بالشافعي الصغير، نسبته إلى قرية الرملة من قرى المنوفية بمصر، أخذ أكثر العلم عن
يه أصبح مفتي الشافعية ]، وبعد وفاة أ والده، وتلقى عن الخطيب الشربيني [ت: ٩٧٧
في مصر، من مصنفاته: نهاية المحتاج في شرح المنهاج، وغاية البيان شرح زبد ابن رسلان،
صاري وشرح الإيضاح في مناسك الحج للنووي. وشرح التحرير لزكريا الأ
أما عن جهدهما الفقهي.. فلا بد أن يستحضر أنَّ المذهب قد استقرَّ بعد الإمام
النووي، بحيث إنه صار منضبطًا وعُرِف المعتمدُ من غيره، إلا أنَّ جهد ابن حجر والرملي
انصب على ردم الفجوات الباقية في جدار المذهب، وذلك من خلال شرحِ كلٍّ منهما على
المنهاج، ومن ذلك:
أ - بيان الحكم الشرعي الذي يتبناه المذهب في المسائل التي لم يتعرض لها
الإمامان الرافعي والنووي.
١٥٢
ب - الترجيح والتصحيح في مسائل خلافيةٍ يحكيها النووي أوجهًا دون أن يصحح
فيها شيئًا، وكذا فيما تكلم عليه المتقدمون دون أن يصحح الإمامان فيه قولًا.
ت - بيان القول المعتمد من أقوال النووي عند تعارضها في مصنفاته.
ث - الكلام في المسائل المستجدة التي يتحتم معرفة حكمها الشرعي في المذهب.
ج - الاستدراك على الإمام النووي فيما سها فيه أو أخطأ؛ فإنه بشر يردُ عليه الخطأ؛
.( فقد يصحح ما ليس صحيحًا ويرجح ما ليس راجحًا( ١
فإن قيل: ما الفرق بين التنقيحين الأول والثاني للمذهب؟
فالجواب: أنَّ جهد الرملي لم يكن تتميمًا لجهد الهيتمي كحال النووي مع الرافعي،
ثم إنَّ الرافعي والنووي قاما بمراجعةٍ شاملةٍ لمصنفات المذهب على مدار أربعة قرون،
وقد حملت عددًا هائلًا من الاجتهادات والتخريجات على غير معتمد المذهب، فكان عبء
مراجعتها والتدقيق فيها يتطلب جهدًا كبيرًا، بينما اقتصر جهد الهيتمي والرملي على مراجعة
إرث علماء الشافعية خلال القرنين الثامن والتاسع التي دارت في فلك تنقيح الرافعي
والنووي، ولم يشتغل الرافعي والنووي على مصنفاتِ أحدٍ بعينه.
وبعد هذا الجهد صار تعويلُ المتأخرين على التحفة والنهاية، لا سيما مع فضيلة
التحقيق التي تحلى بها كلٌّ من الكتابين؛ أما التحفة.. فلما فيها من إحاطةٍ بنصوص الإمام
مع مزيدِ تتبعِ المُؤَلِّفِ لها، وقراءة المحققين لها عليه، وأما النهاية.. فقد قُرئت على المؤلف
في أربعمائة من العلماء، فنقدوها وصححوها حتى بلغت صحَّتُها حدَّ التواتر.
.( ١) المدخل إلى مذهب الإمام الشافعي لفهد الحبيشي ص ( ٣١ )
١٥٣
وكما اختلف النووي مع الرافعي في بعض الترجيحات.. فقد اختلف الشمس
ضًا، وصُنِّف في المسائل المختلف فيها غيرُ كتابٍ منها: الرملي مع ابن حجر الهيتمي أ
المنهل النضَّاح في اختلاف الأشياخ لابن القَرا داغي، وإثمد العينين في بعض اختلاف
الشيخين للشيخ علي باصبرين، وفتح العلي بجمع الخلاف بين ابن حجر وابن الرملي لعمر
الحضرمي، وهذا في ربع العبادات خاصة، ويعقب على المسائل الخلافية ببحوثٍ ونقولٍ
نفيسة.
ه تنقيحٌ إنما يتأكد بعده ممن يراجع ويدقق بقي التنبيهُ إلى أنَّ وصف جهد إمامٍ ما بأ
ويُقَيِّم ويعتمد، ومن ثم تبدأ الخدمةُ له بالمدارسة والشرح والاختصار وغير ذلك.
رزها الأمور الثلاثة الآتية: وأ
أولًا: الابتعاد عن طريقة الإمام الشافعي في التصنيف:
وذلك أنَّ الإمام الشافعي كان يفسر آيات القرآن ويشرح الأحاديث والآثار
ة الباب، مع مناقشته مسائل أصول الفقه وقواعده إن مستنبطًا من ذلك حكم الله في مسأ
اقتضى الأمر، بالإضافة لمحاورته الهادئة لآراء المخالفين له في اجتهاده بمنهجيةٍ محكمةٍ
تبني الملكة الفقهية عند المتفقه.
دا، وتزدحم بأقوال أئمة أما المصنفات الفقهية في هذا الطور فتُقِلُّ من ذلك ج
المذهب والمقارنة بينها والعناية بالشروط والقيود دون التوسع في مادة الوحي كتابًا وسنة،
إلا هناك في كتب آيات الأحكام وأحاديث الأحكام.
والحقيقة أنَّ هذه الملاحظة محلها في كتب ما بعد المرحلة الأولى من التلقي؛ فلا
تثريب على المبتدئ أن يفقه المسائل من غير توسع، ثم إن أحسن تصورها عرف دليلها
١٥٤
ومأخذها، ثم ارتقى لمعرفة رأي المخالف ودليله ومناقشته وما إلى ذلك من سياسة الفقه
المقارن في عرض المسائل.
باع المذهب ينفر من الفكرة التي عرضها الدكتور أكرم القواسمي وفقه وأكثر أ
يف مشحونةً بالنَّفس الله، لكن الذي نحتاجه في مستوى المنهاج أن تكون مادة التأ
الأصولي ومناقشات الأدلة من الكتاب والسنة والأقيسة الصحيحة، وحضور مادة الآثار
الواردة عن الصحابة والتابعين، مع سياسة فقه الخلاف ولو كان نازلًا؛ أي: داخل
المذهب، فحيث اختلط الفقه مع الأصول واللغة والقواعد والآيات والأحاديث وأسس
فقه الخلاف.. فهنا مصنع بناء العلماء والراسخين في العلم، وما زال شرح المنهاج وفق هذا
المنهج مشروعًا لديَّ من سنين، يسَّر الله بلوغه والتفرغ له.
ثانيًا: وجود بعض محاولات إحياء الاجتهاد:
رز أعلامها: ومن أ
١- ابن دقيق العيد، الإمام تقي الدين محمد بن علي بن وهب المنفلوطي [ت:
قن المذهب يا، أ ا ثم صار شافع ]، أخذ عن العز بن عبد السلام، ونشأ مالكي ٧٠٢
أصولًا وفروعًا، وأفتى وصنَّف على المذهبين، وولي القضاء في مصر مرات، من أهم
مصنفاته: إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام، واختلطت فيه مادة الفقه بالأصول، وهو
من أفضل الكتب في بابه، ومغبونٌ من لم يقرأه.
]، نشأ يتيم الوالدين ٢- الحافظ أحمد بن علي بن حجر العسقلاني [ت: ٨٥٢
قنه، وأخذ عن كبار الشافعية في عصره ومنهم فرعاه أحد أوصيائه، تفقه بالمذهب وأ
سراج الدين البلقيني، وبرع في الحديث، وكان عارفًا بالرواة وأحوالهم، وتميز بالأسانيد
١٥٥
العالية، ولي قضاء القاهرة وما حولها مرات، وكانت سيرته في القضاء حميدة، وكان غزير
زله الله له بقلوب العباد. يف مع قبولٍ عجيبٍ أ التأ
من عيون مؤلفاته: تعجيل المنفعة بزوائد الأئمة الأربعة ولسان الميزان وتهذيب
التهذيب، وهي في أسماء رواة الحديث وأحوالهم، ونخبة الفكر في المصطلح، وشرحها في
"نزهة النظر في توضيح نخبة الفكر"، وتوالي التأسيس لمعالي محمد بن إدريس، وهو في
مناقب الإمام الشافعي، وبلوغ المرام من أدلة الأحكام، وفتح الباري شرح صحيح
البخاري.
وهذا الكتاب الذي سدَّ الأفق عما قبله وزهَّد فيما بعده إلا للمختص، وكان يبسط
القول في شرح الحديث، ويورد الأقوال ويحشد الروايات والشواهد والمتابعات ويستدل
ويناقش مع النفس الأصولي.
وهذا ما جعل الشيخ حافظ سناء الله الزاهدي يمنح هذا الجانب جزءًا من كتابه
المفيد: "توجيه القاري إلى القواعد الأصولية والفوائد الأصولية والحديثية والإسنادية في
فتح الباري"، وبالجملة؛ فإنَّ فتح الباري من أفضل المؤلفات الشافعية في هذا الطور وهو
من فتح الله العظيم على صاحبه.
]، أخذ عن ٣- الإمام جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي [ت: ٩١١
أكابر علماء عصره، ورحل إلى بلاد الشام والحجاز واليمن والمغرب وغيرها، وسمع
قن المذهب أصولًا وفروعًا، وضبط اللغة حتى كملت الحديث وبرع فيه روايةً ودراية، وأ
عنده آلات الاجتهاد.
١٥٦
يف في منطقةٍ على ضفاف ا بلغ الأربعين من العمر اعتزل الناس وانقطع للتأ و
النيل، وبقي كذلك حتى توفي، وكان الأغنياء والأمراء يزورونه في خلوته ويعرضون عليه
الأموال فيردها، وكثيرًا ما رفض دعوة السلطان المملوكي لحضور مجلسه.
ف في خلوته أكثر من ٦٠٠ كتاب، وبارك الله له في قلمه، ومن عيون مؤلفاته: أ
ور، والديباج على صحيح مسلم بن أ الإتقان في علوم القرآن، والدر المنثور في التفسير با
الحجاج، وتدريب الراوي في شرح تقريب النواوي، والأشباه والنظائر في القواعد
الفقهية.
ثالثًا: ظهور التصنيف في القواعد الفقهية عند الشافعية في هذا الطور:
والقاعدة الفقهية هي "قضيةٌ فقهيةٌ كُلِّيَّةٌ، في نُصوصٍ دُستوريةٍ مُوجزة، تتضمن
وابٍ متعددة، في الحوادث التي تدخل تحت موضوعها". فروعًا تشريعية، من أ
ومن فوائد القواعد: أنها تلم شعث الفروع في أوعيةٍ محددة، وتعين على استحضار
الأحكام، وعلى تخريج المستجدات، وتشارك بسهمٍ في التربية على الملكة الفقهية.
ودرس القواعد هو درسٌ في الفروع، إلا أنَّها تعرض بطريقة الموضوع الجامع
وابٍ متعددة، ولهذا لا يطيب درس القواعد ولا يؤدي وظيفته على الوجه لأحكامٍ من أ
الذي ينبغي إلا بعد أن ينجز المتفقه طرفًا من كتب الفروع ولو كتابًا واحدًا مستوعبًا
لأمهات المسائل.
فتعود جذور العناية بها إلى القرن الرابع الهجري ..
] التي جمع فيها ٣٩ قاعدةً في حيث رسالةُ الإمامِ أبي الحسن الكرخي الحنفي [ت: ٣٤٠
يفِ في الباب. الفقه الحنفي، وتُعتبرُ أولَ نواةٍ للتأ
١٥٧
] في كتابه: واستهل الرحلة الشافعية الإمام العز بن عبد السلام [ت: ٦٦٠
ام"، وقد تحدث فيه عن قاعدة جلب المصالح ودرء "قواعد الأحكام في مصالح الأ
المفاسد وما يتشقق عنها من بحوثٍ ومسائل وآفاق.
] حيث صنَّف كتابه: ثم استلم الراية من بعده ابنُ الوكيل الشافعي [ت: ٧١٦
"الأشباه والنظائر"، وهو أول من صنَّف بهذا العنوان، ليكون أسوةً لمن بعده كابن الملقن
والسبكي والسيوطي، وقد جمع في كتابه ثلةً من القواعد الأصولية والفقهية لكن دون
ادة في صيغة قاعدةٍ أحيانًا، وفي صورة النمط المعتاد في صياغة القواعد، فكان يعرض ا
سؤالٍ وجوابٍ أحيانًا، أو يقرر المعنى مباشرة.
] في كتابه: "المجموع المُذهَب ثم تولى زمام الرحلة الإمام العلائي [ت: ٧٦١
في قواعد المذهب"، ويغلب عليه طريقة تخريج الفروع على الأصول والجمع بين القواعد
الأصولية والفقهية، والكتاب يعد خلاصةً مركزةً للمؤلفات التي سبقته.
] في كتابه: "الأشباه واستكمل الرحلة تاج الدين ابن السبكي [ت: ٧٧١
والنظائر"، ممتازًا كتابه بجمال الصياغة وجودة العبارة، وحسن الترتيب، وجمع فيه بين
القواعد والضوابط التي سماها بالقواعد الخاصة، ومجمل ما ذكره يقارب ستين قاعدةً
وضابطًا.
] بتصنيفه البارع: "المنثور وقاد المسيرة من بعده بدرُ الدينِ الزركشي [ت: ٧٩٤
في القواعد الفقهية"، جمع فيه قريبًا من مائة قاعدة، وهو من أحسن الكتب في الباب، وقد
ى عليه بنكتٍ أو ٩٤٧ ] بالتعليق والتحقيق، وأ تعقبه سراج الدين العبادي [ت: ٩٤١
نفيسةٍ، واجتهد في استدراك ما تفلَّت منه.
١٥٨
] حيث صنَّف كتابه: "الأشباه وجاء من بعده العلامة ابن الملقن [ت: ٨٠٤
واب الفقهية، ولم يسبقه أحدٌ في ذلك، ونقحه ه رتبه على الأ والنظائر"، وتميز عن غيره بأ
وبين فيه ما وقع فيه الاختلاف وما يُفتى به عند الخلاف.
] الذي شكَّل في كتابه و بكر الحصني [ت: ٨٢٩ وأمسك القلم من بعده أ
القواعد مزيجًا من القواعد الأصولية والفقهية، مع التعرض لأدلتها وشرحها وتحليلها،
وقد اقتبس كثيرًا من سلفه العلائي.
إلى أن وصل القلم للإمام السيوطي فراح يخط كتابه: "الأشباه والنظائر" الذي
جمع فيه ما تفرق عند غيره، فكان عمدةً في الباب، وكتب له من القبول ما لم يكتب لغيره.
بعها بأربعين قاعدةً كليةً يتخرج عليها وقد استهله بالقواعد الخمس مفصلةً، وأ
ما لا ينحصر من الصور الجزئية، تلاها الحديث عن قواعد مختلفٍ في إثباتها، وختم الكتاب
واب المتشابهة وما افترقت فيه ونظائر شتى. واب والأ بطائفةٍ من نظائر الأ
ه زينه بحسب الترتيب على طريقة السبكي، وبالأدلة على هدي ومن فضائله أ
العلائي، وعزا النصوص لأهلها، وأكثر من الفروع الفقهية تحت قواعدها، فكان غزير
ادة العلمية. ا
] الذي جادت قريحته بالكتاب ثم جاء العلامة بدر الدين البكري [ت: ١٠٦٢
الفذ "الاستغناء في الفرق والاستثناء"، وقد ذكر فيه ستمائة قاعدة، وأكثرها من الضوابط.
١٥٩
واب مع العناية بالفروق والاستثناءات عنايةً وقد امتاز بعرض القواعد على الأ
بالغةً كما يدل على ذلك اسمه، ولعله أجمع الكتب التي وصلتنا، وهو من الكتب الجليلة
.( التي لم تأخذ حقَّها في أوراد أكثر المتفقهين، لكن الذهب ذهبٌ وإن جهله بعض الناس( ١
وبما تقرر من رحلة القواعد تلحظ أنَّ القرن الثامن كان العصرَ الذهبيَّ لعلم
القواعد.
وأهم هذه الكتب فيما أحسب: قواعد الأحكام وقواعد ابن الملقن والأشباه
والنظائر للسيوطي والاستغناء في الفرق والاستثناء، وإن رمت خامسًا.. فهو منثور
الزركشي.
١) هذا موجز رحلة القواعد كما ذكرته في رسالتي العلمية من جامعة طرابلس بلبنان: "القواعد الفقهية عند )
.(٧٠- الرملي في كتاب نهاية المحتاج" ص ( ٦٧
١٦٠
المبحث السادس خدمة مصنفات التنقيحين الأول والثاني للمذهب
١٠٠٤ ه - ١٣٣٥ ه] ]
يتضمن هذا المبحث ثلاثة مطالب: يتطرق الأول إلى الأمور السياسية المؤثرة في
مسيرة المذهب الشافعي في هذا الطور، ويُعرِّف الثاني بعدد من أشهر أعلام المذهب فيه،
رز معالمه، ودونك البيان: ويقف الثالث عند أ
يستغرق هذا الطور أكثر من ثلاثة قرون، وهو واقعٌ في العهد العثماني الذي بدأ من
عندما قضى العثمانيون على دولة المماليك وينتهي هذا العهد بإعلان شريف سنة ٩٢٣
] الثورة العربية على الخلافة العثمانية في صيف سنة مكة الحسين بن علي [ت: ١٣٥٠
، وانتهت بانسلاخ البلاد العربية عن الدولة واستمرت حتى سنة ١٣٣٧ ١٣٣٥
العثمانية، ثم اقتسامها بين دول الاستعمار الأوروبي الصليبي وفي مقدمتها فرنسا وبريطانيا.
علامةً وكان تاريخ وفاة العلامة علوي بن أحمد السقاف المكي سنة ١٣٣٥
مناسبةً للفصل بين الطور الخامس والسادس من حياة المذهب، بوصفه من أعلام الشافعية
في عصره؛ إذ قد تزامنت سنة وفاته مع نهاية العهد العثماني وبداية انقسام البلاد العربية
لدويلات يحتلها الغرب، مع ما تبع ذلك من إقصاء الشريعة الإسلامية عن الحكم
وانحسار التمذهب وعدم فهمه على وجهه.
١٦١
وثقل المذهب كان في هذا الطور في الشام ومصر والحجاز كسابقه، لا سيما وأنَّ
هذه البلاد تحت إدارة الدولة العثمانية.
ر ومن استقراء تاريخ العهد العثماني يمكن ملاحظة الأمور الثلاثة الآتية ذات الأ
في مسيرة المذهب في هذا الطور:
رز مظاهر ذلك أنها انتصرت على الحملات الصليبية وصدَّت هجوم ومن أ
الأعداء في غير موضع، وكانت أحيانًا هي الآخذة بزمام المبادرة؛ فقد حاصرت جيوش
الدولة العثمانية فيّنا عاصمة النمسا أربع مرات، كما دفعت عدة ممالك أوروبية الجزية
للخلافة العثمانية حينًا من الزمن.
َّر في ضعف العنايةِ بالعلم وأسباب الحضارة المدنية على وجه العموم؛ إذ وهذا أ
العقل العسكري يُشغل صاحبه بمعادلات النصر والهزيمة وصخب المعارك والحروب،
ويُبعد صاحبه عن النهضة العلمية والحضارة المدنية اللتين تنضجان على هدوء، ولهذا كان
ه تيقظ للجانب العلمي وهو يشتغل بمشروع وبي أ من مناقب السلطان صلاح الدين الأ
صت للعلماء وتفاعل مع مقترحاتهم. تحرير بيت المقدس كما مرَّ فأ
ولعلَّ من حلول هذه الأزمة حيث تكررت أن يحيط بالسلاطين بطانةٌ علميةٌ
راسخةٌ صالحة، تترفع عن المطامع والمصالح، وتتعفف عن المناصب والهبات، ولا تشغلها
الأحداث السياسية عن النهضة العلمية، وهي التي تتولى توجيه السلاطين لمتابعة الحركة
العلمية والنهضة الحضارية.
وزاد من ضعف الحالة العلمية في هذا الطور أن العثمانيين اتخذوا من استانبول
عاصمةً للخلافة، وهذا أول انتقال للخلافة خارج البلاد العربية، وكانت تتردد قبل ذلك
١٦٢
بين بغداد ودمشق والقاهرة، وتبع ذلك العناية باللغة التركية على حساب اللغة العربية،
يرٌ على الحياة العلمية. وكان لهذا تأ
وكان منصب شيخ الإسلام –وهو أعلى منصبٍ دينيٍّ في الدولة- مقصورًا على
ا عمدت الدولة إلى تقنين الفقه كلفت مجموعة من كبار فقهاء الحنفية، والقضاة كذلك، و
فقهاء الحنفية بإعداد ما عُرِف بمجلة الأحكام العدلية.
ولا يخفى أنَّ ذلك يضعف المذاهب الأخرى ومنها المذهب الشافعي الذي كانت
أهم بقاع انتشاره في مصر وبلاد الشام والحجاز وشمال العراق، وكلها تحت سلطة الدولة
العثمانية في هذا الطور.
ثالثًا: بقي هناك وجودٌ للمذهب في دول وسط آسيا ككازاخستان وأوزبكستان
وطاجيكستان، لكنه لم يخرج منها علماء مبرزون على وزان علمائها المتقدمين أمثال أبي حامد
الغزالي والفراء البغوي وفخر الدين الرازي، ولعلَّ ذلك يعود للحروب الطاحنة التي
عصفت بتلك البلاد، مما أضعف الحياة العلمية على وجه العموم.
وبدأ انتشار المذهب في بلاد جنوب شرق آسيا كجزر إندونيسيا وماليزيا ومناطق
تايلند والفلبين خلال هذا الطور، وكان لعلماء اليمن دورٌ كريمٌ في ذلك.
] آخر وكيل وهذا ما أشار إليه العلامة محمد زاهد الكوثري [ت: ١٣٧١
للمشيخة الإسلامية في الخلافة العثمانية بقوله: إنَّ الإمام الشافعي ثالث الأئمة الأربعة
باع، لا سيما بعد أن سعى السادةُ باعتبار الترتيب الزمني، وثانيهم باعتبار كثرة الأ
الحضارمة في نشر المذهب في جزر جاوة والسواحل الهندية وتلك الأرجاء.
١٦٣
–
ا تقدَّم من انفكاك السلطة العلمية لم يتوقف علماء المذهب عن خدمة مذهبهم؛
عن السلطة السياسية، وإن كانت الظروف السياسية تضعف الحالة العلمية نوعَ ضعفٍ
وركود، لكن الجهد في هذا الطور لم يتوجه لإجراء مراجعةٍ شاملةٍ للمصنفات بقصد
تهذيبها؛ إذ التنقيح الأول والثاني أكملا الصياغة الفقهية الواضحة للمذهب، فلم يبق
نقصٌ يحتاج إلى إتمام، أو خللٌ يحتاج إلى ترميم.
]، من مصنفاته: حاشيةٌ له على ١- العلامة أحمد بن سلامة القليوبي [ت: ١٠٦٩
شرح ابن قاسم الغزي وحُقِّقت مؤخرًا، وحاشيةٌ على كنز الراغبين مع حاشية عميرة [ت:
]، وهما من الحواشي المعتمدة في الفتوى على المذهب عند المتأخرين. ٩٥٧
قن ]، أ و الضياء علي بن علي الشُّبْرَامِلِّسِي [ت: ١٠٨٧ ٢- العلامة نور الدين أ
المذهب أصولًا وفروعًا حتى غدا مرجع الشافعية في الجامع الأزهر، من مصنفاته: حاشيةٌ
على شرح ابن قاسم للورقات، وحاشيةٌ على نهاية المحتاج وهي أشهر مصنفاته.
] مفتي الشافعية في المدينة ٣- العلامة محمد بن سليمان الكردي [ت: ١١٩٤
النبوية، ومن عيون مؤلفاته: الفوائد المدنية فيمن يفتى بقوله من أئمة الشافعية، وحاشيتان
نفيستان على شرح المقدمة الحضرمية لابن حجر، والحاشية الكبرى منهما لا يستغنى عنها،
وقد حُقِّقت من قريب.
قن اللغة ]، أ ٤- العلامة سليمان بن عمر العُجيلي المعروف بالجمل [ت: ١٢٠٤
والتفسير وعلوم القرآن الكريم والفقه، وبارك الله له في قلمه، من مصنفاته: الفتوحات
١٦٤
ية بتوضيح تفسير الجلالين بالدقائق الخفية، وهو مشهور باسم حاشية الجمل على الإ
صاري، وهي من الكتب المعتمدة في تفسير الجلالين، وحاشيةٌ على شرح المنهج لزكريا الأ
الفتوى عند المتأخرين.
]، وُلِد في بُجَيرم ٥- العلامة سليمان بن محمد بن عمر البُجيرمي [ت: ١٢٢١
قرية من قرى محافظة الغربية بمصر وإليها ينتسب، انتقل إلى القاهرة ودرس الفقه في
قن المذهب. الأزهر، وأ
ومن أهم مصنفاته: تحفة الحبيب على شرح الخطيب، وهو حاشيةٌ على الإقناع
للشيخ الخطيب، وحاشيةٌ على شرح منهج الطلاب، ولا يُستغنى عن هاتين الحاشيتين،
وكم من إشكالٍ لم أجد حلَّه إلا فيهما!.
]، تولى ٦- العلامة عبد الله بن حجازي بن إبراهيم الشرقاوي [ت: ١٢٢٦
، من مصنفاته: التحفة البهية في طبقات الشافعية، وحاشيةٌ مشيخة الأزهر سنة ١٢٠٨
صاري، وهي أشهر كتبه، وتعتبر على تحفة الطلاب بشرح تحرير تنقيح اللباب لزكريا الأ
من الكتب المعتمدة في الفتوى عند المتأخرين.
]، ولد ببلدة ٧- العلامة إبراهيم بن محمد بن أحمد الباجوري [ت: ١٢٧٧
قن المذهب، وتولى مشيخة الأزهر سنة ١٢٦٣ باجور، وهي تتبع محافظة المنوفية بمصر، أ
، وكان الشيخَ التاسع عشر من مشايخ الجامع الأزهر، انتهت إليه رياسة الشافعية بمصر،
وهو ذو مصنفاتٍ كثيرةٍ أشهرها: حاشيته على شرح ابن قاسم الغزي على متن أبي شجاع.
قن ، أ و بكر عثمان الدمياطي البكري، توفي بعد سنة ١٣٠٢ ٨- العلامة أ
المذهب حتى غدا من كبار فقهاء الشافعية في عصره، رحل إلى مكة وبقي مرابطًا على جبهة
فاظ فتح المعين بشرح قرة العين يف، من أهم مصنفاته: إعانة الطالبين على حل أ التأ
١٦٥
]، وتعتبر من المراجع المعتمدة بمهمات الدين للعلامة زين الدين المليباري [ت: ٩٨٧
للفتوى على المذهب عند المتأخرين.
]، برع في المذهب ٩- العلامة شهاب الدين أحمد بك الحسيني [ت: ١٣٣٢
أصولًا وفروعًا، وله مصنفاتٌ منها: القول الفصل في قيام الفرع مقام الأصل، وتحفة
ام الذي شرح فيه قسم العبادات من الرأي السديد في الاجتهاد والتقليد، ومرشد الأ
كتاب الأم للإمام الشافعي في ٢٤ مجلدًا، وهو أعظم مؤلفاته، وما زال مخطوطًا حتى زمن
كتابة الرسالة.
]، من ١٠ - العلامة علوي بن أحمد بن عبد الرحمن السقاف المكي [ت: ١٣٣٥
مؤلفاته: الفوائد المكية فيما يحتاجه طلبة الشافعية من المسائل والضوابط والقواعد الكلية،
وحاشيةٌ بعنوان: ترشيح المستفيدين على فتح المعين شرح قرة العين للعلامة زين الدين
عبد العزيز المليباري.
رزها الأمور الثلاثة الآتية: وأ
والحاشية هي شرحٌ للمواضع المُشكلة، بخلاف التوشيح؛ فإنه شرحٌ لجميع
الشرح، أما التقرير.. فهو إيضاحٌ للمواضع المشُكِلة في الحاشية، وعلى ذلك؛ فإنَّ الحاشية
هي انتقاء العبارات الغامضة أو التي تحتاج لمزيد بيان والقيام بما يجليِّها من خلال الشرح أو
النقولات المؤيدة لفكرتها والأمثلة الموضحة لها، فيقول المُحشي: "وقوله" أي، ويشرع في
التوضيح.
١٦٦
وفكرة الحواشي جاءت قبل هذا الطور لكنها كثرت في هذا الطور كثرةً جعلتها
ظاهرةً ملحوظةً وسمةً غالبةً على التصنيف فيه.
وأحسبُ أنَّها جاءت نتيجةً طبيعيةً لمذهبٍ قد اكتمل، لا سيما وأنَّ الظروف
السياسية التي نزلت بالأمة أضعفت ملازمة التلاميذ لأشياخهم، وأشغلت العلماء عن
التفرغ لتلاميذهم، فصار تبسيط المعاني من خلال الحواشي التي تنتسب لدائرة الشروح
أمرًا تمليه الحاجة.
ومن أهم الحواشي التي لا ينبغي لمكتبة المتفقه الشافعي أن تخلو منها: حاشية
القليوبي وعميرة على كنز الراغبين، وحاشية الشرواني والعبَّادي على التحفة، وحاشية
الجمل على المنهج، وحاشية البجيرمي على الخطيب، وحاشيته على شرح منهج الطلاب،
وحاشية الشرقاوي، وحاشية الباجوري، وحاشية الكردي الكبرى، وإعانة الطالبين.
وقد اكتسبت هذه الحواشي قيمتها من الكتب التي وُضِعَت عليها.
ومن حسنات الحواشي أنها مشحونةٌ بالتحليل والتحقيق والتمحيص في
النصوص، ومن الملاحظات عليها زيادةُ التكلفِ في الألفاظ الجزئية على حساب المفاهيم
الكلية، والتوسعُ عند أدنى مناسبةٍ من غير حاجةٍ، ومزجُ اللُّبِّ فيها بالقشور.
آخذ على بعض المشتغلين بها إحلالُهَا محلَّ كتبِ المتقدمين، وعليه؛ فمن ومن ا
الخسارة إغفالها، ومن الغبن الاكتفاء بها.
وذلك بعد أن ظهرت الحدود السياسية بين الدول متمثلةً في عقد
المعاهدات الثنائية والدولية التي تبين مناطق نفوذ كلِّ دولة، وغالبًا ما يكون هذا بعد
حروبٍ طاحنة تشهدها البلاد واستفحالٍ للفتن والنزاعات وضيق العيش.
١٦٧
ولا يخفى ما لهذه الحدود من آثارٍ في تقييد حرية انتقال الناس، مما ضيَّق الرحلة في
طلب العلم، وانحسار الرواية والتلقي، ولم يكن يومئذٍ اتصالات هاتفية أو وسائل شبكية
تنقل الصوت والصورة.
ولا يكفي أن تستفيد رأي العالم من كتابه؛ لأنَّ الكتاب جامدٌ، أما التلقي فهو
ا يستتبعه من المناقشة والحوار والسؤال. الذي يشحذ الذهن ويُلقِّحُ الفكر
ومما زاد من أزمة التواصل تلك الفتن الداخلية في مناطق مصر والشام والجزيرة
فضلًا عن الحروب الخارجية ضد الصليبيين شرقًا وغربًا، والتي أنهكت الدولة العثمانية
خلال القرنين الحادي عشر والثاني عشر.
وفي المقابل فمن العوامل التي خففت وطأة ذلك أنَّ مشيخة الأزهر بقيت في
،(١) إلى سنة ١٢٨٧ مشايخ الشافعية مائة وخمسين عامًا متصلة، وذلك من سنة ١١٣٧
ه رئيس العلماء في مصر وخارجها، وكذلك وجود فقهاء وكان ينظر إلى شيخ الأزهر أ
الشافعية في الحرمين الشريفين، فكان الحجاج والعُمَّار يرجعون بحمل ما تلقوه إلى بلادهم.
رز مشايخ الشافعية الذين استوطنوا الحجاز خلال هذا الطور: العلامة ومن أ
] والعلامة محمد بن سليمان الكردي [ت: محمد بن عبد الرسول البَرَزَنْجِي [ت: ١١٠٣
.[ ] والعلامة علوي بن أحمد السقاف المكي [ت: ١٣٣٥ ١١٢٧
ومع زيادة تقطيع الأمة الإسلامية اليوم، وتمكن العدو منها.. زادت قطيعة اللقاء
المباشر بين العلماء والتلاميذ، إلا أنَّ مما خفف ذلك اليوم استفاضةَ وسائلِ التواصل في
قا. الناس، وتسجيل الدروس صوتًا وصورة، حتى صار العالَم كله بمنزلةِ قريةٍ صغيرةٍ ح
١) أما بعد ذلك فصارت تتردد بين مشايخ المذهب الحنفي والشافعي، وبعد ردحٍ من الزمن صارت تتردد بين )
الكية والشافعية. رجال المذاهب الثلاثة: الحنفية وا
١٦٨
ومع أنَّ هذا لا يكفي في إعداد المتفقه؛ لفضل اللقاء المباشر الذي يستتبعه الإلزام
َّه وصحة منهج التلقي وتلك الروح السارية بين الشيخ والتلميذ ورعاية الأدب.. إلا أ
يعد ملاذًا في هذا الزمن الذي استفحلت فيه الفتن، وحورب فيه العلم وأهله، وتعسر فيه
السفر وضعفت فيه الهمم.
لا بد أن يُستَحضَرَ أولًا أنَّ من أهم مقاصد علم الأصول: معرفةَ مدارك الفقهاء
والمجتهدين وطرق استنباطهم والتوصل بها إلى معرفة الأحكام معرفةً دقيقة، والإحاطةَ
بكيفية الاستنباط الصحيح، ومنهجِ الترجيح بين الأقوال والتخريجِ على الأصول والفروع
بما يستوعب الحوائج المعاصرة ويواجه المستجدات والنوازل.
وهذا لا يكون إلا بقواعد الأصول وإدراك علل الحكم الشرعية.
و سليمان في كتابه: "الفكر الأصولي" إلى وأشار الدكتور عبد الوهاب إبراهيم أ
ا كانت الغايةُ المتوخَّاةُ من علم الأصول إمدادَ المجتهدين قضيةٍ ذات خطر بقوله: "و
بقواعد الاستنباط وقوانينه.. فإنَّ الحاجةَ إليه تشتد في الوقت الحاضر؛ حيث الاتجاه العام
إلى إعادة النظر في التراث الفقهي وتقويمه، وإلى اجتهادٍ فقهيٍّ جديدٍ جامعٍ بين الأصالة
والمرونة لمواجهة متطلبات العصر ومشكلاته، ولن يتحقق هذا إلا إذا اتخذ الاجتهادُ مسارًا
يا على أسسٍ سليمةٍ ودعائم متينة من المعرفة التامة بالعلوم الشرعية واللغوية، صحيحًا مبن
والتي يأتي هذا العلم في مقدمتها، أما مجردُ معرفةِ النصوصِ أو استظهارها.. فليس مؤهلًا
للاجتهاد، أو مخوِّلًا لاستنباط الأحكام".
١٦٩
ويقول الدكتور شعبان محمد إسماعيل: "إنَّ الحاجةَ إلى علم الأصول قائمة
ومستمرة لا تنقطع ما دام هناك فقهٌ وما دامت هناك أحكام لأفعال العباد يراد بها معرفة
حكم الله سبحانه".
وعلى ما تقرر؛ فإنَّ من علائم الصحة أن يبقى النمو الأصولي ساريًا، إلا أنَّ
التصنيف الأصولي لم يسلم من الضعف في هذا الطور، وإن بقيت بعض الجهود المحفوظة
] على شرح الجلال المحلي على رأسها حاشية العلامة حسن بن محمد العطار [ت: ١٢٥٠
على جمع الجوامع.
وركَّز الدكتور أكرم القواسمي وفقه الله على أنَّ الفكر الأصولي كان يُنظِّر لإغلاق
باب الاجتهاد على الرغم من مسيس الحاجةِ إليه على ما تقدم في صدر الكلام، رغم أنَّ
رز دعاة الاجتهاد في التاريخ الإسلامي. الإمام الشافعي كان من أ
ادة الحديثة وما تبعها من تطور تكنولوجي فجَّرت الآلاف من وأقول: إنَّ ثورة ا
المستجدات والنوازل فيما لا يُحصى من الجوانب، وانظر في كتاب وثائق النوازل للشيخ
محمد الجيزاني إن أردت مثالًا على ذلك، وهذا يستدعي التركيز على فقه الاجتهاد ولو
ه ممكنٌ مع ضبطه وتنظيمه ووضوح الطريق إليه؛ لضرورته في داخل المذاهب نفسها وأ
تطور الفقه الإسلامي.
ويصاحب ذلك الرسوخ في تخريج الفروع على القواعد والأصول؛ ليخرج لنا في
كل نازلةٍ قولٌ مذهبيٌّ مخرجٌ على قواعده وأصوله، وبهذا لا يصبح المذهب جزءًا من
التاريخ، وهذا يستنفر طاقات أصحاب المذهب الشافعي وغيره من المذاهب لرسم معالم
طورٍ جديدٍ يواكب العالَم الجديد، وإلا وقع التقصير الشائن بحق المذاهب وعلمائها على
ف سنة. امتداد حياتها التي زادت عن أ
١٧٠
المبحث السابع انحسار التمذهب بالمذهب الشافعي وتطور الدراسات الفقهية المعاصرة
١٣٣٥ ه وحتى اليوم] ]
قام هذا المبحث على ثلاثة مطالب: تكلم الأول عن انحسار التمذهب، وكشف
الثاني عن تطور الدراسات الفقهية المعاصرة في هذا الطور، بينما بيَّنَ الثالثُ مصيرَ
التصنيفِ في طبقات الشافعية وتراجمهم، ودونك بيانَ ذلك:
بعد انسلاخ البلاد العربية عن الخلافة العثمانية نتيجةً لخروج شريف مكة عليها
بمساعدة بريطانيا نتج عن ذلك تعطيل حكم الشريعة، وظهرت المحاكم النظامية التي
ا اصطُلِح على تحكم بالقوانين الوضعية المستوردة، إلا في باب الأحوال الشخصية؛ فتُرك
تسميته بالمحاكم الشرعية.
ومن آثار تلك المصيبة التي نزلت بأمة الإسلام أنَّ الفقه لم يعد مرجعًا لأحكام
واب العبادات؛ الناس، بل إنَّ عناية المسلمين بمعرفة الأحكام قد ضعفت في غير أ
كالمعاملات والعقوبات والجهاد، وبقيت للأهواء تقرر فيها ما تشاء، وربما لم يخطر بخَلدِ
كثيرٍ من الناس أن لله حكمًا في المسائل التي يحتاجونها في معاملاتهم صباح مساء.
ويُنبَّه على أنَّ تعيين القضاة لم يعد مرجعه للمذهب الفقهي للقاضي، وليس
السبب أنَّ مذهبه لم يعد هو السائد في هذا البلد أو ذاك؛ بل لأنَّ الشريعة نفسها أُقصيت
عن الحكم إلا في مسائل محدودة.
١٧١
وعقب الذي تسطَّر فلم يعد مستغربًا أن ينحسر التمذهب عامة، ولست أعني هنا
خلو الساحة من مختصين بالمذهب الشافعي أو غيره؛ فهذا حاصلٌ لم ينقطع؛ وإنما انحسار
التمذهب عند العامة، فلم يعد التمذهب يشكل ثقافةً عامة، كما هو الحال الآن في بلاد
الكي مثلًا إلى حدٍّ كبير، فإذا جئت إلى بلادنا مثلًا سمعتَ المغرب من شيوع المذهب ا
الكثرة تقول: نسمع أنَّ مذهبنا هو المذهب الشافعي، دون أن يكون لذلك حقيقةٌ ماثلةٌ
على الأرض كافية في إعطاء وصف التمذهب.
أما ما يتعلق بالتفقه من طلاب العلم.. فلا يزال الجهد الفقهي حاضرًا في المساجد
ه ما من خلال الحلقات الفردية للمشايخ، وأعان في حفظ مادة المذهب وبقاء انتشاره أ
زال مقررًا في كثيرٍ من الجامعات والكليات وعلى رأس ذلك الجامع الأزهر.
هذا فضلًا عن العناية المستمرة لعلماء كثيرٍ من البلاد بالمذهب مثل مصر والشام
خاصةً في مدينة دمشق، واليمن خاصةً في مدينة تريم، والجهد في بلدنا غزة ناهضٌ في ذلك
في كثيرٍ من الحلقات، فضلًا عن أنَّ المذهب هو المقرر في التدريس في الجامعة الإسلامية
بغزة.
ومن معالم العافية في بعض المناطق بقاءُ تلقي كتب المذهب بالسند إلى أصحابها،
ومن ذلك اليمن؛ فما زال علماؤها يجيزون تلامذتهم بذلك، ويعطونهم الأسانيد فيه، ولي
إجازةٌ في طائفةٍ من كتب المذهب أصولًا وفروعًا عن أحد مشايخ اليمن بسنده إلى العلامة
محمد ياسين الفاداني رحمه الله تعالى.
مع ما حلَّ بالمسلمين من أحداثٍ عظيمةٍ وكروبٍ جسيمةٍ إلا أنَّ أهل العلم لم
يهجروا ثغر العلم ولو تطلب الأمرُ منهم أن يرابطوا إلى جانبه على ثغر الدعوة أو الجهاد أو
١٧٢
حراسة المبادئ والقيم، وهو الشكل المطلوب في المسلم عادةً، مما يعني أنَّ الحياةَ العلميَّةَ
يمكن أن تضعف لكنها لا تموت.
يَقُولُ: ِ روى ابن ماجه من حديث أبي عِنَبَةَ الْخَوْلَانِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ ا َّ
يَغْرِسُ فِي هَذَا الدِّينِ غَرْسًا يَسْتَعْمِلُهُمْ فِي طَاعَتِهِ"( ١) حسنه الألباني. "لَا يَزَالُ ا َُّ
من هنا فقد شهدت دراسة الفقه الإسلامي بمذاهبه المتعددة تطورًا مفيدًا في عدة
رز معالم هذا التطور الأمورُ الثلاثة الآتية: اتجاهات، من أ
وهي التي تقوم بتدريس علوم الشريعة في إطارٍ زمنيٍّ محدد، ولا يقتصر التدريسُ
فيها على شيخٍ واحدٍ، مع وجود اختبارٍ في كلِّ مادةٍ علمية.
ومن أهم حسنات الكليات الشرعية والجامعات أنها تربي الطالب على البحث
العلمي، وتفتح الذهن على كثيرٍ من جوانب العلم الشرعي، ومن أهم الملاحظات عليها
الاضطراب المنهجي؛ فقد يبدأ المتفقه من أول يومٍ بمغني المحتاج في الفقه ونهاية السول
في الأصول مثلًا، فضلًا عن قيامها على مهزلة التخصص في شكله الحديث، والذي يعني
ا متمكنًا واحدًا. ام ببعض فن والجهل بغيره، ولهذا يندر أن تُخرِّج الجامعات عا ً الإ
رز هذه وقد انتشرت الكليات الشرعية في امتداد العالم الإسلامي، ومن أ
الكليات: كلية الشريعة في الأزهر الشريف، وكذلك في مكة والمدينة النبوية والرياض
ودمشق وعمَّان وغزة، وجامعة الإيمان في اليمن حرسه الله وأعاد الجامعة لأمجادها.
.( ١) سنن ابن ماجه، رقم الحديث: ( ٨ )
١٧٣
وعلى هذه الشاكلة المدارس والمراكز العلمية؛ كمركز تكوين العلماء بشنقيط
والمدارس العتيقة بالمغرب ومن أشهرها مدرسة تنِكَْ رْت العتيقة، وغير ذلك مما لا يُحصى.
وهو استفراغُ جماعةٍ من الفقهاء الجهد لتحصيل حكمٍ شرعيٍّ بطريقِ الاستنباط،
واتفاقهم جميعًا أو أغلبهم على الحكم بعد التشاور.
فالاجتهاد الجماعي منزلةٌ بين الاجتهاد الفردي الذي يقومُ به واحدٌ من العلماء
وبين الإجماع الذي يصدرُ عن جميع مجتهدي الأمة.
ومن أهم ما يميزه أنَّ المخرجات ينتجها التشاور وليس مجرد اتفاق لآراء بعض
العلماء من غير لقاءٍ بينهم.
ومن صور الاجتهاد الجماعي جهودُ المجامعِ الفقهية ودور الفتوى، وبدرجةٍ أقل
مؤتمرات الفقه الإسلامي وندواته التي تعقد في موضوعاتٍ محددة؛ كالاقتصاد أو تطبيق
الشريعة أو حكم العملات الرقمية أو الأحكام المتعلقة بجائحة كورونا وغير ذلك.
١٩٦١ م، وهيئته - شئ سنة ١٣٨١ ١- مجمع البحوث الإسلامية بالقاهرة، أ
ف من خمسين عضوًا من كبار العلماء، من بينهم عددٌ من خارج القُطر المصري لا يزيد تتأ
عن عشرين عضوًا، وهناك مجلةٌ تصدر عنه ومؤتمرات تعقد بتنظيمٍ منه.
شئ سنة ١٣٩٨ ٢- المجمع الفقهي التابع لرابطةِ العالمِ الإسلامي بمكة المكرمة، أ
ف من رئيسٍ ونائبٍ وعشرين عضوًا، ويتم اختيارهم من عدة ١٩٧٨ م، وهيئته تتأ -
دول، ودورته تُعقد في كل سنةٍ أو سنتين وتستمر أسبوعًا.
١٧٤
١٩٨١ م، يتبع منظمة - شئ سنة ١٤٠١ ٣- مجمع الفقه الإسلامي بجدة، أ
ف هيئته من أعضاء منتدبين من كلِّ دولةٍ من دول المنظمة، والذين المؤتمر الإسلامي، تتأ
يتم تعيينهم من قِبَل حكومات دولهم، ويمكن أن يُمثِّلَ الدولة الواحدةَ أكثرُ من عضوٍ.
- ٤- دور الإفتاء القُطرية، مثل دار الإفتاء المصرية والتي بدأت سنة ١٣١٣
١٨٩٣ م، وهيئة كبار العلماء بالسعودية، وتسمى رئاسة إدارة البحوث العلمية والإفتاء،
ومقرها في الرياض، ودار الإفتاء الأردنية والفلسطينية والليبية وغير ذلك.
ومن ذلك الأمورُ الأربعة الآتية:
١- ظهور الطباعة، وهذا ييسر النشر بعيدًا عن عيوب النسخ اليدوي، ومن أوائل
شئت سنة المطابع العربية التي اهتمت بطباعة كتب الفقه: مطبعة بولاق في مصر، وأ
، وهي أول دار طباعةٍ عربية قامت بطباعة كتاب الأم للإمام الشافعي، والمطبعة ١٢٤٢
، ومما طبعته كتاب الأحكام السلطانية شئت سنة ١٢٨١ الأهلية القبطية في مصر، أ
. اوردي سنة ١٣٠٠ للإمام ا
٢- تحقيق كتب التراث الفقهي وفهرستها، فلم تعد معظم دور النشر تكتفي
ا للتحقيق من دورٍ مهمٍّ في سرعة التداول، بطباعة الكتب من غير خدمتها بتحقيقٍ لها؛
ا للتحقيق من إعانةٍ عظيمةٍ في فسهم يبحثون عن الكتاب المُحقَّق؛ وصار المتفقهة أ
خدمة الكتاب وتحقيق المقصود منه.
ادتها، لا سيما قبل صدور كما وظهر عددٌ من فهارس الكتب؛ تيسيرًا للوصول
الحواسيب، وعددٌ من فهارس المخطوطات التي تشير إلى أماكن وجود كل مخطوط في
مكتبات العالم؛ تيسيرًا لمهمة إخراجه مطبوعًا مثل فهرس مخطوطات الفقه الشافعي في
١٧٥
- المكتبة الظاهرية بدمشق، والذي وضعه الأستاذ عبد الغني الدقر سنة ١٣٨٣
١٩٦٣ م.
٣- ظهور الموسوعات الفقهية، وهي عبارةٌ عن إعادةِ تدوينِ موضوعات الفقه
الإسلامي على حروف المعجم مع الحرص على جعلها بلغةٍ سهلةٍ؛ تجاوزًا لصعوبة
رز موسوعتين ظهرتا المصطلحات الفقهية ووعورة الألفاظ المستعملة في كتب الفقه، وأ
في هذا الطور:
الأولى: موسوعة الفقه الإسلامي، والذي تولى إنجازها لجنةٌ تابعةٌ للمجلس
الأعلى للشئون الإسلامية بمصر، وكان آخر أجزائها صدورًا زمن كتابة الرسالة الجزء ٢٧
٢٠٠١ م، أما آخر الأجزاء صدورًا زمن كتابة هذا المختصر للرسالة فهو - سنة ١٤٢٢
يا. ا وأصول ٢٠٢١ م، ويضم ٢٢ مصطلحًا فقهي - الجزء ٤٧ ، وصدر هذه السنة ١٤٤٢
ة آراء فقهاء وتعرض الموسوعةُ المسائلَ وفق حروف المعجم، وتذكر في كل مسأ
الكية ثم الشافعية ثم المذاهب فيها من مصادرها المعتمدة، حيث تبدأ باجتهاد الحنفية ثم ا
الحنابلة ثم الزيدية ثم الظاهرية ثم الشيعة الإمامية ثم الإباضية، مع أدلة هذه الاجتهادات
دون ترجيحٍ بينها.
والموسوعة الأخرى: هي الموسوعة الفقهية الكويتية، وصدرت في ٤٥ مجلدًا،
وهي من أهم الكتب التي يقتات عليها طلبة الدراسات العليا، واعتنت بأقوال المذاهب
الأربعة، وجاءت مادتها بحسب حروف المعجم.
و السبح وفَّقَهُ الله عقب قصف العدو الصهيوني ا زرتُ الدكتور عطا الله أ و
، وما لبيته في المعركة الأخيرة "سيف القدس"، والتي اندلعت خواتيم رمضان ١٤٤٢
١٧٦
نتج عن ذلك القصف من ذهاب آلاف الكتب، والتي جمعها على مدار أكثر من خمسين
عامًا.. وجدته لم يتحسَّر على كتابٍ تحسَّره على هذه الموسوعة.
٤- حوسبة الفقه الإسلامي، فصارت آلاف الكتب في الفقه وأصوله وغير ذلك
من علوم الشريعة تُخزَّن في أقراص صغيرة وفي الحواسيب والهواتف النقالة، مع تفعيل
ما. خدمة البحث، مما سهَّل الوصول إلى أيِّ معلومةٍ تسهيلًا تا
وعقب هذا التطور الهائل في الوسائل الخادمة ومن قبله التطور في الدراسات
والمؤسسات الجماعية لعلك تلحظ أنَّ الضعف ما زال مسيطرًا على المشهد العلمي؛ إذ
التطور في الوسائل لا يكفي.
وينبغي لطالب العلم أن يحمد الله كثيرًا على ما أولاه به من نعمٍ، وأن يربط الليل
دا واجتهادًا وسعيًا في الرسوخ العلمي، وأن يرابط على ثغر العلم وما يتطلبه من بالنهار ج
حفظٍ ونظرٍ وضبطٍ وتأمل وصبر، مستعينًا بالله تعالى، ومعتنيًا بالمنهج الذي هو أقوم في
الطلب، والله يؤتي فضله من يشاء، والله ذو الفضل العظيم.
آخر ما عرف من هذه المصنفات ثلاثة كتب:
] ووصل ١- التحفة البهية في طبقات الشافعية للشيخ الشرقاوي [ت: ١٢٢٧
. في ترجمته لعلماء الشافعية إلى سنة ١١٢١
ام للعلامة شهاب الدين أحمد بك الحسيني ٢- المقدمة الكبيرة لكتاب مرشد الأ
]، حيث شرح فيه قسم العبادات من كتاب الأم للشافعي كما مرَّ، وصدَّره [ت: ١٣٣٢
١٧٧
، وما زال مخطوطًا حتى بمقدمةٍ كبيرةٍ في تراجم الشافعية، وصل فيها إلى سنة ١٣٢٦
زمن كتابة هذه الرسالة.
٣- طبقات الشافعية (كبرى وصغرى) للعلامة محمد ياسين الفاداني [ت: ١٤١٠
]، وما زال الكتاب مخطوطًا في خزانة المصنف رحمه الله في مكة المكرمة حتى زمن كتابة
هذه الرسالة.
أما مصير التصنيف في التراجم.. فقد تقدَّم أنَّ الكتابة في هذا الجانب دلالةٌ ناطقةٌ
بانتشار المذهب وبقائه، مما يعني أنَّ انقطاع التصنيف فيها يدل على انحسار التمذهب به،
وعليه؛ فيرى الدكتور القواسمي وفقه الله أنَّ انحسار التمذهب اليوم سيجعل الكتابة في
هذا الموضوع لا تخلو من التكلف؛ لعدم انضباط تعريف من هو الشافعي وتمييزه عن
غيره.
ا في غير بقعةٍ من بضع سنين، وهو آخذٌ ولكني أقول: إنَّ هناك حراكًا شافعي
ه لا يمضي من هذا اليوم عقد واحدٌ بالازدياد، وسهَّله توافرُ الوسائل الحديثة، وأحسب أ
من الزمان إلا وقد أصبح التمذهب على وجهه أو قريبًا من ذلك حاضرًا في المشهد
الفقهي، لا سيما بعد التشتت المنهجي الذي أصاب أكثر المتفقهة، مما جعلهم يقتنعون أنَّ
التمذهب هو أخصر طريقٍ إلى الرسوخ والاجتهاد.
رز أعلام الشافعية في هذا الطور: العلامة عيسى بن بقيت الإشارةُ إلى أنَّ من أ
و الفيض علم ]، والعلامة أ يوسف مَنُّون المقدسي الشامي ثم المصري [ت: ١٣٧٦
]، وكان له الدين محمد ياسين الفاداني الإندونيسي أصلًا المكي ولادةً ونشأة [ت: ١٤١٠
١٧٨
يف، وشديد العناية بالأسانيد، من ه، وكان كثير التأ حلقةٌ في المسجد الحرام وعلا شأ
مصنفاته: بغية المشتاق شرح لمع أبي إسحاق، وقرة العين في أسانيد أعلام الحرمين.
١٧٩
الفصل الثاني
مصطلحات الشافعية وأوجه الانتفاع بمصنفام الفقهية والأصولية
يهدف هذا الفصلُ إلى تسهيلِ مهمة الدَّارسِ للفقه الشافعيِّ وأصوله، من خلال
رز المصطلحات التي يستعملها الشافعيةُ في مصنفاتهم، ومن خلال عرض بيان معاني أ
رز مصنفاتهم الفقهية والأصولية. أ
وجاء في ثلاثةِ مباحث: تولى المبحث الأول بيان مصطلحات الشافعية، وبيَّن
الثاني أوجه الانتفاع بالمصنفات الفقهية، بينما تعرَّضَ الثالثُ للمصنفات الأصولية، هذا
الإجمال وإليك التفصيل:
١٨٠
المبحث الأول مصطلحات الشافعية
وفيه مطلبان:
لعلماء الشَّافعية كغيرهم مصطلحاتٌ خاصةٌ استعملوها في مصنفاتهم أرادوا بها
معاني محددة، وقد تتسع طاقة الكلمة بحسب الدلالة الاصطلاحية التي توافق عليها أهل
المذهب، بحيث صرت تفهم جهة القول ودلالته ودرجة القوة فيه وزمنه من ذات
المصطلح الواحد، وعلى هذا؛ فمن لم يعرف تلك المصطلحات فلن يستطيع أن يفهم المراد
كله أو بعضه، ويفوته القصد الذي ضمَّنوه في تلك المصطلحات.
وإعانةً على ذلك قام بعض علماء الشافعية بتوضيحِ هذه المصطلحات وشرحها
إما في كتبٍ مستقلة أو في مقدمات مصنفاتهم؛ كما فعل النووي في مقدمته للمجموع من
بيان تلك المصطلحات وشرحها، والتي تعتبر أهم مظان شرح هذه المصطلحات، وكذلك
ما ذكره في مقدمته لكتاب المنهاج، وتبعه الشُّرَّاح يفصلون ذلك.
١- تهذيب الأسماء واللغات للإمام النووي، فإنه جمع فيه الألفاظ التي يطلب
بيانها في مختصر المزني والمهذب والتنبيه والوسيط والوجيز والروضة، وضمَّ فيه جملًا مما
يُحتاجُ إليه مما ليس في هذه الكتب ليعم الانتفاع، إلا أنَّ الإمام النووي توفي قبل أن يتم
الكتاب.
١٨١
٢- الفوائد المكية فيما يحتاجه طلبة الشافعية من المسائل والضوابط والقواعد
.[ الكلية للعلامة علوي بن أحمد السقاف المكي [ت: ١٣٣٥
و العباس أحمد بن ٣- المصباح المنير في غريب الشرح الكبير للرافعي، صنَّفه أ
.[ محمد الفيومي ثم الحموي [ت: ٧٧٠
وتقوم فكرته على شرح المصطلحات الواردة في كتاب الشرح الكبير للإمام
الرافعي، إلا أن الفيومي شرح إلى جانب هذه المصطلحات غريب الألفاظ المستعملة في
الفقه الشافعي وغيره، ورتَّبها جميعًا على حروف المعجم، حتى غدا كتابه أقرب إلى المعجم
اللغوي منه إلى كتابٍ لشرح المصطلحات الخاصة بالشافعية، وهو كتابٌ نفيسٌ لا ينبغي أن
تخلو منه مكتبةُ فقيهٍ أو متفقه.
٤- المذهب الشافعي.. دراسةٌ عن أهم مصطلحاته وأشهر مصنفاته ومراتب
الترجيح فيه للشيخ محمد طارق محمد هشام مغربية.
٥- سلم المتعلم المحتاج إلى معرفة رموز المنهاج للشيخ العلامة أحمد مَيقَري
]، وهذا والذي يليه ملحقان بكتاب المنهاج للإمام النووي شُميلة الأهدل [ت: ١٣٩٠
من طباعة دار المنهاج.
٦- الابتهاج في بيان اصطلاح المنهاج للشيخ أحمد بن أبي بكر ابن سُميط العلَوي
.[ الحضرمي [ت: ١٣٤٣
استعمل علماء الشافعية الكثير من المصطلحات في مصنفاتهم، وأكتفي هنا ببيان
رز المصطلحات، ومن أراد التوسع فلينظر الكتاب الأصل، وكذلك الكتب آنفة معاني أ
الذكر التي بسطت الكلام في ذلك:
١٨٢
١- الأقوال: إذا وردت كلمة قول أو الأقوال.. فالمقصود بها اجتهادات الإمام
الشافعي رحمه الله سواء كانت قديمةً أو جديدة.
٢- القول القديم: هو ما قاله الإمام الشافعي في بغداد تصنيفًا أو إفتاءً أو إملاءً،
سواء رجع عنه أو لا، ويُسمَّى بالمذهب القديم.
٣- القول الجديد: هو ما قاله الإمام الشافعي بمصر تصنيفًا أو إفتاءً أو إملاءً،
ويُسمَّى بالمذهب الجديد.
وليس كلُّ قولٍ جديدٍ يخالف القول القديم، وليس كلُّ قولٍ قديمٍ مرجوعًا عنه كما
مرَّ، والعملُ على المذهبِ الجديد إلا فيما ينبه عليه في مَحَالِّهِ، لاستثناء مسائل تبلغ نحوًا من
ة يُفتى فيها بالقول القديم. عشرين مسأ
٤- الأظهر: هو الرأي الراجح من القولين أو الأقوال للإمام الشافعي، وذلك إذا
يا بالنظر إلى قوة دليلِ كلٍّ منهما، وترجَّحَ أحدُهما على الآخر، كان الاختلاف بين القولين قو
فالراجح هو الأظهر، ويقابله الظاهر الذي يشاركه في الظهور، لكن الأظهر أشدُّ منه
ظهورًا في الرجحان.
٥- المشهور: هو الرأي الراجح من القولين أو الأقوال للإمام الشافعي، وذلك
إذا كان الاختلاف بين القولين ضعيفًا، فالراجح من أقوال الإمام الشافعي حينئذٍ هو
المشهور، ويقابله الغريب الذي ضَعُفَ دليلُه.
٦- الأصحاب: هم في الأصل أصحاب الإمام الشافعي الذين عاصروه وأخذوا
عنه العلم مشافهةً، ثم توسعوا في ذلك فأخذوا يطلقونه على كلِّ أعلام المذهب وفقهائه؛
لأنهم وإن اختلفت أزمنتهم وأمكنتهم إلا أنهم من شدة ارتباط بعضهم ببعض وارتباطهم
بفقه إمامهم صاروا كالأصحاب حقيقةً، فهو مجازٌ للموافقة بينهم.
١٨٣
٧- الوجوه: هي اجتهادات الأصحاب المنتسبين إلى مذهب الإمام الشافعي، التي
استنبطوها على ضوء الأصول العامة للمذهب والقواعد التي رسمها الإمام الشافعي،
باع وتخريجهم لم ا كانت من استنباط الأ وهي بذلك لا تخرج عن نطاق المذهب، لكن
تنسب لشخص الإمام الشافعي نفسه؛ وإنما إلى المذهب؛ لأنَّ المُخرَّج والمستنبَط هو مؤدى
اجتهاد صاحب الوجه.
ا على قاعدةٍ أصوليةٍ غيرِ القاعدةِ التي ذكرها الإمام وإذا كان الاجتهاد مبني
الشافعي.. فلا يُعتبر هذا الرأي عندئذٍ وجهًا في المذهب.
وأصحاب الوجوه هم الأصحاب المتقدمون، وضُبطوا بالزمن، وذلك من
الأربعمائة، فمن كان قبل ذلك فهو من المتقدمين أصحاب الوجوه، ومن كان بعد ذلك
فهو من المتأخرين.
ولكن قال الشيخ محمد طارق مغربية: يبدو أنَّ هذا الضابط أغلبيٌّ؛ فقد ظهر في
إلا إن اعتبروه علماء القرن الخامس والسادس من اعتُبِر خلافُهُ وجهًا في المذهب،
.( من طبقة المرجحين لا من أصحاب الوجوه المستقلين( ١
٨- الطرق: يطلق هذا الاصطلاح على اختلاف الأصحاب في حكاية المذهب؛
فيقول بعضهم: فيه قولان، ويقول آخرون: لا يجوز إلا قولٌ واحدٌ أو وجهٌ واحد، أو يقول
ة تفصيل، ويقول الآخر: فيها خلافٌ مطلق ونحو ذلك من أحدهم: في المسأ
الاختلافات.
.(١٨٠- ١) المذهب الشافعي.. دراسةٌ عن أهم مصطلحاته وأشهر مصنفاته ومراتب الترجيح فيه ص ( ١٧٩ )
١٨٤
٩- المذهب: يطلق على الرأي الراجح في حكاية المذهب، وذلك عند اختلاف
الأصحاب في حكايته بذكرهم طريقين أو أكثر، فيختار المُصنِّفُ ما هو الراجحُ منها
ويقول: على المذهب.
١٠ - الأصح: هو الرأي الراجحُ من الوجهين أو الوجوه لأصحاب الإمام
يا بالنظر إلى قوةِ دليلِ كلٍّ منهما، الشافعي، وذلك إذا كان الاختلاف بين الوجهين قو
وترجَّح أحدهما على الآخر، فالراجح من الوجوه هو الأصح، ويقابله الصحيح الذي
يشاركه في الصحة لكن الأصح أقوى منه في قوة دليله، فترجح عليه بذلك.
١١ - الصحيح: هو الرأيُ الراجحُ من الوجهين أو الوجوه لأصحاب الإمام
الشافعي، وذلك إذا كان الاختلاف بين الوجهين ضعيفًا؛ بأن كان دليلُ المرجوحِ منهما في
غايةِ الضعف، فالراجح من الوجوه حينئذٍ هو الصحيح، ويقابله الضعيف أو الفاسد.
ة حكمان ١٢ - الأشبه: هو الحكم الأقوى شبهًا بالعلة، وذلك فيما لو كان للمسأ
مبنيان على قياسين، لكنَّ العلة في أحدهما أقوى من الآخر.
بقي أن يشار إلى أنَّ هناك مصطلحاتٍ للأعلام منها:
أنهم حيث قالوا: الإمام.. فإنهم يريدون به إمام الحرمين الجويني.
وحيث قالوا: القاضي.. فإنهم يريدون القاضي حسين.
وحيث قالوا: الشيخين.. فإنهم يريدون بهما الرافعي والنووي.
١٨٥
المبحث الثاني عرض المصنفات الفقهية الشافعية
رز الكتب الفقهية المطبوعة إلى سبعة قسَّم الدكتور أكرم القواسمي وفقه الله أ
أقسام؛ إعانةً للدارس أن يصل إلى مبتغاه من غير كبير عناء، ودونك سرد الأقسام السبعة
بما تتضمنه من مصنفات:
وهي سبعة: الأم، وأحكام القرآن، واختلاف العراقيين وهو كتاب اختلاف أبي
حنيفة وابن أبي ليلى، واختلاف عليٍّ وعبد الله بن مسعود، واختلاف مالك والشافعي،
والرد على محمد بن الحسن الشيباني، وسير الأوزاعي.
أما مصنفاته في الأصول فهي ستة: الرسالة، واختلاف الحديث، وجماع العلم،
وإبطال الاستحسان. ، وبيان فرائض الله، وصفة نهي رسول الله
على أنَّ سياسة الإمام الشافعي في الكتابة هو شحن الفقه بالنَّفَس الأصولي كما مرَّ.
ويتمثل التنقيح الأول في مصنفات الإمامين الرافعيِّ والنوويِّ.
أما مصنفاتُ الإمام الرافعي.. فأهمها: المحرر، والشرح الصغير على الوجيز،
فسها والشرح الكبير عليه كذلك، وهذا هو أهم كتبه، وهو من أهمِّ مصنفات المذهب وأ
على مدار تاريخه الطويل.
١٨٦
وأما مصنفاتُ الإمام النووي.. فأهمها: منهاج الطالبين مختصر المحرر، وروضة
الطالبين مختصر الشرح الكبير للرافعي، والمجموع شرح المهذب، ووصل فيه إلى باب الربا
وتوفاه الله تعالى، وشرحه على صحيح الإمام مسلم.
أما قواعد الترجيح بين الأقوال والأوجه في المذهب التي سار عليها الرافعي ومن
بعده النووي في مشروع التنقيح لبيان المعتمد فهي:
أ - القول المعضد بالدليل الذي لا معارضَ له سواءٌ أكان قديمًا أو جديدًا.
ب - القول الجديد للشافعي هو مذهبه إذا نصَّ في الجديد على خلاف القديم، أما
إذا لم يتعارض القول القديم والجديد، أو لم يتعرض في الجديد بشيءٍ
ةِ.. فالقديم مذهبه ويُفتى به. للمسأ
ت - إذا تساوى القولان جِدَّةً وقِدمًا وأدلةً.. عُمِل بآخرها إن عُلِم، وإلا.. فبالذي
رجحه الشافعي، وصورة تطبيق هذه القاعدة: أن يُعلم عن الإمام الشافعي
ةٍ واحدةٍ كالندب والكراهة مثلًا، ويُعلم دليله في كلٍّ قولان متغايران في مسأ
منهما، والدليلان في مستوى واحدٍ من القوة، ولكن يُجهل أيهما من مذهبه
القديم وأيهما من مذهبه الجديد، لعدم وضوح النقل عنه، أو لاضطراب النقل
ة أو لسببٍ آخر. في حكاية المذهب في هذه المسأ
ث - وفي حالة انعدام القرائن المرجحة بين القولين من جهة الزمن مع جهل
ترجيح الإمام الشافعي لأحدهما.. وجب البحث عن أرجحهما بتطبيقه على
نصوص الإمام الشافعي ومآخذ قواعده، أي الاجتهاد في معرفة أيهما أقرب
إلى أصول الإمام الشافعي في الاستنباط التي استقرَّ عليها في مذهبه الجديد.
١٨٧
ا بأصول المذهب، عارفًا بأدلته، والقواعد الأربع السابقة يطبقها من كان عا ً
مطَّلعًا على مصنفاته، مميزًا بين مراتب المجتهدين فيه؛ أي: من كان من أهل الترجيح
والتخريج.
أما من لم يكن منهم.. فقد وضع له الإمام النووي أربع قرائن ترجح كفة الميزان
لجانبِ قولٍ على آخر، يلجأ إلى استعمالها إذا وجد خلافًا بين الأصحاب في تحديد الراجح
المفتى به من قولين أو وجهين، وهذه القرائن الأربع هي:
١. ترجيح تصحيح الأكثر والأعلم والأورع من الأصحاب، ويُقدَّم الأعلم عند
التعارض.
٢. اعتبار صفات الناقلين للقولين والوجهين، فمثلًا يقدم ما رواه البويطي
والربيع المرادي والمزني عن الإمام الشافعي على ما رواه الربيع الجيزي
وحرملة التُجيبي.
٣. ترجيح ما وافق رأي أكثر أئمة المذاهب الفقهية الأخرى.
ه ٤. ترجيح القول المذكور في بابه ومظنته على القول المذكور في غير بابه؛ لأ
سيق في الأول أصالة وفي الثاني تبعًا.
ويتمثل التنقيح الثاني في مصنفات الإمامين ابن حجر الهيتمي وشمس الدين
الرملي، خاصة شرحيهما على المنهاج: تحفة المحتاج لابن حجر ونهاية المحتاج للرملي؛ فإنَّ
التعويل في الفتوى عليهما عند المتأخرين.
[ صاري [ت: ٩٢٦ ويأتي بعدهما في الرتبة مصنفات شيخ الإسلام زكريا الأ
وأهمها كتابا: المنهج والغرر البهية في شرح منظومة البهجة الوردية، ثم يأتي كتاب مغني
١٨٨
المحتاج للخطيب الشربيني، ويمكن قراءته مع قراءة كتاب المنهل النضاخ في اختلاف
الأشياخ الذي ذكر مواطن الخلاف بين الرملي وابن حجر والخطيب.
ور الشيخي وفريق التحقيق وقد فازت تحفة المحتاج بتحقيقٍ كريمٍ من الشيخ أ
معه وفقهم الله، وأحسب أنهم يعتزمون تحقيق النهاية كذلك.
وقد خُدِمت التحفة والنهاية بغير وجهٍ من الخدمة من أهمه كتابة الحواشي عليهما،
]، وحاشية ابن فعلى التحفة هناك حاشية العلامة عبد الحميد الشرواني [ت: ١٣٠١
]، وحاشية ]، وعلى النهاية حاشيةُ الشُّبْرَامِلِّسِي [ت: ١٠٨٧ قاسم العبادي [ت: ٩٩٤
.[ العلامة أحمد عبد الرزاق المعروف بالمغربي الرشيدي [ت: ١٠٩٦
وأهم الحواشي حاشيةُ الشرواني، وقامت بذكر اختلاف الأشياخ مع نقل عبارة
الرملي والخطيب، وهذا يجعل الناظر فيها محيطًا بأقوالهم.
وأحسب أنَّ من قرأها وصبر على طولها لا يحتاج إلى كتب المتأخرين في نفس
الدرجة، وعليه أن يتوجه نحو إرث المتقدمين ويقتات من هناك حيث النبع، وخير طبعات
حاشية الشرواني طبعة الحلبي، ثم طبعة دار الفكر التي خرجت في عشرة مجلدات سنة
٢٠١٩ م، والثانية أجود من جهة وضوح الخط وحسن التنسيق ونوعية الورق، وما زلت
أشتهي أن تُطبع وفق المقياس العام لطباعة الكتب وحجم الخط المتبع.
وهي المصنفات التي اهتم مصنفوها من فقهاء الشافعية بعرض اجتهادات
اوردي، والمجموع رز المصنفات في ذلك: الحاوي الكبير للإمام ا المذاهب الأخرى، وأ
شرح المهذب للإمام النووي، وحلية العلماء في معرفة مذاهب الفقهاء للقفال [ت: ٥٠٧
]، وقد حققه الدكتور ياسين أحمد درادكة في ثمانية مجلدات.
١٨٩
ضًا: الدرة المضية فيما وقع فيه الخلاف بين الشافعية ومن الكتب في هذا الباب أ
والحنفية لأبي المعالي الجويني، والاصطلام في الخلاف بين الإمامين الشافعي وأبي حنيفة
لأبي المظفر السمعاني، تحقيق الدكتور نايف العمري، والنكت في المسائل المختلف فيها بين
الشافعي وأبي حنيفة للإمام أبي إسحاق الشيرازي، وحقق بعضه في رسائل علمية،
آخذ في والخلافيات بين الإمام الشافعي وأبي حنيفة وأصحابه للإمام البيهقي، وتحصين ا
الفقه الشافعي للإمام الغزالي تحقيق د. محمد مسفر، الصادر عن أسفار.
ومن ذلك الأربعة الآتية:
الية اوردي، وهو كتابٌ في النظم السياسية وا ١- الأحكام السلطانية للإمام ا
والقضائية والإدارية، مما يندرج تحت مسمى السياسة الشرعية، وعرض فيه مؤلفه لأقوال
الفقهاء.
٢- غياث الأمم في التياث الظُّلَم للإمام الجويني، اهتم فيه ببيان نظرية الخلافة
الإسلامية وما يتعلق بها من أحكامٍ فقهيةٍ وموضوعاتٍ أصولية وأحداث تاريخية، ويعتبر
أهم الكتب الواردة عن المتقدمين في الفكر السياسي ونظام الحكم في الإسلام، وقد قام
الدكتور عبد العظيم الديب بتحقيقه تحقيقًا يليق به.
ضًا: الدرر ]، ويُسمَّى أ ٣- أدب القضاء لابن أبي الدم الحموي [ت: ٦٤٢
المنظمات في الأقضية والحكومات، ويعتبر من أهم الكتب التي بحثت أحكام الدعاوى
والبينات والتوثيقات وما يُعرفُ في زماننا بأصول المحاكمات، وكان يقارن أحيانًا بين فقهاء
الكية، وقام الدكتور محيي الدين هلال سرحان العراقي بتحقيقه. مذهبه وفقهاء الحنفية وا
١٩٠
٤- نهاية الهداية إلى تحرير الكفاية في علم الفرائض لشيخ الإسلام زكريا
صاري، وهو كتابٌ في أحكام المواريث، ويعد من أوسع المصنفات في موضوعه، الأ
وأحسنها ترتيبًا واستدلالًا، والكتب التي جاءت مفردةً في هذا الباب تستعصي على
الحصر.
وهذا القسم يقف على نفائس المصنفات التي لم تشملها الأقسام السابقة، ومن
أهم المصنفات هنا: المهذب للشيرازي والوسيط للغزالي والتهذيب للبغوي وكنز الراغبين
للمحلي، وعجالة المحتاج إلى توجيه المنهاج لابن الملقن والنجم الوهاج للدميري.
ويدخل هنا حواشي المتأخرين ومن أهمها: حاشية الشرقاوي، وحاشية الجمل
على المنهج، وإعانة الطالبين للدمياطي، وترشيح المستفيدين وهي حاشية كتبها العلامة
علوي السقاف على فتح المعين.
]: والذي يتعين اعتماده أنَّ يقول العلامة محمد بن سليمان الكردي [ت: ١١٩٤
هؤلاء الأئمة المذكورين من أرباب الشروح والحواشي كلهم أئمةٌ في المذهب، يستمدُّ
بعضهم من بعض، ويجوز العمل والإفتاء والقضاء بقول كلٍّ منهم وإن خالف من سواه،
ه ما لم يكن سهوًا أو غلطًا أو ضعيفًا ظاهر الضعف، وقد ورد عن ابن حجر رحمه الله أ
قال: زلات العلماء لا يجوز تقليدهم فيها.
ه كان ينبغي إدراج الكتب التي دارت في فلك كل تنقيح معه سواء وأحسب أ
كانت قبله أو بعده مما ينتسب إليه، أو إفراد ذلك بالذكر، على غرار ما مرَّ في التطور
التاريخي للمذهب؛ فإنه أدعى لانتظام جميع الكتب كلٌّ في وعائه المناسب.
١٩١
وهذه تتميز بسهولة الأسلوب ووضوح العبارة وعنايتها بإبراز دليل الحكم في
غالب الأحيان، وعدم بحثها للمسائل الفقهية التي لا وجود لها في هذا العصر، مثل
أحكام العبيد والإماء، إما بعدم التطرق لها بالكلية، أو بعرضها على وجه الإجمال، ومن
رزها: أ
١- زاد المحتاج في شرح المنهاج للشيخ عبد الله بن حسن آل حسن الكوهجي،
، شرح فيه المنهاج معتمدًا على مغني المحتاج للخطيب، إلا توفي في حدود سنة ١٤٠٠
ه أقرب منه إلى لغة هذا العصر، وقد طبعته المكتبة العصرية في بيروت بتحقيق الأستاذ أ
صاري في أربعة مجلدات كبار. عبد الله الأ
٢- الفقه المنهجي على مذهب الإمام الشافعي، لثلاثة من علماء دمشق وهم:
الدكتور مصطفى الخن والدكتور مصطفى البغا والشيخ علي الشربجي.
٣- المعتمد في الفقه الشافعي لشيخنا العلامة محمد الزحيلي، وهو من أفضل
ا تعدد الطلب من الشيخ المؤلفات المعاصرة في الفقه الشافعي، ويقع في خمسة مجلدات، و
أن يختصره ليسهل جعله مقررًا في الكليات والجامعات اختصره في مجلدين باسم الوسيط.
٤- الدرر النقية في فقه السادة الشافعية للشيخ محمد الصادق قمحاوي، المفتش
العام بالأزهر الشريف في مصر، صنفه ليكون مقررًا على طلاب المرحلة الثانوية في المعاهد
الأزهرية، وجاء في أربعة مجلدات صغار.
٥- الفقه الشافعي الميسر للدكتور وهبة الزحيلي رحمه الله، واعتنى فيه بذكر أدلة
فقهاء الشافعية، ويقع في مجلدين.
١٩٢
٦- الدراسات التي اعتنت بمفردات المذهب، ومنها: مفردات الإمام الشافعي في
المعاملات، وهي رسالة ماجستير للباحث علي بن عبد العزيز السديس، ومفردات الإمام
الشافعي في النكاح والطلاق، وهي رسالة ماجستير قدمها الباحث صالح بن عبد الله بن
صالح اللحيدان، ومفردات الإمام الشافعي في الحدود والجنايات والأقضية والشهادات،
وهي رسالة ماجستير قدمها الباحث سليمان بن عبد الله بن صالح اللحيدان، وثلاثتها
مقدمة إلى المعهد العالي للقضاء في جامعة محمد بن سعود الإسلامية في الرياض، والمسائل
التي انفرد فيها المذهب الشافعي في الطهارة، وهي رسالة ماجستير قدمتها الباحثة عالية
سليم الحداد إلى قسم الفقه وأصوله في كلية الشريعة في الجامعة الأردنية.
بقيت الإشارة إلى أنَّ المصنفات الشافعية يلاحظ فيها أمران:
الأول: ارتباط معظم المصنفات في سلسلةٍ متصلةٍ من التأسيس حتى الكمال.
وبيان ذلك: أنَّ الإمام الشافعي كتب عدة كتبٍ في الفقه كما تقدَّم، فجاء الإمام
المزني فكتب مختصره الذي قال في مستهله إنه اختصره من علم الإمام الشافعي ومن معنى
قوله، فجاء إمام الحرمين وشرحه في كتابه العظيم "نهاية المطلب في درايةِ المذهب"، ثم
استوجزه الغزالي في البسيط، واختزل البسيط في الوسيط، واختصر الوسيط في الوجيز، ثم
أقبل الرافعي فأخذ المحرر من الوجيز على ما مرَّ بيانه، ثم جاء النووي فاختصر المحرر في
المنهاج الذي شرحه الرملي في نهاية المحتاج وابن حجر في تحفة المحتاج، وكتب الشرواني
. حاشيته على التحفة وقد توفي سنة ١٣٠١
ه قد اشتهر في كل طورٍ من أطوار المذهب كتابٌ فقهيٌّ أو أكثر والأمر الآخر: أ
صار عليه مدار العناية عند الشافعية تدريسًا وشرحًا، وأشهر المصنفات التي كُتب لها
١٩٣
الصدارة: مختصر المزني، والمهذب للشيرازي، والوسيط للغزالي، والشرح الكبير للرافعي،
والمنهاج للنووي.
١٩٤
المبحث الثالث عرض المصنفات الأصولية الشافعية
أطال الدكتور أكرم القواسمي النَّفَسَ في عرض المصنفات الأصولية على
المذهب، وأكتفي هنا بذكر أهم الكتب، ومن أراد الاستزادة فعليه بالأصل، ومن ذلك:
الرسالة للإمام الشافعي واختلاف الحديث كذلك.
والتبصرة في أصول الفقه واللمع في أصول الفقه وشرح اللمع، وثلاثتها للإمام
الشيرازي.
والبرهان في أصول الفقه والتلخيص في أصول الفقه والورقات، وثلاثتها للإمام
الجويني.
والمنخول من تعليقات الأصول، وشفاء الغليل والمستصفى من علم الأصول،
وثلاثتها للإمام الغزالي.
والمحصول في علم أصول الفقه للإمام الرازي، والإحكام في أصول الأحكام
للإمام الآمدي، وعليهما سار الناس، وفيهما صُبَّت زبدة مادة الأصول من أول يوم.
] المحصول في "الحاصل"، واختصره واختصر تاج الدين الأرموي [ت: ٦٥٣
] في "التحصيل"، وشرح شمس الدين الأصفهاني سراج الدين الأرموي [ت: ٦٨٢
] المحصول في كتابه: "الكاشف عن المحصول". [ت: ٦٨٨
] وهو ومنها: منهاج الوصول إلى علم الأصول للإمام البيضاوي [ت: ٦٨٥
من أهم المختصرات الأصولية عند الشافعية، وانهمرت الشروح عليه والتي منها: معراج
،[ المنهاج شرح منهاج الوصول لشمس الدين محمد بن يوسف الجزري [ت: ٧١١
١٩٥
]، والإبهاج في وشرح المنهاج في علم الأصول لشمس الدين الأصفهاني [ت: ٧٤٩
شرح المنهاج لتقي الدين السبكي وإتمام ولده تاج الدين السبكي، ونهاية السول في شرح
منهاج الأصول للإسنوي، وهذا من أعظم الشروح إن لم يكن أعظمها، وعليه حاشيةٌ
مفيدة للشيخ محمد بخيت المطيعي.
،[ ومنها: رفع الحاجب عن مختصر ابن الحاجب لتاج الدين السبكي [ت: ٧٧١
.[ والبحر المحيط في أصول الفقه للإمام الزركشي [ت: ٧٩٤
ضًا، ويعتبر من أشهر المختصرات ومنها: جمع الجوامع لتاج الدين السبكي أ
الشافعية وأكثرها قبولًا.
ومن أهم الكتب المتعلقة به والشروح عليه: منع الموانع عن جمع الجوامع للمؤلف
نفسه، كتبه ليرد على ما ورد عليه من إشكالات واعتراضات، وتشنيف المسامع للإمام
الزركشي، والغيث الهامع لأبي زرعة، والضوء اللامع شرح جمع الجوامع لأحمد بن عبد
الرحمن القروي المعروف بحُلولُو، والبدر الطالع بشرح جمع الجوامع للإمام المحلي، وهذا
فس الشروح وأجلها، ولهذا كثرت عليه الحواشي ومنها: الآيات البينات لأحمد بن من أ
] اختصر فيها ]، وحاشية البناني المغربي [ت: ١١٩٨ قاسم الصبَّاغ العبادي [ت: ٩٩٤
[ حاشية الآيات البينات للعبادي، وحاشية العطار لحسن بن محمد العطار [ت: ١٢٥٠
وهي الأكثر انتشارًا وتداولًا من بين حواشي شرح المحلي.
ومن أوجه الخدمة التي حظي بها جمعُ الجوامع أنَّ الإمام السيوطي نظمه في
[ منظومته الشهيرة: "الكوكب الساطع"، ونظمه كذلك نور الدين الأشموني [ت: ٩٢٩
صاري في كتابٍ في منظومةٍ بعنوان: "البدر اللامع"، واختصره شيخ الإسلام زكريا الأ
سماه: "لب الأصول"، وقام بشرحه في كتابٍ آخر سماه: "غاية الوصول إلى شرح لب
١٩٦
الأصول"، وعلق عليه آصِف الإندونيسي تعليقات لا ينبغي أن تفوت جمعها من حواشي
الشيخ زكريا والبناني والعطار والجوهري والترمسي وسماها: "رياضة العقول في إيضاح
غاية الوصول".
ومن المتون التي تعددت عليها الشروح حتى تمردت على الحصر متن الورقات
لإمام الحرمين الجويني، حتى صار كالمدخل الأساسي لمن أراد أن يلج هذا العلم.
ومن الشروح الشافعية عليه: "شرح الورقات في أصول الفقه" لتاج الدين
جم الزاهرات ]، وشرح الإمام المحلي، والأ الفزاري المعروف بابن الفركاح [ت: ٦٩٠
]، ونَظْم متن الورقات ارديني [ت: ٨٧١ فاظ الورقات لشمس الدين ا على حل أ
.[ للعلامة يحيى بن موسى العمريطي [ت: ٨٩٠
أما الدراسات المعاصرة المتعلقة بهذا الباب.. فمنها الثلاثة الآتية:
و عيد، ره في أصول الفقه للدكتور حسن محمد سليم أ ١- الإمام الشافعي وأ
قارن فيها بين آراء أصوليي الشافعية مع آراء غيرهم من الأصوليين في معظم مسائل
أصول الفقه.
ره في تأصيل قواعد علم الأصول للباحث أحمد عباس، ٢- الإمام الشافعي وأ
عرض فيها أصول استنباط الأحكام عند الإمام الشافعي، مع شيءٍ من المقارنة مع
اجتهادات أصوليي الشافعية واجتهادات غيرهم.
٣- مناهج التشريع الإسلامي في القرن الثاني الهجري للدكتور محمد بلتاجي، وقد
كتب المؤلف مائة وخمسين صفحةً من الكتاب عن منهج الإمام الشافعي في استنباط
فس ما وقفتُ عليه من الأحكام، قال الدكتور أكرم القواسمي وفقه الله: وهي من أ
الدراسات المعاصرة المعمقة في أصول فقه الإمام الشافعي.
١٩٧
وقد بسطت عددًا أكبر من المصنفات الأصولية في المعراج التفصيلي الذي كتبته
لعلم الأصول، وسيأتي بعد قليل بمثابة ملحق بهذا المختصر.
وبهذا أكون قد انتهيت من كتابة هذا المختصر عشية السبت الثاني والعشرين من
، الموافق الثالث من شهر يوليو لعام ٢٠٢١ م. شهر ذي القعدة لعام ١٤٤٢
ويسَّر الله تدريسَهُ في دورةٍ علميةٍ تلت كتابته، ثم مراجعته عقب ذلك، والذي تم
، الموافق السابع والعشرين عشية الثلاثاء السابع عشر من شهر ذي الحجة لعام ١٤٤٢
من شهر يوليو لعام ٢٠٢١ م.
أسأل الله تعالى أن ينفع به كما نفع بأصله، وأن يستر علي في الدنيا والآخرة،
والحمد لله رب العالمين.
١٩٨
[ ملحق [ ١
المعراج التفصيلي للفقه الشافعي
كتبت في كتاب "معارج العلوم.. من الأمية إلى الإمامة" معارج العلوم الشرعية
بِعَ هذا المدخل بإيراد المعراج العلمي لعلم الفقه ت أن أُ واللغوية تفصيلًا، وقد رأ
وأصوله منقولًا بنصه من كتاب المعارج؛ تتمةً للفائدة.
وعلوم الفقه ثلاثة عشر، وسأذكر في هذا المعراج التفصيلي معارجها واحدًا بعد
آخر، إلا فقه القضاء؛ فإنَّ ما تضمَّنَهُ الفقهُ المذهبي والفقه المقارن كافٍ لغير المتخصص
فيه، وفي بعض العلوم المتفرعة عن الفقه أذكر عيون المصنفات ولو لم تكن شافعيةً
خالصة.
ودونك سردَ مادةَ المعراج، والله يتولاك ويرعاك:
أولًا: تاريخ الفقه والمدخل إلي دراسته
يف وحدة البحث ١) المذاهب الفقهية الأربعة.. أئمتها، أطوارها، أصولها، آثارها تأ
العلمي بإدارة الإفتاء الكويتية، وهو منشورٌ على الشبكة.
٢) الاستماع لدورة "مدخل إلى علم الفقه" للشيخ محمد عبد الواحد الحنبلي، وتقع في
خمس محاضرات مرئية، وهي منشورة عبر الشبكة، وهي نفيسةٌ لا ينبغي أن تفوت.
٣) المدخل إلى علم الفقه لعلي جمعة.
١٩٩
٤) تاريخ الفقه الإسلامي للشيخ عمر الأشقر ط. دار النفائس.
٥) المدخل لدراسة القرآن والسنة والعلوم الإسلامية للدكتور شعبان إسماعيل.
وإذا أراد التوسع قرأ الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي للحجوي، وتاريخ
التشريع الإسلامي للخضري، وعما من عمدة كتب هذا العلم، ويقرأ ما كتبه الشيخ
و زهرة عن الأئمة الأربعة ومذاهبهم وأصولهم، فقد أفرد لكل إمامٍ كتابًا في محمد أ
ذلك، وما كتبه كذلك عن تاريخ المذاهب الفقهية.
١) المذهب عند الشافعية، وهو بحث منشور، للشيخ محمد إبراهيم أحمد علي.
٢) المذهب الشافعي.. دراسة عن أهم مصطلحاته وأشهر مصنفاته ومراتب الترجيح
فيه للشيخ محمد طارق مغربية.
٣) لمحمد بن محمد الأسطل، - وهو
هذا الكتاب- وهو اختصار لكتاب "المدخل إلى مذهب الإمام الشافعي" للدكتور
قيت الكتاب أكرم القواسمي، مع إضافات مهمة وإثراءات نفيسة، علمًا بأني أ
ملخصًا في خمس محاضرات صوتية منشورة على قناة التليغرام الشخصية( ١)، وبعد
يا عسى أن تُنشر عن قريب. كتابة هذا المختصر قمت بتدريسه في ١٢ مجلسًا علم
٤) المعتمد عند الشافعية بين النظرية والتطبيق للدكتور محمد عمر الكاف.
٥) عبقرية الإمام الشافعي.. المدد والمداد للشيخ مشاري الشثري، صادر عن مركز
البيان للبحوث والدراسات.
١) وهي باسم "محمد بن محمد الأسطل". )
٢٠٠
٦) مقدمة الدكتور عبد العظيم الديب على نهاية المطلب في دراية المذهب للإمام
الجويني.
١) الفوائد المكية فيما يحتاجه طلبة الشافعية للشيخ العلامة علوي السقاف ط. دار
الفاروق، وللمؤلف نفسه اختصارٌ عليه ط. دار البشائر بتحقيق الدكتور يوسف
المرعشلي.
٢) الفوائد المدنية فيمن يفتى بقوله من الأئمة الشافعية للعلامة محمد بن سليمان
الكردي.
٣) التمذهب.. دراسة تأصيلية للمسائل المتعلقة بالتمذهب للشيخ عبد الفتاح
اليافعي.
٤) تبصرة المحتاج بما خفي من مصطلح المنهاج لعرفات عبد الرحمن المقدي.
٥) دراسة شهية لمصطلحات المذاهب الأربعة الفقهية للمليباري.
٦) المدخل الفقهي العام للشيخ مصطفى الزرقا، وهو كتابٌ نفيس يخدم طالب الفقه
ه والأصول والمعتني بالمعاملات والقانون وغير ذلك، وهو أعم مما نحن فيه؛ لأ
يعتني بنفس المسائل، لكنه نافع فيما نقصد إليه هنا.
ظارهم في جملةٍ من مسائل التمذهب، وقد أشار به هنا إلى أنَّ العلماء تختلف أ وأ
الشيخ محمد عبد الواحد الحنبلي إلى جملةٍ من المفاهيم المهمة التي ينبغي للمتفقه أن يحيط بها
ه العلمية، فليُحرص على سماع المحاضرات، وقد فرَّغها أحد الكرماء في صدر نشأ
شرها قريبًا. ورتبتها، ولعلي أ
٢٠١
ثانيا: الفقه المذهبي
١) نيل الرجاء شرح سفينة النجاء للإمام الشاطري ط. دار المنهاج، ويستمع لشرح
شيخنا د. لبيب نجيب عليه، ويمر على الرسالة اللطيفة الموسومة بالجواهر الثمينة
في أدلة السفينة للشيخ محمود الشبلي، ويمكن الاستفادة من شرح متن السفينة
لشيخنا علي القُدَيمي وكذلك شرح شيخنا د. لبيب نجيب.
٢) شرح ابن قاسم الغزي على متن أبي شجاع، ويستمع لشرحه المرئي للشيخ لبيب
نجيب، ويقرأ بالتوازي أو التوالي كتاب التذهيب في أدلة متن الغاية والتقريب
.( للدكتور مصطفى البغا. ط. دار المصطفى( ١
أو يعتمد بدلًا منه الياقوت النفيس، وعندئذٍ يقرأ كتاب مؤنس الجليس بشرح
الياقوت النفيس للشيخ مصطفى عبد النبي، ويستمع بالتوازي لشرحه الصوتي على
متن الياقوت والنفيس، ويستفيد من شرح محمد بن أحمد الشاطري على شرح الياقوت
النفيس، ط. دار المنهاج.
١) وقد شرعت بحول الله وعونه في كتابة حاشية على شرح ابن قاسم، حرصت فيها على حسن تصوير المسائل )
جزت حتى هذه الساعة النصف، يسر الله إتمامها وطباعتها، وتحقيقها، وإيواء ما يتأسس المتفقه به، وقد أ
وأرجو إن تمت أن يكتفي الطالب بها عن كل ما سواها في المرحلة الأولى، إلا حفظ المتن، وقد بدأت في
يا، وفي النية مواصلة الشرح إذا يسَّر الله تعالى ومدَّ جز، فتم شرح كتاب الطهارة في ١٥ مجلسًا علم شرح ما أ
في العمر، وستنشر على قناتي على اليوتيوب، وعلى قناة التليغرام التي تبث فيها الدروس أولًا بأول،
.(t.me/feqeh ورابطها: ( ١٤٤١
٢٠٢
٣) حفظ متن أبي شجاع أو الياقوت النفيس، وحيث آثر النظم فليحفظ صفوة الزبد
فاظها بكتاب "إفادة السادة العُمَد في تقرير لابن رسلان، ويستعين على فك أ
معاني صفوة الزبد" للإمام الأهدل ط. دار المنهاج، وتقع المنظومة في ١٠٨٨ بيتًا،
وتستوعب مادة متن أبي شجاع مع زياداتٍ يسيرة، وهي منظومةٌ متينةٌ سهلة.
وار المسالك شرح عمدة السالك للغمراوي، ويمكن الاكتفاء بقراءة متن ١) أ
العمدة مع تعليقات الأستاذ ماجد الحموي لمن هضم المرحلة الأولى جيدًا، ويقرأ
مع ذلك بالتوازي أو التوالي تنوير المسالك بشرح وأدلة عمدة السالك للشيخ
مصطفى البغا، وله شرحٌ مرئيٌّ عليه منشور عبر الشبكة.
أو يعتمد بدلًا من ذلك كله كتاب الفقه المنهجي؛ فإنه كتاب سهل العبارة، حاضر
الأدلة، وإنه لكتابٌ مظلوم، وإن كان يعد في درجة شرح ابن قاسم إلى حدِّ ما، لكنه
على الطريقة المدرسية، ومما يميزه أنَّ مسائله مقرونةٌ بالأدلة.
أو الإقناع للشربيني لكن مع حاشية البجيرمي عليه ط. الحلبي وصدرت مصورةً
عن دار النوادر، مع سماع أحد الشروح عليه.
سر من أو كفاية الأخيار ط. دار المنهاج، مع سماع أحد الشروح عليه، وهو أ
الإقناع، وله عنايةٌ بالأدلة، وهو كتابٌ فذ، وهو أحب كتب هذه المرحلة إليَّ.
٢) وإذا أراد التوسع فيقرأ المنهج القويم بشرح مسائل التعليم لابن حجر ط. دار
صح بالتوجه لمستوى المنهاج مباشرة. المنهاج، لكني أ
٣) يستمع خلال اشتغاله بالمرحلة الأولى والثانية لعددٍ من المحاضرات النافعة للمتفقه
يلتقط منها ما طاب له من المفاهيم، وذلك مثل: مفاتيح علم الفقه للشيخ عبد
٢٠٣
ضًا، والمنهجية في تعلم الفقه للشيخ السلام الشويعر، وكيف تقرأ كتب الفقه له أ
صالح العصيمي، وكيفية دراسة كتب الفقه للشيخ صالح آل الشيخ، وطرق
اجد، وجماليات الفقه للشيخ هيثم البحث في كتب الفقه للشيخ سليمان ا
الرومي، ومنهاج الفقهاء الأربعة للشيخ عبد الله السلمي، ومدارج التفقه للشيخ
أحمد المطرودي، ومفاتيح ضبط الفقه للشيخ عبد الله الكنهل، والطريق إلى ضبط
الفقه وإتقانه للشيخ سلطان العيد، وطرق الاستذكار الفقهي للشيخ عبد الله
التميمي.
١) اعتماد أحد الشروح الأربعة على المنهاج: تحفة المحتاج في شرح المنهاج لابن
حجر، ونهاية المحتاج للرملي، والفُتيا على هذين، ومغني المحتاج للشربيني، وكنز
الراغبين للمحلي، ويستمع مع ذلك للشرح الصوتي على المنهاج للشيخ محمد
حسن هيتو، ويستفيد من كتاب إفادة الراغبين شرح وأدلة منهاج الطالبين
للدكتور مصطفى البغا، ومن استطاع أن يحفظ المنهاج فليفعل، وإلا فليدمن النظر
فيه.
والكتاب الذي يعتمد قراءته يقرأ حواشيه معه لزامًا لدقة العبارة فيها جميعًا، إلا
مغني المحتاج؛ فليس له حاشية منشورة، والذي يعين على فهم عبارته أن يقرأ عبارته
أولًا ثم يقرأ النجم الوهاج للدميري ثم حاشية البجيرمي على الإقناع ثم يعود إليه،
وما يبقى مشكلًا من المسائل.. فيطلب حله في حاشية الشرواني على التحفة، والغرر
البهية شرح منظومة البهجة الوردية وعليه حاشية الشربيني والعبادي.
٢٠٤
والحواشي نافعة على كل حال، ومهما قرأت فلتكن لك عنايةٌ بحاشية الشرواني
على التحفة، وقليوبي وعميرة على شرح المحلي، والبجيرمي على الخطيب، والباجوري
على ابن قاسم، والشربيني والعبادي على الغرر البهية، والحواشي الكبرى للكردي على
شرح المقدمة الحضرمية، فلو أردت قراءةٍ واحدةٍ منها قراءةً جرديةً.. فالوصية بحاشية
الشرواني. ط. الحلبي، أو الفكر، فما أعظمها لو أنَّ لها رجالًا!.
ومن الجهود التي يمكن أن يستفيد منها الدارس لمنهاج الطالبين: تحفة المحتاج إلى
أدلة المنهاج لابن الملقن، والقديم والجديد من أقوال الإمام الشافعي من خلال كتاب
منهاج الطالبين للدكتور محمد الرستاقي.
٢) وضبطًا للمسائل التي اختلف فيها الرملي وابن حجر بالإضافة للخطيب يقرأ
كتاب "المنهل النضاخ في الخلاف بين الأشياخ" للعلامة ابن القره داغي، وجمع فيه
ة، ونبه عليها الشيخ مصطفى حامد سميط في اختصاره لتحفة ١٨١٤ مسأ
المحتاج في الحاشية، ويمكن الاستفادة من كتاب فتح العلي بجمع الخلاف بين ابن
حجر وابن الرملي لعمر بن الحبيب الحضرمي، وإثمد العينين في بعض اختلاف
الشيخين للشيخ علي باصبرين، علمًا أن حاشية الشرواني اعتنت بذلك.
٣) وإذا أراد التوسع قرأ الحواشي الثلاث للعلامة الكردي خاصة الحاشية الكبرى؛
فإنها كنز فقهي يلقى بين يدي طالب العلم.
٤) ويقرأ خلال المرحلة الثانية والثالثة بعض الكتب النافعة للمتفقه مثل: محاسن
الشريعة في فروع الشافعية للإمام القفال، ومسرد المهارات الفقهية من إعداد نخبة
من المختصين بإشراف الدكتور عبد الله الشيخ والدكتور خالد المزيني، وهو
كتابٌ مهم، وصناعة التفكير الفقهي الصادر عن مركز تكوين للدراسات
٢٠٥
حاث، والصناعة الفقهية لأبي الطيب مولود السريري، والتكييف الفقهي والأ
للوقائع المستجدة وتطبيقاته الفقهية للدكتور محمد عثمان شبير، ط. دار القلم،
ضًا، والملكة الفقهية.. حقيقتها وشروط وكذلك تكوين الملكة الفقهية له أ
اكتسابها وثمراتها للدكتور عبد الله القاضي، ويمكن أن يستمع للمحاضرات
المعقودة في هذا الموضوع مثل: بناء الملكة الفقهية للشيخ عامر بهجت، والملكة
الفقهية للشيخ عبد العزيز الشبل، وقواعد في تنمية الملكة الفقهية للشيخ سليمان
اجد وغير ذلك. ا
١) معرفة السنن والآثار للإمام البيهقي.
٢) التلخيص الحبير في تخريج أحاديث الرافعي الكبير للحافظ ابن حجر تعليق
واعتناء أبي عاصم قطب، ط. مؤسسة قرطبة، وإن علت همة المتفقه فليقرأ أصله
البدر المنير في تخريج الأحاديث والآثار الواقعة في الشرح الكبير لابن الملقن، ط.
دار العاصمة، وقراءة كتاب الإمام البيهقي وأحد هذين الكتابين مما يتحتم على
المتفقه على المذهب الشافعي، والذهول عنهما أو التقصير فيهما خسرانٌ مبينٌ.
به أنَّ جلَّها مرهونٌ بإنجاز الفقه المذهبي وقبل الكلام عن معارج بقية علوم الفقه أ
وضبطه على وجهه، وحينئذٍ لا نحتاج في بعضها إلا إلى كتبٍ معدودة.
مع إعادة التنبيه أني في العلوم المتفرعة عن الفقه أستفيد من الجهود العلمية من غير
المذهب؛ لعظيم الفائدة الكامنة فيها.
٢٠٦
ثالثًا: آيات الأحكام
١) تيسير البيان لأحكام القرآن للإمام الموزعي الشافعي، وقد صدَّره مؤلفه بمقدمةٍ
أصوليةٍ لغويةٍ نفيسة.
٢) التفسير والبيان لأحكام القرآن للشيخ عبد العزيز الطريفي، وهو كتابٌ فذ.
٣) روائع البيان تفسير آيات الأحكام للشيخ محمد علي الصابوني، وهذا أسهل الثلاثة
لكنَّ الأولين أولى منه.
رابعا: أحاديث الأحكام
١) تيسير العلام شرح عمدة الأحكام للشيخ البسام، أو شرح عمدة الأحكام للشيخ
عبد الله الفوزان. ط. دار ابن الجوزي.
٢) إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام لابن دقيق العيد ط. دار ابن حزم، تحقيق
حسن إسبر، وهذا الكتاب نفيس لكن الناظر فيه لا بد أن يتسلح بعلم أصول
الفقه ولو بالمرحلة الأولى والثانية منه، ويستمع لشرح الشيخ رشدي القلم عليه في
مائتي درس، وحيث استغلق عليه شيء فلينظر حاشية الصنعاني عليه.
٣) حفظ عمدة الأحكام لابن قدامة المقدسي.
١) منحة العلام في شرح بلوغ المرام للشيخ عبد الله الفوزان.
٢٠٧
٢) سبل السلام شرح بلوغ المرام للإمام الصنعاني ط. دار ابن الجوزي، ولا تكمل
الاستفادة منه إلا بإنجاز الفقه المذهبي وقراءة أصول الفقه.
٣) حفظ بلوغ المرام من أدلة الأحكام للحافظ ابن حجر.
١) طرح التثريب في شرح التقريب للحافظ العراقي. ط. دار ابن الجوزي.
٢) نيل الأوطار من أسرار منتقى الأخبار للإمام الشوكاني. ط. دار ابن الجوزي.
ويُقرأ بعد ذلك في شروح الكتب الستة وموطأ مالك التي اعتنت بأحاديث
الأحكام.
خامسا: القواعد الفقهية
١) المقدمة السنية في القواعد الفقهية لمحمد بن محمد الأسطل، وقد آوت المقدمات
النظرية للقواعد والضوابط، وشرح القواعد الخمس الكبرى، وهي مأخوذةٌ من
رسالتي العلمية بلبنان، وقد صدرت عن رابطة علماء فلسطين، فرع خان يونس،
وقد قمت بنشر رسالتي على الشبكة بعد أن تمت المناقشة، وهي بعنوان: "القواعد
الفقهية عند الإمام الرملي في كتابه "نهاية المحتاج".
٢) الجواهر العدنية شرح الدرة القديمية لشيخنا د. لبيب نجيب، وهو شرحٌ يسير
مختصر لمهمات القواعد.
٢٠٨
٣) إيضاح القواعد الفقهية للعلامة عبد الله اللحْجِي، عناية الدكتور أحمد الحداد، ط.
دار الضياء، وهناك أكثر من شرحٍ صوتيٍّ عليه على الشبكة.
٤) القواعد الفقهية.. مفهومها ونشأتها وتطورها ودراسة مؤلفاتها، أدلتها، مهمتها،
تطبيقاتها للشيخ علي الندوي، ويمكن أن يقدم دراسته عما سبقه.
١) المواهب السنية شرح الفرائد البهية في نظم القواعد الفقهية للأهدل للإمام
الجرهزي، ويستعين عليه بحاشية أبي الفيض الفاداني عليه.
٢) قواعد ابن الملقن ويسمى الأشباه والنظائر في قواعد الفقه، وهو مرتبٌ على
واب حسنة. واب الفقهية، وعنايته بضوابط الأ الأ
٣) الأشباه والنظائر في قواعد وفروع الشافعية للإمام السيوطي ط. دار السلام تحقيق
د. محمد تامر وحافظ حافظ.
١) الاعتناء في الفرق والاستثناء للإمام البكري بتحقيق عادل عبد الموجود وعلي
معوَّض، ط. دار الكتب العلمية وهذا كتابٌ نفيسٌ من مفاخر المؤلفات الفقهية،
واب الفقهية، فيمكن دراسته بالتوازي ولا يغني عنه غيره، وهو مرتبٌ على الأ
مع كتب الفقه المذهبي، وعدم الاطلاع عليه خسارة فادحة.
ام للإمام العز بن عبد السلام. ٢) قواعد الأحكام في مصالح الأ
ويمكن الاستفادة لمن أراد التوسع من معلمة زايد للقواعد الفقهية والأصولية،
وتقع في واحدٍ وأربعين مجلدًا.
٢٠٩
سادسا: الفروق الفقهية
١) الفروق الفقهية والأصولية.. مقوماتها، شروطها، نشأتها، تطورها للدكتور
يعقوب الباحسين. ط. مكتبة الرشد وشركة الرياض.
٢) المعاياة في الفقه لأبي العباس الجرجاني، وهذا كتابٌ نفيس، وحُقِّق في رسائل
علمية.
٣) الجمع والفرق للإمام الجويني تحقيق عبد الرحمن المزيني.
٤) الاعتناء في الفرق والاستثناء للإمام البكري، وهذا من كتب القواعد والفروق
معًا.
٥) مطالع الدقائق في تحرير الجوامع والفوارق للإمام الإسنوي.
واء الفروق" للإمام القرافي، وهو مالكي، وهو كتابٌ وار البروق في أ ٦) الفروق "أ
نفيسٌ من عيون المؤلفات الفقهية.
سابعا: الفقه المقارن
لا بد أن يُعلمَ أنَّ الفقه المقارن بعضه يكون داخل المذهب نفسه، وهو الخلاف
النازل، وبعضه يكون مع المذاهب الأخرى، وهو الخلاف العالي، والخلاف العالي إما أن
يكون مع مذهبٍ أو مذهبين، وإما أن يعمَّ الأربعة وهو الغالب، وإما أن يتجاوزهم،
ويكثر هذا في الكتب القديمة لا سيما كتب ابن المنذر وابن عبد البر.
٢١٠
ة ثم تحرير محل والجادة في بحث المسائل على المنهج المقارن أن يُذكر تصوير المسأ
النزاع بمعرفة مواضع الإجماع والاتفاق والخلاف، وسبب الخلاف، وأدلة كل فريق ثم
المناقشة بينها وصولًا إلى القول الراجح مع بيان مسوغات الترجيح.
وهذا يستدعي أن تُدرس مسائل الإجماع قبل مسائل الخلاف، ولهذا سأفرد مرحلة
خاصة بذلك، ثم المراحل الثلاث لمسائل الخلاف، فتكون المراحل بذلك أربعًا، وإليك
البيان:
١) إجماعات العبادات، إعداد القسم العلمي بمؤسسة الدر السنية بإشراف الشيخ
علوي السقاف، الطبعة الثانية.
و حماد حنيف. ٢) الإجماع لابن المنذر، تحقيق الدكتور أ
٣) الإقناع في مسائل الإجماع لابن القطان، تحقيق حسن الصعيدي.
وإذا أراد التوسع قرأ موسوعة مسائل الجمهور في الفقه الإسلامي للدكتور محمد
نعيم ساعي.
١) الدرة المضية فيما وقع فيه الخلاف بين الشافعية والحنفية لأبي المعالي الجويني.
٢) الاصطلام في الخلاف بين الإمامين الشافعي وأبي حنيفة لأبي المظفر السمعاني،
تحقيق الدكتور نايف العمري.
٣) النكت في المسائل المختلف فيها بين الشافعي وأبي حنيفة للإمام أبي إسحاق
الشيرازي، وحقق بعضه في رسائل علمية.
٤) الخلافيات بين الإمام الشافعي وأبي حنيفة وأصحابه للإمام البيهقي.
٢١١
آخذ في الفقه الشافعي للإمام الغزالي تحقيق د. محمد مسفر، الصادر عن ٥) تحصين ا
أسفار.
وهذه الكتب تعلمك العقل، وترشدك إلى طرق الأئمة في تقرير الخلاف الفقهي،
وبدائع الاستنباط العقلي من الدليل الشرعي، وكيف يعرض الخلاف في ثوبٍ زاخرٍ
بالفقه والأدب والعقل.
١) الإفصاح لابن هبيرة، أو رحمة الأمة في اختلاف الأئمة للدمشقي.
وإذا أراد التوسع قرأ الفقه الميسر لعبد الله الطيار وعبد الله المطلق ومحمد
الموسى، وهو كتابٌ في الفقه المقارن يقع في ثلاثة عشر مجلدًا صغيرًا، والمجلدات
الخمسة الأخيرة في مسائل النوازل.
٢) بداية المجتهد ونهاية المقصد للإمام ابن رشد تحقق الشيخ ماجد الحموي،
ويحرص المتفقه على قراءة تحقيق وتعليق الدكتور الزاحم على كتاب الطهارة
والصلاة، ولعله يتمه إن شاء الله، وصدر مؤخرًا شرحٌ عليه صادر عن دار ابن
حزم اسمه: "بغية المقتصد شرح بداية المجتهد" للشيخ محمد الوائلي، ويقع في ستة
عشر مجلدًا، ولم أطَّلع عليه بعد.
وكتاب بداية المجتهد هو عمود الرحى الذي يدور حوله طالب هذا العلم، ومن
جز طالب العلم أهم ما يميزه عنايته بتحرير سبب الخلاف في المسائل، ومتى أ
اللغة وأصول الفقه والفقه المذهبي أمكنه الدخول في رياضه، ولو لم يقرأ الكتب
المذكورة آنفًا.
٢١٢
ويمكن للناظر فيه أن يقرأ كتاب "الأقوال الشاذة في بداية المجتهد" لصالح
الشمراني، فقد درس المسائل التي أشار إليها ابن رشد بالشذوذ، وكتاب: "تربية ملكة
الاجتهاد من خلال كتاب بداية المجتهد لابن رشد الحفيد" للشيخ محمد بولوز،
وأصله رسالة دكتوراه.
ر الحديث الشريف في اختلاف الأئمة الفقهاء" للشيخ محمد ويحسن أن يقرأ هنا "أ
عوامة ط. دار المنهاج ودار اليسر.
و حماد ١) الأوسط في السنن والإجماع والاختلاف لابن المنذر، تحقيق الدكتور أ
حنيف.
يا من كل مذهب اعتنى بالفقه المقارن، ٢) وينبغي أن يقرأ بعد ذلك كتابًا موسوع
وأقترح: بدائع الصنائع للكاساني، والتمهيد لابن عبد البر، والمجموع للنووي،
والمغنى لابن قدامة، والمحلى لابن حزم، وهذه الكتب تثور العقل الفقهي، وتمنح
قارئها عقل الكبار، وقد نصحني شيخنا الدكتور فضل مراد وفقه الله أن أقرأ كتابًا
منها في كل سنة، بواقع مجلدٍ في كل شهر.
على أن المتفقه متى قرأ بداية المجتهد أمكنه أن يعتمد نظام بحث المسائل التي يريد
معرفة حكمها، ويستفيد من كتب الفقه المقارن ومن ذخيرة الرسائل العلمية التي
تعد من منجزات هذا العصر؛ فكثيرٌ من الموضوعات تم تحرير بحثها عبر المنهج
المقارن المنضبط.
٢١٣
اوردي، وكتاب ومن الكتب النافعة في ذلك غير ما ذكر: الحاوي الكبير للإمام ا
التجريد للإمام القدوري الحنفي، ط. دار السلام، وهو في الخلاف بين الشافعية
والأحناف، وعرضه صاحبه على طريقة الجدل.
أما الكتب المعاصرة فأهمها وأحسنها: الموسوعة الفقهية الكويتية، والفقه
الإسلامي وأدلته للدكتور وهبة الزحيلي، ولهذا كثيرًا ما يعتمد عليهما طلبة الدراسات
حاثهم، ولو في التصورات الأولى عن المسائل وما فيها من أقوال. العليا في أ
ثامنا: الفقه المعاصر
١) المدخل لدراسة النوازل الفقهية للدكتور عبد الله الرشيد.
حاث ٢) أصول النوازل للجيزاني ط. دار ابن الجوزي، وهو كتاب يتضمن ثلاثة أ
تأصيلية في فقه النوازل، مع الملخص العلمي لسبعمائة وثلاث وعشرين وثيقة.
ناء اشتغاله بذلك لعددٍ من الدورات العلمية المختصرة التي عُقِدت في ٣) ويستمع أ
فقه النوازل، ومن ذلك: فقه النوازل لشيخنا د. فضل مراد، ودراسة النازلة
الفقهية للدكتور فهد اليحيى، وقواعد في فقه النوازل للدكتور حسن البخاري،
يا عبر الشبكة، والمحاضرات المفردة في ذلك كثيرة. وثلاثتها منشورةٌ مرئ
١) المقدمة في فقه العصر لشيخنا د. فضل مراد، ويقع في مجلدين، ومادته مركزة، وإنَّه
لمن مفاخر المؤلفات، والشيخ يشتغل بتدوين شرحٍ يبسط فيه القول في المسائل.
٢١٤
٢) وثائق النوازل للجيزاني ط. دار ابن الجوزي، ويقع في أربعة مجلدات، ويحتوي على
كافة القرارات الصادرة عن ثمانية من المجامع الفقهية في النوازل المعاصرة حتى
. عام ١٤٣٧
٣) مسائل النوازل التي جاءت في المجلدات الخمسة الأخيرة من كتاب الفقه الميسر
الذي سبق بيانه في معراج الفقه المقارن.
١) بحوث في قضايا فقهية معاصرة لمحمد تقي العثماني. ط. وزارة الأوقاف القطرية.
٢) الموسوعة الميسرة في فقه القضايا المعاصرة إعداد مركز التميز البحثي في فقه
القضايا المعاصرة، وهو كتابٌ فذ، يقع في خمسة آلاف صفحة، شمل المسائل
المعاصرة في العبادات والمعاملات وفقه الأسرة والفقه الطبي وفقه الأقليات
المسلمة والأطعمة واللباس والزينة والآداب والجنايات والقضاء والعلاقات
الدولية.
ويقرأ بعد ذلك ما يحتاجه مستفيدًا من مواقع الفتاوى والرسائل العلمية وكتب
فقه النوازل وما يأتي في معراج فقه الاقتصاد، ويستفيد كذلك من الكتب التي أعادت
واب الفقهية بما يشمل مهمات النوازل؛ ككتاب فقه الزكاة وفقه الجهاد عرض الأ
للشيخ يوسف القرضاوي.
مع التنبيه أنَّ معراجَ النَّوازل إنما هو لترتيب الدراسة، وإلا فيمكن للمتفقه متى
جز المدخل لدراسة فقه النوازل أن يقرأ في الكتاب الذي يريد. أ
٢١٥
تاسعا: الفتاوى وفقه الفتوى
١) الفتاوى بين الانضباط والتسيب للشيخ يوسف القرضاوي.
٢) ميثاق الإفتاء المعاصر للشيخ محمد يسري إبراهيم. ط. دار اليسر.
٣) الاستماع لمحاضرة شيخنا د. محمد الزحيلي بعنوان: إشكاليات الفتوى، وهي
منشورةٌ عبر الشبكة.
٤) الفتيا المعاصرة.. دراسة تأصيلية تطبيقية في ضوء السياسة الشرعية للدكتور
المزيني. ط. دار ابن الجوزي.
وإذا أراد التوسع قرأ الفتاوى الشاذة للشيخ يوسف القرضاوي، وإرسال الشواظ
على من تتبع الشواذ للشيخ صالح الشمراني، والنهج الأقوى في أركان الفتوى..
دراسة فقهية مقارنة لأحكام وآداب الفتوى والمفتي والمستفتي للدكتور أحمد العريني.
ط. دار العاصمة، وصناعة الفتوى للشيخ عبد الله بن بيه.
١) قراءة ما تيسر من فتاوى فقهاء المذهب مثل: فتاوى القاضي حسين، وفتاوى
البغوي، وفتاوى ابن الصلاح وفتاوى النووي وفتاوى السبكي وفتاوى البلقيني
وفتاوى الهيتمي وفتاوى الشهاب الرملي.
٢) فتاوى الشبكة الإسلامية، وهذه كنزٌ بين يدي الطالب؛ لأنَّ فريق الفتوى اتبع
منهج ذكر أقوال المذاهب وهو منضبطٌ في الترجيح، وإذا لم تأخذ بترجيحهم
٢١٦
استفدت مظان المسائل في كتب المذاهب؛ لأنهم يوردون نصوص الفقهاء في
ة، ويعالجون كثيرًا من المسائل المعاصرة ويُخَرِّجُونَها على فقه المذاهب. المسأ
١) القراءة في كتب فتاوى العلماء المعاصرين، خاصة فتاوى الشيخ مصطفى الزرقا،
والشيخ ابن باز، والشيخ ابن عثيمين، والشيخ القرضاوي وصدرت بعنوان:
و زهرة. فتاوى معاصرة، والشيخ محمد رشيد رضا، والشيخ محمد أ
٢) مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، ويمكن الاقتصار على مجلدات الفقه منه،
وهو غزيرٌ بالقواعد التي تهبك فهمًا عميقًا للشريعة مع كثرة الاستشهاد بالوحي
والاستنباط منه، وتحقيق المسائل.
٣) ويُنبَّهُ المتفقه هنا على أهمية ملازمة بعض المفتين ودوائر الإفتاء مدةً من الزمان؛
للاطلاع على دقائق الفتوى وأحوال الناس.
عاشرا: السياسة الشرعية
١) أضواء على السياسة الشرعية للدكتور سعد العتيبي.
٢) المدخل إلى السياسة الشرعية للشيخ عبد العال عطوة.
٣) شرح السبل المرعية في السياسة الشرعية للدكتور وليد المنيسي، وهو شرحٌ على
نظم، وكلاهما من وضع المؤلف.
٢١٧
وإذا أراد التوسع قرأ السياسة الشرعية للشيخ يوسف القرضاوي، والسياسة
الشرعية لعبد الوهاب خلاف، والسياسة الشرعية.. مدخل إلى تجديد الخطاب
الإسلامي للدكتور عبد الله إبراهيم زيد الكيلاني، من إصدارات المعهد العالمي للفكر
الإسلامي.
١) السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية لابن تيمية، ولابن عثيمين تعليقات
صوتية عليه، ويمكن الاستفادة من تلخيص الكتاب وتشجيره بطريقة الخرائط
الذهنية لأحلام دريدي.
٢) خصائص التشريع الإسلامي في السياسة والحكم للدكتور فتحي الدريني. ط. دار
الرسالة.
٣) فقه المتغيرات في علائق الدولة الإسلامية بغير المسلمين للدكتور سعد العتيبي.
اوردي. ١) الأحكام السلطانية للإمام ا
٢) غياث الأمم في التياث الظلم للإمام الجويني.
٣) الأزمة الدستورية للدكتور محمد مختار الشنقيطي، وهو كتاب قوي، ولكن يقرأ
قراءةً نقدية؛ ففيه ما يُستدرك عليه، وكذلك الكتاب الذي بعده.
٤) الحكم والسياسة والنظم السلطانية بين الأصول وسنن الواقع لحسن الترابي.
فاظ ومصطلحات العلاقات الدولية في الفقه ويرجع عند الحاجة إلى معجم أ
و غدة. الإسلامي للدكتور حسن أ
٢١٨
به هنا إلى أنَّ بعض ما يرد في هذه الكتب محل نقاش وأخذ ورد، ولهذا ينبغي وأ
للطالب أن يكون ريانًا في فهم الشريعة والتشبع بالوحي وإنجاز الفقه المذهبي وأصول
الفقه؛ ليقرأ بعقل المستفيد الناقد.
حادي عشر: الاقتصاد الإسلامي
إنَّ هذا العلم منبثقٌ عن فقه المعاملات، لكنه ترعرع وتطور حتى أضحى علمًا
ادة، وينتفع طالب الفقه عامة والمعتني بفقه المعاملات المعاصرة لا ضخم ا مستق
والاقتصاد الإسلامي خاصة، ولا يكاد يطيل النظر فيه إلا المتخصص، ولهذا سأزيد من
كتبه المقترحة، وطالب العلم يقرأ حاجته منه، ودونك معراجه:
١) أصول الاقتصاد الإسلامي لرفيق المصري.
٢) ما لا يسع التاجر جهله للدكتور عبد الله المصلح والدكتور صلاح الصاوي.
و سليمان. ٣) فقه المعاملات الحديثة للدكتور عبد الوهاب أ
٤) رتاج المعاملات لفهد الحمود.
٥) حقيبة القره داغي الاقتصادية ط. دار النداء، وتقع في اثني عشر مجلدًا، لكنها
جمعت مؤلفات الشيخ في حقيبة واحدة، ويمكن البدء بها لاستقلال موضوعاتها
الية عن بعض، وتحدث فيها عن مدخل عام للاقتصاد الإسلامي، والمعاملات ا
والتطبيقات المعاصرة، وفقه البنوك، وفقه البنوك وفقه الزكاة وتطبيقاتها المعاصرة
وغير ذلك.
٢١٩
٦) ويجتهد المتفقه في الاستماع لبعض المحاضرات والدورات العلمية في هذا العلم،
وهي كثيرةٌ على الشبكة، من مثل محاضرات الشيخ علي القره داغي، والشيخ علي
السالوس.
الية ١) المعايير الشرعية الصادر عن هيئة المحاسبة والمراجعة للمؤسسات ا
نوفمبر ٢٠١٧ م، وللشيخ علي الإسلامية، التي تم اعتمادها حتى صفر ١٤٣٩
القره داغي شرح مرئيٌّ على بعض المعايير منشور على الشبكة، وكذلك ما تم بثه
من شرح مرئي لبعض المعايير بإشراف نادي الاقتصاد الإسلامي.
الية للدكتور عجيل النشمي. ٢) مستجدات المعاملات ا
٣) أساسيات العمل المصرفي الإسلامي لأشرف دوابة. د. دار السلام.
٤) القضايا الفقهية المعاصرة والاقتصاد الإسلامي لعلي السالوس.
الية المعاصرة في الفقه الإسلامي للدكتور محمد عثمان شبير. ٥) المعاملات ا
الية المستحدثة للشيخ محمد مصطفى الشنقيطي. ٦) دراسة شرعية أهم العقود ا
ال والاقتصاد للدكتور نزيه حماد. ط. دار القلم. ٧) قضايا فقهية معاصرة في ا
١) العقود المسماة في الفقه الإسلامي "عقد البيع" للشيخ مصطفى الزرقا. ط. دار
القلم.
٢) المدخل إلى نظرية الالتزام العامة في الفقه الإسلامي للشيخ مصطفى الزرقا. ط.
دار القلم.
و زهرة. ٣) الملكية ونظرية العقد للشيخ محمد أ
٢٢٠
٤) فقه البيع والاستيثاق والتطبيق المعاصر للدكتور علي السالوس، ولمن أراد التوسع
فيقرأ كتاب فقه البيوع على المذاهب الأربعة مع تطبيقاته المعاصرة لمحمد تقي
العثماني.
٥) بيع التقسيط وأحكامه للشيخ سليمان التركي.
٦) دراسة في أصول المداينات في الفقه الإسلامي للدكتور نزيه حماد.
٧) بيع الدين وتطبيقاته المعاصرة في الفقه الإسلامي لأسامة اللاحم.
و غدة، وأصله رسالة دكتوراه. ره في العقود للدكتور عبد الستار أ ٨) الخيار وأ
٩) عقد الاستصناع أو عقد المقاولة في الفقه الإسلامي للدكتور كاسب البدران.
١٠ ) الغرر في العقود وآثاره في التطبيقات المعاصرة للدكتور الصديق الأمين
الضرير، وأصله محاضرة.
١١ ) مبدأ الرضا في العقود للشيخ علي القره داغي.
١٢ ) نظرية الضمان للدكتور وهبة الزحيلي.
١٣ ) الجامع في أصول الربا للدكتور رفيق المصري. ط. دار القلم والدار الشامية.
١٤ ) الربا والمعاملات المصرفية في نظر الشريعة الإسلامية للدكتور عمر المترك.
١٥ ) المنفعة في القرض لعبد الله العمراني.
١٦ ) الحيازة في العقود في الفقه الإسلامي لنزيه حماد.
ره في العقود للدكتور عبد الله السلمي. ١٧ ) الغش وأ
١٨ ) الميسر والقمار للدكتور رفيق المصري.
الية للشيخ محمد بن إبراهيم. ١٩ ) الحيل الفقهية في المعاملات ا
٢٠ ) الاستثمار أحكامه وضوابطه في الفقه الإسلامي لقطب مصطفى سانو.
٢٢١
٢١ ) التورق المصرفي لرياض رشود، ط. وزارة الأوقاف القطرية.
ومن أراد المزيد فأحيله على مقالتين كتبهما الدكتور عبد العزيز الدغيثر، الأولى
بعنوان: أهم الكتب التأسيسية في فقه المعاملات، وهي منشورةٌ على موقع الألوكة،
الية، وهي منشورةٌ على موقع صيد والأخرى بعنوان: كتب تأسيسية في المعاملات ا
الفوائد.
ثاني عشر: طبقات الفقهاء
١) طبقات الفقهاء للإمام الشيرازي.
٢) طبقات الشافعية لابن هداية الله الحسيني.
٣) طبقات الشافعية لعبد الله الشرقاوي.
٤) طبقات الشافعية الكبرى لتاج الدين السبكي.
٢٢٢
[ ملحق [ ٢
المعراج التفصيلي لعلم أصول الفقه
وفيه ستة علوم متفرعة:
أولًا: تاريخ علم أصول الفقه والمدخل إلى دراسته
١) الاستماع لمحاضرة "المنهجية في دراسة أصول الفقه" للشيخ العلامة مولود
السريري، ثم محاضرة "خارطة علم أصول الفقه" للدكتور عامر بهجت.
٢) أصول الفقه.. النشأة والتطور للدكتور يعقوب الباحسين.
٣) تاريخ علم أصول الفقه للدكتور محمود عبد الرحمن، صدر عن دار اليُسر.
ره بالمباحث الكلامية للدكتور عبد السلام ٤) تطور علم أصول الفقه وتجدده وتأ
بلاجي، ط. دار ابن حزم، وهذا كتابٌ مهم.
٥) أصول الفقه.. تاريخه ورجاله لشعبان محمد إسماعيل.
٦) المدخل إلى أصول الإمام الشافعي، للدكتور مرتضى الداغستاني، ويمكن تقديمه.
و سليمان. ٧) الفكر الأصولي.. دراسةٌ تحليليةٌ نقدية للدكتور عبد الوهاب أ
٨) منهجية الإمام محمد بن إدريس الشافعي في الفقه وأصوله.. تأصيل وتحليل
و سليمان. للدكتور عبد الوهاب أ
و سليمان. ط. دار ابن حزم ٩) منهج البحث في أصول الفقه للدكتور عبد الوهاب أ
والمكتبة المكية.
٢٢٣
١٠ ) علم أصول الفقه من التدوين إلى القرن الرابع للضويحي.
ناء ذلك لجملة من المحاضرات التمهيدية لهذا العلم والدورات ١١ ) الاستماع أ
المتخصصة فيه، منها: "مدخل إلى دراسة علم أصول الفقه" للدكتور عياض
السلمي، و "منهجية القراءة في كتب أصول الفقه" للدكتور يعقوب الباحسين، و
صاري، ودورة "المدخل لدراسة "التعريف بعلم أصول الفقه" للشيخ فريد الأ
أصول الفقه" للشيخ حسن البخاري، وتقع في أربع عشرة محاضرة صوتية،
والسلسلة نافعة لكل طالب علم من غير نظرٍ إلى مذهبه، ودورة "المدخل إلى
أصول الفقه" للدكتور عامر بهجت، وتقع في تسعة دروس، منشورةٌ عبر الشبكة
ومفرغة.
ثانيا:مسائل أصول الفقه
١) الإملاء على شرح المحلي للورقات للدكتور أمجد رشيد، وهو منشور على الشبكة،
أو يقرأ شرح الورقات للشيخ عبد الله الفوزان، ويستمع بالتوازي للشرح المرئي
.( للشيخ حسن بخاري على متن الورقات( ١
١) ويمكن أن يجعل بدلًا من هذا أن يستمع لشرح الشيخ حسن بخاري على رسالة "الأصول من علم )
الأصول" لابن عثيمين، ويقع في خمسة عشر درسًا، لا ليعتمده في السلم الأصولي الشافعي؛ ولكن لأن
ما بها من أول يوم، والشرح منشورٌ الشرح مشحونٌ بالمفاهيم الأصولية التي ينبغي للمبتدئ أن يكون مل
دا على رسالة ابن عثيمين كذلك كتاب تقريب الحصول للدكتور غازي ومفرغ، ومن الشروح النافعة ج
العتيبي.
٢٢٤
ولو ثنى بشرح الشيخ حسام لطفي.. فهذا خير، ويقع في ثلاثة عشر درسًا، ومن
كان ذا همة فليستمع لشرح الشيخ العلامة مولود السريري، ويقع في تسعة عشر درسًا.
ويمكن الاستفادة من "التدريبات على الورقات في أصول الفقه" للدكتور عامر
واب بهجت، ط. دار طيبة الخضراء، وهو كتاب يحتوي على تمرينات وتشجيرات لأ
الأصول.
٢) حفظ متن الورقات.
١) الوجيز في أصول التشريع الإسلامي للدكتور محمد حسن هيتو، ويستمع
بالتوازي لشرح الشيخ نفسه للكتاب، ويقع في ثلاثة وخمسين درسًا، على أنَّ
الشرح أشبه بقراءةٍ للكتاب، والشيخ ضابطٌ متقن، أو يقرأ بغية المشتاق إلى لمع أبي
إسحاق لأبي الفيض الفاداني، تحقيق أحمد درويش، دار ابن كثير، ويستمع لأحد
سر، وأحسب أن باب صح بالوجيز، وهو أ الشروح الصوتية على اللمع، لكني أ
الأصول يفتح للطالب به.
وإذا أراد التوسع قرأ أصول الفقه الإسلامي للدكتور وهبة الزحيلي، أو الأساس
في أصول الفقه للدكتور محمود عبد الرحمن، صادر عن دار اليسر، أو رياضة العقول
صاري من إعداد الشيخ آصف عبد القادر جيلاني في إيضاح غاية الوصول لزكريا الأ
دونيسي، وهذا كتاب فذ ما ينبغي أن يفوت، ويوافق المعتمد في المذهب. الأ
ا تيسر من ناء دراسته لهذه المرحلة وما بعدها ٢) ويستمع بعد ذلك أو أ
المحاضرات التي تثري النظر الأصولي مثل: "طرق اكتساب الملكة في أصول
صاري، الفقه" للشيخ مولود السريري، و "فقه علم أصول الفقه" للشيخ فريد الأ
٢٢٥
و "مصادر أصول الفقه وروافدها" لعبد الرحمن القرني، و "التجديد في أصول
الفقه "لأحمد المباركي وعياض السلمي، و "نظريات أصول الفقه" لعلي جمعة،
و"علاقة أصول الفقه بالعلوم الأخرى" لعبد العزيز العويد، والعبقرية الأصولية
ليوسف بن عمر، و "كيف نستفيد من علم أصول الفقه"؟ لأحمد بن حميد، و
"طرق الاستذكار الأصولي" ليحيى الظلمي، و "العلاقة بين أصول الفقه وعلم
الكلام" لخالد العروسي، ومهارات في التعامل مع المسائل الكلامية في أصول
الفقه للدكتور محمد الكلثم، وغير ذلك.
١) البدر الطالع شرح جمع الجوامع للإمام المحلي بشرح وتعليق مرتضى الداغستاني
ط. مؤسسة الرسالة، مع العناية بحاشية العطار والبناني، مع تقرير الشربيني فإنه
ناء ذلك للشرح الصوتي على جمع الجوامع للشيخ د. حسن نفيس، ويستمع أ
بخاري، وهو شرحٌ بديع ما ينبغي أن يفوت بحال، ويقع في ثلاثة وستين درسًا،
ه سيصدر عنها محررًا مكتوبًا قريبًا. وقد أعلنت دار فارس أ
ويمكن الاستفادة من الحقيبة التعليمية لمتن جمع الجوامع.. تشجيرات وتدريبات،
والتمرينات التطبيقات من إعداد الدكتور عامر بهجت، والتشجيرات والأسئلة من
إعداد وعد بنت عبد الله الفهد، وقد صدرت الحقيبة في أربعة مجلدات عن دار طيبة
الخضراء، على أنَّ التشجير منشور على الشبكة مفردًا عن الحقيبة.
ويمكن الاستفادة كذلك من الشرح المرئي للشيخ العلامة أبي الطيب مولود
السريري على جمع الجوامع، وهو شرح مبسوط، ويمكن الاعتناء البالغ به لالتقاط
٢٢٦
العقل الأصولي في النظر إلى المسائل، فليس القصد هنا نيل المعلومة فحسب؛ بل شيء
فوق ذلك، والشيخ إمامٌ في النظر الأصولي والتأصيل الفقهي.
٢) أو يعتمد بدلًا من شروح جمع الجوامع شروح منهاج البيضاوي، والشرح المفضل
هو نهاية السول للإمام الإسنوي بحاشية المطيعي، ويستمع للشرح المرئي عليه
للشيخ محمد السيد الحنبلي، ولم يكتمل، ويحرص أن يستمع لأحد شروح متن
منهاج البيضاوي، ومن الشروح الصوتية المبثوثة على الشبكة: شرح الشيخ محمد
حسن هيتو، لكنه لم يكتمل، وشرح الشيخ سعد الشثري، وهو مفرغ.
صح أن يقدمه وحيث اعتمد منهاج البيضاوي وشرح الإسنوي عليه.. فإني أ
ه يحسن عرض المفاهيم بسماع شرح الشيخ د. حسن بخاري على جمع الجوامع؛ لأ
ادة في المتنين متقاربة. الأصولية وتصوير المسائل، على أن ا
ومما يمكن أن يعينه على فهم نهاية السول كتاب أصول الفقه لأبي النور زهير، فقد
هذب الكتاب ويسر العبارة، وهو من أفضل كتب الأصول المعاصرة، وإني لأحسب
أنَّ من جمع بين نهاية السول وكتاب أبي النور زهير وشرح الشيخ د. حسن بخاري..
ى على الخير من أطرافه. قد أ
ويجتهد أن يحفظ جمع الجوامع أو منهاج البيضاوي إن كان على همةٍ وطموح، وإلا
فيكثر من النظر في المتن الذي يعتمده، وحيث اختار جمع الجوامع وآثر النظم.. فيحفظ
فاظه بكتاب الكوكب الساطع نظم الجمع الجوامع للإمام السيوطي، ويفك أ
"الجليس الصالح النافع بتوضيح معاني الكوكب الساطع" للعلامة محمد بن علي آدم
يوبي، ط. دار ابن الجوزي، وقد شرح الشيخ أحمد الحازمي جزءًا من النظم، وهو الأ
منشورٌ على موقعه ومفرغ.
٢٢٧
٣) تأصيل القواعد الأصولية المختلف فيها بين الحنفية والشافعية لصلاح عبد
العيساوي.
٤) مقاصد أصول الفقه ومبانيه للدكتور أحمد حلمي حرب، وهذا الكتاب نفيس،
ولولا أني أسرد كتب المسائل لجعلته في خاتمة المرحلة الثانية أو صدر المرحلة
الثالثة فقدمه إذا شئت.
ومن أراد التوسع فإنه يقرأ ما احتاج من الكتب الآتية:
١) اللباب في أصول الفقه للشيخ صفوان داوودي، ط. دار القلم، فإنه أكثر من
الأمثلة، وهي ميزةٌ لها وزنها في دراسة الأصول.
٢) معالم أصول الفقه عند أهل السنة والجماعة للجيزاني.
٣) ترتيب الأدلة الإجمالية من حيث الحجية لمحمد منصور.
٤) علاقة علم المنطق بأصول الفقه لوائل الحارثي.
٥) مدرسة المتكلمين في أصول الفقه لمسعود فلوسي.
٦) المناهج الأصولية في الاجتهاد بالرأي في التشريع الإسلامي للدكتور فتحي
الدريني، وهذا كتاب فذ، وهو صادرٌ عن مؤسسة الرسالة.
٧) تفسير النصوص لمحمد أديب صالح.
٨) آراء المعتزلة الأصولية لعلي الضويحي.
٩) الفقيه والمتفقه للخطيب البغدادي.
١٠ ) البحر المحيط في أصول الفقه للزركشي.
١١ ) الموافقات للشاطبي بتحقيق الحسين آيت سعيد، من منشورات البشير بنعطية،
فاس- المغرب، وقامت وزارة الأوقاف القطرية بطباعته وتوزيعه، وهو أفضل
٢٢٨
تحقيق للكتاب، مع العناية بتعليقات الشيخ عبد الله دراز، وهذا كتاب فذ يُقطع
بخسارة طالب العلم إن لم يدمن النظر فيه، والاقتيات عليه.
١٢ ) إعلام الموقعين عن رب العالمين لابن القيم، ومادته لا تنحصر في علم
الأصول.
١٣ ) شرح التلويح على التوضيح للتفتازاني.
١٤ ) مجرد مقالات الشافعي في الأصول للشيخ مشاري الشثري، ط. مركز البيان
للبحوث والدراسات.
١٥ ) الرسالة للشافعي بتحقيق أحمد شاكر، وهناك طبعة جديدة حسنة صدرت عن
دار ابن الجوزي تقع في ثلاثة مجلدات، وهي من تحقيق وتعليق الدكتور علي
ونيس، وكتاب الرسالة لا بد من المرور عليه والعناية به، ويمكن تقديمه إلى
المرحلة الثالثة في دراسة الأصول.
ة، فلا ينبغي الإغراق في ه ينبغي استحضار أن علم أصول الفقه علم آ على أ
الاستكثار من الكتب على حساب التأصيل والتطبيق، ولهذا يحرص المتفقه أن يخوض غمار
واب الفقه بقراءةٍ أصولية هادئة، وأن يصل إلى الكتب الكبار كتب شروح السنة وأ
المؤسسة في هذا العلم؛ كالتلخيص والبرهان للجويني، والمستصفى للغزالي وقواطع
الأدلة للسمعاني وأضراب ذلك.
ثالثًا: القواعد الأصولية
١) القواعد الأصولية في كتاب الرسالة لمحسن خلف سليمان.
٢٢٩
٢) القواعد التأصيلية دليل المتفقهين إلى ضبط المعارف الفقهية لأحمد العتيبي.
٣) قواعد أصول الفقه وتطبيقاتها للدكتور صفوان بن عدنان داوودي، دار العاصمة.
٤) المدخل إلى أصول الإمام الشافعي أو تخريج القواعد الأصولية من تحفة المحتاج
بشرح المنهاج للدكتور مرتضى الداغستاني.
٥) القواعد الأصولية عند الشافعية في مباحث الإجماع لمحمد المسعودي.
٦) قواطع الأدلة في الأصول للإمام السمعاني، فله عنايةٌ حسنةٌ بالقواعد الأصولية،
وهو كتاب فذ في الجملة، ولم يرهق القارئ بالخوض في مسائل الكلام.
رابعا: مقاصد الشريعة
١) مدخل إلى مقاصد الشريعة للشيخ أحمد الريسوني.
٢) المختصر الوجيز إلى مقاصد التشريع للشيخ عوض القرني.
٣) مقاصد الشريعة.. دليل المبتدئين للدكتور جاسم عودة.
٤) علم مقاصد الشريعة للدكتور نور الدين الخادمي.
٥) المحرر في مقاصد الشريعة الإسلامية للدكتور نعمان جغيم، صادر عن دار
النفائس، ولعله أجود المؤلفات المعاصرة في علم المقاصد، ويمكن تقديمه.
٦) علم مقاصد الشارع للدكتور عبد العزيز الربيعة.
٧) مقاصد الشريعة الإسلامية وعلاقتها بالأدلة الشرعية للدكتور محمد اليوبي.
٨) مقاصد المقاصد للدكتور أحمد الريسوني.
٢٣٠
رها في فهم النص واستنباط الحكم ٩) أهمية المقاصد في الشريعة الإسلامية وأ
للدكتور سميح الجندي.
١٠ ) الاستماع للمحاضرات الأربع للشيخ عبد العجيري بعنوان: "إشكالية
التوظيف الحداثي لنظرية المقاصد".
١) مقاصد الشريعة الإسلامية لابن عاشور، تحقيق الدكتور محمد الزحيلي.
٢) مقاصد الشريعة الإسلامية ومكارمها لعلال الفاسي.
٣) نحو تفعيل مقاصد الشريعة للدكتور جمال عطية.
عاد جديدة للدكتور عبد المجيد النجار. ٤) مقاصد الشريعة بأ
و زيد. ٥) المقاصد الجزئية للدكتور وصفي أ
٦) الاستماع لبعض المحاضرات في هذا العلم مثل: "تقريب مقاصد الشريعة" للشيخ
أحمد الريسوني، وهناك مقالٌ مطولٌ له في ذلك.
١) نظرية المقاصد عند الإمام الشاطبي للشيخ أحمد الريسوني.
٢) مقاصد الموافقات "التسهيل لكتاب المقاصد من الموافقات" للدكتور محمد أحمين،
دار المقاصد للطباعة والنشر والتوزيع.
ت سعيد، ويحرص على قراءته كاملًا، ٣) الموافقات للإمام الشاطبي تحقيق الحسين أ
وليس الاقتصار على قسم المقاصد منه؛ لوفرة الملامح المقاصدية في مباحث
الكتاب، ويستعين بكتاب "تيسير الموافقات للشاطبي" للدكتور نعمان جغيم، فقد
٢٣١
فتح مغاليق الكتاب مع محافظته على كلام الإمام الشاطبي، ويقرأ بعده "تهذيب
الموافقات" للجيزاني.
٤) مشاهد من المقاصد للشيخ عبد الله بن بيه، وهو كتابٌ نفيسٌ حسن، وله محاضرة
حوله منشورة على الشبكة بعنوان: علاقة مقاصد الشريعة بأصول الفقه، ويمكن
تقديم قراءة الكتاب ثم إعادة قراءته في هذه المرحلة.
ام للإمام العز بن عبد السلام. ٥) قواعد الأحكام في مصالح الأ
٦) تكوين ملكة المقاصد.. دراسةٌ نظرية لتكوين العقل المقاصدي للدكتور يوسف
حميتو.
٧) إشكالية التأصيل في مقاصد الشريعة للدكتور عراك الشلال.
٨) العناية بقواعد المقاصد، ومن الكتب المهمة في ذلك: قواعد المقاصد عند الإمام
الشاطبي للدكتور عبد الرحمن الكيلاني، وقواعد المقاصد للدكتور أحمد الريسوني،
وما ورد في معلمة زايد من ذلك، مما يزيد عن ١٣٠ قاعدة.
٩) طرق الكشف عن مقاصد الشارع للدكتور نعمان جغيم، صادر عن دار النفائس.
رها الفقهي لعبد القادر بن حرز ١٠ ) ضوابط اعتبار المقاصد في مجال الاجتهاد وأ
الله، صادر عن مكتبة الرشد.
١١ ) بعد القراءة في فقه السياسة الشرعية يقرأ كتاب "الفكر المقاصدي وتطبيقاته في
السياسة الشرعية" للدكتور عبد الرحمن العضراوي.
٢٣٢
خامسا: علم الجدل
١) علم الجدل والمناظرة للدكتور سعد الشثري.
و زهرة. ٢) تاريخ الجدل لمحمد أ
٣) المعونة في الجدل للإمام الشيرازي.
٤) الملخص في الجدل للإمام الشيرازي.
٥) المنهاج في ترتيب الحجاج لأبي الوليد الباجي.
٦) الكافية في الجدل للإمام الجويني.
٧) عَلَم الجذل في علم الجدل للإمام نجم الدين الطوفي الحنبلي.
٨) شرح الفصول في علم الجدل للإمام النسفي الحنفي، تحقيق: شريفة الحوشاني.
سادسا: تخريج الفروع على الأصول
١) علم تخريج الفروع على الأصول.. نظريةً وتطبيقًا للدكتور فيصل تليلاني، وصدر
عن دار ابن حزم، وهو كتابٌ نفيس.
٢) التخريج عند الفقهاء والأصوليين.. دراسة نظرية تطبيقية تأصيلية للدكتور
يعقوب الباحسين. ط. مكتبة الرشد.
٣) تخريج الفروع على الأصول.. دراسة تاريخية ومنهجية وتطبيقية للدكتور عثمان
محمد شوشان.
٢٣٣
٤) التمهيد في تخريج الفروع على الأصول للإمام الإسنوي بتحقيق وتعليق الشيخ
محمد حسن هيتو ط. الرسالة.
٥) تخريج الفروع على الأصول للإمام الزنجاني.
ر الاختلاف في القواعد الأصولية في اختلاف الفقهاء للدكتور مصطفى سعيد ٦) أ
الخن.
ر الأدلة المختلف فيها في الفقه الإسلامي للدكتور مصطفى البغا. ط. دار ٧) أ
المصطفى.
٨) الأصول والفروع.. حقيقتهما والفرق بينهما والأحكام المتعلقة بهما للدكتور سعد
الشثري.
٢٣٤
المراجع
تقدم في مقدمة الكتاب أنَّي لا أعزو ما اختصرته من كلام الدكتور أكرم
القواسمي، وهو معزوٌّ في الأصل، وأذكر هنا طرفًا من المراجع التي رجعت إليها مما وثقته:
فية السيوطي في علم الحديث. ١. أ
٢. تاج العروس لمرتضى الزبيدي.
٣. تاريخ بغداد للخطيب البغدادي.
٤. التخريج عند الفقهاء والأصوليين للدكتور يعقوب الباحسين.
٥. تهذيب الأسماء واللغات للنووي.
٦. الجرح والتعديل للرازي.
ر فقه الإمام الشافعي بالبيئة المصرية للدكتور ناجي لمين. ٧. دحض مقالة تأ
٨. الرسالة للإمام الشافعي تحقيق أحمد شاكر.
٩. سنن ابن ماجه.
١٠ . الصحاح في اللغة للجوهري.
١١ . صحيح الإمام البخاري.
١٢ . القاموس المحيط للفيروز آبادي.
١٣ . القواعد الفقهية عند الرملي في كتاب نهاية المحتاج لمحمد بن محمد
الأسطل.
١٤ . لسان العرب لابن منظور.
١٥ . المجموع شرح المهذب للإمام النووي.
٢٣٥
١٦ . مختصر تاريخ دمشق لابن منظور.
١٧ . المدخل إلى مذهب الإمام الشافعي لفهد الحبيشي.
١٨ . المذهب الشافعي.. دراسةٌ عن أهم مصطلحاته وأشهر مصنفاته
ومراتب الترجيح فيه لمحمد طارق مغربية.
١٩ . المصباح المنير للفيومي.
٢٠ . معرفة السنن والآثار للإمام البيهقي.
٢١ . مقال: "كتاب أحكام القرآن للإمام الشافعي" للشيخ عبد الله
الداغستاني، وهو منشور على الشبكة.
٢٢ . ملحة الإعراب للحريري.
٢٣ . مناقب الشافعي للإمام البيهقي.
٢٤ . منهاج السنة النبوية لابن تيمية.
٢٥ . وفيات الأعيان لابن خلكان.
تحميل الكتاب هنا