اسم الكتاب ـ تفسير الإمام الشافعي
المؤلف: الإمام الشافعي؛ محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان ابن شافع الهاشمي القرشي المطلبي، أبو عبد الله
المحقق: أحمد مصطفى الفران
حالة الفهرسة: مفهرس فهرسة كاملة
سنة النشر: 1427 - 2006
عدد المجلدات: 3
رقم الطبعة: 1
عدد الصفحات: 1529
نبذة عن الكتاب: - أصل هذا الكتاب رسالة دكتوراة من جامعة القرآن الكريم والدراسات الإسلامية بالخرطوم - تم دمج المجلدات في ملف واحد للتسلسل تاريخ إضافته: 04 / 11 / 2008
فهرست الموضوعات
- سورة البقرة
- -قال الله عز وجل: (يكاد البرق يخطف أبصارهم كلما أضاء لهم مشوا فيه وإذا أظلم عليهم قاموا)
- -قال الله تعالى (. . . وقودها الناس والحجارة. . .)
- -قال الله عز وجل: (وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة)
- -قال الله عز وجل: (إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة) .
- -قال الله عز وجل: (فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا)
- -قال الله عز وجل: (ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير (١٠٦) .
- -قال الله عز وجل: (ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله)
- -قال الله عز وجل: (وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا)
- -قال الله عز وجل: (ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم إنك أنت العزيز الحكيم (١٢٩)
- -قال الله عز وجل: (ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يا بني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون (١٣٢)
- -قال الله عز وجل: (قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق)
- -قال الله عز وجل: (سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها قل لله المشرق والمغرب يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم (١٤٢)
- -قال الله عز وجل: (وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه)
- -قال الله عز وجل: (ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام وإنه للحق من ربك وما الله بغافل عما تعملون (١٤٩)
- -قال الله عز وجل: (كما أرسلنا فيكم رسولا منكم يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون (١٥١)
- -قال الله عز وجل: (ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين (١٥٥)
- -قال الله عز وجل: (إن الصفا والمروة من شعائر الله)
- -قال الله عز وجل: (إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد
- -قال الله - عز وجل -: (إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم (١٧٣)
- -قال الله - عز وجل -: (ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين وآتى المال على حبه
- -قال الله عز وجل: (كتب عليكم القصاص في القتلى)
- -قال الله عز وجل: (ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم تتقون (١٧٩)
- -قال الله عز وجل: (كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف حقا على المتقين (١٨٠)
- -قال الله عز وجل: (يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون (١٨٣)
- -قال الله عز وجل: (شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان فمن شهد منكم الشهر فليصمه ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر
- -قال الله عز وجل: (أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم هن لباس لكم وأنتم لباس لهن علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم وعفا عنكم فالآن باشروهن
- -قال الله عز وجل: (ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقا من أموال الناس بالإثم وأنتم تعلمون (١٨٨)
- -قال الله عز وجل: (يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها ولكن البر من اتقى وأتوا البيوت من أبوابها واتقوا الله لع
- -قال الله - عز وجل -: (وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين (١٩٠)
- -قال الله - عز وجل -: (الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قصاص فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم واتقوا الله واعلموا أن الله مع المتقين (١٩٤)
- -قال الله عز وجل: (وأتموا الحج والعمرة لله)
- -قال الله عز وجل: (الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج وما تفعلوا من خير يعلمه الله وتزودوا فإن خير الزاد التقوى واتقون ي
- -قال الله عز وجل: (ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام واذكروه كما هداكم وإن كنتم من قبله لمن الضالين
- -قال الله عز وجل: (ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس واستغفروا الله إن الله غفور رحيم (١٩٩)
- -قال الله عز وجل: (ومنهم من يقول ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار (٢٠١)
- -قال الله عز وجل: (أولئك لهم نصيب مما كسبوا والله سريع الحساب (٢٠٢)
- -قال الله عز وجل: (واذكروا الله في أيام معدودات فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه لمن اتقى واتقوا الله واعلموا أنكم إليه تحشرون (٢٠٣)
- -قال الله عز وجل: (واذكروا الله في أيام معدودات فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه لمن اتقى واتقوا الله واعلموا أنكم إليه تحشرون (٢٠٣)
- -قال الله عز وجل: (وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد (٢٠٥)
- -قال الله عز وجل: (كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين)
- -قال الله عز وجل: (كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون (٢١٦)
- -قال الله عز وجل: (يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير)
- -قال الله عز وجل: (ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا ولعبد مؤمن خير من مشرك ولو أعجبكم)
- -قال الله عز وجل: (ويسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله إن الله يحب التوابين
- -قال الله - عز وجل -: (نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم وقدموا لأنفسكم واتقوا الله واعلموا أنكم ملاقوه وبشر المؤمنين (٢٢٣)
- -قال الله عز وجل: (لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم والله غفور حليم (٢٢٥)
- -قال الله عز وجل: (للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر فإن فاءوا فإن الله غفور رحيم (٢٢٦) وإن عزموا الطلاق فإن الله سميع عليم (٢٢٧)
- -قال الله عز وجل: (والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن إن كن يؤمن بالله واليوم الآخر وبعولتهن أحق برده
- -قال الله عز وجل: (الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله فإن خفتم ألا يقيما ح
- -قال الله عز وجل: (فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره فإن طلقها فلا جناح عليهما أن يتراجعا إن ظنا أن يقيما حدود الله وتلك حدود الله يبينها لق
- -قال الله عز وجل: (وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا ومن يفعل ذلك فقد ظلم نفسه
- -قال الله عز وجل: (والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة)
- -قال الله عز وجل: (والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا فإذا بلغن أجلهن فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن بالمعروف والل
- -قال الله عز وجل: (ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء أو أكننتم في أنفسكم علم الله أنكم ستذكرونهن ولكن لا تواعدوهن سرا إلا أن تقولوا قولا معروف
- -قال الله عز وجل: (لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة ومتعوهن على الموسع قدره وعلى المقتر قدره متاعا بالمعروف حقا على المحسن
- -قال الله عز وجل: (وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم إلا أن يعفون أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح
- -قال الله عز وجل: (حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا لله قانتين (٢٣٨)
- -قال الله عز وجل: (فإن خفتم فرجالا أو ركبانا فإذا أمنتم فاذكروا الله كما علمكم ما لم تكونوا تعلمون (٢٣٩)
- -قال الله عز وجل: (والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية لأزواجهم متاعا إلى الحول غير إخراج
- -قال الله عز وجل: (وللمطلقات متاع بالمعروف حقا على المتقين (٢٤١)
- -قال الله عز وجل: (وقاتلوا في سبيل الله واعلموا أن الله سميع عليم (٢٤٤)
- -قال الله عز وجل: (ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء وسع كرسيه السماوات والأرض ولا يئوده حفظهما وهو العلي العظيم (٢٥٥)
- -قال الله عز وجل: (فبهت الذي كفر)
- -قال الله عز وجل: (ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه واعلموا أن الله غني حميد (٢٦٧)
- -قال الله عز وجل: (ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء)
- -قال الله عز وجل: (ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا وأحل الله البيع وحرم الربا)
- -قال الله - عز وجل -: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين (٢٧٨)
- -قال الله عز وجل: (وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة وأن تصدقوا خير لكم إن كنتم تعلمون (٢٨٠)
- -قال الله - عز وجل -: (يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه)
- -قال الله عز وجل: (وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتبا فرهان مقبوضة فإن أمن بعضكم بعضا فليؤد الذي اؤتمن أمانته وليتق الله ربه ولا تكتموا الشهادة
- -قال الله عز وجل: (لله ما في السماوات وما في الأرض وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء
- العودة الي كتاب تفسير الإمام الشافعي لـ المصطفي الفران المجلد الأول
سورة البقرة
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
قال الله ﷿: (يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا)
الأم: باب (الإشارة إلى المطر)
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: أخبرنا من لا أتهم قال: حدثنا سليمان بن
عبد اللَّه، عن عروة بن الزبير قال: «إذا رأى أحدكم البرق أو الوَدقَ فلا يشير إليه وليصف ولينعت» الحديث.
قال الشَّافِعِي: ولم تزل العرب تكره الإشارة إليه في الرعد.
أخبرنا الربيع قال:
١ / ١٩٩
أخبرنا الشَّافِعِي قال: أخبرنا الثقة أن مجاهدًا كان يقول: الرعد ملك
والبرق أجنحة الملك يَسُقْنَ السحاب.
قال الشَّافِعِي: ما أشبه ما قال مجاهد بظاهر القرآن!.
أخبرنا الثقة عن مجاهد أنه قال: ما سمعت بأحد ذهب البرق ببصره.
كأنه ذهب إلى قوله تعالى: (يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ) الآية.
أحكام القرآن: فصل (فيما يؤثر عنه - الشَّافِعِي - من التفسير والمعاني في الطهارات والصلوات)
وبهذا الإسناد:
قال الشَّافِعِي: أخبرنا الثقة: أن مجاهدًا كان يقول: (الرعد): ملك.
والبرق: أجنحة الملك يَسُقْنَ السحاب) ثم ساق خبر الشَّافِعِي عن مجاهد بنصه
كما في الأم.
قال الله تعالى (. . . وَقُودُهَا اَلناسُ وَالْحِجَارَةُ. . .) الآية.
١ / ٢٠٠
الرسالة: باب (بيان ما نزل من الكتاب عام الظاهر يراد به كله الخاص)
قال الشَّافِعِي ﵀: فدل كتاب الله على أنه إنما وَقُودها بعض الناس
لقوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ (١٠١) .
أحكام القرآن: فصل (في معرفة العموم والخصوص)
قال الشَّافِعِي ﵀: وقال الله ﷿: (وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ) الآية، فدل كتاب الله ﷿ على أن وقودها بعض الناس لقوله ﷿: (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى) الآية.
قال الله ﷿: (وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ) البقرة: ٤٣، الآية
الأم: باب (الحكم في تارك الصلاة)
أخبرنا الربيع قال:
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: من ترك الصلاة المكتوبة ممن دخل في
الإسلام، قيل له: لم لا تصلي؟
فإن ذكر نسيانًا قلنا: فَصِل إذا ذكرت، وإن
١ / ٢٠١
ذكر مرضًا قلنا: فصل كيف أطقت قائمًا أو قاعدًا أو مضطجعًا أو موميًا. فإن قال: أنا أطيق الصلاة وأحسنها، ولكن لا أصلي، وإن كانت على فرضًا!
قيل له: الصلاة عليك شيء لا يعمله عنك غيرك، ولا تكون إلا بعملك، فإن صليت وإلا استتبناك، فإن تبت وإلا قتلناك؛ فإن الصلاة أعظم من الزكاة.
والحجة فيها ما وصفتُ من أن أبا بكر ﵁ قال:
«لو منعوني عقالًا مما أعطوا رسول الله ﷺ لقاتلتهم عليه، لا تفرقوا بين ما جمع الله» الحديث.
قال الشَّافِعِي ﵀: يذهب - أي: قول أبي بكر ﵁ لا تفرقوا بين ما جمع الله - فيما أرى واللَّه أعلم (القول للشافعي) إلى قول الله ﵎: (وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ) الآية.
وأخبرنا أبو بكر ﵁ أنه إنما يقاتلهم على
الصلاة والزكاة، وأصحاب رسول الله ﷺ قاتلوا مَن مَنَع الزكاة؛ إذ كانت فريضة من فرائض اللَّه جل ثناؤه، ونصب دونها أهلها، فلم يقدر على أخذها منهم طائعين، ولم يكونوا مقهورين عليها، فتؤخذ منهم كما تقام عليهم الحدود كارهين.
الأم (أيضًا): باب (زكاة مال اليتيم الثاني)
أخبرنا الربيع قال:
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: (الزكاة في مال اليتيم كما في مال البالغ لأن
الله ﷿ يقول: (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا) الآية.
١ / ٢٠٢
فلم يخص مالًا دون مال، وقال بعض الناس: إذا كانت لليتيم ذهب أو
وَرِقٌ فلا زكاة فيها، واحتج أن اللَّه يقول: (وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ)
الآية، وذهب إلى أن فرض الزكاة إنما هو على من وجبت عليه الصلاة، وقال: كيف يكون على يتيم صغير فرض الزكاة والصلاة عنه ساقطة، وكذلك أكثر الفرائض؛ ألا ترى أنه يزني ويشرب الخمر فلا يُحد، ويكفر فلا يُقتل.
واحتجوا بأن رسول الله ﷺ قال: «رفع القلم عن ثلاثة. .» ثم ذكر «والصبي حتى يبلغ» الحديث.
قال الشَّافِعِي ﵀: لبعض من يقول هذا القول: إن كان ما احتججت
به على ما احتججت فأنت تارك مواضع الحجة.
الأم (أيضًا): باب (جماع فرض الزكاة)
أخبرنا الربيع بن سليمان قال:
أخبرنا الشَّافِعِي قال: فرض اللَّه ﷿ الزكاة في غير موضع من كتابه قد كتبناه للشافعي في آخر الزكاة فقال في غير آية من كتابه:
(وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ) الآية، يعني أعطوا الزكاة.
وقال لنبيه ﷺ: (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا) الآية.
١ / ٢٠٣
قال الشَّافِعِي ﵀: ففرض اللَّه ﷿ على من له مال تجب فيه الزكاة أن يؤدي الزكاة إلى من جعلت له، وفرض على من ولي الأمر أن يؤديها، الى الوالي إذا لم يؤدها. وعلى الوالي إذا أداها أن لا يأخذها منه؛ لأنه سماها زكاة واحدة لا زكاتين. وفَرضُ الزكاة مما أحكم اللَّه ﷿، وفرضه في كتابه، ثم على لسان نبيه ﷺ.
الأم (أيضًا): باب (هل تجب العمرة وجوب الحج)
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: قد يحتمِل قول اللَّه ﷿:
(وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ) الآية، أن يكون فَرَضَهما معًا، وفرضه إذا كان في موضع واحد يثبت ثبوته في مواضع كثيرة كقوله تعالى:
(وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ) الآية، ثم قال: (إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا (١٠٣) الآية.
فذكرها (أي: فرضه الزكاة) مرة مع الصلاة، وأفرد الصلاة مرة أخرى بدونها، فلم يمنع ذلك الزكاة أن تثبت.
الأم (أيضًا): باب (كراء الأرض البيضاء)
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: وقال اللَّه ﷿: (وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ)
. . . الآية، فلو أن امرًا أحضر مساكين وأخبرهم أن لهم في ماله دراهم أخرجها بأعيانها من زكاة ماله، فلم يقيضوها، ولم يَحُلْ بينهم وبينها، لم تخرج من أن تكون مضمونة عليه حتى يؤديها، ولو تلفت في يده تلفت من ماله. وكذلك لو تطهر للصلاة وقام يريدها ولا يصليها، لم يخرج من فرضها حتى يصليها.
١ / ٢٠٤
وجاء في الأم (أيضًا): باب (ما جاء في أمر النكاح)
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: ويحتمل أن يكون الأمر بالنكاح في قوله
تعالى: (وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ) إلى قوله: (يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ) الآية، والأمر في الكتاب والسنة وكلام الناس يحتمل معاني - منها -: أن
يكون الأمر بالنكاح حتمًا كقوله تعالى: (وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ) الآية، فدلّ على أنها حتم.
الرسالة: باب (البيان الثالث)
قال الشَّافِعِي ﵀: وقال اللَّه ﵎: (وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ) الآية، بعد أن ذكر الآية الكريمة: (إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا) الآية.
ثم بين على لسان رسوله عدد ما فرض اللَّه من الصلوات
ومواقيتها وسننها، وعدد الزكاة ومواقيتها،. . . وحيث يزول هذا ويثبت، وتختلف سننه وتاتفق، ولهذا أشباه كثيرة في القرآن والسنة.
الرسالة (أيضًا): باب (جمل الفرائض)
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: بعد أن ذكر الآية (٤٣ / من سورة البقرة)
أحكم اللَّه فرضه في كتابه في الصلاة والزكاة والحج، وبين كيف فرض على
لسان نبيه ﷺ.
١ / ٢٠٥
فأخبر رسول الله ﷺ أن عدد الصلوات المفروضات خمس، وأخبر أن عدد الظهر والعصر والعشاء في الحضر أربع أربع، وعدد المغرب ثلاث، وعدد الصبح ركعتان.
وسنَّ فيها كلها قراءة، وسن أن الجهر منها بالقراءة في المغرب والعشاء
والصبح، وأن المخافتة بالقراءة في الظهر والعصر.
وسنَّ أن الفرض في الدخول في كل صلاة بتكبير، والخروج منها بتسليم.
وأنه يؤتى فيها بتكبير ثم قراءة ثم ركوع ثم سجدتين بعد الركوع، وما سوى
هذا من حدودها.
وسن في صلاة السفر قَصرًا كلما كان أربعًا من الصلوات - إن شاء
المسافر - وإثبات المغرب والصبح على حالهما في الحضر.
وأنها كلها إلى القبلة مساقرأ كان أو مقيمًا، إلا في حالي من الخوف واحد؟
وسن أن النوافل في مثل حالها: لا تحِل إلا بطَهور، ولا تجوز إلا بقراءة.
وما تجوز به المكتوبات من السجود والركوع واستقبال القبلة في الحضر وفي
الأرض وفي السفر، وأن للراكب أن يصلي في النافلة حيث توجهت به دابته، ودلل - الشَّافِعِي - على ذلك بحديث:
أخبرنا ابن أبي فُدَيك، عن ابن أبي ذئب، عن عثمان بن عبد اللَّه بن
سراقة، عن جابر بن عبد اللَّه ﵁: "أن رسول الله ﷺ في غزوة بني أنمار كان
يصلي على راحلته متوجهًا قِبَل المشرق.
١ / ٢٠٦
وسنَّ رسول الله ﷺ في صلاة الأعياد والاستسقاء سنة الصلوات في عدد الركوع والسجود، وسن في صلاة الكسوف فزاد فيها ركعة (أي: ركوعًا) على ركوع الصلوات فجعل في كل ركعة ركعتين (أي: ركوعين)
ودلل على ذلك أيضًا بثلاثة أحاديث، عن أم المؤمنين عائشة ﵂ اثنان، وواحد عن ابن عباس، ثم قال (أي: الشَّافِعِي) واجتمع في حديثهما معًا (أي: عائشة وابن عباس ﵄ على أن صلى صلاة الكسوف ركعتين في كل ركعة ركعتين (أي: ركوعين) .
وقد استدل الشَّافِعِي رحمه الله تعالى بعد أن ذكر الآية (٤٣ من سورة
البقرة) معدّدًا ما يجب في مال الرجل أوجبه اللَّه فقال: (فدلّ الكتاب والسنة
وما لم يختلف المسلمون فيه: أن هذا كله في مال الرجل بحق وجب عليه للهِ، أو أوجبه اللَّه عليه للآدميين بوجوهٍ لزمته، وأنه لا يُكلف أحد غُرْمَهُ عنه) .
١ / ٢٠٧
قال الله ﷿: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً) .
الأم: كتاب الذكاة باب (فيه مسائل مما سبق) تتعلق بالذبح
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: وكل ما كان مأكولًا من طائر أو دابة فأن
يذبحَ أحبُّ إلِي وذلك سنته ودلالة الكتاب فيه، والبقر داخلة في ذلك لقوله
تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً) الآية، وحكايته فقال:
(فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ)، الآية.
إلا الإبل فقط فإنها تنحر، لأن رسول اللَّه ﷺ نحر بُدنه، فموضع النحر في الاختيار - في السُّنة - في اللَّبَّة، وموضع الذبح
في الاختيار - في السُّنة - أسفل من اللحيين، والذكاة في جميع ما ينحر ويذبح ما بين اللَّبَّة والحلق، فأين ذبح من ذلك أجزأه فيه ما يجزيه إذا وضع الذبح في موضعه، وإن نحر ما يُذبح أو ذبح ما يُنحر، كرهتُه له، ولم أحرمه عليه، وذلك أن النحر والذبح ذكاة كله، غير أني أحبّ أن يضع كل شيء من ذلك موضعه لا يعدوه إلى غيره.
قال ابن عباس ﵄: (الذكاة في اللَّبَّة والحلق لمن قدر) .
١ / ٢٠٨
وروي مثل ذلك عن عمر بن الخطاب، وزاد عمر: (ولا تعجلوا الأنفس
أن تزهق) .
قال الله ﷿: (فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ) الآية
الأم: كتاب الزكاة باب (فيه مسائل مما سبق) تتعلق بالذبح
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: وكل ما كان مأكولًا من طائر أو دابة فإن
يذبح أحبّ إلي وذلك سنته ودلالة الكتاب فيه، والبقرة داخلة في ذلك لقوله
تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً) الآية، وحكايته فقال:
(فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ) الآية، إلا الإبل فقط، فإنها تنحر. . ثم كمل ما نقلناه في الآية السابقة.
١ / ٢٠٩
قال الله ﷿: (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا)
الأم: باب (الحكم بين أهل الجزية)
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: ولو أوصى أحد من أهل الكتاب - بأن
يكتب بثلثه الإنجيل والتوراة لِدَرس، لم تجز الوصية لأن اللَّه ﷿ قد ذكر تبديلهم منها فقال: (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا) الآية، وقال:
(وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ) الآية.
الأم (أيضًا): باب (حد الذمتين إذا زنوا)
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: وقلت له (أي: للمحاور) أخبرنا إبراهيم بن
سعد، عن ابن شهاب، عن عبيد اللَّه بن عبد اللَّه بن عتبة، عن ابن عباس ﵄ أنه قال: "كيف تسألون أهل الكتاب عن شيء؛ وكتابكم الذي أنزل الله على نبيه ﷺ أحدثُ الأخبار، تقرؤونه عضًا لم يُشَب؟! ألم يخبركم الله ﷿ في كتابه أنهم حرفوا كتاب الله تبارك اسمه، وبدلوا وكتبوا الكتاب بأيديهم، وقالوا: (هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ (٧٩) .. الآية.
ألا ينهاكم العلم الذي جاءكم
١ / ٢١٠
عن مسألتهم؛ والله ما رأبنا أحدًا منهم بسالكم عما أنزل الله إليكم
الحديث.
وقال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: وقلت له: أمرنا الله ﷿ بالحكم بينهم بكتاب الله المنزل على نبيه ﷺ، وأخبر أنهم قد بدلوا كتابه الذي أنزل، وكتبوا الكتاب بأيديهم فقالوا:
(هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ) الآية.
الأم (أيضًا): باب (الحكم بين أهل الكتاب)
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: ولم يستن رسول الله ﷺ - علمناه - ولا أحد من أصحابه، ولم يجمع المسلمون على إجازة شهادتهم بينهم. . .، فقد أخبرنا اللَّه ﵎ أنهم بدلوا كتاب اللَّه وكتبوا الكتب بأيديهم وقالوا: (هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ) الآية.
مختصر المزني: باب (الحكم في المهادنين والمعاهدين)
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: ولو قال اكتبوا بثلثي (أي: بثلث مالي)
التوراة والإنجيل فسخته لتبديلهم، قال اللَّه ﷿: (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ) الآية.
١ / ٢١١
الرسالة: باب (المقدمة)
قال الربيع بن سليمان:
أخبرنا أبو عبد الله محمد بن إدريس:. . . بعثه والناس صنفان:
أحدهما: أهل الكتاب، بدلّوا من أحكامه، وكفروا بالله، فافتعلوا كذبًا
صاغوه بألسنتهم، فخلطوه بحق الله الذي أنزل إليهم.
فذكر ﵎ لنبيه من كفرهم فقال: (وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (٧٨) . الآية.
ثم قال: (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ (٧٩) .
ثانيهما: وصنف كفروا بالله فابتدعوا ما لم يأذن به اللَّه، ونصبوا بأيديهم
حجارة وخُشُبًا، وصورًا استحسنوها، ونبذوا أسماء افتعلوها، ودعوها آلهة
عبدوها، فإذا استحسنوا غير ما عبدوا منها ألفوه ونصبوا بأيديهم غيره فعبدوه: فأولئك العرب.
وسلكت طائفة من العجم سبيلهم في هذا، وفي عبادة ما استحسنوا من
حوت ودابة ونجم ونار وغيره.
١ / ٢١٢
أحكام القرآن: فصل (فيمن لا يجب عليه الجهاد)
ثُمَّ سَاقَ الْكَلَامَ، إلَى أَنْ قَالَ: أَنَا إبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: كَيْفَ تَسْأَلُونَ أَهْلَ الْكِتَابِ عَنْ شَيْءٍ: وَكِتَابُكُمْ الَّذِي أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى نَبِيِّهِ ﷺ أَحْدَثُ الْأَخْبَارِ، تَقْرَءُونَهُ مَحْضًا لَمْ يُشَبْ؟، أَلَمْ يُخْبِرْكُمْ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ أَنَّهُمْ حَرَّفُوا كِتَابَ اللَّهِ ﷿ وَبَدَّلُوا، وَكَتَبُوا كِتَابًا بِأَيْدِيهِمْ، فَقَالُوا: ﴿هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا﴾؟.
أَلَا يَنْهَاكُمْ الْعِلْمُ الَّذِي جَاءَكُمْ عَنْ مَسْأَلَتِهِمْ؟، وَاَللَّهِ مَا رَأَيْنَا رَجُلًا مِنْهُمْ قَطُّ يَسْأَلُكُمْ عَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ إلَيْكُمْ.
قال الله ﷿ (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ)
الأم: (الحكم في تارك الصلاة)
الأم: (أيضًا) باب (زكاة مال اليتيم)
الأم: (أيضًا) باب (جماع فرض الزكاة)
١ / ٢١٣
الأم (أيضًا): باب (هل تجب العمرة وجوب الحج)
الأم (أيضًا): باب (كراء الأرض البيضاء)
الأم (أيضًا): باب (ما جاء في أمر النكاح)
الرسالة: باب (البيان الثالث)
الرسالة (أيضًا): باب (جمل الفرائض)
مناقب الشَّافِعِي: باب (ما يستدل به على معرفة الشَّافِعِي بأصول الكلام وصحة اعتقاده فيها)
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: وفرض اللَّه على اللسان: القول والتعبير عن
القلب بما عقد وأقرُّ به، فقال في ذلك: (قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ) الآية.
وقال: (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا) الآية، فذلك ما فرض اللَّه على اللسان من
القول، والتعبير عن القلب، وهو عمله، والفرض عليه من الإيمان.
١ / ٢١٤
قال الله ﷿: (مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٠٦) .
الرسالة: باب (ابتداء الناسخ والمنسوخ)
قال الشَّافِعِي ﵀: إن اللَّه خلق الخلق لما سبق في علمه مما أراد بخلقهم
وبهم، (لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ) الآية.
وأنزل عليهم الكتاب تبيانًا لكل شيء وهدى ورحمة، وفرض فيه فرائض)
أثبتها، وأخرى نسخها رحمة لخلقه، بالتخفيف عنهم، وبالتوسعة عليهم، زيادة فيما ابتدأهم به من نعمة. وأثابهم على الانتهاء إلى ما أثبت عليهم: جنته، والنجاة من عذابه. فعمتهم رحمته فيما أثبت ونسخ. فله الحمد على نعمه.
وأبان اللَّه لهم أنه إنما نسخ ما نسخ من الكتاب بالكتاب، وأن السنة لا
ناسخة للكتاب، وإنما هي تبع للكتاب، بمثل ما نزل نصًا، ومفسرة معنى ما
أنزل اللَّه منه جُملًا.
وقال الشَّافِعِي ﵀: وفي كتاب الله دلالة عليه، قال ﷿: (مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا) الآية.
فأخبر اللَّه أن نسخ القرآن وتأخير إنزاله لا يكون إلا بقرآن مثله.
وقال ﷿: (وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ) الآية، وهكذا سنة رسول الله ﷺ لا ينسخها إلا سنة
١ / ٢١٥
لرسول الله ولو أحدث الله لرسوله في أمر سنَّ فيه: غير ما سنَّ رسول الله ﷺ: لسن فيما أحدث الله إليه حتى يبين للناس أن له سنة ناسخة للتي قبلها مما يخالفها. وهذا مذكور في سنته ﷺ.
فإن قال قائل: فقد وجدنا الدلالة على أن القرآن ينسخ القرآن لأنه لا مثل للقرآن فأوجدنا ذلك في السنة؟.
قال الشَّافِعِي: فيما وصفت من فرض الله على الناس
اتباع أمر رسول الله ﷺ: دليل على أن سنة رسول الله ﷺ إنما قبلت عن الله فمن اتبعها فبكتاب الله تبعها ولا نجد خبرا ألزمه الله خلقه نصا بينا: إلا كتابه ثم سنة نبيه. فإذا كانت السنة كما وصفت لا شبه لها من قول خلق من خلق الله-: لم يجز أن ينسخها إلا مثلها ولا مثل لها غير سنة رسول لأن الله لم يجعل لآدمي بعده ما جعل له بل فرض على خلقه اتباعه فألزمهم أمره فالخلق كلهم له تبع ولا يكون للتابع أن يخالف ما فرض عليه اتباعه ومن وجب عليه اتباع سنة رسول الله لم يكن له خلافها ولم يقم مقام أن ينسخ شيئا منها.
فإن قال: أفيحتمل أن تكون له سنة مأثورة قد نسخت ولا تؤثر السنة التي نسختها؟.
فلا يحتمل هذا وكيف يحتمل أن يؤثر ما وضع فرضه ويترك ما يلزم فرضه؟! ولو جاز هذا خرج عامة السنن من أيدي الناس بأن يقولوا: لعلها منسوخة!! وليس ينسخ فرض أبدا إلا أثبت مكانه فرض.
كما نسخت قبلة بيت المقدس فأثبت مكانها الكعبة. وكل منسوخ في كتاب وسنة هكذا.
فإن قال قائل هل تنسخ السنة بالقرآن
١ / ٢١٦
قال الشَّافِعِي: لو نسخت السنة بالقرآن كانت للنبي ﷺ فيه سنة تبين أن سنته الأولى منسوخة بسنته الآخرة، حتى تقوم الحجة على الناس بأن الشيء ينسخ بمثله.
فإن قال: ما الدليل على ما تقول؟
قال الشَّافِعِي: فما وصفت من موضعه من الإبانة عن الله معنى ما أراد
بفرائضه، خاصًا وعامًا، مما وصفتُ في كتابي هذا، وأنه لا يقول أبدًا لشيء إلا بحكم الله.
ولو نسخ الله مما قال حكمًا لسنَّ رسول الله ﷺ فيما نسخه سنة.
ولو جاز أن يقال: قد سنَّ رسول الله ﷺ ثم نسخ سنته بالقرآن ولا يؤثر
عن رسول الله ﷺ السنة الناسخة: جاز أن يقال: فيما حرَّم رسول الله ﷺ من
البيوع كلها: قد يحتمل أن يكون حَرمها قبل أن يُنزل عليه (وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا) الآية، وفيمن رَجَمَ من الزناة: قد يحتمل أن يكون
الرجم منسوخًا؛ لقول الله تعالى: (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ) الآية، وفي المسح على الخفين: نسخت آية الوضوء المسح.
وجاز أن يقال: لا يدرأ عن سارق سرق من غير حرز، وسرقته أقل من ربع
دينار؛ لقول اللَّه تعالى: (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا) الآية.
لأن اسم السرقة يلزم من سرق قليلًا وكثيرًا، ومن حرز ومن غير
حرز، ولجاز ردُّ كل حديث عن رسول اللَّه بأن يقال: لم يقله، إذا لم يجده مثل التنزيل، وجاز رد السنن بهذين الوجهين، فتُركت كل سنة معها كتاب جملة تحتمل سنته أن توافقه، وهي لا تكون أبدًا إلا موافقة له، إذا احتمل اللفظ فيما روي عنه خلاف اللفظ في التنزيل بوجه، أو احتمل أن يكون في اللفظ عنه كثر مما في اللفظ في التنزيل، وإن كان محتمِلًا أن يخالفه من وجه.
١ / ٢١٧
وكتاب اللَّه وسنة رسوله ﷺ تدل على خلاف هذا القول، وموافقة لما قلنا.
وكتاب اللَّه البيان الذي يُشفى به من العَمَى، وفيه الدلالة على موضع
رسول اللَّه ﷺ من كتاب اللَّه ودينه، واتباعه له، وقيامه بتبيينه عن اللَّه.
اختلاف الحديث: (المقدمة)
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: ولا ينسخ كتاب اللَّه إلا لقول اللَّه:
(مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا) الآية.
وقوله: (وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ) الآية.
فأبان أن نسخ القرآن لا يكون إلا بقرأن مثله، وأبان جل ثناؤه أنه فرض
على رسوله اتباع أمره، فقال: (اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) الآية.
وشهد له باتباعه، فقال جل ثناؤه: (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (٥٢) صِرَاطِ اللَّهِ) الآية.
فأعلم اللَّه خلقه أنه يهديهم إلى صراطه، قال فتُقام سنة رسول اللَّه مع
كتاب اللَّه جل ثناؤه، مقام البيان عن اللَّه عدد فرضه كبيان ما أراد بما أنزل عامًا.
العامَ أراد به أو الخاص، وما أنزل فرضًا وأدبًا وإباحة وإرشادًا إلا أن شيئًا من
سنة رسول الله يخالف كتاب اللَّه في حال، لأن اللَّه جل ثناؤه قد أعلم خلقه أن رسوله يهدي إلى صراط مستقيم صراط اللَّه، ولا أن شيئًا من سنن رسول اللَّه ناسخ لكتاب اللَّه، لأنه قد أعلم خلقه أنه إنما ينسخ القرآن بقرآن مثله، والسنة تبع للقرآن.
١ / ٢١٨
وقد اختصرت من إبانة السنة عن كتاب اللَّه بعض ما حضرني مما يدل
على ما في مثل معناه إن شاء اللَّه، قال اللَّه جل ثناؤه: (إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا (١٠٣) .
فدل رسول الله ﷺ على عدد
الصلاة، ومواقيتها والعمل بها وفيها، ودل على أنها على العامة الأحرار
والمماليك من الرجال والنساء إلا الحُيض، فأبان منها المعاني التي وصفت.
وأنها مرفوعة عن الحُيض. . . الخ.
أحكام القرآن: (فصل في النسخ)
أخبرنا أبو عبد اللَّه الحافظ، أخبرنا أبو العباس، أخبرنا الربيع قال:
قال الشَّافِعِي ﵀: إن اللَّه خلق الخلق لما سبق في علمه مما أراد بخلقهم
وبهم. . . وساق النص الوارد سابقًا في كتاب الرسالة.
قال الله ﷿: (وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ) .
سبق تفسيرها في الآية / ٤٣، وانظر الإشارة إلى مواضع كلام الإمام
الشَّافِعِي عنها في الآية / ٨٣ من سورة البقرة.
١ / ٢١٩
قال الله ﷿: (وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ)
أحكام القرآن: فصل (فيما يؤثر عنه - الشافعى - من التفسير والمعاني في
الطهارات والصلوات)
قرأت - للإمام البيهقي - في كتاب: (المختصر الكبير) فيما رواه أبو
إبراهيم المزني، عن الشَّافِعِي ﵀ ألْه قال: أنزل اللَّه ﷿ على رسوله ﷺ فرض القبلة
بمكة، فكان يصلي في ناحية يستقبل منها البيت الحرام وبيت المقدس، فلما
هاجر إلى المدينة، استقبل بيت المقدس، موليًا عن البيت الحرام ستة عشر شهرًا - وهو يحب: لو قضى اللَّه إليه باستقبال البيت الحرام، لأن فيه مقام أبيه إبراهيم وإسماعيل؛ وهو المثابة للناس والأمن، وإليه الحج، وهو المأمور به: أن يُطهر للطائفين والعاكفين والركع السجود.
مع كراهية رسول الله ﷺ لما وافق
اليهود، فقال لجبريل ﵇:
«لودِدت أن ربي صرفني عن قبلة اليهود إلى غيرها»؛ فأنزل اللَّه ﷿: (وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ) الآية.
يعني - والله أعلم -: فثم الوجه الذي وجهكم اللَّه إليه، فقال جبريل للنبي ﷺ: (يا محمد أنا عبد مأمور مثلك، لا أملك شيئًا، فسل الله) فسأل النبي ﷺ ربه أن
يوجهه إلى البيت الحرام، وصَعِد جبريل إلى السماء، فجعل النبي ﷺ يديم طرفه إلى السماء: رجاء أن يأتيه جبريل ﷺ بما سأل.
١ / ٢٢٠
فأنزل اللَّه ﷿ (قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ) إلى قوله: (فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي) .
قال الله ﷿: (وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا)
الأم: باب (دخول مكة لغير إرادة حج ولا عمرة)
قال الشَّافِعِي ﵀: قال الله ﷿: (وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا)
إلى قوله: (وَالركعِ السُّجُودِ) الآية.
قال الشَّافِعِي ﵀: المثابة في كلام العرب: الموضع يثوب الناس إليه.
ويثوبون: يعودون إليه بعد الذهاب منه، وقد يقال ثاب إليه: اجتمع إليه.
فالمثابة: تجمع الاجتماع.
ويثوبون: يجتمعون إليه راجعين بعد ذهابهم منه ومبتدئين.
قال ورقة بن نوفل يذكر البيت:
١ / ٢٢١
مثابًا لأفناء القبائل كلها ... تخبُّ إليه اليعملات (١) الذوامل
وقال خداش بن زهير النصري:
فما برحت بكر تثوب وتدعى ... ويلحق منهم أولون وآخِر
أحكام القرآن: (ما يؤثر عنه - الشَّافِعِي - في الحج)
أخبرنا أبو عبد اللَّه الحافظ، أخبرنا أبو العباس، أخبرنا الربيع قال:
قال الشَّافِعِي ﵀: ثم ساق ما ورد في الأم حرفيًا.
قال الله ﷿: (رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١٢٩)
الرسالة: باب (بيان فَرَض الله في كتابه اتباع سنة نبيه ﷺ
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: وضع اللَّه رسوله من دينه وفرضه وكتابه
الموضع الذي أبان جل ثناؤه أنه جعله علمًا لدينه، بما افترض من طاعته، وحرّم من معصيته، وأبان من فضيلته، بما قَرَنَ من الإيمان برسوله مع الإيمان به.
(١) اليعملات: جمع يعمله: وهي الناقة السريعة اللينة.
١ / ٢٢٢
فجعل كمال ابتداء الإيمان، الذي ما سواه تبع له: (الإيمان بالله ثم برسوله) .
فلو آمن عبد به، ولم يؤمن برسوله: لم يقع عليه اسم كمال الإيمان أبدًا.
حتى يؤمن برسوله معه.
وهكذا سنّ رسول الله ﷺ في كل من امتحنه للإيمان.
أخبرنا مالك، عن هلال بن أسامة، عن عطاء بن يسار، عن عمر بن الحكم
قال: أتيت رسول اللَّه بجارية، فقلت: يا رسول اللَّه، عليُّ رقبة، أفأعتقها؟
فقال لها رسول الله ﷺ: «أين الله؟»
فقالت: في السماء، «ومن أنا؟»
قالت: أنت رسول اللَّه، قال: «فاعتِقها» الحديث.
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: ففرض اللَّه على الناس اتباع وحيه
وسنن رسوله، فقال: (رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١٢٩) .
أحكام القرآن: فصل (فرض الله ﷿ في كتابه واتباع سنة نبيه ﷺ:
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: فرض اللَّه تعالى على الناس اتباع وحيه وسنن
رسوله ﷺ فقال في كتابه: (رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١٢٩) .
١ / ٢٢٣
وقال تعالى: (لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (١٦٤) .
وقال ﷿: (وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ)
الآية.
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: فذكر اللَّه تعالى الكتاب وهو القرآن، وذكر الحكمة، فسمعت من أرضى من أهل العلم بالقرآن يقول: الحكمة سنة رسول الله ﷺ.
وهذا يشبه ما قال - واللَّه أعلم - بأن القرآن ذكر واتبعته الحكمة، وذكرَ
الله ﷿ منته على خلقه بئعليمهم الكتاب والحكمة. فلم يجز - واللَّه أعلم - أن تعدّ الحكمة هاهنا إلا سنة رسول الله ﷺ؛ وذلك أنها مقرونة مع كتاب اللَّه، وأن
الله قد افترض طاعة رسول الله ﷺ، وحتّم على الناس اتباع أمره.
فلا يجوز أن يقال لقول: فرض إلا لكتاب الله، ثم سنة رسول الله ﷺ مبينة عن الله ما أراد دليلًا على خاصه وعامِّه، ثم قرن الحكمة بكتابه، فاتبعها إياه، ولم يجعل هذا لأحد من خلقه غير رسول الله ﷺ.
قال الله ﷿: (وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (١٣٢)
الأم: المرتد عن الإسلام:
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: ومن اننقل عن الشرك إلى الإيمان، ثم انتقل
عن الإيمان إلى الشرك - مِن بالغي الرجال والنساء - استتيب، فإن تاب قُبلَ
منه، وإن لم يتب قُتِلَ، قال اللَّه ﷿: (وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا) إلى قوله: (هُم فِيهَا خَالِدُون) الآية.
١ / ٢٢٤
قال الشَّافِعِي: أخبرنا الثقة من أصحابنا، عن حماد، عن يحيى بن سعيد، عن
أبي أمامة بن سهل بن حُنَيف، عن عثمان بن عفان ﵁: أن رسول الله ﷺ قال:
(لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: كفر بعد إيمان، أو زنى بعد إحصان، أو قتل نفس بغبر نفس» الحديث.
ومعنى حديث عثمان عن النبي ﷺ: «كفر بعد إيمان» ومعنى من بدَّل: قُتِل، معنى يدل على أن من بدل دينه دين الحق - وهو الإسلام -، لا من بدَّل غير الإسلام، وذلك أن من خرج من غير دين الإسلام إلى غيره من الأديان، فإنما خرج
من باطل إلى باطل، ولا يقتل على الخروج من الباطل، إنما يقتل على الخروج من الحق، لأنه لم يكن على الدين الذي أوجب الله ﷿ عليه الجنة وعلى خلافه النار.
إنما كان على دين له النار إن أقام عليه، قال اللَّه جل ثناؤه: (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ) الآية.
وقال الله ﷿: (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (٨٥) .
وقال: (وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ) إلى قوله: (مسْلِمُون) الآية.
قال الله ﷿: (قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ)
مناقب الشَّافِعِي: باب (ما يستدل به على معرفة الشَّافِعِي بأصول الكلام.
وصحة اعتقاده فيهما):
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: وفرض اللَّه على اللسان القول والتعبير عن
القلب بما عقد، وأقرَّ به، فقال في ذلك: (قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ) الآية، وقال:
١ / ٢٢٥
(وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا) الآية، فذلك ما فرض الله على اللسان من
القول، والتعبير عن القلب، وهو عمله، والفرض عليه من الإيمان.
قال الله ﷿: (سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (١٤٢)
الرسالة: باب (فرض الصلاة للذي دل الكتاب ثم السنة على من تزول عنه
بالعذر وعلى من لا تكتب صلاته بالمعصية):
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: ووجه اللَّه رسوله للقبلة في الصلاة إلى بيت
المقدس، فكانت القبلة التي لا يحل - قبل نسخها - استفبال غيرها، ثم نسخ
الله قِبلَة بيت المقدس، ووجهه إلى البيت فلا يحل لأحد استقبال بيت المقدس
أبدًا لمكتوبة، ولا في أن يستقبل غير البيت الحرام.
وقال الشَّافِعِي أيضًا: وكل كان حقًا في وقته، فكان التوجه إلى بيت المقدس
- أيام وجه اللَّه إليه نبيه - حقًا، ثم نسخه، فصار الحق في التوجه إلى البيت
الحرام أبدًا، لا في استقبال غيره في مكتوبة إلا في بعض الخوف - أي: بعض
أوجه صلاة الخوف - أو نافلة في سفر، استدلالًا بالكتاب والسنة.
وهكذا كل ما نسخ اللَّه - ومعنى (نَسَخَ): ترك فرضه - كان حقًا في
وقته، وتركه حقًا إذا نسخه اللَّه، فيكون من أدرك فرضه مطيعًا به وبتركه، ومن لم يُدركِ فرضه مطيعًا باتباع الفرض الناسخ له.
١ / ٢٢٦
قال اللَّه لنبيه: (قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ) الآية.
فإن قال قائل: فأين الدلالة على أنهم حولوا إلى قبلةِ بعد قبلةِ؟
ففي قول اللَّه: (سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (١٤٢) .
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: أخبرنا مالك، عن عبد اللَّه بن دينار، عن ابن
عمر، قال: «بينما الناس بقباء في صلاة الصبح اذ جاءهم آتٍ فقال: إن النبي قد أنزل عليه الليلة قرآن، قد أمِرَ أن يستقبل القبلة فاستقبلوها، وكانت وجوههم إلى الشام، فاستداروا إلى الكعبة» الحديث.
وأخبرنا مالك، عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب أنه كان يقول:
صلى رسول الله ﷺ ستة عشر شهرًا نحو بيت المقدس، ثم حولت القبلة قبل بدر بشهرين.
اختلاف الحديث: المقدمة (من أمثلة الكلام على النسخ / نسخ الكتاب بالكتاب)
قال الشَّافِعِي ﵀: والناسخ من القرآن؛ الأمر ينزله الله من بعد
الأمر يخالفه، كما حول القبلة، قال ﷿:
(فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا) الآية،
١ / ٢٢٧
وقال: (سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَ)
الآية، وأشياء له كثيرة في غير موضع.
أحكام القرآن: فصل (فيما يؤثر عنه - الشَّافِعِي - من التفسير والمعاني في الطهارات والصلوات):
قال الشَّافِعِي ﵀: في قوله تعالى: (وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (١٤٩) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ) البقرة: ٤٩ ا-.١٥، الآية.
عدة أقوال - منها -:
وقيل: في تحويلكم عن قبلتكم التي كنتم عليها، إلى غيرها، وهذا أشبه.
ما قيل فيها - واللَّه أعلم - لقول اللَّه: (سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَ) إلى قوله: (مُسْتَقِيمٍ) الآية.
فأعلمَ اللَّه نبيه ﷺ: أنه لا حجة عليهم في التحويل، يعني لا يتكلم في ذلك أحد بشيء يريد الحجة، إلا الذين ظلموا منهم.
لا أن لهم حجة (أي: الذين ظلموا)، لأن عليهم (أي: الرسول ومن معه) أن ينصرفوا عن قبلتهم، إلى القبلة التي أمِرُوا بها.
١ / ٢٢٨
قال الله ﷿: (وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ)
أحكام القرآن: فصل (فيما يؤثر عنه - الشَّافِعِي - من التفسير والمعاني في
الطهارات والصلوات):
قال الشَّافِعِي رهه الله تعالى: وفي قوله تعالى: (وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ) هِ الآية، لقوله: إلا لنعلم أن قد عَلِمَهم من
يتبع الرسول، وعِلْمُ الله كان - قبل اتباعهم وبعده - سواء.
وقد قال المسلمون: فكيف بما مضى من صلاتنا، ومن مضى منا؟
فأعلمهم الله: أن صلاتهم إيمان فقال: (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُم) الآية.
مناقب الشافعى: باب (ما يؤثر عنه في الإيمان):
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: وسمَّى - الله - الطهور والصلوات إيمانًا في
كتابه، وذلك حين صرف الله تعالى وجه نبيه ﷺ من الصلاة إلى بيت المقدس، وأمره بالصلاة إلى الكعبة.
١ / ٢٢٩
وكان المسلمون قد صلّوا إلى بيت المقدس ستة عشر شهرًا فقالوا: يا رسول
الله، أرأيت صلاتنا التى كنا نصليها إلى بيت المقدس، ما حالها وحالنا؟
فأنزل اللَّه تعالى: (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (١٤٣) الآية.
فسمَّى الصلاة إيمانًا، فمن لقي ربه حافظًا لصلواته، حافظًا
لجوارحه، مؤديًا بكل جارحة من جوارحه ما أمر اللَّه به وفرض عليها لقي اللَّه مستكمل الإيمان من أهل الجنة، ومن كان لشيء منها تاركًا متعمدًا مما أمر اللَّه به لقي اللَّه ناقص الإيمان.
وفيما حُكِي عن المزني، عن الشَّافِعِي رحمهما اللَّه أنه قال: قوله ﷿: (إِلًا لِنَعلَمَ مَن يَتبعُ اَلرسُولَ) الآية، وعِلمُ اللَّه، كان قبل اتباعهم وبعده، سواء.
قال الله ﷿: (قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ)
الأم: من كتاب جماع العلم (التكليف بالاجتهاد في التأخِّي لما أمر بطلبه)
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: وشطره: قصده، وذلك تلقاؤه، قال: أجل.
١ / ٢٣٠
قلت (أي: الشَّافِعِي) وقال سبحانه: (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) الآية.
وقال: (وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ) الآية.
وخلق الجبال والأرض، وجعل المسجد الحرام حيث وَضَعَه من أرضه، فكلّف خلقه التوجه إليه:
١ - فمنهم من يرى البيت فلا يسعه إلا الصواب بالقصد إليه.
٢ - ومنهم من يغيب عنه، وتنأى داره عن موضعه، فيتوجه إليه بالاستدلال
بالنجوم، والشمس والقمر، والرياح، والجبال، والمهاب، كل هذا قد
يستعمل في بعض الحالات ويدل فيها ويستغني بعضها عن بعض.
قال: هذا كما وصفتَ، ولكن على إحاطة أنت من أن تكون إذا توجهت
أصبت؟ قلت: أما على إحاطةٍ من أني إذا توجهت أصبت ما أكلف، وإن لم
أكلف أكثر من هذا فنعم.
قال: أفعلى إحاطةٍ أنت من صواب البيت بتوجهك؟ قلتُ: أفهذا شيء
كلفت الإحاطة في أصله البيت؛ وإنَّما كُلفت الاجتهاد.
قال: فما كُلفت؟، قلتُ: التوجه شطر المسجد الحرام، فقد جئت
بالتكليف، وليس يعلم الإحاطة بصواب موضع البيت آدمي إلا بعيان، فأمّا ما غاب عنه من عينه فلا يحيط به آدمي.
قال: فنقول: أصبت؛، قلتُ: نعم، على
معنى ما قلتَ أصبتُ ما أمِزتُ به. فقال: ما يصح في هذا الجواب أبدًا غير ما أجبتَ به، وإن من قال: كلفت الإحاطة بأن أصيب، لزعم أنه لا يصلي إلا أن
١ / ٢٣١
يحيط بأن يصيب أبدًا. وإن القرآن ليدل كما وصفت على أنه إنما أمر بالتوجه إلى المسجد الحرام.
والتوجه: هو التأخِّي والاجتهاد، لا الإحاطة.
الأم (أيضًا): من فصل (الإقرار والاجتهاد والحكم بالظاهر)
وقال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: فإن قال قائل: فأين هذا؟ قيل: مثل الكعبة
من رآها صلى إليها، ومن غاب عنها توجه إليها بالدلائل عليها، لأنها
الأصل، فإن صلّى غائبًا عنها برأي نفسه بغير اجتهاد بالدلائل عليها كان
مخطئًا، وكانت عليه الإعادة. وكذلك الاجتهاد فمن اجتهد على الكتاب والسنة فذلك. ومن اجتهد على غير الكتاب والسنة كان مخطئًا. ..
ولا يجوز أن يعمل ذلك برأي نفسه على غير أصل، كما إذا كان الكتاب
والسنة موجودين، فآمره يترك الدلائل وآمره يجتهد برأيه!
وهذا خلاف كتاب اللَّه ﷿ لقوله تعالى: وَحَيثُ مَا كُنتُز فَوُّلوًا وُجُوهَكُثم شَظرَهُ و) الآية.
الرسالة: باب (فرض الصلاة الذي دلَّ الكتاب ثم السنة على من تَزول عنه
بالعذر وعلى من لا تكتب صلاته بالمعصية):
قال الشَّافِعِي ﵀: ووجه اللَّه رسوله للقبلة في الصلاة إلى بيت
المقدس، فكانت القبلة التي لا يحل - قبل نسخها - استقبال غيرها.
١ / ٢٣٢
اختلاف الحديث: المقدمة:
قال الشَّافِعِي ﵀: والناسخ من القرآن الأمر ينزله اللَّه من بعد الأمر
يخالفه، كما حَول القبلة، فقال ﷿: (فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا) .
أحكام القرآن: من فصل (فيما يؤثر عنه - الشَّافِعِي - من التفسير والمعاني في الطهارات والصلوات):
قال الشَّافِعِي ﵀: في قوله: (وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ) الآية، يقال: يجدون - فيما نزل عليهم - أن النبي
الأمِّي من ولد إسماعيل بن إبراهبم علبهم السلام. يخرج من الحرم، وتعود
قبلته وصلاته مخرجه. (يعني الحرم) .
الزاهر باب (القبلة):
ذكر الشَّافِعِي ﵀: قول اللَّه ﷿:
(فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ) الآية.
وقوله: (فَوَل وَجهَكَ)، أي: أقبل بوجهك، فوجِّه وجهك.
وكذلك قوله تعالى: (وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا) الآية، أي: مستقبلها.
١ / ٢٣٣
وقال أبو العباس (أحمد بن يحيى): التولية هاهنا: إقبال، وقد تكون (التولية)
إدبارًا كقولك: وَلِّ عني وجهك، أي: أدبر عني بوجهك، وقد ولى: إذا أدبر.
وأما قوله تعالى: (شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ) الآية، فشطره: تلقاؤه وجهته
ونحوه.
وأصل الشطر: النحو، وقول الناس: فلان شاطِر معناه: قد أخذ في نحو
غير الاستواء. ويقال: هؤلاء قوم يشاطروننا، أي: دُورُهم تقابل دورنا، كما تقول: هم يناحوننا، أي: نحن ننحُو نحوهم، وينحون نحونا.
وشطر كل شيء: نصفه.
قال الله ﷿: (وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (١٤٩)
الأم: كتاب جماع العلم: باب (حكاية من رد خبر الخاصة):
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: فرض الله على الناس التوجه في القبلة إلى
المسجد الحرام، فقال سبحانه: (وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ) إلى قوله: (فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ) .
ثم قال: أفرأيت إذا سافرنا واختلفنا في القبلة، فكان الأغلب على أنها في
جهة، والأغلب على غيري في جهة، ما الفرض علينا؟.
فإن قلتَ: الكعبةُ فهي وإن كانت ظاهرة في موضعها فهي مغيبة عمن نأوا
عنها، فعليهم أن يطلبوا التوجه لها غاية جَهدهم على ما أمكنهم، وغلب
بالدلالات في قلوبهم. فإذا فعلوا وسعهم الاختلاف، وكان كل مؤديًا للفرض عليه، لأن الفرض عليه الاجتهاد في طلب الحق المغيب عنه.
١ / ٢٣٤
الأم (أيضًا): باب (إبطال الاستحسان)
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: وإن قال قائل: أرأيت ما لم يمض فيه كتاب.
ولا سنة، ولا يوجد الناس اجتمعوا عليه، فأمرت بأن يؤخذ به قياسًا على كتاب الله أو سنة، أيقال لهذا: قُبِلَ عن اللَّه؟
قيل: نعم، قبلت جملته عن اللَّه.
فإن قيل: ما جملته؟ قيل: الاجتهاد فيه على الكتاب والسنة.
فإن قيل: أفيوجد في الكتاب دليل على ما وصفت؟
قيل: نعم، نسخ الله قبلة بيت المقدس وفرض على
الناس التوجه إلى البيت، فكان على من رأى البيت أن يتوجه إليه بالعيان.
وفرض اللَّه على من غاب عنه البيت، أن يولي وجهه شطر المسجد الحرام.
لأن البيت في المسجد الحرام، فكان المحيط بأنه أصاب البيت بالمعاينة، والمتوجه قَصد البيت ممن غاب عنه قابلين عن اللَّه معًا التوجه إليه.
وأحدهما على الإحاطة، والآخر متوجِّة بدلالة، فهو على إحاطة من
صواب جملة ما كُلف، وعلى غير إحاطة كإحاطة الذي يرى البيت من صواب البيت، ولم يكلف الإحاطة.
قال الله ﷿: (وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ)
الأم: باب (استقبال القبلة):
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: فنصب الله ﷿ لهم البيت والمسجد. فكانوا إذا رأوه فعليهم استقبال البيت، لأن رسول الله ﷺ صلى مُسْتَقْبِلَه، والناس معه
١ / ٢٣٥
حوله من كل جهة، ودلهم بالعلامات التي خَلَقَ لهم، والعقول التي ركب فيهم على قصد البيت الحرام، وقصد المسجد الحرام، وهو: قصد البيت الحرام.
فالفرض على كل مصل فريضةً، أو نافلةً، أو على جنازة، أو ساجد لشكر، أو سجود قرآن، أن يتحرى استقبال البيت إلا في حالين: أرخص اللَّه تعالى فيهما سأذكرهما إن شاء الله تعالى.
الأم (أيضًا): باب (كيف استقبال البيت):
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: واستقبال البيت وجهان:
أولًا: فكل من كان يقدر على رؤية البيت ممن بمكة في مسجدها، أو منزل
منها، أو سهل، أو جبل، فلا تجزيه صلاته حتى يصيب استقبال البيت؛ لأنه
يدرك صواب استقباله بمعاينته.
ثانيًا: وإن كان أعمى وسعه أن يستقبل به غيره البيت، ولم يكن له أن
يصلي وهو لا يرى البيت بغير أن يستقبله به غيره، فإن كان في حال لا يجد
أحدًا يستقبله به، صلى وأعاد الصلاة؛ لأنه على غير علم، من أنه أصاب
استقبال القبلة، إذا غاب عنه بالدلائل التي جعلها الله، من النجوم، والشمس، والقمر، والرياح وغيرها، مما يستدل به أهل الخبرة على التوجه إلى البيت.
١ / ٢٣٦
الأم (أيضًا): باب (إبطال الاستحسان):
قال الشَّافِعِي ﵀: فإن قيل فبم يتوجه إلى البيت؟
قيل: قال اللَّه تعالى:
(وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ)
وقال: (وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (١٦) .
وكانت العلامات جبالًا يعرفون مواضعها من الأرض، وشمسًا، وقمرًا، ونجمًا مما يعرفون من الفَلَكِ، ورياحًا يعرفون مهابها على الهواء، تدل على قصد البيت الحرام، فجعل عليهم طلب الدلائل على شطر المسجد الحرام فقال: (وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ) الآية.
وكان معقولًا عن اللَّه ﷿ أن يأمرهم بتولية وجوههم شطره، بطلب الدلائل عليه، لا بما استحسنوا، ولا بما سنح في قلوبهم، ولا خطر على أوهامهم بلا دلالة جعلها اللَّه لهم، لأنه قضى ألَّا يتركهم سدى، وكان معقولًا عنه لأنَّه إذا أمرهم أن يتوجهوا شطره، وغيب عنهم عينه، أن لم يجعل لهم أن يتوجهوا حيث شاؤوا لا قاصدين له بطلب الدلالة عليه.
الرسالة: باب (كيف البيان؟):
وقال سبحانه: (وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ) الآية.
١ / ٢٣٧
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: فدلهم جل ثناؤه إذا غابوا عن عين المسجد
الحرام على صواب الاجتهاد، مما فرض عليهم منه، بالعقول التي ركب فيهم، المميزة بين الأشياء وأضادها، والعلامات التي نصب لهم دون عين المسجد
الحرام الذي أمرهم بالتوجه شطره.
وقال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: ففرض عليهم الاجتهاد بالتوجه شطر
المسجد الحرام، مما دلهم عليه مما وصفت، فكانوا ما كانوا مجتهدين غير مزايلين أمره جل ثناؤه، ولم يجعل لهم إذا غاب عنهم عين المسجد الحرام أن يصلوا حيث شاؤوا.
أحكام القرآن: فصل (فيما يؤثر عنه - الشَّافِعِي - من التفسير والمعاني في
الطهارات والصلوات):
قال الشَّافِعِي ﵀: وفي قوله تعالى: (وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ) الآية.
قيل في ذلك - واللَّه أعلم -: لا تستقبلوا المسجد الحرام من المدينة إلا
وأنتم مستدبرون بيت المقدس، وإن جئتم من جهة نجد اليمن - فكنتم تستقبلون البيت الحرام، وبيت المقدس - استقبلتم المسجد الحرام، لا أنَّ إرادتكم (قصدكم وجهتكم) بيت المقدس، وإن استقبلتموه باستقبال المسجد الحرام، ولا أنتم كذلك تستقبلون ما دونه ووراءه، لا إرادة أن يكون قبلة، ولكن جهة قبلة.
١ / ٢٣٨
وقيل: (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ) الآية، في استقبال قبلة غيركم.
قال الشَّافِعِي ﵀: فلما حول اللَّه رسوله ﷺ إلى المسجد الحرام صلى رسول اللَّه ﷺ أكثر صلاته مما يلي الباب من جهة وجه الكعبة، وقد صلّى من ورائها والناس معه مصطفين بالكعبة مستقبليها كلها، مستدبرين ما ورائها من المسجد الحرام.
قال الشَّافِعِي ﵀: وقوله ﷿: (فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ)
الآية، فشطره وتلقاؤه وجهته: واحد في كلام العرب.
واستدل عليه ببعض ما في كتاب الرسالة.
أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، أخبرنا أبو العباس، أخبرنا الربيع:
أخبرنا الشَّافِعِي ﵀ قال: قال الله ﵎: (وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ)
الآية.
ففرض عليهم حيث ما كانوا: أن يولوا وجوههم شطره.
وشطره: جهته في كلام العرب. إذا قلت: أقصد شطر كذا، معروف أنك
تقول: أقصد قصد عين كذا، يعني: قصد نفس كذا: وكذلك (تلقاؤه وجهته)
أي: استقبل تلقاءه وجهته، وكلها بمعنى واحد، وإن كانت بألفاظ مختلفة.
١ / ٢٣٩
قال خُفَاف بن ندْبَة:
ألا من مبلغ عَمْرًا رسولًا ... وما تغني الرسالة ُ شطرَ عمرو
وقال ساعدة بن جُؤَية:
أقول لأم زنباع أقيمي ... صدورَ العيسِ شطرَ بني تميم
وقال لقيط الأيادي:
وقد أظلكم من شطر ثغركم ... هول له ظُلَم تغشاكم قطعًا
وقال الشاعر:
إن العسيرَ بها داة مُخامِرُها ... فشطرها بصرُ العينينِ مَحْسُورُ
قال الشَّافِعِي ﵀: يريد تلقاءها بصرُ العينين ونحوها: تلقاء جهتها.
وهذا كله - مع غيره من أشعارهم - يبين أن شطر الشيء: قَصْد عين
الشيء، إذا كان معاينًا: فبالصواب (أي: التصويب إليه)، وإن كان مغيَّبًا
فبالاجتهاد والتوجُّه إليه، وذلك أكثر ما يمكنه فيه.
قال الشَّافِعِي ﵀: وقيل: (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ) الآية.
في استقبال قبلة غيركم، وقيل في تحويلكم عن قبلتكم التي كنتم عليها إلى غيرها
- وهذا أشبه ما قيل فيها والله أعلم -.
١ / ٢٤٠
قال الله ﷿: (كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (١٥١)
الرسالة: بيان فرض الله في كتابه اتباع سنة نبيه:
قال الشَّافِعِي ﵀: وقال جل ثناؤه: (كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (١٥١) .
فذكر اللَّه الكتاب (وهو القرآن) وذكر الحكمة.
فسمعت من أرضى من أهل العلم بالقرآن يقول: الحكمة: سنة رسول اللَّه.
وهذا يشبه ما قال - واللَّه أعلم -؛ لأن القرآن ذكر وأتبِعَتْهُ الحكمة، وذكر اللَّه مَنَّهُ على خلقه بتعليمهم الكتاب والحكمة، فلم يجز - واللَّه أعلم - أن يقال الحكمة هاهنا إلا سنة رسول الله ﷺ.
وذلك أنها مقرونة مع كتاب اللَّه، وأن اللَّه افترض طاعة رسوله، وحتَّم
على الناس اتباع أمره، فلا يجوز أن يقال لقول: فرضٌ إلا لكتاب اللَّه ثم سنة رسوله. لما وصفنا من أن اللَّه جعل الإيمان برسوله مقرونًا بالإيمان به.
وسنة رسول اللَّه مبينة عن اللَّه معنى ما أراد دليلًا على خاصّه وعامّه.
ثم قَرَنَ الحكمة بها بكتابه فاتبعها إياه، ولم يجعل هذا لأحدٍ من خلقه غيرِ رسوله.
١ / ٢٤١
قال الله ﷿: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (١٥٥)
أحكام القرآن: فصل (فيما يؤثر عنه - الشَّافِعِي - من التفسير والمعاني في
آيات متفرقة):
أخبرنا أبو عبد الرحمن (محمد بن الحسين السُّلمي)، قال: سمعت محمد بن
عبد الله بن شاذان، يقول: سمعت جعفر بن أحمد الخلاطي، يقول: سمعت الربيع ابن سليمان يقول: سئل الشَّافِعِي عن قول الله ﷿:
(وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (١٥٥) .
قال الشَّافِعِي ﵀: الخوف: خوف العدو.
والجوع: جوع شهر رمضان.
ونقص من الأموال: الزكوات.
والأنفس: الأمراض.
والثمرات: الصدقات.
وبشر الصابرين: على أدائها.
قال الله ﷿: (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ)
الأم: باب (تقديم الوضوء ومتابعته):
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: في قول اللَّه ﷿:
(إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ) الآية.
فبدأ رسول الله ﷺ بالصفا وقال: "نبدأ بما بدأ الله
١ / ٢٤٢
به«الحديث، ولم أعلم خلافًا أنه لو بدأ بالمروة ألغى طوافًا حتى يكون
بدؤه بالصفا، وكما قلنا في الجمار (أي: رمي الحجار) إن بدأ بالآخرة (أي: رمي جمرة العقبة) قبل الأولى (أي: الجمرة الصغرى)، أعاد حتى تكون بعدها، وإن بدأ الطواف بالصفا والمروة قبل الطواف بالبيت أعاد.
مختصر المزني: باب (سنة الوضوء):
بعد أن ذكر حكم من صلى بوضوء على غير ولاء (أي: قدم عضوًا على
عضو)، رجع فبنى على الولاء من وضوئه، وأعاد الصلاة، واحتج بقول الله ﷿:
(إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ) الآية، فبدأ رسول الله ﷺ بالصفا وقال: نبدأ بما بدأ الله به» الحديث.
أحكام القرآن: فصل (فيما يؤثر عنه - الشَّافِعِي - من التفسير والمعانى في
الطهارات والصلوات):
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: وتوضأ رسول الله ﷺ كما أمر اللَّه، وبدأ بما بدأ اللَّه به، فأشبه - واللَّه أعلم - أن يكون على المتوضئ في الوضوء شيئان:
١ - أن يبدأ بما بدأ اللَّه ثم رسوله ﷺ به منه.
٢ - ويأتي على إكمال ما أمِر به.
١ / ٢٤٣
وشبهه بقول اللَّه ﷿: (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ) الآية، فبدأ رسول اللَّه ﷺ بالصفا وقال: «نبدأ بما بدأ الله به» الحديث.
آداب الشَّافِعِي ومناقبه: ما روى الإمام أحمد بن حنبل عن الإمام الشَّافِعِي من
الآثار والمسائل:
أخبرنا أبو الحسن، أخبرنا أبو محمد، أخبرني عبد الله بن أحمد بن حنبل.
قال سمعت أبي بقول:
أدخل الشَّافِعِي عليهم (يعني: أصحاب أبي حنيفة): إذا بدأ المتوضئ بعضو
دون عضو فقال: قال الله ﷿: (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ) الآية، فقالوا (يعني: أصحاب أبي حنفية): إذا بدأ بالمروة قبل الصفا يعيد ذلك الشوط.
مناقب الشَّافِعِي: ما يستدل به على فقه الشَّافِعِي، وتقدمه فيه، وحسن
استنباطه:
أخبرنا أبو عبد اللَّه الحافظ قال: أخبرني الحسين بن محمد الدارمي قال:
أخبرنا عبد الرحمن يعني: بن محمد قال: أخبرني عبد اللَّه بن أحمد بن حنبل في
كتابه، قال سمعت أبي يقول:. . . ثم ساق الحديث بتمامه.
قلت: أخذ الشَّافِعِي بمسألة ترتيب أعمال الوضوء، من ترتيب أعمال
الوضوء الوارد في الآية، وقياسه على بداية السعي بين الصفا والمروة من سياق النظم (القرآني) كذلك، ومن السنة بقول النبي ﷺ وفعله، وذلك عندما دنا من الصفا في حَجِّه قرأ آية: (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ) الآية، وقال: «ابدؤوا بما بدأ الله بذكره».
١ / ٢٤٤
ثم بدأ سعيه بالصفا فرقِيَ عليه. وهو مذهب الجمهور
(الشَّافِعِي، ومالك، وأحمد، وأصحاب أبي حنيفة، وعطاء في رواية عنه) .
قال الله ﷿: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (١٦٤)
الأم: كتاب (صلاة الكسوف):
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: فذكر اللَّه ﷿ الآيات، ولم يذكر معها سجودًا إلا مع الشمس والقمر، وأمر بألَّا يُسجد لهما، وأمر بأن يُسجد له، فاحتمل أمره أن يَسجد له عند ذكر الشمس والقمر، بأن يأمر بالصلاة عند حادث في الشمس والقمر، واحتُمل أن يكون إنما نهى عن السجود لهما، كما نهى عن عبادة ما سواه، فدلّت سنة رسول الله ﷺ على أن يُصلَّى لله عند كسوف الشمس والقمر، فأشبه ذلك معنيين:
أحدهما: أن يُصلَّى عند كسوفهما لا يختلفان في ذلك.
وثانيهما: ألَّا يؤمر عند كل آية كانت في غيرهما بالصلاة، كما أمر بها
عندهما، لأن اللَّه ﵎ لم يذكر في شيء من الآيات صلاة، والصلاة في كل حال طاعة لله ﵎، وغبطة لمن صلاها.
١ / ٢٤٥
قال الشَّافِعِي ﵀: فيصفى عند كسوف الشمس والقمر صلاة جماعة.
ولا يُفعل ذلك في شيء من الآيات غيرها.
أحكام القرآن: فصل (فيما يؤثر عنه - الشَّافِعِي - من التفسير والمعاني في الطهارات والصلوات):
وقد نقل فيه ما ورد في الأم حرفيًا.
مناقب الشَّافِعِي: باب (ما يؤثر عنه - الشَّافِعِي - في دلائل التوحيد):
أورد البيهقي في مناقبه قصة الحوار بين الشَّافِعِي ﵀ وبشر
المريسي، فقال له بشر: أخبرني ما الدليل على أن اللَّه تعالى واحد؟
فقال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: يا بشر، ما تدرك من لسان الخواص فأكلمك
على لسانهم؛ إلا أنه لابد لي من أن أجيبك على مقدارك من حيث أنت.
الدليل عليه به، ومنه وإليه:
واختلاف الأصوات من المصوِّت إذا وكان المحرك واحدًا: دليل على أنه واحد.
- وعدم الضد في الكلام على الدوام: دليل على أن اللَّه واحد.
- وأربع نيران مختلفات في جسد واحد، متفقات الدوام على تركيبه في
استقامة الشكل: دليل على أنه واحد.
١ / ٢٤٦
- وأربع طبائع مختلفات في الخافقين أضداد غير أشكال، مُؤَلِّفات على إصلاح الأحوال: دليل على أنه واحد.
قال تعالى: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (١٦٤) .
كل ذلك: دليل على أن اللَّه واحد لا شريك له.
أعلام النبلاء:
قال الشَّافِعِي ﵀: بعد مناظرة لتلميذه المزني رحمه اللَّه تعالى: ارجع إلى
الله، وإلى قوله: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) الآية.
فاستدِلَّ بالمخلوق على الخالق، ولا تتكلف عِلْمَ ما لم يبلغه عقلك.
قال - المزني -: فتبت.
قال الله ﷿: (إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٧٣)
الأم: فصل (ما يحل بالضرورة):
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: وقال اللَّه تعالى: (إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ) الآية.
١ / ٢٤٧
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: فيحلّ ما حرّم من مينة ودم ولحم خنزير.
وكلّ ما حرم مما يغير العقل من الخمر للمضطر.
والمضطر: الرجل يكون بالموضع، لا طعام فيه معه، ولا شيء يسد فورة
جوعه من لبن وما أشبهه، ويبلغه الجوع ما يخاف منه الموت أو المرض، وإن لم يخف الموت، أو يضعفْه ويضره، أو يعتل أو يكون ماشيًا فيضعفُ عن بلوغ
حيث يريد، أو راكبًا فيضعف عن ركوب دابته، أو ما في هذا المعنى من الضرر البين، فأيُّ هذا ناله فله أن يأكل من المحرّم.
وكذلك يشرب من المحرّم غير المسكر، مثل الماء تقع فيه الميتة وما أشبهه.
وأحبَ إليَّ أن يأكل آكله إن أكل، وشاربه إن شرب، أو جمعهما، فعلى ما
يقطع عنه الخوف ويبلغ به بعض القوة، ولا يبين أن يحرم عليه أن يشبع ويروى، وإن أجزأه دونه؛ لأن التحريم قد زال عنه بالضرورة.
وإذا بلغ الشِّبع والري فليس له مجاوزته، لأن مجاوزته حينئذ إلى الضرر
أقرب منه إلى النفع.
ومن بلغ إلى الشبع فقد خرج في بلوغه من حد الضرورة، وكذلك الري.
ولا بأس أن يتزود معه من الميتة ما اضطر إليه، فإذا وجد الغنى عنه
طرحه.
ولو تزود معه ميتة فلقي مضطرًا أراد شراءها منه، لم يحلّ له ثمنها، إنما حل
له منها منع الضرر البين على بدنه لا ثمنها.
الأم (أيضًا): فصل (السفر الذي تقصر في مثله الصلاة بلا خوف):
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: وسواء في القصر المريض والصحيح، والعبد
والحر، والأنثى والذكر إذا سافروا معًا في غير معصية اللَّه تعالى، فأما من سافر
١ / ٢٤٨
باغيًا على مسلم، أو معاهد، أو يقطع طريقًا، أو يفسد في الأرض، أو العبد يخرج آبقًا من سيده، أو الرجل هاربًا ليمنع حقًا لزمه، أو ما في مثل هذا المعنى أو غيره من المعصية فليس له أن يقصر، فإن قصر أعاد كل صلاة صلاها؛ لأن القصر رخصة، وإنما جعلت الرخصة لمن لم يكن عاصيًا، ألا ترى إلى قوله تعالى: (فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ) الآية، وهكذا لا يمسح على الخفين، ولا يجمع الصلاة مسافر في معصية، وهكذا لا يصلِّي إلى غير القبلة نافلة، ولا يخفف عمن كان سفره في معصية اللَّه تعالى.
مختصر المزني: باب (صلاة المسافر والجمع في السفر)
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: وليس لأحد سافر في معصية أن يقصر، ولا
يمسح مسح المسافر فإن فعل أعاد، ولا تخفيف على من سفره في معصية.
أحكام القرآن: فصل (فيما يؤثر عنه - الشافعى - من التفسير والمعاني في الطهارات والصلوات):
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: والقصر لمن خرج في غير معصية: في السنة.
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: فأما من خرج باغيًا على مسلم. . . ثم ساق ما
ورد في الأم الفقرة السابقة وزاد البيهقي:
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: وأكره ترك القصر، وأنهى عنه، إذا كان رغبة
عن السنة فيه.
يعني لمن خرج في غير معصية.
١ / ٢٤٩
أحكام القرآن: فصل (ما يؤثر عنه في الصيد والذبائح وفي الطعام والشراب):
وقال تعالى: (إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ) الآية.
قال في ذكر ما حُرِّم: (فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣) .
فيحل ما حُرِّم من الميتة ولحم الخنزير، وكل ما حُرِّم - مما لا يغير العقل:
من الخمر - للمضطر.
قال الله ﷿: (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (١٧٧)
اختلاف الحديث: باب (عطية الرجل لولده):
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: وقد حمد اللَّه - جل ثناؤه -، على إعطاء المال
والطعام في وجوه الخير وأمر بهما، فقال ﷿: (وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ) الآية.
وقال ﷿: (مِسْكِينًا وَيَتِيمًا) .
١ / ٢٥٠
الآية، وقال ﷿: (وَلَا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ) الآية، وقال ﷿: (إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ)
الآية، وقال ﷿: (لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) الآية.
فإذا جاز ذلك للأجنبيين وذوي القربى، فلا أقرب من الولد، وذلك أن
الرجل إذا أعطى ماله ذا قرابته غير ولده، أو أجنبيًا فقد منعه ولده وقطع ملكه عن نفسه، فإذا كان محمودًا على هذا كان محمودًا أن يعطيه بعض ولده دون بعض، ومَنع بعضهم ما أخرج من ماله أقل من منعهم كلهم.
ويستحب له أن يسوِّي بينهم، لئلا يقصّر واحدٌ منهم في برِّه، فإن القرابة
تتفُسُ بعضها بعضًا ما لم تنفس البعادة.
قال الربيع: يربد البعداء.
وقد فضَّل أبو بكر ﵁ عائشة بنِحل، وفضَّل الخليفة عمر ﵁ عاصم بن عمر بشيء أعطاه إياه، وفضل عبد الرحمن بن عوف ﵁ ولد أم كلثوم.
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: لو اتصل حديث طاووس، أنه لا يحل لواهب
أن يرجع فيما وهب إلا الوالد فيما وهب لولده لزعمت أن من وهب هبة -
لمن يستثيبه مثله أو لا يستثيبه - وقُبِضَت الهبة لم يكن للواهب أن يرجع في
هبته؛ وإن لم يثبه الموهوب له - واللَّه أعلم -.
١ / ٢٥١
أحكام القرآن: فصل (فيما يؤثر عنه - الشَّافِعِي - من التفسير والمعاني في
الطهارات والصلوات):
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: ويقال: إن اليهود قالت: البر في استقبال
المغرب، وقالت النصارى: البر في استقبال المشرق بكل حال، فأنزل الله)
فيهم: (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ) الآية.
يعني - واللَّه أعلم - وأنتم مشركون، لأن البر لا يكتب لمشرك.
فلما حوَّل اللَّه رسوله ﷺ إلى المسجد الحرام، صلى رسول الله ﷺ أكثر
صلاته مما يلي الباب من وجه الكعبة، وقد صلى من ورائها والناس معه.
مطيفين بالكعبة، مستقبليها كلها، مستدبرين ما وراءها من المسجد الحرام.
قال الله ﷿: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى)
الأم: باب (جماع ايجاب القصاص في العمد):
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: فالقصاص إنما يكون ممن فعل ما فيه
القصاص، لا ممن لم يفعله، فاخكَم اللَّه - عز ذكره - فَرض القصاص في كتابه، وأبانت السنة لمن هو؟ وعلى من هو؟.
أخبرنا الربيع قال:
١ / ٢٥٢
أخبرنا الشَّافِعِي قال: أخبرنا سفيان، عن ابن أبي ليلى، عن الحكم أو عن
عيسى بن أبي ليلى، عن أبي ليلى قال: قال رسول الله ﷺ: (»من اعتبط مومنًا بقتل فهو قَوَدُ يده، إلا أن يرضى ولي المقتول، فمن حال دونه فعليه لعنة الله وغضبه، لا يقبل منه صرف ولا عدل.
الأم (أيضًا): باب (الحكم في قتل العمد)
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: ويقال: من العلم العام الذي لا اختلاف
فيه بين أحد لقيته، فحدثنيه، وبلغني عنه - من علماء العرب - أنها كانت قبل نزول الوحي على رسول الله ﷺ تباين في الفضل، ويكون بينها ما يكون بين الجيران، من قتل العمد والخطأ، فكان بعضها يعرف لبعض الفضل في الديات، حتى تكون دية الرجل الشريف أضعاف دية الرجل دونه، فأخذ بذلك بعض من بين أظْهُرهَا - من غيرها - بأقصد مما كانت تأخذ به، فكانت دية النضيري ضعف دية القُرَظي.
١ / ٢٥٣
وكان الشريف من العرب إذا قتل، يجاوز قاتله إلى من لم يقتله من أشراف
القبيلة التي قتله أحدها، وربما لم يرضوا إلا بعددٍ يقتلونهم، فقتل بعض غِني
شأسَ بن زهير فجمع عليهم أبوه زهير بن جَذِيمة، فقالوا له - أو بعض من
نُدب عنهم -: سل في قتل شأس. فقال: إحدى ثلاث لا يغنيني غيرها، قالوا: وما هي؟ قال: تحيون لي شأسًا! أو تملؤون ردائي من نجوم السماء!
أو تدفعون إلي غنيًا بأسرها فأقتلها، ثم لا أرى أني أخذت منه عوضًا!.
وقَتَل كليب واثل: فاقتتلوا دهرًا طويلًا، واعتزلهم بعضهم، فأصابوا ابنًا
له يقال له: بُجَيْر، فأتاهم فقال: قد عرفتم عزلتي، فبجير بكليب - وهو أعز العرب -، وكفوا عن الحرب فقالوا: بحير بشسع (نعل) كليب، فقاتلهم وكان معتزلًا.
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: وقال إنه نزل في ذلك وغيره مما كانوا يحكمون
به في الجاهلية - هذا الحكم الذي أحكيه كله بعد هذا - وحَكَمَ اللَّه تبارك
وتعالى بالعدل، فسوّى في الحكم بين عباده، الشريف منهم والوضيع: (أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (٥٠) .
١ / ٢٥٤
فقال: إن الإسلام نزل وبعض العرب يطلب بعضًا بدماء وجراح، فنزل
فيهم: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى) إلى قوله تعالى:
(ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ) الآية، والآية التي بعدها.
أخبرنا الربيع قال:
أخبرنا الشَّافِعِي قال: أخبرنا معاذ بن موسى، عن بُكَير بن معروف، عن
مقاتل بن حيان، قال معاذ: قال مقاتل: أخذت هذا التفسير عن نفَر، حفظ معاذ منهم؛ مجاهدًا، والحسن، والضحاك بن مزاحم، قال: في قوله تعالى: (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ) الآية.
قال: «كان كتب على أهل التوراة أنه من قتل نفسًا بغير نفس حق له أن يقاد بها، ولا يعفى عنه، ولا تقبل منه الدية، وفرض على أهل الإنجيل أنه يعفى عنه، ولا يقتل.
ورخص لأمة محمد ﷺ إن شاء قتل، وإن شاء أخد الدية، وإن شاء عفا، فذلك قوله تعالى: (ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ) الآية» الحديث.
يقول: الدية تخفيف من الله إذ جعل الدية، ولا يَقتُل.
ثم قال: (فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ) الآية.
يقول: من قَتَلَ بعد أخذه الدية فله عذاب أليم.
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: أخبرنا سفيان بن عيينة: قال حدثنا عمرو بن
دينار: قال سمعت مجاهدًا يقول: سمعت ابن عباس ﵄ يقول: كان في بني إسرائيل القصاص، ولم تكن فيهم الدية، فقال الله ﷿ لهذه الأمة: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ) .
١ / ٢٥٥
قال: العفو أن تقبل الدية في العمد
(فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ) الآية.
مما كتب على من كان قبلكم (فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ)
الآية.
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: وما قاله ابن عباس في هذا كما قال - واللَّه
سبحانه أعلم -.
وكذلك ما قال مقاتل؛ لأن اللَّه ﷿ إذ ذكَرَ القصاصَ، ثم قال: (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ) الآية، لم يجز - واللَّه أعلم - أن يقال: إن عُفِيَ بأن صُولِح على أخذ الدية؛ لأن العفو ترك حق بلا عوض، فلم يجز إلا أن يكون إن عُفِيَ عن القتل، فإذا عفا لم يكن إليه سبيل.
وصار للعافي - عن - القتل مال في مال القاتل، وهو دية قتيله فيتبعه
بمعروف، ويؤدي إليه القاتل بإحسان، فلو كان إذا عفا عن القاتل لم يكن له
شيء، لم يكن للعافي يتبعه، ولا على القاتل شيء يؤديه بإحسان.
وقال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: وقد جاءت السنة مع بيان القرآن في مثل
معنى القرآن.
أخبرنا الربيع قال:
أخبرنا الشَّافِعِي قال: أخبرنا ابن أبي فديك، عن ابن أبي ذئب، عن سعيد
ابن أبي سعيد المقبريّ، عن أبي شريح الكعبي، أن رسول الله ﷺ قال: "إن الله
١ / ٢٥٦
حرّم مكة ولم يُحرمها الناس، فلا يحل لمن كان يومن بالله واليوم الآخر أن
يسفك بها دمًا، ولا يعضد بها شجرًا، فإن ارتخصَ أحدٌ فقال: أحِلَّت لرسول الله ﷺ فإن الله أحلها لي، ولم يحلها لله للناس، وإنَّما أحلت لي ساعة من النهار، ثم هي حرام كحرمتها بالأمس، ثم إنكم يا خزاعة قد قتلتم هدا القتيل من هذيل، وأنا والله عاقلُه: فمن قتَلَ بعدَه قتيلًا فأهلُه بين خِيرتين إن أحبوا قتلوا، وإن أحبوا أخدوا العقل» الحديث.
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: في قوله ﵎: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى) الآية، إنها في الحيين اللذين وصف مقاتل بن حيان
وغيره، ممن حكيت قوله في غير هذا الموضع. ثم أدبها أن يُقتل الحر بالحر إذا
قتلَه، والأنثى بالأنثى إذا قتلتها، ولا يُقتل غيرُ قاتلها إبطالًا؛ لأن يجاوز القاتل إلى غيره، إذا كان المقتول أفضل من القاتل، - كما وصفت - ليس أنه لا يُقتل ذكر بالأنثى، إذا كانا حُرين مسلمين، ولا أنه لا يقتل حر بعبد من هذه الجهة، إنما يترك قتْله من جهة غيرها، دهاذا كانت هكذا أشبه أن تكون لا تدل على ألا يكون يُقتل اثنان بواحد، إذا كانا قاتِلَين.
وقال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: وهي عامة في أن الله - عزّ ذكره - أوجب
القصاص بها إذا تكافأ دمان، وإنما يتكافآن بالحرية والإسلام، وعلى كل ما
وصفت من عموم الآية وخصوص بما دلالة من كتاب أو سنة أو إجماع.
وقال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى،: فأيما رجل قتل قتيلًا فَوَلي المقتول بالخيار.
إن شاء قتل القاتل، وإن شاء أخذ منه الدية، وإن شاء عفا عنه بلا دية.
١ / ٢٥٧
الأم (أيضًا): الثلاتة يقتلون الرجل يصيبونه بجرح:
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: فإن قال قائل: أرأيت قول اللَّه ﷿: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ) الآية، هل فيه دلالة على ألا يقتل حُرَّان بُحر، ولا رجل بأمرأة.
قيل له: لم نعلم نحالفًا في أن الرجل يقتل بالمرأة، فإذا لم يختلف أحد في هذا
ففيه دلالة على أن الآية خاصة، فإن قال قائل: فيم نزلت؟
قيل: أخبرنا معاذ بن موسى، عن بكير بن معروف، عن مقاتل بن حيان قال: قال مقاتل: أخذت هذا التفسير من نفر، حفظ منهم: مجاهد، والضحاك، والحسن ﵏ قالوا:
قوله تعالى: (كُتِبَ عَلَيكُمُ اَلْقِصَاصُ فِى اَلْقَتلَى) الآية، قال: كان بدء ذلك في حيين من العرب، - الأوس والخزرج كما روي سابقًا - اقتتلوا قبل الإسلام بقليل، وكان لأحد الحيين فضل على الآخر، فاقسموا بالله ليقتلن بالأنثى الذكر، وبالعبد منهم بالحر، فلما نزلت هذه الآية، رضوا وسلموا.
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: وما أشبه ما قالوا من هذا بما قالوا: لأن اللَّه
ألزم كل مذنب ذنبه، ولم يجعل جرم أحد على غيره، فقال ﷺ: (الْحُرُّ بِالْحُرِّ) إذا كان - واللَّه أعلم - قاتلًا له، (وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ) إذا كان قاتلًا له، (وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى)
إذا كانت قاتلة لها، لا أن يُقتل بأحد ممن لم يقتله لفضل المقتول على القاتل، وقد جاء عن النبي ﷺ:
«أعتى الناس على الله من قتل غير قاتله» الحديث
١ / ٢٥٨
وقال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: وما وصفت من أني لم أعلم مخالفًا في أن يقتل
الرجل بالمرأة، دليل على أن لو كانت هذه الآية غير خاصة، كما قال من وصفت قوله من أهل التفسير، لمِ يُقتل ذكر بأنثى، ولم يجعل عوام من حفظت عنه من أهل العلم، لا نعلم لهم مخالفا، لهذا هذا معناها: ولم يقتل الذكر بالأنثى!.
الأم (أيضًا): من لا قصاص بينه لاختلاف الدينين:
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: قال اللَّه ﵎: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى) الآية.
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: فكان ظاهر الآية - واللَّه أعلم - أن القصاص
إنما كتب على البالغين المكتوب عليهم القصاص؛ لأنهم المخاطبون بالفرائض
إذا قتلوا المؤمنين بابتداء الآية.
وقوله ﷿ (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ) الآية، لأنه جعل الأخوُّة بين المؤمنين، فقال ﷿ (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) الآية.
وقطع ذلك بين المؤمنين والكافرين.
ودلت سنة رسول الله ﷺ على مثل ظاهر الآية.
الأم (أيضًا): باب (قتل الغيلة وغيرها وعفو الأولياء):
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: كل من قُتِل في حرابة، أو صحراء، أو مِصْر.
أو مكابرة أو قُتِل على مال أو غيره، أو قتل نائرة فالقصاص، والعفو إلى
الأولياء، وليس إلى السلطان من ذلك شيء، إلا الأدب إذا عفا الولي.
١ / ٢٥٩
الأم (أيضًا): باب (الرجل يمسك الرجل للرجل حتى يقتله):
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: حد اللَّه الناس على الفعل نفسه وجعل فيه
القود، فقال ﵎: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى) الآية، وقال: (وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا)
الآية، فكان معروفًا عند من خوطب بهذه الآية أن السلطان لولي المقتول على
القاتل نفسه، وروي عن النبي ﷺ أنه قال:
«من اعتبط مسلمًا بقتل فهو قَوَدُ يده» الحديث.
وقال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: لم أجد أحدًا من خلق اللَّه تعالى - يُقتدَى به
- حدُّ أحدًا قط على غير فعل نفسه أو قوله.
فلو أن رجلًا حبس رجلًا لرجل فقتله - الثاني - قُتل به القاتل وعوقب
الحابس، ولا يجوز في حكم اللَّه تعالى إذا قَتلتُ القاتلَ بالقتلِ أن أقتلَ الحابسَ
بالحبس، والحبس غير القتل، ومن قَتَلَ هذا فقد أحال حكم اللَّه ﷿، لأن اللَّه إذ قال: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى) الآية، فالقصاص أن يُفعل بالمرِء مثلُ ما فعل.
وقال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: وروي عن علي أنه قال: «يقتل القاتل.
ويحبس الممسك حتى يموت» الحديث.
١ / ٢٦٠
الأم (أيضًا): في المرتد:
وقال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: وقال ﷿: (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ) الآية، فبين في حكم الله ﷿: (أن جعل العفو أو القتل إلى ولي الدم، دون السلطان إلا في الهارب، فإنه قد حكم في الهاربين أن يقتلوا، أو يصلبوا فجعل ذلك عليهم حكمًا مطلقًا لم يذكر فيه أولياء الدم.
الأم (أيضًا): كتاب اللعان:
أخبرنا الربيع بن سليمان قال:
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: وهكذا كل ما أوجبه اللَّه تعالى لأحد، وجب
على الإمام أخذه له، إن طلبه أخذه له بكل حال، فإن قال قائل فما الحجة في ذلك؟
قيل: قول اللَّه ﵎ اسمه: (وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ) الآية، فبين أن السلطان للولي، ثم
بين فقال في القصاص (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ) الآية، فجعل العفو إلى
الولي.
الأم (أيضًا): ولاة القصاص:
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: وإذا سقط القصاص صارت لهم الدية، وإذا
كان للدم وليَّان فحكم لهما بالقصاص، أو لم يحكم حتى قال أحدهما: قد
عفوت القتلَ لله، أو قد عفوت عنه، أو قد تركت الاقتصاص منه، أو قال
القائل: اعفُ عني، فقال: قد عفوت عنك، فقد بطل القصاص عنه، وهو على
١ / ٢٦١
حق من الدية، وإن أحب أن يأخذه به أخذه، لأن عفوه عن القصاص غير عفوه عن المال، إنما هو عفو أحد الأمرين دون الآخر.
قال تعالى: (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ) الآية، يعني: من عفي له عن القصاص.
وقال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: لو قال قد عفوت عنك القصاص والدية، لم
يكن له قصاص، ولم يكن له نصيب من الدية، ولو قال: عفوت ما لزمك لي، لم يكن هذا عفوًا للدية وكان عفوًا للقصاص، وإنَّما كان عفوًا للقصاص دون المال، ولم يكن عفوًا للمال دون القصاص، ولا لهما؛ لأن اللَّه ﷿ حكم بالقصاص.
ثم قال: (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ) الآية، فأعلم -
سبحانه - أن العفو مطلقًا، إنما هو ترك القصاص لأنه أعظم الأمرين.
وحكم بأن يتبع بالمعروف ويؤدي إليه المعفو له بإحسان.
الأم (أيضًا): باب (القصاص بين المماليك):
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: قال اللَّه تعالى: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى) إلى قوله: (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)
الآية، فسمعت من أرضى من أهل العلم بالقرآن يقول: كان في أهل الإنجيل إذا قتلوا: العقلُ، لم يكن فيهم قصاص، وكان في أهل التوراة: القصاص، ولم يكن فيهم دية، فحكم اللَّه ﷿ في هذه الأمة بأن في العمد: الدية إن شاء الولي، أو القصاص إن شاء، فأنزل اللَّه ﷿:
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ) الآية.
١ / ٢٦٢
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: وذلك والله أعلم بيَّن في التنزيل مستغنىً به
عن التأويل، وقد ذكِرَ عن ابن عباس بعضه، ولم أحفظ عنه بعضه فقال: - واللَّه أعلم - في كتاب اللَّه ﷿ أن أنزل فيما فيه القصاص، وكان بيّنًا: أن ذلك إلى ولي الدم، لأن العفو إنما هو لمن له القود، وكان بيّنا أن قول الله ﷿: (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ) الآية، أن يعفو ولي الدم القصاص، ويأخذ
المال، لأنه لو كان ولي الدم - إذا عفا: القصاص - لم ببق له غيره، لم يكن له إذا ذهب حقه، ولم تكن دية يأخذها شيء يتبعه بمعروف، ولا يؤدى إليه
بإحسان، وقال اللَّه ﷿: (ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ) الآية، مبينًا أنه تخفيف القتل بأخذ المال.
الأم (أيضًا): باب (الديات):
وقال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: وقد قال بعض أهل العلم: أي ولاة الدم
قام به قَتَل، وإن عفا الآخرون فأنزله منزلة الحد.
وقال غيره من أهل العلم: يقتل البالغون ولا ينتظرون الصغار.
وقال غيره: يقتل الولد ولا ينتظرون الزوجة.
قيل: ذهبنا إليه أنه السنة التي لا ينبغي أن تخالف، أو في مثل معنى
السنة والقياس على الإجماع.
فإن قال: فأين السنة فيه؟
قيل: قال رسول الله ﷺ:
«من قُتِل له قتيل فأهله بين خيرَتين إن أحبوا أخذوا القصاص، وإن أحبوا
فالدية» الحديث.
فلما كان من حكم رسول الله ﷺ أن لولاة الدم أن يقتلوا،
١ / ٢٦٣
ولهم أن يأخذوا المال، وكان إجماع المسلمين أن الدية موروثة، لم يحل لوارث أن يمنع الميراث من وَرث معه، حتى يكون الوارث يمنع نفسه من الميراث، وهذا معنى القرآن في قول الله ﷿: (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ) الآية.
وهذا مكتوب في كتاب الديات، ووجدنا ما خالفه
من الأقاويل، لا حجة فيه لما وصفت من السنة بخلافهم، ووجدت مع ذلك
قولهم متناقضًا.
مختصر المزني: باب (الخيار في القصاص):
بعد أن ذكَرَ حديث الشَّافِعِي عن أبي شريح الكعبي الذي ذكِرَ سابقًا في
الأم.
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: ولم يختلفوا في أن العقل يورث كالمال، وإذا كان هكذا فكل وارث ولي، زوجة، أو ابنة، لا يخرج أحد منهم من ولاية الدم، ولا يقتل إلا باجتماعهم، وحبس القاتل حتى يحضر الغائب، ويبلغ الطفل، وإن كان فيهم معتوه فحتى يفيق أو يموت، فيقوم وارثه مقامه، وأيهم عفا عن القصاص كان على حقه من الدية، وإن عفا على غير مال كان الباقون على حقوقهم من
الدية، فإن عفوا جميعًا، وعفا المفلس يجنى عليه أو على عبده القصاص، جاز
ذلك لهم، ولم يكن لأهل الدين والوصايا منعهم، لأن المال لا يملك بالعمد إلا بمشيئة المجني عليه إن كان حيًا، وبمشيئة الورثة إن كان ميتًا.
وذكر المزني كذلك حديث مقاتل بن حيان الذي سبق ذكره.
١ / ٢٦٤
مختصر المزني (أيضًا): ومن كتاب جراح العمد:
وقد ذكر الشَّافِعِي - رحمه اللَّه تعالى - في تفسير هذه الآية، قول مقاتل
الوارد في تفسير الآية السابقة.
أحكام القرآن: ما يؤثر عنه - الشَّافِعِي - في الجراح وغيره:
انظر ما كتبه الشَّافِعِي في الأم فيما سبق، فقد نقل الإمام البيهقي كثيرًا منه
كما هو بحرفيته، بالصفحات المشار إليها في أسفل الهامش، فلا حاجة للتكرار.
قال الله ﷿: (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (١٧٩)
الأم: الحكم في قتل العمد:
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: في قوله: (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (١٧٩) الآية.
يقول لكم في القصاص حياة، ينتهي بعضكم
عن بعض أن يصيب مخافة أن يقتل.
أخبرنا سفيان بن عيينة قال: حدثنا عمرو ابن دينار قال: سمعت مجاهدًا يقول: سمعت ابن عباس يقول: كان في بني إسرائيل القصاص، ولم تكن فيهم الدية، فقال اللَّه ﷿ لهذه الأمة: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ) .
١ / ٢٦٥
وجاء في الأم (أيضًا): باب (القصاص بين المماليك) .
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: وقال اللَّه ﷿: (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ) الآية، يعني: أن يمتنع بها من القتل، فلم يكن المال إذا كان الولي في حال يسقط عنه القود إذا أراد.
وقال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: وروى سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار.
عن ابن عباس ﵄ في تفسير هذه الآية: شبيهًا بما وصفت في أحد المعنيين، ودلّت سنة رسول الله ﷺ على مثل معناه.
مختصر المزني: ومن كتاب جراح العمد - (من مسند الشَّافِعِي):
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: في قوله ﷿: (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) الآية.
يقول: لكم في القصاص حياة ينتهي بها بعضكم عن بعض مخافة أن يقتل. . ..
أحكام القرآن: ما يؤثر عنه في الجراح وغيره:
انظر ما كتبه الشَّافِعِي في الأم فيما سبق بتفسير هذه الآية، والتي سبقتها.
فقد نقله الإمام البيهقي بحرفيته فلا حاجة للتكرار.
١ / ٢٦٦
قال الله ﷿: (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (١٨٠) فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١٨١) .
الأم: باب (ما نسخ من الوصايا):
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: قال اللَّه ﵎: (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ) إلى قوله: (الْمُتَّقِينَ) الآية.
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: وكان فرضًا في كتاب اللَّه تعالى على من ترك
خيرًا - والخير: المال - أن يوصي لوالديه وأقربيه، ثم زعم بعض أهل العلم
بالقرآن أن الوصية للوالدين والأقربين الوارثين منسوخة، واختلفوا في الأقربين غير الوارثين، فكثر من لقيت من أهل العلم ممن حفظت عنه قال: الوصايا منسوخة، لأنه إنما أمر بها إذا كانت إنما يورث بها، فلما قسُّم اللَّه - تعالى ذكره - المواريث كانت تطوعًا.
وقال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: وهذا إن شاء اللَّه تعالى كله كما قالوا.
فإن قال قائل: ما دلَّ على ما وصفتَ؟
قيل له: قال اللَّه ﵎: (وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ) الآية.
أخبرنا ابن عيينة، عن سليمان الأحول، عن مجاهد أن رسول الله ﷺ قال: «لا وصية لوارث».
١ / ٢٦٧
وما وصفت من أن الوصية للوارث منسوخة بآي المواريث، وأن لا
وصية لوارث مما لا أعرف فيه عن أحد ممن لقيت خلافًا.
الأم (أيضًا): باب (الوصية للوارث):
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: قال اللَّه ﷿: (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ) إلى قوله: (الْمُتَّقِينَ) الآية، وقال في آي المواريث: (وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ) الآية.
وذكر من ورُّث - جل ثناؤه - في آي من كتابه.
وقال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: واحتمل إجماع أمر اللَّه تعالى بالوصية
للوالدين والأقربين معنيين:
أحدهما: أن يكون للوالدين والأقربين الأمران معًا، فيكون على الموصي
أن يوصي لهم، فيأخذون بالوصية، ويكون لهم الميراث فيأخذون به.
ثانيهما: واحتمل أن يكون الأمر بالوصية نزل ناسخًا لأن تكون الوصية
لهم ثابتة، فوجدنا الدلالة على أن الوصية للوالدين، والأقربين الوارثين منسوخة بآي المواريث، من وجهين:
الأول: أخبار ليست بمتصلة عن النبي ﷺ من جهة الحجازيين منها: أن سفيان بن عيينة أخبرنا، عن سليمان الأحول عن مجاهد؛ أن النبي ﷺ قال:
«لا وصية لوارث» الحديث.
وغيره يثبته بهذا الوجه، ووجدنا غيره قد يصل فيه
١ / ٢٦٨
حديثًا عن النبي ﷺ بمثل هذا المعنى، ثم لم نعلم أهل العلم في البلدان اختلفوا في
أن الوصية للوالدين منسوخة بآي المواريث.
الثاني: واحتمل إذا كانت منسوخة أن تكون الوصية للوالدين ساقطة، حتى
لو أوصى لهما لم تجز الوصية، وبهذا نقول، وما رُوي عن النبي ﷺ وما نعلم أهل العلم اختلفوا فيه يدل على هذا، وإن كان يحتمل أن يكون وجوبها منسوخًا، وإذا
أوصى لهم جاز، وإذا أوصى للوالدين فأجاز الورثة فليس بالوصية أخذوا، وإنما أخذوا بإعطاء الورثة لهم ما لهم، لأنا قد أبطلنا حكم الوصية لهم فكان نص المنسوخ في وصية الوالدين، وسُمِّي معهم الأقربين جملة، فلما كان الوالدان وارثين، فسنا عليهم كل وارث، وكذلك الخبر عن النبي ﷺ، فلما كان الأقربون
ورثة، وغير ورثة، أبطلنا الوصية للورثة من الأقربين بالنص والقياس والخبر: «لا وصية لوارث» وأجزنا الوصية للأقربين، ولغير الورثة من كان.
فالأصل في الوصايا لمن أوصى في كتاب اللَّه ﷿.
وما روي عن رسول اللَّه ﷺ، وما لم أعلم من مضى من أهل العلم اختلفوا فيه، في أن يُنظر إلى الوصايا:
١ - فإذا كانت لمن يرث الميت أبطلتها.
٢ - وإن كانت لمن لا يرثه أجزتها على الوجه الذي تجوز به، وموجود
عندي - واللَّه أعلم - فيما وصفت من الكتاب، وما روي عن النبي ﷺ.
وحيث إن ما لم نعلم من مضى من أهل العلم اختلفوا فيه، أنه إنما يمنع الورثة
الوصايا لئلا يأخذوا مال الميت من وجهتين، وذلك أن ما ترك المُتَوَفى يؤخذ
بميراث أو وصية، فلما كان حكمهما مختلفين، لم يجز أن يجمع لواحد الحكمان المختلفان في حكم واحد، وحال واحدة، كما لا يجوز أن يُعطى بالشيء وضد الشيء، ولم يحتمل معنى غيره بحال.
١ / ٢٦٩
الأم (أيضًا): باب (الوصية للوارث) أيضًا
قال الشَّافِعِي ﵀ تعالى: ولقد ذكر الله ﵎ الوصية فقال:
(إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ) الآية.
وأن الأغلب من الأقربين، لأنهم يبتلون أولاد الموصي بالقرابة ثم الأغلب أن يزيدوا، وأن يبتلوهم بصلة أبيهم لهم بالوصية.
وينبغي لمن منع أحدًا مخافة أن يرد على وارث، أو ينفعه، أن
يمنع ذوي القرابة، وألا يعتق العبيد الذين قد عرفوا بالعطف على الورثة، ولكن لا يمنع أحد وصية غير الوارث بالخبر عن رسول الله ﷺ، وما لا يختلف فيه من أحفظ عنه ممن لقيت.
الأم (أيضًا): باب (المدَّعي والمدَّعَى عليه):
قال الشَّافِعِي ﵀ تعالى: فإذا كان الناس أجمعوا على خبر الواحد
بتصديق المخبر عنه، ولا يحتجون عليه بمثل ما تحئجون به، ويتبعون فيه أمر
رسول اللَّه ﷺ ثم جاء خبر آخر أقوى منه، فكيف جاز لك أن تخالفه؛ وكيف جاز لك أن تثبت ما اختلفوا فيه، مما وصفنا بالخبر عن النبي ﷺ مرة، وتعيب علينا أن ثبتنا ما هو أقوى منه؟ وقلت لبعض من يقول هذا القول:
قد قال اللَّه (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ) الآية.
فإن قال لك قائل: تجوز الوصية لوارث؛ قال
روي عن النبي ﷺ، قلنا: فالحديث لا تجوز الوصية لوارث أثبت أم حديث
اليمين مع الشاهد؛ قال: بل حديث اليمين مع الشاهد، ولكن الناس لا يختلفون في أن الوصية لوارث منسوخة.
قلنا: أليس بخبر؟ قال: بلى. قلت: فإذا كان
١ / ٢٧٠
الناس يجتمعون على قبول الخبر ثم جاء خبر عن النبي ﷺ أقوى منه، لم جاز - أي لم يجز - لأحد خلافه، قلنا: أرأيت إن قال لك قائل: لا تجوز الوصية إلا لذي قرابة، فقد قاله طاووس، قال: العتق وصية، قد أجازها النبي ﷺ في حديث
عمران للمماليك، ولا قرابة لهم، قلنا: أفتحتج بحديث عمران مرة، وتتركه أخرى؟! وقلت له: نصير بك إلى ما ليس فيه سنة لرسول الله ﷺ حتى نوجدك (أي: نجدك) تخرج من جميع ما احتججت به، وتخالف فيه ظاهر الكتاب عندك.
الأم (أيضًا): كتاب (القرعة):
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: بعد أن ذكر حديثي عمران بن حصين ﵁ وابن المسيب ﵀ ثم ساق حديث نافع عن ابن عمر ﵄، بعد ذلك.
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: وبهذا كله نأخذ، وحديث القرعة عن عمران
ابن حصين، وابن المسيب، موافق قول ابن عمر ﵁ في العتق، لا
يختلفان في شيء حُكِيَ فيهما، ولا في واحد منهما.
١ / ٢٧١
وهذا يدل على خلاف ما قال بعض أهل العلم: إن قول الله ﵎:
(الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ) الآية.
منسوخة بالمواريث، والآخر: إن الوصايا إذا
جُوِّزَ بها الثلث رُدت إلى الثلث، وهذه الحجة في ألا يُجَاوَزَ بالوصايا الثلث.
وذلك أنه لو شاء رجل أن يقول: إنما أشار رسول الله ﷺ على سعد، ولم يعلمه
أنه لا يجوز له أن يوصي بكثر من الثلث، وفي هذا حجة لنا على من زعم أن من لم يدع وارثًا يعرف، أوصى بماله كله، فحديث عمران بن حصين يدل على خمسة معانٍ، وحديث نافع يدل على ثلاثة معانِ كلها في حديث عمران.
الأم (أيضًا): المكاتب:
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: وقال اللَّه ﷿: (إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا) الآية، فعقلنا أنه ترك مالًا؛ لأن المال: المتروك.
وبقوله: (الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ) قال: فلما قال اللَّه ﷿: (إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا) الآية.
كان أظهر معانيها بدلالة ما استدللنا به من الكتاب: قوة على اكتساب المال وأمانة؛ لأنه قد يكون قويًا فيكسب، فلا يؤدي
إذا لم يكن ذا أمانة، وأمينًا فلا يكون قويًا على الكسب فلا يؤدى.
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: ولا يجوز عندي - واللَّه تعالى أعلم - في
قوله: (إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا) الآية، إلا هذا.
الرسالة: الناسخ والمنسوخ الذي تدل عليه السنة والإجماع:
قال الله ﵎: (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (١٨٠) الآية.
١ / ٢٧٢
وقال اللَّه: (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٤٠) .
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: فأنزل اللَّه ميراث الوالدين، ومن ورث
بعدهما، ومعهما من الأقربين، وميراث الزوج من زوجته، والزوجة من زوجها.
فكانت الآيتان محتملتين لأن تثبتا الوصية للوالدين والأقربين، والوصية
للزوج، والميراث مع الوصايا، فيأخذون بالمير اث والوصايا، ومحتملة بأن تكون المواريث ناسخة للوصايا.
فلما احتملت الآيتان ما وصفنا، كان على أهل العلم طلب الدلالة من
كتاب الله، فما لم يجدوه نصًا في كتاب الله، طلبوه في سنة رسول الله ﷺ، فإن وجدوه فما قبلوا عن رسول الله ﷺ فعن الله قبلوه، بما افترض من طاعته.
ووجدنا أهل الفتيا، ومن حفظنا عنه من أهل العلم بالمغازي (من قريش وغيرهم) لا يختلفون في أن النبي ﷺ قال عام الفتح: «لا وصية لوارث، ولا يقتل مومن بكافر» الحديث.
ويأثِرونه عمن حفظوا عنه ممن لقوا من أهل العلم بالمغازي.
فكان هذا نقل عامة عن عامة، وكان أقوى في بعض الأمر من نقل واحد
عن واحد.
وكذلك وجدنا أهل العلم عليه مجمعين.
١ / ٢٧٣
وقال الشَّافِعِي ﵀: وروى بعض الشاميين حديثًا ليس مما يثبته أهل
الحديث فيه: إن بعض رجاله مجهولون، فرويناه عن النبي ﷺ منقطعًا.
وإنما قبلناه بمن وصفت من نقل أهل المغازي، وإجماع العامة عليه، وإن كنا
قد ذكرنا الحديث فيه، واعتمدنا على حديث أهل المغازي عامًّا، وإجماع الناس.
أخبرنا سفيان - يعني ابن عيينة -، عن سليمان الأحول، عن مجاهد أن
رسول اللَّه ﷺ قال: «لا وصية لوارث» الحديث.
فاستدللنا بما وصفتُ، من نقل عامة أهل المغازي عن النبي ﷺ أن «لا وصية لوارث» الحديث.
على أن المواريث ناسخة للوصية (للوالدين والزوجة) مع الخبر المنقطع عن النبي ﷺ، وإجماع العامة على القول به.
وكذلك قال أكثر العامة: إن الوصية للأقربين منسوخة زائل فرضها، إذا
كانوا وارثين بالميراث، وإن كانوا غير وارثين فليس بفرض أن يُوصي لهم.
إلا أن طاووسًا وقليلًا معه قالوا: نسخت الوصية للوالدين، وثبتت للقرابة
غير الوارثين، فمن أوصى لغير قرابة لم يجز.
فلما احتملت الآية ما ذهب إليه طاووس من أن الوصية للقرابة ثابتة، إذ
لم يكن في خبر أهل العلم بالمغازي إلا أن النبي ﷺ قال: «لا وصيهْ لوارث»
وجب عندنا على أهل العلم، طلب الدلالة على خلاف ما قال طاووس أو
موافقته.
فوجدنا رسول الله ﷺ، حكم في ستة مملوكين، كانوا لرجل لا مال له غيرهم، فأعتقهم عند الموت، فجزأهم النبي ﷺ ثلاثة أجزاء، فأعتق اثنين وأرقَّ أربعة.
١ / ٢٧٤
أخبرنا بذلك عبد الوهاب (بن عبد المجيد الثقفي)، عن أيوب
(السختياني)، عن أبي فلابة (عبد اللَّه بن زيد الجرمي البصرى)، عن أبي المهلب (الجَرْمي البصري - عم أبي قلابة)، عن عمران بن حصين ﵁ عن النبي ﷺ.
وقال الشَّافِعِي ﵀: فكانت دلالة السنة في حديث عمران بن حصين بينة، أن رسول الله ﷺ أنزل في عتقهم في المرض وصية، والذي أعتقهم رجل من العرب.
والعربي إنما يملك من لا قرابة بينه وبين العجم، فأجاز النبي ﷺ لهم الوصية.
فدل ذلك على أن الوصية لو كانت تبطل لغير قرابة بطلت للعبيد المعتقين.
لأنهم ليسوا بقرابة للمعتق.
ودلُّ ذلك على: أن لا وصية لميت إلا في ثلث ماله، ودل ذلك على أن يُرَدُّ
ما جاوز الثلث في الوصية، وعلى إبطال الاستسعاء، وإثبات القَسمِ والقُرعَة.
وبطلت وصية الوالدين، لأنهما وارثان وثبت ميراثهما، ومن أوصى له
الميت من قرابة وغيرهم، جازت الوصية، إذا لم يكن وارثًا.
وأحَبّ إليَّ لو أوصَى لقرابته.
جماع العلم: باب (حكاية قول الطائفة التي ردت الأخبار كلها):
قال الشَّافِعِي ﵀: وقلت له أيضًا: يلزمك هذا في ناسخ القرآن
ومنسوخه؟
١ / ٢٧٥
قال: فاذكر منه شيئًا. قلت: قال تعالى: (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ) الآية، وقال في الفرائض:
(وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ) الآية.
فزعمنا بالخبر عن رسول الله ﷺ أن آية الفرائض نسخت الوصية للوالدين
والأقربين، فلو كنا مما لا يقبل الخبر، فقال قائل: الوصية نسخت الفرائض.
هل نجد الحجة عليه إلا الخبر عن رسول الله ﷺ؟!
قال: هذا شبيه بالكتاب والحكمة، والحجة لك ثابتة، بأن علينا قبول الخبر
عن رسول الله ﷺ.
وقد صرتُ إلى: قَبول الخبرِ لَزم للمسلمين، لما ذكرتَ وما في
مثل معانيه من كتاب اللَّه.
وليست تدخلني أنفة من إظهار الانتقال عما كنت أرى إلى غيره، إذا بانت
الحجة فيه، بل أتديَّن بأنَّ عليَّ الرجوعَ عما كنت أرى إلى ما رأيتُ الحقُّ.
أحكام القرآن: ما نسخ من الوصايا:
لقد لخص الإمام البيهقي تفسير الشَّافِعِي لهذه الآية بما يلي:
أخبرنا أبو سعيد محمد بن موسى، أخبرنا أبو العباس الأصم، أخبرنا الربيع قال:
قال الشَّافِعِي ﵀: قال اللَّه ﷿: (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ) الآية.
قال الشَّافِعِي ﵀: فكان فرضًا في كتاب اللَّه ﷿، على من ترك خيرًا
(والخير: المال) أن يوصي لوالديه وأقربين.
١ / ٢٧٦
وزعم بعض أهل العلم بالقرآن: أن الوصية للوالدين والأقربين الوارثين
منسوخة، واختلفوا في الأقربين غير الوارثين، فأكثر من لقيت من أهل العلم، وممن حفظت عنه قال: الوصايا منسوخة؛ لأنه إنما أمر بها إذا كانت إنما يُوَرثُ بها، فلما قسم اللَّه المواريث كانت تطوعًا.
وهذا - إن شاء اللَّه - كلّه كما قالوا.
واحتج الشَّافِعِي ﵀ في عدم جواز الوصية للوارث بآية الميراث.
وبما روي عن النبي ﷺ من قوله: «لا وصية لوارث».
واحتج في جواز الوصية لغير ذي الرحم، بحديث عمران بن حصين:
«أن رجلًا أعتق ستة مملوكين له، ليس له مال غيرهم، فجزأهم النبي ﷺ ثلاثة أجزاء، فأعتق اثنين، وأرَقَّ أربعة» الحديث.
ثم قال الشَّافِعِي: والمعتق: عربي، وإنَّما كانت العرب: تملك من لا قرابة
بينها وبينه، فلو لم تجز الوصية إلا لذي قرابة، لم تجز للمملوكين، وقد أجازها لهم رسول اللَّه ﷺ.
أحكام القرآن (أيضًا): ما يؤثر عنه - الشافعى - في القرعة والعتق، والولاء، والكتابة:
قال الشَّافِعِي ﵀: وقال اللَّه ﷿: (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا) الآية، فعقلنا أنه إن ترك مالًا، لأن المال: المتروك، ولقوله: (الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ) الآية.
فلما قال اللَّه ﷿: (إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا) الآية.
كان أظهر معانيها بدلالة ما استدللنا به من الكتاب قوة على
١ / ٢٧٧
اكتساب المال، وأمانة، لأنه قد يكون قويًا فيكسب، فلا يؤدي إذا لم يكن ذا أمانة، وأمينًا فلا يكون قويًا على الكسب، فلا يؤدي، ولا يجوز عندي - واللَّه أعلم - في قوله تعالى: (إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا) الآية، إلا هذا.
وليس الظاهر أن القول: إن علمت في عبدك مالًا لمعنيين:
أحدهما: أن المال لا يكون فيه، إنما يكون عنده، لا فيه. ولكن يكون فيه
الاكتساب: الذي يفيده المال.
والثاني: أن المال الذي في يده لسيده فكيف يكاتبه بماله؟! إنما يكاتبه بما
يفيد العبد بعد الكتابة؛ لأنه حينئذ يُمنع ما أفاد العبد لأداء الكتابة.
ولعل من ذهب إلى أن الخير: المال، أراد أنه أفاد بكسبه مالًا للسيد.
فيستدل على أنه يفيد مالًا يعتق به، كما أفاد أولًا.
وقال الشَّافِعِي ﵀: وإذا جمع القوة على الاكتساب والأمانة، فأحب
إليَّ لسيده أن يُكاتبه. ولا يبين لي أن يجبر عليه، لأن الآية محتملة أن يكون
إرشادًا أو إباحةَ لا حتمًا.
وقد ذهب هذا المذهب عدد ممن لقيت من أهل العلم.
وبسط الكلام فيه واحتج في جملة ما ذكر: بأنه لو كان واجبًا؛ لكان محدودًا
بأقل ما يقع عليه اسم الكتابة، أو لغاية معلومة.
قال الله ﷿: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (١٨٣)
الرسالة: بيان ما أنزل الله من الكتاب عائم الطاهر وهو يجمع العام والخُصُوص:
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: قال اللَّه ﵎: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (١٨٣) .
١ / ٢٧٨
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: وهكذا التنزيل في الصوم والصلاة على
البالغين العاقلين، دون من لم يبلغ ومن بلغ ممن كلب على عقله، ودون الحُيَّضِ في أيام حيضهن.
الرسالة (أيضًا): باب (البيان الأول):
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: قال الله ﵎: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (١٨٣) الآية.
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: فافترض - الله - عليهم الصوم، ثم بين أنه
شهر، والشهر عندهم ما بين الهلالين، وقد يكون ثلاثين، وتسعًا وعشرين.
فكانت الدلالة في هذا كالدلالة في الآيتين، وكان في الآيتين قبله: في ابن
جماعة: (زيادة تبيُّن جماع العدد) .
ثم قال ﵀: وأشبه الأمور بزيادة تبين جملة العدد، في السبع.
والثلاث، وفي الثلاثين، والعشر، أن تكون زيادة في التبيين، لأنهم لم يزالوا
يعرفون هذين العددين وجماعَهُ، كما لم يزالوا يعرفون شهر رمضان.
١ / ٢٧٩
مسند الشَّافِعِي: في أحكام متفرقة في الصوم:
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: أخبرنا مالك، عن عبد الله بن دينار، عن
عبد الله بن عمر ﵄، أن رسول الله ﷺ قال: «الشهر تسعة وعشرون، فلا تصوموا حتى تروا الهلال، ولا تفطروا حتى تروه، فإن غُم عليكم فكملوا العدة ثلاثين» الحديث.
أحكام القرآن: فصل في معرفة العموم والخصوص:
قال الشَّافِعِي: بين الله في كتابه في هذه الآية وغيرها العموم والخصوص. ..
ثم قال ﵀: وهكذا التنزيل في الصوم الخ.
قال الله ﷿: (فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ) .
الأم: باب (الصيام):
أخبرنا الربيع قال:
١ / ٢٨٠
أخبرنا الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: أخبرنا مالك، عن نافع، أن ابن عمر سئل
عن المرأة الحامل إذا خافت على ولدها؛ فقال: تفطر وتطعم مكان كل يوم
مسكينًا (مدًا من حنطة) .
قال مالك وأهل العلم: يرون عليها من ذلك القضاء.
قال مالك: عليها القضاء؛ لأن اللَّه ﷿ يقول:
(فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) الآية.
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: وإذا كان له - أي الإمام مالك ﵀ أن
يخالف ابن عمر ﵄ لقول أبي، القاسم ﷺ، ويتأول في خلاف ابن عمر القرآن، ولا يقلده، فنقول: هذا أعلم بالقرآن منا، ومذهب ابن عمر ﵄ يتوجه، لأن الحامل ليست بمريضة، المريض يخاف على نفسه، والحامل خافت على غيرها لا على نفسها، فكيف ينبغي أن يجعل قول ابن عمر ﵄ في موضع حجة، ثم القياس على قوله حجة على النبي ﷺ ويخطئ
القياس؟
فنقول: حين قال ابن عمر ﵄: لا يصلي أحد عن أحد.
ولا يحج أحد عن أحد قياسًا على قول ابن عمر، وترك قول النبي ﷺ له، وكيف جاز أن يَتْرُكَ قول ابن عمر لقول رجل من التابعين؟.
الأم: الصيام في كفارات الإيمان:
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: كل من وجب عليه صوم ليس كشروط في
كتاب اللَّه ﷿ أن يكون متتابعًا، أجزأه أن يكون متفرقًا قياسًا على قول الله ﷿ في قضاء رمضان وحده: (فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) الآية.
١ / ٢٨١
والعدة: أن يأتي بعدد الصوم، لا وَلاَء.
وقال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: وإذا كان الصوم متتابعًا فأفطر فيه الصائم
والصائمة من عذر وغير عذر، استأنفا الصيام إلا الحائض فإنها لا تستأنف.
مختصر المزني: كتاب الصيام: باب (النيه في الصوم):
ورُوي عن ابن عباس ﵄ في قوله ﷿: (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ) الآية، قال - المزني - المرأة الهِم (الهِمةُ) .
والثيخ الكبير الهِم، يفطران ويطعمان لكل يوم مسكينًا.
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: وغيره من المفسرين: يقرؤنها (يُطَوَّقُونَهُ) .
وكذلك نقرؤها، ونزعم أنها نزلت حين نزل فرض الصوم، ثم نسِخَ ذلك.
وقال - أي الشَّافِعِي ﵀: وآخر الآية يدل على هذا المعنى؛ لأن
الله ﷿ قال: (فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا)
فزاد على مسكين (فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ)، ثم قال: (وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ) الآية.
١ / ٢٨٢
وقال - أي الشَّافِعِي -: فلا يؤمر بالصيام من لا يطيقه، ثم بين فقال:
(فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) الآية.
وإلى هذا نذهب، وهو أشبه بظاهر القرآن.
قال المزني ﵀: هذا بَين في التنزيل، مستغنى فيه عن التأويل.
اختلاف الحديث: باب (المختلفات التي لا يثبت بعضها):
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: وفرض الله تعالى الصوم فقال: (فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ) إلى قوله: (مِسْكِينٍ) الآية، قيل: يطيقونه، كانوا
يطيقونه ثم عجزوا عنه، فعليهم في كل يوم طعام مسكين.
قال الشَّافِعِي ﵀: فإن قيل: أفروي عن رسول الله ﷺ أنه أمر أحدًا أن يصوم عن أحد؟
قيل: نعم، روى ابن عباس ﵄ عن النبي ﷺ.
فإن قيل: فلم لا تأخذ به؟
قيل: حدث الزهري، عن عبيد اللَّه بن عبد اللَّه، عن
ابن عباس ﵄ عن النبي ﷺ نذر نذرًا، ولم يسمعه مع حفظ الزهري، وطول مجالسة عبيد الله لابن عباس، فلما جاء غيره عن ابن عباس بغير ما في حديث عبيد الله، أشبه ألا يكون محفوظًا.
فإن قيل: أتعرف الذي جاء بهذا الحديث يغلط عن ابن عباس؟
قيل: نعم، روى أصحاب ابن عباس، عن
ابن عباس أنه قال لابن الزبير: إن الزبير حل من متعته الحج، فرُوي هذا عن
ابن عباس أنها متعة النساء! وهذا غلط فاحش.
١ / ٢٨٣
أحكام القرآن: باب (ما يؤثر عن الشَّافِعِي في الصيام):
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: فمن أفطر أيامًا من رمضان - من عذر -.
قضاهن متفرقات، أو متجمعات، وذلك: أن اللَّه ﷿ قال: (فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ)
الآية، ولم يذكرهن متتابعات.
وبهذا الإسناد قال:
قال الشَّافِعِي ﵀: قال الله ﵎: (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ)
فقيل: يطيقونه: كانوا يطيقونه ثم عجزوا، فعليهم في كل يوم طعام مسكين.
وقال الشَّافِعِي في القديم - - رواية الزعفراني عنه -: سمعت من أصحابنا
من نقلوا إذا سئل عن تأويل قوله تعالى: (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ) الآية، فكانه يتأوَّل إذا لم يطق الصوم: الفدية.
وورد عن الشَّافِعِي في كتاب الصوم الصغير قال: والحال التي يترك بها
الكبير الصوم، أن يجهده الجهد غير المحتمل، وكذلك المريض والحامل - إن زاد مرض المريض زيادة بيّنة أفطر، وإن كانت زيادة محتملة لم يفطر -.
والحامل - إذا خافت على ولدها - أفطرت، وكذلك المرضع إذا أضر
بلبنها الأضرار البين،. ..
وبسط الكلام في شرحه.
١ / ٢٨٤
قال الله ﷿: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٨٥)
الأم: باب (أحكام من أفطر في رمضان):
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: من أفطر أيامًا من رمضان، من عذر (مرض.
أو سفر) قضاهن في أي وقت ما شاء، في ذي الحجة أو غيرها، وبينه وبين أن يأتي عليه رمضان آخر، متفرقات أو متجمعات؛ وذلك أن الله ﷿ يقول:
(فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ الآية، ولم يذكرهن متتابعات وقد بلغنا عن بعض
أصحاب النبي ﷺ أنه قال: «إذا أحصيت العدة فصمهن كيف شئت» الحديث.
فإن مرض أو سافر المفطر من رمضان، فلم يصح، ولم يقدر حتى يأتي
عليه رمضان آخر، قضاهنّ ولا كفّارة، وإن فزط وهو يمكنه أن يصوم حتى
يأتي رمضان آخر، صام رمضان الذي جاء عليه، وقضاهن وكفَّر عن كل يوم بمد حنطة.
وقال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: والحامل والمرضع إذا أطاقتا الصوم، ولم
تخافا على ولديهما، لم تفطرا، فإن خافتا على ولديهما أفطرتا، وتصدقتا عن كل يوم بمد حنطة، وصامتا إذا أمنتا على ولديهما.
١ / ٢٨٥
وإن كانتا لا تقدران على الصوم، فهذا مثل المرض، أفطرتا وقضتا بلا
كفارة، إنما تكفِّران بالأثر وبانهما لم تفطرا لأنفسهما، إنما أفطرتا لغيرهما، فذلك فرق بينهما وبين المريض لا يُكَفر، والشيخ الكبير الذي لا يطيق الصوم، ويقدر على الكفارة، يتصدق عن كل يوم بمد حنطة، خبرًا عن بعض أصحاب النبي ﷺ، وقياسًا على من لم يطق الحج أن يحج عنه غيره، وليس عمل غيره عنه
عمله نفسه، كما ليس الكفارة كعمله.
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: والحال التي يترك بها الكبير الصوم، أن يكون
يجهده الجهد غير المحتمل، وكذلك المريض والحامل.
وإن زاد مرض المريض زيادة بينة أفطر، وإن كانت زيادة محتملة لم يفطر.
والحامل إذا خافت على ولدها أفطرت، وكذلك المرضع إذا أضرَّ بلبنها الإضرار البين، فأما ما كان من ذلك محتملًا فلا يفطر صاحبه، والصوم قد يزيد عامة العلل ولكن زيادة محتملة، ويسّقص بعض اللبن ولكنه نقصان محتمل، فإذا تفاحش أفطرتا.
فكأنه (أي: الشَّافِعِي) يتاول إذا لم يطق الصوم: الفدية - واللَّه أعلم -.
الأم (أيضًا): باب (بيع الآجال):
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: وقال اللَّه ﷿: (فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) الآية، فقد وقت بالأهلة، كما وقت بالعدة، وليس العطاء من مواقيته تبارك
وتعالى، وقد يتأخر الزمان ويتقدم، وليس تستأخر الأهلة أبدًا أكثر من يوم.
١ / ٢٨٦
الأم (أيضًا): باب (في الآجال: في السلف والبيوع):
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: وقال جل ثناؤه: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ) الآية، فأعلمَ اللَّه تعالى بالأهلة - جُمَل المواقيت، وبالأهلة مواقيت
الأيام من الأهلة، ولم يجعل علمًا لأهل الإسلام إلا بها، فمن أعلم بغيرها فبغير ما أعلم - الله أعلم -.
الأم (أيضًا): كتاب (صلاة العيدين):
أخبرنا الربيع قال:
أخبرنا الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: قال الله ﵎ في سياق شهر
رمضان: (وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ) الآية.
وقال رسول الله ﷺ:
«لا تصوموا حتى تروه، ولا تفطروا حتى تروه» الحديث.
يعني: الهلال، فإن غُم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين.
الأم (أيضًا): التكبير ليلة الفطر):
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: قال الله ﵎ في شهر رمضان:
(وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ) الآية، قال: فسمعت من
أرضى من أهل العلم بالقرآن يقول: لتكملوا العدة: عدة صوم شهر رمضان،
١ / ٢٨٧
وتكبروا الله: عند إكماله على ما هداكم
وإكماله: مغيب الشمس من آخر يوم من أيام شهر رمضان.
قال الشَّافِعِي ﵀: وما أشبه ما قال بما قال - والله أعلم -.
مختصر المزني: باب (صلاة العيدين):
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: وأحِبُّ إظهار التكبير جماعة وفرادى في ليلة
الفطر، وليلة النحر، مقيمين وسفرًا، في منازلهم ومساجدهم وأسواقهم، ويغدون إذا صلّوا الصبح - ليأخذوا مجالسهم - وينتظرون الصلاة، ويكبرون بعد الغدو حتى يخرج الإمام إلى الصلاة.
وقال - أي الشَّافِعِي - في غير هذا الباب: حتى يفئتح الإمام الصلاة
قال المزني ﵀: هذا أقيس، لأن من لم يكن في صلاة، ولم يحرم إمامه.
ولم يخطب، فجائز أن يتكلم، واحتج بقول اللَّه تعالى في شهر رمضان: (وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ) الآية.
وعن ابن المسيب، وعروة، وأبي سلمة، وأبي بكر، يكبرون ليلة الفطر في
المسجد، يجهرون بالتكبير، وشُبه ليلة النحر بها، إلا من كان حاجًا فذِكرُه التلبية.
مختصر المزني: باب (النذور):
قال المزني ﵀: فرض الله صوم شهر رمضان بعينه، فلم يسقط
بعجزه عنه بمرضه، قال الله: (فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) الآية، وأجمعوا أنه لو أغمي عليه الشهر كله فلم يعقل فيه، أنَّ عليه قضاءه.
١ / ٢٨٨
الرسالة: باب (الفرائض التي أنزل الله نصًا):
قال الله: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (١٨٣) أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١٨٤) شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا) الآيات.
ثم بين أيُّ شهر هو فقال: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٨٥) وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (١٨٦) .
قال الشَّافِعِي ﵀: فما علمت أحدًا من أهل العلم بالحديث قبلنا.
تكلَّف أن يرويَ عن النبي ﷺ، أن الشهر المفروض صومه شهر رمضان الذي بين شعبان وشوال، لمعرفتهم بشهر رمضان من الشهور، واكتفاء منهم بأن الله فرضه.
وقد تكلفوا حفظ صومه في السفر وفطره، وتكلفوا كيف قضاؤه؛ وما
أشبه ذلك مما ليس فيه نص كتاب.
١ / ٢٨٩
ولا علمت أحدًا من غير أهل العلم، احتاج في المسألة عن شهر رمضان
أيُّ شهر هو؛ ولا هل هو واجب أم لا؟.
اختلاف الحديث: باب الفطر والصوم في السفر (الجزء الثاني):
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: وظاهر الآية في الصوم أن الفطر في المرض
والسفر عَزْم، لقول اللَّه: (وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ)
الآية.
كيف لم تذهب إلى أن الفطر عزم؛ وأنه لا يجزئ شهر رمضان؛ ومن صام
مريضًا أو مسافرًا مع الحديث عن النبي ﷺ:
«ليس من البر الصيام في السفر»؟
ومع أن الآخر من أمر رسول الله ﷺ ترك الصوم، وأن عمر أمر رجلًا صام في السفر أن يقضي الصيام، قال: فحكيت له ما قلتُ: في قول اللَّه تعالى: (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ)
إنها آية واحدة، وأنّ ليس من أهل العلم بالقرآن أحد يخالف في أنَّ الآية
الواحدة كلام واحد، وأن الكلام الواحد لا ينزل إلا مجتمعًا.
وإن نزلت الآيتان في السورة مفترقتين؛ لأن معنى الآية: معنى قطع
الكلام. قال: أجل. قلت: فإذا صام رسول الله ﷺ ﷺ في شهر رمضان، وفَرْضُ
١ / ٢٩٠
شهر رمضان إنما أنزل في الآية، أليس قد علمنا أن الآية بفطر المريض والمسافر رخصة؟ قال: بلى. فقلت له: ولم يبق شيء يَعرُض في نفسك إلا الأحاديث؟
قال: نعم. ولكن الآخر من أمر الرسول ﷺ أليس الفطر؟ قال، فقلت له: الحديث يبين أن رسول ﷺ لم يفطر لمعنى نسخ الصوم، ولا اختيار الفطر على
الصوم، ألا ترى أنَّه يأمر الناس بالفطر ويقول: «تقووا لعدوكم» ويصوم ثم
يخبر بأنهم، أو أن بعضهم أبى أن يفطر إذ صام، فأفطر ليفطر من تخلف عن
الفطر لصومه بفطره، كما صنع عام الحديبية فإنه أمر الناس أن ينحروا ويحلقوا فأبوا، فانطلق فنحر وحلق، ففعلوا.
قال: فما قوله: «ليس من البر الصيام في السفر»؟
قلت: قد أتى به جابر
مفسرًا، فذكر أن رجلًا أجهده الصوم فلما علم النبي ﷺ، قال: «ليس من البر الصيام في السفر»
فاحتمل: - ليس من البر أن يبلغ هذا رجل بنفسه في فريضة صوم ولا نافلة، وقد أرخص اللَّه له وهو صحيح أن يفطر، فليس من البر أن يبلغ هذا بنفسه.
- ويحتمل ليس من البر الفروض الذي من خالفه أثِمَ. ..
ثم يقول: (أي: الشَّافِعِي) وفي صوم النبي ﷺ دلالة على ما وصفت.
أحكام القرآن: فصل (فيما يؤثر عن - الشَّافِعِي - من التفسير والمعاني في
الطهارات والصلوات):
قال البيهقي رحمه اللَّه تعالى: وقرأت في رواية حرملة:
١ / ٢٩١
عن الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: يستحب للمسافر أن يقبل صدقة اللَّه ويقصر.
فإن أتم الصلاة عن غير رغبة عن قبول رخصة اللَّه ﷿ فلا إعادة عليه، كما يكون - إذا صام في السفر - لا إعادة عليه وقد قال اللَّه ﷿: (فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) الآية.
أحكام القرآن: فيما يؤثر عن الشَّافِعِي في الصيام:
قال البيهقي رحمه الله تعالى: قرأت في رواية المزني ﵀:
عن الشَّافِعِي - يرحمه الله - أنه قال: قال اللَّه جل ثناؤه: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (١٨٣) أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ) الآية.
ثم أبان أن هذه الأيام شهر رمضان بقوله تعالى: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ) إلى قوله: (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) الآية.
وكان بينًا في كتاب اللَّه ﷿ أنَّه لا يجب صوم إلا صوم شهر رمضان، وكان عِلْمُ (شهر رمضان) - عند من خوطب باللسان - أنه الذي بين شعبان وشوال.
وذكره في رواية حرملة عنه كعناه قال: فلما أعلم اللَّه الناس أنه فرض الصوم عليهم: (شهر رمضان)، وكانت الأعاجم تعد الشهور بالأيام لا بالأهلة، وتذهب إلى أنَّ الحساب - إذا عدت الشهور بالأهِلة - يختلف. فأبان الله تعالى أنَّ الأهلة هي: الواقيت للناس والحج، وذكر الشهور فقال: (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ) الآية.
فدلّ على أن الشهور للأهلة، إذ جعلها المواقيت، لا ما ذهبت إليه الأعاجم من العدد بغير الأهلة.
١ / ٢٩٢
ثم بين رسول الله ﷺ ذلك، على ما أنزل اللَّه ﷿، وبين أن الشهر تسع وعشرون يعني: أن الشهر قد يكون تسعًا وعشرين. وذلك أنهم قد يكونون يعلمون: أن الشهر يكون ثلاثين فأعلمهم أنَّه قد يكون تسعًا وعشرين، وأعلمهم أنَّ ذلك للأهلة.
أخبرنا أبو عبد اللَّه الحافظ، أخبرنا العباس، أخبرنا الربيع قال:
قال الشَّافِعِي - رحمه الله تعالى -: قال اللَّه تعالى في فرض الصوم:
(شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ) الآية، إلى قوله: (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) الآيات.
فبيّنَ في الآية أنَّه فرض الصيام عليهم بعدة، وجعل لهم أن يفطروا فيها
(مرضى ومسافرين)، ويحصوا حتى يكملوا العدة، وأخبر أنَّه أراد بهم اليسر، وكان قول اللَّه ﷿: (وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) الآية، يحتمل معنيين:
أحدهما: ألا يجعل عليهم صوم شهر رمضان (مرضى ولا مسافرين) .
ويجعل عليهم عددًا - إذا مضى السفر والمرض - من أيام أخر.
الثاني: ويحتمل أن يكون إنمّا أمرهم بالفطر في هاتين الحالتين، على
الرخصة إنّ شاؤوا، لئلا يحرجوا إن فعلوا.
وكان فرض الصوم، والأمر بالفطر في المرض والسفر في آية واحدة.
ولم أعلم مخالفًا أنَّ كل آية إنما نزلت متتابعة، لا مفرقة. وقد تنزُّل الآيتان في
السورة مفرقتين، فأمّا آيةٌ فلا، لأن معنى الآية: أنهّا كلام واحد غير منقطع.
يُستأنف بعده غيره.
وقال الشَّافِعِي ﵀: في موضع آخر من هذه المسألة؛ لأن معنى
الآية: معنى: قطع الكلام.
١ / ٢٩٣
فإذا صام رسول الله ﷺ في شهر رمضان، وفَرضُ شهر رمضان إنما أنزل في الآية، علمنا أن الآية بفطر المريض والمسافر رخصة.
قال الله ﷿: (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (١٨٧)
الأم: باب (ما يفطر الصائم والسحور والخلاف فيه):
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: الوقت الذي يَحْرُمُ فيه الطعام على الصائم.
حين يتبين الفجر الآخر معترضًا في الأفق.
وكذلك بلغنا عن النبي ﷺ إلى أن تغيب الشمس، وكذلك قال اللَّه ﷿:
(ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ) الآية.
فإن كل فيما بين هذين الوقتين أو شرب، عامدًا للأكل والشرب، ذاكرًا
للصوم فعليه القضاء.
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: أخبرنا مالك، عن زيد بن أسلم، عن أخيه
خالد بن أسلم، أن عمر بن الخطاب ﵁ أفطر في رمضان، في يوم ذي غيم، ورأى أنه قد أمسى، وغابت الشمس، فجاءه رجل فقال: يا أمير المؤمنين قد
١ / ٢٩٤
طلعت الشمس فقال عمر: (الخطب يسير)، كأنه يريد بذلك - واللَّه أعلم - قضاء يوم مكانه.
الأم (أيضًا): باب (الإقرار والاجتهاد والحكم بالظاهر):
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: - في بيان أنَّه لا يجوز للمسلم أن يجتهد إلا
وفق الكتاب والسنة، وعليه ألا يعمل برأي نفسه، ولجاز أن يصوم رمضان برأي نفسه أن الهلال قد طلع، وهذا خلاف كتاب اللَّه ﷿ لقوله ﷿: (حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ) الآية.
ولقول رسول الله ﷺ:
صوموا لرؤيته ... " الحديث.
أحكام القرآن: (ما يؤثر عن الشَّافِعِي ﵀ في الصيام):
قال اللَّه تعالى: (وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ) الآية.
قال البيهقي ﵀: وقرأت في كتاب حرملة فيما رُويَ عن:
الشَّافِعِي رحمه الله تعالى أنَّه قال: جماع العكوف: ما لزمه المرء، فحبس عليه
نفسه: من شيء، بِرًَّا كان أو مأثمًا، فهو عاكف.
واحتج بقوله ﷿: (فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ) الآية، وبقوله تعالى حكاية عمن رضي قوله - وهو إبراهيم الخليل ﷺ:
(مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ (٥٢) .. الآية.
١ / ٢٩٥
قيل: فهل للاعتكاف المتبرر أصل في كتاب اللَّه ﷿؟
قال: نعم، قال اللَّه ﷿: (وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ) الآية، والعكوف في
المساجد: صبر الأنفس فيها، وحبسها على عبادة اللَّه وطاعته.
قال الله ﷿: (وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١٨٨)
الأم: باب (كتاب السبق والنضال)
أخبرنا الربيع بن سليمان قال:
أخبرنا محمد بن إدريس الشَّافِعِي رحمه الله تعالى قال: جماع ما يحل أن بأخذه
الرجل من الرجل المسلم ثلاثة وجوه:
أحدها: ما وجب على الناس في أموالهم مما ليس لهم دفعه من
جناياتهم، وجنايات من يعقلون عنه، وما وجب عليهم بالزكاة، والنذور.
والكفارات، وما أشبه ذلك.
ثانيها: وما أوجبوا على أنفسهم مما أخذوا به العوض من البيوع.
والإجارات، والهبات للثواب وما في معناه.
١ / ٢٩٦
ثالِثها: وما أعطوا متطوعين من أموالهم التماس واحد من وجهين:
أحدهما: طلب ئواب اللَّه تعالى.
والآخر: طلب الاستحماد ممن أعطوه إياه.
وكلاهما معروف حسن، ونحن نرجو عليه الثواب إن شاء اللَّه تعالى.
ثم ما أعطى الناس من أموالهم من غير هذه الوجوه، وما في معناها واحد
من وجهين (أيضًا):
أحدهما: حق.
والآخر: باطل.
فما أعطوا من الباطل غير جائز لهم، ولا لمن أعطوه، وذلك قول الله ﷿:
(وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ) الآية.
فالحق من هذا الوجه الذي هو خارج من هذه الوجوه التي وصفت، يدل على الحق في نفسه، وعلى الباطل فيما خالفه.
قال الله ﷿: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (١٨٩)
الأم: باب (بيع الآجال):
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: وقد رُويَ إجازة البيع إلى العطاء عن غير
واحد، ورُويَ عن غيرهم خلافه، وإنما اخترنا ألا يُباع إليه؛ لأن العطاء قد يتأخر ويتقدم، وإنما الآجال معلومة، بايام موقوتة، أو أهِلةٍ، وأصلها في القرآن، قال اللَّه ﷿: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ) الآية.
١ / ٢٩٧
وقال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: ولا خير في شراء التمر إلا بنقد، أو الى
أجل معلوم، والأجل معلوم: يوم بعينه، من شهر بعينه، أو هلال شهر بعينه، فلا يجوز البيع إلى العطاء، ولا إلى الحصاد، ولا إلى الجداد؛ لأن ذلك يتقدم ويتأخر، وإنما قال اللَّه تعالى: (إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى) الآية، وقال الله ﷿: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ)، فلا توقيت إلا بالأهلة، أو سِني الأهلة.
الأم: باب (في الآجال: في السلف والبيوع):
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: ولا يصلح بيع إلى العطاء، ولا حصاد، ولا
جداد، ولا عيد النصارى، وهذا غير معلوم؛ لأن الله تعالى حئم أن تكون
المواقيت بالأهلة، فيما وقت لأهل الإسلام فقال ﵎: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ) الآية.
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: فأعلم الله تعالى بالأهلة جُمَل المواقيت.
وبالأهلة مواتيت الأيام من الأهلة، ولم يجعل علمًا لأهل الإسلام إلا بها.
فمن أعلم بغيرها فبغير ما أعلم - والله أعلم -.
الأم: باب (الاختلاف في العيب):
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: وإذا باع الرجلُ الرجلَ بيعًا إلى العطاء.
فالبيع فاسد، من قِبَل أن اللَّه ﷿ أذن بالدين إلى أجل مسمى، والمسمى: المُوَقت
١ / ٢٩٨
بالأهلة التي سَمَّى اللَّه ﷿ فإئه يقول: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ) الآية.
والأهلة معروفة المواقيت، وما كان في معناها من الأيام
المعلومات، والسنين.
أخبرنا الربيع:
أخبرنا الشَّافِعِي قال: أخبرنا سفيان بن عيينة، عن عبد الكريم، عن
عكرمة، عن ابن عباس ﵄ قال: «لا تبايعوا إلى العطاء، ولا إلى الأندر، ولا إلى العصير» الحديث.
مختصر المزني: باب (السلَم):
قال الشَّافِعِي ﵀ تعال: ولا يجوز في السلف حتى يدفع الثمن قبل أن
يفارقه، ويكون ما سلف فيه موصوفًا، وإن كان ما سلف فيه بصفة معلومة عند أهل العلم بها، وأجل معلوم جاز، قال الله ﵎: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ) الآية، ثم ذكر ما ورد في الأم بالفقرة السابقة.
قال الله ﷿: (وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (١٩٠)
١ / ٢٩٩
وقال الله ﷿: (وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ) وقرأ الرييع إلى قوله
تعالى: (كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (١٩١) .
الأم: مبتدأ الإذن بالقتال:
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: وأباح اللَّه لهم القتال بمعنى: أبانه في كتابه
فقال: (وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (١٩٠) وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ) الآيتان، وقرأ الربيع إلى قوله
تعالى: (كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ) .
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: يقال نزل هذا في أهل مكة، وهم كانوا أشد
العدو على المسلمين، وفرض عليهم في قتالهم ما ذكر الله ﷿.
ثم يقال: نسخ هذا كله، بالنهي عن القتال حتى يُقاتلوا، أو النهي عن
القتال في الشهر الحرام بقول اللَّه ﷿: (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ) الآية.
ونزول هذه الآية بعد فرض الجهاد، وهي موضوعة في موضعها.
١ / ٣٠٠
قال الله ﷿: (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ)
الأم: مبتدأ الإذن بالقتال:
قال الشَّافِعِي ﵀: ثم يقال نسخ هذا كله، والنهي عن القتال حتى
يُقاتلوا، والنهي عن القتال في الشهر الحرام بقول اللَّه ﷿: (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ) الآية، ونزول هذه الآية بعد فرض الجهاد، وهي موضوعة في موضعها.
أحكام القرآن: مبتدأ الإذن بالقتال:
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: ونزول هذه الآية: (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ) الآية، بعد فرض الجهاد، وهي موضوعة في موضعها، وكان الشَّافِعِي
﵀: أراد بقول اللَّه ﷿: (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ) الآية، على أنها أعم في النسخ مما ذكره الجمهور من آية: (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ)، وقوله: (وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً) الآية - والله أعلم -.
١ / ٣٠١
قال الله ﷿: (الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (١٩٤)
الأم: باب (الإحصار با لعدو):
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: قال اللَّه ﷿ (الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ)
الآية، وقد أوردها في الدلالة من القرآن على أن القصاص غير واجب في الرد على من استدل بهذه الآية على أن قول اللَّه (قِصَاصٌ)، إنَّما يكون بواجب.
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: فقلت له: إن القصاص وإن كان يجب لمن له
القصاص، فليس القصاص واجبًا عليه أن يقتص.
قال: وما دلَّ على ذلك؟
قلت: قال اللَّه تعالى: (وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ)
الآية، أفواجب على من جُرح أن يقتص ممن جرحه؛ أو مباح له أن يقتص
وخَيْر له أن يعفو؛ قال: له أن يعفو، ومباح له أن يقتص.
وقلت له: قال اللَّه ﷿: (فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ) الآية.
فلو أن معتديًا مشركًا اعتدى علينا، كان لنا أن نعتدي
عليه بمثل ما اعتدى علينا، ولم يكن واجبًا علينا أن نفعل.
قال: ذلك على ما وصفت.
فقلت: فهذا يدلك على ما وصفت، وما قال
مجاهد: من أن اللَّه ﷿ أقَصَّهُ منهم - في عمرة القضية بعد سنة من صلح الحديبية
١ / ٣٠٢
- فدخل عليهم في مثل الشهر الذي ردوه فيه، وليست فيه دلالة على أن
دخوله كان واجبًا عليه من جهة قضاء النسك - واللَّه أعلم -.
قال الله ﷿: (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ)
الأم باب (الإحصار بالعدو):
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: قال اللَّه ﷿: (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ) الآية.
قال الشَّافِعِي ﵀: فلم أسمع ممن حفظت عنه من أهل العلم بالتفسير
مخالفًا في أن هذه الآية نزلت بالحديبية، حين أحصر النبي ﷺ، فحال المشركون بينه وبين البيت، وأن النبي ﷺ نحر بالحديبية، وحلق ورجع حلالًا، ولم يصل
إلى الببت، ولا أصحابه، إلا عثمان بن عفان ﵁ وحده، وسنذكر قصته.
وظاهر الآية أن أمر اللَّه ﷿ إياهم ألا يحلقوا حتى يبلغ الهدي محله.
وأمره من كان به أذى من رأسه بفدية سمّاها، وقال اللَّه ﷿:
(فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) الآية.
وما بعدها يشبه - واللَّه أعلم - ألا يكون على المحصر بعدو قضاء؛ لأنّ
الله تعالى لم يذكر عليه قضاء، وذكر فرائض في الإحرام بعد ذكر أمره.
١ / ٣٠٣
الأم (أيضًا): باب (هل تجب العمرة وجوب الحج؟):
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: قال الله ﵎: (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ) الآية.
فاختلف الناس في العمرة، فقال بعض المشرقيين: تطوع.
وقاله سعيد ابن سالم، واحتج بأن سفيان الثوري، أخبره عن معاوية بن إسحاق، عن أبي صالح الحنفي، أن رسول الله ﷺ قال: «الحج جهاد والعمرة تطوع» الحديث.
فقلتُ له: أثبت مثل هذا عن النبي ﷺ؛ فقال: هو منقطع، وهو وإن لم تثبُت به الحجة، فإن حجتنا في أنها تطوع أن الله ﷿ يقول: (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا) الآية.
ولم يذكر في الموضع الذي بين إيجاب الحج، إيجاب العمرة، وأنَّا لم نعلم
أحدًا من المسلمين أمِرَ بقضاء العمرة عن ميّت، فقلت له: قد يحتمل قول الله
: (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ) الآية، أن يكون فرضهما معًا، وفرضه إذا كان
في موضع واحد يثبت بثبوته في مواضع كثيرة، لقوله تعالى:
(وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ) الآية.
ثم قال: (إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا (١٠٣) . الآية.
فذكرها مرة مع الصلاة، وأفرد الصلاة مرة أخرى دونها، فلم يمنع ذلك
الزكاة أن تثبت.
وليس لك حجة في قولك: لا نعلم أحدًا أمَرَ بقضاء العمرة
عن ميت إلا عليك مثلها لمن أوجب العمرة، بأن يقول: ولا نعلم من السلف
١ / ٣٠٤
أحدًا ثبت عنه أنه قال: لا تقضى عمرة عن ميت، ولا هي تطوع كما قلت، فإن كان لا نعلم لك حجة، كان قول من أوجَب العمرة: لا نعلم أحدًا من السلف ثبت عنه أنه قال: هي تطوع، وألا تقضى عن ميت حجة عليك، قال ومن ذهب هذا المذهب أشبه أن يتأول الآية: (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ) الآية، إذا دخلتم فيهما.
وقال بعض أصحابنا: العمرة سنة لا نعلم أحدًا أرخص في تركها.
قال: وهذا القول يحتمل إيجابها إن كان يريد أن تحتمل إيجابها، وأنّ ابن
عباس ﵄ ذهب إلى إيجابها، ولم يخالفه غيره من الأئمة، ويحتمل
تأكيدها لا إيجابها.
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: والذي هو أشبه بظاهر القرآن، وأولى بأهل
العلم عندي - وأسال الله التوفيق - أن تكون العمرة واجبة، فإن اللَّه ﷿ قرنها مع الحج فقال: (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) الآية.
وأن رسول الله ﷺ لله اعتمر قبل أن يحج، وأن رسول اللَّه ﷺ سنّ إحرامها
والخروج منها بطواف وحِلاَق وميقات، وفي الحج زيادة عمل على العمرة.
فظاهر القرآن أولى إذا لم يكن دلالة على أنَّه باطن دون ظاهر، ومع ذلك قول ابن عباس وغيره.
١ / ٣٠٥
أخبرنا ابن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن طاووس، عن ابن عباس رضي
الله عنهما أنَّه قال: «والذي نفسي بيده إنها لفرينتها في كتاب الله (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ) الآية» الحديث.
أخبرنا مسلم بن خالد، عن ابن جريج، عن عطاء أنه قال:
«ليس من خلق الله أحد إلا عليه حجة وعمرة واجبتان» الحديث.
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: وقاله غيره من مكيينا، وهو قول الأكثر منهم.
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: قال اللَّه ﵎: (فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) الآية، وسن رسول الله ﷺ في قِرَان العمرة مع الحج هديًا، ولو كان أصل العمرة تطوعًا، أشبه ألا يكون لأحد أن يقرن العمرة مع الحج؛ لأن أحدًا لا يدخل في نافلة فرضًا حتى يخرج من أحدهما قبل الدخول في الآخر، وقد يدخل في أربع ركعات وكثر نافلة قبل أن يفصل بينهما بسلام، وليس ذلك في مكتوبة ونافلة من الصلاة، فأشبه ألا يلزمه بالتمتع أو بالقران هدي، إذا كان أصل العمرة تطوعًا بكل حال؛ لأن حكم ما لا يكون إلا تطوعًا بحال، غير حكم ما يكون فرضًا في الحال.
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: وقال رسول الله ﷺ: «دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة» الحديث.
وقال رسول الله ﷺ لسائله عن الطيب
والثياب: «افعل في عمرتك ما كنت فاعلًا في حَجتك» الحديث.
١ / ٣٠٦
أخبرنا مسلم بن خالد، عن ابن جريج، عن عبد الله بن أبي بكر، أن في
الكتاب الذي كتبه النبي ﷺ لعمرو بن حزم:
«أنَّ العمرة هي الحج الأصغر» الحديث.
قال ابن جريج: ولم يحدثني عبد اللَّه بن أبي بكر عن كتاب رسول الله ﷺ، لعمرو بن حزم شيئًا إلا قلت له: أي شكٍّ أنتم من أنَّه كتاب رسول الله ﷺ؟
فقال: لا.
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: ويجزيه أن يقرن الحج مع العمرة، وتجزيه من
العمرة الواجبة عليه، ويهريق دمًا قياسًا على قول اللَّه ﷿:
(فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) الآية.
فالقارن أخفُّ حالًا من المتمتع.
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: وتجزئ العمرة قبل الحج، والحج قبل العمرة من
الواجبة عليه.
كما يسقط ميقات الحج إذا قذم العمرة قبله لدخول أحدهما في الآخر.
ولا ميقات للعمرة دون الحل، وأحبُّ أن يعتمر من الجِغرَانة؛ لأن النبي ﷺ اعتمر منها، فإن أخطاه ذلك اعتمر من التنعيم؛ لأن النبي ﷺ أمر عائشة أن
تعتمر منها وهي أقرب الحل إلى البيت.
فإن أخطاه ذلك اعتمر من الحديبية؛ لأن النبي ﷺ صلى بها، وأراد المدخل لعمرته منها.
١ / ٣٠٧
أخبرنا ابن عيينة، أنَّه سمع عمرو بن دينار يقول: سمعت عمرو بن أوس
الثقفي يقول: أخبرني عبد الرحمن بن أبي بكر ﵄، «أن النبي ﷺ أمره أن يردف عائشة فيعمرها من الننعيم» الحديث.
قال الشَّافِعِي ﵀: وعائشة كانت قارنة، فقضت الحج والعمرة
الواجبتين عليها، وأحبَّت أنَّ تنصرف بعمرة غير مقرونة بحج، فسألت ذلك النبي ﷺ فأمر بإعمارها، فكانت لها نافلة خيرًا، وقد كانت دخلت مكة بإحرام فلم يكن لها رجوع إلى الميقات.
الأم (أيضًا): باب (هل لمن أصاب الصيد أن يفديه بغير النعم؟):
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: فقال عطاء ﵀: كل شيء في القرآن (أو
...، أو. . .) يختار منه صاحبه ما شاء.
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: ويقول عطاء في هذا أقول: قال اللَّه جل ثناؤه: (فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ) الآية.
ورُوِي عن رسول الله ﷺ أنَّه قال: لكعب بن عجرة، أي ذلك فعلت أجزأك، وقال اللَّه ﷿: (فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ) الآية.
الأم (أيضًا): باب (في الحج):
قال الربيع:
١ / ٣٠٨
وسألت الشَّافِعِي عن العمرة في أشهر الحج فقال: حسنة أستحسنها، وهي
أحب إليَّ منها بعد الحج، لقول اللَّه ﷿ ث (فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ) الآية.
ولقول رسول الله ﷺ: «دخلت العمرة في الحج» الحديث، ولأنّ النبي ﷺ
أمر أصحابه: «من لم يكن معه هدي أن يجعل إحرامه عمرة» الحديث.
وقال الشَّافِعِي ﵀: أخبرنا مالك، عن صدقة بن يسار، عن ابن عمر
﵄ أنه قال: «والله لأن أعتمر قبل أن أحج وأهدي أحبّ الي من أن أعتمر بعد الحج في ذي الحجة» الحديث.
الأم (أيضًا): الإحصار:
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: الإحصار الذي ذكره اللَّه ﵎، فقال:
(فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) الآية، نزلت يوم الحديبية، وأحصِر
النبي ﷺ بعدوّ، ونَحَرَ ﵊ في الحلِّ.
الأم (أيضًا): باب (دخول مكه لغير إرادة حج ولا عمرة):
قال الشَّافِعِي ﵀: قال الله ﵎: (فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) الآية.
فأذن - اللَّه - للمحرمين بحج أو عمرة، أن يُحلوا لخوف الحرب، فكان من
لم يحرم أولى إن خاف الحرب ألا يحرم، من محرم يخرج من إحرامه، ودخلها
رسول الله ﷺ عام الفتح غير محرم للحرب.
١ / ٣٠٩
الأم (أيضًا): باب (ما تجزئ عنه البدنة من العدد في الضحايا):
قال الشَّافِعِي ﵀: أقول بحديث مالك، عن ابن الزبير رضي اللَّه
عنهما، عن جابر ﵁، أنهم نحروا مع رسول الله ﷺ عام الحديبية البدنة عن سبعة، والبقرة عن سبعة، وكانوا محصرين قال اللَّه ﵎: (فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) الآية، فلما قال سبحانه: (فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) الآية.
شاة، فاجزأت البدنة عن سبعة محصورين ومتمتعين، وعن سبعة وجبت
عليهم من قِرَان أو جزاء صيد، أو غير ذلك.
الأم (أيضًا): الخلاف في حجِّ المرأة والعبد:
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: في العبد يهلُّ بالحج من غير إذن سيده.
فأحبّ إليَّ أن يدعه سيده، وله منعه، وإذا منعه فالعبد كالمحصر لا يجوز فيه إلا قولان - واللَّه أعلم -:
أحدهما: أن ليس عليه إلا دم، ولا يجزيه غيره، فيحل إذا كان عبدًا غير
واجدٍ للدم، ومتى عتق ووجد ذبح، ومن قال هذا في العبد قاله في الحرِّ يحصر بالعدو، وهو لا يجد شيئًا، يحلق ويحل ومتى أيسر أدى الدم.
الثاني: أن تُقَوَّم الشاة دراهم، والدراهم طعامًا، فإن وُجد الطعام تصدق
به، وإلا صام عن كل مدٍّ يومًا، والعبد بكل حال ليس بواجد فيصوم.
قال الشَّافِعِي ﵀: ومن ذهب هذا المذهب قاسه على ما يلزمه من
هدي المتعة، فإن الله ﷿ يقول: (فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ) .
١ / ٣١٠
فلو لم يجد هديًا، ولم يصم، لم يمنعه
ذلك من أن في من عمرته وحجه، ويكون عليه بعده الهَدي أو الطعام.
الأم (أيضًا): باب (الإحصار بالمرض):
قال الشَّافِعِي ﵀: قال اللَّه ﵎: (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) الآية.
ثم ذكر ما ورد في فقرة باب الإحصار للعدو، وبعدها قال: فرأيت أن
الآية بأمر اللَّه تعالى بإتمام الحج والعمرة لله عامة، على كل حاج ومعتمر إلا من استثنى اللَّه، ثم سنّ فيه رسول الله ﷺ من الحصر بالعدو، وكان المريض عندي ممن عليه عموم الآية، وقول ابن عباس، وابن عمر، وعائشة ﵃.
يوافق معنى ما قلت - وإن لم يلفظوا به - إلا كما حُدِّث عنهم.
الأم (أيضًا): الضحايا الثاني:
قال الشَّافِعِي ﵀: وقد قال الله تعالى في المتمتع: (فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) الآية، وقال ابن عباس ﵄: ما استيسر من الهدي:
شاة، وأمر رسول الله ﷺ مه أصحابه الذين تمتعوا بالعمرة إلى الحج أن يذبحوا
شاة، شاة وكان ذلك أقل ما يجزيهم، لأنه إذا أجزأه أدنى الدم، فأعلاه
خير منه.
١ / ٣١١
الأم (أيضًا): باب (في الحج):
قال الشَّافِعِي ﵀: أخبرنا مالك، عن نافع، عن ابن عمر، لأنَّه كان
يقول: (مَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ): بعير أو بقرة.
قال الشَّافِعِي ﵀: ونحن وأنت نقول: (مَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) شاة.
ونرويه عن ابن عباس ﵄، وإذا جاز لنا أن نترك على ابن عمر
لابن عباس كان الترك عليه للنبي ﷺ واجبًا.
الأم (أيضًا): باب (ميقات العمرة مع الحج):
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: فإن قال قائل: وكيف قلت هذا في المكيّ.
وأنت لا تجعل عليه دم المتعة؟
قيل: لأن الله ﷿ قال: (ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ) الآية.
الأم (أيضا): باب (الإحصار للعدو):
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: فإن قال قائل: فإن اللَّه ﷿ يقول: (حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ) الآية، قلت: اللَّه أعلم بمحله، هذا يشبه أن يكون إذا أحصر، نحره حيث أحصر كما وصفت، ومحله في غير الإحصار الحرم، وهو كلام عربي واسع.
١ / ٣١٢
الأم (أيضًا): الخلاف في النذر في غير طاعة الله ﷿:
قال الشَّافِعِي ﵀: وقال اللَّه ﵎: (فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ) الآية، فبيّن رسول الله
ﷺ، عن اللَّه ﷿ بأن الصوم ثلاث، والإطعام ستة مساكين فَرَقًا من طعام.
والنسك شاة، فكانت الكفارات تعبدًا، وخالف الله ﷿ بينها كما شاء، لا معقب لحكمه.
مختصر المزنى: باب (بيان التمتع بالعمرة. ..):
قال الشَّافِعِي ﵀: قال اللَّه ﷿: (فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ) الآية.
فإذا أهَلُّ بالحج في شوال، أو ذي القعدة، أو ذي الحجة، صار متمتعًا، فإن له أن يصوم حين يدخل في الحج، وهو قول عمرو بن دينار. قال: وعليه ألا يخرج من الحج حتى يصوم - إذا لم يجد هديًا - الأيام الثلاثة. . . ويصوم السبعة إذا رجع إلى أهله.
الرسالة: باب (البيان الأول):
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: قال اللَّه ﵎ في التمتع:
(فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ) .
١ / ٣١٣
فكان بيِّنًا عند من خوطب بهذه الآية، أن صوم الثلاثة في الحج، والسبع
في المرجع - فيصبح المجموع - عشرة أيام كاملة.
قال اللَّه تعالى: (تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ) فاحتملت أن تكون زيادة في التبيين.
واحتملت أن يكون أعلمهم أن ثلاثة إذا جمعت إلى سبع، كانت عشرة كاملة.
وقال تعالى: (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ) الآية، ثم بين الله على لسان
رسوله ﷺ كيف عمل الحج والعمرة. . .؟.
وقال ﷾: (فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) الآية، فدل
الكتاب والسنة وما لم يختلف المسلمون فيه أن هذا كله. في مال الرجل، بحق وجب عليه للهِ، أو أوجبه الله للآدمين، بوجوه لزمه، وأنه لا يكلف أحد غرمه عنه.
أحكام القرآن: ما يؤثر عنه في الحج:
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: في قوله تعالى: (ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ) الآية.
١ / ٣١٤
فحاضره: من قرب منه، وهو: كل من كان أهله من دون أقرب المواقيت.
دون ليلتين.
أخبرنا أبو سعيد، أخبرنا أبو العباس، أخبرنا الربيع قال:
قال الشَّافِعِي ﵀: فيما بلغه عن وكيع، عن شعبة، عن عمرو بن مُرَّة.
عن عبد بن سلمة، عن علي ﵁ في هذه الآية: (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ) الآية، قال: «أن يحرم الرجل من دويرة أهله» الحديث.
وأخبرنا أبو سعيد، أخبرنا أبو العباس، أخبرنا الربيع:
أخبرنا الشَّافِعِي قال: ولا يجب دم المتعة على المتمتع، حتى يُهِل بالحج؛ لأن
الله جل ثناؤه يقول: (فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) الآية.
وكان بينًا - في كتاب اللَّه ﷿ أن التمتع هو: التمتع بالإهلال من العمرة إلى أن يدخل في الإحرام بالحج، وأله إذا دخل في الإحرام بالحج، فقد أكمل التمتع.
ومضى التمتع، وإذا مضى بكماله فقد وجب عليه دمه، وهو قول عمرو بن دينار.
قال الشَّافِعِي ﵀: ونحن نقول: (فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ): شاة.
وُيروى عن ابن عباس فمن لم يجد: فصيام ثلاثة أيام، فيما بين أن يهل بالحج إلى يوم عرفة، فإذا لم يصم: صام بعد منى (بمكة أو في سفره)، وسبعة أيام بعد ذلك.
وقال في موضع آخر: وسبعة في المرجع، وقال في موضع آخر: إذا رجع إلى
أهله.
١ / ٣١٥
قال الله ﷿: (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ (١٩٧)
الأم: باب (الوقت الذي يجوز فيه الحج والعمرة):
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: قال الله ﷿: (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ)، إلى قوله: (فِي الْحَجِّ) الآية.
أخبرنا مسلم بن خالد، وسعيد بن سالم، عن ابن جريج، عن أبي الزبير.
لأنه سمع جابر بن عبد اللَّه ﵁ يسأل عن الرجل يهل بالحجِّ قبل أشهر الحج؟
فقال: لا. لحديث.
أخبرنا الربيع قال:
أخبرنا الشَّافِعِي قال: أخبرنا مسلم، عن ابن جريج قال: قلت لنافع:
أسمعت عبد اللَّه بن عمر يسمى شهور الحج؟
فقال: نعم، كان يسمى شوالًا، وذا القعدة، وذا الحجة، قلت لنافع: فإن أهَل إنسان بالحجّ قبلهن؟
قال: لم أسمع منه في ذلك شيئًا. الحديث.
١ / ٣١٦
أخبرنا الربيع قال:
أخبرنا الشَّافِعِي قال: أخبرنا مسلم بن خالد، عن ابن جريج قال: قال
طاووس، هي: شوال، وذو القعدة، وذو الحجة.
أخبرنا مسلم بن خالد، عن ابن جريج أنَّه قال لعطاء: أرأيت لو أن رجلًا جاء مهلًا بالحجّ في شهر رمضان، كيف كنت قائلًا له: قال أقول له: اجعلها عمرة.
أخبرنا مسلم بن خالد، عن ابن جريج قال: أخبرنا عمر بن عطاء، عن
عكرمة أنَّه قال: لا ينبغي لأحد أن يحرم بالحج إلا في أشهر الحج، من أجل قول اللَّه ﷿: (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ) الآية، ولا ينبغي لأحد أن يلي بالحج ثم يقيم.
الأم (أيضًا): باب (فوت الحج بلا حَصر عدو ولا مرض ولا غلبة على عقل):
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: وفي حديث يحيى عن سليمان دلالة عن عمر
﵁ أنَّه يعمل عمل معتمر لا أنَّ إحرامه عمرة، وإن كان الذي يفوته الحج قارنًا حج قارنًا، وقرن وأهدى هديًا لفوت الحج، وهديًا للقِرَان، ولو أراد المحرم بالحجّ
إذا فاته الحج أن يقيم إلى قابل محرمًا بالحج، لم يكن ذلك له، وإذا لم يكن ذلك له فهذا دلالة على ما قلنا من أنَّه: لا يكون لأحد أن يكون مهلا بالحج في غير أشهر الحجّ، لأن أشهر افي معلومات لقول اللَّه ﷿: (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ)
الآية. فأشبه - واللَّه أعلم - أن يكون حظر الحج في غيرها.
الأم (أيضًا): فيمن تجب عليه الصلاة:
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: ومن غلب على عقله بعارض مرض (أي
مرض كان) ارتفع عنه الفرض في قول الله ﷿: (وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ) الآية، وإن كان معقولًا ألَّا يخاطب بالأمر والنهي إلا من عقلهما.
١ / ٣١٧
مختصر المزني: باب (بيان وقت الحج والعمرة):
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: قال اللَّه ﷿: (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ) الآية، وأشهر الحجّ: شوال، وذو القعدة، وتسع من ذي الحجة (وهو يوم عرفة)، فمن لم يدركه إلى الفجر من يوم النحر، فقد فاته الحج.
وقال عكرمة ﵀: فلا يجوز لأحد أن يحبئ قبل أشهر الحجّ، فإن فعل
فإنهّا تكون عمرة، كرجل دخل في صلاة قبل وقتها فتكون نافلة، من أجل قول اللَّه ﷿: (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ) الآية.
مختصر المزني (أيضًا): كتاب العدد (عدةُ المدخول بها ...):
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: والأقْرَاءُ والأطهار - واللَّه أعلم - ولا
يمكن أن يطلقها طاهرًا إلا وقد مضى بعض الطهر، وقال اللَّه تعالى: (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ) الآية، وكان شوال، وذو القعدة كاملين، وبعض ذي الحجة، كذلك الأَقْرَاءُ: طُهرَان كاملان وبعض طهر.
١ / ٣١٨
أحكام القرآن: ما يؤثر عنه في الحج:
أخبرنا أبو سعيد بن أبي عمرو، أخبرنا أبو العباس، أخبرنا الربيع:
أخبرنا الشَّافِعِي ﵀ قال: في قوله تعالى: (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ)
الآية، قال: وأشهر الحج: شوال، وذو القعدة، وذو الحجة. ولا يفرض الحجّ إلا في شوال كله، وذي القَعدة كله، وتسع من ذي الحجة، ولا يفرض إذا خلت عشر ذي الحجة، فهو - أي: شهر ذي الحجة - من شهور الحجّ، والحجّ بعضه دون بعض.
قال الله ﷿: (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ (١٩٨)
الأم: باب (صلاة المسافر):
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: وكما كان قول الله تعالى:
(لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ) الآية.
يريد - واللَّه أعلم - أن تتجروا في الحج، لا أن حتمًا عليهم أن يتجروا.
١ / ٣١٩
أحكام القرآن: فصل (فيما يؤثر عن - الشافعى - من التفسير والمعاني في الطهارات والصلوات والعبادات):
نفس القول الوارد في الأم سابقًا مع تغير آخر لفظة إلى: (أن يتجروا) .
قال الله ﷿: (ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٩٩)
الرسالة: باب (بيان ما نزل من الكتاب عام الظاهر يراد به كله الخاص):
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: قال الله ﵎:
(ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ الآية.
فالعلم يحيط - إن شاء الله - أن الناس كلهم لم يحضروا
عرفة في زمان رسول الله ﷺ، ورسول اللَّه ﷺ المخاطب بهذا ومن معه، ولكن
صحيحًا من كلام العرب أن يقال: (أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ)
يعني: بعضَ الناس.
أحكام القرآن: ما يؤثر عنه في الحج:
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: أخبرنا أبو عبد اللَّه الحافظ، قال: وقال الحسين
ابن محمد الماسرجسي، فيما أخبرني عنه أبو محمد بن سفيان، أخبرنا يونس بن
عبد الأعلى قال:
١ / ٣٢٠
قال الشَّافِعِي يرحمه الله تعالى: في قوله تعالى: (ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ) الآية، قال: كانت قريش وقبائل لا يقفون بعرفات، وكانوا يقولون: نحن الحُمسُ، لم نسَبَّ قط، ولا دُخِلَ علينا في الجاهلية، وليس نفارق الحرم، وكان سائر الناس يقفون بعرفات. فأمرهم اللَّه ﷿: أن يقفوا بعرفة مع الناس.
قال الله ﷿: (وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (٢٠١)
الأم: القول في الطواف:
أخبرنا سعيد، عن ابن جريج، عن يحيى بن عبيد (مولى السائب)، عن أبيه
عن ابن السائب: لأنَّه سمع النبي ﷺ يقول: "فيما بين ركن بني جمح والركن الأسود: (رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) الحديث.
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: وهذا من أحَبِّ ما يقال في الطّواف إليَّ.
وأحِبُّ أن يُقال في كلّه.
١ / ٣٢١
الأم: التلبية:
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: وأحِبُّ أن يكون أكثر كلامه في الطّواف:
(رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) الآية.
قال الله ﷿: (أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (٢٠٢)
الأم باب (الاستسلاف للحج):
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى:
أخبرنا مسلم، وسعيد، عن ابن جريج، عن
عطاء، عن ابن عباس ﵄ أن رجلًا سأله فقال: أو آجر نفسي من هؤلاء القوم، فأنسِك معهم المناسك ألِيَ أجرٌ؟
فقال ابن عباس ﵄: نعم (أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (٢٠٢) الآية.
قال الله ﷿: (وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٢٠٣)
الأم: باب (بيع الآجال):
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: وقد رُوِيَ إجازة البيع إلى العطاء عن غير
واحد، وروي عن غيرهم خلافه، وإنما اخترنا ألا يباع إليه، لأنّ العطاء قد
١ / ٣٢٢
يتأخر ويتقدم، وإنما الآجال معلومة، بايام موقوتة، أو أهِلَّة، وأصلها في القرآن قال تعالى: (وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ) الآية، فقد وقت بالأهلة كما وقت بالعدة، وليس العطاء من مواقيته ﵎، وقد يتأخر الزمان ويتقدم، وليس تتأخر الأهلة أبدًا أكثر من يوم.
قال الله ﷿: (وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ (٢٠٥)
الأم: المشي إلى الجمعة:
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: وقال عز ذكره: (وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا) الآية.
السعي: هو العمل، لا السعي على الأقدام.
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: قال زهير:
سعى بعهدهم قوم لكي يدركوهمُ ... فلم يفعلوا ولم يليموا ولم يألوا
وزاد بعض أصحابنا في هذا البيت:
وما يك من خير أتوه فإنما ... توارثه آباء آبائهمُ قَبلُ
وهل يحمل الخطي إلا وشيجه ... وتُغرس إلَّا في منابتَها النخلُ
١ / ٣٢٣
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: أخبرنا إبراهيم بن محمد، قال: حدثني عبد الله
ابن عبد الرحمن بن جابر بن عتيك، عن جده جابر بن عتيك صاحب النبي ﷺ.
قال: «إذا خرجت إلى الجمعة فامش على هينتك» الحديث.
قال الله ﷿: (كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ)
الأم: كتاب الجزية):
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: خلق اللَّه الخلق لعبادته، فأبان جل وعلا أن
خيرته من خلقه: أنبياؤه، فقال ﵎: (كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ) الآية، فجعل - سبحانه - النبيين صلى اللَّه عليهم وسلم من أصفيائه - دون عباده - بالأمانة على وحيه، والقيام بحجته فيهم.
الرساله: المقدمة:
قال الشَّافِعِي ﵀ ئعاك: فإئه ﵎ يقول: (كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ) الآية.
فكان خيرته المصطفى لوحيه، المنتخب لرسالته، المفضل على جميع خلقه.
بفتح رحمته، وختم نبوته، وأعم ما أرسل به مُرسَل قبله، المرفوع ذكرُهُ مع ذكره
١ / ٣٢٤
في الأولى، والشافعُ المشفع في الأخرى، أفضل خلقه نفسًا، وأجمعهم لكل خُلُق رضيه في دين ودنيا، وخيرهم نسبًا ودارًا: محمدًا عبده ورسوله ﷺ.
قال الله ﷿: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (٢١٦)
الأم: أصل فرض الجهاد:
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: ولما مضت لرسول الله ﷺ مدة من هجرته، أنعم اللَّه تعالى فيها على جماعة باتباعه، حدثت لهم بها مع عون اللَّه قوة بالعدد، لم تكن قبلها، ففرض اللَّه تعالى عليهم الجهاد، بعد إذ كان إباحة لا فرضًا، فقال
﵎: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ) الآية.
الأم (أيضًا): من لا يجب عليه الجهاد:
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: فلما فرض اللَّه تعالى الجهاد، دلَّ في كتابه.
وعلى لسان نبيه ﷺ، أنه لم يفرض الخروج إلى الجهاد على مملوك، أو أنثى بالغ، ولا حر لم يبلغ.
لقوله اللَّه تعالى: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ) الآية.
وكل هذا يدل على أنه أراد به الذكور دون الإناث. . .
١ / ٣٢٥
ودلت السنة، ثم ما لم أعلم فيه مخالفًا من أهل العلم على ما وصفت.
وذكَرَ حديث ابن عمر في ذلك.
الأم (أيضًا): كيف تفضل فرض الجهاد»:
أخبرنا الربيع قال:
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: قال اللَّه ﵎: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ) الآية، مع ما أوجب - اللَّه - من القتال في غير آية من كتابه، وقد
وصفنا أن ذلك على الأحرار المسلمين البالغين دون غير ذوي العذر، بدلائل
الكتاب والسنة، فإذا كان فرض الجهاد - على من فُرِض عليه - محتملًا لأن يكون كفرض الصلاة وغيرها عامًّا، ومحتملًا لأن يكون على غير العموم، فدل كتاب الله ﷿، وسنة نبيه ﷺ على أن فرض الجهاد، إنما هو على أن يقوم به من فيه كفاية للقيام به حتى يجتمع أمران:
أحدهما: أن يكون بإزاء العدو المَخُوف على المسلمين من يمنعه.
الآخر: أن يجاهد من المسلمين من في جهاده كفاية حتى يُسلم أهل
الأوثان، أو يعطي أهل الكتاب الجزية.
١ / ٣٢٦
قال الله ﷿: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ)
الأم: كتاب سير الأوزاعي:
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: - روى - الكلبي من حديث رفعه إلى
رسول اللَّه ﷺ أنه بعث عبد اللَّه بن جحش - في سرية - إلى بطن نخلة، فأصاب هنالك عمرو بن الحضرمي، وأصاب أسيرًا أو اثنين، وأصاب ما كان معهم من أدم وزيت وتجارة (من تجارة أهل الطائف)، فقدم بذلك على رسول الله ﷺ.
ولم يقسم ذلك عبد الله بن جحش ﵁ حتى قدم المدينة، وأنزل اللَّه ﷿ في ذلك:
(يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ)
حتى فرغ من الآية - فقبض رسول الله ﷺ المغنم وخَمَّسهُ.
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: وأما ما احتُج به من وقعة عبد اللَّه بن
جحش، وابن الحضرمي، فذلك قبل بدر، وقبل نزول الآية، وكانت وقعتهم في آخر يوم من الشهر الحرام، فوقفوا فيما صنعوا، حتى نزلت: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ) الآية.
وليس مما خالفه فيه الأوزاعي بسبيل.
١ / ٣٢٧
الأم (أيضًا): المرتد عن الإسلام:
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: ومن انتقل عن الشرك إلى الإيمان، ثم انتقل
عن الإيمان إلى الشرك (من بالغي الرجال والنساء) استتيب، فإن تاب قُبِل منه، وإن لم يتب قُتِل قال اللَّه ﷿: (وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا) إلى قوله: (هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) الآية.
الأم (أيضًا): باب المرتد الكبير:
قال الشَّافِعِي ﵀: وقال الله تبارك اسمه: (وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ) الآية.
أخبرنا الثقة، عن حماد بن زيد، عن يحيى بن سعيد، عن أبي أمامة بن
سهل، عن عثمان بن عفان، أن رسول الله ﷺ له قال: «لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: كفر بعد إيمان، وزنًا بعد إحصان، أو قتل نفس بغير نفس» الحديث.
قال الشَّافِعِي ﵀: فلم يجز في قول النبي ﷺ: «لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث»
إحداهن الكفر بعد الإيمان، إلا أن تكون كلمة الكفر تحل
الدم، كما يُحله الزنا بعد الإحصان، أو تكون كلمة الكفر تحل الدم إلا أن يتوب صاحبه، فدلَّ كتاب اللَّه ﷿، ثم سنة رسوله ﷺ أن معنى قول الرسول ﷺ:
كفر بعد إيمان" إذا لم يتب من الكفر، وقد وضعتُ هذه الدلائل مواضعها.
١ / ٣٢٨
قال الله ﷿: (وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ)
الأم: نكاح نساء أهل الكتاب:
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: أحل اللَّه ﵎ حرائر المؤمنات.
واستثنى في إماء المؤمنات أن يحلُلْن، بأن يجمع ناكحهن ألَّا يجد طولًا لحرة، وأن يخاف العنت في ترك نكاحهن، فزعمنا أنَّه لا يحلُّ أمة مسلمة حتى يجمع ناكحها الشرطين اللذين أباح اللَّه نكاحها بهما، وذلك أن أصل ما نذهب إليه إذا كان الشيء مباحًا بشرط: أن يباح به، فلا يباح إذا لم يكن الشرط، كما قلنا في الميتة نباح للمضطر ولا تباح لغيره. ..
وقال اللَّه ﵎: (وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ) الآية.
فأطلق التحريم تحريمًا بأمر وقع عليه اسم الشرك.
الأم (أيضًا): نكاح نساء أهل الكتاب وتحريم إمائهم:
قال الشَّافِعِي ﵀: قال اللَّه ﷿: (وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ)
إلى قوله: (وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ) الآية، وقد قيل في هذه الآية: إنهها نزلت في جماعة مشركي العرب الذين هم أهل الأوثان، فحرم نكاح نسائهم، كما حرم أن ننكح رجالهم المؤمنات، قال: فإن كان هذا هكذا، فهذه الآية ثابتة ليس فيها منسوخ.
١ / ٣٢٩
قال الشَّافِعِي ﵀: وقد قبل هذه الآية في جميع المشركين، ثم نزلت
الرخصة بعدها في إحلال نكاح حرائر أهل الكتاب خاصة، كما جاءت في
إحلال ذبائح أهل الكتاب.
الأم (أيضًا): ما جاء في نكاح المحدودين:
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: ومن قال هذا حكم بينهما، فالحجة عليه بما
وصفنا من كتاب اللَّه ﷿ الذي اجتمع على ثبوت معناه أكثر أهل العلم، فاجتماعهم أولى أن يكون ناسخًا وذلك قول اللَّه ﷿: (فَلَا تَرْجِعُوهُن إِلَى الْكفارِ)، الآية، وقوله ﷿:
(وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُواأ)
الآية، فقد قيل: إن هاتين الأبتين في مشركات أهل الأوثان.
وقد قيل: في المشركات عامة ثم رُخص منهن في حرائر أهل الكتاب.
الأم (أيضًا): ما جاء في نكاح إماء المسلمين وحرائر أهل الكتاب وإمائهم:
أخبرنا الربيع قال:
قال الشَّافِعِي ﵀: قال اللَّه ﵎: (وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ) الآية.
فنهى اللَّه ﷿ في هذه الآية - وآية الممتحنة - عن نكاح نساء المشركين، كما نهى عن إنكاح رجالهم.
١ / ٣٣٠
وقال: وهاتان الآيتان تحتملان معنيين:
الأول: أن يكون أرِيد بهما مشركو أهل الأوثان خاصة، فيكون الحكم
فيهما بحاله لم ينسخ، ولا شيء منه؛ لأنّ الحكم في أهل الأوثان: ألَّا ينكح مُسْلم منهم امرأة، كما لا ينكح رجل منهم مسلمة.
وقد قيل هذا فيها، وفيما هو مثله عندنا - واللَّه أعلم به -.
الثاني: وتحتملان أن تكونا - الآيتان - في جميع المشركين، وئكون الرخصة
نزلت بعدها في حرائر أهل الكتاب خاصة، كما جاءت في ذبائح أهل الكتاب من بين المشركين خاصة.
الأم (أيضًا): المدعي والمدَّعَى عليه:
قال الشَّافِعِي ﵀: قال اللَّه ﷿ (وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ) الآية، فحرَّم: المشركات جملة. ..
قال الشَّافِعِي ﵀: فأحلُّ اللَّه صنفًا واحدًا من المشركات بشرطين:
أحدهما: أن تكون المنكوحة من أهل الكتاب.
والثاني: أن تكون حُرَّة.
لأنَّه لم يختلف المسلمون في أنَّ قول اللَّه ﷿ فَي: (وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ) . الآية.
هن: الحرائر.
أحكام القرآن: ما يؤثر في النكاح والصداق وغير ذلك:
قال الشَّافِعِي ﵀: وإن كانت الآية: (وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ) الآية، نزلت في تحريم نساء المسلمين على المشركين - من مشركي أهل
١ / ٣٣١
الأوثان -، فالمسلمات محرَّمات على المشركين منهم بالقرآن بكل حال، وعلى مشركي أهل الكتاب، لقطع الولاية بين المسلمين والمشركين، وما لم يختلف الناس فيه علمتُه.
قال الله ﷿: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (٢٢٢)
الأم: كتاب الحيض:
أخبرنا الربيع قال:
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: قال الله ﵎: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ) الآية.
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: وأبان ﷿ أنها حائض، غير طاهر، وأمر ألا تقرب حائض حتى تطهر، ولا إذا طهرت حتى تتطهر بالماء، وتكون ممن تحل لها الصلاة، ولا يحل لامرئ كانت امرأته حائضًا أن يجامعها حتى تطهر، فإن اللَّه تعالى جعل التيمم طهارة إذا لم يوجد الماء، أو كان التيمم مريضًا، ويحل لها الصلاة بغسل إن وجدت ماء، أو تيمم إذا لم تجده.
١ / ٣٣٢
الأم (أيضًا): باب (ترك الحائض الصلاة):
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: قال الله ﷿: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ) الآية، فكان بينًا في قول اللَّه ﷿: (حَتَّى يَطْهُرْنَ) بأنهن حِيَّض في غير حال الطهارة، وقضى على الجنب ألا يقرب الصلاة حتى يغتسل، وكان بينًا أن لا مدة لطهارة الجنب إلا الغسل، وأن لا مدة لطهارة الحائض إلا ذهاب الحيض، ثم الاغتسال لقول اللَّه ﷿: (حَتَّى يَطْهُرْنَ)
وذلك بانقضاء الحيض، (فَإِذَا تَطَهرْنَ) يعني بالغسل، فإن السنة تدل على أن
طهارة الحائض بالغسل، ودلت سنة رسول الله ﷺ على بيان ما دلَّ عليه كتاب اللَّه تعالى من ألا تصلي الحائض - حتى تطهر -.
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: وأمر رسول الله ﷺ عائشة ألا تطوف بالبيت حتى تطهر، فدل على ألا تصلي حائضًا، لأنها غير طاهر ما كان الحَيض قائمًا.
وكذلك قال اللَّه ﷿: (حَتى يَطهُرْنَ) .
الأم (أيضًا): باب (المستحاضة):
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: ولم يُذكَر في حديث عائشة الغسل عند تولي
الحيضة، وذكِرَ غَسْلُ الدم، فأخذنا بإثباث الغسل من قول اللَّه ﷿ ق: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ) الآية، فقيل: - واللَّه تعالى أعلم - يطهرن: من الحيض، فإذا تطهرن: بالماء.
١ / ٣٣٣
ثم من سنة رسول الله ﷺ ما أبان رسول الله ﷺ أن الطهارة بالماء الغسل.
وفي حديث حمنة بنت جحش ﵂ فأمرها في الحيض أن تغتسل إذا رأت أنها طَهُرَت، ثم أمرها - في حديث حمنة - بالصلاة. فدل ذلك على أن لزوجها أن يصيبها، لأن الله تبارك ؤتعالى أمر باعتزالها حائضًا، وأذن في إتيانها»طاهرًا.
أخبرنا الربيع قال:
أخبرنا الشَّافِعِي رحمه الله تعالى قال: أخبرنا سفيان قال: أخبرني الزهري.
عن عمرة، عن عائشة، أن أم حبيبة (بنت جحش ﵂ استحيضت فكانت لا تصلي سبع سنين فسألت رسول الله ﷺ فقال: «إنَّما هو عِرْق وليست بالحيضة»، فأمرها رسول الله أن تغتسل وتصلي، فكانت تغتسل لكل صلاة
وتجلس في المِرْكن فيعلوه الدم.
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: وقد روى غير الزهري هذا الحديث أن النبي ﷺ أمرها أن تغتسل لكل صلاة ولكن رواه عن عمرة بهذا الإسناد والسياق.
والزهري أحفظ منه، وقد روى فيه شيئًا، يدل على أن الحديث غلط، قال: تترك الصلاة قدر أقرائها، وعائشة تقول الأقراء: الأطهار، قال: أفرأيت لو كانت تثبت الروايتان فإلى أيهما تذهب؟
قلت: إلى حديث حمنة بنت جحش ﵂
وغيره مما أعرف فيه بالغسل عند انقطاع الدم، ولو لم يؤمرن به عند كل صلاة.
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: فإن قال فهل من دليل غير الخبر؟
قيل:
نعم، قال ﷿: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى) إلى قوله: (فَإِذَا تَطَهَّرْنَ) فدلت سنة رسول الله ﷺ أن الطهر: هو الغسل.
١ / ٣٣٤
الأم (أيضًا): باب - (الخلاف في المستحاضة):
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: فقال لي قائل: تصلي المستحاضة، ولا يأتيها
ْزوجها، وزعم لي بعض من يذهب مذهبه، أن حجته فيه أن اللَّه ﵎
قال: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى) الآية، وأنه قال في الأذى أنه
أمر باجتنابها فيه، فأثم فيها، فلا يحل له إصابتها.
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: فقيل له: حكم اللَّه ﷿ في أذى المحيض أن تعتزل المرأة، ودلت سنة رسول الله ﷺ على أن حكم اللَّه ﷿ أن الحائض لا تصلي، فدل حكم اللَّه وحكم رسوله ﷺ أن الوقت الذي أمر الزوج باجتناب
المرأة فيه للمحيض، الوقت الذي أمرت المرأة فيه إذا انقضى المحيض بالصلاة.
قال: نعم. فقيل له: فالحائض لا تطهر وإن اغتسلت، ولا يحل لها أن تصلى، ولا تمس مصحفًا، قال: نعم. فقيل له: حكم رسول الله ﷺ يدل على أن حكم أيام الاستحاضة حكم الطهر، وقد أباح اللَّه للزوج الإصابة إذا تطهرت الحائض.
وقوله ﷺ قال في الاستحاضة: إنما ذلك عِرق وليس بالحيضة. . ..
الأم (أيضًا): باب (إتيان النساء حِيَّضًا):
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: قال اللَّه ﷿: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ) الآية.
قال: فزعم بعض أهل العلم بالقرآن، أن قول اللَّه ﷿: (حَتَّى يَطْهُرْنَهُ) حتى يَرَيْن الطهر (فَإِذَا تَطَهَّرْنَ) بالماء (فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ) أن تجتنبوهن.
١ / ٣٣٥
قال وما أشبه ما قال - والله تعالى أعلم - بما قال، ويشبه أن يكون تحريم
الله ﷿ إتيان النساء في المحيض؛ لأذى الحيض، وإباحته إتيانهن إذا طهرن، وتطهُّرن بالماء من الحيض، على أن الإتيان المباح في الفرج نفسه كالدلالة على أن إتيان النساء في أدبارهن محرم.
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: وبين في الآية: إنما نهى عن إتيان النساء في
المحيض، ومعروف أن الإتيان، الإتيان في الفرج؛ لأن التلذذ بغير الفرج في شيء من الجسد ليس إتيانًا.
الأم (أيضًا): باب (في إتيان الحائض):
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: قال اللَّه ﷿: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ) الآية، يحتمل معنين:
أحدهما: فاعتزلوهن في غير الجماع.
ثانيهما: لا تقربوهن في الجماع.
فيكون اعتزالهن من وجهين؛ والجماع أظهر معانيه لأمر اللَّه بالاعتزال ثم
قال: (وَلَا تَقرَبُوهُن) الآية، فأشبه أن يكون أمرًا بينًا وبهذا نقول لأنه قد
يحتمل أن يكون أمر باعتزالهن، ويعني أن اعتزالهن: الاعتزال في الجماع.
الأم (أيضًا): باب (طهر الحائض):
أخبرنا الربيع قال:
١ / ٣٣٦
أخبرنا الشَّافِعِي ﵀: وإذا انقطع عن الحائض الدم، لم يقربها زوجها
حتى تطهر للصلاة، فإن كانت واجدة للماء فحتى تغتسل، وإن كانت مسافرة
غير واجدة للماء فحتى تتيمم لقول الله ﷿: (وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ)
الآية، أي حتى ينقطع الدم ويرين الطهر، (فَإِذَا تَطَهَّرْنَ) يعني - واللَّه تعالى
أعلم -: الطهارة التي تحل بها الصلاة لها، ولو أتى رجل امرأته حائضًا، أو بعد تولية الدم، ولم تغتسل، فليستغفر اللَّه ولا يعد حتى تطهر، وتحل لها الصلاة، وقد روي فيه شيء لو كان ثابتًا أخذنا به، ولكنه لا يثبت مثله.
الأم (أيضًا): باب (ما ينال من الحائض):
أخبرنا الربيع قال:
أخبرنا الشَّافِعِي ﵀ قال: أخيرنا مالك، عن نافع، أن ابن عمر رضي
الله عنهما أرسل إلى عائشة ﵂ يسألها: «هل يباشر الرجل امرأته وهي حائض؛ فقالت: لتشدد إزارها على أسفلها ثم يياشرها إن شاء» الحديث.
الأم (أيضًا): باب (نكاح حرائر أهل الكتاب):
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: - وبينَ في نكاح الكتابية - وله جبرها على
الغسل من الحيضة، ولا يكون له إصابتها إذا طهرت من الحيض حتى تغتسل؛ لأن الله ﷿ يقول (حَتَّى يَطْهُرْنَ) فقال بعض أهل العلم بالقرآن: حتى ترى
الطهر قال: (فَإِذَا تَطَهَّرْنَ) يعني: بالماء إلا أن تكون في سفر لا تجد الماء فتتيمم، فإذا صارت ممن تحل لها الصلاة بالطهر حلت له.
١ / ٣٣٧
الأم (أيضًا): النصرانية تحت المسلم:
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: وإذا كانت النصرانية عند المسلم فطهرت من
الحيضة، جُبرت على الغسل منها، فإن امتنعت أُدِّبت حتى تفعل؛ لأنها تمنعه
الجماع في الوقت الذي يحل له، وقد قال اللَّه ﷿: (وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ)
الآية، فزعم بعض أهل التفسير أنه حتى يطهرن من الحيض قال اللَّه تعالى ١:
(فَإِذَا تَطَهَّرْنَ) يعني بالماء (فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ) الآية.
الرسالة: باب (فرض الصلاة الذى دل الكتاب ثم السنة على من تزول عنه
بالعذر:
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: قال اللَّه ﵎:
(وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (٢٢٢) .
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: افثرض اللَّه الطهارة على المصلي، في الوضوء
والغسل من الجنابة، فلم تكن لغير طاهر صلاة.
ولما ذكر اللَّه المحيض فأمر باعتزال النساء فيه حتى يطهرن، فإذا تطهرن أتِينَ.
استدللنا على أن تطهرهن بالماء بعد زوال المحيض، لأن الماء موجود في الحالات كلها في الحضر، فلا يكون للحائض طهارة بالماء، لأن اللَّه إنما ذكر التطهر بعد أن يَطْهُرن، ويطَهرُهُن: زوال المحيض في كتاب اللَّه ثم سنة رسوله.
١ / ٣٣٨
ْأخبرنا مالك، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة رضي اللَّه
عنها: وذكرت إحرامها مع النبي ﷺ، وأنها حاضت، فأمرها أن ئقضي ما يقضي الحاج «غير أن لا تطوفي بالبيت حتى تطهري» الحديث.
أحكام القرآن: فصل فيما يؤثر عن الشَّافِعِي من التفسير والمعاني في الطهارات والصلوات:
وفيما أنباني أبو عبد اللَّه (إجازة) عن الربيع قال:
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: قال اللَّه ﵎: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ) الآية.
فأبان: أنها حائض غير طاهر. وأمرنا: أن إلا نقرب حائضًا حتى تطهر، ولا
إذا طهرت حتى تتطهر بالماء، وتكون ممن تحل لها الصلاة.
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: قال بعض أهل العلم بالقرآن: (فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ) الآية، أن تعتزلوهن يعني: في مواضع الحيض.
وكانت الآية محتملة لما قال.
ومحتملة: أن اعتزالهن: اعتزال جميع أبدانهن، ودلت سنة رسول الله ﷺ: على اعتزال ما تحت الإزار منها، وإباحة ما فوقها - أي: ما فوق الإزار -.
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: وكان مبينًا في قول اللَّه ﷿:
(حَتَّى يَطْهُرْنَ)
أنهن حُيض في غير حال الطهارة وقضى اللَّه على الجنب: أن لا يقرب الصلاة
١ / ٣٣٩
حتى يغتسل، فكان مبينًا: أن لا مدة لطهارة الجنب إلا الغسل، ولا مدة لطهارة الحائض إلا ذهاب الحيض، ثم الغسل، لقول اللَّه ﷿: (حَتَّى يَطْهُرْنَ)، وذلك انقضاء الحيض، (فَإِذَا تَطَهَّرْنَ) يعني: بالغسل، لأن السنة دلت على أن طهارة
الحائض: الغسل، ودلت على بيان ما دلَّ عليه كتاب اللَّه: من ألَّا تصلي الحائض.
فذكر حديث عائشة ﵂ ثم قال: وأقرَّ النبي ﷺ عائشة ﵂: «أن لا تطوفي بالبيت حتى تطهري». الحديث، يدل على ألَّا تصلي حائضًا؛ لأنها غير طاهر ما كان الحيض قائمًا، ولذلك قال اللَّه ﷿: (حَتَّى يَطْهُرْنَ) .
قال الله ﷿: (نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (٢٢٣)
الأم: باب (إتيان النساء في أدبارهن):
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: قال اللَّه ﷿: (نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (٢٢٣» الآية، قال: وبيِّن أن موضع الحرث موضع الولد، وأن اللَّه تعالى أباح الإتيان فيه إلا في وقت المحيض.
و(أَنَّى شِئْتُمْ): من أين شئتم.
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: وإباحة الإتيان في موضع الحرث، يشبه أن
يكون تحريم إتيان في غيره، فالإتيان في الدبر حتى يبلغ منه مبلغ الإتيان في القُبُل محرَّم بدلالة الكتاب ثم السنة.
وذكر حديث جواب النبي ﷺ لمن سأله عن هذه الآية: «أمن دبرها في قبلها فنعم، أم من دبرها في دبرها فلا، إن الله لا يستحيي من الحق لا تأتوا النساء في أدبارهن» الحديث.
١ / ٣٤٠
الأم (أيضًا): باب (إتيان النساء في أدبارهن):
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: قال الله ﷿: (نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ) الآية، قال: احتملت الآية معنيين:
أحدهما: أن تؤتى المرأة من حيث شاء زوجها، لأن (أَنَّى شِئْتُمْ) يبين أين
شئتم لا محظور منها، كما لا محظور من الحرث.
ثانيهما: واحتملت أن الحرث إنما يراد به النبات، وموضع الحرث الذي
يطلب به الولد، الفرج دون ما سواه، لا سبيل لطلب الولد غيره. ..
ثم ختم الباب بقوله - أي الشَّافِعِي -: فلست أرَخِّصُ فيه بل أنهى عنه.
* * *
قال الله ﷿: (لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (٢٢٥)
مختصر المزنى: باب لغو اليمين من هذا، ومن اختلاف مالك والشافعى
رحمهما الله:
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: أخبرنا مالك، عن هشام بن عروة، عن أبيه.
عن عائشة ﵂ أنها قالت: «لغو اليمين قول الإنسان لا والله، وبلى والله» الحديث.
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: واللغو في لسان العرب: الكلام غير المعقود عليه.
وجماع اللغو: هو الخطأ واللغو، كما قالت عائشة ﵂ واللَّه أعلم -.
١ / ٣٤١
وذلك إذا كان على اللجاج والغضب والعجلة، وعقد اليمين أن يثبتها
على الشيء بعينه.
مختصر المزني (أيضًا): من كتاب الكفارات والنذور والأيمان:
أخبرنا سفيان، حدثنا عمرو، عن ابن جريج، عن عطاء قال: ذهبت أنا وعبيد بن عمير إلى عائشة ﵂، وهي معتكفة في ثَبير فسألناها عن قول الله ﷿:
(لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ) الآية، قالت: «هو لا والله، وبلى والله».
أخبرنا سفيان بن عيينة، عن أيوب السختياني، عن أبي قلابة، عن أبي
المهلب، عن عمران بن الحصين ﵁ أن النبي ﷺ قال: «لا نذر في معصية الله، ولا فيما لا يملك ابن آدم» الحديث.
* * *
قال الله ﷿: (لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٢٦) وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢٢٧)
الأم: الخلاف في طلاق المختلعة:
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: قال الله ﷿: (فخالفنا بعض الناس في
المختلعة، فقال: إذا طُلِّقت في العدة لحقها الطلاق، فسألته هل يروي في قوله
١ / ٣٤٢
خبرًا؛ فذكر حديثًا لا تقوم بمثله حجة عندنا ولا عنده.
فقلت: هذا عندنا وعندك غير ثابت.
قال: فقد قال به بعض التابعين.
فقلت له: وقول بعض التابعين لا يقوم به حجة لو لم يخالفهم غيرهم.
قال فما حجتك في أن الطلاق لا يلزمها؟
قلت: حجتي فيه من القرآن والأثر والإجماع، على ما يدل على أن الطلاق
لا يلزمها، قال: وأين الحجة من القرآن؟
قلت: قال اللَّه ﵎: (لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ) الآية.
وذكر منها أربع آيات أخرى -.
قال الشَّافِعِي ﵀: ألا إن أحكام الله ﵎ في هذه الآيات
الخمس تدل على أنها ليست بزوجة؛ قال: نعم. ..
أخبرنا مسلم بن خالد، عن ابن جريج، عن عطاء، عن ابن عباس، وابن
الزبير ﵄ أنهما قالا في المختلعة يطلقها زوجها، قالا: لا يلزمها
طلاق، لأنه طلَّق ما لا يملك. . . فكيف يطلق غير امرأته؟!
الأم (أيضًا): الإيلاء واختلاف الزوجين في الإصابة:
أخبرنا الربيع بن سليمان، قال:
١ / ٣٤٣
أخبرنا محمد بن إدريس الشَّافِعِي قال: قال الله ﵎: (لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٢٦) وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢٢٧) . الآيتان.
قال الشَّافِعِي ﵀: أخبرنا ابن عيينة، عن يحيى بن سعيد، عن سليمان
ابن يسار قال: أدركت بضعة عشر من أصحاب رسول الله ﷺ كلهم يقول بوقف المُوْلِي.
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: أخبرنا مالك، عن نافع، عن ابن عمر رضي
الله عنهما أنه قال: إذا آلى الرجل من امرأته، لم يقع عليه طلاق، وإن مضت أربعة أشهر حتى يوقف، فإمُّا أن يطلق، وإما أن يفيء.
الأم (أيضًا): الظهَار:
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: وإذا تظاهر من أمته - أم ولد كانت، أو غير
أم ولد - لم يلزمه الظهار؛ لأن اللَّه ﷿ يقول:
(وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ) الآية، وليست من نسائه، ولا يلزمه الإيلاء، ولا الطلاق، فيما لا يلزمه الظهار، وكذلك قال الله ﵎:
(لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍر) الآية.
فلو آلى من أمته لم يلزمه الإيلاء.
١ / ٣٤٤
مختصر المزني: كتاب الظهَار:
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: لأن الله ﷿ يقول: (يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ)
فعقلنا عن اللَّه ﷿ أنها ليست من نسائنا - الإماء أو أم ولد - وإنَّما نساؤنا: أزواجنا.
الرسالة: باب (الاختلاف):
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: قال الله ﷿:
(لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٢٦) وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢٢٧) . الآيتان.
فقال: الأكثر ممن رُوي عنه من أصحاب النبي ﷺ عندنا: إذا مضت أربعة أشهر وُفِفَ المُولِي، فإمَّا أن يفيء، وإما أن يطلق.
ورُوِيَ عن غيرهم من أصحاب النبي ﷺ: عزيمة الطلاق انقضاء أربعة أشهر.
ولم يُحفظ عن رسول الله ﷺ في هذا - بأبي هو وأمي - شيئًا.
قال: فأيُّ القولين ذهبتَ؟
قلتُ: ذهبت إلى أن المولى لا يلزمه الطلاق، وأن
امرأته إذا طلبت حقها منه لم أعرِضْ له حتى تمضي أربعة أشهر، فإذا مضت
أربعة أشهر قلت له: فِئ أو طَلِّق، والفَيئَة: الجماع.
قال: فكيف اخترْته على القول الذي يخالفه؟
قلت: رأيته أشبه بمعنى كتاب الله ﷿ وبالمعمول.
١ / ٣٤٥
قال: وما دل عليه من كتاب اللَّه؟
قلت: لما قال اللَّه ﷿: (لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ) الآية، كان ظاهر الآية أن من أَنظَرَهُ اللَّه أربعة
أشهر في شيء، لم يكن عليه سبيل حتى تمضي أربعة أشهر.
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: وليس في الفيئة دلالة على ألَّا يفيء
الأربعة إلا مضيُّها، لأن الجماع يكون في طرفة عين، فلو كانت على ما وصفتَ تزَايَلَ حاله حتى تمضي أربعة أشهر، ثم تزايل حالُه الأولى، فإذا زايلها صار إلى أنُّ لله عليه حقًا، فإمَّا أن يفيء، وإمَّا أن يطلق.
فلو لم يكن في آخر الآية ما يدل على أن معناها غير ما ذهبتَ إليه، كان
قوله أَوْلاَهُما بها، لما وصفنا، لأنه ظاهرها.
والقرآن على ظاهره، حتى تأتي دلالة منه، أو سنة، أو إجماع، بأنَّه على
باطن وظاهر.
قال: فما في سياق الآية ما يدلُّ على ما وصفت؟.
قلت: لما ذكر اللَّه ﷿: أنُّ للمولي أربعة أشهر ثم قال:
(فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٢٦) وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢٢٧) . الآيتان.
فذكر الحكمين معًا بلا فصل بينهما: أنهما إنما يقعان بعد الأربعة أشهر، لأنَّه
إنما جعل عليه الفيئة أو الطلاق، وجعل له الخيار فيهما في وقت واحد، فلا يتقدم واحد منهما صاحبه، وقد ذكِرا في وقت واحد، كما يقال له في الرهن أَفْدِه أو نبيعه عليك، بلا فصل، وفي كل ما خُيِّر فيه افعل كذا أوكذا بلا فصل.
١ / ٣٤٦
ثم قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: فَتَكَلْمُ الموُلي بالإيلَى ليس هو طلاق.
إنَّما هي يمين، ثم جاءت عليها مدة جعلتها طلاقًا، أيجوز لأحد يعقل من حيث يقول: أن يقول مثل هذا إلا بخبر لازم؟!
قال: فهو يدخلُ عليك مثلُ هذا. قلتُ: وأين؟
قال: أنت تقول: إذا مضت أربعة أشهر وُقِفَ، فإن فاء وإلا جُبِرَ على أن
يُطلق.
قلت: ليس من قِبَلِ أن الإيلى طلاق، ولكنها يمين جعل اللَّه لها وقتًا، منع
بها الزوج من الضِّرار، وحكم عليه إذا كانت أن جعل عليه إمَّا أن يفيء، وإمَّا أن يُطَلِّق، وهذا حكم حادث بمضي أربعة أشهر، غير الإيلى، ولكنه مُؤتنَف، يُجبر صاحبُه على أن يأتي بأيهما شاء، فَيئةِ أو طلاق، فإن امتنع منهما أخذ من الذي يُقدر على أخذه منه، وذلك أن يطلق عليه، لأنَّه لا في أن يُجامَع عنه!!.
مناقب الشَّافِعِي: باب (ما يستدل به على فقه الشافعى، وتقدُّمه فيه، وحسُنُ استنباطه):
وقال ﵎: (فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٢٦) وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢٢٧) . الآية.
وقال (وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ) الآية.
وقال (وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ)
قال الشَّافِعِي ﵀: أفرأيت إن قذفها أيُلاعِنُها؛ وآلى منها أيلزمه
الإيلاء؛ أو ظاهر أيلزمه الظهار؛ أو ماتت أيرثها؛ أو مات أترثه؟
قال: لا.
١ / ٣٤٧
قلت: الآن أحكام الله هذه الخمسة تدل على أنها ليست بزوجة.
قال: نعم.
* * *
قال الله ﷿: (وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٢٨)
الأم: رضاعة الكبير:
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: وما جعل اللَّه تعالى له غاية فالحكم بعد مضي
الغاية فيه غيره قبل مضيها، قال تعالى: (وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ) الآية، فكنَّ - إذا مضت الثلاثة الأقراء فحكمهن بعد مضيها غير
حكمهن فيها.
الأم (أيضًا): الفرقة بين الأزواج بالطلاق والفسخ:
أخبرنا الربيع قال:
أخبرنا الشَّافِعِي رحمه الله تعالى قال: الفرقة بين الزوجين وجوه، يجمعها
اسم الفرقة، ويفترق بها أسماء دون اسم الفرقة.
فمنها الطلاق: والطلاق ما ابتدأه الزوج، فأوقعه على امرأته بطلاق
صريح، أو كلام يشبه الطلاق يريد به الطلاق، وكذلك ما جعل إلى امرأته من أمرها فطلَّقت نفسها، أو إلى غيرها فطلقها، فهو كطلاقه، لأنه بأمره وقع، وهذا
١ / ٣٤٨
كله إذا كان الطلاق فيه من الزوج، أو ممن جعله إليه الزوج واحدة أو اثنتين، فالزوج يملك فيه رجعة المطلقة ما كانت في عدة منه.
قال الشَّافِعِي ﵀: فقال لي بعض الناس: ما الحجة فيما قلت؟
قلت: الكتاب والسنة والآثار والقياس.
قال: فأوجدني ما ذكرته.
قلت: قال الله ﵎: (الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ)
وقال تعالى ذكره: (وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ) إلى قوله: (إِصْلَاحًا) الآية، وقلت: أما يتبين لك في هاتين الآيتين أن اللَّه ﵎ جعل لكل مطلق لم يأت على جميع الطلاق الرجعة في العدة؛ ولم يخصص مطلّقًا دون مطلّق، ولا مطلقة دون مطلقة.
وقال الشَّافِعِي ﵀: وقوله في العدة: (وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ) الآية، فلما لم تكن هذه معتدة بحكم اللَّه تعالى، علمت أن اللَّه تبارك
وتعالى إنما قصد بالرجعة في العدة، قصد المعتدات، وكان المفَسَّر من القرآن يدل على معنى الجمل، ويفترق بافتراق حال المطلقات.
الأم (أيضًا): طلاق التي لم يدخل بها:
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: قال اللَّه ﷿: (وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ) الآية، وقال: (وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ) الآية.
فالقرآن يد، على أنَّ الرجعة لمن طلق واحدة أو ائنتين، إنما هي على المعتدة؛ لأنَّ اللَّه ﷿ إنما جعل الرجعة في العدة، وكان الزوج لا يملك الرجعة إذا انقضت
١ / ٣٤٩
العدة، لأنَّه يحلُّ للمرأة في تلك الحال أن تنكح زوجًا غير المطلق، فمن طلق
امرأته ولم يدخل بها تطليقة أو تطليفتين فلا رجعة له عليها، ولا عدة، ولها أن
تنكح من شاءت ممن يحلَّ لها نكاحه، وسواء البكر في هذا أو الثيب.
الأم (أيضًا): العدد (عدة المدخول بها التي تحيض):
أخبرنا الربيع قال:
أخبرنا الشَّافِعِي قال: قال الله ﵎: (وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ) الآية.
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: والأقراء عندنا - والله أعلم - الأطْهَار.
فإن قال قائل: ما دلَّ على أنَّها الأطهَار، وقد قال غيركم الحيض؟
قيل له: دلالتان: أولهما: الكتاب الذي دلَّت عليه السنة.
واآخر: اللسان.
فإن قال: وما الكتاب؟
قيل: قال اللَّه ﵎: (إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ) الآية.
قال الشَّافِعِي ﵀: أخبرنا مالك، عن نافع، عن ابن عمر رضي اللَّه
عنهما أنَّه طلق امرأته وهي حائض، في عهد النبي ﷺ فسأل عمر ﵁ رسول اللَّه ﷺ عن ذلك. فقال رسول الله ﷺ: "مُرهُ فليراجعها، ثم ليمسكها حتى تطهر،
١ / ٣٥٠
ثم تحيض، ثم تطهر، ثم إن شاء أمسك بعد، وإن شاء طلق قبل أن يمس، فتلك العدة التي أمر الله ﷿ أن تطلق لها النساء» الحديث.
وفي رواية: «قال النبي ﷺ: فإذا طهرت فليطلق أو ليمسك»، وتلا النبي ﷺ: (إذا طلقتم النساء فطلقوهن لقبل عدتهن أو في قبل عددتهن) .
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: أنا شككت.
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: فأخبر رسول الله ﷺ عن الله أن العدة: الطهر دون الحيض، وقرأ: «فطلقوهن لقبل عدتهن»
أن تطلق طاهرًا، لأنها حينئذ تستقبل عدتها.
ولو طُلقت حائضًا لم تكن مستقبلة عدتها إلا بعد الحيض.
فإن قال: فما اللسان؟
قيل: القُرْءُ: اسم وضع لمعنى، فلما كان الحيض دمًا
يرخيه الرحم فيخرج، والطهر دم يحبس فلا يخرج، كان معروفًا من لسان
العرب أن القُرْءَ: الحبس؛ لقول العرب: هو يقري الماء في حوضه وفي سقائه.
وتقول العرب: هو يقري الطعام في شدقه، يعني: يحبس الطعام في شدقه.
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: قال الله ﷿ في الآية التي ذكر فيها المطلقات ذوات الأقراء: (وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ) إلى قوله: (وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ) الآية.
١ / ٣٥١
فكان بينًا في الآية بالتنزيل أنَّه:
١ - لا يحلُّ للمطلقة أن تكتم ما في رحمها من المحيض، وذلك أن يحدث
للزوج عند خوفه انقضاء عدتها رأي في ارتجاعها، أو يكون طلاقه إياها أدبًا لها، لا إرادة أن تبينَ منه - فتُعلِمه ذلك، لئلا تنقضي عدتها، فلا يكون له سبيل إلى رجعتها.
٢ - وكان ذلك يحتمل: الحمل مع الحيض، لأن الحمل مما خلق اللَّه في
أرحامهن.
وإاذا سأل الرجل امرأته المطلقة أحامل هي أو هل حاضت؟
فبيّن عندي ألا يحلّ لها أن تكتمه واحدًا منهما، ولا أحدًا رأت أنَّه يُعلمه إياها؛ وإن لم يسألها ولا أحدًا يعلمه إياه، فأحبُّ إليَّ لو أخبرته به.
ولو كتمته بعد المسألة - الحمل أو الأقراء - حتى خلت عدتها كانت
عندي آثمة بالكتمان، إذ سئلت وكتمت. ..
أخبرنا سعيد بن سالم، عن ابن جريج، أنَّه قال لعطاء: ما قوله: (وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ) الآية، قال: الولد لا تكتمه ليرغب
فيها، وما أدري لعل الحيضة معه.
أخبرنا سعيد، عن ابن جريج، أنَّ مجاهدًا قال في قول اللَّه ﷿: (وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ) الآية، المرأة المطلقة لا يحلُّ لها أن تقول: أنا حبلى وليست بحبلى، ولا لست بحبلى وهي حبلى، ولا أنا حائض وليست بحائض، ولا لست بحائض وهي حائض.
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: وهذا - إن شاء اللَّه تعالى - كما قال مجاهد لمعانٍ:
١ / ٣٥٢
منها: ألَّا في الكذب. والآخر: ألَّا تكتمه الحَبَل والحَيضَ، لعله يرغب
فيراجع، ولا تدعِيهما لعله يراجع وليست له حاجة بالرجعة؛ لولا ما ذكرت
من الحبل والحيض فتغره، والغرور لا يجوز.
الأم (أيضًا): أحكام الرجعة:
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: في قول اللَّه ﷿: (إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا) الآية.
فقال: إصلاح الطلاق: الرجعة - واللَّه أعلم - فمن أراد الرجعة فهي له.
لأن اللَّه ﵎ جعلها له.
قال الشَّافِعِي ﵀: فأيما زوج حر، طلق امرأته بعد ما يصيبها، واحدة
أو اثنتين، فهو أحقُّ برجعتها ما لم تنقض عدتها، بدلالة كتاب اللَّه ﷿، ثم سنة رسول الله ﷺ ن، فإن (رُكَانة) طلق (امرأته ألبتة) ولم يُرِد إلا واحدة، فردها
إليه رسول الله ﷺ الحديث.
وذلك عندنا في العدة - واللَّه تعالى أعلم -.
الأم (أيضًا): الاستبراء:
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: فإن قال قائل: لم زعمت أن الاستبراء: طهر
ثم حيضة، وزعمت في العدة أن الأقراء: الأطهار؟
١ / ٣٥٣
قلنا له: بتفريق الكتاب ثم السنة بينهما، فلما قال اللَّه ﷿: (وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ) الآية، ودلَّ رسول الله ﷺ على أن الأقراء:
الأطهار، لقوله في ابن عمر ﵄:»يطلقها طاهرًا من غير جماع.
تلك العدة الي أمر الله ﷿ أن تطلق لها النساء.
فأمَرناها أن تأتي بثلاثة أطهار، فكان الحيض فيها فأصلًا بينهما حتى
يُسمى كل طهر منها غير الطهر الآخر، لأنه لو لم يكن بينهما حيض كان طهرًا واحدًا.
وكان قول النبي ﷺ في الإماء: «يسئبرئن بحيضة» يقصد: قصد الحيض بالبراءة، فأمرناها أن تأتي بحيض كامل، كما أمرناها إذا قصد: قصد الأطهار، أن تأتي بطهر كامل.
الأم (أيضًا): كيف تثبت الرجعة؟)
قال الشَّافِعِي ﵀: لما جعل اللَّه ﷿ الزوج أحق برجعة امرأته في العدة، كان بينًا أن ليس لها منعه الرجعة، ولا لها عوض في الرجعة بحال، لأنها له عليها لا لها عليه، ولا أمر لها فيما له دونها، فلما قال اللَّه ﷿: (وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ) الآية.
كان بينًا أن الرد هو بالكلام دون الفعل من جماع وغيره، لأن
ذلك رد بلا كلام، فلا تثبت رجعة لرجل على امرأته حتى يتكلم بالرجعة. ..
مثل: قد راجعتها، أو قد رددتها إليَّ، ونحو ذلك مما يدل على الرجعة -.
الأم (أيضًا) نكاح المطلقة ثلاثًا:
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: قال الله ﷿: (وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ) الآية، أي: إصلاح ما أفسدوا بالطلاق بالرجعة، فالرجعة
١ / ٣٥٤
ثابنة لكل زوج غير مغلوب على عقله، إذا أقام الرجعة. وإقامتها: أن يتراجعا في العدة التي جعل اللَّه عز ذكره عليها فيها الرجعة.
الأم (أيضًا): الطلاق الذي تُمْلَكُ فيه الرجعة:
قال الشَّافِعِي ﵀: قال اللَّه ﷿: (وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ) الآية كلّها.
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: فكان بينًا في كتاب اللَّه تعالى أن كل طلاق
حُسِب على مطلًقة فيه عدد طلاق - إلا الثلاث - فصاحبه يملك فيه الرجعة.
وكان ذلك بينًا في حديث ركانة عن رسول الله ﷺ، وإلا الطلاق الذي يؤخذ عليه مال - الخلع -، لأن اللَّه تعالى أذن به، وسماه فدية.
الأم (أيضًا): (طلاق المُولى عليه والعبد)
قال الشَّافِعِي ﵀: في مناقشة بعض أهل الحجاز إنَّه: ليس للعبد
طلاق، والطلاق بيد السيد وقال - اللَّه ﷿ - في المطلقات: (وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا) الآية، فكان العبد ممن عليه حرام، وله حلال، فحرامه: بالطلاق، ولم يكن السيد ممن حلت له امرأته فيكون له تحريمها.
الأم (أيضًا): باب (ما يفطر الصائم والسحوو والخلاف فيه):
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: وهذا حجة لنا على من قال في المطلقة
لزوجها عليها الرجعة حتى تغتسل من الحيضة الثالثة، وقد قال اللَّه تبارك
١ / ٣٥٥
وتعالى: (ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ) والقرء عنده الحيضة فما بال الغسل!
وإن وجب بالحيض فهو غير الحيض.
الأم (أيضًا): كتاب (النفقات):
قال الشَّافِعِي ﵀: قال الله تعالى: (وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ) .
قال الشَّافِعِي ﵀: هذه جملة ما ذكر اللَّه ﷿ من الفرائض بين
الزوجين، وقد كتبنا ما حضرنا مما فرض الله ﷿ للمرأة على الزوج، وللزوج على المرأة، مما سَن رسول الله ﷺ.
قال الشَّافِعِي ﵀: وفرض الله ﷿ أن يؤديَ كل ما عليه بالمعروف.
وجماع المعروف: إعفاء صاحب الحق من المؤنة في طلبه، وأداؤه إليه بطيب
النفس، لا بضرورئه إلى طلبه، ولا تأديته بإظهار الكراهية لتأديته، وأيهما ترك فظلم؛ لأن مَطْلَ الغني ظُلْم، ومَطلُه: تأخيره الحق.
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: في قوله تعالى: (وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ)
الآية، - واللَّه أعلم - أي: فمالهن مثل ما عليهن من أن يُؤدى إليهن بالمعروف.
الأم (أيضًا): جماع عشْرَة النساء:
قال الشَّافِعِي ﵀: قال جل وعلا: (وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ) الآية.
فجعل اللَّه للزوج على المرأة، والمرأة على الزوج
١ / ٣٥٦
حقوتًا بينها في كتابه، وعلى لسان نبيه مُفسَّرة ومجملة، ففهمها العرب الذين
خوطبوا بلسانهم على ما يعرفون من معاني كلامهم.
قال الشَّافِعِي ﵀: وقال: أقل ما يجب في أمره بالعشرة بالمعروف:
أن يؤدِّي الزوج إلى زوجثه ما فرض اللَّه لها عليه، من نفقة وكسوة وترك ميل ظاهر، فإنه يقول ﷿: (فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ) .
وجماع المعروف: إتيانُ ذلك بما يحسن لك ثوابه، وكفُّ المكروه.
اختلاف الحديث: باب (طلاق الحائض):
أخبرنا مسلم بن خالد، عن ابن جريج، أنهم أرسلوا إلى نافع يسألونه: هل
حُسِبَت تطليقةُ ابن عمر ﵄ على عهد رسول الله ﷺ؟
قال: «نعم» الحديث.
قال الشَّافِعِي ﵀: حديث مالك، عن نافع، عن ابن عمر رضي اللَّه
عنهما أن النبي ﷺ أمر عمر ﵁، أن يأمر ابن عمر ﵄، أن يراجع
امرأته دليل بين على أنه لا يقال له راجع، إلا ما قد وقع عليه طلاقه، لقول الله
١ / ٣٥٧
في المطلقات: (وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ) الآية، وأن معروفًا في اللسان، بأنه إنما يقال للرجل: راجع امرأتك إذا افترق هو وامرأته. . . ثم قال: والقرآن يدل على أنها تحسب - أي: تطليقة ابن عمر لزوجته وهي حائض - قال اللَّه تعالى:
(الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ) الآية.
لم يخصص طلاقًا دون طلاق، وما وافق ظاهر كتاب اللَّه من الحديث أولى أن يثبت.
مسند الشَّافِعِي: ومن كتاب (العدد إلا ما كان منه معادًا):
قال الشَّافِعِي ﵀: أخبرنا مالك، عن ابن شهاب، عن عروة، عن
عائشة ﵂ أنها انتقلت حفصة بنت عبد الرحمن حين دخلت في الدم من الحيضة الثالثة، قال ابن شهاب: فذكرت ذلك لعمرة بنت عبد الرحمن، فقالت: صدق عروة.
وقد جادلها في ذلك ناس، وقالوا: إن اللَّه يقول: (ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ) الآية، فقالت
عائشة ﵂: صدقتم وهل تدرون ما الأقْرَاءُ؟
الأقراء: الأطهار الحديث.
أخبرنا مالك، عن ابن شهاب قال: سمعت أبا بكر بن عبد الرحمن يقول:
ما أدركت أحدًا من فقهائنا إلا هو يقول هذا (يريد الذي قالت عائشة رضي
الله عنها) الحديث.
١ / ٣٥٨
مناقب الشَّافِعِي: باب (ما يستدل به على فقه الشَّافِعِي، وتقدمه فيه، وحُسن استنباطه):
قال الشَّافِعِي ﵀: وقال اللَّه تعالى: (وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ) الآية.
فلما كانت الصلاة مما يقوم به الإمام على المأموم، لم يجز أن تكون المرأة التي
عليها القيِّم قيِّمةَ على قيِّمِها.
ولما كانت الإمامة درجة فضل، لم يجز أن يكون لها درجة الفضل على من
جعل اللَّه له عليها درجة.
ولما كان من سنة النبي ﷺ، ثم الإسلام أن تكون
متأخرة خلف الرجال، لم يجز أن تكون متقدمة بين أيديهم.
فإن قال قائل: فالعبد مفضول؟
قيل: وكذلك الحرُّ يكون مفضولًا، ثم
يتقدم من هو أفضل منه فيجوز.
وقد يكون العبد خيرًا من الحر، وقد تأتي عليه الحال يعتق فيصير حرًا.
وهو في كل حال من الرجال، والمرأة لا تصير بكل حال من أن تكون امرأة
عليها قيم من الرجال في عامة أمرها.
* * *
قال الله ﷿: (الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٢٢٩)
الأم: جماع عشرة النساء:
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: قال اللَّه ﷿: (الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ) الآية.
١ / ٣٥٩
جماع المعروف: إتيان ذلك بما يحَسنُ لك ثوابه، وكفُّ المكروه.
الأم (أيضًا): ما لا يحل أن يؤخذ من المرأة:
قال الشَّافِعِي ﵀: إذا أخذ الزوج المهر من المرأة وهي طيبة النفس به.
فقد أذِن به في قول اللَّه ﵎: (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ) الآية.
فإن أخذ منها شيئًا على طلاقها، فأقرَّ أنَّه أخذ بالإضرار بها، مضى عليه
الطلاق وزد ما أخذ منها، وكان له عليها الرجعة إلَّا أن يكون طلقها ثلاثًا.
الأم (أيضًا): الوجه الذي يحل به للرجل أن يأخذ من امرأته:
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: قال اللَّه ﵎: (الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ) إلى
قولهْ (فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ) الآية.
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى:. فنهى اللَّه تعالى الزوج - كما نهاه في الأي
قبل هذه الآية - أن يأخذ مما آتى المرأة شيئًا، إلاّ أن يخافا ألَّا يقيما حدود اللَّه، فإن خافا (أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ) الآية.
وأباح لهما إذا انتقلت عن حد اللاتي حرّم أموالهن على أزواجهن لخوف
ألَّأ يقيما حدود اللَّه، أن يأخذ منها ما افتدت به، لم يحدد في ذلك ألَّا يأخذ إلا ما أعطاها ولا غيره، وذلك أنَّه يصير حينئذ كالبيع، والبيع إنما في ما تراضى به
١ / ٣٦٠
المتبايعان لا حد في ذلك، بل في كتاب الله ﷿ دلالة على إباحة ما كثر منه وقلَّ، لقوله تعالى: (فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ) الآية.
قال الإمام الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: وقول الله ﵎: (إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ) الآية.
١ - يحتمل أن يكون الابتداء بما يخرجهما إلى خوف ألا يقيما حدود اللَّه
من المرأة، بالامتناع من تأدية حق الزوج والكراهية له، أو عارض منها في حيِّ الخروج من غير بأس منه.
٢ - ويحتمل أن يكون من الزوج، فلما وجدنا حكم الله بتحريم أن يأخذ
الزوج من المرأة شيئًا، إذا أراد استبدال زوج مكان زوج، استدللنا أن الحال التي أباح بها للزوج الأخذ من المرأة الحال المخالفة، الحال التي حرّم بها الأخذ، فكانت تلك الحال هي: أن تكون المرأة المبتدئة المانعة لأكثر ما يجب عليها من حق الزوج، ولم يكن له الأخذ أيضًا منها حتى يجمع أن تطلب الفدية منه، لقوله ﷿: (فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ) الآية، وافتداؤها منه: شيء تعطيه من نفسها، لأن اللَّه ﷿ يقول: (وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا) الآية.
فكانت هذه الحال التي تخالف هذه الحال، وهي التي لم تبذل فيها المرأة
المهر، والحال التي يتداعيان فيها الأساءة لا تقر المرأة أنها منها.
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: وقول اللَّه ﵎: (إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ) الآية، كما وصفت من أن يكون لهما فعل، تبدأ به المرأة
يخاف عليهما فيه ألا يقيما حدود اللَّه، لا أن خوفًا منهما بلا سبب فعل.
١ / ٣٦١
أخبرنا سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن طاووس، عن ابن عباس
﵄ في رجل طلق امرأته تطليقتين ثم اختلعت منه بعد، فقال:
يتزوجها إن شاء، لأن اللَّه ﷿ يقول: (الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ) إلى قوله: (أَنْ يَتَرَاجَعَاَ) .
أخبرنا الربيع قال:
أخبرنا الشَّافِعِي قال: أخبرنا سفيان، عن عمرو، عن عكرمة قال: كل شيء
أجازه المال فليس بطلاق.
أخبرنا الربيع قال:
أخبرنا الشَّافِعِي قال: أخبرنا مالك، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن
جُهمان، عن أم بكرة الأسلمية، أنها اختلعت من زوجها عبد اللَّه بن أسيد.
ثم أتيا عثمان ﵁ في ذلك فقال: هي تطليقة، إلا أن تكون سمَّيت شيئًا فهو ما سمَّيت.
قال الشَّافِعِي ﵀: ولا أعرف جُمهان ولا أم بكرة بشيء يثبت به
خبرهما ولا يردُّه، وبقول عثمان ﵁ نأخذ وهي تطليقة، وذلك أني رجَّعت الطلاق من قبل الزوج، ومن ذهب مذهب ابن عباس ﵄ كان شبيهًا أن يقول: قول اللَّه ﵎:
(فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ) الآية.
يدلُّ على أن الفدية هي فسخ ما كان عليها، وفسخ ما كان له عليها لا
يكون إلا بفسخ العقد، وكل أمر نسب فيه الفرقة إلى انفساخ العقد لم يكن
طلاقًا، إنما الطلاق ما أحدث، والعقدة قائمة بعينها.
١ / ٣٦٢
الأم (أيضًا): الفرقه بين الأزواج بالطلاق أو الفسخ:
قال الشَّافِعِي ﵀: وأن اللَّه ﵎ إذا قال: (فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ) الآية.
فإنما أمر بالإمساك من له أن يمسك، وبالتسريح من له أن يسرِّح.
قال: فما التسريح هاهنا؟
قلت: ترك الحبس بالرجعة في العدة تسريح بمتقدم الطلاق.
قال الشَّافِعِي ﵀: يقول الله ﷿: (فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ) الآية، والفدية ممن ملك عليه أمره لا تكون إلا بإزالة الملك عنه، وغير
جائز أن يأذن الله تعالى لها بالفدية، وله أن يأخذها، ثم يملك عليها أمرها بغير
رضًا منها.
ألا ترى أن كل من أخذ شيئًا على شيء يخرجه من يديه، لم يكن له
سبيل على ما أخرج من يديه لما أخذ عليه من العوض.
والخلع: اسم مفارق للطلاق، وليس المختلع بمبتدئ طلاقًا إلا بحُعلِ.
والمطلقون غيره لم يستجعلوا.
وقلت له: الذي ذهب إليه من قول الله تبارك
وتعالى: (الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ) الآية، إنَّما هو على من عليه العدة.
الأم (أيضًا): ما كحلًا به الفديه:
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: قال اللَّه ﵎: (الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ) إلى (فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ) الآية.
١ / ٣٦٣
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: أخبرنا مالك، عن يحيى بن سعيد، عن عمرة
بنت عبد الرحمن، أن أم حبيبة بنت سهل أخبرتها أنها كانت عند ثابت بن قيس بن شماس، وأن رسول الله ﷺ خرج إلى صلاة الصبح، فوجد حبيبة بنت سهل عند بابه، فقال رسول الله ﷺ من هذه؛ قالت: أنا حبيبة بنت سهل يا رسول اللَّه، لا
أنا ولا ثابت - لزوجها - فلما جاء ثابت قال له رسول الله ﷺ: «هده حبيبة قد ذكرت ما شاء الله أن تذكر»، فقالت حبيبة: يا رسول الله كل ما أعطاني عندي.
فقال رسول الله ﷺ: «خذ منها» فأخذ منها وجلست في أهلها الحديث.
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: فقيل - واللَّه أعلم - في قوله تعالى: (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ) الآية، أن تكون المرأة تكره الرجل، حتى تخاف ألا تقيم حدود اللَّه بأداء ما يجب عليها له، أو كثره إليه، ويكون الزوج غير مانع لها ما يجب عليه، أو أكثره، فإذا كان هذا حلت الفدية للزوج، وإذا لم يُقِم أحدهما حدود اللَّه، فليسا معًا مقيمَينِ حدود الله.
وقيل: وهكذا قول اللَّه ﷿: (فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ) الآية، إذا حل ذلك للزوج، فليس بحرام على المرأة، والمرأة في كل حال لا يحرم عليها ما أعطت من مالها، وإذا حل له لم يحرم عليها فلا جناح عليهما معًا، وهذا كلام صحيح جائز إذا اجتمعا معًا، في أن لا جناح عليهما، وقد يكون الجناح على أحدهما دون الآخر.
قال الشَّافِعِي ﵀: ولا وقت في الفدية كانت أكثر مما أعطاها أو
أقل، لأن اللَّه ﷿ يقول: (فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ) الآية.
١ / ٣٦٤
وقال: وهكذا قول اللَّه ﷿: (فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ)
الآية. . . وقيل: أن تمتنع المرأة من أداء الحق، فتخاف على الزوج: ألَّا يؤدي الحق، إذا منعته حقًا فتحلُّ الفدية.
وجماع ذلك: أن تكون المرأة: المانعة لبعض ما يجب عليها له، المفتدية:
تحرجًا من ألَّا تؤدِّي حقه، أو كراهية له، فإذا كان هكذا، حلت الفدية للزوج.
الأم (أيضًا): عدة المطلقة يملك زوجها رجعتها:
قال الشَّافِعِي ﵀: وقد قال بعض أهل العلم بالتفسير، إن قول اللَّه
﷿: (الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ) الآية.
أخبرنا مالك، عن هشام، عن أبيه قال: كان الرجل إذا طلق امرأته ثم
ارتجعها قبل أن تنقضي عدتها، كان ذلك له وإن طلقها ألف مرة، فعمد رجل
إلى امرأته فطلقها حتى إذا شارفت انقضاء عدتها، ارتجعها. ثم طلقها ثم قال
واللَّه لا آويك إليَّ، ولا تحلين لي أبدًا، فأنزل اللَّه ﷿: (الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ) الآية، فاستقبل الناس الطلاق جديدًا من كان منهم طلق، ومن لم يطلق. الحديث.
١ / ٣٦٥
الأم (أيضًا): الطلاق الذي تُملَك فيه الرجعة:
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: قال ﷿: (فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ) الآية، فكان بينًا في كتاب الله تعالى إذ أحل له أخذ المال، أنه إذا ملك مالًا عوضًا من شيء لم يجز أن يكون له على ما ملك به المال سبيل، والمال هو: عوض من بضع المرأة. . .، واسم الفدية: أن تفدي نفسها بأن تقطع ملكه الذي له به الرجعة عليها، ولو ملك الرجعة لم تكن مالكة لنفسها، ولا واقعًا عليها اسم فدية.
وقال الشَّافِعِي ﵀: قال اللَّه تعالى: (الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ)
الآية، وما كان معقولًا عن اللَّه ﷿ في كل هذا أنه: الطلاق الذي من قبل الزوج.
الأم (أَيضًا) المدَّعي والمدَّعَى عليه:
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: فإذا لم تكن سنة، وكان القرآن محتملًا.
فوجدنا قول أصحاب النبي ﷺ، وإجماع أهل العلم يدلُّ على بعض المعاني دون بعض، قلنا: هم أعلم بكتاب اللَّه ﷿، وقولهم غير مخالف - إن شاء اللَّه تعالى -
كتاب اللَّه، وما لم يكن فيه سنة ولا قول أصحاب النبي ﷺ، ولا إجماع يدلُّ منه على ما وصفت من بعض المعاني دون بعض، فهو على ظهوره وعمومه، لا يُخَصُّ منه شيء دون شيء.
وما اختلف فيه بعض أصحاب النبي ﷺ أخذنا منه بأشبهه بظاهر التنزيل، وقولك فيما فيه سنة هو خلاف القرآن جهل بيِّن عند أهل العلم، وأنت تخالف قولك فيه.
١ / ٣٦٦
قال: وأين قلنا فيما بيَّنا وفيما سنبين - إن شاء اللَّه تعالى كفاية - قلت:
قال الله ﷿: (الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ) الآية، وقال:
(وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ) إلى قوله: (إِصْلَاحًا) الآية.
قال الشَّافِعِي ﵀: فظاهر هاتين الآيتين، يدل على أن كل مطلق فله
الرجعة على امرأته ما لم تنقض العدة، لأن الآيتين في كل مطلق عامة لا
خاصُّة على بعض المطلقين دون بعض، وكذلك قلنا: كل طلاق ابتدأه الزوج، فهو يملك فيه الرجعة في العدة.
الأم (أيضًا): باب حكاية من رد خبر الخاصة:
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: وقال الله ﷿: (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ) الآية.
أرأيت إذا فعلت امرأتان فعلًا واحدا، وكان زوج إحداهما يخاف به نشوزها، وزوج الأخرى لا يخاف به نشوزها؟
قال: يسع الذي يخاف به النشوز: العظة، والهجرة والضرب، ولا يسع
الآخر، وهكذا: أيسع الذي يخاف به أن لا تقيم زوجته حدود اللَّه الأخذ
منها، ولا يسع الآخر، وإن استوى فعلاهما؟
قال: نعم.
الأم (أيضًا): ما يقع بالخلع من الطلاق:
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: وإذا جاز ما أخذ - الزوج - من المال على
الخلع، والطلاق فيه واقع، فلا يملك الزوج فيه الرجعة، لأن اللَّه ﷿ يقول:
١ / ٣٦٧
(فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ) الآية، ولا تكون مفتدية وله عليها
الرجعة، ولا يملك المال، وهو كلك الرجعة، لأن من ملك شيئًا بعوض أعطاه، لم يجز أن يكون كللك ما خرج منه، وأخذ المال عليه.
الأم (أيضًا): إباحة الطلاق:
أخبرنا الربيع بن سليمان قال:
قال الشَّافِعِي ﵀: قال الله ﷿: (الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ) الآية.
فالطلاق مباح لكل زوج لزمه الفرض، ومن كانت زوجته لا تحرم من
محسنة ولا مسيئة في حال، إلا أنه يُنهى عنه لغير قُبِل العدة، وإمساك كل زوج محسنة أو مسيئة بكل حال مباح، إذا أمسكها بمعروف.
وجماع المعروف: إعفافها بتأدية الحق.
* * *
قال الله ﷿: (فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٢٣٠)
الأم: الفرقة بين الأزواج بالطلاق والفسخ:
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: قال - المحاور - فلم قلتَ: إنها تكون
للأزواج الرجعة في العدة قبل التطليقة الثالثة؟
فقلتُ له: لما بين الله ﷿ في كتابه:
١ / ٣٦٨
(فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ) إلى قوله: (أَنْ يَتَرَاجَعَا) الآية.
الأم (أيضًا): ما يحرم الجمع بينه من النساء في قول الله ﷿: (وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ):
قال الشَّافِعِي رحمه لذ: قد يُذكر الشيء في الكتاب فيحرمه، ويحرم على لسان نبيه ﷺ غيره كما ذكر المرأة المطلقة ثلاثًا، فقال: (فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ) الآية.
فبينَ على لسان رسوله ﷺ أن يصيبها، وإلا لم تحل له.
الأم (أيضًا): الخلاف فيما يؤتي بالزنا:
قال الشَّافِعِي ﵀: فإن اللَّه ﵎ قال في المطلقة ثلاثًا:
(فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ) الآية.
وجاءت السنة بأن يصيبها الزوج الذي نكح، فكانت حلالًا له قبل
الثلاث، ومحرمة عليه بعد الثلاث حتى تنكح، ثم وجدناها تنكح زوجًا.
ولا تحل له حتى يصيبها الزوج، ووجدنا المعنى الذي يحلها عليه الإصابة -
والإصابة: النكاح -.
الأم (أيضا): طلاق التي لم يدخل بها:
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: وقال ﵎: (فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ) الآية.
١ / ٣٦٩
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: والقرآن يدل - والله أعلم - على أن من
طلق زوجة له، دخل بها أو لم يدخل بها ثلاثًا، لم تحل له حتى تنكح زوجًا غيره.
أخبرنا مالك، عن ابن شهاب، عن الزهري، عن محمد بن عبد الرحمن بن
ثوبان، عن محمد بن إياس بن البُكَير قال: طلق رجل ثلاثًا قبل أن يدخل بها، ثم بدا له أن ينكحها فجاء يستفتي، فسأل أبا هريرة، وعبد الله بن عباس ﵄ فقالا: لا نرى أن تنكحها حتى تتزوج زوجًا غيرك فقال: إنما كان طلاقي إياها واحدة، فقال ابن عباس: إنك أرسلت من يدلُّ ما كان لك من فضل. الحديث.
الأم (أيضًا): نكاح المطلقة ثلاثًا:
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: أيُّ امرأة حل ابتداء نكاحها، فنكاحها حلال
متى شاء - من كانت تحل له - وشاءت، إلا امرأتان:
الأولى: الملاعنة، فإن الزوج إذا التعن، لم تحل له أبدًا بحال، والحجة في
الملاعنة مكتوبة في كتاب اللعان.
الثانية: المرأة يطلقها زوجها الحرُّ ثلاثًا، فلا تحلُّ له حتى يجامعها زوج غيره
لقول الله ﷿ في المطلقة الثالثة: (فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ) الآية.
قال الشَّافِعِي ﵀: فاحتملت الآية: حتى يجامعها زوج غيره، ودلت
على ذلك السنة، فكان أولى المعاني بكتاب الله، ما دلَّت عليه سُنَّة رسول الله) .
١ / ٣٧٠
أخبرنا سفيان بن عيينة، عن ابن شهاب، عن عروة، عن عائشة رضي اللَّه
عنها زوج النبي ﷺ سمعها تقول: جاءت امرأة رفاعة القرظي إلى النبي ﷺ
فقالت: إني كنت عند رفاعة القرظي فطلقني فبت طلاقي، فتزوجت عبد الرحمن ابن الزبير، وإنما معه مثل هدبة الثوب، فتبسم النبي ﷺ وقال: «أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة؛ لا حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك» الحديث.
قال الشَّافِعِي ﵀: فإذا تزوجت المطلقة ثلاثًا زوجًا صحيح النكاح.
فأصابها ثم طلقها، فانقضت عدتها، حل لزوجها الأول ابتداء نكاحها، لقول
الله ﷿: (فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ) الآية. وقول رسول اللَّه ﷺ لامرأة رفاعة: "لا ترجعي إلى رفاعة حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك الحديث، يعني: يجامعك.
وفي قول اللَّه تعالى: (أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ) الآية -
واللَّه تعالى أعلم بما أراد - أما الآية فتحتمل إن أقاما الرجعة، لأنها من حدود اللَّه تعالى. ..
ثم قال ﵀: وأحبُّ لهما أن ينويا إقامة حدود اللَّه تعالى فيما بينهما.
وغيره من حدود اللَّه تبارك اسمه.
الأم (أيضًا): ما يهدم الزوج من الطلاق وما لا يهدم:
قال الشَّافِعِي ﵀: قال اللَّه تعالى: (الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ) الآية. .
١ / ٣٧١
وقال - سبحانه -: (فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ) الآية.
قال الشَّافِعِي ﵀: دلَّ حكم اللَّه ﷿ على الفرق بين المطلقة واحدة واثنتين، والمطلقة ثلاثًا وذلك أنه: أبان أن المرأة في لمطلقها رجعئها من واحدة واثنتين، فإذا طلقت ثلاثًا حرمت عليه حتى ئنكح زوجًا غيره.
قال الشَّافِعِي ﵀: وإذا طُلّقت المرأة ثلاثًا فنكحت زوجًا، فادُّعت أله
أصابها، وأنكر الزوج، أحلها ذلك الزوج لمطلقها ثلاثًا.
وهكذا لو لم يعلم الزوج الذي يطلقها ثلاثًا أنها نكحت نكاحًا صحيحًا.
وأصيبت، حلَّت له إذا جاءت عليها مدة يمكن فيها انقضاء عدتها منه، ومن
الزوج الذي ذكرت أنَّه أصابها.
ولو كذَّبها - الزوج الأول - في هذا كله ثم صدقها، كان له نكاحها.
والورع ألَّا يفعل إذا وقع في نفسه أنها كاذبة، حتى يجد ما يدلُّ على صدقها.
الأم (أيضًا): طلاق المولى عليه والعبد:
قال الشَّافِعِي ﵀: وقال بعض من مضى: ليس للعبد طلاق
والطلاق بيد السيد، فإن قال قائل: فهل من حجة على من قال: لا يجوز
طلاق العبد؟
قيل: ما وصفنا من أن اللَّه تعالى قال في المطلقات ثلاثًا: (فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ) الآية.
١ / ٣٧٢
الأم (أيضًا): المدَّعي والمدَّعَى عليه:
قال الشَّافِعِي ﵀: فقال - المجادل - إن اللَّه ﷿ يقول في التي طلقها زوجها ثالثة من الطلاق: (فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ) الآية، فإن نكحت، - والنكاح: العقدة - حلَّت لزوجها الذي طلقها!
قال: ليس ذلك له، لأنّ السنة تدل على ألا تحل حتى يجامعها الزوج الذي
ينكحها.
قلنا: فقال لك: فإن النكاح يكون وهي لا تحل، وظاهر القرآن يحلها، فإن
كانت السنة تدل على أن جماع الزوج يحلها لزوجها الذي فارقها، فالمعنى: إنمّا هو في أن يجامعها غير - زوجها الأول - الذي فارقها.
الرسالة: باب (الفرائض التى أنزل الله نصًا):
قال الشَّافِعِي ﵀: وقد كانت لرسول اللَّه ﷺ في هذا سننًا ليست نصًا في القرآن، أبان رسول الله ﷺ عن اللَّه معنى ما أراد بها، وتكلم المسلمون في
أشياء من فروعها، لم يَسُن رسول الله ﷺ فيها سنة مخصوصة.
فمنها قول اللَّه ﷿: (فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا) الآيتان.
١ - فاحتمل قول اللَّه ﷿: (حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ) الآية، أن يتزوجها زوج غيره، وكان هذا المعنى الذي يسبق إلى من خوطب به؛ أنها إذا عُقِدَت عليها عقدة النكاح فقد نكحت.
١ / ٣٧٣
٢ - واحتمل: حتى يصيبها زوج غيره؛ لأن اسم النكاح يقع بالإصابة.
ويقع بالعقد.
فلما قال رسول الله ﷺ لامرأة طلقها زوجها ثلاثًا ونكحها بعده رجل:
«لا تحلين حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك»
يعني: يصيبك زوج غيره، والإصابة: النكاح.
فإن قال قائل: فاذكر الخبر عن رسول الله ﷺ بما ذكرت.
قيل: أخبرنا سفيان، عن ابن شهاب، عن عروة، عن عائشة رضي اللَّه
عنها: «أن امرأة رفاعة ...» الحديث.
قال الشَّافِعِي ﵀: فبيّن رسول الله ﷺ أن إحلال اللَّه إياها للزوج المطلقة ثلاثًا، بعد زوج بالنكاح: إذا كان مع النكاح إصابة من الزوج - الثاني - (المحلل) .
أحكام القرآن: ما يؤثر عنه في الخلع والطلاق والرجعة:
أخبرنا أبو سعيد، أخبرنا أبو العباس، أخبرنا أبو الربيع:
أخبرنا الشَّافِعِي ﵀ في المرأة يطلقها الحر ثلاثًا - قال: فلا تحل له
حتى يجامعها زوج غيره، لقوله ﷿ في المطلقة ثلاثًا: (فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ) الآية.
قال: فاحتملت الآية حتى يجامعها زوج غيره.
ودلت على ذلك السنة فكان أولى المعاني - بكتاب اللَّه ﷿ ما دلت
عليه سنة رسوله ﷺ.
وقال الشَّافِعِي ﵀: في قول اللَّه ﷿: (فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ) الآية، - واللَّه أعلم بما أراد - فأما الآية فتحتمل: إن أقاما الرجعة لأنَّها من حدود اللَّه.
١ / ٣٧٤
قال الله ﷿: (وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٢٣١)
الأم: جماع وجه الطلاق:
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: وقد أمر اللَّه تعالى بالإمساك بالمعروف
والتسريح بالإحسان ونهى عن الضرر، وطلاق الحائض ضرر عليها، لأنها لا
زوجة، ولا في أيام تعتد فيها من زوج ما كانت في الحيضة، وهي إذا طلقت
وهي تحيض بعد جماع لم تدر ولا زوجها عدتها: الحمل أو الحيض؟
الأم (أيضًا): الفرقة بين الأزواج بالطلاق والفسخ:
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: قال اللَّه ﷿: (وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ) إلى قوله: (لِتَعْتَدُوا) الآية. قال: فما معنى قوله: (فَبَلَغنَ أجَلَهُن)
قلت: يعني - واللَّه أعلم - قاربن بلوغ أجلهن، قال: وما الدليل على ذلك؟
قلت: الآية دليل عليه لقول اللَّه ﷿: (فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا) الآية.
فلا يُؤمر بالإمساك والسراح إلا مَنْ هذا إليه، ثم شرط عليهم في الإمساك
أن يكون بمعروف وهذه الآية ك الآية قبلها في قوله: (فَبَلَغنَ أجَلَهُنَّ) الآية.
قال: وتقول هذا العرب؟
قلت: نعم تقول للرجل إذا قارب البلد يريده، أو الأمر يريده، قد بلغته، وتقول إذا بلغه.
١ / ٣٧٥
وقال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: قال ﷿: (وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا) الآية.
فلا يؤمر بالإمساك إلا من يجوز له الإمساك في العدة، فيمن ليس لهن أن
يفعلن في أنفسهن ما شئن في العدة حتى تنقضي العدة، وهو كلام عربي هذا من أبينه وأقلِّه خفاء.
آداب الشَّافِعِي ومناقبه: ما في الزكاة والسيرة والبيومع، والعتق والنكاح، والطلاق:
أخبرنا عبد الرحمن قال: أخبرني أبي قال: سمعت يونس يقول:
قال لي الشَّافِعِي ﵀: في قوله ﷿: (وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ) الآية.
معنى هذه الآية - إذا أشرفن على الأجل، وليس الخروج منه، فإنه لا
يملك رجعتها وقد خرجت من العدة.
وقوله: (أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ) يقول: إن أمسكَ بمعروف فَلْيُرْجعْها، وإلا فَلْيَدَعْها.
قال الله ﷿: (وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ) إلى قوله: (أزوَاجَهُنَّ)
الأم: ما جاء في أمر النكاح:
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: وقد حفظ بعض أهل العلم بأن هذه الآية
نزلت في معقل بن يسار، وذلك أنه زوّج أخته رجلًا، فطلقها، وانقضت عدتها،
١ / ٣٧٦
ثم طلب نكاحها وطلبته، فقال: زوجتك دون غيرك أختي، ثم طلقتها، لا
أنكحك أبدًا، فنزلت الآية: (وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ) إلى: (أزوَاجَهُنَّ)
قال: وفي هذه الآية دلالة على أن النكاح يتم برضا الولي مع الزوج والزوجة، وهذا موضوع في ذكر الأولياء، والسُنة تدل على ما يدل عليه القرآن من أن على ولي الحرة أن يُنكِحها.
قال الشَّافِعِي: أخبرنا مالك، عن عبد اللَّه بن الفضل، عن نافع بن جبير.
عن ابن عباس ﵄ قال: قال رسول الله ﷺ: «الأيم أحق بنفسها من وليها، والبكر تستأذن في نفسها، وإذنها صمانها» الحديث.
وقال ﷺ: «أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل، فإن اشتجروا فالسلطان ولي من لا ولي له» الحديث.
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: وإذا كانت - المرأة - أحق بنفسها، وكان
النكاح يتم به، لم يكن له منعها النكاح، وقول النبي ﷺ: «فإن اشتجروا فالسلطان ولي من لا ولي له» يدل: على أن السلطان ينكح المرأة لا ولي لها.
والمرأة لها ولي يمتنع من إنكاحها، إذا أخرج الولي نفسه من الولاية بمعصيته
بالعضل، وهذان الحديثان مثبتان في كتاب الأولياء.
١ / ٣٧٧
الأم (أيضًا) (لا نكاح إلا بولي)
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: معنى إذا طلقتم: يعني الأزواج.
(النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ) يعني: فانقضى أجلهن، يعني: عدتهن.
(فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ) يعني: أولياءهن.
(أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ) يعني: إن طلقوهن ولم يبتُّوا طلاقهن، وما
أشبه معنى ما فالوا من هذا بما قالوا، ولا أعلم الآية تحتمل غيره.
وقال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: (فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ) وإن ذكَرَ - الولي -
شيئًا نظر فيه السلطان. فإن رآها تدعو إلى كفاءة، لم بكن له منعها، وإن دعاها الولي إلى خير منه، وإن دعت إلى غير كفاءة لم يكن له تزويجها، والولي لا يرضى به، وإنَّما العضل: أن تدعو إلى مثلها أو فوقها فيمننع الولي.
الأم (أيضًا): باب (نكاح الولاة والنكاح بالشهادة)
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: قال تعالى: (فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ) وفي هذه الآية
دلالة على: أن النكاح يتم برضا الولي، والمُنكَحة، والناكح، وعلى أن على الولي ألا يعضل، فإذا كان عليه ألا بعضل، فعلى السلطان التزويج إذا عضل، لأن من منع حقًا، فأمر السلطان جائز عليه أن يأخذه منه، وإعطاؤه عليه، والسنة تدل على ما دل عليه القرآن، وما وصفنا من الأولياء والسلطان.
مختصر المزني: مختصر من الرجعة:
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: قال الله تعالى في امطلقات:
(فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ) .
وقال تعالى: (فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ) الآية.
١ / ٣٧٨
فدلَّ سياق الكلام على افتراق البلوغين:
فأحدهما: مقاربة بلوغ الأجل، فله إمساكها، أو تركها فتُسرح بالطلاق
والمتقدم، والعرب تقول: إذا قاربت البلد تريده، قد بلغت، كما تقول: إذا بلغته.
والآخر: والبلوغ الآخر: انفضاء الأجل.
مختصرالمزني (أيضًا): باب (ما على الأولياء وإنكاح الأب البكر بغير إذنها):
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: فدلَّ كتاب الله ﷿، وسنة نبيه ﵊ على: أن حقًا على الأولياء أن يزوجوا الحرائر البوالغ إذا أردن النكاح، ودعون إلى رضا، قال اللَّه تعالى:
(وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ) الآية.
قال: وهذه أبين آية في كتاب اللَّه تعالى دلالة على: أن ليس للمرأة أن
تثزوج بغير ولي.
ثم ذكر ما ذكِرَ في الأم من سبب النزول والحديثين.
آداب الشَّافِعِي ومناقبه: ما في النكاح والطلاق:
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: قال اللَّه ﷿: (وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ) الآية.
معنى هذه - الآية -: أنه
١ / ٣٧٩
خاطب الأولياء، وأن هذا انقضاء الأجل، لا الأشراف على انقضائه، فقال
للولي: لا يعضلها عن النكاح إن أرادته كنعها منه.
قال الله ﷿: (وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ)
الأم: ما يحرم من النساء بالقرابة:
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: وقال عز ذكره: (وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ) الآية، فأخبر اللَّه ﷿ أن كمال الرضاع حولان، وجعل على الرجل يُرضَع له ابنه أجر المرُضِع، والأجر على الرضاع لا يكون إلا على ماله مدة معلومة.
والرضاع اسم جامع يقع على المصَّة وأكثر منها، إلى كمال رضاع الحولين.
ويقع على كل رضاع وإن كان بعد الحولين.
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: فلما كان هكذا، وجب على أهل العلم طلب
الدلالة، هل يحرم الرضاع بأقل ما يقع عليه اسم الرضاع، أو معنى من الرضاع دون غيره؟
أخبرنا مالك، عن عبد اللَّه بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حرّم، عن
عمرة، عن عائشة أم المؤمنين ﵂ أنَّها قالت: كان فيما أنزل اللَّه تعالى
١ / ٣٨٠
في القرآن: «عشر رضعات معلومات يحرمن ثم نسِخنَ بخمسٍ معلومات، فتوفي رسول الله وهن مما يقرأ من القرآن» الحديث.
أخبرنا سفيان، عن يحيى بن سعبد، عن عمرة، عن عائشة ﵂
ألها قالت: «نزل القرآن بعشر رضعات معلومات يحرمن، ثم صُيِّرن إلى خمسٍ
يحرمن، فكان لا بدخل على عائشة إلا من استكمل خمس رضعات» الحديث.
الأم (أيضًا): باب (رضاعة الكبير:
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: والدلالة على الفرق بين - رضاعة - الصغير
والكبير موجودة في كتاب الله، قال الله تعالى: (وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ) الآية، فجعل اللَّه ﷿ تمام الرضاع حولين كاملين، وقال: (فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَ) الآية، يعني - والله أعلم -: قبل الحولين.
فدلَّ على أن إرخاصه في فصال الحولين، على أن ذلك إنَّما يكون
باجتماعهما على فصاله قبل الحولين، وذلك لا يكون - والله أعلم - إلا بالنظر للمولود من والديه، أن يكون يربان أن فصاله قبل الحولين خير له من إتمام الرضاع له، لِعلَّةِ تكون به، أو بمرضعته، وأنه لا يقبل رضاع غيرها، أو ما أشبه ذلك.
١ / ٣٨١
الأم (أيضًا): الحجة على من خالفنا:
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: وخالفنا - من خالفنا - في النفقة فقال: إذا
مات الأب، أنفق على الصغير كل ذي رحم، يحرم عليه نكاحه من رجل أو
امرأة.
قلت له: فما حجتك في هذا؟
قال قول اللَّه ﵎: (وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ)
إلى قوله: (وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ) الآية.
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: قلت له: كان على الوارث مثل ذلك عندك
على جميع ما فرض الله ﵎ على الأب، والوارث يقوم في ذلك مقام
الأب؟ قال: نعم. فقلت: أوَجدتَ الأب ينفق ويسترضع المولود، وأمه وارث لا شيء عليها من ذلك؟ قال: نعم. قلت: أفيكون وارث غير أمه يقوم مقام أبيه، فينفق على أمه إذا أرضعته وعلى الصبي؟
قال: لا، ولكن الأم تنفق عليه مع الوارث.
قلنا: فأول ما تأولت تركت، قال: فإني أقول على الوارث مثل ذلك بعد
موت الأب، هي في الآية أن ذلك بعد موت الأب. قال: لا يكون له وارث
وأبوه حي.
قلنا: بلى، أمه، وقد يكون زمنًا مولودًا، فيرثه ولده لو مات، ويكون
على أبيه عندك نفقته، فقد خرجت مما تأولت.
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: فإن قال قائل: فإنا قد روينا من حديثكم، أن
عمر بن الخطاب ﵁ أجبر عصبة غلام على رضاعه، الرجال دون النساء.
قلنا: أفتأخذ بهذا؟ قال: نعم.
قلت: أفيختص العصبة وهم - الأعمام، وبنو الأعمام.
والقرابة من قبل الأب؛ قال: لا، إلا أن يكونوا ذوي رحم محرم.
قلنا: فالحجة
١ / ٣٨٢
عليك في هذا كالحجة عليك فيما احتججت به من القرآن، وقد خالفت هذا، قد يكون له بنو عم فيكونون له عصبة وورثة، ولا تجعل عليهم النفقة! وهم العصبة الورثة، وإن لم تجد له ذا رحم تركته ضائعًا؟!
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: فقال لي قائل: قد خالفتم هذا أيضًا.
قلنا: أما الأثر عن عمر ﵁ فنحن أعلم به منك، ليس تعرفه، ولو كان ثابتًا لم يخالفه ابن عباس ﵄ فكان يقول: (وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ)
الآية، على الوارث أن: (لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا) الآية.
وابن عباس ﵄ أعلم بمعنى كتاب اللَّه ﷿ منَّا، والآية محتملة على ما قال ابن عباس رضي اللَّه تعالى عنهما. ..
وقد فرض الله ﷿ نفقة المطلقات ذوات الأحمال، وجاءت السنة من ذلك بنفقة وغرامات تلزم الناس، ليس فيها أن يلزم الوارث نفقة الصبي وكل امرئ مالك لماله، وإنما لزمه فيه ما لزمه في كتاب، أو سنة، أو أثر، أو أمر مُجمَع عليه.
فأما أن تلزمه في ماله ما ليس في واحد من هذا، فلا يجوز لنا، فإن كان التأويل كما وصفنا، فنحن لم نخالف منه حرفًا، وإن كان كما وصفت فقد خالفته خلافًا بينًا.
الأم (أيضًا): باب (الاختلاف في العيب):
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: حدَّد اللَّه تعالى الرضاع بالسنين، فقال ﷿: (حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ) الآية.
مختصر المزني: مختصر ما يحرم من الرضاع:
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: وكذلك أبان - اللَّه تعالى - أن المراد بتحريم
الرضاع: بعض المرضعين دون بعض، واحتج فيما قال النبي ﷺ لسهلة بنت
١ / ٣٨٣
سُهيل لما قالت له: كنا نرى سالمًا ولدًا، وكان يدخل عليّ وأنا فُضُل، وليس لنا إلا بيت واحد، فما تأمرني؟
فقال: ﵊ فيما بلغنا:
أرضعيه خمس رضعات فيحرم بلبنها»، ففعلت، فكانت تراه ابنًا من الرضاعة، فأخذت بذلك عائشة ﵂ فيمن أحبَّت أن يدخل عليها من
الرجال، وأبى سائر أزواج النبي ﷺ أن يدخل عليهن بتلك الرضاعة أحد من الناس، وقلن: ما نرى الذي أمر به ﷺ إلا رخصة لسالم وحده.
وروى الشَّافِعِي ﵀: أن أم سلمة قالت في الحديث: هو لسالم خاصة.
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: فإذا كان خاصّا، فالخاص مُخرج من العام.
والدليل على ذلك قول اللَّه جل ثناؤه: (حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ) الآية، فجعل الحولين غاية، وما جُعل له غاية، فالحكم بعد مضي
الغاية خلاف الحكم قبل الغاية.
الرسالة: باب (الاستحسان):
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: فإن قال قائل، فاذكر من وجوه القياس ما
يدل على اختلافه في البيان والأسباب، والحجة فيه، سوى هذا الأول الذي
تدرك العامة علمه؟
١ / ٣٨٤
قيل له: إن شاء اللَّه، قال الله تعالى: (وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ)
الآية، وقال سبحانه: (وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ) الآية.
فأمر رسول الله ﷺ هند بنت عتبة، أن تأخذ من مال زوجها أبي سفيان ما يكفيها وولدها - وهم ولده - بالمعروف، بغير أمره.
قال: فدلّ كتاب الله، وسنة نبيه ﷺ أن على الوالد رضاع ولده ونفقتهم صغارًا، فكان الولد من الوالد، فجُبر على صلاحه في الحال التي لا يغني الولد فيها نفسه، فقلت: إذا بلغ الأب ألَّا يغني نفسه بكسب ولا مال، فعلى ولده صلاحه في نفقته وكسوته، قياسًا على الولد، وذلك أن الولد من الوالد، فلا يُضيِّع شيئًا هو منه، كما لم يكن للوالد أن يضيع شيئًا من ولده، إذ كان الولد منه، وكذلك الوَالِدُونَ وإن بَعُدُوا، والولد وإن سَفَلوا، في هذا المعنى - والله أعلم -.
فقلت: ينفق على كل محتاج منهم غير محترف، وله النففة على الغني
المحترف.
أحكام القرآن: ما يؤثر عنه - الشَّافِعِي - في العدة وقي الرضاع وفي النفقات:
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: في قول الله ﷿:
(وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ) الآية.
من ألا تضارً والدة بولدها، لا أن عليها الرضاع.
١ / ٣٨٥
قال الله ﷿: (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (٢٣٤)
الأم: المدعي والمدعى عليه:
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: وفرض اللَّه ﷿ العدة على الزوجة في الوفاة فقال: (يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا) الآية.
الأم (أيضًا): ما يُحَمث من انكاح العبيد:
قال الشَّافِعِي ﵀: وقال ﷿ في المعتدات: (فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ) الآية، وقال رسول الله ﷺ: «الأيم أحق بنفسها من وليها، والبكر تستأذن في نفسها» الحديث، مع ما سوى ذلك. ودلَّ الكتاب والسنة على أن المماليك لمن ملكهم، وأنههم لا يملكون من أنفسهم شيئًا.
ولم أعلم دليلًا على إيجاب إنكاح صالحي العبيد والإماء كما وجدت الدلالة
على إنكاح الحر إلا مطلقًا، فأحبّ إليَّ أن يُنكح من بلغ من العبيد والإماء، ثم صالحوهم خاصة، ولا يتبين لي أن يُجبَر أحد عليه، لأن الآية محتملة أن يكون أريد به الدلالة، لا الإيجاب.
١ / ٣٨٦
الأم (أيضًا): الفرقة بين الأزواج بالطلاق أو الفسخ:
قال الشَّافِعِي ﵀: وقلت: في قول الله ﷿ في المتوفى عنها زوجها:
(فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ)
هذا إذا قضين أجلهن والكلام فيهما واحد. ..
قال الشَّافِعِي ﵀: فقلت له (بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ): يحتمل قاربن البلوغ
وبلغن: فرغن مما عليهن - من العدة - فكان سياق الكلام في الآية دليل على هذا.
الرسالة: في العدد:
قال الشَّافِعِي ﵀: قال الله: (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا) الآية.
فقال بعض أهل العلم: قد أوجب اللَّه على المتوفى عنها زوجها أربعة أشهر
وعشرًا، وذكر أن أجل الحامل أن تضع، فإذا جمعت أن تكون حاملًا متوفى عنها، أتت بالعدتين معًا، كما أجدها في كل فرضين جعلا عليها، أتت بهما معًا.
قال الشَّافِعِي ﵀: فلما قال رسول الله ﷺ لسبيعة بنت الحارث، ووضعت بعد وفاة زوجها بأيام: «قد حللت فتزوجي» الحديث.
دلَّ هذا على أن العدة في الوفاة، والعدة في الطلاق بالأقراء والشهور، إنما أريد به من لا حمل به من النساء، وأن الحمل إذا كان فالعدة سواه ساقطة.
١ / ٣٨٧
الرسالة (أيضًا): فيما تُمسك عنه المعتدة من الوفاة:
قال الشَّافِعِي ﵀: - قال الله: (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ) إلى قوله: (وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) الآية.
فذكر اللَّه ﷿ أن على المتوفى عنهن عدة، وأنهن إذا بلغنها فلهن أن يفعلن في أنفسهن بالمعروف، ولم يذكر. شيئًا تجتَنبه في العدة.
فكان ظاهر الآية أن تمسك المعتدة في العدة عن الأزواج ففط، مع إقامتها في
بيتها بالكتاب، وكانت تحتمل أن تمسك عن الأزواج، وأن يكون عليها في الإمساك عن الأزواج إمساك عن غيره، مما كان مباحًا لها قبل العدة من طيب وزينة.
فلما سنَّ رسول الله ﷺ على المعتدة من الوفاة الإمساك عن الطيب وغيره.
كان عليها الإمساك عن الطيب وغيره بفرض السنة، والأمساك عن الأزواج، والسكنى في بيت زوجها بالكتاب ثم السنة.
واحتملت السنة في هذا الموضع ما احتملت في غيره، من أن تكون السنة
بينت عن اللَّه كيف إمساكها؛ كما بينت الصلاة والزكاة والحج، واحتملت أن يكون رسول الله ﷺ سنَ فيما ليس فيه نص حكم لله.
الرسالة (أيضًا): باب (الاختلاف):
قال الشَّافِعِي ﵀: وقال اللَّه تعالى: (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا) الآية.
فقال بعض أصحاب رسول الله ﷺ: ذكر اللَّه المطلقات، أن عدة الحوامل أن يضعن حملهن، وذكر في المتوفى عنها أربعة أشهر وعشرًا.
١ / ٣٨٨
وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (٢٣٤)
فعلى الحامل المنوفى عنها أن تعتد أربعة أشهر وعشرًا، وأن تضع حملها.
حتى تأتي بالعدتين معًا، إذ لم يكن وضع الحمل انقضاء العدة نصًا إلا في
الطلاق، كاله يذهب إلى أن وضع الحمل براءة، وأن الأربعة أشهر وعشرًا
تعبد، وأن المتوفى عنها تكون غير مدخول بها، فتأتي بأربعة أشهر، وأنه
وجب عليها شيء من وجهين، فلا يسقط أحدهما، كما لو وجب عليها حقان لرجلين، لم يسقط أحدهما حق الآخر.
وكما إذا نكحت في عدتها، وأصيبت، اعتدت من الأول، واعتدت من الآخر.
قال: - أي الشَّافِعِي ﵀ وقال غيره من أصحاب رسول الله ﷺ:
إذا وضعت ذا بطنها فقد حلَّت، ولو كان زوجها على السرير.
قال الشَّافِعِي ﵀: فكانت الآية محتملة المعنيين معًا، فكان أشبههما
بالمعقول الظاهر أن يكون الحمل انقضاء العدة.
وقال: فدلَّت سنة رسول الله ﷺ على أن وضع الحمل آخر العدة في الموت، مثلُ معناه الطلاق.
أخبرنا سفيان، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله، عن أبيه: أن سبيعة
الأسلمية وضعت بعد وفاة زوجها بليال، فمر بها أبو السنابل بن بَعْكَك، فقال: قد تصنعت للأزواج! إنها أربعة أشهر وعشرًا!
فذكرت ذلك سبيعة لرسول اللَّه ﷺ؟
١ / ٣٨٩
فقال: «كذب أبو السنابل»، أو: «لَيسَ كما قال أبو السنابل».
«قد حللت فتزوجي» الحديث.
* * *
قال الله ﷿: (وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا)
الأم: باب (التعريض بالخطبة):
أخبرنا الربيع بن سليمان قال:
أخبرنا الشَّافِعِي ﵀ هال: قال الله ﷿: (وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ الآية.
قال الشَّافِعِي ﵀: وبلوغ الكتاب أجله - والله تعالى أعلم - انقضاء
العدة، قال: فبين في كتاب اللَّه تعالى، أنَّ الله فرَّق في الحكم بين خلقه، بَين
أسباب الأمور، وعقد الأمور، وبين إذ فرّق الله - تعالى ذكره - بينهما أن ليس لأحد الجمع بينهما، وألا يفسد أمر بفساد السبب إذا كان في عقد الأمر صحيحًا، ولا بالنية في الأمر، ولا تفسد الأمور إلا بفساد إن كان في عقدها، لا بغيره، ألا ترى أن الله حرّم أن يعقد النكاح حتى تنقضي العدة، ولم يحرم
١ / ٣٩٠
التعريض بالخطبة في العدّة، ولا أن يذكرها وينوي نكاحها بالخطبة لها والذكر
لها، والنية في نكاحها سبب النكاح. ..
وبذلك قلنا: لا نجعل التعريض أبدًا يقوم مقام التصريح في شيء من
الحكم؛ إلا أن يريد المعرِّض التصريح، وجعلناه فيما يشبه الطلاق من النية
وغيره فقلنا: لا يكون طلاقًا إلا بإرادته، وقلنا: لا نحدُّ أحدًا في تعريض إلا
بإرادة التصريح بالقذف.
قال الشَّافِعِي ﵀: قول الله ﵎: (وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا)
الآية، يعني - والله تعالى أعلم -: جماعًا.
(إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا الآية: قولًا حسنًا لا فحش فيه.
الأم (أيضًا): اللعان:
قال الشَّافِعِي ﵀: وقد قال الله ﵎ في المعتدة: (وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ) إلى: (وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا)
الآية، فأحل - الله - التعريض بالخطبة، وفي إحلاله إياها تحريم التصريح، وقد قال الله ﵎ في الآية: (وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا) والسر: الجماع، واجتماعهما على العدة، بتصريح العقدة، بعد انقضاء العدة، وهو تصريح باسم نُهِيَ عنه، وهذا قول الأكثر من أهل مكة وغيرهم من أهل البلدان في التعريض.
وأهل المدينة فيه مختلفون، فمنهم من قال بقولنا، ومنهم من حد في التعريض.
وقال الشَّافِعِي ﵀: السر: الجماع.
قال امرؤ القيس:
١ / ٣٩١
ألا زَعَمت بَسبَاسَةُ اليومَ أنني ... كَبرتُ وأن لا يحسِن السّر أمثاِلي
كذبتِ لَقد أُصبي على المرءِ عِرْسَهُ ... وأمنَعُ عِرْسِي أن يُزَنَّ بها الخَالِي
وقال جرير يرثي امرأته:
كَانَت إدِا هَجَرَ الخَلِيلُ فِرَاشَها ... خُزِنَ الحديثُ وعَفَّتِ الأسرارُ
قال الشَّافِعِي ﵀: فإذا علم أن حديثها مخزون، فخزن الحديث: ألا
يباح به سرًّا ولا علانية، فإذا وصفها بهذا، فلا معنى للعفاف غير الأسرار.
والأسرار: الجماع.
الأم (أيضًا): باب (التعريض في خطبة النكاح):
أخِبرنا الربيع قال:
قال الشَّافِعِي وص الله تعالى: قال اللَّه ﷿: (وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ) الآية.
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: أخبرنا مالك، عن عبد الرحمن بن القاسم.
عن أبيه أنَّه كان يقول في قول اللَّه ﷿: (وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ)
١ / ٣٩٢
أن يقول الرجل للمرأة وهي في عدتها من وفاة زوجها:
إئك على لكريمة، وإني فيك لراغب، فإنّ اللَّه لسائق إليك خيرًا ورزقًا، ونحو هذا من القول.
قال الشَّافِعِي ﵀: كتاب اللَّه يدل على أنَّ التعريض في العدّة جائز، لما
وقع عليه اسم التعريض، إلا ما نهى الله ﷿ عنه من السر، وقد ذكر القاسم بعضه، والتعريض كثير واسع جائز كله، وهو خلاف التصريح؛ وهو ما يعرض به الرجل للمرأة، مما يدلّها على أنَّه أراد به خطبتها بغير تصريح، والسر الذي نهى الله عنه - واللَّه أعلم - يجمع بين أمرين، أنَّه ئصريح، والتصريح خلاف التعريض، وتصريح بحماع وهذا كأقبح التصريح.
فإن قال قائل: ما دل على أن السر الجماع؟
قيل: فالقرآن كالدليل عليه إذ أباح التعريض، والتعريض عند
أهل العلم جائز سرًا وعلانية، فإذا كان هذا فلا يجوز أن يتوهم أن السرَّ سر
التعريض، ولا بدّ من معنى غيره، وذلك من معنى غيره، وذلك المعنى:
الجماع. . . ثم ذكر بيتي امرؤ القيس وبيت جرير.
وقد سبق ذكرهم في الفقرة السابقة مع التعليق من الشَّافِعِي ﵀ بعد
الأبيات الذكورة.
الأم (أيضًا): الفرقة بين الأزواج بالطلاق أو الفسخ:
قال الشَّافِعِي ﵀: قال اللَّه تعالى ذكره في التوفى - عنها زوجها -، في
قوله: (وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ) الآية.
حتى تنقضي عدّتها فيحلّ نكاحها. ..
ثم ذكر حديث ركانة، وعدة آثار في ذلك.
١ / ٣٩٣
الأم (أيضًا): ما جاء في أمر النكاح:
قال الشَّافِعِي ﵀: قال اللَّه ﷿: (وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ) الآية، فلا يأمر بألَّا يمنع من النكاح من قد منعها منه، إنما يأمر بألَّا يمتنع مما أباح لها من هو سبب من منعها.
قال الشَّافِعِي ﵀: وقد حفظ بعض أهل العلم أنَّ هذه الآية نزلت
في معقل بن يسار. ..
قال الشَّافِعِي ﵀: وفي هذه الآية دلالة على أن النكاح يتم برضا
الولي مع المزوج والمزوَّجَة، وهذا موضوع في ذكر الأولياء، والسنة تدل على ما يدل عليه القرآن، من أن على ولي الحرة أن يُنكحها.
مختصر المزني: باب (حد القذف):
قال الشَّافِعِي ﵀: ولا حد في التعريض، لأن اللَّه تعالى أباح التعريض
فيما حَرُم عقده فقال: (وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ)
الآية، وقال تعالى: (وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ)
الآية، فجعل التعريض مخالفًا للتصريح، فلا يحذ إلا بقذف صريح.
١ / ٣٩٤
قال الله ﷿: (لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ (٢٣٦)
الأم: باب (صلاة المسافر):
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: قال اللَّه ﷿: (لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً) الآية، رخصة لا أن حتمًا عليهم أن يطلقوهن في هذه الحال.
الأم (أيضًا): كتاب (الصدَاق):
قال الشَّافِعِي ﵀: واستدللنا بقول الله ﷿: (لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ) الآية، أن عقد النكاح يصح بغير فريضة صداق، وذلك أن الطلاق لا يقع إلا على من عقد نكاحه، وإذا جاز أن يعقد النكاح بغير مهر فيثبت فهذا دليل على الخلاف بين النكاح والبيوع، والبيوع لا تنعقد إلا بثمن
١ / ٣٩٥
معلوم، والنكاح ينعقد بغير مهر، استدللنا على أن العقد بصح بالكلام به، وأن الصداق لا يفسد عقده أبدًا.
الأم (أيضًا): كتاب (الشغار):
قال الشَّافِعِي ﵀: ويقال له - أي: للمحاور -: إنما أجزنا النكاح بغير
مهر لقول اللَّه ﷿: (لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً) الآية، فلما أثبت الله ﷿ الطلاق، دلَّ ذلك على أن النكاح ثابت؛ لأن الطلاق لا يقع إلا من نكاح ثابت، فأجزنا النكاح بلا مهر، ولما أجازه
﷾ بلا مهر، كان عقد النكاح على شيئين، أحدهما: نكاح، والآخر: ما يملك بالنكاح من المهر، فلما جاز النكاح بلا مِلك مهر فخالف البيوع، وكان فيه مهر مثل المرأة إذا دخل بها.
الأم (أيضًا): المهر الفاسد:
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: فإن قال فائل: من أين أجزت هذا في النكاح.
ورددته في البيوع، وأنت تحكم في عامة النكاح أحكام البيوع؟!
قيل: قال اللَّه ﷿: (لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ) إلى: (وَمَتِّعُوهُنَّ) الآية.
وقال ﵎: (وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ) الآية، فأعلم الله تعالى في
المفروض لها أنَّ الطلاق يقع عليها، كما أعلم في التي لم يُفرض لها، أن الطلاق يقع عليها، والطلاق لا يقع إلا على زوجة، والزوجة لا تكون إلا ونكاحها
١ / ٣٩٦
ثابت، قال: ولم أعلم مخالفًا مضى، ولا أدركته في أن النكاح يثبت وإن لم يسم مهرًا، وأن لها إن طُلّقت وقد نكحت ولم يسمً مهرًا (المتعة)، وإن أصيبت فلها مهر مثلها، فلما كان هذا كما وصفت، لم يجز أبدًا أن "يفسد النكاح من جهة المهر بحالٍ أبدًا.
الأم (أيضًا): اللعان:
قال الشَّافِعِي ﵀: وقال الله ﷿: (لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ) الآية، فكان هذا عامًّا للأزواج والنساء، لا يخرج منه زوج مسلم، حر ولا عبد، ولا ذمي حر ولا عبد، فكذلك اللعان لا يخرج منه زوج ولا زوجة.
الأم (أيضًا): باب (المتعة):
قال الشَّافِعِي ﵀: أخبرنا مالك، عن نافع، عن ابن عمر رضي اللَّه
عنهما أنَّه كان يقول: لكل مطلقة متعة، إلا التي تطلق وقد فرض لها الصداق ولم تُمسَّ، فحَسبُها ما فُرضِ لها.
قال الشَّافِعِي ﵀: أخبرنا مالك، عن القاسم بن محمد مثله.
قال الشَّافِعِي ﵀: أخبرنا مالك، عن ابن شهاب أنه كان يقول: لكل
مطلقة متعة، فقلت للشافعى: فإئا نقول خلاف قول ابن شهاب، لقول ابن عمر ﵄.
١ / ٣٩٧
قال الشَّافِعِي ﵀: فبقول ابن عمر ﵄ قلتم، وأنتم
تخالفونه؟ قال: فقلت للشافعي وأين؛ قال زعمتم أن ابن عمر ﵄ قال: لكلّ مطلقة متعة إلا التي فرض لها ولم تمس فحسبها نصف الصداق.
وهذا يوافق القرآن فيه، وقوله فيما سواها من المطلقات أن لها متعة: يوافق القرآن لقول اللَّه جل ثناؤه: (لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ) الآية.
وقال الله جل ذكره: (وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ) الآية، فكذلك المختلعات ومن سمينا منهن مطلقات، لهن المتعة في كتاب اللَّه.
ثم قول ابن عمر، ﵄ واللَّه أعلم -.
مختصر المزني: الصداق: مختصر من الجامع من كتاب (الصداق)
قال الشَّافِعِي ﵀: ذكر اللَّه الصداق والأجر في كتابه: وهو المهر، قال
الله تعالى: لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً) الآية، فدلُّ أن عقدة النكاح بالكلام، وأن تركَ الصداق لا يفسدها، فلو عقد بمجهول، أو بحرام، ثبت النكاح، ولها مهر مثلها.
الرسالة: صفة نهي الله ونهي رسوله ﷺ:
قال الشَّافِعِي ﵀: ولو سمى صَدَاقًا كان أحبُّ إليَّ، ولا يفسد
النكاح بترك تسمية الصداق، لأن اللَّه أثبت النكاح في كتابه بغير مهر، وهذا مكتوب في غير هذا الموضع.
وسواء في هذا، المرأة الشريفة والدنية؛ لأن كل واحد منهما، فيما يَحِل به
ويحرم، ويجب لها وعليها، من الحلال والحرام والحدود سواء.
١ / ٣٩٨
قال الله ﷿: (وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٢٣٧)
الأم: بلوغ الرشد وهو الحجر:
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: قال الله ﷿: (وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٢٣٧) .
فدلت هذه الآية على أن على الرجل أن يسلم إلى المرأة نصف مهرها، كلما كان عليه أن يسلم إلى الأجنبيين من الرجال
ما وجب لهم، ودلَّت السنة على أن المرأة مسلطة على أن تعفو من مالها، وندب اللَّه ﷿ إلى العفو، وذكر أنَّه أقرب للتقوى، وسوى بين المرأة والرجل فيما يجوز من عفو كل واحد منهما ما وجب له، يجوز عفوه إذا دفع المهر كله، وكان له أن يرجع بنصفه، فعفاه جاز، لماذا لم يدفعه، فكان لها أن تأخذ نصفه، فعفته جاز، لم يفرق بينهما في ذلك.
١ / ٣٩٩
الأم (أيضًا): باب (الخلاف في الحجر
قال الشَّافِعِي ﵀: قال الله ﷿: (وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ) الآية، لا يرجع إلا بنصف ما أعطاها دنانير كانت أو غبرها؛ لأنَّه لا يوجب عليها أن تجهز إلا أن تشاء، وهو معنى قول الله ﵎: (فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ) الآية.
الأم (أيضًا): باب من قال: (لا يورث أحد حتى يموت):
قال الشَّافِعِي ﵀: وقلت له (أي: للمحاور): عبتم على من قال: قول عمر وعثمان ﵄ في امرأة المفقود، وقبلتم عن عمر ﵁ أنَّه قال: إذا أرخيت الستور وجب المهر والعدة، ورددتم على من تأوَّلَ الآيتين: وهما قول الله ﷿:
(وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ) الآية، وقوله: (فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا) الآية، وقد روي هذا عن ابن عباس وشريح.
وذهبنا إلى: أن الإرخاء والأغلاق لا يصنع شيئًا إنَّما يصنعه المسيس.
الأم (أيضًا): كتاب (الصْدَاق):
قال الشَّافِعِي ﵀: - بعد أن ساق الآيات في الصداق - فأمر الله
الأزواج: بأن يؤتوا النساء أجورهن، وصدقاتهن، والأجر: هو الصداق.
والصداق: هو الأجر والمهر، وهي كلمة عربية تسمى بعدة أسماء:
١ / ٤٠٠
- فيحتمل هذا أن يكون مأمورًا بصداق من فَرَضَه دون من لم يَفرضه، دخل أو لم يدخل؛ لأنَّه حق ألزمه المرء نفسه، فلا يكون له حبس شيء منه إلا بالمعنى الذي جعله الله تعالى له، وهو أن يطلق قبل الدخول، قال اللَّه ﵎: (وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ) الآية.
ويحتمل أن يكون يجب بالعفدة، وإن لم يُسم مهرًا، ولم يدخل.
- ويحتمل أن يكون المهر لا يلزم أبدًا، إلا بأن يُلزمه المرء نفسه، ويدخل
بالمرأة، وإن لم يُسم لها مهرًا.
فلما احتمل المعاني الثلاث كان أولاه أن بقال به، ما كانت عليه الدلالة
من كتاب، أو سنة، أو إجماع، واستدللنا بقول اللَّه ﷿:
(لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ) الآية.
ومن السنة قول الرسول ﷺ:
«أدُّو العلائق» قيل: وما العلائق يا رسول؟
قال: «ما نراضى به الأهلون» الحديث، ولا يقع اسم عَلَق إلا على شيء مما
يتمول وإن قل، ولا بقع اسم مال ولا علق إلا على ماله قيمة يتبايع بها، ويكون إذا استهلكها مستهلك أدى قيمتها وإن قلَّت. ..
قال الشَّافِعِي ﵀: فجعل اللَّه تعالى الفرض في ذلك للأزواج، فدلَّ
على أنَّه برضا الزوجة؛ لأن الفرض على الزوج للمرأة، ولا يلزم الزوج والمرأة إلا باجتماعهما، ولم يُحدَّد فيه شيء، فدل كتاب اللَّه ﷿ على أن الصداق ما تراضى به المتناكحان، كما يكون البيع ما تراضى به المتبايعان.
١ / ٤٠١
وكذلك دلّت سنة رسول الله ﷺ، فلم يجز في كل صداق مسمى إلا أن يكون ثمنًا من الأثمان.
الأم (أيضًا): التفويض:
قال الشَّافِعِي ﵀: لو عفون عنه - أي: المهر - وقد فُرض، جاز
عفوهن لقول الله ﷿: (إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ) الآية، والصغيرة لم تعف عن مهر، ولو عفت لم يجز عفوها، وإنَّما عفا عنها أبوها الذي لا عفو له في مالها، فألزمنا الزوج نصف مهر مثلها بالطلاق، وفرقنا بينهما لافتراق حالهما في مالهما.
الأم (أيضًا): ما جاء في عفو المهر:
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: قال اللَّه ﵎:
(وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً) الآية.
فجعل الله تعالى للمرأة فيما أوجب لها من نصف المهر أن تعفو، وجعل للذي يلي عقدة النكاح أن يعفو، وذلك أن يتمم لها الصداق فيدفعه إن لم يكن دفعه كاملًا، ولا يرجع بنصفه إن كان دفعه، وبيِّن - عندي - في الآية، أن الذي بيده عقدة النكاح: الزوج، وذلك أنه إنَّما يعفوه من له ما يعفوه، فلما ذكر اللَّه ﷿ عفوها مما ملكت من نصف
المهر أشبه أن يكون ذكر عفوه لما له من جنس نصف المهر - واللَّه تعالى أعلم -.
وحض تعالى على العفو والفضل فقال ﷿:
(وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ) الآية.
١ / ٤٠٢
وبلغنا عن علي بن أبي طالب ﵄ لأنَّه قال:
(الذي بيده عقدة النكاح: الز وج) .
وأخبرنا ابن أبي فديك، أخبرنا سعيد بن سالم، عن عبد اللَّه بن جعفر بن
المِسْوَر، عن واصل بن أبي سعيد، عن محمد بن جبير بن مطعمٍ، عن أبيه لأنه
تزوج امرأة ولم يدخل بها حتى طلقها، فأرسل إليها بالصداق تاما، فقيل له: في ذلك، فقال: أنا أولى بالعفو. الحديث.
أخبرنا عبد الوهاب، عن أيوب، عن ابن سيرين قال: الذي بيده عقدة
النكاح: الز وج الحديث.
أخبرنا سعيد، عن ابن جريج لأنَّه بلغه عن ابن المسيب لأنَّه قال: هو
الزوج. الحديث.
الأم (أيضًا): الخلاف في اللعان:
قال الشَّافِعِي ﵀: في قول الله ﷿:
(وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ) الآية.
فزعمنا نحن وأنتم: أنها على الأزواج عامة، كانوا مماليك، أو أحرارًا، عندهم مملوكة، أو حرة، أو ذمية.
الأم (أيضًا): باب إلا عدة على التي لم يدخل بها زوجها):
قال الشَّافِعِي ﵀: أخبرنا مسلم بن خالد، عن ابن جريج، عن ليث
ابن أبي سليم، عن طاووس، عن ابن عباس ﵄ أنه قال في الرجل
١ / ٤٠٣
يتزوج المرأة فيخلو بها ولا يمسها، ثم يطلقها: ليس لها إلا نصف الصداق؛ لأن اللَّه ﷿ يقول: (وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ) الآية، وبهذا أقول، وهو ظاهر كتاب الله عز ذكره.
الأم (أيضًا): الطلاق الذي تُملَك فيه الرجعة:
قال الشَّافِعِي ﵀: ومثل الرجل يُغرُّ بالمرأة، فيكون له الخيار، فيختار
فراقها فذلك فسخ بلا طلاق، ولو ذهب ذاهب إلى أن يكون طلاقًا لزمه أن
يجعل للمرأة نصف المهر، الذي فرض لها إذا لم يمسها؛ لأن الله ﵎
يقول: (وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ) الآية.
الأم (أيضًا): كتاب (اللعان)
قال الشَّافِعِي ﵀: قال اللَّه ﷿: (وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ) إلى قوله: (إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ)
الآية. فأبان - اللَّه - في هذه الآية وغيرها أن الحقوق لأهلها.
الأم (أيضًا): المدّعى والمدَّعَى عليه:
قال الشَّافِعِي ﵀: وأخبرنا مالك، عن نافع، عن ابن عمر رضي اللَّه
عنهما أنَّه قال: لكل مطلقة متعة، إلا التي فُرضِ لها صداق ولم يدخل بها.
فحسبها نصف المهر.
١ / ٤٠٤
قال الشَّافِعِي ﵀: وأحسب ابن عمر ﵄ استدل بالآية
التي قال: تتبع للتي لم يدخل بها، ولم يفرض لها؛ لأن اللَّه يقول بعدها: (وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ)
الآية، فرأيُ القرآن كالدلالة على أنها مخرَّجَة من جميع المطلقات.
الأم (أيضًا): باب في (إرخاء الستور):
قال الشَّافِعِي ﵀: أخبرنا مالك، عن يحيى بن سعيد، عن ابن المسيب.
أن عمر بن الخطاب ﵁ قضى في المرأة يتزوجها الرجل، أنَّها إذا أرخيت الستور فقد وجب الصداق.
وقال: أخبرنا مالك، عن ابن شهاب، أن زيد بن ثابت قال: إذا دخل
بأمرأته فأرخيت الستور فقد وجب الصداق.
قال الشَّافِعِي ﵀: ورُوي عن ابن عباس، وشريح: أن لا صداق إلا
بالمسيس، واحتجا أو أحدهما بقول اللَّه تعالى: (وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ) الآية، بهذا.
قال بهذا ناس من أهل الفقه، فقالوا: لا يُلتفت إلى الإغلاق وإنَّما يجب
المهر كاملًا بالمسيس، والقول في المسيس: قول الزوج.
وقال غيرهم: يجب المهر بإغلاق الباب وإرخاء الستور، ورُوي ذلك عن
عمر بن الخطاب ﵁، وأن عمر ﵁ قال: وما ذنبهن؟ إن جاء العجز من قبلكم.
فخالفتم ما قال ابن عباس وشريح، وما ذهبا إليه من تأويل الآيتين، وهما: قول اللَّه ﵎: (وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ) الآية، وقوله:
١ / ٤٠٥
(ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا) الآية.
وخالفتم ما رويتم عن عمر، وزيد، وذلك أن نصف المهر
يجب بالعقد، ونصفه الثاني بالدخول.
الأم (أيضًا): باب (نكاح الولاة والنكاح بالشهادة):
قال الشَّافِعِي ﵀: فالنكاح يثبت بأربعة أشياء، الولي، ورضا
المنكوحة، ورضا الناكح، وشاهدي عدل، إلا ما وصفنا من البكر يزوجها الأب، والأمة يزوجها السيد، بغير رضاهما، فإنهما مخالفان ما سواهما.
وقد تأول فيها بعض أهل العلم قول اللَّه ﷿: (أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ) الآية.
وقال: الأب في ابنته البكر، والسيد في أمته، وقد خالفه
غيره فيما تأول، وقال: هو الزوج يعفو فيدع ماله من أخذ نصف المهر، وفي الآية كالدلالة على أن الذي بيده عقدة النكاح هو: الزوج - والله سبحانه أعلم -.
مختصرالمزني: لا عدة على التي لم يدخل بها زوجها:
قال الشَّافِعِي ﵀: قال الله تعالى: (وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ) الآية، قال: والمسيس: الإصابة، وقال ابن عباس وشريح وغيرهما:
لا عدة عليها إلا بالإصابة بعينها؛ لأن الله تعالى قال هكذا.
قال الشَّافِعِي ﵀: وهذا ظاهر القرآن.
١ / ٤٠٦
أحكام القرآن: ما يؤثر عنه - الشافعى - في النكاح والصداق وغير ذلك:
قال الشَّافِعِي ﵀: في قوله ﷿: (إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ) الآية، يعني: النساء.
وفي قوله تعالى: (أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ) الآية، يعني:
الزوج، وذلك أنَّه إنَّما يعفو من له ما يعفوه، ورواه عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ﵁، وجبير بن مطعم، وابن سيرين، وشريح، وابن المسيب، وسعيد ابن جبير، ومجاهد - رحمهم اللَّه تعالى -.
وقال البيهقي ﵀: وقد حمل - الشَّافِعِي - المسيس المذكور في قوله: (وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ) الآية.
على الوطء، ورواه عن ابن عباس ﵄، وشريح - رحمه اللَّه تعالى -.
* * *
قال الله ﷿: (حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ (٢٣٨)
الأم: باب (ألا تقضى الصلاة حائض):
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: قال اللَّه ﵎: (حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ) الآية، فلما لم يرخص رسول اللَّه ﷺ في أن تؤخر الصلاة في الخوف، وأرخص أن يصليها المصلي كما أمكنه،
١ / ٤٠٧
راجلًا، أو راكبًا، وقال: (إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا (١٠٣) .
قال الشَّافِعِي ﵀: وكان من عقل الصلاة من البالغين عاصيًا بتركها.
إذا جاء وقتها وذكرها، وكان غير ناسٍ لها، وكانت الحائض بالغة عاقلة ذاكرة للصلاة مطيقة لها، فكان حكم اللَّه ﷿: لا يقربها زوجها حائضًا، ودل حكم رسول الله ﷺ على أنَّه إذا حَرُم على زوجها أن يقربها للحيض، حَرُم عليها أن
تصلي، كان في هذا دلائل على أن: فرض الصلاة في أيام الحيض زائل عنها، فإذا زال عنها وهي ذاكرة عافلة مطيقة، لم يكن عليها قضاء الصلاة، وكيف تقضي ما ليس بفرض عليها، بزوال فرضه عنها، وهذا مما لا أعلم فيه مخالفًا.
الأم (أيضًا): باب (صلاة المريض):
قال الشَّافِعِي ﵀: قال اللَّه ﷿: (حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ) الآية.
فقيل - واللَّه وأعلم -: قانتين: مطيعين.
وأمر رسول الله ﷺ بالصلاة قائمًا.
قال الشَّافِعِي ﵀: وإذا خوطب بالفرائض من أطاقها، فإذا كان المرء
مطيقًا للقيام في الصلاة لم يجزه إلا هو، إلا عندما ذكرت من الخوف، وإذا لم يطق القيام: صلى قاعدًا، وركع وسجد إذا أطاق الركوع والسجود - وإلا أومأ بالركوع والسجود إيماء -.
مختصر المزني: باب (الإسفار والتغليس با لفجر):
حدثنا الربيع قال:
١ / ٤٠٨
أخبرنا الشَّافِعِي قال: أخبرنا سفيان، عن - محمد بن عجلان، عن عاصم بن
عمر بن قتادة، عن محمود بن لبيد، عن رافع بن خديج، أن رسول الله ﷺ قال:
أسفروا بالصبح فإن ذلك أعظم لأجوركم» أو قال: «للأجر» الحديث.
أخبرنا الربيع قال:
أخبرنا الشَّافِعِي قال: أخبرنا سفيان عن الزهري، عن عروة، عن عائشة
﵂ قالت: «كن نساء من المؤمنات يصلين مع النبي ﷺ وهن متلفعات بمروطهن، ثم يرجعن إلى أهلهن ما يعرفهن أحد من الغلس» الحديث.
قال: وروى زيد بن ثابت عن النبي ﷺ ما يوافق هذا، وروى مثله أنس بن مالك، وسهل بن سعد الساعدي عن النبي ﷺ.
قال الشَّافِعِي ﵀: فقلنا إذا انقطع الشك في الفجر الآخر وبان
معترضًا، فالتغليس بالصبح أحبُّ إلينا.
وقال بعض الناس: الإسفار بالفجر أحبُّ إلينا.
قال: وروي حديثان مختلفان عن رسول الله ﷺ، فأخذنا بأحدهما، وذكر حديث رافع بن خديج وقال: أخذنا به؛ لأنَّه كان أرفق بالناس، قال: وقال لي أرأيت إن كانا مختلفين فلِمَ صرت إلى التغليس؟
قلت: لأنّ التغليس أولاهما بمعنى كتاب اللَّه، وأثبتهما عند أهل الحديث، وأشبههما لمجمل سنن النبي ﷺ.
وأعرفهما عند أهل العلم قال: فاذكر ذلك، قلت: قال اللَّه تعالى: (حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى) الآية، فذهبنا إلى أنها الصبح، وكان أقل ما في
١ / ٤٠٩
الصبح إن لم نكن هي أن تكون مما أمرنا بالمحافظة عليه، فلما دلَّت السنة، ولم
يختلف أحد أن الفجر إذا بأن معترضًا فقد جاز أن يصلي الصبح، علمنا أن
مؤدي الصلاة في أول وقتها أولى بالمحافظة عليها من مؤخًرها، وقال رسول اللَّه ﷺ: «أول الوقت رضوان الله»
وسئل رسول الله ﷺ أي الأعمال أفضل؟
فقال: «الصلاة في أول وقتها»، ورسول الله ﷺ لا يؤثر على رضوان الله، ولا على أفضل الأعمال شيئًا.
قال الشَّافِعِي ﵀: ولم يختلف أهل العلم في امرئ أراد التقرب إلى الله
بشىء، يتعجله مبادرة ما لا يخلو منه الآدميون - من النسيان والشغل - ومقدم الصلاة أشد فيها تمكنًا من مؤخرها، وكانت الصلاة المقدمة من أعلى أعمال بني آدم، وأمرنا بالتغليس بها لما وصفناه.
قال: فأين أنَّ حديثك الذي ذهبت إليه أثبتهما؟
قلت: حديث عائشة، وزيد بن ثابت، وثالث معهما ﵃
عن النبي ﷺ بالتغليس أثبت من حديث رافع بن خديج وحده في أمره بالإسفار.
فإن رسول الله ﷺ لا يأمر بأن يُصلى صلاة في وقت ويصليها في غيره.
قال الشَّافِعِي ﵀: وأثبت الحجج وأولاها ما ذكرنا من أمر الله
بالمحافظة على الصلوات. ..
الرسالة: وجه أخر مما يعد مختلفًا وليس عندنا بمختلف:
قال الشَّافِعِي ﵀: وإن تقدم صلاة الفجر في أول وقتها عن أبي بكر.
وعمر، وعثمان، وعلي بن أبي طالب، وابن مسعود، وأبي موسى الأشعري، وأنس بن مالك وغيرهم - رضوان اللَّه عليهم - مثبت.
١ / ٤١٠
فقال - أي: المحاور - فإن أبا بكر، وعمر، وعثمان، دخلوا في الصلاة
مُغلسين، وخرجوا منها مسفرين، بإطالة القراءة؟
فقلت له: قد أطالوا القراءة وأوجزوها، والوقت في الدخول لا في الخروج
من الصلاة، وكلّهم دخل مُغلِّسًا، وخرج رسول الله ﷺ مُغلِّسًا.
فخالفت الذي هو أولى بك أن تصير إليه، مما ثبت عن رسول الله ﷺ.
وخالفتهم، فقلت: يدخل الداخل فيها مسفرًا، ويخرج مسفرًا، ويوجز القراءة، فخالفتهم في الدخول وما احتججت به من طول القراءة، وفي الأحاديث عن بعضهم أنَّه خرج منها مُغلسًا، قال - الشَّافِعِي -: فقال (أي: المحاور): أفتعد خبر رافع يخالف خبر عائشة؟ فقلت له: لا.
فقال: فبأي وجه يوافقه؟
فقلت: إن رسول الله ﷺ لما حض الناس على تقديم الصلاة، وأخبر بالفضل فيها.
احتمل أن يكون من الراغبين من يقدمها قبل الفجر الآخر، فقال:
أسفروا بالفجر» يعني: حتى يتبين الفجر الآخر معترضًا.
قال: أفيحتمل معنى غير ذلك؟.
قلت: نعم، يحتمل ما قلت، وما بين ما قلنا وقلتَ، وكل معنى يقع عليه
اسم الإسفار.
قال: فما جعل مَغناكم أولى من معنانا؟.
فقلتُ: بما وصفت من التأويل، وبأنّ النبي ﷺ قال: «هما فجران، فأما الذي كأنه ذنب السرحان فلا يحل شيئًا ولا يحرمه، وأما الفجر المعترض فيحل الصلاة وُيحرّم الطعام» الحديث، يعني: على من أراد الصيام.
١ / ٤١١
السنن المأثورة: باب ما جاء في (الجمع بين الصلاتين في المطر:
قال: حدثنا الشَّافِعِي ﵀ قال: أخبرنا مالك بن أنس، عن زيد بن
أسلم، عن القعقاع بن حكيم، عن أبي يونس مولى عائشة أم المؤمنين لأنَّه قال: أمرتني عائشة أم المؤمنين أن أكتب لها مصحفًا قالت: إذا بلغت هذه الآية فآذني: (حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى) الآية.
قال: فلما بلغتها آذنتها؛ فأملت علي: (حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر وقوموا لله فأنتين) الآية، قالت عائشة ﵂: سمعتها من رسول اللَّه ﷺ الحديث.
أحكام القرآن: فصل فيما يؤثر عنه - الشَّافِعِي - من التفسير والمعاني
والطهارات والصلوات:
قال الشَّافِعِي ﵀: في قوله تعالى: (وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى) الآية، فذهبنا
إلى أنها الصبح، وكان أقل ما في الصبح، إن لم تكن هي: أن تكَون مما أمرنا
بالمحافظة عليه.
وذكر - في رواية المزني، وحرملة رحمهما اللَّه - حديث أبي بونس مولى
عائشة ﵂ أنها أملت عليه: (حافظوا على الصلوات والصلاة
الوسطى، وصلاة العصر) ثم قالت: سمعتها من رسول الله ﷺ».
قال الشَّافِعِي ﵀: فحديث عائشة ﵂ يدلُّ على أن الصلاة
الوسطى، ليست صلاة العصر.
١ / ٤١٢
واختلف أصحاب رسول الله ﷺ فرُوي عن علي، وروي عن ابن عباس ﵃: أنَّها الصبح وإلى هذا نذهب.
ورُوي عن زيد بن ثابت الأنصاري «الظهر» وعن غيره: «العصر»
ورُوي فيه حديثًا عن النبي ﷺ.
قال البيهقي ﵀: وقرأت في كتاب السنن - رواية حرملة - عن
الشَّافِعِي ﵀، قال الله ﵎: (وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ) الآية.
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: من خوطب بالقنوت مطلقًا، ذهب إلى أنَّه:
قيام في الصلاة، وذلك أن القنوت: قيام لمعنى طاعة الله ﷿، وإذا كان هكذا: فهو موضع كف عن قراءة، وإذا كان هكذا: أشبه أن يكون قيامًا في صلاة - لدعاء لاقراءةِ.
فهذا أظهر معانيه، وعليه دلالة الستة، وهو أولى المعاني أن يقال به عندي
- والله أعلم -.
قال الشَّافِعِي ﵀: وقد يحتمل القنوت: القيام كلّه في الصلاة، وروي
عن عبد اللَّه بن عمر ﵄: "قيل: أي الصلاة؛ قال: طول القنوت الحديث.
وقال طاووس: القنوت طاعة اللَّه ﷿.
وقال الشَّافِعِي ﵀: وما وصفت من المعنى الأول أولى المعاني به -
واللَّه أعلم -.
قال: فلما كان القنوت بعض القيام دون بعض، لم يجز - والله أعلم - أن
يكون إلا ما دلّت عليه السنة، من القنوت للدعاء، دون القراءة.
قال: واحتمل قول اللَّه ﷿: (وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ) الآية، قانتين في الصلاة كلها، وفي بعضها دون بعض.
١ / ٤١٣
فلما قنت رسول الله ﷺ في الصلاة، ثم ترك القنوت في بعضها، وحفظ عنه القنوت في الصبح خاصة، ودل هذا على أنَّه إن كان اللَّه أراد القنوت: القنوت في الصلاة، فإنَّما أراد به خاصًا.
واحتمل أن يكون في الصلوات في النازلة، واحتمل طول القنوت: طول
القيام، واحتمل القنوت: طاعة اللَّه، واحتمل السكات.
قال الشَّافِعِي ﵀: ولا أرخص في ثرك القنوت في الصبح بحال: لأنَّه
إن كان اختيارًا - مندوبًا - من الله ومن رسوله ﷺ، لم أرخص في ترك الاختيار، وإن كان فرضًا: كان مما لا يتبين تركه.
ولو تركه تارك كان عليه أن يسجد للسهو، كما يكون ذلك عليه لو ترك الجلوس - الأوسط - في شيء.
قال الشيخ - أي البيهقي ﵀ في قوله: (احتمل السكات): أراد:
السكوت عن كلام الآدميين، وقد روينا عن زيد بن أرقم: «أنهم كانوا يتكلمون في الصلاة»، فنزلت هذه الآية، قال:
فنهينا عن الكلام، وأمرنا بالسكوت.
وروينا عن أبي رجاء العطاردي أنَّه قال: صلى بنا ابن عباس صلاة الصبح
- وهو أمير على البصرة - فقنت، ورفع يديه حتى لو أن رجلًا بين يديه لرأى بياض إبطَيه، فلما قضى الصلاة أقبل علينا بوجهه فقال: هذه الصلاة التي ذكرها اللَّه ﷿ في كتابه: (حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ (٢٣٨) الآية.
أخبرنا أبو علي الروذباري، أخبرنا إسماعيل الصفار، أخبرنا الحسن بن
الفضل بن السمح، حدثنا سهل بن تمام، أخبرنا أبو الأشهب، ومسلم بن زيد، عن أبي رجاء، فذكره، وقال: "قبل الركوع.
١ / ٤١٤
قال الله ﷿: (فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (٢٣٩)
الأم: باب (الأذان والإقامة للجمع بين الصلاتين والصلوات):
أخبرنا الربيع قال:
أخبرنا الشَّافِعِي ﵀ قال: أخبرني ابن أبي فديك، عن ابن أبي ذئب.
عن المقبري، عن عبد الرحمن - بن أبي سعيد، عن أبي سعيد الخدري ﵁ قال:
حبسنا يوم الخندق عن الصلاة حتى كان بعد المغرب يهُويِ من الليل حتى
كفينا، وذلك قول اللَّه ﷿: (وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا (٢٥)
فدعا رسول الله ﷺ بلالًا فأمره، فأقام الظهر فصلاها، فأحسن صلاتها، كما كان يصليها في وقتها، ثم أقام العصر فصلاها كذلك، ثم أقام المغرب فصلاها كذلك، ثم أقام العشاء فصلاها كذلك أيضًا.
قال: وذلك قبل أن ينزل الله تعالى في صلاة الخوف: (فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا)
الآية.
قال الشَّافِعِي ﵀: وبهذا كله نأخذ، وفيه دلالة على أن كل من جمع
بين صلاتين، في وقت الأولى منهما، أقام لكل واحدة منهما، وأذَّن للأولى، وفي الآخرة يقيم بلا أذان، وكذلك كل صلاة صلاها في غير وقتها كما وصفت.
١ / ٤١٥
الأم (أيضًا): باب (الحالين اللذين يجوز فيهما استقبال غير القبلة):
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: الحالان اللذان يجوز فيهما استقبال غير
القبلة، قال اللَّه ﷿: (وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ) إلى قوله: (فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ) الآية.
قال: فأمرهم اللَّه خائفين محروسين بالصلاة، فدل ذلك على أنه أمرهم بالصلاة للجهة التي وجههم لها من القبلة.
وقال الله ﷿: (حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى) إلى: (رُكبَانًا)
الآيتان، فدل إرخاصه في أن يصلوا رجالًا وركبانًا، على أن الحال التي أذن لهم فيها بأن يصلوا رجالًا وركبانًا من الخوف؛ غير الحال الأولى التي أمرهم فيها أن يحرس بعضهم بعضًا، فعلمنا أنَّ الخوفين مختلفان. ..
ودلَّت على ذلك السنَّة: أخبرنا مالك، عن نافع، أن عبد الله بن عمر رضي
الله عنهما كان إذا سئل عن صلاة الخوف قال: يتقدم الإمام وطائفة ثم قصّ
الحديث، وقال ابن عمر ﵄ في الحديث: فإن كان خوف أشد من ذلك، صلوا رجالًا وركبانًا، مستقبلي القبلة وغير مستقبليها.
قال مالك: قال عن نافع: ما أرى عبد اللَّه ذكر ذلك إلا عن رسول اللَّه
ﷺ الحديث.
وأخبرنا عن ابن أبي ذئب، عن الزهري، عن سالم، عن أبيه.
١ / ٤١٦
قال الشَّافِعِي ﵀: ولا يجوز في صلاة مكتوبة، استقبال غير القبلة إلا
عند إطلال العدو على المسلمين، وذلك عند المسايفة وما أشبهها، ودنو
الزحف من الزحف، فيجوز أن يصفوا الصلاة في ذلك الوقت رجالًا أو ركبانًا، فإن قدروا على استقبال القبلة، وإلا صلّوا مستقبلي - القبلة - حيث يقدرون.
وإن لم يقدروا على ركوع ولا سجود أومؤوا إيماء. . . ولا يجوز لهم في واحد من الحالين، أن يصفوا على غير وضوء ولا تيمم، ولا ينقصون من عدد الصلاة شيئًا. . . وسواء أيُّ عدو أطل عليهم كفار، أم لصوص، أم أهل بغي، أم سباع، أم فحول إبل، لأن كل ذلك يخاف إتلافه.
الأم (أيضًا): باب (ما ينوب الإمام في صلاة الخوف):
قال الشَّافِعِي ﵀: وأذن اللَّه ﵎ في صلاة الخوف بوجهين
أحدهما:
أحدهما: الخوف الأدنى وهو قول اللَّه ﷿: (وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ) .
والثاني: الخوف الذي أشذ منه وهو قول اللَّه ﵎: (فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا) الآية، فلما فرّق بينهما، ودلت السنة على افتراقهما، لم يجز إلا التفريق بينهما - واللَّه تعالى أعلم -، لأن اللَّه فرّق بينهما لا فتراق الحالين فيهما.
١ / ٤١٧
الأم (أيضًا): الوجه الثاني من صلاة الخوف:
قال الشَّافِعِي ﵀: قال اللَّه ﵎: (حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ (٢٣٨) فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا) الآيتان، فكان بينًا في كتاب الله ﷿: (فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا) الآية، أنَّ الحال التي أذن لهم فيها أن يصلوا رجالًا أو ركبانًا، غير الحال التي أمر بها نبيه ﷺ يصلِّي بطائفة.
ثم بطائفة، فكان بيّنا لأنَّه: لا يؤذن لهم بأن يصلّوا رجالًا أو ركبانًا إلا في خوف أشد من الخوف الذي أمرهم فيه بأن يصلِّي بطائفة ثم بطائفة.
مختصر المزني: باب (استقبال القبلة ولا فرض إلا الخمس):
قال الشَّافِعِي ﵀: ولا يجوز لأحد صلاة فريضة، ولا نافلة، ولا
سجود قرآن، ولا جنازة، إلا متوجهًا إلى البيت الحرام، ما كان يقدر على رؤيته، إلا في حالتين:
إحداهما: النافلة في السفر راكبًا، وطويل السفر وقصيره سواء، ورُوي عن
ابن عمر ﵄ أن رسول الله ﷺ كان يصلي على راحلته في السفر، أينما توجهت به، وأنَّه ﷺ كان يوتر على البعير، وأنّ عليًا ﵁ -كان يوتر على
الراحلة.
قال الشَّافِعِي ﵀: وفي هذا دلالة على أن الوتر ليس بفرض، ولا
فرض إلا الخمس لقول النبي ﷺ للأعرابي حين قال: هل عليَّ غيرها. فقال النبي ﷺ: «إلا أن تطوع».
الحالة الثانية: شدة الخوف لقول اللَّه ﷿: (فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا) الآية.
١ / ٤١٨
قال ابن عمر ﵄: مستقبلي القبلة وغير مستقبليها، فلا
يُصلَّى في غير هاتين الحالتين إلا إلى البيت إن كان معاينًا فبالصواب، وإن كان مغيبًا فبالاجتهاد بالدلائل على صواب جهة القبلة.
الرسالة: وجه آخر من الناسخ والمنسوخ:
قال الشَّافِعِي ﵀: بعد ذكر حديث أبي سعيد الخدري في حبسهم عن
الصلاة يوم الخندق، الحديث.
فلما حكى أبو سعيد أن صلاة النبي ﷺ عام الخندق، كانت قبل أن يُنزل
في صلاة الخوف: (فَرِجَالًا أو رُكبَانًا) الآية، استدللنا على أنه لم يصل صلاة
الخوف إلا بعدها، إذ حضرها أبو سعيد، وحكى تأخير الصلوات حتى خرج
من وقت عامتها، وحكى أنَّ ذلك قبل نزول صلاة الخوف.
قال الشَّافِعِي ﵀: فلا تؤخر صلاة الخوف بحال أبدًا عن الوقت إن
كانت في حضر، أو عن وقت الجمع في السفر، بخوف ولا غيره، ولكن تصلى كما صلى رسول الله ﷺ.
* * *
قال الله ﷿: (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٤٠)
الأم: باب (الوصية للزوجة):
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: قال اللَّه ﵎: (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ) الآية، وكان فرض الزوجة، أن
١ / ٤١٩
يوصي لها الزوج بمتاع إلى الحول، ولم أحفظ عن أحد خلافًا أن المتاع: النفقة، والسكنى، والكسوة إلى الحول، وثبت لها السكنى فقال: (غَير إِخرَاجٍ)، ثم قال: (فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ)
الآية، فدل القرآن على أنهن إن خرجن فلا جناح على الأزواج؛ لأنَّهن تركن ما فرض لهن، ودلَّ الكتاب العزيز إذا كان السكنى لها فرضًا فتركت حقها فيه، ولم يجعل الله تعالى على الزوج حرجًا، أن من ترك حقه غير ممنوع له، لم يخرج من الحق عليه.
ثم حفظت عمن أرضى من أهل العلم، أن نفقة المتوفى عنها زوجها
وكسوتها حولًا منسوخ بآية المواريث.
الأم (أيضًا): عدة الوفاة:
قال الشَّافِعِي ﵀: قال اللَّه ﷿: (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ) الآية، قال: حفظتُ عن غير واحد من أهل العلم بالقرآن، أن هذه الآية نزلت قبل نزول آية المواريث، وأنها منسوخة، وحفظت أنَّ بعضهم يزيد على بعض - فيما يذكر - مما أحكي من معاني قولهم، وإن كنت قد أوضحت بعضه بكثر مما أوضحوه به، وكان بعضهم يذهب إلى أنَّها نزلت مع الوصية للوالدين والأقربين، وأن وصية المرأة محدودة بمتاع سنة، وذلك نفقتها وكسوتها وسكنها، وأن قد حظر على أهل زوجها إخراجها، ولم يحظر عليها أن تخرج، ولم يحرج زوجها ولا وارثه بخروجها، إذا كان غير إخراج منهم لها ولا هي، لأنها إنما هي تاركة لحق لها.
وكان مذهبهم أن الوصية لها بالمتاع إلى الحول، والسكنى منسوخة، بأن اللَّه ورثها الرُّبع، إن لم يكن لزوجها ولد، والسمن إن كان له ولد.
١ / ٤٢٠
الرسالة: الناسخ والمنسوخ الذصي تدل عليه السنة والإجماع:
قال الشَّافِعِي ﵀: قال اللَّه تعالى: (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ) الآية.
فأنزل اللَّه ميراث الوالدين، ومن وَرِثَ بعدهما
ومعهما من الأقربين، وميراثَ الزوج من زوجته، والزوجة من زوجها.
فكانت الآيتان محتملتين لأَنْ:
١ - تثبتا الوصية للوالدين والأقربين، والوصية للزوج، والميراث مع
الوصايا، فيأخذون بالميراث والوصايا.
٢ - ومحتملة بأن تكون المواريث ناسخة للوصايا.
فلما احتملت الآيتان ما وصفنا، كان على أهل العلم طلب الدلالة من
كتاب اللَّه، فما لم يجدوه نصًا في كتاب اللَّه، طلبوه في سنة رسول اللَّه، فإن
وجدوه فما قبلوا عن رسول اللَّه فعن اللَّه قبلوه، بما افترض من طاعته.
ووجدنا أهل الفُتيا، ومن حفظنا عنه من أهل العلم بالمغازي، من قريش
وغيرهم، لا يختلفون في أنَّ النبي ﷺ قال عام الفتح: «لا وصية لوارث، ولا يُقتل مؤمن بكافر» الحديث.
ويَأثِرونه عمُّن حفظوا عنه ممن لقوا من أهل العلم بالمغازي.
فكان هذا نقل عامة عن عامة، وكان أقوى في بعض الأمر من نقل واحد
عن واحد، وكذلك وجدنا أهل العلم عليه مجمعين.
١ / ٤٢١
قال الله ﷿: (وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (٢٤١)
الأم: المدَّعي والمدَّعي عليه:
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: - قلتُ مناقشًا لبعض من خالفنا - لِمَ تزعم
ب الآية أن المطلقات سواء في المتعة؛ وقال اللَّه ﷿: (وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ)
لم يخمن مطلقة دون مطلقة.
قال استدللنا بقول اللَّه ﷿: (حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ) الآية، أنها غير
واجبة، وذلك أن كل واجب، فهو على المتقين وغيرهم، ولا يُخص به المتقون.
الأم (أيضًا): تفسير قوله ﷿: (وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ):
أخبرنا الربيع قال:
أخبرنا الشَّافِعِي ﵀ قال: أخبرنا الثقة، عن أيوب، عن نافع، عن ابن
عمر ﵄ أنَّه كاتب عبدًا له خمسة وثلاثين ألفًا، ووضع عنه خمسة آلاف أحسبه قال: من آخر نجومه.
قال الشَّافِعِي ﵀: وهذا - واللَّه تعالى أعلم - عندي مثل قول اللَّه ﷿:
(وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ) الآية، فيجبر سيْد المكاتب على أن يضع عنه مما عقد عليه الكتابة شيئًا، وإذا وضع عنه شيئًا ما كان، لم يجبر على كثر منه.
١ / ٤٢٢
قال الله ﷿: (وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢٤٤)
الأم: أصل فرض الجهاد:
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: ولما مضت لرسول الله ﷺ مدة من هجرته، أنعم الله تعالى فيها على جماعة باتباعه، حدثت لهم بها مع عون الله قوة بالعدد، لم تكن قبلها، ففرض اللَّه تعالى عليهم الجهاد بعد إذ كان إباحة لا فرضًا، فقال ﵎: (وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) الآية.
أحكام القرآن: فصل في (فرض أصل الجهاد):
قال الشَّافِعِي ﵀: ففرض الله ﷿ عليهم الجهاد، بعد إذ كان إباحة لا فرضًا، فقال ﵎: (وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) الآية.
* * *
قال الله ﷿: (وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (٢٥٥)
الأم: كتاب (إبطال الاستحسان):
قال الشَّافِعِي ﵀: فعرَّف - الله تعالى - جميع خلقه في كتابه أن لا
علم لهم إلا ما عفمهم. . . فقال ﷿: (وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ) .
١ / ٤٢٣
ثم مَن عليهمْ بما آتاهم من العلم، وأمرهم بالاقتصار عليه، وألا
يتولوا غيره إلا بما علمهم.
الرسالة: القياس:
قال الشَّافِعِي ﵀: قلتُ: نعم ما وصفت لك مما كُلفتُ في القبلة، وفي
نفسي، وفي غيري، قال الله ﷿: (وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ) الآية، فآتاهم من علمه ما شاء، وكما شاء، لا معقب لحكمه، وهو سريع الحساب.
أحكام القرآن ما يؤثر عنه - الشَّافِعِي - في التفسير (في آيات متفرقة سوى ما مضى):
قال الشَّافِعِي ﵀: واستنبطت البارحة آيتين، فما أشتهي باستنباطهما
الدنيا وما فيها، الأولى: قول الله تعالى: (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ) . الآية.
وفي كتاب الله هذا كثير.
والثانية: قول الله تعالى: (مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ) الآية.
فَتَعَطلُ الشفعاء إلا بإذن الله.
* * *
قال الله ﷿: (فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ)
مناقب الشَّافِعِي: باب (ما جاء في خروجه إلى اليمن ومقامه بها، ثم في حمله
من اليمن إلى هارون، وما جرى بينه وبين محمد بن الحسن من المناظرة.
رحمهما الله):
قال البيهقي ﵀: وقرأت في كتاب (زكريا بن يحيى الساجي) فيما
حدثهم عن محمد بن إسماعيل، عن مصعب بن عمير الزبيري، في قصة قدوم
١ / ٤٢٤
الشَّافِعِي المدينة، واختلافه إلى الإمام مالك ﵀، ثم رجوعه إلى مكة.
وخروجه إلى اليمن، وسِعَاية من سعى به حتى حُمِل، ولم يُترَك أن يأخذ من
شعره وأظفاره، فلما وافى الرَّقة، لقي محمد بن الحسن فاتصل به، وكان معه
ستون دينارًا، فأعطى ورَّاقًا فكتب له كتبه، فجلس محمد بن الحسن يومًا في
مسجد الرقة، وجعل يزري بأهل الحجاز، فيقول: إيش يحسنون؛ وهل فيهم أحد يحسن مسألة؛ والشَّافِعِي في ناحية - فبلغه، فجاء وسلم عليه، وإن شاربه ليدخل في فمه - وذلك بحضرة الفضل بن الربيع. ..
فقال الشَّافِعِي ﵀: أما صاحبكم - يعني أبا حنيفة ﵀ فأعلم
الناس بما لم يكن ولا يكون أبدًا، وأجهلهم بالسنن.
فناظره في مسائل، فقال له: قد كثرت - والفضل يكتب ما جرى بينهما
- وكان فيما جرى بينهما يومئذ أن قال له الشَّافِعِي ﵀: ما تقول في صلاة الخوف، كيف يصليها الرجل؟
فقال محمد بن الحسن ﵀: منسوخة؛ قال اللَّه ﷿: (وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ) الآية.
فلما خرج رسول الله ﷺ، من بين
أظهرهم، لم تجب عليهم صلاة الخوف!
فقال له الشَّافِعِي: قال اللَّه تعالى: (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا) الآية.
فلما خرج رسول الله ﷺ، من بين أظهرهم لم تجب عليهم!
زاد فيه غيره، قال محمد بن الحسن ﵀: كلا بل تجب عليهم.
١ / ٤٢٥
فقال الشَّافِعِي ﵀: كلا بل تجب عليهم، ثم قال الشَّافِعِي: لا يُمكِّن
أحدًا من الخلق يُكلم أحدًا - وإن كان نبيًا مرسلا - حتى يذهب لسان الآخر، ولكن بحسبك أن يستبين عند ذوي الأقدار أنَّه قد قام بالحجة.
ألا ترى أن صاحب إبراهيم حيث قال له: (أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ) .
قال إبراهيم: (فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ)، قال اللَّه: (فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ) .
قال الشَّافِعِي ﵀: وكذلك بهت الذي ظلم؟
ودخل الفضل بن الربيع إلى الرشيد رحمهما الله فقال: يا أمير المؤمنين، ألا
أبشرك؟ ألا أقول لك شيئًا تقرُّ به عينك يا أمير المؤمنين؟ قال: وما هو؟ قال: رجل من آل شافع يُحسنُ كذا، وكان من مجلس قوم كذا، قرأ عليه ما جرى بينهم، فَسُرَّ بذلك هارون، فقال: اخرج إليه أعلمه أني قد رضيت عنه، وأعلمه بالرّضا قبل الصّلة، ثم صِلْهُ، قال: ثم خرج - الفضل - فأخبره، قال: فخرَّ الشَّافِعِي لله تعالى
ساجدًا، ثم قال: وقد وصَلَك أمير المؤمنين بمالٍ، وقد وصلتك بمثل ذلك.
قال: فدعا الشَّافِعِي ﵀ بالحجام، فأخذ شعر رأسه، فأعطاه خمسين دينارًا.
* * *
قال الله ﷿: (وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (٢٦٧)
الأم: باب (ما يحلُّ للناس أن يعطوا من أموالهم):
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: قال الله ﵎: (وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ) الآية، يعني - واللَّه أعلم -: تأخذونه لأنفسكم ئمن لكم عليه
١ / ٤٢٦
حق، فلا تنفقوا ما لا تأخذون لأنفسكم، يعني: لا تعطوا مما خبث عليكم -
واللَّه أعلم - وعندكم طيب.
قال الشَّافِعِي ﵀: فحرام على من عليه صدقة أن يعطي صدقة من شرها.
قال الربيع:
أخبرنا الشَّافِعِي قال: أخبرنا سفيان، عن داود بن أبي هند، عن الشعبي، عن جرير بن عبد اللَّه البجلي قال: قال رسول الله ﷺ: «إذا أتاكم المصدّق فلا يفارقكم إلا عن رضا» الحديث، يعني - والله أعلم -: أن يوفوه طائعين، ولا يلووه، لا أن يعطوه من أموالهم ما ليس عليهم، فبهذا نأمرهم، ونأمر المُصدّق.
مختصر المزني: باب (صدقة الوَرِق):
قال المزني (مُلخِصًا كلام الشَّافِعِي ﵀: وحرام أن يؤدي الرجل
الزكاة من شر ماله: لقول اللَّه ﷿: (وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ) الآية، يعني - واللَّه أعلم - لا تعطوا في الزكاة ما
خبث أن تأخذوه لأنفسكم، وتئركوا الطيب عندكم.
* * *
قال الله ﷿: (إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ)
مختصر المزني: باب (عطيلا الرجل لولده):
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: وقد حمد اللَّه جل ثناؤه على إعطاء المال، والطعام، في وجوه الخير، وأمر بهما. . فقال:
(إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ) الآية.
١ / ٤٢٧
قال الله ﷿: (لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ)
أحكام القرآن: ما يؤثر عنه - الشَّافِعِي - في التفسير (في آيات متفرقة سوى ما مضى):
قال البيهقي ﵀:
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: في قوله ﷿ (عَلَيكُم أَنفُسَكم) الآية.
قال: هذا مثل قوله تعالى: (لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ) الآية.
ومثل قوله ﷿: (فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ) الآية.
ومثل هذا في القرآن على ألفاظ.
* * *
قال الله ﷿: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا)
١ / ٤٢٨
أخبرنا الشَّافِعِي ﵀ قال: قال الله ﵎: (لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ) الآية.
وقال اللَّه تعالى: (وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا) الآية.
قال الشَّافِعِي ﵀: وذكر اللَّه البيع في غير موضع من كتابه، بما يدل
على إباحته، فاحتمل إحلال اللَّه ﷿ البيع، معنيين:
أحدهما: أن يكون أحلّ كلّ بيع تبايعه المتبايعان، جائزي الأمر فيما
تبايعاه عن تراض منهما، وهذا أظهر معانيه.
والثاني: أن يكون اللَّه ﷿ أحل البيع إذا كان مما لم ينه عنه رسول الله ﷺ.
المبيَِّن عن اللَّه ﷿ معنى ما أراد، فيكون هذا من الجمل التي أحكم اللَّه فرضها بكتابه، وبيَّن كيف هي على لسان نبيه، أو من العام الذي أراد به الخاص، فبيَّن رسول اللَّه ﷺ ما أريد بإحلاله منه وما حرّم، أو يكون داخلًا فيهما، أو من العام
الذي أباحه إلاّ ما حرُم على لسان نبيه ﷺ منه، وما في معناه.
قال الشَّافِعِي ﵀: فأصل البيوع كلها مباح إذا كانت برضا المتبايعين.
الجائزي الأمر فيما تبايعا إلا ما نهى رسول الله ﷺ منها، وما كان في معنى ما نهى عنه رسول الله ﷺ محرّم بإذنه، داخل في المعنى المنهي عنه، وما فارق
ذلك أبحناه بما وصفنا من إباحة البيع في كتاب اللَّه.
الأم (أيضًا): باب في: (بيع العروض):
قال الشَّافِعِي ﵀: قال اللَّه تعالى: (وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا) الآية.
وقال: (لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ) .
١ / ٤٢٩
فكلُّ بيع كان عن تراضٍ من المتبايعين جائز من الزيادة.
في جميع البيوع، إلا بيعًا حرُّمه رسول الله ﷺ إلا الذهب والوَرقِ يدًا بيد، والمأكول، والمشروب في معنى المأكول، فكل ما أكل الآدميون وشربوا، فلا يجوز أن يباع منه شيء من صنفه إلا مثلًا بمثل، إن كان وزنًا فوزن، وإن كان كيلًا
فكيل، يدًا بيد، وسواء في ذلك الذهب والوَرقِ وجميع المأكول، فإن تفرقا قبل أن يتقابضا فسد البيع بينهما.
الأم (أيضًا): باب (الشهادة في البيوع):
قال الشَّافِعِي ﵀: فإن الذي يشبه - والله أعلم وإياه أسال التوفيق
- أن يكون دلالة، لا حتمًا، يخرج من ترْكِ الإشْهَاد، فإن قال: ما دلَّ على ما وصفت؟
قيل: قال اللَّه ﷿: (وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا) الآية، فذكر أن
البيع حلال، ولم يذكر معه بينة.
الأم (أيضًا): (الغصب):
قال الشَّافِعِي ﵀: وقال تعالى: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا) الآية، فلم أعلم أحدًا من المسلمين، خالف
في لأنَّه لا يكون على أحد أن يملك شيئًا إلَّا أن يشاء أن يملكه إلا الميراث، فإن اللَّه ﷿ نقل مِلْكَ الأحياء، إذا ماتوا إلى أمن، ورُّثهم إياه، شاؤوا أو أبوا، ألا ترى أن الرجل لو أوصيَ له، أو وُهبَ له، أو تصدق عليه، أو ملك شيئًا، لم يكن عليه أن يملكه إلا أن يشاء، ولم أعلم أحدًا من المسلمين اختلفوا، في ألَّا
١ / ٤٣٠
يخرج ملك المالك المسلم من يديه إلا بإخراجه إياه هو نفسه، ببيع، أو هبة، أو غير ذلك، أو عتق، أو دين لزمه، فيباع في ماله، وكل هذا فعله لا فعل غيره.
الأم (أيضًا): كراء الأرض البيضاء:
قال الشَّافِعِي ﵀: ولو تكارى الأرض بالثمرة دون الأرض والشجر.
فإن كانت الثمرة قد حل بيعها، جاز الكراء بها، وإن كانت لم يحل بيعها، ل
يحل الكراء بها، قال اللَّه ﵎: (لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ) الآية.
وقال ﷿: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا) الآية، فكانت الآيتان مطلقتين على إحلال البيع كله، إلا أن تكون دلالة من رسول الله ﷺ، أو
في إجماع المسلمين، الذين لا يمكن أن يجهلوا معنى ما أراد اللَّه، تخص تحريم بيع دون بيع، فنصير إلى قول النبي ﷺ فيه؛ لأنه المبين عن الله ﷿ معنى ما أراد الله خاصًَا وعامًا، ووجدنا الدلالة عن النبي ﷺ بتحريم شيئين:
أحدهما: التفاضل في النفد.
والآخر: النسيئة كلها.
الرسالة: ما أبان الله لخدقه من فرضه على رسوله اتباع ما أوحى إليه:
قال الشَّافِعِي ﵀ ومنهم من قال -: لم يُسن سُنةُّ قط إلَّا ولها أصل
في الكتاب، كما كانت سنته لتبيين عدد الصلاة وعملها، على أصل جملة فرض الصلاة، وكذلك ما سنَّ من البيوع وغيرها من الشرائع؛ لأن الله قال:
١ / ٤٣١
(لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ) الآية.
وقال: (وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا) الآية، فما أحل وحَرم فإنَّما بَين فيه عن الله، كما بيَّن الصلاة.
ومنهم من قال: بل جاءته به رسالة اللَّه، فأثبتت سنته بفرض الله.
ومنهم من قال: ألقي في رُوعه كل ما سَن، وسنته الحكمة: الذي ألقي
في رُوعه عن اللَّه، فكان ما ألقي في رُوعه سُنته.
الرسالة (أيضًا): ابتداء الناسخ والمنسوخ:
قال الشَّافِعِي ﵀: فإن قال قائل: هل تنسخ السنة بالقرآن؟
قيل: لو نسخت السنة بالقرآن، كانت للنبي ﷺ فيه سنة، تبين أن سنته الأولى منسوخة بسنته الآخرة، حتى تقوم الحجة على الناس، بأن الشيء يُنسخ بمثله.
فإن قال قائل: ما الدليل على ما تقول؟
قلت: فما وصفت من موضعه
من الإبانة عن اللَّه معنى ما أراد بفرائضه، خاصًا وعامًا، مما وصفت في كتابي
هذا.
وأنه لا يقول أبدًا بشيء إلا بحكم اللَّه، ولو نسخ اللَّه مما قال حكمًا لَسَن
رسول اللَّه فيما نسخه سُنة، ولو جاز أن يقال: قد سنَّ رسول الله ﷺ ثم نسَخ - اللَّه - سنته بالقرآن، ولا يؤثر عن رسول اللَّه السنة الناسخة، جاز أن يقال فيما حَرم رسول الله ﷺ من البيوع كلها؛ قد يحتمل أن يكون حرَّمها قبل أن ينزل
عليه: (وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا) الآية.
١ / ٤٣٢
الرسالة (أيضًا): الفرض المنصوص الذي دلَّت السنة على أئه إنَّما أراد به
الخاصن:
قال الشَّافِعِي ﵀: وقال الله تعالى: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا) الآية.
ونهى رسول الله ﷺ عن بيوع تراضى بها المتبايعان فحُرِّمت، مثل الذهب بالذهب إلا مثلًا بمثلِ، ومثل الذهب بالوَرِق، وأحدهما نقد، والآخر نسيئة، وما كان في معنى هذا، مما ليس في التبايع به مخاطرةْ، ولا أمر يجهله البائع ولا المشتري.
فدلَّت السنة على أنَّ اللَّه جل ثناؤه أراد بإحلال البيع ما لم يُحَرِّم منه، دونَ
ما حَرم على لسان نبيه ﷺ.
ثم كانت لرسول اللَّه ﷺ في البيوع سوى هذا سننًا، منها: العبد يباع وقد دلس البائعُ المشتري بعيب، فللمشتري رده، وله الخراج بضمانه.
ومنها: أن من باع عبدًا وله مال، فماله للبائع إلا أن يشترط البتاع.
ومنها: من باع نخلًا قد أُبِّرت، فثمرها للبائع إلا أن يشترط المبتاع، لزم
الناسَ الأخذ بها، بما ألزمهم اللَّه من الانتهاء إلى أمره.
الرسالة (أيضًا): باب (العلل في الأحاديث):
قال الشَّافِعِي ﵀: وذكرتُ له قول اللَّه تعالى: (وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا) الآية، وقوله: (لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ) الآية، ثم حرم رسول الله ﷺ بيوعًا، منها:
١ / ٤٣٣
الدنانير بالدراهم إلى أجل وغيرها، فحرَّمها المسلمون بتحريم رسول الله ﷺ.
فليس هذا ولا غيره خلافًا لكتاب اللَّه.
قال: فَحُذَ لي معنى هذا بأجمع منه وأخصر.
فقلت له: لا كان في كتاب اللَّه دلالة على أن اللَّه قد وضع رسوله موضع
الإبانة عنه، وفرض على خلقه اتباع أمره فقال: (وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا) الآية، فإنَّما يعني: أحل اللَّه البيع إذا كان على غير ما نهى الله عنه في كتابه أو على لسان نبيه ﷺ.
وقال الشَّافِعِي ﵀: وأن يقال في البيوع التي حرم رسول الله ﷺ
إنما حرمها قبل التنزيل فلما أنزلت: (وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا) الآية.
كانت حلالًا.
والربا: أن يكون للرجل على الرجل الدَّين فَيَحِل فيقول: أتقضي أم تربي؟
فيؤخرُ عنه ويزيده في ماله، وأشباهٌ لهذا كثيرة.
فمن قال هذا، كان مُعطلًا لعامة سنن رسول الله ﷺ وهذا القول جهل ممن قاله. قال: أجل.
مناقب الشَّافِعِي: باب (ما يستدل به على معرفة الشَّافِعِي ﵀ بتفسير
القرآن ومعانيه، وسبب نزوله):
أخبرنا أبو عبد اللَّه الحافظ قال: حدثنا أبو العباس بن يعقوب قال: أنبأنا
الربيع بن سليمان قال:
قال الشَّافِعِي ﵀: في قوله تعالى: (وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا)
الآية، فإنما يعني: أحل اللَّه البيع إذا كان على غير ما نهى الله عنه في كتاَبه، أو على لسان نبيه ﷺ.
١ / ٤٣٤
قال الله ﷿: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٢٧٨)
وقال الله ﷿: (وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ)
الأم: الحكم بين أهل الجزية:
قال الشَّافِعِي ﵀: قال الله ﵎ في المشركين بعد إسلامهم: (اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)
وقال: (وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ) الآية.
فلم يأمرهم برد ما بقي من الربا، وأمرهم بأن لا يأخذوا ما لم يقبضوا منه.
ورجعوا إلى رؤوس أموالهم، وأنفذ رسول الله ﷺ نكاح المشرك بما كان قبل حكمه وإسلامهم وكان مقتضيًا، ورد ما جاوز أربعًا من النساء؛ لأنَّهن بواق، فتجاوز عما مضى كله في حكم اللَّه ﷿، وحكم رسوله ﷺ.
الأم (أيضًا): الحربي يسلم وعنده أكثر من أربع نسوة:
قال الشَّافِعِي ﵀: قال الله ﷿: (اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) إلى قوله: (تُظْلَمُونَ) الآيتان.
فعفا رسول الله ﷺ عما قبضوا من الربا، فلم يأمرهم برده، وأبطل ما أدرك حكم الإسلام من الربا، ما لم يَقبِضوه، فأمرهم بتركه، وردهم إلى رؤوس أموالهم التي كانت حلالًا لهم، فجمع حكم اللَّه، ثم حكم رسول الله ﷺ في الربا.
أن عفا عما فات، وأبطل ما أدرك الإسلام، فكذلك حكم رسول الله ﷺ في
١ / ٤٣٥
النكاح، كانت العقدة فيه ثابتة فعفاها، وكثر من أربعة نسوة مدركات في
الإسلام، فلم يعفهن.
قال الشَّافِعِي ﵀: أخبرنا الثقة (وأحسبه ابن علية)، عن معمر، عن
ابن شهاب، عن سالم، عن أبيه، أن غيلان بن سلمة أسلم وعنده عشر نسوة، فقال له رسول الله ﷺ: «أمسك أربعًا وفارق سائرهن» الحديث.
الأم (أيضًا): في قطع الشجر وحرق المنازل:
قال الشَّافِعِي ﵀: أربى أهل الجاهلية في الجاهلية، ثم سألوا رسول اللَّه
ﷺ فأنزل اللَّه ﵎: (اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) .
وقال في سياق الآية: (وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ) الآيتان، فلم يبطل
عنهم رؤوس أموالهم إذا لم يتقابضوا، وقد كانوا مُقرِّين بها، ومستيقنين في
الفضل فيها، فأهدر رسول الله ﷺ لهم ما أصابوا، من دم أو مال؛ لأنَّه كان على وجه الغصب، لا على وجه الإقرار به.
الأم (أيضًا): الصداق:
قال الشَّافِعِي ﵀: وإن كان الصداق محرّمًا، مثل: الخمر وما أشبهه، فلم تقبضه فلها مهر مثلها، وإن قبضته بعد ما أسلم أحد الزوجين فلها مهر مثلها، وليس لمسلم أن يعطي خمرًا، ولا لمسلم أن يأخذه، وإن قبضته وهما مشركان فقد
١ / ٤٣٦
مضى، وليس لها غيره؛ لأن الله ﷿ يقول: (اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا) الآية، فأبطل ما أدرك الإسلام، ولم يأمرهم برد ما كان قبله من الربا، فإن كان أرطال خمر، فأخذت نصفه في الشرك وبقي نصفه، أخذت منه نصف صداق مثلها.
الأم (أيضًا): البَحيرة والوصيلة والسائبة والحام:
قال الشَّافِعِي ﵀: فإن قال قائل: أفتوجدني في كتاب الله ﷿ في غير هذا بيانًا؛ لأن الشرط إذا بطل في شيء، أخرجه إنسان من ماله بغير عتق بني آدم، ورجع إلى أصل مُلكه؟
قيل: نعم. قال الله عز ذكره: (اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا)
وقال ﷿: (وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ) الآيتان، وفي الإجماع: أن من باع بيعًا فاسدًا فالبائع على أصل
ملكه، لا يخرج من ملكه إلَّا والبيع فيه صحيح، والمرأة تنكح نكاحًا فاسدًا، هي على ما كانت عليه، لا زوج لها.
الأم (أيضًا): ما قتل أهل دار الحرب من المسلمين فأصابوا من أموالهم:
قال الشَّافِعِي ﵀: وقال اللَّه ﵎: (وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا)
الآية، ولم يأمرهم برد ما مضى منه، وقتل وحشي ﵁ حمزة ﵁، فأسلم فلم يُقَدْ منه، ولم يتبع له بعقل، ولم يؤمر له بكفارة، لطرح الإسلام ما فات في الشرك. ..
ودلت السنة عن رسول الله ﷺ على أنَّه يُطرح عنهم ما بينهم وبين اللَّه - عز ذكره - والعباد.
وقال رسول الله ﷺ: «الإيمان يجبُّ ما كان قبله» الحديث.
١ / ٤٣٧
قال الله ﷿: (وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٢٨٠)
الأم: التفليس:
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: قال الله ﵎: (وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ) الآية، وقال رسول الله ﷺ:
«مَطلُ الغي ظُفمً» الحديث.
فلم يجعل على ذي دين سبيلًا في العسرة حتى تكون الميسرة، ولم يجعل رسول
الله ﷺ مَطْله ظلمًا إلا بالغنى، فإذا كان معسرًا فهو ليس ممن عليه سبيل إلا أن يوسر، وإذا لم يكن عليه سبيل فلا سبيل على إجارته؛ لأن إجارته عمل بدنه.
وإذا لم يكن على بدنه سبيل، وإنما السبيل على ماله، لم يكن إلى استعماله سبيل، وكذلك لا يحبس؛ لأنَّه لا سبيل عليه في حاله هذه.
الأم (أيضًا): باب (ما جاء في حبس المفلس):
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: ولا يؤخذ الحر في دين عليه إذا لم يوجد له
شيء، ولا يحبس إذا عرف أن لا شيء له؛ لأن الله ﷿ يقول:
(وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ) الآية.
١ / ٤٣٨
مختصر المزني: باب (جواز حبس من عليه الدين):
قال الشَّافِعِي ﵀: وإذا ثبت عليه الدين، ييع ما ظهر له، ودُفِع، ولم
يحبس، وإن لم يظهر، حُبس، وبيع ما قُدر عليه من ماله، فإن ذكر عُسره، قُبلتْ منه البيّنة، لقول اللَّه ﷿: (وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ) الآية، وأحلّفه مع ذلك بالله، وأخليه، ومنعت غرماءه من لزومه، حتى تقوم بيّنة أن قد أفاد مالًا.
قال الله ﷿: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ)
الأم: باب (بيع الآجال):
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: فلا يجوز البيع إلى العطاء، ولا إلى الحصاد.
ولا إلى الجداد؛ لأن ذلك يتقدم ويتأخر، وإنَّما قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ) الآية.
١ / ٤٣٩
الأم (أيضًا): باب (الشهادة في البيوم):
قال الشَّافِعِي ﵀: وقال ﷿ في آية الدين: (إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ) الآية، والدين تبايع، وقد أمر فيه بالإشهاد، فبين المعنى الذي أمر له به، فدلَّ ما بين اللَّه ﷿ في الدين، على أن اللَّه ﷿ إنَّما أمر به على النظر والاحتياط، لا على الحتم، قلتُ: قال اللَّه تعالى:
(إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ) الآية.
الأم (أيضًا): باب (السلف والمراد به السْلم):
قال الشَّافِعِي ﵀: قال اللَّه تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ) إلى قوله:
(وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ) الآية، فلما أمر اللَّه ﷿ بالكتاب ثم رخص في الإشهاد إن كانوا على سفر، ولم يجدوا كاتبًا احتمل أن يكون فرضًا، واحتمل أن يكون دلالة، فلما قال اللَّه جل ثناؤه: (فَرِهَانٌ مقبُوضَة) الآية.
والرهن غير الكتاب والشهادة، ثم قال: (فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ) الآية، دلَّ كتاب اللَّه ﷿ على أن أمره بالكتاب، ثم الشهود، ثم الرهن إرشادًا؛ لا فرضًا عليهم؛ لأن قوله: (فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ) الآية، إباحة لأنْ يأمن بعضهم بعضًا، فيدع الكتاب والشهود والرهن.
١ / ٤٤٠
قال الشَّافِعِي ﵀: وأحِبُّ الكتاب والشهود؛ لأنَّه إرشاد من الله.
ونظر للبائع والمشتري،. . . إلى أن قال: ومن تركه - الكتاب والشهود - فقد ترك حزمًا وأمرًا لم أحبّ تركه، من غير أن أزعم أنَّه محرم عليه بما وصفت من الآية بعدها.
وقال الشَّافِعِي ﵀: وقول اللَّه تعالى: (إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ) الآية، يحتمل كل دين، ويحتمل السلف خاصة، وقد ذهب فيه ابن
عباس ﵄ إلى أنَّه في السلف.
أخبرنا الشَّافِعِي قال: أخبرنا سفيان، عن أيوب، عن قتادة، عن أبي حسان
الأعرج، عن ابن عباس ﵄ قال: أشهد أن السلف المضمون إلى
أجل مسمى، قد أحلّه اللَّه تعالى في كتابه، وأذن فيه، ثم قال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ) الآية.
قال الشَّافِعِي ﵀: وإن كان كما قال ابن عباس في السلف، قلنا به في
كل دين قياسًا عليه؛ لأنَّه في معناه، والسلف جائز في سنة رسول الله ﷺ، والآثار، وما لا يختلف فيه أهل العلم علمته.
الأم (أيضًا): باب (الشهادة في الدين):
قال الشَّافِعِي ﵀: قال الله ﷿: (إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُهُ) الآية والتي بعدها، وقال في سياقها: (وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى) .
١ / ٤٤١
وذكر اللَّه شهود الدَّين فذكر فيهم النساء، وكان الدَّين أخذ مال من الشهود عليه، والأمر على ما فرق اللَّه بينه من الأحكام في الشهادات، أن ينظر كل ما شهد به على أحد، فكان لا يؤخذ منه بالشهادة نفسها مال، وكان إنَّما يلزم بها حق غير مال، أو شهد به
رجل، وكان لا يستحق به مالًا لنفسه، إنما يستحق به غير مال، مثل: الوصية والوكالة والقصاص والحد وما أشبهه، فلا يجوز فيه إلا شهادة الرجال، لا يجوز فيه امرأة، وينظر كل ما شهد به مما أخذ به المشهود له من المشهود عليه مالًا فتجوز فيه شهادة النساء مع الرجال؛ لأنه معنى الموضع الذي أجازهن اللَّه فيه، فيجوز قياسًا لا يختلف هذا القول، فلا يجوز غيره - واللَّه تعالى أعلم -.
ومن خالف هذا الأصل ترك عندي ما ينبغي أن يلزمه من معنى القرآن، ولا أعلم لأحد خالفه حجة فيه بقياس، ولا خبر لازم، وفي قول الله ﷿: (فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى) الآية، دلالة على أن لا تجوز شهادة النساء حيث نجيزهن إلا مع رجل، ولا يجوز منهن إلا امرأتان فصاعدًا؛ لأن اللَّه ﷿ لم يسم منهن أقل من اثنتين، ولم يأمر بهن اللَّه إلا مع رجل.
الأم (أيضًا): باب (ما على من دُعيَ يشهد بشهادة قبل أن يسألَها):
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: قال اللَّه ﷿: (إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ) إلى قوله: (وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا) الآية.
١ / ٤٤٢
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: في قول اللَّه ﷿: (وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ) الآية، دلالة على: أن عليه فيما علمه الله من الكتاب حقًا في منفعة المسلمين، ويحتمل ذلك الحق أن يكون كلما دُعي لحق كتبه لا بد، ويحتمل أن يكون عليه وعلى من هو في مثل حاله، أن يقوم منهم من يكفي حتى لا تكون الحقوق معطلة، لا يوجد لها في الابتداء من يقوم بكفايتها، والشهادة عليها
فيكون فرضًا لازمًا على الكفاية، فإذا قام بها من يكفي، أخرج من يتخلف من المأثم، والفضل للكافي على المتخلف، فإذا لم يقم به كان حرج جميع من دُعي إليه، فتخلف بلا عذر.
فلما احتمل هذين المعنيين معًا، وكان في سياق الآية: (وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا) الآية، كان فيها كالدليل على: أنَّه نهى الشهداء المدعوون كلفم أن
يابوا، قال: (وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ) الآية، فأشبه أن يكون يُحرج من ترك ذلك ضرارًا، وفرض القيام بها في الابتداء على الكفاية، وهذا يشبه والله تعالى أعلم ما وصفت من الجهاد، والجنائز، ورد السلام، وقد حفظت عن بعض أهل العلم قريبًا من هذا المعنى، ولم أحفظ خلافه عن أحد أذكره منهم.
الأم (أيضًا): باب (الحجر على البالغين):
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: الحجر على البالغين في آيتين من كتاب الله
. وهما: قول الله ﵎: (فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ) الآية.
١ / ٤٤٣
قال الشَّافِعِي ﵀: وإنَّما خاطب اللَّه ﷿ بفرائضه البالغين من الرجال والنساء، وجعل الإقرار له، فكان موجودًا في كتاب اللَّه ﷿، أن أمر اللَّه تعالى الذي عليه الحق، أن يمل هو، وأن إملاءه: إقراره.
وهذا يدل على جواز الإقرار على من أقر به، ولا يأمر - والله أعلم -
أحدًا أن يمل ليقر إلا البالغ، وذلك أن إقرار غير البالغ، وصمته، وإنكاره سواء عند أهل العلم، فيما حفظت عنهم، ولا أعلمهم اختلفوا فيه.
ثم قال في المرء الذي عليه الحق أن يملَّ: (فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ) الآية.
وأثبت الولاية على السفيه، والضعيف، والذي لا يستطيع أن يمل هو، وأمر
وليه بالإملاء عليه، لأنَّه أقامه فيما لا غناء عنه من ماله مقامه.
قال الشَّافِعِي ﵀: قد قيل: والذي لا يستطيع أن يمل يحتمل أن يكون
المغلوب على عقله، وهو أشبه معانيه - والله أعلم -.
والآية الأخرى: قول الله ﵎: (وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ) الآية.
قال الشَّافِعِي ﵀: وهكذا قلنا: نحن وهم في كل أمر يكمل بأمرين، أو
أمور، فإذا نقص واحد لم يقبل، فزعمنا أن شرط الله تعالى:
(مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ) الآية: عدلان، حران، مسلمان، فلو كان الرجلان حرين، مسلمين غير عدلين، أو عدلين غير حرين، أو عدلين حرين غير مسلمين، لم تجز شهادتهما حتى يستكملا الثلاث.
١ / ٤٤٤
الأم (أيضًا): تفريع ما يمنع من أهل الذمة:
قال الشَّافِعِي ﵀: فإن قال قائل: فكيف لا تجيز شهادة - أهل الذمة
- بعضهم على بعض، وفي ذلك إبطال الحكم عنهم؟
قيل: قال اللَّه ﷿: (وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ)
وقال: (مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ) الآية، فلم يكونوا من رجالنا، ولا ممن نرضى من الشهداء، فلما وصف الشهود منا، دلَّ على أنَّه لا يجوز أن نقضي بشهادة شهود من غيرنا، لم يجز أن نقبل شهادة غير مسلم، أما إبطال حقوقهم فلم نبطلها، إلا إذا لم يأتنا ما يجوز فيه.
الأم (أيضًا): المدَّعي والمدعَى عليه:
قال الشَّافِعِي ﵀: والذي جاء عنه - عن رسول الله ﷺ من اليمين مع الشاهد، ليس يخالف حكم الكتاب.
قال: ومن أين؟
قلنا: قال الله ﷿: (وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ)
الآية، فكان هذا محتملًا أن يكون: دلالة من اللَّه ﷿ على ما تتم به شهادة.
الأم (أيضًا): شهادة النساء:
قال الشَّافِعِي ﵀: لا تجوز شهادة النساء إلا في موضعين:
١ / ٤٤٥
الموضع الأول: في مال يجب للرجل على الرجل، فلا يجوز من
شهادتهن شيء، وإن كثرن، إلا ومعهن رجل شاهد، ولا يجوز منهن أقل من
اثنتين مع الرجل فصاعدًا، ولا نجيز اثنتين ويحلف معهما؛ لأن شرط الله ﷿ الذي أجازهما فيه مع شاهد، يشهد بمثل شهادتهما لغيره، قال الله ﷿: (فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ) الآية.
أما الموضع الثاني: حيث لا يرى الرجل من عورات النساء، فإنهن يجزن
فيه منفردات، ولا يجوز منهن أقلّ من أربع إذا انفردن، قياسًا على حكم الله
﵎ فيهن؛ لأنه جعل اثنتين تقومان مع الرجل مقام الرجل، وجعل
الشهادة شاهدين أو شاهدًا وامرأتين.
فإن انفردن فمقام شاهدين أربع، وهكذا كان عطاء يقول: أخبرنا مسلم.
عن ابن جريج، عن عطاء.
الأم (أيضًا): الشهادة على الشهادة وكتاب القاضي:
قال الشَّافِعِي ﵀: قال اللَّه تعالى: (مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ) الآية.
وليس الفاسق واحدًا من هذين، فمن قضى بشهادته، فقد خالف حكم اللَّه ﷿، وعليه ردّ قضائه، وردّ شهادة العبد، إنَّما هو تأويل ليس ببئني، واتباع بعض أهل العلم.
١ / ٤٤٦
الأم (أيضًا): باب (في الدَّين):
قال الشَّافِعِي ﵀: قال الله ﷿: (وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ)
الآية، وقال: (مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ) الآية.
أخبرنا الربيع قال:
أخبرنا الشَّافِعِي قال: أخبرنا مسلم بن خالد، عن ابن أبي نَجيح، عن
مجاهد أنه قال: عدلان، حران، مسلمان. ثم لم أعلم من أهل العلم مخالفًا في أن هذا معنى الآية.
قال الشَّافِعِي ﵀: ولا يقبل القاضي شهادة شاهد حتى يعرف
عدله، طعن فيه الخصم، أو لم يطعن، ولا تجوز شهادة الصبيان، بعضهم على بعض في الجراح ولا غيرها، قبل أن يتفرقوا، ولا بعد أن يتفرقوا؛ لأنَّهم ليسوا من شرط الله الذي شرطه في قوله: (مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ) الآية، وهذا قول ابن عباس ﵄، وخالفه ابن الزبير ﵄ وقال: نجيز شهادتهم إذا لم يتفرقوا.
وقول ابن عباس ﵄ أشبه بالقرآن، والقياس.
الأم (أيضًا): باب (إبطال الاستحسان):
قال الشَّافِعِي ﵀: قال اللَّه ﷿: (وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ) الآية، وقال (مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ) الآية، فكان على الحكام، ألَّا يقبلوا إلا
١ / ٤٤٧
عدلًا في الظاهر، وكانت صفات العدل عندهم معروفة وقد وصفتها في غير هذا الموضع.
وقد يكون في الظاهر عدلًا، وسريرته غير عدل، ولكن الله لم يكلفهم ما لم
يجعل لهم السبيل إلى علمه، ولم يجعل لهم - إذ كان يمكن - إلاّ أن يردوا مَنْ ظَهَرَ منه خلاف العدل عندهم.
وقد يمكن أن يكون الذي ظهر منه خلاف العدل خيرًا عند اللَّه ﷿، من الذي ظهر منه العدل، ولكن كُلفوا أن يجتهدوا على ما يعلمون من الظاهر الذي لم يؤتوا أكثر منه.
الأم (أيضًا): الطعام والشراب:
قال الشَّافِعِي ﵀: فإن قال قائل: فهل للحَجْر في القرآن أصل يدلّ
عليه؟
قيل: نعم، - إن شاء اللَّه - قال الله ﷿: (فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ) الآية.
الأم (أيضًا): باب (السلف والمراد به: السلم):
قال الشَّافِعِي ﵀: وقول الله جلَ ذكره: (وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا) الآية، يحتمل: ما وصفتُ من أن لا يأبى كل شاهد ابتدئ فيُدعى ليشهد.
ويحتمل: أن يكون فرضًا على من حضر الحق، أن يشهد منهم من فيه كفاية
للشهادة، فإذا شهدوا، أخرجوا غيرهم من المأثم، وإن ترك من حضر الشهادة خفت حرجهم، بل لا أشكَ فيه، وهذا أشبه معانيه به - واللَّه تعالى أعلم -.
١ / ٤٤٨
قال الشَّافِعِي ﵀: فأمّا من سبقت شهادته، بأن أشهِد أو علم حقًا
لمسلم، أو معاهد، فلا يسعه التخلف عن تأدية الشهادة متى طلبت منه في موضع مقطع الحق.
مختصر المزئي: كتاب (الوكالة):
قال الشَّافِعِي رعه الله: وقال تعالى (فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ) الآية، ووليه عند
الشَّافِعِي: هو القيم بماله.
مختصر المزني (أيضًا): باب (الدعوى والبينات):
قال الشَّافِعِي ﵀: وقال - سبحانه - في الدين: (وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ) الآية، فكان حكمه في الدين يقبل بشاهدين، أو شاهد وامرأتين، ولا يقال لشيء من هذا مختلف، على أن بعضه ناسخ لبعض، ولكن يقال: مختلف على أن كل واحد منه غير صاحبه.
مختصر المزني (أيضًا): باب الخلاف في هذه الأحاديث:
قال الشَّافِعِي ﵀: قال اللَّه ﵎: (شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ) الآية، فقلت له: لست أعلم في هذه الآية
تحريم أنَّ يجوز أقل من شاهدين بحال.
١ / ٤٤٩
أحكام القرآن: ما يؤثر عنه - الشافعى - في القضايا والشهادات:
قال البيهقي ﵀: أخبرنا أبو سعيد بن أبي عمرو، أخبرنا أبو العباس
الأصم، أخبرنا الربيع قال:
قال الشَّافِعِي ﵀: قال اللَّه ﵎: (وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ) الآية، يحتمل: أن يكون حتمًا على من دُعي لكتابِ، فإن
تركه تارك: كان عاصيًا.
ويحتمل: أن يكون على من حضر من الكُتَّاب، ألَّا يُعطلوا كتاب حق بين
رجلين، فإذا قام به واحد، أجزأ عنهم.
آداب الشَّافِعِي: ما ذكر من مناظرة الشَّافِعِي لمحمد بن الحسن وغيره:
أخبرنا أبو الحسن، أخبرنا أبو محمد قال: أخبرني أبي، حدثنا محمد بن
عبد الله بن عبد الحكم قال:
أخبرنا الشَّافِعِي قال: حضرت مجلسًا فيه جماعة: فيهم رجل يقال له: سفبان
ابن سَخبَان فقلت ليحيى بن البناء، وكان حاضرًا، كيف فِقهُ هذا؟
فقال لي: هو حسن الإشارة بالأصابع، ثم قال لي: تحبُّ أن تسمعه؟
قلت: نعم.
فقال: يا أبا فلان، رأيت شيئًا: أعجَبَ من إخواننا - من أهل المدينة - في
قضاياهم باليمين مع الشاهد؛ إنّ اللَّه ﷿ أمر بشاهدين، فنص على القضية، ثم قال: (فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ) ثم أكد
١ / ٤٥٠
ذلك فقال: (أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى) الآية، فبين الله ﷿: أنَّه لا تتم الشهادة إلا برجلين، وامرأتين فقالوا: يُقضى برجل واحد ويمين صاحب الحق؟!
فقال: نعم، إنهم يقولون: من هذا ما هو خلاف القرآن.
فقال له يحيى: احتجوا فقالوا: إن رسول الله ﷺ أعلم بمعنى كتاب اللَّه، وقد رووا عنه أنه قضى باليمين مع الشاهد، ورووا ذلك عن علي بن أبي طالب ﵁. ..
فقال ابن سخبان: لا يُقبل هذا من الرواة، وهو خلاف القرآن.
آداب الشَّافِعِي (أيضًا): قول الشَّافِعِي في أصول العلم:
أخبرنا أبو محمد، حدثنا أبي، حدثنا يونس قال:
سمعت الشَّافِعِي ﵀: يعتب على من يقول: لا يقاس المطلق - من
الكتاب - على المنصوص وقال: يلزم من قال هذا: أن يجيز شهادة العبيد
والسفهاء؛ لأن اللَّه ﷿ قال: (وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ) الآية، فَقَيَّد.
وقال في موضع آخر: (وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ) الآية، فأطْلَق.
ولكن المطلق يقاس على المنصوص، مثل هذا، ولا يجوز إلا العَدلُ.
آداب الشَّافِعِي (أيضًا): باب (في الأحكام):
أخبرنا أبو محمد قال: أخبرني أبي قال: سمعت يونس بن عبد الأعلى قال:
١ / ٤٥١
قال الشَّافِعِي ﵀: في قوله ﷿: (وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ) الآية، إنما معناه: أن يُقِر بالحق، ليس معناه: أن يُمِل، وقوله: (فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ) الآية، هاهنا
ثبتت الولاية، ثم نسخ هذا كلّه، وأخِبرَ: أنه اختيار وليس بفرض، بقوله: (إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا) الآية.
فائدتان:
الأولى: ومن طريف ما يحكى عن أمّ الشَّافِعِي رحمهما اللَّه من الحذق.
أنها شهدت عند قاضي مكة هي وأخرى، مع رجل، فأراد القاضي أن يفرق
بين المرأتين، فقالت له أم الشَّافِعِي رحمهما اللَّه: ليس لك ذلك، لأن اللَّه ﷿ يقول: (ان تَضِل إِخدَنهُمَا فَتُذَئحِرَ إِخدَنهُمَا اكاخرَى) الآية. فرجع القاضي إليها في ذلك - وقد علق ابن حجر على ذلك بقوله: هذا فرع غريب واستنباط قوي.
الثانية: وقال الأزهري ﵀: وقوله ﷿: (وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ) الآية، فيه قولان:
١ - قال بعضهم: (وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ) الآية، لا يُضارر، أي: لا يكتب إلا الحق، ولا يشهد الشاهد إلا بالحق.
١ / ٤٥٢
٢ - وقال قوم: (وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ) الآية، أي: لا يُضَارَر ولا يُدعى وهو مشغول، لا يمكنه ترك شغله إلا بضرر يدخل عليه، وكذلك لا يُدعى الشاهد ومجيئه للشهادة يَضُر به.
والأول: أبين، لقوله تعالى: (وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ) الآية.
ومن كذب بالشهادة، وحرَّف الكتاب، فهو أولى بالفسوق ممن دعا كاتبًا ليكتب وهو مشغول، أو شاهدًا ليشهد وهو مشغول.
* * *
قال الله ﷿: (وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (٢٨٣)
الأم: باب (الشهادة في البيوع):
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: - بعد آية الدين في السياق - قال الله تعالى:
(وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ) الآية، فلما أمر إذا لم يجدوا كاتبًا بالرهن، ثم أباح
ترك الرهن، وقال: (فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ) الآية، دلَّ على أن الأمر
الأول دلالة على الحظ، لا فرض منه، يعصي من تركه - والله أعلم -.
١ / ٤٥٣
وقد حُفظ عن النبي ﷺ أنَّه بايع أعرابيًا في فرس، فجحد الأعرابي بأمر بعض المنافقين، ولم يكن بينهما بينة، فلو كان هذا حتمًا لم يبايع رسول الله ﷺ بلا بينة، وقد حفظت عن عدة لقيتهم مثل معنى قولي، من أنَّه لا يعصي من ترك الإشهاد، وأن البيع لازم، إذا تصادقا، لا ينقضه أن لا تكون بيّنة كما يُنقض
النكاح، لاختلاف حكمها.
الأم (أيضًا): باب (السلف):
قال الشَّافِعِي ﵀: قال الله جلَ ثناؤه: (فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ) الآية.
والرهن غير الكتاب والشهادة، ثم قال: (فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ) الآية.
دلَّ كتاب الله ﷿ على أن أمره بالكتاب.
ثم الشهود، ثم الرهن ارشادًا لا فرضًا عليهم؛ لأن قوله: (فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ) الآية، إباحة لأن يأمن بعضهم بعضًا فيدع
الكتاب والشهود والرهن.
الأم (أيضًا): كتاب (الرهن الكبير - إباحة الرهن:
أخبرنا الربيع قال:
أخبرنا الشَّافِعِي قال: قال الله ﵎: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ)
الآية، وقال ﷿: (وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌة) الآية.
١ / ٤٥٤
قال الشَّافِعِي ﵀: فكان بينًا في الآية، الأمر بالكتاب في الحضر والسفر، وذكر اللَّه تبارك اسمه الرهن إذا كانوا مسافرين، ولم يجدوا كاتبًا، فكان معقولًا - والله أعلم فيها - أنهم أمروا بالكتاب والرهن احتياطًا لمالك الحق بالوثيقة، والمملوك عليه بألَّا ينسى ويذكر، لا أنَّه فرض عليهم أن يكتبوا، ولا أن يأخذوا رهنًا، لقول الله ﷿: (فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ) الآية.
فكان معقولًا أن الوثيقة في الحق في السفر والإعواز غير محرمة، والله أعلم في
الحضر وغير الإعواز، ولا بأس بالرهن في الحق الحالِّ، والدين في الحضر والسفر.
وما قلت من هذا مما لا أعلم فيه خلافًا، وقد رُوي أن رسول الله ﷺ رهن درعه في الحضر عند أبي الشحم اليهودي.
وقيل: في سلف، والسلف حالٌّ.
قال الشَّافِعِي ﵀: فأذن اللَّه جل ثناؤه بالرهن في الدين، والدين حق
لازم، فكل حق مما يملك، أو لزم بوجه من الوجوه جاز الرهن فيه.
الأم (أيضًا): الرهن الصغير:
أخبرنا الربيع بن سليمان قال:
أخبرنا الشَّافِعِي ﵀ قال: أصل أجازة الرهن في كتابه ﷿: (وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ) الآية، فالسنة تدلُّ على إجازة الرهن، ولا أعلم مخالفًا في إجازته.
أخبرنا محمد بن إسماعيل بن أبي فديك، عن ابن أبي ذئب، عن ابن
شهاب، عن سعيد بن المسيب ﵀، أن رسول الله ﷺ قال:
«لا يَغلَقُ الرهنُ، الرهنَ من صاحبه الذي رهنه، له غنمُه وعليه غرمُه» الحديث.
١ / ٤٥٥
قال الشَّافِعِي ﵀: فالحديث جملة على الرهن، ولم يخص رسول اللَّه ﷺ فيما بلغنا رهنًا دون رهن.
واسم الرهن يقع على: ما ظهر هلاكه ومخفي.
ومعنى قول النبي ﷺ واللَّه تعالى أعلم -:
«لا يغلق الرهن بشيء»، أي: إن ذهب لم يذهب بشيء، وإن أراد صاحبه افتكاكه، ولا يغلق في يدي الذي هو في يديه. ..
والرهن للراهن أبدًا، حتى يخرجه من ملكه بوجه يصحُّ إخراجه له، والدليل
على هذا قول رسول الله ﷺ: «الرهن من صاحبه الذي رهنه»، ثم بيّنه وأكدّه فقال:
«له غنمه وعليه غرمه»، وغنمه: سلامته وزيادته، وغرمه: عطبه ونقْصه.
الأم (أيضًا): رهن المشاع:
قال الشَّافِعِي ﵀: لا بأس بأن يرهن الرجل نصف أرضه، ونصف
داره، وسهمًا من أسهم من ذلك مشاعًا غير مقسوم، إذا كان الكلّ معلومًا، وكان ما رهن منه معلومًا، ولا فرق بين ذلك وبين البيوع.
وقال بعض الناس: لا يجوز الرهن إلا مقبوضًا مقسومًا، لا يخالطه غيره، واحتجّ بقول اللَّه ﵎: (فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ) الآية.
قال الشَّافِعِي ﵀: فالقبض: اسم جامع، وهو يقع كعان مختلفة، كيفما
كان الشيء معلومًا، أو كان الكلّ معلومًا، والشيء من الكل جزء معلوم من
أجزاء، وسُلِّم حتى لا يكون دونه حائل فهو قبض، فقبض الذهب والفضة
والثياب في مجلس الرجل، والأرض أن يؤتى في مكانها فتسلم، لا تحويها يد ولا يحيط بها جدار، والقبض في كثير من الدور والأرضيين إسلامها بأعْلاَقها،
١ / ٤٥٦
والعبيد تسليمهم بحضرة القابض، والمشاع من كل أرض وغيرها أن لا يكون
دونه حائل، فهذا كله قبض مختلف يجمعه اسم القبض، وإن تفرق الفعل فيه، غير أنه يجمعه أن يكون مجموع العين، والكل جزء من الكل معروف، ولا حائل دونه، فإذا كان هكذا فهو مقبوض، والذي يكون في البيع قبضًا، يكون في الرهن قبضًا، لا يختلف ذلك.
الأم (أيضًا): الوديعة:
قال الشَّافِعِي ﵀: وإذا استودع الرجلُ الرجلَ الوديعة، فاختلفا، فقال
المستودع: دفعتها إليك، وقال المستودع: لم تدفعها، فالقول قول المستودع، ولو كانت المسألة بحالها غير أن المستودعَ قال: أمرتني أن أدفعها إلى فلان فدفعتها.
وقال المستودِع: لم آمرك، فالقول قول المستودِع، وعلى المستودع البينة، وإنَّما فرقنا بينهما أنَّ المدفوع إليه غير المستودع، وقد قال الله ﷿: (فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ) الآية.
فالأول: إنَّما ادعى دفعها إلى من اتممنه، والثاني: إنَّما ادعى دفعها إلى غير
المستودِع بأمره، فلما أنكر أنه أمره، أغرم له؛ لأنٌ المدفوع إليه غير الدافع.
الأم (أيضًا): باب (ما يجب على المرء من القيام بشهادته):
قال الشَّافِعِي ﵀: وقال ﷿: (وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) الآية.
وقال: (وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ) .
١ / ٤٥٧
قال الشَّافِعِي ﵀: والذي أحفظ عن كل من سمعت منه، من أهل
العلم في هذه الآيات، أنَّه في الشاهد، وقد لزمته الشهادة، وأن فرضًا عليه أن يقوم بها على والديه، وولده، والقريب، والبعيد، وللبغيض والقريب والبعيد، ولا يكتم عن أحد، ولا يحابي بها، ولا يمنعها أحدًا.
ثم تتفرع الشهادات، فيجتمعون ويختلفون، فيما يلزم منها وما لا يلزم، ولهذا كتاب غير هذا.
مختصر المزني: باب (الرهن):
قال الشَّافِعِي ﵀: أذن اللَّه جل ثناؤه بالرهن في الدين، والدين حق.
فكذلك كل حق لزم في حين الرهن وما تقدم الرهن، وقال اللَّه ﵎: (فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ) الآية، ولا معنى للرهن حتى يكون مقبوضًا من جائز الأمر، حين رهن، وحين أقبض، وما جاز بيعه، جاز رهنه وقبضه من مشاع وغيره. ..
ولا يجوز - قبض الرهن - إلا معه أو بعده، فأما قبله فلا رهن.
* * *
قال الله ﷿: (لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٨٤)
وقال الله ﷿: (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا)
١ / ٤٥٨
أحكام القرآن: فيما يؤثر عنه - الشَّافِعِي - من التفسير والمعاني في آيات
متفرقة:
قال البيهقي: أخبرنا أبو عبد اللَّه الحافظ، حدثني أبو بكر أحمد بن محمد بن
أيوب الفارسي المفسر، أخبرنا أبو بكر محمد بن صالح بن الحسن البستاني
(بشيراز)، أخبرنا الربيع بن سليمان المرادي:
أخبرنا محمد بن إدريس الشَّافِعِي ﵀، أخبرنا إبراهيم بن سعد، عن
ابن شهاب، عن سعيد بن مرجانة، قال عكرمة لابن عباس ﵄: إن ابن عمر ﵄ تلا هذه الآية: (وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ) الآية، فبكى، ثم قال: والله لئن أخذنا اللَّه بها لنهلِكن.
فقال ابن عباس ﵄: (يرحم اللَّه أبا عبد الرحمن، وقد وجد
المسلمون منها - حين نزلت - ما وجدوا، فذكروا ذلك لرسول الله ﷺ فنزلت: (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا) الآية.
من القول والعمل، وكان حديث النفس مما لا يملكه أحد، ولا يقدر عليه أحد.
أحكام القرآن: فصل فيما لا يجب عليه الجهاد:
قال الشَّافِعِي ﵀: فرض اللَّه ﷿ قتال غير أهل الكتاب حتى يسلموا، وأهل الكتاب حتى يعطوا الجزية، وقال: (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا) .
فبذا فُرِض على المسلمين ما أطاقوه، فإذا عجزوا عنه، فإنما كُلفوا منه
ما أطاقوه، فلا بأس: أن يكفوا عن قتال الفريقين من المشركين، أو يهادنوهم.
١ / ٤٥٩
مناقب الشَّافِعِي: باب (ما يستدل به على معرفة الشَّافِعِي، بأصول الكلام.
وصحة اعتقاده فيه):
قال الشَّافِعِي ﵀: وقال تعالى: (وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ) الآية، فذلك ما فرض الله على القلب من الإيمان.
وهو عمله، وهو رأس الإيمان.
١ / ٤٦٠
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
قال الله ﷿: (يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا)
الأم: باب (الإشارة إلى المطر)
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: أخبرنا من لا أتهم قال: حدثنا سليمان بن
عبد اللَّه، عن عروة بن الزبير قال: «إذا رأى أحدكم البرق أو الوَدقَ فلا يشير إليه وليصف ولينعت» الحديث.
قال الشَّافِعِي: ولم تزل العرب تكره الإشارة إليه في الرعد.
أخبرنا الربيع قال:
١ / ١٩٩
أخبرنا الشَّافِعِي قال: أخبرنا الثقة أن مجاهدًا كان يقول: الرعد ملك
والبرق أجنحة الملك يَسُقْنَ السحاب.
قال الشَّافِعِي: ما أشبه ما قال مجاهد بظاهر القرآن!.
أخبرنا الثقة عن مجاهد أنه قال: ما سمعت بأحد ذهب البرق ببصره.
كأنه ذهب إلى قوله تعالى: (يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ) الآية.
أحكام القرآن: فصل (فيما يؤثر عنه - الشَّافِعِي - من التفسير والمعاني في الطهارات والصلوات)
وبهذا الإسناد:
قال الشَّافِعِي: أخبرنا الثقة: أن مجاهدًا كان يقول: (الرعد): ملك.
والبرق: أجنحة الملك يَسُقْنَ السحاب) ثم ساق خبر الشَّافِعِي عن مجاهد بنصه
كما في الأم.
قال الله تعالى (. . . وَقُودُهَا اَلناسُ وَالْحِجَارَةُ. . .) الآية.
١ / ٢٠٠
الرسالة: باب (بيان ما نزل من الكتاب عام الظاهر يراد به كله الخاص)
قال الشَّافِعِي ﵀: فدل كتاب الله على أنه إنما وَقُودها بعض الناس
لقوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ (١٠١) .
أحكام القرآن: فصل (في معرفة العموم والخصوص)
قال الشَّافِعِي ﵀: وقال الله ﷿: (وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ) الآية، فدل كتاب الله ﷿ على أن وقودها بعض الناس لقوله ﷿: (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى) الآية.
قال الله ﷿: (وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ) البقرة: ٤٣، الآية
الأم: باب (الحكم في تارك الصلاة)
أخبرنا الربيع قال:
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: من ترك الصلاة المكتوبة ممن دخل في
الإسلام، قيل له: لم لا تصلي؟
فإن ذكر نسيانًا قلنا: فَصِل إذا ذكرت، وإن
١ / ٢٠١
ذكر مرضًا قلنا: فصل كيف أطقت قائمًا أو قاعدًا أو مضطجعًا أو موميًا. فإن قال: أنا أطيق الصلاة وأحسنها، ولكن لا أصلي، وإن كانت على فرضًا!
قيل له: الصلاة عليك شيء لا يعمله عنك غيرك، ولا تكون إلا بعملك، فإن صليت وإلا استتبناك، فإن تبت وإلا قتلناك؛ فإن الصلاة أعظم من الزكاة.
والحجة فيها ما وصفتُ من أن أبا بكر ﵁ قال:
«لو منعوني عقالًا مما أعطوا رسول الله ﷺ لقاتلتهم عليه، لا تفرقوا بين ما جمع الله» الحديث.
قال الشَّافِعِي ﵀: يذهب - أي: قول أبي بكر ﵁ لا تفرقوا بين ما جمع الله - فيما أرى واللَّه أعلم (القول للشافعي) إلى قول الله ﵎: (وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ) الآية.
وأخبرنا أبو بكر ﵁ أنه إنما يقاتلهم على
الصلاة والزكاة، وأصحاب رسول الله ﷺ قاتلوا مَن مَنَع الزكاة؛ إذ كانت فريضة من فرائض اللَّه جل ثناؤه، ونصب دونها أهلها، فلم يقدر على أخذها منهم طائعين، ولم يكونوا مقهورين عليها، فتؤخذ منهم كما تقام عليهم الحدود كارهين.
الأم (أيضًا): باب (زكاة مال اليتيم الثاني)
أخبرنا الربيع قال:
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: (الزكاة في مال اليتيم كما في مال البالغ لأن
الله ﷿ يقول: (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا) الآية.
١ / ٢٠٢
فلم يخص مالًا دون مال، وقال بعض الناس: إذا كانت لليتيم ذهب أو
وَرِقٌ فلا زكاة فيها، واحتج أن اللَّه يقول: (وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ)
الآية، وذهب إلى أن فرض الزكاة إنما هو على من وجبت عليه الصلاة، وقال: كيف يكون على يتيم صغير فرض الزكاة والصلاة عنه ساقطة، وكذلك أكثر الفرائض؛ ألا ترى أنه يزني ويشرب الخمر فلا يُحد، ويكفر فلا يُقتل.
واحتجوا بأن رسول الله ﷺ قال: «رفع القلم عن ثلاثة. .» ثم ذكر «والصبي حتى يبلغ» الحديث.
قال الشَّافِعِي ﵀: لبعض من يقول هذا القول: إن كان ما احتججت
به على ما احتججت فأنت تارك مواضع الحجة.
الأم (أيضًا): باب (جماع فرض الزكاة)
أخبرنا الربيع بن سليمان قال:
أخبرنا الشَّافِعِي قال: فرض اللَّه ﷿ الزكاة في غير موضع من كتابه قد كتبناه للشافعي في آخر الزكاة فقال في غير آية من كتابه:
(وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ) الآية، يعني أعطوا الزكاة.
وقال لنبيه ﷺ: (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا) الآية.
١ / ٢٠٣
قال الشَّافِعِي ﵀: ففرض اللَّه ﷿ على من له مال تجب فيه الزكاة أن يؤدي الزكاة إلى من جعلت له، وفرض على من ولي الأمر أن يؤديها، الى الوالي إذا لم يؤدها. وعلى الوالي إذا أداها أن لا يأخذها منه؛ لأنه سماها زكاة واحدة لا زكاتين. وفَرضُ الزكاة مما أحكم اللَّه ﷿، وفرضه في كتابه، ثم على لسان نبيه ﷺ.
الأم (أيضًا): باب (هل تجب العمرة وجوب الحج)
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: قد يحتمِل قول اللَّه ﷿:
(وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ) الآية، أن يكون فَرَضَهما معًا، وفرضه إذا كان في موضع واحد يثبت ثبوته في مواضع كثيرة كقوله تعالى:
(وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ) الآية، ثم قال: (إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا (١٠٣) الآية.
فذكرها (أي: فرضه الزكاة) مرة مع الصلاة، وأفرد الصلاة مرة أخرى بدونها، فلم يمنع ذلك الزكاة أن تثبت.
الأم (أيضًا): باب (كراء الأرض البيضاء)
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: وقال اللَّه ﷿: (وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ)
. . . الآية، فلو أن امرًا أحضر مساكين وأخبرهم أن لهم في ماله دراهم أخرجها بأعيانها من زكاة ماله، فلم يقيضوها، ولم يَحُلْ بينهم وبينها، لم تخرج من أن تكون مضمونة عليه حتى يؤديها، ولو تلفت في يده تلفت من ماله. وكذلك لو تطهر للصلاة وقام يريدها ولا يصليها، لم يخرج من فرضها حتى يصليها.
١ / ٢٠٤
وجاء في الأم (أيضًا): باب (ما جاء في أمر النكاح)
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: ويحتمل أن يكون الأمر بالنكاح في قوله
تعالى: (وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ) إلى قوله: (يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ) الآية، والأمر في الكتاب والسنة وكلام الناس يحتمل معاني - منها -: أن
يكون الأمر بالنكاح حتمًا كقوله تعالى: (وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ) الآية، فدلّ على أنها حتم.
الرسالة: باب (البيان الثالث)
قال الشَّافِعِي ﵀: وقال اللَّه ﵎: (وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ) الآية، بعد أن ذكر الآية الكريمة: (إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا) الآية.
ثم بين على لسان رسوله عدد ما فرض اللَّه من الصلوات
ومواقيتها وسننها، وعدد الزكاة ومواقيتها،. . . وحيث يزول هذا ويثبت، وتختلف سننه وتاتفق، ولهذا أشباه كثيرة في القرآن والسنة.
الرسالة (أيضًا): باب (جمل الفرائض)
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: بعد أن ذكر الآية (٤٣ / من سورة البقرة)
أحكم اللَّه فرضه في كتابه في الصلاة والزكاة والحج، وبين كيف فرض على
لسان نبيه ﷺ.
١ / ٢٠٥
فأخبر رسول الله ﷺ أن عدد الصلوات المفروضات خمس، وأخبر أن عدد الظهر والعصر والعشاء في الحضر أربع أربع، وعدد المغرب ثلاث، وعدد الصبح ركعتان.
وسنَّ فيها كلها قراءة، وسن أن الجهر منها بالقراءة في المغرب والعشاء
والصبح، وأن المخافتة بالقراءة في الظهر والعصر.
وسنَّ أن الفرض في الدخول في كل صلاة بتكبير، والخروج منها بتسليم.
وأنه يؤتى فيها بتكبير ثم قراءة ثم ركوع ثم سجدتين بعد الركوع، وما سوى
هذا من حدودها.
وسن في صلاة السفر قَصرًا كلما كان أربعًا من الصلوات - إن شاء
المسافر - وإثبات المغرب والصبح على حالهما في الحضر.
وأنها كلها إلى القبلة مساقرأ كان أو مقيمًا، إلا في حالي من الخوف واحد؟
وسن أن النوافل في مثل حالها: لا تحِل إلا بطَهور، ولا تجوز إلا بقراءة.
وما تجوز به المكتوبات من السجود والركوع واستقبال القبلة في الحضر وفي
الأرض وفي السفر، وأن للراكب أن يصلي في النافلة حيث توجهت به دابته، ودلل - الشَّافِعِي - على ذلك بحديث:
أخبرنا ابن أبي فُدَيك، عن ابن أبي ذئب، عن عثمان بن عبد اللَّه بن
سراقة، عن جابر بن عبد اللَّه ﵁: "أن رسول الله ﷺ في غزوة بني أنمار كان
يصلي على راحلته متوجهًا قِبَل المشرق.
١ / ٢٠٦
وسنَّ رسول الله ﷺ في صلاة الأعياد والاستسقاء سنة الصلوات في عدد الركوع والسجود، وسن في صلاة الكسوف فزاد فيها ركعة (أي: ركوعًا) على ركوع الصلوات فجعل في كل ركعة ركعتين (أي: ركوعين)
ودلل على ذلك أيضًا بثلاثة أحاديث، عن أم المؤمنين عائشة ﵂ اثنان، وواحد عن ابن عباس، ثم قال (أي: الشَّافِعِي) واجتمع في حديثهما معًا (أي: عائشة وابن عباس ﵄ على أن صلى صلاة الكسوف ركعتين في كل ركعة ركعتين (أي: ركوعين) .
وقد استدل الشَّافِعِي رحمه الله تعالى بعد أن ذكر الآية (٤٣ من سورة
البقرة) معدّدًا ما يجب في مال الرجل أوجبه اللَّه فقال: (فدلّ الكتاب والسنة
وما لم يختلف المسلمون فيه: أن هذا كله في مال الرجل بحق وجب عليه للهِ، أو أوجبه اللَّه عليه للآدميين بوجوهٍ لزمته، وأنه لا يُكلف أحد غُرْمَهُ عنه) .
١ / ٢٠٧
قال الله ﷿: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً) .
الأم: كتاب الذكاة باب (فيه مسائل مما سبق) تتعلق بالذبح
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: وكل ما كان مأكولًا من طائر أو دابة فأن
يذبحَ أحبُّ إلِي وذلك سنته ودلالة الكتاب فيه، والبقر داخلة في ذلك لقوله
تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً) الآية، وحكايته فقال:
(فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ)، الآية.
إلا الإبل فقط فإنها تنحر، لأن رسول اللَّه ﷺ نحر بُدنه، فموضع النحر في الاختيار - في السُّنة - في اللَّبَّة، وموضع الذبح
في الاختيار - في السُّنة - أسفل من اللحيين، والذكاة في جميع ما ينحر ويذبح ما بين اللَّبَّة والحلق، فأين ذبح من ذلك أجزأه فيه ما يجزيه إذا وضع الذبح في موضعه، وإن نحر ما يُذبح أو ذبح ما يُنحر، كرهتُه له، ولم أحرمه عليه، وذلك أن النحر والذبح ذكاة كله، غير أني أحبّ أن يضع كل شيء من ذلك موضعه لا يعدوه إلى غيره.
قال ابن عباس ﵄: (الذكاة في اللَّبَّة والحلق لمن قدر) .
١ / ٢٠٨
وروي مثل ذلك عن عمر بن الخطاب، وزاد عمر: (ولا تعجلوا الأنفس
أن تزهق) .
قال الله ﷿: (فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ) الآية
الأم: كتاب الزكاة باب (فيه مسائل مما سبق) تتعلق بالذبح
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: وكل ما كان مأكولًا من طائر أو دابة فإن
يذبح أحبّ إلي وذلك سنته ودلالة الكتاب فيه، والبقرة داخلة في ذلك لقوله
تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً) الآية، وحكايته فقال:
(فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ) الآية، إلا الإبل فقط، فإنها تنحر. . ثم كمل ما نقلناه في الآية السابقة.
١ / ٢٠٩
قال الله ﷿: (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا)
الأم: باب (الحكم بين أهل الجزية)
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: ولو أوصى أحد من أهل الكتاب - بأن
يكتب بثلثه الإنجيل والتوراة لِدَرس، لم تجز الوصية لأن اللَّه ﷿ قد ذكر تبديلهم منها فقال: (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا) الآية، وقال:
(وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ) الآية.
الأم (أيضًا): باب (حد الذمتين إذا زنوا)
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: وقلت له (أي: للمحاور) أخبرنا إبراهيم بن
سعد، عن ابن شهاب، عن عبيد اللَّه بن عبد اللَّه بن عتبة، عن ابن عباس ﵄ أنه قال: "كيف تسألون أهل الكتاب عن شيء؛ وكتابكم الذي أنزل الله على نبيه ﷺ أحدثُ الأخبار، تقرؤونه عضًا لم يُشَب؟! ألم يخبركم الله ﷿ في كتابه أنهم حرفوا كتاب الله تبارك اسمه، وبدلوا وكتبوا الكتاب بأيديهم، وقالوا: (هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ (٧٩) .. الآية.
ألا ينهاكم العلم الذي جاءكم
١ / ٢١٠
عن مسألتهم؛ والله ما رأبنا أحدًا منهم بسالكم عما أنزل الله إليكم
الحديث.
وقال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: وقلت له: أمرنا الله ﷿ بالحكم بينهم بكتاب الله المنزل على نبيه ﷺ، وأخبر أنهم قد بدلوا كتابه الذي أنزل، وكتبوا الكتاب بأيديهم فقالوا:
(هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ) الآية.
الأم (أيضًا): باب (الحكم بين أهل الكتاب)
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: ولم يستن رسول الله ﷺ - علمناه - ولا أحد من أصحابه، ولم يجمع المسلمون على إجازة شهادتهم بينهم. . .، فقد أخبرنا اللَّه ﵎ أنهم بدلوا كتاب اللَّه وكتبوا الكتب بأيديهم وقالوا: (هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ) الآية.
مختصر المزني: باب (الحكم في المهادنين والمعاهدين)
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: ولو قال اكتبوا بثلثي (أي: بثلث مالي)
التوراة والإنجيل فسخته لتبديلهم، قال اللَّه ﷿: (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ) الآية.
١ / ٢١١
الرسالة: باب (المقدمة)
قال الربيع بن سليمان:
أخبرنا أبو عبد الله محمد بن إدريس:. . . بعثه والناس صنفان:
أحدهما: أهل الكتاب، بدلّوا من أحكامه، وكفروا بالله، فافتعلوا كذبًا
صاغوه بألسنتهم، فخلطوه بحق الله الذي أنزل إليهم.
فذكر ﵎ لنبيه من كفرهم فقال: (وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (٧٨) . الآية.
ثم قال: (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ (٧٩) .
ثانيهما: وصنف كفروا بالله فابتدعوا ما لم يأذن به اللَّه، ونصبوا بأيديهم
حجارة وخُشُبًا، وصورًا استحسنوها، ونبذوا أسماء افتعلوها، ودعوها آلهة
عبدوها، فإذا استحسنوا غير ما عبدوا منها ألفوه ونصبوا بأيديهم غيره فعبدوه: فأولئك العرب.
وسلكت طائفة من العجم سبيلهم في هذا، وفي عبادة ما استحسنوا من
حوت ودابة ونجم ونار وغيره.
١ / ٢١٢
أحكام القرآن: فصل (فيمن لا يجب عليه الجهاد)
ثُمَّ سَاقَ الْكَلَامَ، إلَى أَنْ قَالَ: أَنَا إبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: كَيْفَ تَسْأَلُونَ أَهْلَ الْكِتَابِ عَنْ شَيْءٍ: وَكِتَابُكُمْ الَّذِي أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى نَبِيِّهِ ﷺ أَحْدَثُ الْأَخْبَارِ، تَقْرَءُونَهُ مَحْضًا لَمْ يُشَبْ؟، أَلَمْ يُخْبِرْكُمْ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ أَنَّهُمْ حَرَّفُوا كِتَابَ اللَّهِ ﷿ وَبَدَّلُوا، وَكَتَبُوا كِتَابًا بِأَيْدِيهِمْ، فَقَالُوا: ﴿هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا﴾؟.
أَلَا يَنْهَاكُمْ الْعِلْمُ الَّذِي جَاءَكُمْ عَنْ مَسْأَلَتِهِمْ؟، وَاَللَّهِ مَا رَأَيْنَا رَجُلًا مِنْهُمْ قَطُّ يَسْأَلُكُمْ عَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ إلَيْكُمْ.
قال الله ﷿ (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ)
الأم: (الحكم في تارك الصلاة)
الأم: (أيضًا) باب (زكاة مال اليتيم)
الأم: (أيضًا) باب (جماع فرض الزكاة)
١ / ٢١٣
الأم (أيضًا): باب (هل تجب العمرة وجوب الحج)
الأم (أيضًا): باب (كراء الأرض البيضاء)
الأم (أيضًا): باب (ما جاء في أمر النكاح)
الرسالة: باب (البيان الثالث)
الرسالة (أيضًا): باب (جمل الفرائض)
مناقب الشَّافِعِي: باب (ما يستدل به على معرفة الشَّافِعِي بأصول الكلام وصحة اعتقاده فيها)
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: وفرض اللَّه على اللسان: القول والتعبير عن
القلب بما عقد وأقرُّ به، فقال في ذلك: (قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ) الآية.
وقال: (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا) الآية، فذلك ما فرض اللَّه على اللسان من
القول، والتعبير عن القلب، وهو عمله، والفرض عليه من الإيمان.
١ / ٢١٤
قال الله ﷿: (مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٠٦) .
الرسالة: باب (ابتداء الناسخ والمنسوخ)
قال الشَّافِعِي ﵀: إن اللَّه خلق الخلق لما سبق في علمه مما أراد بخلقهم
وبهم، (لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ) الآية.
وأنزل عليهم الكتاب تبيانًا لكل شيء وهدى ورحمة، وفرض فيه فرائض)
أثبتها، وأخرى نسخها رحمة لخلقه، بالتخفيف عنهم، وبالتوسعة عليهم، زيادة فيما ابتدأهم به من نعمة. وأثابهم على الانتهاء إلى ما أثبت عليهم: جنته، والنجاة من عذابه. فعمتهم رحمته فيما أثبت ونسخ. فله الحمد على نعمه.
وأبان اللَّه لهم أنه إنما نسخ ما نسخ من الكتاب بالكتاب، وأن السنة لا
ناسخة للكتاب، وإنما هي تبع للكتاب، بمثل ما نزل نصًا، ومفسرة معنى ما
أنزل اللَّه منه جُملًا.
وقال الشَّافِعِي ﵀: وفي كتاب الله دلالة عليه، قال ﷿: (مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا) الآية.
فأخبر اللَّه أن نسخ القرآن وتأخير إنزاله لا يكون إلا بقرآن مثله.
وقال ﷿: (وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ) الآية، وهكذا سنة رسول الله ﷺ لا ينسخها إلا سنة
١ / ٢١٥
لرسول الله ولو أحدث الله لرسوله في أمر سنَّ فيه: غير ما سنَّ رسول الله ﷺ: لسن فيما أحدث الله إليه حتى يبين للناس أن له سنة ناسخة للتي قبلها مما يخالفها. وهذا مذكور في سنته ﷺ.
فإن قال قائل: فقد وجدنا الدلالة على أن القرآن ينسخ القرآن لأنه لا مثل للقرآن فأوجدنا ذلك في السنة؟.
قال الشَّافِعِي: فيما وصفت من فرض الله على الناس
اتباع أمر رسول الله ﷺ: دليل على أن سنة رسول الله ﷺ إنما قبلت عن الله فمن اتبعها فبكتاب الله تبعها ولا نجد خبرا ألزمه الله خلقه نصا بينا: إلا كتابه ثم سنة نبيه. فإذا كانت السنة كما وصفت لا شبه لها من قول خلق من خلق الله-: لم يجز أن ينسخها إلا مثلها ولا مثل لها غير سنة رسول لأن الله لم يجعل لآدمي بعده ما جعل له بل فرض على خلقه اتباعه فألزمهم أمره فالخلق كلهم له تبع ولا يكون للتابع أن يخالف ما فرض عليه اتباعه ومن وجب عليه اتباع سنة رسول الله لم يكن له خلافها ولم يقم مقام أن ينسخ شيئا منها.
فإن قال: أفيحتمل أن تكون له سنة مأثورة قد نسخت ولا تؤثر السنة التي نسختها؟.
فلا يحتمل هذا وكيف يحتمل أن يؤثر ما وضع فرضه ويترك ما يلزم فرضه؟! ولو جاز هذا خرج عامة السنن من أيدي الناس بأن يقولوا: لعلها منسوخة!! وليس ينسخ فرض أبدا إلا أثبت مكانه فرض.
كما نسخت قبلة بيت المقدس فأثبت مكانها الكعبة. وكل منسوخ في كتاب وسنة هكذا.
فإن قال قائل هل تنسخ السنة بالقرآن
١ / ٢١٦
قال الشَّافِعِي: لو نسخت السنة بالقرآن كانت للنبي ﷺ فيه سنة تبين أن سنته الأولى منسوخة بسنته الآخرة، حتى تقوم الحجة على الناس بأن الشيء ينسخ بمثله.
فإن قال: ما الدليل على ما تقول؟
قال الشَّافِعِي: فما وصفت من موضعه من الإبانة عن الله معنى ما أراد
بفرائضه، خاصًا وعامًا، مما وصفتُ في كتابي هذا، وأنه لا يقول أبدًا لشيء إلا بحكم الله.
ولو نسخ الله مما قال حكمًا لسنَّ رسول الله ﷺ فيما نسخه سنة.
ولو جاز أن يقال: قد سنَّ رسول الله ﷺ ثم نسخ سنته بالقرآن ولا يؤثر
عن رسول الله ﷺ السنة الناسخة: جاز أن يقال: فيما حرَّم رسول الله ﷺ من
البيوع كلها: قد يحتمل أن يكون حَرمها قبل أن يُنزل عليه (وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا) الآية، وفيمن رَجَمَ من الزناة: قد يحتمل أن يكون
الرجم منسوخًا؛ لقول الله تعالى: (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ) الآية، وفي المسح على الخفين: نسخت آية الوضوء المسح.
وجاز أن يقال: لا يدرأ عن سارق سرق من غير حرز، وسرقته أقل من ربع
دينار؛ لقول اللَّه تعالى: (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا) الآية.
لأن اسم السرقة يلزم من سرق قليلًا وكثيرًا، ومن حرز ومن غير
حرز، ولجاز ردُّ كل حديث عن رسول اللَّه بأن يقال: لم يقله، إذا لم يجده مثل التنزيل، وجاز رد السنن بهذين الوجهين، فتُركت كل سنة معها كتاب جملة تحتمل سنته أن توافقه، وهي لا تكون أبدًا إلا موافقة له، إذا احتمل اللفظ فيما روي عنه خلاف اللفظ في التنزيل بوجه، أو احتمل أن يكون في اللفظ عنه كثر مما في اللفظ في التنزيل، وإن كان محتمِلًا أن يخالفه من وجه.
١ / ٢١٧
وكتاب اللَّه وسنة رسوله ﷺ تدل على خلاف هذا القول، وموافقة لما قلنا.
وكتاب اللَّه البيان الذي يُشفى به من العَمَى، وفيه الدلالة على موضع
رسول اللَّه ﷺ من كتاب اللَّه ودينه، واتباعه له، وقيامه بتبيينه عن اللَّه.
اختلاف الحديث: (المقدمة)
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: ولا ينسخ كتاب اللَّه إلا لقول اللَّه:
(مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا) الآية.
وقوله: (وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ) الآية.
فأبان أن نسخ القرآن لا يكون إلا بقرأن مثله، وأبان جل ثناؤه أنه فرض
على رسوله اتباع أمره، فقال: (اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) الآية.
وشهد له باتباعه، فقال جل ثناؤه: (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (٥٢) صِرَاطِ اللَّهِ) الآية.
فأعلم اللَّه خلقه أنه يهديهم إلى صراطه، قال فتُقام سنة رسول اللَّه مع
كتاب اللَّه جل ثناؤه، مقام البيان عن اللَّه عدد فرضه كبيان ما أراد بما أنزل عامًا.
العامَ أراد به أو الخاص، وما أنزل فرضًا وأدبًا وإباحة وإرشادًا إلا أن شيئًا من
سنة رسول الله يخالف كتاب اللَّه في حال، لأن اللَّه جل ثناؤه قد أعلم خلقه أن رسوله يهدي إلى صراط مستقيم صراط اللَّه، ولا أن شيئًا من سنن رسول اللَّه ناسخ لكتاب اللَّه، لأنه قد أعلم خلقه أنه إنما ينسخ القرآن بقرآن مثله، والسنة تبع للقرآن.
١ / ٢١٨
وقد اختصرت من إبانة السنة عن كتاب اللَّه بعض ما حضرني مما يدل
على ما في مثل معناه إن شاء اللَّه، قال اللَّه جل ثناؤه: (إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا (١٠٣) .
فدل رسول الله ﷺ على عدد
الصلاة، ومواقيتها والعمل بها وفيها، ودل على أنها على العامة الأحرار
والمماليك من الرجال والنساء إلا الحُيض، فأبان منها المعاني التي وصفت.
وأنها مرفوعة عن الحُيض. . . الخ.
أحكام القرآن: (فصل في النسخ)
أخبرنا أبو عبد اللَّه الحافظ، أخبرنا أبو العباس، أخبرنا الربيع قال:
قال الشَّافِعِي ﵀: إن اللَّه خلق الخلق لما سبق في علمه مما أراد بخلقهم
وبهم. . . وساق النص الوارد سابقًا في كتاب الرسالة.
قال الله ﷿: (وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ) .
سبق تفسيرها في الآية / ٤٣، وانظر الإشارة إلى مواضع كلام الإمام
الشَّافِعِي عنها في الآية / ٨٣ من سورة البقرة.
١ / ٢١٩
قال الله ﷿: (وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ)
أحكام القرآن: فصل (فيما يؤثر عنه - الشافعى - من التفسير والمعاني في
الطهارات والصلوات)
قرأت - للإمام البيهقي - في كتاب: (المختصر الكبير) فيما رواه أبو
إبراهيم المزني، عن الشَّافِعِي ﵀ ألْه قال: أنزل اللَّه ﷿ على رسوله ﷺ فرض القبلة
بمكة، فكان يصلي في ناحية يستقبل منها البيت الحرام وبيت المقدس، فلما
هاجر إلى المدينة، استقبل بيت المقدس، موليًا عن البيت الحرام ستة عشر شهرًا - وهو يحب: لو قضى اللَّه إليه باستقبال البيت الحرام، لأن فيه مقام أبيه إبراهيم وإسماعيل؛ وهو المثابة للناس والأمن، وإليه الحج، وهو المأمور به: أن يُطهر للطائفين والعاكفين والركع السجود.
مع كراهية رسول الله ﷺ لما وافق
اليهود، فقال لجبريل ﵇:
«لودِدت أن ربي صرفني عن قبلة اليهود إلى غيرها»؛ فأنزل اللَّه ﷿: (وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ) الآية.
يعني - والله أعلم -: فثم الوجه الذي وجهكم اللَّه إليه، فقال جبريل للنبي ﷺ: (يا محمد أنا عبد مأمور مثلك، لا أملك شيئًا، فسل الله) فسأل النبي ﷺ ربه أن
يوجهه إلى البيت الحرام، وصَعِد جبريل إلى السماء، فجعل النبي ﷺ يديم طرفه إلى السماء: رجاء أن يأتيه جبريل ﷺ بما سأل.
١ / ٢٢٠
فأنزل اللَّه ﷿ (قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ) إلى قوله: (فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي) .
قال الله ﷿: (وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا)
الأم: باب (دخول مكة لغير إرادة حج ولا عمرة)
قال الشَّافِعِي ﵀: قال الله ﷿: (وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا)
إلى قوله: (وَالركعِ السُّجُودِ) الآية.
قال الشَّافِعِي ﵀: المثابة في كلام العرب: الموضع يثوب الناس إليه.
ويثوبون: يعودون إليه بعد الذهاب منه، وقد يقال ثاب إليه: اجتمع إليه.
فالمثابة: تجمع الاجتماع.
ويثوبون: يجتمعون إليه راجعين بعد ذهابهم منه ومبتدئين.
قال ورقة بن نوفل يذكر البيت:
١ / ٢٢١
مثابًا لأفناء القبائل كلها ... تخبُّ إليه اليعملات (١) الذوامل
وقال خداش بن زهير النصري:
فما برحت بكر تثوب وتدعى ... ويلحق منهم أولون وآخِر
أحكام القرآن: (ما يؤثر عنه - الشَّافِعِي - في الحج)
أخبرنا أبو عبد اللَّه الحافظ، أخبرنا أبو العباس، أخبرنا الربيع قال:
قال الشَّافِعِي ﵀: ثم ساق ما ورد في الأم حرفيًا.
قال الله ﷿: (رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١٢٩)
الرسالة: باب (بيان فَرَض الله في كتابه اتباع سنة نبيه ﷺ
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: وضع اللَّه رسوله من دينه وفرضه وكتابه
الموضع الذي أبان جل ثناؤه أنه جعله علمًا لدينه، بما افترض من طاعته، وحرّم من معصيته، وأبان من فضيلته، بما قَرَنَ من الإيمان برسوله مع الإيمان به.
(١) اليعملات: جمع يعمله: وهي الناقة السريعة اللينة.
١ / ٢٢٢
فجعل كمال ابتداء الإيمان، الذي ما سواه تبع له: (الإيمان بالله ثم برسوله) .
فلو آمن عبد به، ولم يؤمن برسوله: لم يقع عليه اسم كمال الإيمان أبدًا.
حتى يؤمن برسوله معه.
وهكذا سنّ رسول الله ﷺ في كل من امتحنه للإيمان.
أخبرنا مالك، عن هلال بن أسامة، عن عطاء بن يسار، عن عمر بن الحكم
قال: أتيت رسول اللَّه بجارية، فقلت: يا رسول اللَّه، عليُّ رقبة، أفأعتقها؟
فقال لها رسول الله ﷺ: «أين الله؟»
فقالت: في السماء، «ومن أنا؟»
قالت: أنت رسول اللَّه، قال: «فاعتِقها» الحديث.
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: ففرض اللَّه على الناس اتباع وحيه
وسنن رسوله، فقال: (رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١٢٩) .
أحكام القرآن: فصل (فرض الله ﷿ في كتابه واتباع سنة نبيه ﷺ:
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: فرض اللَّه تعالى على الناس اتباع وحيه وسنن
رسوله ﷺ فقال في كتابه: (رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١٢٩) .
١ / ٢٢٣
وقال تعالى: (لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (١٦٤) .
وقال ﷿: (وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ)
الآية.
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: فذكر اللَّه تعالى الكتاب وهو القرآن، وذكر الحكمة، فسمعت من أرضى من أهل العلم بالقرآن يقول: الحكمة سنة رسول الله ﷺ.
وهذا يشبه ما قال - واللَّه أعلم - بأن القرآن ذكر واتبعته الحكمة، وذكرَ
الله ﷿ منته على خلقه بئعليمهم الكتاب والحكمة. فلم يجز - واللَّه أعلم - أن تعدّ الحكمة هاهنا إلا سنة رسول الله ﷺ؛ وذلك أنها مقرونة مع كتاب اللَّه، وأن
الله قد افترض طاعة رسول الله ﷺ، وحتّم على الناس اتباع أمره.
فلا يجوز أن يقال لقول: فرض إلا لكتاب الله، ثم سنة رسول الله ﷺ مبينة عن الله ما أراد دليلًا على خاصه وعامِّه، ثم قرن الحكمة بكتابه، فاتبعها إياه، ولم يجعل هذا لأحد من خلقه غير رسول الله ﷺ.
قال الله ﷿: (وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (١٣٢)
الأم: المرتد عن الإسلام:
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: ومن اننقل عن الشرك إلى الإيمان، ثم انتقل
عن الإيمان إلى الشرك - مِن بالغي الرجال والنساء - استتيب، فإن تاب قُبلَ
منه، وإن لم يتب قُتِلَ، قال اللَّه ﷿: (وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا) إلى قوله: (هُم فِيهَا خَالِدُون) الآية.
١ / ٢٢٤
قال الشَّافِعِي: أخبرنا الثقة من أصحابنا، عن حماد، عن يحيى بن سعيد، عن
أبي أمامة بن سهل بن حُنَيف، عن عثمان بن عفان ﵁: أن رسول الله ﷺ قال:
(لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: كفر بعد إيمان، أو زنى بعد إحصان، أو قتل نفس بغبر نفس» الحديث.
ومعنى حديث عثمان عن النبي ﷺ: «كفر بعد إيمان» ومعنى من بدَّل: قُتِل، معنى يدل على أن من بدل دينه دين الحق - وهو الإسلام -، لا من بدَّل غير الإسلام، وذلك أن من خرج من غير دين الإسلام إلى غيره من الأديان، فإنما خرج
من باطل إلى باطل، ولا يقتل على الخروج من الباطل، إنما يقتل على الخروج من الحق، لأنه لم يكن على الدين الذي أوجب الله ﷿ عليه الجنة وعلى خلافه النار.
إنما كان على دين له النار إن أقام عليه، قال اللَّه جل ثناؤه: (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ) الآية.
وقال الله ﷿: (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (٨٥) .
وقال: (وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ) إلى قوله: (مسْلِمُون) الآية.
قال الله ﷿: (قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ)
مناقب الشَّافِعِي: باب (ما يستدل به على معرفة الشَّافِعِي بأصول الكلام.
وصحة اعتقاده فيهما):
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: وفرض اللَّه على اللسان القول والتعبير عن
القلب بما عقد، وأقرَّ به، فقال في ذلك: (قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ) الآية، وقال:
١ / ٢٢٥
(وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا) الآية، فذلك ما فرض الله على اللسان من
القول، والتعبير عن القلب، وهو عمله، والفرض عليه من الإيمان.
قال الله ﷿: (سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (١٤٢)
الرسالة: باب (فرض الصلاة للذي دل الكتاب ثم السنة على من تزول عنه
بالعذر وعلى من لا تكتب صلاته بالمعصية):
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: ووجه اللَّه رسوله للقبلة في الصلاة إلى بيت
المقدس، فكانت القبلة التي لا يحل - قبل نسخها - استفبال غيرها، ثم نسخ
الله قِبلَة بيت المقدس، ووجهه إلى البيت فلا يحل لأحد استقبال بيت المقدس
أبدًا لمكتوبة، ولا في أن يستقبل غير البيت الحرام.
وقال الشَّافِعِي أيضًا: وكل كان حقًا في وقته، فكان التوجه إلى بيت المقدس
- أيام وجه اللَّه إليه نبيه - حقًا، ثم نسخه، فصار الحق في التوجه إلى البيت
الحرام أبدًا، لا في استقبال غيره في مكتوبة إلا في بعض الخوف - أي: بعض
أوجه صلاة الخوف - أو نافلة في سفر، استدلالًا بالكتاب والسنة.
وهكذا كل ما نسخ اللَّه - ومعنى (نَسَخَ): ترك فرضه - كان حقًا في
وقته، وتركه حقًا إذا نسخه اللَّه، فيكون من أدرك فرضه مطيعًا به وبتركه، ومن لم يُدركِ فرضه مطيعًا باتباع الفرض الناسخ له.
١ / ٢٢٦
قال اللَّه لنبيه: (قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ) الآية.
فإن قال قائل: فأين الدلالة على أنهم حولوا إلى قبلةِ بعد قبلةِ؟
ففي قول اللَّه: (سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (١٤٢) .
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: أخبرنا مالك، عن عبد اللَّه بن دينار، عن ابن
عمر، قال: «بينما الناس بقباء في صلاة الصبح اذ جاءهم آتٍ فقال: إن النبي قد أنزل عليه الليلة قرآن، قد أمِرَ أن يستقبل القبلة فاستقبلوها، وكانت وجوههم إلى الشام، فاستداروا إلى الكعبة» الحديث.
وأخبرنا مالك، عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب أنه كان يقول:
صلى رسول الله ﷺ ستة عشر شهرًا نحو بيت المقدس، ثم حولت القبلة قبل بدر بشهرين.
اختلاف الحديث: المقدمة (من أمثلة الكلام على النسخ / نسخ الكتاب بالكتاب)
قال الشَّافِعِي ﵀: والناسخ من القرآن؛ الأمر ينزله الله من بعد
الأمر يخالفه، كما حول القبلة، قال ﷿:
(فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا) الآية،
١ / ٢٢٧
وقال: (سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَ)
الآية، وأشياء له كثيرة في غير موضع.
أحكام القرآن: فصل (فيما يؤثر عنه - الشَّافِعِي - من التفسير والمعاني في الطهارات والصلوات):
قال الشَّافِعِي ﵀: في قوله تعالى: (وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (١٤٩) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ) البقرة: ٤٩ ا-.١٥، الآية.
عدة أقوال - منها -:
وقيل: في تحويلكم عن قبلتكم التي كنتم عليها، إلى غيرها، وهذا أشبه.
ما قيل فيها - واللَّه أعلم - لقول اللَّه: (سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَ) إلى قوله: (مُسْتَقِيمٍ) الآية.
فأعلمَ اللَّه نبيه ﷺ: أنه لا حجة عليهم في التحويل، يعني لا يتكلم في ذلك أحد بشيء يريد الحجة، إلا الذين ظلموا منهم.
لا أن لهم حجة (أي: الذين ظلموا)، لأن عليهم (أي: الرسول ومن معه) أن ينصرفوا عن قبلتهم، إلى القبلة التي أمِرُوا بها.
١ / ٢٢٨
قال الله ﷿: (وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ)
أحكام القرآن: فصل (فيما يؤثر عنه - الشَّافِعِي - من التفسير والمعاني في
الطهارات والصلوات):
قال الشَّافِعِي رهه الله تعالى: وفي قوله تعالى: (وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ) هِ الآية، لقوله: إلا لنعلم أن قد عَلِمَهم من
يتبع الرسول، وعِلْمُ الله كان - قبل اتباعهم وبعده - سواء.
وقد قال المسلمون: فكيف بما مضى من صلاتنا، ومن مضى منا؟
فأعلمهم الله: أن صلاتهم إيمان فقال: (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُم) الآية.
مناقب الشافعى: باب (ما يؤثر عنه في الإيمان):
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: وسمَّى - الله - الطهور والصلوات إيمانًا في
كتابه، وذلك حين صرف الله تعالى وجه نبيه ﷺ من الصلاة إلى بيت المقدس، وأمره بالصلاة إلى الكعبة.
١ / ٢٢٩
وكان المسلمون قد صلّوا إلى بيت المقدس ستة عشر شهرًا فقالوا: يا رسول
الله، أرأيت صلاتنا التى كنا نصليها إلى بيت المقدس، ما حالها وحالنا؟
فأنزل اللَّه تعالى: (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (١٤٣) الآية.
فسمَّى الصلاة إيمانًا، فمن لقي ربه حافظًا لصلواته، حافظًا
لجوارحه، مؤديًا بكل جارحة من جوارحه ما أمر اللَّه به وفرض عليها لقي اللَّه مستكمل الإيمان من أهل الجنة، ومن كان لشيء منها تاركًا متعمدًا مما أمر اللَّه به لقي اللَّه ناقص الإيمان.
وفيما حُكِي عن المزني، عن الشَّافِعِي رحمهما اللَّه أنه قال: قوله ﷿: (إِلًا لِنَعلَمَ مَن يَتبعُ اَلرسُولَ) الآية، وعِلمُ اللَّه، كان قبل اتباعهم وبعده، سواء.
قال الله ﷿: (قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ)
الأم: من كتاب جماع العلم (التكليف بالاجتهاد في التأخِّي لما أمر بطلبه)
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: وشطره: قصده، وذلك تلقاؤه، قال: أجل.
١ / ٢٣٠
قلت (أي: الشَّافِعِي) وقال سبحانه: (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) الآية.
وقال: (وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ) الآية.
وخلق الجبال والأرض، وجعل المسجد الحرام حيث وَضَعَه من أرضه، فكلّف خلقه التوجه إليه:
١ - فمنهم من يرى البيت فلا يسعه إلا الصواب بالقصد إليه.
٢ - ومنهم من يغيب عنه، وتنأى داره عن موضعه، فيتوجه إليه بالاستدلال
بالنجوم، والشمس والقمر، والرياح، والجبال، والمهاب، كل هذا قد
يستعمل في بعض الحالات ويدل فيها ويستغني بعضها عن بعض.
قال: هذا كما وصفتَ، ولكن على إحاطة أنت من أن تكون إذا توجهت
أصبت؟ قلت: أما على إحاطةٍ من أني إذا توجهت أصبت ما أكلف، وإن لم
أكلف أكثر من هذا فنعم.
قال: أفعلى إحاطةٍ أنت من صواب البيت بتوجهك؟ قلتُ: أفهذا شيء
كلفت الإحاطة في أصله البيت؛ وإنَّما كُلفت الاجتهاد.
قال: فما كُلفت؟، قلتُ: التوجه شطر المسجد الحرام، فقد جئت
بالتكليف، وليس يعلم الإحاطة بصواب موضع البيت آدمي إلا بعيان، فأمّا ما غاب عنه من عينه فلا يحيط به آدمي.
قال: فنقول: أصبت؛، قلتُ: نعم، على
معنى ما قلتَ أصبتُ ما أمِزتُ به. فقال: ما يصح في هذا الجواب أبدًا غير ما أجبتَ به، وإن من قال: كلفت الإحاطة بأن أصيب، لزعم أنه لا يصلي إلا أن
١ / ٢٣١
يحيط بأن يصيب أبدًا. وإن القرآن ليدل كما وصفت على أنه إنما أمر بالتوجه إلى المسجد الحرام.
والتوجه: هو التأخِّي والاجتهاد، لا الإحاطة.
الأم (أيضًا): من فصل (الإقرار والاجتهاد والحكم بالظاهر)
وقال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: فإن قال قائل: فأين هذا؟ قيل: مثل الكعبة
من رآها صلى إليها، ومن غاب عنها توجه إليها بالدلائل عليها، لأنها
الأصل، فإن صلّى غائبًا عنها برأي نفسه بغير اجتهاد بالدلائل عليها كان
مخطئًا، وكانت عليه الإعادة. وكذلك الاجتهاد فمن اجتهد على الكتاب والسنة فذلك. ومن اجتهد على غير الكتاب والسنة كان مخطئًا. ..
ولا يجوز أن يعمل ذلك برأي نفسه على غير أصل، كما إذا كان الكتاب
والسنة موجودين، فآمره يترك الدلائل وآمره يجتهد برأيه!
وهذا خلاف كتاب اللَّه ﷿ لقوله تعالى: وَحَيثُ مَا كُنتُز فَوُّلوًا وُجُوهَكُثم شَظرَهُ و) الآية.
الرسالة: باب (فرض الصلاة الذي دلَّ الكتاب ثم السنة على من تَزول عنه
بالعذر وعلى من لا تكتب صلاته بالمعصية):
قال الشَّافِعِي ﵀: ووجه اللَّه رسوله للقبلة في الصلاة إلى بيت
المقدس، فكانت القبلة التي لا يحل - قبل نسخها - استقبال غيرها.
١ / ٢٣٢
اختلاف الحديث: المقدمة:
قال الشَّافِعِي ﵀: والناسخ من القرآن الأمر ينزله اللَّه من بعد الأمر
يخالفه، كما حَول القبلة، فقال ﷿: (فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا) .
أحكام القرآن: من فصل (فيما يؤثر عنه - الشَّافِعِي - من التفسير والمعاني في الطهارات والصلوات):
قال الشَّافِعِي ﵀: في قوله: (وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ) الآية، يقال: يجدون - فيما نزل عليهم - أن النبي
الأمِّي من ولد إسماعيل بن إبراهبم علبهم السلام. يخرج من الحرم، وتعود
قبلته وصلاته مخرجه. (يعني الحرم) .
الزاهر باب (القبلة):
ذكر الشَّافِعِي ﵀: قول اللَّه ﷿:
(فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ) الآية.
وقوله: (فَوَل وَجهَكَ)، أي: أقبل بوجهك، فوجِّه وجهك.
وكذلك قوله تعالى: (وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا) الآية، أي: مستقبلها.
١ / ٢٣٣
وقال أبو العباس (أحمد بن يحيى): التولية هاهنا: إقبال، وقد تكون (التولية)
إدبارًا كقولك: وَلِّ عني وجهك، أي: أدبر عني بوجهك، وقد ولى: إذا أدبر.
وأما قوله تعالى: (شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ) الآية، فشطره: تلقاؤه وجهته
ونحوه.
وأصل الشطر: النحو، وقول الناس: فلان شاطِر معناه: قد أخذ في نحو
غير الاستواء. ويقال: هؤلاء قوم يشاطروننا، أي: دُورُهم تقابل دورنا، كما تقول: هم يناحوننا، أي: نحن ننحُو نحوهم، وينحون نحونا.
وشطر كل شيء: نصفه.
قال الله ﷿: (وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (١٤٩)
الأم: كتاب جماع العلم: باب (حكاية من رد خبر الخاصة):
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: فرض الله على الناس التوجه في القبلة إلى
المسجد الحرام، فقال سبحانه: (وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ) إلى قوله: (فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ) .
ثم قال: أفرأيت إذا سافرنا واختلفنا في القبلة، فكان الأغلب على أنها في
جهة، والأغلب على غيري في جهة، ما الفرض علينا؟.
فإن قلتَ: الكعبةُ فهي وإن كانت ظاهرة في موضعها فهي مغيبة عمن نأوا
عنها، فعليهم أن يطلبوا التوجه لها غاية جَهدهم على ما أمكنهم، وغلب
بالدلالات في قلوبهم. فإذا فعلوا وسعهم الاختلاف، وكان كل مؤديًا للفرض عليه، لأن الفرض عليه الاجتهاد في طلب الحق المغيب عنه.
١ / ٢٣٤
الأم (أيضًا): باب (إبطال الاستحسان)
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: وإن قال قائل: أرأيت ما لم يمض فيه كتاب.
ولا سنة، ولا يوجد الناس اجتمعوا عليه، فأمرت بأن يؤخذ به قياسًا على كتاب الله أو سنة، أيقال لهذا: قُبِلَ عن اللَّه؟
قيل: نعم، قبلت جملته عن اللَّه.
فإن قيل: ما جملته؟ قيل: الاجتهاد فيه على الكتاب والسنة.
فإن قيل: أفيوجد في الكتاب دليل على ما وصفت؟
قيل: نعم، نسخ الله قبلة بيت المقدس وفرض على
الناس التوجه إلى البيت، فكان على من رأى البيت أن يتوجه إليه بالعيان.
وفرض اللَّه على من غاب عنه البيت، أن يولي وجهه شطر المسجد الحرام.
لأن البيت في المسجد الحرام، فكان المحيط بأنه أصاب البيت بالمعاينة، والمتوجه قَصد البيت ممن غاب عنه قابلين عن اللَّه معًا التوجه إليه.
وأحدهما على الإحاطة، والآخر متوجِّة بدلالة، فهو على إحاطة من
صواب جملة ما كُلف، وعلى غير إحاطة كإحاطة الذي يرى البيت من صواب البيت، ولم يكلف الإحاطة.
قال الله ﷿: (وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ)
الأم: باب (استقبال القبلة):
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: فنصب الله ﷿ لهم البيت والمسجد. فكانوا إذا رأوه فعليهم استقبال البيت، لأن رسول الله ﷺ صلى مُسْتَقْبِلَه، والناس معه
١ / ٢٣٥
حوله من كل جهة، ودلهم بالعلامات التي خَلَقَ لهم، والعقول التي ركب فيهم على قصد البيت الحرام، وقصد المسجد الحرام، وهو: قصد البيت الحرام.
فالفرض على كل مصل فريضةً، أو نافلةً، أو على جنازة، أو ساجد لشكر، أو سجود قرآن، أن يتحرى استقبال البيت إلا في حالين: أرخص اللَّه تعالى فيهما سأذكرهما إن شاء الله تعالى.
الأم (أيضًا): باب (كيف استقبال البيت):
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: واستقبال البيت وجهان:
أولًا: فكل من كان يقدر على رؤية البيت ممن بمكة في مسجدها، أو منزل
منها، أو سهل، أو جبل، فلا تجزيه صلاته حتى يصيب استقبال البيت؛ لأنه
يدرك صواب استقباله بمعاينته.
ثانيًا: وإن كان أعمى وسعه أن يستقبل به غيره البيت، ولم يكن له أن
يصلي وهو لا يرى البيت بغير أن يستقبله به غيره، فإن كان في حال لا يجد
أحدًا يستقبله به، صلى وأعاد الصلاة؛ لأنه على غير علم، من أنه أصاب
استقبال القبلة، إذا غاب عنه بالدلائل التي جعلها الله، من النجوم، والشمس، والقمر، والرياح وغيرها، مما يستدل به أهل الخبرة على التوجه إلى البيت.
١ / ٢٣٦
الأم (أيضًا): باب (إبطال الاستحسان):
قال الشَّافِعِي ﵀: فإن قيل فبم يتوجه إلى البيت؟
قيل: قال اللَّه تعالى:
(وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ)
وقال: (وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (١٦) .
وكانت العلامات جبالًا يعرفون مواضعها من الأرض، وشمسًا، وقمرًا، ونجمًا مما يعرفون من الفَلَكِ، ورياحًا يعرفون مهابها على الهواء، تدل على قصد البيت الحرام، فجعل عليهم طلب الدلائل على شطر المسجد الحرام فقال: (وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ) الآية.
وكان معقولًا عن اللَّه ﷿ أن يأمرهم بتولية وجوههم شطره، بطلب الدلائل عليه، لا بما استحسنوا، ولا بما سنح في قلوبهم، ولا خطر على أوهامهم بلا دلالة جعلها اللَّه لهم، لأنه قضى ألَّا يتركهم سدى، وكان معقولًا عنه لأنَّه إذا أمرهم أن يتوجهوا شطره، وغيب عنهم عينه، أن لم يجعل لهم أن يتوجهوا حيث شاؤوا لا قاصدين له بطلب الدلالة عليه.
الرسالة: باب (كيف البيان؟):
وقال سبحانه: (وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ) الآية.
١ / ٢٣٧
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: فدلهم جل ثناؤه إذا غابوا عن عين المسجد
الحرام على صواب الاجتهاد، مما فرض عليهم منه، بالعقول التي ركب فيهم، المميزة بين الأشياء وأضادها، والعلامات التي نصب لهم دون عين المسجد
الحرام الذي أمرهم بالتوجه شطره.
وقال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: ففرض عليهم الاجتهاد بالتوجه شطر
المسجد الحرام، مما دلهم عليه مما وصفت، فكانوا ما كانوا مجتهدين غير مزايلين أمره جل ثناؤه، ولم يجعل لهم إذا غاب عنهم عين المسجد الحرام أن يصلوا حيث شاؤوا.
أحكام القرآن: فصل (فيما يؤثر عنه - الشَّافِعِي - من التفسير والمعاني في
الطهارات والصلوات):
قال الشَّافِعِي ﵀: وفي قوله تعالى: (وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ) الآية.
قيل في ذلك - واللَّه أعلم -: لا تستقبلوا المسجد الحرام من المدينة إلا
وأنتم مستدبرون بيت المقدس، وإن جئتم من جهة نجد اليمن - فكنتم تستقبلون البيت الحرام، وبيت المقدس - استقبلتم المسجد الحرام، لا أنَّ إرادتكم (قصدكم وجهتكم) بيت المقدس، وإن استقبلتموه باستقبال المسجد الحرام، ولا أنتم كذلك تستقبلون ما دونه ووراءه، لا إرادة أن يكون قبلة، ولكن جهة قبلة.
١ / ٢٣٨
وقيل: (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ) الآية، في استقبال قبلة غيركم.
قال الشَّافِعِي ﵀: فلما حول اللَّه رسوله ﷺ إلى المسجد الحرام صلى رسول اللَّه ﷺ أكثر صلاته مما يلي الباب من جهة وجه الكعبة، وقد صلّى من ورائها والناس معه مصطفين بالكعبة مستقبليها كلها، مستدبرين ما ورائها من المسجد الحرام.
قال الشَّافِعِي ﵀: وقوله ﷿: (فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ)
الآية، فشطره وتلقاؤه وجهته: واحد في كلام العرب.
واستدل عليه ببعض ما في كتاب الرسالة.
أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، أخبرنا أبو العباس، أخبرنا الربيع:
أخبرنا الشَّافِعِي ﵀ قال: قال الله ﵎: (وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ)
الآية.
ففرض عليهم حيث ما كانوا: أن يولوا وجوههم شطره.
وشطره: جهته في كلام العرب. إذا قلت: أقصد شطر كذا، معروف أنك
تقول: أقصد قصد عين كذا، يعني: قصد نفس كذا: وكذلك (تلقاؤه وجهته)
أي: استقبل تلقاءه وجهته، وكلها بمعنى واحد، وإن كانت بألفاظ مختلفة.
١ / ٢٣٩
قال خُفَاف بن ندْبَة:
ألا من مبلغ عَمْرًا رسولًا ... وما تغني الرسالة ُ شطرَ عمرو
وقال ساعدة بن جُؤَية:
أقول لأم زنباع أقيمي ... صدورَ العيسِ شطرَ بني تميم
وقال لقيط الأيادي:
وقد أظلكم من شطر ثغركم ... هول له ظُلَم تغشاكم قطعًا
وقال الشاعر:
إن العسيرَ بها داة مُخامِرُها ... فشطرها بصرُ العينينِ مَحْسُورُ
قال الشَّافِعِي ﵀: يريد تلقاءها بصرُ العينين ونحوها: تلقاء جهتها.
وهذا كله - مع غيره من أشعارهم - يبين أن شطر الشيء: قَصْد عين
الشيء، إذا كان معاينًا: فبالصواب (أي: التصويب إليه)، وإن كان مغيَّبًا
فبالاجتهاد والتوجُّه إليه، وذلك أكثر ما يمكنه فيه.
قال الشَّافِعِي ﵀: وقيل: (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ) الآية.
في استقبال قبلة غيركم، وقيل في تحويلكم عن قبلتكم التي كنتم عليها إلى غيرها
- وهذا أشبه ما قيل فيها والله أعلم -.
١ / ٢٤٠
قال الله ﷿: (كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (١٥١)
الرسالة: بيان فرض الله في كتابه اتباع سنة نبيه:
قال الشَّافِعِي ﵀: وقال جل ثناؤه: (كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (١٥١) .
فذكر اللَّه الكتاب (وهو القرآن) وذكر الحكمة.
فسمعت من أرضى من أهل العلم بالقرآن يقول: الحكمة: سنة رسول اللَّه.
وهذا يشبه ما قال - واللَّه أعلم -؛ لأن القرآن ذكر وأتبِعَتْهُ الحكمة، وذكر اللَّه مَنَّهُ على خلقه بتعليمهم الكتاب والحكمة، فلم يجز - واللَّه أعلم - أن يقال الحكمة هاهنا إلا سنة رسول الله ﷺ.
وذلك أنها مقرونة مع كتاب اللَّه، وأن اللَّه افترض طاعة رسوله، وحتَّم
على الناس اتباع أمره، فلا يجوز أن يقال لقول: فرضٌ إلا لكتاب اللَّه ثم سنة رسوله. لما وصفنا من أن اللَّه جعل الإيمان برسوله مقرونًا بالإيمان به.
وسنة رسول اللَّه مبينة عن اللَّه معنى ما أراد دليلًا على خاصّه وعامّه.
ثم قَرَنَ الحكمة بها بكتابه فاتبعها إياه، ولم يجعل هذا لأحدٍ من خلقه غيرِ رسوله.
١ / ٢٤١
قال الله ﷿: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (١٥٥)
أحكام القرآن: فصل (فيما يؤثر عنه - الشَّافِعِي - من التفسير والمعاني في
آيات متفرقة):
أخبرنا أبو عبد الرحمن (محمد بن الحسين السُّلمي)، قال: سمعت محمد بن
عبد الله بن شاذان، يقول: سمعت جعفر بن أحمد الخلاطي، يقول: سمعت الربيع ابن سليمان يقول: سئل الشَّافِعِي عن قول الله ﷿:
(وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (١٥٥) .
قال الشَّافِعِي ﵀: الخوف: خوف العدو.
والجوع: جوع شهر رمضان.
ونقص من الأموال: الزكوات.
والأنفس: الأمراض.
والثمرات: الصدقات.
وبشر الصابرين: على أدائها.
قال الله ﷿: (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ)
الأم: باب (تقديم الوضوء ومتابعته):
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: في قول اللَّه ﷿:
(إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ) الآية.
فبدأ رسول الله ﷺ بالصفا وقال: "نبدأ بما بدأ الله
١ / ٢٤٢
به«الحديث، ولم أعلم خلافًا أنه لو بدأ بالمروة ألغى طوافًا حتى يكون
بدؤه بالصفا، وكما قلنا في الجمار (أي: رمي الحجار) إن بدأ بالآخرة (أي: رمي جمرة العقبة) قبل الأولى (أي: الجمرة الصغرى)، أعاد حتى تكون بعدها، وإن بدأ الطواف بالصفا والمروة قبل الطواف بالبيت أعاد.
مختصر المزني: باب (سنة الوضوء):
بعد أن ذكر حكم من صلى بوضوء على غير ولاء (أي: قدم عضوًا على
عضو)، رجع فبنى على الولاء من وضوئه، وأعاد الصلاة، واحتج بقول الله ﷿:
(إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ) الآية، فبدأ رسول الله ﷺ بالصفا وقال: نبدأ بما بدأ الله به» الحديث.
أحكام القرآن: فصل (فيما يؤثر عنه - الشَّافِعِي - من التفسير والمعانى في
الطهارات والصلوات):
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: وتوضأ رسول الله ﷺ كما أمر اللَّه، وبدأ بما بدأ اللَّه به، فأشبه - واللَّه أعلم - أن يكون على المتوضئ في الوضوء شيئان:
١ - أن يبدأ بما بدأ اللَّه ثم رسوله ﷺ به منه.
٢ - ويأتي على إكمال ما أمِر به.
١ / ٢٤٣
وشبهه بقول اللَّه ﷿: (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ) الآية، فبدأ رسول اللَّه ﷺ بالصفا وقال: «نبدأ بما بدأ الله به» الحديث.
آداب الشَّافِعِي ومناقبه: ما روى الإمام أحمد بن حنبل عن الإمام الشَّافِعِي من
الآثار والمسائل:
أخبرنا أبو الحسن، أخبرنا أبو محمد، أخبرني عبد الله بن أحمد بن حنبل.
قال سمعت أبي بقول:
أدخل الشَّافِعِي عليهم (يعني: أصحاب أبي حنيفة): إذا بدأ المتوضئ بعضو
دون عضو فقال: قال الله ﷿: (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ) الآية، فقالوا (يعني: أصحاب أبي حنفية): إذا بدأ بالمروة قبل الصفا يعيد ذلك الشوط.
مناقب الشَّافِعِي: ما يستدل به على فقه الشَّافِعِي، وتقدمه فيه، وحسن
استنباطه:
أخبرنا أبو عبد اللَّه الحافظ قال: أخبرني الحسين بن محمد الدارمي قال:
أخبرنا عبد الرحمن يعني: بن محمد قال: أخبرني عبد اللَّه بن أحمد بن حنبل في
كتابه، قال سمعت أبي يقول:. . . ثم ساق الحديث بتمامه.
قلت: أخذ الشَّافِعِي بمسألة ترتيب أعمال الوضوء، من ترتيب أعمال
الوضوء الوارد في الآية، وقياسه على بداية السعي بين الصفا والمروة من سياق النظم (القرآني) كذلك، ومن السنة بقول النبي ﷺ وفعله، وذلك عندما دنا من الصفا في حَجِّه قرأ آية: (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ) الآية، وقال: «ابدؤوا بما بدأ الله بذكره».
١ / ٢٤٤
ثم بدأ سعيه بالصفا فرقِيَ عليه. وهو مذهب الجمهور
(الشَّافِعِي، ومالك، وأحمد، وأصحاب أبي حنيفة، وعطاء في رواية عنه) .
قال الله ﷿: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (١٦٤)
الأم: كتاب (صلاة الكسوف):
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: فذكر اللَّه ﷿ الآيات، ولم يذكر معها سجودًا إلا مع الشمس والقمر، وأمر بألَّا يُسجد لهما، وأمر بأن يُسجد له، فاحتمل أمره أن يَسجد له عند ذكر الشمس والقمر، بأن يأمر بالصلاة عند حادث في الشمس والقمر، واحتُمل أن يكون إنما نهى عن السجود لهما، كما نهى عن عبادة ما سواه، فدلّت سنة رسول الله ﷺ على أن يُصلَّى لله عند كسوف الشمس والقمر، فأشبه ذلك معنيين:
أحدهما: أن يُصلَّى عند كسوفهما لا يختلفان في ذلك.
وثانيهما: ألَّا يؤمر عند كل آية كانت في غيرهما بالصلاة، كما أمر بها
عندهما، لأن اللَّه ﵎ لم يذكر في شيء من الآيات صلاة، والصلاة في كل حال طاعة لله ﵎، وغبطة لمن صلاها.
١ / ٢٤٥
قال الشَّافِعِي ﵀: فيصفى عند كسوف الشمس والقمر صلاة جماعة.
ولا يُفعل ذلك في شيء من الآيات غيرها.
أحكام القرآن: فصل (فيما يؤثر عنه - الشَّافِعِي - من التفسير والمعاني في الطهارات والصلوات):
وقد نقل فيه ما ورد في الأم حرفيًا.
مناقب الشَّافِعِي: باب (ما يؤثر عنه - الشَّافِعِي - في دلائل التوحيد):
أورد البيهقي في مناقبه قصة الحوار بين الشَّافِعِي ﵀ وبشر
المريسي، فقال له بشر: أخبرني ما الدليل على أن اللَّه تعالى واحد؟
فقال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: يا بشر، ما تدرك من لسان الخواص فأكلمك
على لسانهم؛ إلا أنه لابد لي من أن أجيبك على مقدارك من حيث أنت.
الدليل عليه به، ومنه وإليه:
واختلاف الأصوات من المصوِّت إذا وكان المحرك واحدًا: دليل على أنه واحد.
- وعدم الضد في الكلام على الدوام: دليل على أن اللَّه واحد.
- وأربع نيران مختلفات في جسد واحد، متفقات الدوام على تركيبه في
استقامة الشكل: دليل على أنه واحد.
١ / ٢٤٦
- وأربع طبائع مختلفات في الخافقين أضداد غير أشكال، مُؤَلِّفات على إصلاح الأحوال: دليل على أنه واحد.
قال تعالى: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (١٦٤) .
كل ذلك: دليل على أن اللَّه واحد لا شريك له.
أعلام النبلاء:
قال الشَّافِعِي ﵀: بعد مناظرة لتلميذه المزني رحمه اللَّه تعالى: ارجع إلى
الله، وإلى قوله: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) الآية.
فاستدِلَّ بالمخلوق على الخالق، ولا تتكلف عِلْمَ ما لم يبلغه عقلك.
قال - المزني -: فتبت.
قال الله ﷿: (إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٧٣)
الأم: فصل (ما يحل بالضرورة):
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: وقال اللَّه تعالى: (إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ) الآية.
١ / ٢٤٧
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: فيحلّ ما حرّم من مينة ودم ولحم خنزير.
وكلّ ما حرم مما يغير العقل من الخمر للمضطر.
والمضطر: الرجل يكون بالموضع، لا طعام فيه معه، ولا شيء يسد فورة
جوعه من لبن وما أشبهه، ويبلغه الجوع ما يخاف منه الموت أو المرض، وإن لم يخف الموت، أو يضعفْه ويضره، أو يعتل أو يكون ماشيًا فيضعفُ عن بلوغ
حيث يريد، أو راكبًا فيضعف عن ركوب دابته، أو ما في هذا المعنى من الضرر البين، فأيُّ هذا ناله فله أن يأكل من المحرّم.
وكذلك يشرب من المحرّم غير المسكر، مثل الماء تقع فيه الميتة وما أشبهه.
وأحبَ إليَّ أن يأكل آكله إن أكل، وشاربه إن شرب، أو جمعهما، فعلى ما
يقطع عنه الخوف ويبلغ به بعض القوة، ولا يبين أن يحرم عليه أن يشبع ويروى، وإن أجزأه دونه؛ لأن التحريم قد زال عنه بالضرورة.
وإذا بلغ الشِّبع والري فليس له مجاوزته، لأن مجاوزته حينئذ إلى الضرر
أقرب منه إلى النفع.
ومن بلغ إلى الشبع فقد خرج في بلوغه من حد الضرورة، وكذلك الري.
ولا بأس أن يتزود معه من الميتة ما اضطر إليه، فإذا وجد الغنى عنه
طرحه.
ولو تزود معه ميتة فلقي مضطرًا أراد شراءها منه، لم يحلّ له ثمنها، إنما حل
له منها منع الضرر البين على بدنه لا ثمنها.
الأم (أيضًا): فصل (السفر الذي تقصر في مثله الصلاة بلا خوف):
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: وسواء في القصر المريض والصحيح، والعبد
والحر، والأنثى والذكر إذا سافروا معًا في غير معصية اللَّه تعالى، فأما من سافر
١ / ٢٤٨
باغيًا على مسلم، أو معاهد، أو يقطع طريقًا، أو يفسد في الأرض، أو العبد يخرج آبقًا من سيده، أو الرجل هاربًا ليمنع حقًا لزمه، أو ما في مثل هذا المعنى أو غيره من المعصية فليس له أن يقصر، فإن قصر أعاد كل صلاة صلاها؛ لأن القصر رخصة، وإنما جعلت الرخصة لمن لم يكن عاصيًا، ألا ترى إلى قوله تعالى: (فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ) الآية، وهكذا لا يمسح على الخفين، ولا يجمع الصلاة مسافر في معصية، وهكذا لا يصلِّي إلى غير القبلة نافلة، ولا يخفف عمن كان سفره في معصية اللَّه تعالى.
مختصر المزني: باب (صلاة المسافر والجمع في السفر)
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: وليس لأحد سافر في معصية أن يقصر، ولا
يمسح مسح المسافر فإن فعل أعاد، ولا تخفيف على من سفره في معصية.
أحكام القرآن: فصل (فيما يؤثر عنه - الشافعى - من التفسير والمعاني في الطهارات والصلوات):
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: والقصر لمن خرج في غير معصية: في السنة.
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: فأما من خرج باغيًا على مسلم. . . ثم ساق ما
ورد في الأم الفقرة السابقة وزاد البيهقي:
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: وأكره ترك القصر، وأنهى عنه، إذا كان رغبة
عن السنة فيه.
يعني لمن خرج في غير معصية.
١ / ٢٤٩
أحكام القرآن: فصل (ما يؤثر عنه في الصيد والذبائح وفي الطعام والشراب):
وقال تعالى: (إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ) الآية.
قال في ذكر ما حُرِّم: (فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣) .
فيحل ما حُرِّم من الميتة ولحم الخنزير، وكل ما حُرِّم - مما لا يغير العقل:
من الخمر - للمضطر.
قال الله ﷿: (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (١٧٧)
اختلاف الحديث: باب (عطية الرجل لولده):
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: وقد حمد اللَّه - جل ثناؤه -، على إعطاء المال
والطعام في وجوه الخير وأمر بهما، فقال ﷿: (وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ) الآية.
وقال ﷿: (مِسْكِينًا وَيَتِيمًا) .
١ / ٢٥٠
الآية، وقال ﷿: (وَلَا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ) الآية، وقال ﷿: (إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ)
الآية، وقال ﷿: (لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) الآية.
فإذا جاز ذلك للأجنبيين وذوي القربى، فلا أقرب من الولد، وذلك أن
الرجل إذا أعطى ماله ذا قرابته غير ولده، أو أجنبيًا فقد منعه ولده وقطع ملكه عن نفسه، فإذا كان محمودًا على هذا كان محمودًا أن يعطيه بعض ولده دون بعض، ومَنع بعضهم ما أخرج من ماله أقل من منعهم كلهم.
ويستحب له أن يسوِّي بينهم، لئلا يقصّر واحدٌ منهم في برِّه، فإن القرابة
تتفُسُ بعضها بعضًا ما لم تنفس البعادة.
قال الربيع: يربد البعداء.
وقد فضَّل أبو بكر ﵁ عائشة بنِحل، وفضَّل الخليفة عمر ﵁ عاصم بن عمر بشيء أعطاه إياه، وفضل عبد الرحمن بن عوف ﵁ ولد أم كلثوم.
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: لو اتصل حديث طاووس، أنه لا يحل لواهب
أن يرجع فيما وهب إلا الوالد فيما وهب لولده لزعمت أن من وهب هبة -
لمن يستثيبه مثله أو لا يستثيبه - وقُبِضَت الهبة لم يكن للواهب أن يرجع في
هبته؛ وإن لم يثبه الموهوب له - واللَّه أعلم -.
١ / ٢٥١
أحكام القرآن: فصل (فيما يؤثر عنه - الشَّافِعِي - من التفسير والمعاني في
الطهارات والصلوات):
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: ويقال: إن اليهود قالت: البر في استقبال
المغرب، وقالت النصارى: البر في استقبال المشرق بكل حال، فأنزل الله)
فيهم: (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ) الآية.
يعني - واللَّه أعلم - وأنتم مشركون، لأن البر لا يكتب لمشرك.
فلما حوَّل اللَّه رسوله ﷺ إلى المسجد الحرام، صلى رسول الله ﷺ أكثر
صلاته مما يلي الباب من وجه الكعبة، وقد صلى من ورائها والناس معه.
مطيفين بالكعبة، مستقبليها كلها، مستدبرين ما وراءها من المسجد الحرام.
قال الله ﷿: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى)
الأم: باب (جماع ايجاب القصاص في العمد):
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: فالقصاص إنما يكون ممن فعل ما فيه
القصاص، لا ممن لم يفعله، فاخكَم اللَّه - عز ذكره - فَرض القصاص في كتابه، وأبانت السنة لمن هو؟ وعلى من هو؟.
أخبرنا الربيع قال:
١ / ٢٥٢
أخبرنا الشَّافِعِي قال: أخبرنا سفيان، عن ابن أبي ليلى، عن الحكم أو عن
عيسى بن أبي ليلى، عن أبي ليلى قال: قال رسول الله ﷺ: (»من اعتبط مومنًا بقتل فهو قَوَدُ يده، إلا أن يرضى ولي المقتول، فمن حال دونه فعليه لعنة الله وغضبه، لا يقبل منه صرف ولا عدل.
الأم (أيضًا): باب (الحكم في قتل العمد)
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: ويقال: من العلم العام الذي لا اختلاف
فيه بين أحد لقيته، فحدثنيه، وبلغني عنه - من علماء العرب - أنها كانت قبل نزول الوحي على رسول الله ﷺ تباين في الفضل، ويكون بينها ما يكون بين الجيران، من قتل العمد والخطأ، فكان بعضها يعرف لبعض الفضل في الديات، حتى تكون دية الرجل الشريف أضعاف دية الرجل دونه، فأخذ بذلك بعض من بين أظْهُرهَا - من غيرها - بأقصد مما كانت تأخذ به، فكانت دية النضيري ضعف دية القُرَظي.
١ / ٢٥٣
وكان الشريف من العرب إذا قتل، يجاوز قاتله إلى من لم يقتله من أشراف
القبيلة التي قتله أحدها، وربما لم يرضوا إلا بعددٍ يقتلونهم، فقتل بعض غِني
شأسَ بن زهير فجمع عليهم أبوه زهير بن جَذِيمة، فقالوا له - أو بعض من
نُدب عنهم -: سل في قتل شأس. فقال: إحدى ثلاث لا يغنيني غيرها، قالوا: وما هي؟ قال: تحيون لي شأسًا! أو تملؤون ردائي من نجوم السماء!
أو تدفعون إلي غنيًا بأسرها فأقتلها، ثم لا أرى أني أخذت منه عوضًا!.
وقَتَل كليب واثل: فاقتتلوا دهرًا طويلًا، واعتزلهم بعضهم، فأصابوا ابنًا
له يقال له: بُجَيْر، فأتاهم فقال: قد عرفتم عزلتي، فبجير بكليب - وهو أعز العرب -، وكفوا عن الحرب فقالوا: بحير بشسع (نعل) كليب، فقاتلهم وكان معتزلًا.
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: وقال إنه نزل في ذلك وغيره مما كانوا يحكمون
به في الجاهلية - هذا الحكم الذي أحكيه كله بعد هذا - وحَكَمَ اللَّه تبارك
وتعالى بالعدل، فسوّى في الحكم بين عباده، الشريف منهم والوضيع: (أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (٥٠) .
١ / ٢٥٤
فقال: إن الإسلام نزل وبعض العرب يطلب بعضًا بدماء وجراح، فنزل
فيهم: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى) إلى قوله تعالى:
(ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ) الآية، والآية التي بعدها.
أخبرنا الربيع قال:
أخبرنا الشَّافِعِي قال: أخبرنا معاذ بن موسى، عن بُكَير بن معروف، عن
مقاتل بن حيان، قال معاذ: قال مقاتل: أخذت هذا التفسير عن نفَر، حفظ معاذ منهم؛ مجاهدًا، والحسن، والضحاك بن مزاحم، قال: في قوله تعالى: (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ) الآية.
قال: «كان كتب على أهل التوراة أنه من قتل نفسًا بغير نفس حق له أن يقاد بها، ولا يعفى عنه، ولا تقبل منه الدية، وفرض على أهل الإنجيل أنه يعفى عنه، ولا يقتل.
ورخص لأمة محمد ﷺ إن شاء قتل، وإن شاء أخد الدية، وإن شاء عفا، فذلك قوله تعالى: (ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ) الآية» الحديث.
يقول: الدية تخفيف من الله إذ جعل الدية، ولا يَقتُل.
ثم قال: (فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ) الآية.
يقول: من قَتَلَ بعد أخذه الدية فله عذاب أليم.
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: أخبرنا سفيان بن عيينة: قال حدثنا عمرو بن
دينار: قال سمعت مجاهدًا يقول: سمعت ابن عباس ﵄ يقول: كان في بني إسرائيل القصاص، ولم تكن فيهم الدية، فقال الله ﷿ لهذه الأمة: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ) .
١ / ٢٥٥
قال: العفو أن تقبل الدية في العمد
(فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ) الآية.
مما كتب على من كان قبلكم (فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ)
الآية.
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: وما قاله ابن عباس في هذا كما قال - واللَّه
سبحانه أعلم -.
وكذلك ما قال مقاتل؛ لأن اللَّه ﷿ إذ ذكَرَ القصاصَ، ثم قال: (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ) الآية، لم يجز - واللَّه أعلم - أن يقال: إن عُفِيَ بأن صُولِح على أخذ الدية؛ لأن العفو ترك حق بلا عوض، فلم يجز إلا أن يكون إن عُفِيَ عن القتل، فإذا عفا لم يكن إليه سبيل.
وصار للعافي - عن - القتل مال في مال القاتل، وهو دية قتيله فيتبعه
بمعروف، ويؤدي إليه القاتل بإحسان، فلو كان إذا عفا عن القاتل لم يكن له
شيء، لم يكن للعافي يتبعه، ولا على القاتل شيء يؤديه بإحسان.
وقال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: وقد جاءت السنة مع بيان القرآن في مثل
معنى القرآن.
أخبرنا الربيع قال:
أخبرنا الشَّافِعِي قال: أخبرنا ابن أبي فديك، عن ابن أبي ذئب، عن سعيد
ابن أبي سعيد المقبريّ، عن أبي شريح الكعبي، أن رسول الله ﷺ قال: "إن الله
١ / ٢٥٦
حرّم مكة ولم يُحرمها الناس، فلا يحل لمن كان يومن بالله واليوم الآخر أن
يسفك بها دمًا، ولا يعضد بها شجرًا، فإن ارتخصَ أحدٌ فقال: أحِلَّت لرسول الله ﷺ فإن الله أحلها لي، ولم يحلها لله للناس، وإنَّما أحلت لي ساعة من النهار، ثم هي حرام كحرمتها بالأمس، ثم إنكم يا خزاعة قد قتلتم هدا القتيل من هذيل، وأنا والله عاقلُه: فمن قتَلَ بعدَه قتيلًا فأهلُه بين خِيرتين إن أحبوا قتلوا، وإن أحبوا أخدوا العقل» الحديث.
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: في قوله ﵎: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى) الآية، إنها في الحيين اللذين وصف مقاتل بن حيان
وغيره، ممن حكيت قوله في غير هذا الموضع. ثم أدبها أن يُقتل الحر بالحر إذا
قتلَه، والأنثى بالأنثى إذا قتلتها، ولا يُقتل غيرُ قاتلها إبطالًا؛ لأن يجاوز القاتل إلى غيره، إذا كان المقتول أفضل من القاتل، - كما وصفت - ليس أنه لا يُقتل ذكر بالأنثى، إذا كانا حُرين مسلمين، ولا أنه لا يقتل حر بعبد من هذه الجهة، إنما يترك قتْله من جهة غيرها، دهاذا كانت هكذا أشبه أن تكون لا تدل على ألا يكون يُقتل اثنان بواحد، إذا كانا قاتِلَين.
وقال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: وهي عامة في أن الله - عزّ ذكره - أوجب
القصاص بها إذا تكافأ دمان، وإنما يتكافآن بالحرية والإسلام، وعلى كل ما
وصفت من عموم الآية وخصوص بما دلالة من كتاب أو سنة أو إجماع.
وقال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى،: فأيما رجل قتل قتيلًا فَوَلي المقتول بالخيار.
إن شاء قتل القاتل، وإن شاء أخذ منه الدية، وإن شاء عفا عنه بلا دية.
١ / ٢٥٧
الأم (أيضًا): الثلاتة يقتلون الرجل يصيبونه بجرح:
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: فإن قال قائل: أرأيت قول اللَّه ﷿: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ) الآية، هل فيه دلالة على ألا يقتل حُرَّان بُحر، ولا رجل بأمرأة.
قيل له: لم نعلم نحالفًا في أن الرجل يقتل بالمرأة، فإذا لم يختلف أحد في هذا
ففيه دلالة على أن الآية خاصة، فإن قال قائل: فيم نزلت؟
قيل: أخبرنا معاذ بن موسى، عن بكير بن معروف، عن مقاتل بن حيان قال: قال مقاتل: أخذت هذا التفسير من نفر، حفظ منهم: مجاهد، والضحاك، والحسن ﵏ قالوا:
قوله تعالى: (كُتِبَ عَلَيكُمُ اَلْقِصَاصُ فِى اَلْقَتلَى) الآية، قال: كان بدء ذلك في حيين من العرب، - الأوس والخزرج كما روي سابقًا - اقتتلوا قبل الإسلام بقليل، وكان لأحد الحيين فضل على الآخر، فاقسموا بالله ليقتلن بالأنثى الذكر، وبالعبد منهم بالحر، فلما نزلت هذه الآية، رضوا وسلموا.
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: وما أشبه ما قالوا من هذا بما قالوا: لأن اللَّه
ألزم كل مذنب ذنبه، ولم يجعل جرم أحد على غيره، فقال ﷺ: (الْحُرُّ بِالْحُرِّ) إذا كان - واللَّه أعلم - قاتلًا له، (وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ) إذا كان قاتلًا له، (وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى)
إذا كانت قاتلة لها، لا أن يُقتل بأحد ممن لم يقتله لفضل المقتول على القاتل، وقد جاء عن النبي ﷺ:
«أعتى الناس على الله من قتل غير قاتله» الحديث
١ / ٢٥٨
وقال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: وما وصفت من أني لم أعلم مخالفًا في أن يقتل
الرجل بالمرأة، دليل على أن لو كانت هذه الآية غير خاصة، كما قال من وصفت قوله من أهل التفسير، لمِ يُقتل ذكر بأنثى، ولم يجعل عوام من حفظت عنه من أهل العلم، لا نعلم لهم مخالفا، لهذا هذا معناها: ولم يقتل الذكر بالأنثى!.
الأم (أيضًا): من لا قصاص بينه لاختلاف الدينين:
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: قال اللَّه ﵎: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى) الآية.
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: فكان ظاهر الآية - واللَّه أعلم - أن القصاص
إنما كتب على البالغين المكتوب عليهم القصاص؛ لأنهم المخاطبون بالفرائض
إذا قتلوا المؤمنين بابتداء الآية.
وقوله ﷿ (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ) الآية، لأنه جعل الأخوُّة بين المؤمنين، فقال ﷿ (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) الآية.
وقطع ذلك بين المؤمنين والكافرين.
ودلت سنة رسول الله ﷺ على مثل ظاهر الآية.
الأم (أيضًا): باب (قتل الغيلة وغيرها وعفو الأولياء):
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: كل من قُتِل في حرابة، أو صحراء، أو مِصْر.
أو مكابرة أو قُتِل على مال أو غيره، أو قتل نائرة فالقصاص، والعفو إلى
الأولياء، وليس إلى السلطان من ذلك شيء، إلا الأدب إذا عفا الولي.
١ / ٢٥٩
الأم (أيضًا): باب (الرجل يمسك الرجل للرجل حتى يقتله):
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: حد اللَّه الناس على الفعل نفسه وجعل فيه
القود، فقال ﵎: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى) الآية، وقال: (وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا)
الآية، فكان معروفًا عند من خوطب بهذه الآية أن السلطان لولي المقتول على
القاتل نفسه، وروي عن النبي ﷺ أنه قال:
«من اعتبط مسلمًا بقتل فهو قَوَدُ يده» الحديث.
وقال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: لم أجد أحدًا من خلق اللَّه تعالى - يُقتدَى به
- حدُّ أحدًا قط على غير فعل نفسه أو قوله.
فلو أن رجلًا حبس رجلًا لرجل فقتله - الثاني - قُتل به القاتل وعوقب
الحابس، ولا يجوز في حكم اللَّه تعالى إذا قَتلتُ القاتلَ بالقتلِ أن أقتلَ الحابسَ
بالحبس، والحبس غير القتل، ومن قَتَلَ هذا فقد أحال حكم اللَّه ﷿، لأن اللَّه إذ قال: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى) الآية، فالقصاص أن يُفعل بالمرِء مثلُ ما فعل.
وقال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: وروي عن علي أنه قال: «يقتل القاتل.
ويحبس الممسك حتى يموت» الحديث.
١ / ٢٦٠
الأم (أيضًا): في المرتد:
وقال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: وقال ﷿: (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ) الآية، فبين في حكم الله ﷿: (أن جعل العفو أو القتل إلى ولي الدم، دون السلطان إلا في الهارب، فإنه قد حكم في الهاربين أن يقتلوا، أو يصلبوا فجعل ذلك عليهم حكمًا مطلقًا لم يذكر فيه أولياء الدم.
الأم (أيضًا): كتاب اللعان:
أخبرنا الربيع بن سليمان قال:
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: وهكذا كل ما أوجبه اللَّه تعالى لأحد، وجب
على الإمام أخذه له، إن طلبه أخذه له بكل حال، فإن قال قائل فما الحجة في ذلك؟
قيل: قول اللَّه ﵎ اسمه: (وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ) الآية، فبين أن السلطان للولي، ثم
بين فقال في القصاص (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ) الآية، فجعل العفو إلى
الولي.
الأم (أيضًا): ولاة القصاص:
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: وإذا سقط القصاص صارت لهم الدية، وإذا
كان للدم وليَّان فحكم لهما بالقصاص، أو لم يحكم حتى قال أحدهما: قد
عفوت القتلَ لله، أو قد عفوت عنه، أو قد تركت الاقتصاص منه، أو قال
القائل: اعفُ عني، فقال: قد عفوت عنك، فقد بطل القصاص عنه، وهو على
١ / ٢٦١
حق من الدية، وإن أحب أن يأخذه به أخذه، لأن عفوه عن القصاص غير عفوه عن المال، إنما هو عفو أحد الأمرين دون الآخر.
قال تعالى: (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ) الآية، يعني: من عفي له عن القصاص.
وقال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: لو قال قد عفوت عنك القصاص والدية، لم
يكن له قصاص، ولم يكن له نصيب من الدية، ولو قال: عفوت ما لزمك لي، لم يكن هذا عفوًا للدية وكان عفوًا للقصاص، وإنَّما كان عفوًا للقصاص دون المال، ولم يكن عفوًا للمال دون القصاص، ولا لهما؛ لأن اللَّه ﷿ حكم بالقصاص.
ثم قال: (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ) الآية، فأعلم -
سبحانه - أن العفو مطلقًا، إنما هو ترك القصاص لأنه أعظم الأمرين.
وحكم بأن يتبع بالمعروف ويؤدي إليه المعفو له بإحسان.
الأم (أيضًا): باب (القصاص بين المماليك):
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: قال اللَّه تعالى: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى) إلى قوله: (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)
الآية، فسمعت من أرضى من أهل العلم بالقرآن يقول: كان في أهل الإنجيل إذا قتلوا: العقلُ، لم يكن فيهم قصاص، وكان في أهل التوراة: القصاص، ولم يكن فيهم دية، فحكم اللَّه ﷿ في هذه الأمة بأن في العمد: الدية إن شاء الولي، أو القصاص إن شاء، فأنزل اللَّه ﷿:
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ) الآية.
١ / ٢٦٢
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: وذلك والله أعلم بيَّن في التنزيل مستغنىً به
عن التأويل، وقد ذكِرَ عن ابن عباس بعضه، ولم أحفظ عنه بعضه فقال: - واللَّه أعلم - في كتاب اللَّه ﷿ أن أنزل فيما فيه القصاص، وكان بيّنًا: أن ذلك إلى ولي الدم، لأن العفو إنما هو لمن له القود، وكان بيّنا أن قول الله ﷿: (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ) الآية، أن يعفو ولي الدم القصاص، ويأخذ
المال، لأنه لو كان ولي الدم - إذا عفا: القصاص - لم ببق له غيره، لم يكن له إذا ذهب حقه، ولم تكن دية يأخذها شيء يتبعه بمعروف، ولا يؤدى إليه
بإحسان، وقال اللَّه ﷿: (ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ) الآية، مبينًا أنه تخفيف القتل بأخذ المال.
الأم (أيضًا): باب (الديات):
وقال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: وقد قال بعض أهل العلم: أي ولاة الدم
قام به قَتَل، وإن عفا الآخرون فأنزله منزلة الحد.
وقال غيره من أهل العلم: يقتل البالغون ولا ينتظرون الصغار.
وقال غيره: يقتل الولد ولا ينتظرون الزوجة.
قيل: ذهبنا إليه أنه السنة التي لا ينبغي أن تخالف، أو في مثل معنى
السنة والقياس على الإجماع.
فإن قال: فأين السنة فيه؟
قيل: قال رسول الله ﷺ:
«من قُتِل له قتيل فأهله بين خيرَتين إن أحبوا أخذوا القصاص، وإن أحبوا
فالدية» الحديث.
فلما كان من حكم رسول الله ﷺ أن لولاة الدم أن يقتلوا،
١ / ٢٦٣
ولهم أن يأخذوا المال، وكان إجماع المسلمين أن الدية موروثة، لم يحل لوارث أن يمنع الميراث من وَرث معه، حتى يكون الوارث يمنع نفسه من الميراث، وهذا معنى القرآن في قول الله ﷿: (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ) الآية.
وهذا مكتوب في كتاب الديات، ووجدنا ما خالفه
من الأقاويل، لا حجة فيه لما وصفت من السنة بخلافهم، ووجدت مع ذلك
قولهم متناقضًا.
مختصر المزني: باب (الخيار في القصاص):
بعد أن ذكَرَ حديث الشَّافِعِي عن أبي شريح الكعبي الذي ذكِرَ سابقًا في
الأم.
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: ولم يختلفوا في أن العقل يورث كالمال، وإذا كان هكذا فكل وارث ولي، زوجة، أو ابنة، لا يخرج أحد منهم من ولاية الدم، ولا يقتل إلا باجتماعهم، وحبس القاتل حتى يحضر الغائب، ويبلغ الطفل، وإن كان فيهم معتوه فحتى يفيق أو يموت، فيقوم وارثه مقامه، وأيهم عفا عن القصاص كان على حقه من الدية، وإن عفا على غير مال كان الباقون على حقوقهم من
الدية، فإن عفوا جميعًا، وعفا المفلس يجنى عليه أو على عبده القصاص، جاز
ذلك لهم، ولم يكن لأهل الدين والوصايا منعهم، لأن المال لا يملك بالعمد إلا بمشيئة المجني عليه إن كان حيًا، وبمشيئة الورثة إن كان ميتًا.
وذكر المزني كذلك حديث مقاتل بن حيان الذي سبق ذكره.
١ / ٢٦٤
مختصر المزني (أيضًا): ومن كتاب جراح العمد:
وقد ذكر الشَّافِعِي - رحمه اللَّه تعالى - في تفسير هذه الآية، قول مقاتل
الوارد في تفسير الآية السابقة.
أحكام القرآن: ما يؤثر عنه - الشَّافِعِي - في الجراح وغيره:
انظر ما كتبه الشَّافِعِي في الأم فيما سبق، فقد نقل الإمام البيهقي كثيرًا منه
كما هو بحرفيته، بالصفحات المشار إليها في أسفل الهامش، فلا حاجة للتكرار.
قال الله ﷿: (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (١٧٩)
الأم: الحكم في قتل العمد:
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: في قوله: (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (١٧٩) الآية.
يقول لكم في القصاص حياة، ينتهي بعضكم
عن بعض أن يصيب مخافة أن يقتل.
أخبرنا سفيان بن عيينة قال: حدثنا عمرو ابن دينار قال: سمعت مجاهدًا يقول: سمعت ابن عباس يقول: كان في بني إسرائيل القصاص، ولم تكن فيهم الدية، فقال اللَّه ﷿ لهذه الأمة: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ) .
١ / ٢٦٥
وجاء في الأم (أيضًا): باب (القصاص بين المماليك) .
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: وقال اللَّه ﷿: (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ) الآية، يعني: أن يمتنع بها من القتل، فلم يكن المال إذا كان الولي في حال يسقط عنه القود إذا أراد.
وقال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: وروى سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار.
عن ابن عباس ﵄ في تفسير هذه الآية: شبيهًا بما وصفت في أحد المعنيين، ودلّت سنة رسول الله ﷺ على مثل معناه.
مختصر المزني: ومن كتاب جراح العمد - (من مسند الشَّافِعِي):
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: في قوله ﷿: (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) الآية.
يقول: لكم في القصاص حياة ينتهي بها بعضكم عن بعض مخافة أن يقتل. . ..
أحكام القرآن: ما يؤثر عنه في الجراح وغيره:
انظر ما كتبه الشَّافِعِي في الأم فيما سبق بتفسير هذه الآية، والتي سبقتها.
فقد نقله الإمام البيهقي بحرفيته فلا حاجة للتكرار.
١ / ٢٦٦
قال الله ﷿: (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (١٨٠) فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١٨١) .
الأم: باب (ما نسخ من الوصايا):
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: قال اللَّه ﵎: (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ) إلى قوله: (الْمُتَّقِينَ) الآية.
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: وكان فرضًا في كتاب اللَّه تعالى على من ترك
خيرًا - والخير: المال - أن يوصي لوالديه وأقربيه، ثم زعم بعض أهل العلم
بالقرآن أن الوصية للوالدين والأقربين الوارثين منسوخة، واختلفوا في الأقربين غير الوارثين، فكثر من لقيت من أهل العلم ممن حفظت عنه قال: الوصايا منسوخة، لأنه إنما أمر بها إذا كانت إنما يورث بها، فلما قسُّم اللَّه - تعالى ذكره - المواريث كانت تطوعًا.
وقال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: وهذا إن شاء اللَّه تعالى كله كما قالوا.
فإن قال قائل: ما دلَّ على ما وصفتَ؟
قيل له: قال اللَّه ﵎: (وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ) الآية.
أخبرنا ابن عيينة، عن سليمان الأحول، عن مجاهد أن رسول الله ﷺ قال: «لا وصية لوارث».
١ / ٢٦٧
وما وصفت من أن الوصية للوارث منسوخة بآي المواريث، وأن لا
وصية لوارث مما لا أعرف فيه عن أحد ممن لقيت خلافًا.
الأم (أيضًا): باب (الوصية للوارث):
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: قال اللَّه ﷿: (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ) إلى قوله: (الْمُتَّقِينَ) الآية، وقال في آي المواريث: (وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ) الآية.
وذكر من ورُّث - جل ثناؤه - في آي من كتابه.
وقال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: واحتمل إجماع أمر اللَّه تعالى بالوصية
للوالدين والأقربين معنيين:
أحدهما: أن يكون للوالدين والأقربين الأمران معًا، فيكون على الموصي
أن يوصي لهم، فيأخذون بالوصية، ويكون لهم الميراث فيأخذون به.
ثانيهما: واحتمل أن يكون الأمر بالوصية نزل ناسخًا لأن تكون الوصية
لهم ثابتة، فوجدنا الدلالة على أن الوصية للوالدين، والأقربين الوارثين منسوخة بآي المواريث، من وجهين:
الأول: أخبار ليست بمتصلة عن النبي ﷺ من جهة الحجازيين منها: أن سفيان بن عيينة أخبرنا، عن سليمان الأحول عن مجاهد؛ أن النبي ﷺ قال:
«لا وصية لوارث» الحديث.
وغيره يثبته بهذا الوجه، ووجدنا غيره قد يصل فيه
١ / ٢٦٨
حديثًا عن النبي ﷺ بمثل هذا المعنى، ثم لم نعلم أهل العلم في البلدان اختلفوا في
أن الوصية للوالدين منسوخة بآي المواريث.
الثاني: واحتمل إذا كانت منسوخة أن تكون الوصية للوالدين ساقطة، حتى
لو أوصى لهما لم تجز الوصية، وبهذا نقول، وما رُوي عن النبي ﷺ وما نعلم أهل العلم اختلفوا فيه يدل على هذا، وإن كان يحتمل أن يكون وجوبها منسوخًا، وإذا
أوصى لهم جاز، وإذا أوصى للوالدين فأجاز الورثة فليس بالوصية أخذوا، وإنما أخذوا بإعطاء الورثة لهم ما لهم، لأنا قد أبطلنا حكم الوصية لهم فكان نص المنسوخ في وصية الوالدين، وسُمِّي معهم الأقربين جملة، فلما كان الوالدان وارثين، فسنا عليهم كل وارث، وكذلك الخبر عن النبي ﷺ، فلما كان الأقربون
ورثة، وغير ورثة، أبطلنا الوصية للورثة من الأقربين بالنص والقياس والخبر: «لا وصية لوارث» وأجزنا الوصية للأقربين، ولغير الورثة من كان.
فالأصل في الوصايا لمن أوصى في كتاب اللَّه ﷿.
وما روي عن رسول اللَّه ﷺ، وما لم أعلم من مضى من أهل العلم اختلفوا فيه، في أن يُنظر إلى الوصايا:
١ - فإذا كانت لمن يرث الميت أبطلتها.
٢ - وإن كانت لمن لا يرثه أجزتها على الوجه الذي تجوز به، وموجود
عندي - واللَّه أعلم - فيما وصفت من الكتاب، وما روي عن النبي ﷺ.
وحيث إن ما لم نعلم من مضى من أهل العلم اختلفوا فيه، أنه إنما يمنع الورثة
الوصايا لئلا يأخذوا مال الميت من وجهتين، وذلك أن ما ترك المُتَوَفى يؤخذ
بميراث أو وصية، فلما كان حكمهما مختلفين، لم يجز أن يجمع لواحد الحكمان المختلفان في حكم واحد، وحال واحدة، كما لا يجوز أن يُعطى بالشيء وضد الشيء، ولم يحتمل معنى غيره بحال.
١ / ٢٦٩
الأم (أيضًا): باب (الوصية للوارث) أيضًا
قال الشَّافِعِي ﵀ تعالى: ولقد ذكر الله ﵎ الوصية فقال:
(إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ) الآية.
وأن الأغلب من الأقربين، لأنهم يبتلون أولاد الموصي بالقرابة ثم الأغلب أن يزيدوا، وأن يبتلوهم بصلة أبيهم لهم بالوصية.
وينبغي لمن منع أحدًا مخافة أن يرد على وارث، أو ينفعه، أن
يمنع ذوي القرابة، وألا يعتق العبيد الذين قد عرفوا بالعطف على الورثة، ولكن لا يمنع أحد وصية غير الوارث بالخبر عن رسول الله ﷺ، وما لا يختلف فيه من أحفظ عنه ممن لقيت.
الأم (أيضًا): باب (المدَّعي والمدَّعَى عليه):
قال الشَّافِعِي ﵀ تعالى: فإذا كان الناس أجمعوا على خبر الواحد
بتصديق المخبر عنه، ولا يحتجون عليه بمثل ما تحئجون به، ويتبعون فيه أمر
رسول اللَّه ﷺ ثم جاء خبر آخر أقوى منه، فكيف جاز لك أن تخالفه؛ وكيف جاز لك أن تثبت ما اختلفوا فيه، مما وصفنا بالخبر عن النبي ﷺ مرة، وتعيب علينا أن ثبتنا ما هو أقوى منه؟ وقلت لبعض من يقول هذا القول:
قد قال اللَّه (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ) الآية.
فإن قال لك قائل: تجوز الوصية لوارث؛ قال
روي عن النبي ﷺ، قلنا: فالحديث لا تجوز الوصية لوارث أثبت أم حديث
اليمين مع الشاهد؛ قال: بل حديث اليمين مع الشاهد، ولكن الناس لا يختلفون في أن الوصية لوارث منسوخة.
قلنا: أليس بخبر؟ قال: بلى. قلت: فإذا كان
١ / ٢٧٠
الناس يجتمعون على قبول الخبر ثم جاء خبر عن النبي ﷺ أقوى منه، لم جاز - أي لم يجز - لأحد خلافه، قلنا: أرأيت إن قال لك قائل: لا تجوز الوصية إلا لذي قرابة، فقد قاله طاووس، قال: العتق وصية، قد أجازها النبي ﷺ في حديث
عمران للمماليك، ولا قرابة لهم، قلنا: أفتحتج بحديث عمران مرة، وتتركه أخرى؟! وقلت له: نصير بك إلى ما ليس فيه سنة لرسول الله ﷺ حتى نوجدك (أي: نجدك) تخرج من جميع ما احتججت به، وتخالف فيه ظاهر الكتاب عندك.
الأم (أيضًا): كتاب (القرعة):
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: بعد أن ذكر حديثي عمران بن حصين ﵁ وابن المسيب ﵀ ثم ساق حديث نافع عن ابن عمر ﵄، بعد ذلك.
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: وبهذا كله نأخذ، وحديث القرعة عن عمران
ابن حصين، وابن المسيب، موافق قول ابن عمر ﵁ في العتق، لا
يختلفان في شيء حُكِيَ فيهما، ولا في واحد منهما.
١ / ٢٧١
وهذا يدل على خلاف ما قال بعض أهل العلم: إن قول الله ﵎:
(الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ) الآية.
منسوخة بالمواريث، والآخر: إن الوصايا إذا
جُوِّزَ بها الثلث رُدت إلى الثلث، وهذه الحجة في ألا يُجَاوَزَ بالوصايا الثلث.
وذلك أنه لو شاء رجل أن يقول: إنما أشار رسول الله ﷺ على سعد، ولم يعلمه
أنه لا يجوز له أن يوصي بكثر من الثلث، وفي هذا حجة لنا على من زعم أن من لم يدع وارثًا يعرف، أوصى بماله كله، فحديث عمران بن حصين يدل على خمسة معانٍ، وحديث نافع يدل على ثلاثة معانِ كلها في حديث عمران.
الأم (أيضًا): المكاتب:
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: وقال اللَّه ﷿: (إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا) الآية، فعقلنا أنه ترك مالًا؛ لأن المال: المتروك.
وبقوله: (الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ) قال: فلما قال اللَّه ﷿: (إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا) الآية.
كان أظهر معانيها بدلالة ما استدللنا به من الكتاب: قوة على اكتساب المال وأمانة؛ لأنه قد يكون قويًا فيكسب، فلا يؤدي
إذا لم يكن ذا أمانة، وأمينًا فلا يكون قويًا على الكسب فلا يؤدى.
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: ولا يجوز عندي - واللَّه تعالى أعلم - في
قوله: (إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا) الآية، إلا هذا.
الرسالة: الناسخ والمنسوخ الذي تدل عليه السنة والإجماع:
قال الله ﵎: (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (١٨٠) الآية.
١ / ٢٧٢
وقال اللَّه: (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٤٠) .
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: فأنزل اللَّه ميراث الوالدين، ومن ورث
بعدهما، ومعهما من الأقربين، وميراث الزوج من زوجته، والزوجة من زوجها.
فكانت الآيتان محتملتين لأن تثبتا الوصية للوالدين والأقربين، والوصية
للزوج، والميراث مع الوصايا، فيأخذون بالمير اث والوصايا، ومحتملة بأن تكون المواريث ناسخة للوصايا.
فلما احتملت الآيتان ما وصفنا، كان على أهل العلم طلب الدلالة من
كتاب الله، فما لم يجدوه نصًا في كتاب الله، طلبوه في سنة رسول الله ﷺ، فإن وجدوه فما قبلوا عن رسول الله ﷺ فعن الله قبلوه، بما افترض من طاعته.
ووجدنا أهل الفتيا، ومن حفظنا عنه من أهل العلم بالمغازي (من قريش وغيرهم) لا يختلفون في أن النبي ﷺ قال عام الفتح: «لا وصية لوارث، ولا يقتل مومن بكافر» الحديث.
ويأثِرونه عمن حفظوا عنه ممن لقوا من أهل العلم بالمغازي.
فكان هذا نقل عامة عن عامة، وكان أقوى في بعض الأمر من نقل واحد
عن واحد.
وكذلك وجدنا أهل العلم عليه مجمعين.
١ / ٢٧٣
وقال الشَّافِعِي ﵀: وروى بعض الشاميين حديثًا ليس مما يثبته أهل
الحديث فيه: إن بعض رجاله مجهولون، فرويناه عن النبي ﷺ منقطعًا.
وإنما قبلناه بمن وصفت من نقل أهل المغازي، وإجماع العامة عليه، وإن كنا
قد ذكرنا الحديث فيه، واعتمدنا على حديث أهل المغازي عامًّا، وإجماع الناس.
أخبرنا سفيان - يعني ابن عيينة -، عن سليمان الأحول، عن مجاهد أن
رسول اللَّه ﷺ قال: «لا وصية لوارث» الحديث.
فاستدللنا بما وصفتُ، من نقل عامة أهل المغازي عن النبي ﷺ أن «لا وصية لوارث» الحديث.
على أن المواريث ناسخة للوصية (للوالدين والزوجة) مع الخبر المنقطع عن النبي ﷺ، وإجماع العامة على القول به.
وكذلك قال أكثر العامة: إن الوصية للأقربين منسوخة زائل فرضها، إذا
كانوا وارثين بالميراث، وإن كانوا غير وارثين فليس بفرض أن يُوصي لهم.
إلا أن طاووسًا وقليلًا معه قالوا: نسخت الوصية للوالدين، وثبتت للقرابة
غير الوارثين، فمن أوصى لغير قرابة لم يجز.
فلما احتملت الآية ما ذهب إليه طاووس من أن الوصية للقرابة ثابتة، إذ
لم يكن في خبر أهل العلم بالمغازي إلا أن النبي ﷺ قال: «لا وصيهْ لوارث»
وجب عندنا على أهل العلم، طلب الدلالة على خلاف ما قال طاووس أو
موافقته.
فوجدنا رسول الله ﷺ، حكم في ستة مملوكين، كانوا لرجل لا مال له غيرهم، فأعتقهم عند الموت، فجزأهم النبي ﷺ ثلاثة أجزاء، فأعتق اثنين وأرقَّ أربعة.
١ / ٢٧٤
أخبرنا بذلك عبد الوهاب (بن عبد المجيد الثقفي)، عن أيوب
(السختياني)، عن أبي فلابة (عبد اللَّه بن زيد الجرمي البصرى)، عن أبي المهلب (الجَرْمي البصري - عم أبي قلابة)، عن عمران بن حصين ﵁ عن النبي ﷺ.
وقال الشَّافِعِي ﵀: فكانت دلالة السنة في حديث عمران بن حصين بينة، أن رسول الله ﷺ أنزل في عتقهم في المرض وصية، والذي أعتقهم رجل من العرب.
والعربي إنما يملك من لا قرابة بينه وبين العجم، فأجاز النبي ﷺ لهم الوصية.
فدل ذلك على أن الوصية لو كانت تبطل لغير قرابة بطلت للعبيد المعتقين.
لأنهم ليسوا بقرابة للمعتق.
ودلُّ ذلك على: أن لا وصية لميت إلا في ثلث ماله، ودل ذلك على أن يُرَدُّ
ما جاوز الثلث في الوصية، وعلى إبطال الاستسعاء، وإثبات القَسمِ والقُرعَة.
وبطلت وصية الوالدين، لأنهما وارثان وثبت ميراثهما، ومن أوصى له
الميت من قرابة وغيرهم، جازت الوصية، إذا لم يكن وارثًا.
وأحَبّ إليَّ لو أوصَى لقرابته.
جماع العلم: باب (حكاية قول الطائفة التي ردت الأخبار كلها):
قال الشَّافِعِي ﵀: وقلت له أيضًا: يلزمك هذا في ناسخ القرآن
ومنسوخه؟
١ / ٢٧٥
قال: فاذكر منه شيئًا. قلت: قال تعالى: (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ) الآية، وقال في الفرائض:
(وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ) الآية.
فزعمنا بالخبر عن رسول الله ﷺ أن آية الفرائض نسخت الوصية للوالدين
والأقربين، فلو كنا مما لا يقبل الخبر، فقال قائل: الوصية نسخت الفرائض.
هل نجد الحجة عليه إلا الخبر عن رسول الله ﷺ؟!
قال: هذا شبيه بالكتاب والحكمة، والحجة لك ثابتة، بأن علينا قبول الخبر
عن رسول الله ﷺ.
وقد صرتُ إلى: قَبول الخبرِ لَزم للمسلمين، لما ذكرتَ وما في
مثل معانيه من كتاب اللَّه.
وليست تدخلني أنفة من إظهار الانتقال عما كنت أرى إلى غيره، إذا بانت
الحجة فيه، بل أتديَّن بأنَّ عليَّ الرجوعَ عما كنت أرى إلى ما رأيتُ الحقُّ.
أحكام القرآن: ما نسخ من الوصايا:
لقد لخص الإمام البيهقي تفسير الشَّافِعِي لهذه الآية بما يلي:
أخبرنا أبو سعيد محمد بن موسى، أخبرنا أبو العباس الأصم، أخبرنا الربيع قال:
قال الشَّافِعِي ﵀: قال اللَّه ﷿: (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ) الآية.
قال الشَّافِعِي ﵀: فكان فرضًا في كتاب اللَّه ﷿، على من ترك خيرًا
(والخير: المال) أن يوصي لوالديه وأقربين.
١ / ٢٧٦
وزعم بعض أهل العلم بالقرآن: أن الوصية للوالدين والأقربين الوارثين
منسوخة، واختلفوا في الأقربين غير الوارثين، فأكثر من لقيت من أهل العلم، وممن حفظت عنه قال: الوصايا منسوخة؛ لأنه إنما أمر بها إذا كانت إنما يُوَرثُ بها، فلما قسم اللَّه المواريث كانت تطوعًا.
وهذا - إن شاء اللَّه - كلّه كما قالوا.
واحتج الشَّافِعِي ﵀ في عدم جواز الوصية للوارث بآية الميراث.
وبما روي عن النبي ﷺ من قوله: «لا وصية لوارث».
واحتج في جواز الوصية لغير ذي الرحم، بحديث عمران بن حصين:
«أن رجلًا أعتق ستة مملوكين له، ليس له مال غيرهم، فجزأهم النبي ﷺ ثلاثة أجزاء، فأعتق اثنين، وأرَقَّ أربعة» الحديث.
ثم قال الشَّافِعِي: والمعتق: عربي، وإنَّما كانت العرب: تملك من لا قرابة
بينها وبينه، فلو لم تجز الوصية إلا لذي قرابة، لم تجز للمملوكين، وقد أجازها لهم رسول اللَّه ﷺ.
أحكام القرآن (أيضًا): ما يؤثر عنه - الشافعى - في القرعة والعتق، والولاء، والكتابة:
قال الشَّافِعِي ﵀: وقال اللَّه ﷿: (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا) الآية، فعقلنا أنه إن ترك مالًا، لأن المال: المتروك، ولقوله: (الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ) الآية.
فلما قال اللَّه ﷿: (إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا) الآية.
كان أظهر معانيها بدلالة ما استدللنا به من الكتاب قوة على
١ / ٢٧٧
اكتساب المال، وأمانة، لأنه قد يكون قويًا فيكسب، فلا يؤدي إذا لم يكن ذا أمانة، وأمينًا فلا يكون قويًا على الكسب، فلا يؤدي، ولا يجوز عندي - واللَّه أعلم - في قوله تعالى: (إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا) الآية، إلا هذا.
وليس الظاهر أن القول: إن علمت في عبدك مالًا لمعنيين:
أحدهما: أن المال لا يكون فيه، إنما يكون عنده، لا فيه. ولكن يكون فيه
الاكتساب: الذي يفيده المال.
والثاني: أن المال الذي في يده لسيده فكيف يكاتبه بماله؟! إنما يكاتبه بما
يفيد العبد بعد الكتابة؛ لأنه حينئذ يُمنع ما أفاد العبد لأداء الكتابة.
ولعل من ذهب إلى أن الخير: المال، أراد أنه أفاد بكسبه مالًا للسيد.
فيستدل على أنه يفيد مالًا يعتق به، كما أفاد أولًا.
وقال الشَّافِعِي ﵀: وإذا جمع القوة على الاكتساب والأمانة، فأحب
إليَّ لسيده أن يُكاتبه. ولا يبين لي أن يجبر عليه، لأن الآية محتملة أن يكون
إرشادًا أو إباحةَ لا حتمًا.
وقد ذهب هذا المذهب عدد ممن لقيت من أهل العلم.
وبسط الكلام فيه واحتج في جملة ما ذكر: بأنه لو كان واجبًا؛ لكان محدودًا
بأقل ما يقع عليه اسم الكتابة، أو لغاية معلومة.
قال الله ﷿: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (١٨٣)
الرسالة: بيان ما أنزل الله من الكتاب عائم الطاهر وهو يجمع العام والخُصُوص:
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: قال اللَّه ﵎: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (١٨٣) .
١ / ٢٧٨
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: وهكذا التنزيل في الصوم والصلاة على
البالغين العاقلين، دون من لم يبلغ ومن بلغ ممن كلب على عقله، ودون الحُيَّضِ في أيام حيضهن.
الرسالة (أيضًا): باب (البيان الأول):
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: قال الله ﵎: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (١٨٣) الآية.
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: فافترض - الله - عليهم الصوم، ثم بين أنه
شهر، والشهر عندهم ما بين الهلالين، وقد يكون ثلاثين، وتسعًا وعشرين.
فكانت الدلالة في هذا كالدلالة في الآيتين، وكان في الآيتين قبله: في ابن
جماعة: (زيادة تبيُّن جماع العدد) .
ثم قال ﵀: وأشبه الأمور بزيادة تبين جملة العدد، في السبع.
والثلاث، وفي الثلاثين، والعشر، أن تكون زيادة في التبيين، لأنهم لم يزالوا
يعرفون هذين العددين وجماعَهُ، كما لم يزالوا يعرفون شهر رمضان.
١ / ٢٧٩
مسند الشَّافِعِي: في أحكام متفرقة في الصوم:
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: أخبرنا مالك، عن عبد الله بن دينار، عن
عبد الله بن عمر ﵄، أن رسول الله ﷺ قال: «الشهر تسعة وعشرون، فلا تصوموا حتى تروا الهلال، ولا تفطروا حتى تروه، فإن غُم عليكم فكملوا العدة ثلاثين» الحديث.
أحكام القرآن: فصل في معرفة العموم والخصوص:
قال الشَّافِعِي: بين الله في كتابه في هذه الآية وغيرها العموم والخصوص. ..
ثم قال ﵀: وهكذا التنزيل في الصوم الخ.
قال الله ﷿: (فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ) .
الأم: باب (الصيام):
أخبرنا الربيع قال:
١ / ٢٨٠
أخبرنا الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: أخبرنا مالك، عن نافع، أن ابن عمر سئل
عن المرأة الحامل إذا خافت على ولدها؛ فقال: تفطر وتطعم مكان كل يوم
مسكينًا (مدًا من حنطة) .
قال مالك وأهل العلم: يرون عليها من ذلك القضاء.
قال مالك: عليها القضاء؛ لأن اللَّه ﷿ يقول:
(فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) الآية.
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: وإذا كان له - أي الإمام مالك ﵀ أن
يخالف ابن عمر ﵄ لقول أبي، القاسم ﷺ، ويتأول في خلاف ابن عمر القرآن، ولا يقلده، فنقول: هذا أعلم بالقرآن منا، ومذهب ابن عمر ﵄ يتوجه، لأن الحامل ليست بمريضة، المريض يخاف على نفسه، والحامل خافت على غيرها لا على نفسها، فكيف ينبغي أن يجعل قول ابن عمر ﵄ في موضع حجة، ثم القياس على قوله حجة على النبي ﷺ ويخطئ
القياس؟
فنقول: حين قال ابن عمر ﵄: لا يصلي أحد عن أحد.
ولا يحج أحد عن أحد قياسًا على قول ابن عمر، وترك قول النبي ﷺ له، وكيف جاز أن يَتْرُكَ قول ابن عمر لقول رجل من التابعين؟.
الأم: الصيام في كفارات الإيمان:
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: كل من وجب عليه صوم ليس كشروط في
كتاب اللَّه ﷿ أن يكون متتابعًا، أجزأه أن يكون متفرقًا قياسًا على قول الله ﷿ في قضاء رمضان وحده: (فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) الآية.
١ / ٢٨١
والعدة: أن يأتي بعدد الصوم، لا وَلاَء.
وقال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: وإذا كان الصوم متتابعًا فأفطر فيه الصائم
والصائمة من عذر وغير عذر، استأنفا الصيام إلا الحائض فإنها لا تستأنف.
مختصر المزني: كتاب الصيام: باب (النيه في الصوم):
ورُوي عن ابن عباس ﵄ في قوله ﷿: (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ) الآية، قال - المزني - المرأة الهِم (الهِمةُ) .
والثيخ الكبير الهِم، يفطران ويطعمان لكل يوم مسكينًا.
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: وغيره من المفسرين: يقرؤنها (يُطَوَّقُونَهُ) .
وكذلك نقرؤها، ونزعم أنها نزلت حين نزل فرض الصوم، ثم نسِخَ ذلك.
وقال - أي الشَّافِعِي ﵀: وآخر الآية يدل على هذا المعنى؛ لأن
الله ﷿ قال: (فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا)
فزاد على مسكين (فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ)، ثم قال: (وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ) الآية.
١ / ٢٨٢
وقال - أي الشَّافِعِي -: فلا يؤمر بالصيام من لا يطيقه، ثم بين فقال:
(فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) الآية.
وإلى هذا نذهب، وهو أشبه بظاهر القرآن.
قال المزني ﵀: هذا بَين في التنزيل، مستغنى فيه عن التأويل.
اختلاف الحديث: باب (المختلفات التي لا يثبت بعضها):
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: وفرض الله تعالى الصوم فقال: (فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ) إلى قوله: (مِسْكِينٍ) الآية، قيل: يطيقونه، كانوا
يطيقونه ثم عجزوا عنه، فعليهم في كل يوم طعام مسكين.
قال الشَّافِعِي ﵀: فإن قيل: أفروي عن رسول الله ﷺ أنه أمر أحدًا أن يصوم عن أحد؟
قيل: نعم، روى ابن عباس ﵄ عن النبي ﷺ.
فإن قيل: فلم لا تأخذ به؟
قيل: حدث الزهري، عن عبيد اللَّه بن عبد اللَّه، عن
ابن عباس ﵄ عن النبي ﷺ نذر نذرًا، ولم يسمعه مع حفظ الزهري، وطول مجالسة عبيد الله لابن عباس، فلما جاء غيره عن ابن عباس بغير ما في حديث عبيد الله، أشبه ألا يكون محفوظًا.
فإن قيل: أتعرف الذي جاء بهذا الحديث يغلط عن ابن عباس؟
قيل: نعم، روى أصحاب ابن عباس، عن
ابن عباس أنه قال لابن الزبير: إن الزبير حل من متعته الحج، فرُوي هذا عن
ابن عباس أنها متعة النساء! وهذا غلط فاحش.
١ / ٢٨٣
أحكام القرآن: باب (ما يؤثر عن الشَّافِعِي في الصيام):
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: فمن أفطر أيامًا من رمضان - من عذر -.
قضاهن متفرقات، أو متجمعات، وذلك: أن اللَّه ﷿ قال: (فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ)
الآية، ولم يذكرهن متتابعات.
وبهذا الإسناد قال:
قال الشَّافِعِي ﵀: قال الله ﵎: (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ)
فقيل: يطيقونه: كانوا يطيقونه ثم عجزوا، فعليهم في كل يوم طعام مسكين.
وقال الشَّافِعِي في القديم - - رواية الزعفراني عنه -: سمعت من أصحابنا
من نقلوا إذا سئل عن تأويل قوله تعالى: (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ) الآية، فكانه يتأوَّل إذا لم يطق الصوم: الفدية.
وورد عن الشَّافِعِي في كتاب الصوم الصغير قال: والحال التي يترك بها
الكبير الصوم، أن يجهده الجهد غير المحتمل، وكذلك المريض والحامل - إن زاد مرض المريض زيادة بيّنة أفطر، وإن كانت زيادة محتملة لم يفطر -.
والحامل - إذا خافت على ولدها - أفطرت، وكذلك المرضع إذا أضر
بلبنها الأضرار البين،. ..
وبسط الكلام في شرحه.
١ / ٢٨٤
قال الله ﷿: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٨٥)
الأم: باب (أحكام من أفطر في رمضان):
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: من أفطر أيامًا من رمضان، من عذر (مرض.
أو سفر) قضاهن في أي وقت ما شاء، في ذي الحجة أو غيرها، وبينه وبين أن يأتي عليه رمضان آخر، متفرقات أو متجمعات؛ وذلك أن الله ﷿ يقول:
(فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ الآية، ولم يذكرهن متتابعات وقد بلغنا عن بعض
أصحاب النبي ﷺ أنه قال: «إذا أحصيت العدة فصمهن كيف شئت» الحديث.
فإن مرض أو سافر المفطر من رمضان، فلم يصح، ولم يقدر حتى يأتي
عليه رمضان آخر، قضاهنّ ولا كفّارة، وإن فزط وهو يمكنه أن يصوم حتى
يأتي رمضان آخر، صام رمضان الذي جاء عليه، وقضاهن وكفَّر عن كل يوم بمد حنطة.
وقال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: والحامل والمرضع إذا أطاقتا الصوم، ولم
تخافا على ولديهما، لم تفطرا، فإن خافتا على ولديهما أفطرتا، وتصدقتا عن كل يوم بمد حنطة، وصامتا إذا أمنتا على ولديهما.
١ / ٢٨٥
وإن كانتا لا تقدران على الصوم، فهذا مثل المرض، أفطرتا وقضتا بلا
كفارة، إنما تكفِّران بالأثر وبانهما لم تفطرا لأنفسهما، إنما أفطرتا لغيرهما، فذلك فرق بينهما وبين المريض لا يُكَفر، والشيخ الكبير الذي لا يطيق الصوم، ويقدر على الكفارة، يتصدق عن كل يوم بمد حنطة، خبرًا عن بعض أصحاب النبي ﷺ، وقياسًا على من لم يطق الحج أن يحج عنه غيره، وليس عمل غيره عنه
عمله نفسه، كما ليس الكفارة كعمله.
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: والحال التي يترك بها الكبير الصوم، أن يكون
يجهده الجهد غير المحتمل، وكذلك المريض والحامل.
وإن زاد مرض المريض زيادة بينة أفطر، وإن كانت زيادة محتملة لم يفطر.
والحامل إذا خافت على ولدها أفطرت، وكذلك المرضع إذا أضرَّ بلبنها الإضرار البين، فأما ما كان من ذلك محتملًا فلا يفطر صاحبه، والصوم قد يزيد عامة العلل ولكن زيادة محتملة، ويسّقص بعض اللبن ولكنه نقصان محتمل، فإذا تفاحش أفطرتا.
فكأنه (أي: الشَّافِعِي) يتاول إذا لم يطق الصوم: الفدية - واللَّه أعلم -.
الأم (أيضًا): باب (بيع الآجال):
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: وقال اللَّه ﷿: (فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) الآية، فقد وقت بالأهلة، كما وقت بالعدة، وليس العطاء من مواقيته تبارك
وتعالى، وقد يتأخر الزمان ويتقدم، وليس تستأخر الأهلة أبدًا أكثر من يوم.
١ / ٢٨٦
الأم (أيضًا): باب (في الآجال: في السلف والبيوع):
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: وقال جل ثناؤه: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ) الآية، فأعلمَ اللَّه تعالى بالأهلة - جُمَل المواقيت، وبالأهلة مواقيت
الأيام من الأهلة، ولم يجعل علمًا لأهل الإسلام إلا بها، فمن أعلم بغيرها فبغير ما أعلم - الله أعلم -.
الأم (أيضًا): كتاب (صلاة العيدين):
أخبرنا الربيع قال:
أخبرنا الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: قال الله ﵎ في سياق شهر
رمضان: (وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ) الآية.
وقال رسول الله ﷺ:
«لا تصوموا حتى تروه، ولا تفطروا حتى تروه» الحديث.
يعني: الهلال، فإن غُم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين.
الأم (أيضًا): التكبير ليلة الفطر):
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: قال الله ﵎ في شهر رمضان:
(وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ) الآية، قال: فسمعت من
أرضى من أهل العلم بالقرآن يقول: لتكملوا العدة: عدة صوم شهر رمضان،
١ / ٢٨٧
وتكبروا الله: عند إكماله على ما هداكم
وإكماله: مغيب الشمس من آخر يوم من أيام شهر رمضان.
قال الشَّافِعِي ﵀: وما أشبه ما قال بما قال - والله أعلم -.
مختصر المزني: باب (صلاة العيدين):
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: وأحِبُّ إظهار التكبير جماعة وفرادى في ليلة
الفطر، وليلة النحر، مقيمين وسفرًا، في منازلهم ومساجدهم وأسواقهم، ويغدون إذا صلّوا الصبح - ليأخذوا مجالسهم - وينتظرون الصلاة، ويكبرون بعد الغدو حتى يخرج الإمام إلى الصلاة.
وقال - أي الشَّافِعِي - في غير هذا الباب: حتى يفئتح الإمام الصلاة
قال المزني ﵀: هذا أقيس، لأن من لم يكن في صلاة، ولم يحرم إمامه.
ولم يخطب، فجائز أن يتكلم، واحتج بقول اللَّه تعالى في شهر رمضان: (وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ) الآية.
وعن ابن المسيب، وعروة، وأبي سلمة، وأبي بكر، يكبرون ليلة الفطر في
المسجد، يجهرون بالتكبير، وشُبه ليلة النحر بها، إلا من كان حاجًا فذِكرُه التلبية.
مختصر المزني: باب (النذور):
قال المزني ﵀: فرض الله صوم شهر رمضان بعينه، فلم يسقط
بعجزه عنه بمرضه، قال الله: (فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) الآية، وأجمعوا أنه لو أغمي عليه الشهر كله فلم يعقل فيه، أنَّ عليه قضاءه.
١ / ٢٨٨
الرسالة: باب (الفرائض التي أنزل الله نصًا):
قال الله: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (١٨٣) أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١٨٤) شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا) الآيات.
ثم بين أيُّ شهر هو فقال: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٨٥) وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (١٨٦) .
قال الشَّافِعِي ﵀: فما علمت أحدًا من أهل العلم بالحديث قبلنا.
تكلَّف أن يرويَ عن النبي ﷺ، أن الشهر المفروض صومه شهر رمضان الذي بين شعبان وشوال، لمعرفتهم بشهر رمضان من الشهور، واكتفاء منهم بأن الله فرضه.
وقد تكلفوا حفظ صومه في السفر وفطره، وتكلفوا كيف قضاؤه؛ وما
أشبه ذلك مما ليس فيه نص كتاب.
١ / ٢٨٩
ولا علمت أحدًا من غير أهل العلم، احتاج في المسألة عن شهر رمضان
أيُّ شهر هو؛ ولا هل هو واجب أم لا؟.
اختلاف الحديث: باب الفطر والصوم في السفر (الجزء الثاني):
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: وظاهر الآية في الصوم أن الفطر في المرض
والسفر عَزْم، لقول اللَّه: (وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ)
الآية.
كيف لم تذهب إلى أن الفطر عزم؛ وأنه لا يجزئ شهر رمضان؛ ومن صام
مريضًا أو مسافرًا مع الحديث عن النبي ﷺ:
«ليس من البر الصيام في السفر»؟
ومع أن الآخر من أمر رسول الله ﷺ ترك الصوم، وأن عمر أمر رجلًا صام في السفر أن يقضي الصيام، قال: فحكيت له ما قلتُ: في قول اللَّه تعالى: (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ)
إنها آية واحدة، وأنّ ليس من أهل العلم بالقرآن أحد يخالف في أنَّ الآية
الواحدة كلام واحد، وأن الكلام الواحد لا ينزل إلا مجتمعًا.
وإن نزلت الآيتان في السورة مفترقتين؛ لأن معنى الآية: معنى قطع
الكلام. قال: أجل. قلت: فإذا صام رسول الله ﷺ ﷺ في شهر رمضان، وفَرْضُ
١ / ٢٩٠
شهر رمضان إنما أنزل في الآية، أليس قد علمنا أن الآية بفطر المريض والمسافر رخصة؟ قال: بلى. فقلت له: ولم يبق شيء يَعرُض في نفسك إلا الأحاديث؟
قال: نعم. ولكن الآخر من أمر الرسول ﷺ أليس الفطر؟ قال، فقلت له: الحديث يبين أن رسول ﷺ لم يفطر لمعنى نسخ الصوم، ولا اختيار الفطر على
الصوم، ألا ترى أنَّه يأمر الناس بالفطر ويقول: «تقووا لعدوكم» ويصوم ثم
يخبر بأنهم، أو أن بعضهم أبى أن يفطر إذ صام، فأفطر ليفطر من تخلف عن
الفطر لصومه بفطره، كما صنع عام الحديبية فإنه أمر الناس أن ينحروا ويحلقوا فأبوا، فانطلق فنحر وحلق، ففعلوا.
قال: فما قوله: «ليس من البر الصيام في السفر»؟
قلت: قد أتى به جابر
مفسرًا، فذكر أن رجلًا أجهده الصوم فلما علم النبي ﷺ، قال: «ليس من البر الصيام في السفر»
فاحتمل: - ليس من البر أن يبلغ هذا رجل بنفسه في فريضة صوم ولا نافلة، وقد أرخص اللَّه له وهو صحيح أن يفطر، فليس من البر أن يبلغ هذا بنفسه.
- ويحتمل ليس من البر الفروض الذي من خالفه أثِمَ. ..
ثم يقول: (أي: الشَّافِعِي) وفي صوم النبي ﷺ دلالة على ما وصفت.
أحكام القرآن: فصل (فيما يؤثر عن - الشَّافِعِي - من التفسير والمعاني في
الطهارات والصلوات):
قال البيهقي رحمه اللَّه تعالى: وقرأت في رواية حرملة:
١ / ٢٩١
عن الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: يستحب للمسافر أن يقبل صدقة اللَّه ويقصر.
فإن أتم الصلاة عن غير رغبة عن قبول رخصة اللَّه ﷿ فلا إعادة عليه، كما يكون - إذا صام في السفر - لا إعادة عليه وقد قال اللَّه ﷿: (فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) الآية.
أحكام القرآن: فيما يؤثر عن الشَّافِعِي في الصيام:
قال البيهقي رحمه الله تعالى: قرأت في رواية المزني ﵀:
عن الشَّافِعِي - يرحمه الله - أنه قال: قال اللَّه جل ثناؤه: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (١٨٣) أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ) الآية.
ثم أبان أن هذه الأيام شهر رمضان بقوله تعالى: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ) إلى قوله: (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) الآية.
وكان بينًا في كتاب اللَّه ﷿ أنَّه لا يجب صوم إلا صوم شهر رمضان، وكان عِلْمُ (شهر رمضان) - عند من خوطب باللسان - أنه الذي بين شعبان وشوال.
وذكره في رواية حرملة عنه كعناه قال: فلما أعلم اللَّه الناس أنه فرض الصوم عليهم: (شهر رمضان)، وكانت الأعاجم تعد الشهور بالأيام لا بالأهلة، وتذهب إلى أنَّ الحساب - إذا عدت الشهور بالأهِلة - يختلف. فأبان الله تعالى أنَّ الأهلة هي: الواقيت للناس والحج، وذكر الشهور فقال: (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ) الآية.
فدلّ على أن الشهور للأهلة، إذ جعلها المواقيت، لا ما ذهبت إليه الأعاجم من العدد بغير الأهلة.
١ / ٢٩٢
ثم بين رسول الله ﷺ ذلك، على ما أنزل اللَّه ﷿، وبين أن الشهر تسع وعشرون يعني: أن الشهر قد يكون تسعًا وعشرين. وذلك أنهم قد يكونون يعلمون: أن الشهر يكون ثلاثين فأعلمهم أنَّه قد يكون تسعًا وعشرين، وأعلمهم أنَّ ذلك للأهلة.
أخبرنا أبو عبد اللَّه الحافظ، أخبرنا العباس، أخبرنا الربيع قال:
قال الشَّافِعِي - رحمه الله تعالى -: قال اللَّه تعالى في فرض الصوم:
(شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ) الآية، إلى قوله: (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) الآيات.
فبيّنَ في الآية أنَّه فرض الصيام عليهم بعدة، وجعل لهم أن يفطروا فيها
(مرضى ومسافرين)، ويحصوا حتى يكملوا العدة، وأخبر أنَّه أراد بهم اليسر، وكان قول اللَّه ﷿: (وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) الآية، يحتمل معنيين:
أحدهما: ألا يجعل عليهم صوم شهر رمضان (مرضى ولا مسافرين) .
ويجعل عليهم عددًا - إذا مضى السفر والمرض - من أيام أخر.
الثاني: ويحتمل أن يكون إنمّا أمرهم بالفطر في هاتين الحالتين، على
الرخصة إنّ شاؤوا، لئلا يحرجوا إن فعلوا.
وكان فرض الصوم، والأمر بالفطر في المرض والسفر في آية واحدة.
ولم أعلم مخالفًا أنَّ كل آية إنما نزلت متتابعة، لا مفرقة. وقد تنزُّل الآيتان في
السورة مفرقتين، فأمّا آيةٌ فلا، لأن معنى الآية: أنهّا كلام واحد غير منقطع.
يُستأنف بعده غيره.
وقال الشَّافِعِي ﵀: في موضع آخر من هذه المسألة؛ لأن معنى
الآية: معنى: قطع الكلام.
١ / ٢٩٣
فإذا صام رسول الله ﷺ في شهر رمضان، وفَرضُ شهر رمضان إنما أنزل في الآية، علمنا أن الآية بفطر المريض والمسافر رخصة.
قال الله ﷿: (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (١٨٧)
الأم: باب (ما يفطر الصائم والسحور والخلاف فيه):
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: الوقت الذي يَحْرُمُ فيه الطعام على الصائم.
حين يتبين الفجر الآخر معترضًا في الأفق.
وكذلك بلغنا عن النبي ﷺ إلى أن تغيب الشمس، وكذلك قال اللَّه ﷿:
(ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ) الآية.
فإن كل فيما بين هذين الوقتين أو شرب، عامدًا للأكل والشرب، ذاكرًا
للصوم فعليه القضاء.
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: أخبرنا مالك، عن زيد بن أسلم، عن أخيه
خالد بن أسلم، أن عمر بن الخطاب ﵁ أفطر في رمضان، في يوم ذي غيم، ورأى أنه قد أمسى، وغابت الشمس، فجاءه رجل فقال: يا أمير المؤمنين قد
١ / ٢٩٤
طلعت الشمس فقال عمر: (الخطب يسير)، كأنه يريد بذلك - واللَّه أعلم - قضاء يوم مكانه.
الأم (أيضًا): باب (الإقرار والاجتهاد والحكم بالظاهر):
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: - في بيان أنَّه لا يجوز للمسلم أن يجتهد إلا
وفق الكتاب والسنة، وعليه ألا يعمل برأي نفسه، ولجاز أن يصوم رمضان برأي نفسه أن الهلال قد طلع، وهذا خلاف كتاب اللَّه ﷿ لقوله ﷿: (حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ) الآية.
ولقول رسول الله ﷺ:
صوموا لرؤيته ... " الحديث.
أحكام القرآن: (ما يؤثر عن الشَّافِعِي ﵀ في الصيام):
قال اللَّه تعالى: (وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ) الآية.
قال البيهقي ﵀: وقرأت في كتاب حرملة فيما رُويَ عن:
الشَّافِعِي رحمه الله تعالى أنَّه قال: جماع العكوف: ما لزمه المرء، فحبس عليه
نفسه: من شيء، بِرًَّا كان أو مأثمًا، فهو عاكف.
واحتج بقوله ﷿: (فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ) الآية، وبقوله تعالى حكاية عمن رضي قوله - وهو إبراهيم الخليل ﷺ:
(مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ (٥٢) .. الآية.
١ / ٢٩٥
قيل: فهل للاعتكاف المتبرر أصل في كتاب اللَّه ﷿؟
قال: نعم، قال اللَّه ﷿: (وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ) الآية، والعكوف في
المساجد: صبر الأنفس فيها، وحبسها على عبادة اللَّه وطاعته.
قال الله ﷿: (وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١٨٨)
الأم: باب (كتاب السبق والنضال)
أخبرنا الربيع بن سليمان قال:
أخبرنا محمد بن إدريس الشَّافِعِي رحمه الله تعالى قال: جماع ما يحل أن بأخذه
الرجل من الرجل المسلم ثلاثة وجوه:
أحدها: ما وجب على الناس في أموالهم مما ليس لهم دفعه من
جناياتهم، وجنايات من يعقلون عنه، وما وجب عليهم بالزكاة، والنذور.
والكفارات، وما أشبه ذلك.
ثانيها: وما أوجبوا على أنفسهم مما أخذوا به العوض من البيوع.
والإجارات، والهبات للثواب وما في معناه.
١ / ٢٩٦
ثالِثها: وما أعطوا متطوعين من أموالهم التماس واحد من وجهين:
أحدهما: طلب ئواب اللَّه تعالى.
والآخر: طلب الاستحماد ممن أعطوه إياه.
وكلاهما معروف حسن، ونحن نرجو عليه الثواب إن شاء اللَّه تعالى.
ثم ما أعطى الناس من أموالهم من غير هذه الوجوه، وما في معناها واحد
من وجهين (أيضًا):
أحدهما: حق.
والآخر: باطل.
فما أعطوا من الباطل غير جائز لهم، ولا لمن أعطوه، وذلك قول الله ﷿:
(وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ) الآية.
فالحق من هذا الوجه الذي هو خارج من هذه الوجوه التي وصفت، يدل على الحق في نفسه، وعلى الباطل فيما خالفه.
قال الله ﷿: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (١٨٩)
الأم: باب (بيع الآجال):
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: وقد رُويَ إجازة البيع إلى العطاء عن غير
واحد، ورُويَ عن غيرهم خلافه، وإنما اخترنا ألا يُباع إليه؛ لأن العطاء قد يتأخر ويتقدم، وإنما الآجال معلومة، بايام موقوتة، أو أهِلةٍ، وأصلها في القرآن، قال اللَّه ﷿: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ) الآية.
١ / ٢٩٧
وقال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: ولا خير في شراء التمر إلا بنقد، أو الى
أجل معلوم، والأجل معلوم: يوم بعينه، من شهر بعينه، أو هلال شهر بعينه، فلا يجوز البيع إلى العطاء، ولا إلى الحصاد، ولا إلى الجداد؛ لأن ذلك يتقدم ويتأخر، وإنما قال اللَّه تعالى: (إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى) الآية، وقال الله ﷿: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ)، فلا توقيت إلا بالأهلة، أو سِني الأهلة.
الأم: باب (في الآجال: في السلف والبيوع):
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: ولا يصلح بيع إلى العطاء، ولا حصاد، ولا
جداد، ولا عيد النصارى، وهذا غير معلوم؛ لأن الله تعالى حئم أن تكون
المواقيت بالأهلة، فيما وقت لأهل الإسلام فقال ﵎: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ) الآية.
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: فأعلم الله تعالى بالأهلة جُمَل المواقيت.
وبالأهلة مواتيت الأيام من الأهلة، ولم يجعل علمًا لأهل الإسلام إلا بها.
فمن أعلم بغيرها فبغير ما أعلم - والله أعلم -.
الأم: باب (الاختلاف في العيب):
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: وإذا باع الرجلُ الرجلَ بيعًا إلى العطاء.
فالبيع فاسد، من قِبَل أن اللَّه ﷿ أذن بالدين إلى أجل مسمى، والمسمى: المُوَقت
١ / ٢٩٨
بالأهلة التي سَمَّى اللَّه ﷿ فإئه يقول: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ) الآية.
والأهلة معروفة المواقيت، وما كان في معناها من الأيام
المعلومات، والسنين.
أخبرنا الربيع:
أخبرنا الشَّافِعِي قال: أخبرنا سفيان بن عيينة، عن عبد الكريم، عن
عكرمة، عن ابن عباس ﵄ قال: «لا تبايعوا إلى العطاء، ولا إلى الأندر، ولا إلى العصير» الحديث.
مختصر المزني: باب (السلَم):
قال الشَّافِعِي ﵀ تعال: ولا يجوز في السلف حتى يدفع الثمن قبل أن
يفارقه، ويكون ما سلف فيه موصوفًا، وإن كان ما سلف فيه بصفة معلومة عند أهل العلم بها، وأجل معلوم جاز، قال الله ﵎: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ) الآية، ثم ذكر ما ورد في الأم بالفقرة السابقة.
قال الله ﷿: (وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (١٩٠)
١ / ٢٩٩
وقال الله ﷿: (وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ) وقرأ الرييع إلى قوله
تعالى: (كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (١٩١) .
الأم: مبتدأ الإذن بالقتال:
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: وأباح اللَّه لهم القتال بمعنى: أبانه في كتابه
فقال: (وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (١٩٠) وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ) الآيتان، وقرأ الربيع إلى قوله
تعالى: (كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ) .
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: يقال نزل هذا في أهل مكة، وهم كانوا أشد
العدو على المسلمين، وفرض عليهم في قتالهم ما ذكر الله ﷿.
ثم يقال: نسخ هذا كله، بالنهي عن القتال حتى يُقاتلوا، أو النهي عن
القتال في الشهر الحرام بقول اللَّه ﷿: (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ) الآية.
ونزول هذه الآية بعد فرض الجهاد، وهي موضوعة في موضعها.
١ / ٣٠٠
قال الله ﷿: (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ)
الأم: مبتدأ الإذن بالقتال:
قال الشَّافِعِي ﵀: ثم يقال نسخ هذا كله، والنهي عن القتال حتى
يُقاتلوا، والنهي عن القتال في الشهر الحرام بقول اللَّه ﷿: (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ) الآية، ونزول هذه الآية بعد فرض الجهاد، وهي موضوعة في موضعها.
أحكام القرآن: مبتدأ الإذن بالقتال:
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: ونزول هذه الآية: (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ) الآية، بعد فرض الجهاد، وهي موضوعة في موضعها، وكان الشَّافِعِي
﵀: أراد بقول اللَّه ﷿: (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ) الآية، على أنها أعم في النسخ مما ذكره الجمهور من آية: (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ)، وقوله: (وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً) الآية - والله أعلم -.
١ / ٣٠١
قال الله ﷿: (الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (١٩٤)
الأم: باب (الإحصار با لعدو):
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: قال اللَّه ﷿ (الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ)
الآية، وقد أوردها في الدلالة من القرآن على أن القصاص غير واجب في الرد على من استدل بهذه الآية على أن قول اللَّه (قِصَاصٌ)، إنَّما يكون بواجب.
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: فقلت له: إن القصاص وإن كان يجب لمن له
القصاص، فليس القصاص واجبًا عليه أن يقتص.
قال: وما دلَّ على ذلك؟
قلت: قال اللَّه تعالى: (وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ)
الآية، أفواجب على من جُرح أن يقتص ممن جرحه؛ أو مباح له أن يقتص
وخَيْر له أن يعفو؛ قال: له أن يعفو، ومباح له أن يقتص.
وقلت له: قال اللَّه ﷿: (فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ) الآية.
فلو أن معتديًا مشركًا اعتدى علينا، كان لنا أن نعتدي
عليه بمثل ما اعتدى علينا، ولم يكن واجبًا علينا أن نفعل.
قال: ذلك على ما وصفت.
فقلت: فهذا يدلك على ما وصفت، وما قال
مجاهد: من أن اللَّه ﷿ أقَصَّهُ منهم - في عمرة القضية بعد سنة من صلح الحديبية
١ / ٣٠٢
- فدخل عليهم في مثل الشهر الذي ردوه فيه، وليست فيه دلالة على أن
دخوله كان واجبًا عليه من جهة قضاء النسك - واللَّه أعلم -.
قال الله ﷿: (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ)
الأم باب (الإحصار بالعدو):
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: قال اللَّه ﷿: (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ) الآية.
قال الشَّافِعِي ﵀: فلم أسمع ممن حفظت عنه من أهل العلم بالتفسير
مخالفًا في أن هذه الآية نزلت بالحديبية، حين أحصر النبي ﷺ، فحال المشركون بينه وبين البيت، وأن النبي ﷺ نحر بالحديبية، وحلق ورجع حلالًا، ولم يصل
إلى الببت، ولا أصحابه، إلا عثمان بن عفان ﵁ وحده، وسنذكر قصته.
وظاهر الآية أن أمر اللَّه ﷿ إياهم ألا يحلقوا حتى يبلغ الهدي محله.
وأمره من كان به أذى من رأسه بفدية سمّاها، وقال اللَّه ﷿:
(فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) الآية.
وما بعدها يشبه - واللَّه أعلم - ألا يكون على المحصر بعدو قضاء؛ لأنّ
الله تعالى لم يذكر عليه قضاء، وذكر فرائض في الإحرام بعد ذكر أمره.
١ / ٣٠٣
الأم (أيضًا): باب (هل تجب العمرة وجوب الحج؟):
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: قال الله ﵎: (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ) الآية.
فاختلف الناس في العمرة، فقال بعض المشرقيين: تطوع.
وقاله سعيد ابن سالم، واحتج بأن سفيان الثوري، أخبره عن معاوية بن إسحاق، عن أبي صالح الحنفي، أن رسول الله ﷺ قال: «الحج جهاد والعمرة تطوع» الحديث.
فقلتُ له: أثبت مثل هذا عن النبي ﷺ؛ فقال: هو منقطع، وهو وإن لم تثبُت به الحجة، فإن حجتنا في أنها تطوع أن الله ﷿ يقول: (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا) الآية.
ولم يذكر في الموضع الذي بين إيجاب الحج، إيجاب العمرة، وأنَّا لم نعلم
أحدًا من المسلمين أمِرَ بقضاء العمرة عن ميّت، فقلت له: قد يحتمل قول الله
: (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ) الآية، أن يكون فرضهما معًا، وفرضه إذا كان
في موضع واحد يثبت بثبوته في مواضع كثيرة، لقوله تعالى:
(وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ) الآية.
ثم قال: (إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا (١٠٣) . الآية.
فذكرها مرة مع الصلاة، وأفرد الصلاة مرة أخرى دونها، فلم يمنع ذلك
الزكاة أن تثبت.
وليس لك حجة في قولك: لا نعلم أحدًا أمَرَ بقضاء العمرة
عن ميت إلا عليك مثلها لمن أوجب العمرة، بأن يقول: ولا نعلم من السلف
١ / ٣٠٤
أحدًا ثبت عنه أنه قال: لا تقضى عمرة عن ميت، ولا هي تطوع كما قلت، فإن كان لا نعلم لك حجة، كان قول من أوجَب العمرة: لا نعلم أحدًا من السلف ثبت عنه أنه قال: هي تطوع، وألا تقضى عن ميت حجة عليك، قال ومن ذهب هذا المذهب أشبه أن يتأول الآية: (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ) الآية، إذا دخلتم فيهما.
وقال بعض أصحابنا: العمرة سنة لا نعلم أحدًا أرخص في تركها.
قال: وهذا القول يحتمل إيجابها إن كان يريد أن تحتمل إيجابها، وأنّ ابن
عباس ﵄ ذهب إلى إيجابها، ولم يخالفه غيره من الأئمة، ويحتمل
تأكيدها لا إيجابها.
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: والذي هو أشبه بظاهر القرآن، وأولى بأهل
العلم عندي - وأسال الله التوفيق - أن تكون العمرة واجبة، فإن اللَّه ﷿ قرنها مع الحج فقال: (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) الآية.
وأن رسول الله ﷺ لله اعتمر قبل أن يحج، وأن رسول اللَّه ﷺ سنّ إحرامها
والخروج منها بطواف وحِلاَق وميقات، وفي الحج زيادة عمل على العمرة.
فظاهر القرآن أولى إذا لم يكن دلالة على أنَّه باطن دون ظاهر، ومع ذلك قول ابن عباس وغيره.
١ / ٣٠٥
أخبرنا ابن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن طاووس، عن ابن عباس رضي
الله عنهما أنَّه قال: «والذي نفسي بيده إنها لفرينتها في كتاب الله (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ) الآية» الحديث.
أخبرنا مسلم بن خالد، عن ابن جريج، عن عطاء أنه قال:
«ليس من خلق الله أحد إلا عليه حجة وعمرة واجبتان» الحديث.
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: وقاله غيره من مكيينا، وهو قول الأكثر منهم.
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: قال اللَّه ﵎: (فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) الآية، وسن رسول الله ﷺ في قِرَان العمرة مع الحج هديًا، ولو كان أصل العمرة تطوعًا، أشبه ألا يكون لأحد أن يقرن العمرة مع الحج؛ لأن أحدًا لا يدخل في نافلة فرضًا حتى يخرج من أحدهما قبل الدخول في الآخر، وقد يدخل في أربع ركعات وكثر نافلة قبل أن يفصل بينهما بسلام، وليس ذلك في مكتوبة ونافلة من الصلاة، فأشبه ألا يلزمه بالتمتع أو بالقران هدي، إذا كان أصل العمرة تطوعًا بكل حال؛ لأن حكم ما لا يكون إلا تطوعًا بحال، غير حكم ما يكون فرضًا في الحال.
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: وقال رسول الله ﷺ: «دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة» الحديث.
وقال رسول الله ﷺ لسائله عن الطيب
والثياب: «افعل في عمرتك ما كنت فاعلًا في حَجتك» الحديث.
١ / ٣٠٦
أخبرنا مسلم بن خالد، عن ابن جريج، عن عبد الله بن أبي بكر، أن في
الكتاب الذي كتبه النبي ﷺ لعمرو بن حزم:
«أنَّ العمرة هي الحج الأصغر» الحديث.
قال ابن جريج: ولم يحدثني عبد اللَّه بن أبي بكر عن كتاب رسول الله ﷺ، لعمرو بن حزم شيئًا إلا قلت له: أي شكٍّ أنتم من أنَّه كتاب رسول الله ﷺ؟
فقال: لا.
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: ويجزيه أن يقرن الحج مع العمرة، وتجزيه من
العمرة الواجبة عليه، ويهريق دمًا قياسًا على قول اللَّه ﷿:
(فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) الآية.
فالقارن أخفُّ حالًا من المتمتع.
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: وتجزئ العمرة قبل الحج، والحج قبل العمرة من
الواجبة عليه.
كما يسقط ميقات الحج إذا قذم العمرة قبله لدخول أحدهما في الآخر.
ولا ميقات للعمرة دون الحل، وأحبُّ أن يعتمر من الجِغرَانة؛ لأن النبي ﷺ اعتمر منها، فإن أخطاه ذلك اعتمر من التنعيم؛ لأن النبي ﷺ أمر عائشة أن
تعتمر منها وهي أقرب الحل إلى البيت.
فإن أخطاه ذلك اعتمر من الحديبية؛ لأن النبي ﷺ صلى بها، وأراد المدخل لعمرته منها.
١ / ٣٠٧
أخبرنا ابن عيينة، أنَّه سمع عمرو بن دينار يقول: سمعت عمرو بن أوس
الثقفي يقول: أخبرني عبد الرحمن بن أبي بكر ﵄، «أن النبي ﷺ أمره أن يردف عائشة فيعمرها من الننعيم» الحديث.
قال الشَّافِعِي ﵀: وعائشة كانت قارنة، فقضت الحج والعمرة
الواجبتين عليها، وأحبَّت أنَّ تنصرف بعمرة غير مقرونة بحج، فسألت ذلك النبي ﷺ فأمر بإعمارها، فكانت لها نافلة خيرًا، وقد كانت دخلت مكة بإحرام فلم يكن لها رجوع إلى الميقات.
الأم (أيضًا): باب (هل لمن أصاب الصيد أن يفديه بغير النعم؟):
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: فقال عطاء ﵀: كل شيء في القرآن (أو
...، أو. . .) يختار منه صاحبه ما شاء.
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: ويقول عطاء في هذا أقول: قال اللَّه جل ثناؤه: (فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ) الآية.
ورُوِي عن رسول الله ﷺ أنَّه قال: لكعب بن عجرة، أي ذلك فعلت أجزأك، وقال اللَّه ﷿: (فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ) الآية.
الأم (أيضًا): باب (في الحج):
قال الربيع:
١ / ٣٠٨
وسألت الشَّافِعِي عن العمرة في أشهر الحج فقال: حسنة أستحسنها، وهي
أحب إليَّ منها بعد الحج، لقول اللَّه ﷿ ث (فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ) الآية.
ولقول رسول الله ﷺ: «دخلت العمرة في الحج» الحديث، ولأنّ النبي ﷺ
أمر أصحابه: «من لم يكن معه هدي أن يجعل إحرامه عمرة» الحديث.
وقال الشَّافِعِي ﵀: أخبرنا مالك، عن صدقة بن يسار، عن ابن عمر
﵄ أنه قال: «والله لأن أعتمر قبل أن أحج وأهدي أحبّ الي من أن أعتمر بعد الحج في ذي الحجة» الحديث.
الأم (أيضًا): الإحصار:
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: الإحصار الذي ذكره اللَّه ﵎، فقال:
(فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) الآية، نزلت يوم الحديبية، وأحصِر
النبي ﷺ بعدوّ، ونَحَرَ ﵊ في الحلِّ.
الأم (أيضًا): باب (دخول مكه لغير إرادة حج ولا عمرة):
قال الشَّافِعِي ﵀: قال الله ﵎: (فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) الآية.
فأذن - اللَّه - للمحرمين بحج أو عمرة، أن يُحلوا لخوف الحرب، فكان من
لم يحرم أولى إن خاف الحرب ألا يحرم، من محرم يخرج من إحرامه، ودخلها
رسول الله ﷺ عام الفتح غير محرم للحرب.
١ / ٣٠٩
الأم (أيضًا): باب (ما تجزئ عنه البدنة من العدد في الضحايا):
قال الشَّافِعِي ﵀: أقول بحديث مالك، عن ابن الزبير رضي اللَّه
عنهما، عن جابر ﵁، أنهم نحروا مع رسول الله ﷺ عام الحديبية البدنة عن سبعة، والبقرة عن سبعة، وكانوا محصرين قال اللَّه ﵎: (فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) الآية، فلما قال سبحانه: (فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) الآية.
شاة، فاجزأت البدنة عن سبعة محصورين ومتمتعين، وعن سبعة وجبت
عليهم من قِرَان أو جزاء صيد، أو غير ذلك.
الأم (أيضًا): الخلاف في حجِّ المرأة والعبد:
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: في العبد يهلُّ بالحج من غير إذن سيده.
فأحبّ إليَّ أن يدعه سيده، وله منعه، وإذا منعه فالعبد كالمحصر لا يجوز فيه إلا قولان - واللَّه أعلم -:
أحدهما: أن ليس عليه إلا دم، ولا يجزيه غيره، فيحل إذا كان عبدًا غير
واجدٍ للدم، ومتى عتق ووجد ذبح، ومن قال هذا في العبد قاله في الحرِّ يحصر بالعدو، وهو لا يجد شيئًا، يحلق ويحل ومتى أيسر أدى الدم.
الثاني: أن تُقَوَّم الشاة دراهم، والدراهم طعامًا، فإن وُجد الطعام تصدق
به، وإلا صام عن كل مدٍّ يومًا، والعبد بكل حال ليس بواجد فيصوم.
قال الشَّافِعِي ﵀: ومن ذهب هذا المذهب قاسه على ما يلزمه من
هدي المتعة، فإن الله ﷿ يقول: (فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ) .
١ / ٣١٠
فلو لم يجد هديًا، ولم يصم، لم يمنعه
ذلك من أن في من عمرته وحجه، ويكون عليه بعده الهَدي أو الطعام.
الأم (أيضًا): باب (الإحصار بالمرض):
قال الشَّافِعِي ﵀: قال اللَّه ﵎: (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) الآية.
ثم ذكر ما ورد في فقرة باب الإحصار للعدو، وبعدها قال: فرأيت أن
الآية بأمر اللَّه تعالى بإتمام الحج والعمرة لله عامة، على كل حاج ومعتمر إلا من استثنى اللَّه، ثم سنّ فيه رسول الله ﷺ من الحصر بالعدو، وكان المريض عندي ممن عليه عموم الآية، وقول ابن عباس، وابن عمر، وعائشة ﵃.
يوافق معنى ما قلت - وإن لم يلفظوا به - إلا كما حُدِّث عنهم.
الأم (أيضًا): الضحايا الثاني:
قال الشَّافِعِي ﵀: وقد قال الله تعالى في المتمتع: (فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) الآية، وقال ابن عباس ﵄: ما استيسر من الهدي:
شاة، وأمر رسول الله ﷺ مه أصحابه الذين تمتعوا بالعمرة إلى الحج أن يذبحوا
شاة، شاة وكان ذلك أقل ما يجزيهم، لأنه إذا أجزأه أدنى الدم، فأعلاه
خير منه.
١ / ٣١١
الأم (أيضًا): باب (في الحج):
قال الشَّافِعِي ﵀: أخبرنا مالك، عن نافع، عن ابن عمر، لأنَّه كان
يقول: (مَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ): بعير أو بقرة.
قال الشَّافِعِي ﵀: ونحن وأنت نقول: (مَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) شاة.
ونرويه عن ابن عباس ﵄، وإذا جاز لنا أن نترك على ابن عمر
لابن عباس كان الترك عليه للنبي ﷺ واجبًا.
الأم (أيضًا): باب (ميقات العمرة مع الحج):
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: فإن قال قائل: وكيف قلت هذا في المكيّ.
وأنت لا تجعل عليه دم المتعة؟
قيل: لأن الله ﷿ قال: (ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ) الآية.
الأم (أيضا): باب (الإحصار للعدو):
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: فإن قال قائل: فإن اللَّه ﷿ يقول: (حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ) الآية، قلت: اللَّه أعلم بمحله، هذا يشبه أن يكون إذا أحصر، نحره حيث أحصر كما وصفت، ومحله في غير الإحصار الحرم، وهو كلام عربي واسع.
١ / ٣١٢
الأم (أيضًا): الخلاف في النذر في غير طاعة الله ﷿:
قال الشَّافِعِي ﵀: وقال اللَّه ﵎: (فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ) الآية، فبيّن رسول الله
ﷺ، عن اللَّه ﷿ بأن الصوم ثلاث، والإطعام ستة مساكين فَرَقًا من طعام.
والنسك شاة، فكانت الكفارات تعبدًا، وخالف الله ﷿ بينها كما شاء، لا معقب لحكمه.
مختصر المزنى: باب (بيان التمتع بالعمرة. ..):
قال الشَّافِعِي ﵀: قال اللَّه ﷿: (فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ) الآية.
فإذا أهَلُّ بالحج في شوال، أو ذي القعدة، أو ذي الحجة، صار متمتعًا، فإن له أن يصوم حين يدخل في الحج، وهو قول عمرو بن دينار. قال: وعليه ألا يخرج من الحج حتى يصوم - إذا لم يجد هديًا - الأيام الثلاثة. . . ويصوم السبعة إذا رجع إلى أهله.
الرسالة: باب (البيان الأول):
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: قال اللَّه ﵎ في التمتع:
(فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ) .
١ / ٣١٣
فكان بيِّنًا عند من خوطب بهذه الآية، أن صوم الثلاثة في الحج، والسبع
في المرجع - فيصبح المجموع - عشرة أيام كاملة.
قال اللَّه تعالى: (تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ) فاحتملت أن تكون زيادة في التبيين.
واحتملت أن يكون أعلمهم أن ثلاثة إذا جمعت إلى سبع، كانت عشرة كاملة.
وقال تعالى: (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ) الآية، ثم بين الله على لسان
رسوله ﷺ كيف عمل الحج والعمرة. . .؟.
وقال ﷾: (فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) الآية، فدل
الكتاب والسنة وما لم يختلف المسلمون فيه أن هذا كله. في مال الرجل، بحق وجب عليه للهِ، أو أوجبه الله للآدمين، بوجوه لزمه، وأنه لا يكلف أحد غرمه عنه.
أحكام القرآن: ما يؤثر عنه في الحج:
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: في قوله تعالى: (ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ) الآية.
١ / ٣١٤
فحاضره: من قرب منه، وهو: كل من كان أهله من دون أقرب المواقيت.
دون ليلتين.
أخبرنا أبو سعيد، أخبرنا أبو العباس، أخبرنا الربيع قال:
قال الشَّافِعِي ﵀: فيما بلغه عن وكيع، عن شعبة، عن عمرو بن مُرَّة.
عن عبد بن سلمة، عن علي ﵁ في هذه الآية: (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ) الآية، قال: «أن يحرم الرجل من دويرة أهله» الحديث.
وأخبرنا أبو سعيد، أخبرنا أبو العباس، أخبرنا الربيع:
أخبرنا الشَّافِعِي قال: ولا يجب دم المتعة على المتمتع، حتى يُهِل بالحج؛ لأن
الله جل ثناؤه يقول: (فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) الآية.
وكان بينًا - في كتاب اللَّه ﷿ أن التمتع هو: التمتع بالإهلال من العمرة إلى أن يدخل في الإحرام بالحج، وأله إذا دخل في الإحرام بالحج، فقد أكمل التمتع.
ومضى التمتع، وإذا مضى بكماله فقد وجب عليه دمه، وهو قول عمرو بن دينار.
قال الشَّافِعِي ﵀: ونحن نقول: (فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ): شاة.
وُيروى عن ابن عباس فمن لم يجد: فصيام ثلاثة أيام، فيما بين أن يهل بالحج إلى يوم عرفة، فإذا لم يصم: صام بعد منى (بمكة أو في سفره)، وسبعة أيام بعد ذلك.
وقال في موضع آخر: وسبعة في المرجع، وقال في موضع آخر: إذا رجع إلى
أهله.
١ / ٣١٥
قال الله ﷿: (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ (١٩٧)
الأم: باب (الوقت الذي يجوز فيه الحج والعمرة):
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: قال الله ﷿: (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ)، إلى قوله: (فِي الْحَجِّ) الآية.
أخبرنا مسلم بن خالد، وسعيد بن سالم، عن ابن جريج، عن أبي الزبير.
لأنه سمع جابر بن عبد اللَّه ﵁ يسأل عن الرجل يهل بالحجِّ قبل أشهر الحج؟
فقال: لا. لحديث.
أخبرنا الربيع قال:
أخبرنا الشَّافِعِي قال: أخبرنا مسلم، عن ابن جريج قال: قلت لنافع:
أسمعت عبد اللَّه بن عمر يسمى شهور الحج؟
فقال: نعم، كان يسمى شوالًا، وذا القعدة، وذا الحجة، قلت لنافع: فإن أهَل إنسان بالحجّ قبلهن؟
قال: لم أسمع منه في ذلك شيئًا. الحديث.
١ / ٣١٦
أخبرنا الربيع قال:
أخبرنا الشَّافِعِي قال: أخبرنا مسلم بن خالد، عن ابن جريج قال: قال
طاووس، هي: شوال، وذو القعدة، وذو الحجة.
أخبرنا مسلم بن خالد، عن ابن جريج أنَّه قال لعطاء: أرأيت لو أن رجلًا جاء مهلًا بالحجّ في شهر رمضان، كيف كنت قائلًا له: قال أقول له: اجعلها عمرة.
أخبرنا مسلم بن خالد، عن ابن جريج قال: أخبرنا عمر بن عطاء، عن
عكرمة أنَّه قال: لا ينبغي لأحد أن يحرم بالحج إلا في أشهر الحج، من أجل قول اللَّه ﷿: (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ) الآية، ولا ينبغي لأحد أن يلي بالحج ثم يقيم.
الأم (أيضًا): باب (فوت الحج بلا حَصر عدو ولا مرض ولا غلبة على عقل):
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: وفي حديث يحيى عن سليمان دلالة عن عمر
﵁ أنَّه يعمل عمل معتمر لا أنَّ إحرامه عمرة، وإن كان الذي يفوته الحج قارنًا حج قارنًا، وقرن وأهدى هديًا لفوت الحج، وهديًا للقِرَان، ولو أراد المحرم بالحجّ
إذا فاته الحج أن يقيم إلى قابل محرمًا بالحج، لم يكن ذلك له، وإذا لم يكن ذلك له فهذا دلالة على ما قلنا من أنَّه: لا يكون لأحد أن يكون مهلا بالحج في غير أشهر الحجّ، لأن أشهر افي معلومات لقول اللَّه ﷿: (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ)
الآية. فأشبه - واللَّه أعلم - أن يكون حظر الحج في غيرها.
الأم (أيضًا): فيمن تجب عليه الصلاة:
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: ومن غلب على عقله بعارض مرض (أي
مرض كان) ارتفع عنه الفرض في قول الله ﷿: (وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ) الآية، وإن كان معقولًا ألَّا يخاطب بالأمر والنهي إلا من عقلهما.
١ / ٣١٧
مختصر المزني: باب (بيان وقت الحج والعمرة):
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: قال اللَّه ﷿: (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ) الآية، وأشهر الحجّ: شوال، وذو القعدة، وتسع من ذي الحجة (وهو يوم عرفة)، فمن لم يدركه إلى الفجر من يوم النحر، فقد فاته الحج.
وقال عكرمة ﵀: فلا يجوز لأحد أن يحبئ قبل أشهر الحجّ، فإن فعل
فإنهّا تكون عمرة، كرجل دخل في صلاة قبل وقتها فتكون نافلة، من أجل قول اللَّه ﷿: (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ) الآية.
مختصر المزني (أيضًا): كتاب العدد (عدةُ المدخول بها ...):
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: والأقْرَاءُ والأطهار - واللَّه أعلم - ولا
يمكن أن يطلقها طاهرًا إلا وقد مضى بعض الطهر، وقال اللَّه تعالى: (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ) الآية، وكان شوال، وذو القعدة كاملين، وبعض ذي الحجة، كذلك الأَقْرَاءُ: طُهرَان كاملان وبعض طهر.
١ / ٣١٨
أحكام القرآن: ما يؤثر عنه في الحج:
أخبرنا أبو سعيد بن أبي عمرو، أخبرنا أبو العباس، أخبرنا الربيع:
أخبرنا الشَّافِعِي ﵀ قال: في قوله تعالى: (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ)
الآية، قال: وأشهر الحج: شوال، وذو القعدة، وذو الحجة. ولا يفرض الحجّ إلا في شوال كله، وذي القَعدة كله، وتسع من ذي الحجة، ولا يفرض إذا خلت عشر ذي الحجة، فهو - أي: شهر ذي الحجة - من شهور الحجّ، والحجّ بعضه دون بعض.
قال الله ﷿: (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ (١٩٨)
الأم: باب (صلاة المسافر):
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: وكما كان قول الله تعالى:
(لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ) الآية.
يريد - واللَّه أعلم - أن تتجروا في الحج، لا أن حتمًا عليهم أن يتجروا.
١ / ٣١٩
أحكام القرآن: فصل (فيما يؤثر عن - الشافعى - من التفسير والمعاني في الطهارات والصلوات والعبادات):
نفس القول الوارد في الأم سابقًا مع تغير آخر لفظة إلى: (أن يتجروا) .
قال الله ﷿: (ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٩٩)
الرسالة: باب (بيان ما نزل من الكتاب عام الظاهر يراد به كله الخاص):
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: قال الله ﵎:
(ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ الآية.
فالعلم يحيط - إن شاء الله - أن الناس كلهم لم يحضروا
عرفة في زمان رسول الله ﷺ، ورسول اللَّه ﷺ المخاطب بهذا ومن معه، ولكن
صحيحًا من كلام العرب أن يقال: (أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ)
يعني: بعضَ الناس.
أحكام القرآن: ما يؤثر عنه في الحج:
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: أخبرنا أبو عبد اللَّه الحافظ، قال: وقال الحسين
ابن محمد الماسرجسي، فيما أخبرني عنه أبو محمد بن سفيان، أخبرنا يونس بن
عبد الأعلى قال:
١ / ٣٢٠
قال الشَّافِعِي يرحمه الله تعالى: في قوله تعالى: (ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ) الآية، قال: كانت قريش وقبائل لا يقفون بعرفات، وكانوا يقولون: نحن الحُمسُ، لم نسَبَّ قط، ولا دُخِلَ علينا في الجاهلية، وليس نفارق الحرم، وكان سائر الناس يقفون بعرفات. فأمرهم اللَّه ﷿: أن يقفوا بعرفة مع الناس.
قال الله ﷿: (وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (٢٠١)
الأم: القول في الطواف:
أخبرنا سعيد، عن ابن جريج، عن يحيى بن عبيد (مولى السائب)، عن أبيه
عن ابن السائب: لأنَّه سمع النبي ﷺ يقول: "فيما بين ركن بني جمح والركن الأسود: (رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) الحديث.
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: وهذا من أحَبِّ ما يقال في الطّواف إليَّ.
وأحِبُّ أن يُقال في كلّه.
١ / ٣٢١
الأم: التلبية:
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: وأحِبُّ أن يكون أكثر كلامه في الطّواف:
(رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) الآية.
قال الله ﷿: (أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (٢٠٢)
الأم باب (الاستسلاف للحج):
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى:
أخبرنا مسلم، وسعيد، عن ابن جريج، عن
عطاء، عن ابن عباس ﵄ أن رجلًا سأله فقال: أو آجر نفسي من هؤلاء القوم، فأنسِك معهم المناسك ألِيَ أجرٌ؟
فقال ابن عباس ﵄: نعم (أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (٢٠٢) الآية.
قال الله ﷿: (وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٢٠٣)
الأم: باب (بيع الآجال):
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: وقد رُوِيَ إجازة البيع إلى العطاء عن غير
واحد، وروي عن غيرهم خلافه، وإنما اخترنا ألا يباع إليه، لأنّ العطاء قد
١ / ٣٢٢
يتأخر ويتقدم، وإنما الآجال معلومة، بايام موقوتة، أو أهِلَّة، وأصلها في القرآن قال تعالى: (وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ) الآية، فقد وقت بالأهلة كما وقت بالعدة، وليس العطاء من مواقيته ﵎، وقد يتأخر الزمان ويتقدم، وليس تتأخر الأهلة أبدًا أكثر من يوم.
قال الله ﷿: (وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ (٢٠٥)
الأم: المشي إلى الجمعة:
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: وقال عز ذكره: (وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا) الآية.
السعي: هو العمل، لا السعي على الأقدام.
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: قال زهير:
سعى بعهدهم قوم لكي يدركوهمُ ... فلم يفعلوا ولم يليموا ولم يألوا
وزاد بعض أصحابنا في هذا البيت:
وما يك من خير أتوه فإنما ... توارثه آباء آبائهمُ قَبلُ
وهل يحمل الخطي إلا وشيجه ... وتُغرس إلَّا في منابتَها النخلُ
١ / ٣٢٣
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: أخبرنا إبراهيم بن محمد، قال: حدثني عبد الله
ابن عبد الرحمن بن جابر بن عتيك، عن جده جابر بن عتيك صاحب النبي ﷺ.
قال: «إذا خرجت إلى الجمعة فامش على هينتك» الحديث.
قال الله ﷿: (كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ)
الأم: كتاب الجزية):
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: خلق اللَّه الخلق لعبادته، فأبان جل وعلا أن
خيرته من خلقه: أنبياؤه، فقال ﵎: (كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ) الآية، فجعل - سبحانه - النبيين صلى اللَّه عليهم وسلم من أصفيائه - دون عباده - بالأمانة على وحيه، والقيام بحجته فيهم.
الرساله: المقدمة:
قال الشَّافِعِي ﵀ ئعاك: فإئه ﵎ يقول: (كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ) الآية.
فكان خيرته المصطفى لوحيه، المنتخب لرسالته، المفضل على جميع خلقه.
بفتح رحمته، وختم نبوته، وأعم ما أرسل به مُرسَل قبله، المرفوع ذكرُهُ مع ذكره
١ / ٣٢٤
في الأولى، والشافعُ المشفع في الأخرى، أفضل خلقه نفسًا، وأجمعهم لكل خُلُق رضيه في دين ودنيا، وخيرهم نسبًا ودارًا: محمدًا عبده ورسوله ﷺ.
قال الله ﷿: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (٢١٦)
الأم: أصل فرض الجهاد:
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: ولما مضت لرسول الله ﷺ مدة من هجرته، أنعم اللَّه تعالى فيها على جماعة باتباعه، حدثت لهم بها مع عون اللَّه قوة بالعدد، لم تكن قبلها، ففرض اللَّه تعالى عليهم الجهاد، بعد إذ كان إباحة لا فرضًا، فقال
﵎: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ) الآية.
الأم (أيضًا): من لا يجب عليه الجهاد:
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: فلما فرض اللَّه تعالى الجهاد، دلَّ في كتابه.
وعلى لسان نبيه ﷺ، أنه لم يفرض الخروج إلى الجهاد على مملوك، أو أنثى بالغ، ولا حر لم يبلغ.
لقوله اللَّه تعالى: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ) الآية.
وكل هذا يدل على أنه أراد به الذكور دون الإناث. . .
١ / ٣٢٥
ودلت السنة، ثم ما لم أعلم فيه مخالفًا من أهل العلم على ما وصفت.
وذكَرَ حديث ابن عمر في ذلك.
الأم (أيضًا): كيف تفضل فرض الجهاد»:
أخبرنا الربيع قال:
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: قال اللَّه ﵎: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ) الآية، مع ما أوجب - اللَّه - من القتال في غير آية من كتابه، وقد
وصفنا أن ذلك على الأحرار المسلمين البالغين دون غير ذوي العذر، بدلائل
الكتاب والسنة، فإذا كان فرض الجهاد - على من فُرِض عليه - محتملًا لأن يكون كفرض الصلاة وغيرها عامًّا، ومحتملًا لأن يكون على غير العموم، فدل كتاب الله ﷿، وسنة نبيه ﷺ على أن فرض الجهاد، إنما هو على أن يقوم به من فيه كفاية للقيام به حتى يجتمع أمران:
أحدهما: أن يكون بإزاء العدو المَخُوف على المسلمين من يمنعه.
الآخر: أن يجاهد من المسلمين من في جهاده كفاية حتى يُسلم أهل
الأوثان، أو يعطي أهل الكتاب الجزية.
١ / ٣٢٦
قال الله ﷿: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ)
الأم: كتاب سير الأوزاعي:
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: - روى - الكلبي من حديث رفعه إلى
رسول اللَّه ﷺ أنه بعث عبد اللَّه بن جحش - في سرية - إلى بطن نخلة، فأصاب هنالك عمرو بن الحضرمي، وأصاب أسيرًا أو اثنين، وأصاب ما كان معهم من أدم وزيت وتجارة (من تجارة أهل الطائف)، فقدم بذلك على رسول الله ﷺ.
ولم يقسم ذلك عبد الله بن جحش ﵁ حتى قدم المدينة، وأنزل اللَّه ﷿ في ذلك:
(يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ)
حتى فرغ من الآية - فقبض رسول الله ﷺ المغنم وخَمَّسهُ.
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: وأما ما احتُج به من وقعة عبد اللَّه بن
جحش، وابن الحضرمي، فذلك قبل بدر، وقبل نزول الآية، وكانت وقعتهم في آخر يوم من الشهر الحرام، فوقفوا فيما صنعوا، حتى نزلت: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ) الآية.
وليس مما خالفه فيه الأوزاعي بسبيل.
١ / ٣٢٧
الأم (أيضًا): المرتد عن الإسلام:
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: ومن انتقل عن الشرك إلى الإيمان، ثم انتقل
عن الإيمان إلى الشرك (من بالغي الرجال والنساء) استتيب، فإن تاب قُبِل منه، وإن لم يتب قُتِل قال اللَّه ﷿: (وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا) إلى قوله: (هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) الآية.
الأم (أيضًا): باب المرتد الكبير:
قال الشَّافِعِي ﵀: وقال الله تبارك اسمه: (وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ) الآية.
أخبرنا الثقة، عن حماد بن زيد، عن يحيى بن سعيد، عن أبي أمامة بن
سهل، عن عثمان بن عفان، أن رسول الله ﷺ له قال: «لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: كفر بعد إيمان، وزنًا بعد إحصان، أو قتل نفس بغير نفس» الحديث.
قال الشَّافِعِي ﵀: فلم يجز في قول النبي ﷺ: «لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث»
إحداهن الكفر بعد الإيمان، إلا أن تكون كلمة الكفر تحل
الدم، كما يُحله الزنا بعد الإحصان، أو تكون كلمة الكفر تحل الدم إلا أن يتوب صاحبه، فدلَّ كتاب اللَّه ﷿، ثم سنة رسوله ﷺ أن معنى قول الرسول ﷺ:
كفر بعد إيمان" إذا لم يتب من الكفر، وقد وضعتُ هذه الدلائل مواضعها.
١ / ٣٢٨
قال الله ﷿: (وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ)
الأم: نكاح نساء أهل الكتاب:
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: أحل اللَّه ﵎ حرائر المؤمنات.
واستثنى في إماء المؤمنات أن يحلُلْن، بأن يجمع ناكحهن ألَّا يجد طولًا لحرة، وأن يخاف العنت في ترك نكاحهن، فزعمنا أنَّه لا يحلُّ أمة مسلمة حتى يجمع ناكحها الشرطين اللذين أباح اللَّه نكاحها بهما، وذلك أن أصل ما نذهب إليه إذا كان الشيء مباحًا بشرط: أن يباح به، فلا يباح إذا لم يكن الشرط، كما قلنا في الميتة نباح للمضطر ولا تباح لغيره. ..
وقال اللَّه ﵎: (وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ) الآية.
فأطلق التحريم تحريمًا بأمر وقع عليه اسم الشرك.
الأم (أيضًا): نكاح نساء أهل الكتاب وتحريم إمائهم:
قال الشَّافِعِي ﵀: قال اللَّه ﷿: (وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ)
إلى قوله: (وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ) الآية، وقد قيل في هذه الآية: إنهها نزلت في جماعة مشركي العرب الذين هم أهل الأوثان، فحرم نكاح نسائهم، كما حرم أن ننكح رجالهم المؤمنات، قال: فإن كان هذا هكذا، فهذه الآية ثابتة ليس فيها منسوخ.
١ / ٣٢٩
قال الشَّافِعِي ﵀: وقد قبل هذه الآية في جميع المشركين، ثم نزلت
الرخصة بعدها في إحلال نكاح حرائر أهل الكتاب خاصة، كما جاءت في
إحلال ذبائح أهل الكتاب.
الأم (أيضًا): ما جاء في نكاح المحدودين:
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: ومن قال هذا حكم بينهما، فالحجة عليه بما
وصفنا من كتاب اللَّه ﷿ الذي اجتمع على ثبوت معناه أكثر أهل العلم، فاجتماعهم أولى أن يكون ناسخًا وذلك قول اللَّه ﷿: (فَلَا تَرْجِعُوهُن إِلَى الْكفارِ)، الآية، وقوله ﷿:
(وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُواأ)
الآية، فقد قيل: إن هاتين الأبتين في مشركات أهل الأوثان.
وقد قيل: في المشركات عامة ثم رُخص منهن في حرائر أهل الكتاب.
الأم (أيضًا): ما جاء في نكاح إماء المسلمين وحرائر أهل الكتاب وإمائهم:
أخبرنا الربيع قال:
قال الشَّافِعِي ﵀: قال اللَّه ﵎: (وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ) الآية.
فنهى اللَّه ﷿ في هذه الآية - وآية الممتحنة - عن نكاح نساء المشركين، كما نهى عن إنكاح رجالهم.
١ / ٣٣٠
وقال: وهاتان الآيتان تحتملان معنيين:
الأول: أن يكون أرِيد بهما مشركو أهل الأوثان خاصة، فيكون الحكم
فيهما بحاله لم ينسخ، ولا شيء منه؛ لأنّ الحكم في أهل الأوثان: ألَّا ينكح مُسْلم منهم امرأة، كما لا ينكح رجل منهم مسلمة.
وقد قيل هذا فيها، وفيما هو مثله عندنا - واللَّه أعلم به -.
الثاني: وتحتملان أن تكونا - الآيتان - في جميع المشركين، وئكون الرخصة
نزلت بعدها في حرائر أهل الكتاب خاصة، كما جاءت في ذبائح أهل الكتاب من بين المشركين خاصة.
الأم (أيضًا): المدعي والمدَّعَى عليه:
قال الشَّافِعِي ﵀: قال اللَّه ﷿ (وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ) الآية، فحرَّم: المشركات جملة. ..
قال الشَّافِعِي ﵀: فأحلُّ اللَّه صنفًا واحدًا من المشركات بشرطين:
أحدهما: أن تكون المنكوحة من أهل الكتاب.
والثاني: أن تكون حُرَّة.
لأنَّه لم يختلف المسلمون في أنَّ قول اللَّه ﷿ فَي: (وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ) . الآية.
هن: الحرائر.
أحكام القرآن: ما يؤثر في النكاح والصداق وغير ذلك:
قال الشَّافِعِي ﵀: وإن كانت الآية: (وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ) الآية، نزلت في تحريم نساء المسلمين على المشركين - من مشركي أهل
١ / ٣٣١
الأوثان -، فالمسلمات محرَّمات على المشركين منهم بالقرآن بكل حال، وعلى مشركي أهل الكتاب، لقطع الولاية بين المسلمين والمشركين، وما لم يختلف الناس فيه علمتُه.
قال الله ﷿: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (٢٢٢)
الأم: كتاب الحيض:
أخبرنا الربيع قال:
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: قال الله ﵎: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ) الآية.
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: وأبان ﷿ أنها حائض، غير طاهر، وأمر ألا تقرب حائض حتى تطهر، ولا إذا طهرت حتى تتطهر بالماء، وتكون ممن تحل لها الصلاة، ولا يحل لامرئ كانت امرأته حائضًا أن يجامعها حتى تطهر، فإن اللَّه تعالى جعل التيمم طهارة إذا لم يوجد الماء، أو كان التيمم مريضًا، ويحل لها الصلاة بغسل إن وجدت ماء، أو تيمم إذا لم تجده.
١ / ٣٣٢
الأم (أيضًا): باب (ترك الحائض الصلاة):
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: قال الله ﷿: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ) الآية، فكان بينًا في قول اللَّه ﷿: (حَتَّى يَطْهُرْنَ) بأنهن حِيَّض في غير حال الطهارة، وقضى على الجنب ألا يقرب الصلاة حتى يغتسل، وكان بينًا أن لا مدة لطهارة الجنب إلا الغسل، وأن لا مدة لطهارة الحائض إلا ذهاب الحيض، ثم الاغتسال لقول اللَّه ﷿: (حَتَّى يَطْهُرْنَ)
وذلك بانقضاء الحيض، (فَإِذَا تَطَهرْنَ) يعني بالغسل، فإن السنة تدل على أن
طهارة الحائض بالغسل، ودلت سنة رسول الله ﷺ على بيان ما دلَّ عليه كتاب اللَّه تعالى من ألا تصلي الحائض - حتى تطهر -.
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: وأمر رسول الله ﷺ عائشة ألا تطوف بالبيت حتى تطهر، فدل على ألا تصلي حائضًا، لأنها غير طاهر ما كان الحَيض قائمًا.
وكذلك قال اللَّه ﷿: (حَتى يَطهُرْنَ) .
الأم (أيضًا): باب (المستحاضة):
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: ولم يُذكَر في حديث عائشة الغسل عند تولي
الحيضة، وذكِرَ غَسْلُ الدم، فأخذنا بإثباث الغسل من قول اللَّه ﷿ ق: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ) الآية، فقيل: - واللَّه تعالى أعلم - يطهرن: من الحيض، فإذا تطهرن: بالماء.
١ / ٣٣٣
ثم من سنة رسول الله ﷺ ما أبان رسول الله ﷺ أن الطهارة بالماء الغسل.
وفي حديث حمنة بنت جحش ﵂ فأمرها في الحيض أن تغتسل إذا رأت أنها طَهُرَت، ثم أمرها - في حديث حمنة - بالصلاة. فدل ذلك على أن لزوجها أن يصيبها، لأن الله تبارك ؤتعالى أمر باعتزالها حائضًا، وأذن في إتيانها»طاهرًا.
أخبرنا الربيع قال:
أخبرنا الشَّافِعِي رحمه الله تعالى قال: أخبرنا سفيان قال: أخبرني الزهري.
عن عمرة، عن عائشة، أن أم حبيبة (بنت جحش ﵂ استحيضت فكانت لا تصلي سبع سنين فسألت رسول الله ﷺ فقال: «إنَّما هو عِرْق وليست بالحيضة»، فأمرها رسول الله أن تغتسل وتصلي، فكانت تغتسل لكل صلاة
وتجلس في المِرْكن فيعلوه الدم.
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: وقد روى غير الزهري هذا الحديث أن النبي ﷺ أمرها أن تغتسل لكل صلاة ولكن رواه عن عمرة بهذا الإسناد والسياق.
والزهري أحفظ منه، وقد روى فيه شيئًا، يدل على أن الحديث غلط، قال: تترك الصلاة قدر أقرائها، وعائشة تقول الأقراء: الأطهار، قال: أفرأيت لو كانت تثبت الروايتان فإلى أيهما تذهب؟
قلت: إلى حديث حمنة بنت جحش ﵂
وغيره مما أعرف فيه بالغسل عند انقطاع الدم، ولو لم يؤمرن به عند كل صلاة.
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: فإن قال فهل من دليل غير الخبر؟
قيل:
نعم، قال ﷿: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى) إلى قوله: (فَإِذَا تَطَهَّرْنَ) فدلت سنة رسول الله ﷺ أن الطهر: هو الغسل.
١ / ٣٣٤
الأم (أيضًا): باب - (الخلاف في المستحاضة):
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: فقال لي قائل: تصلي المستحاضة، ولا يأتيها
ْزوجها، وزعم لي بعض من يذهب مذهبه، أن حجته فيه أن اللَّه ﵎
قال: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى) الآية، وأنه قال في الأذى أنه
أمر باجتنابها فيه، فأثم فيها، فلا يحل له إصابتها.
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: فقيل له: حكم اللَّه ﷿ في أذى المحيض أن تعتزل المرأة، ودلت سنة رسول الله ﷺ على أن حكم اللَّه ﷿ أن الحائض لا تصلي، فدل حكم اللَّه وحكم رسوله ﷺ أن الوقت الذي أمر الزوج باجتناب
المرأة فيه للمحيض، الوقت الذي أمرت المرأة فيه إذا انقضى المحيض بالصلاة.
قال: نعم. فقيل له: فالحائض لا تطهر وإن اغتسلت، ولا يحل لها أن تصلى، ولا تمس مصحفًا، قال: نعم. فقيل له: حكم رسول الله ﷺ يدل على أن حكم أيام الاستحاضة حكم الطهر، وقد أباح اللَّه للزوج الإصابة إذا تطهرت الحائض.
وقوله ﷺ قال في الاستحاضة: إنما ذلك عِرق وليس بالحيضة. . ..
الأم (أيضًا): باب (إتيان النساء حِيَّضًا):
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: قال اللَّه ﷿: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ) الآية.
قال: فزعم بعض أهل العلم بالقرآن، أن قول اللَّه ﷿: (حَتَّى يَطْهُرْنَهُ) حتى يَرَيْن الطهر (فَإِذَا تَطَهَّرْنَ) بالماء (فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ) أن تجتنبوهن.
١ / ٣٣٥
قال وما أشبه ما قال - والله تعالى أعلم - بما قال، ويشبه أن يكون تحريم
الله ﷿ إتيان النساء في المحيض؛ لأذى الحيض، وإباحته إتيانهن إذا طهرن، وتطهُّرن بالماء من الحيض، على أن الإتيان المباح في الفرج نفسه كالدلالة على أن إتيان النساء في أدبارهن محرم.
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: وبين في الآية: إنما نهى عن إتيان النساء في
المحيض، ومعروف أن الإتيان، الإتيان في الفرج؛ لأن التلذذ بغير الفرج في شيء من الجسد ليس إتيانًا.
الأم (أيضًا): باب (في إتيان الحائض):
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: قال اللَّه ﷿: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ) الآية، يحتمل معنين:
أحدهما: فاعتزلوهن في غير الجماع.
ثانيهما: لا تقربوهن في الجماع.
فيكون اعتزالهن من وجهين؛ والجماع أظهر معانيه لأمر اللَّه بالاعتزال ثم
قال: (وَلَا تَقرَبُوهُن) الآية، فأشبه أن يكون أمرًا بينًا وبهذا نقول لأنه قد
يحتمل أن يكون أمر باعتزالهن، ويعني أن اعتزالهن: الاعتزال في الجماع.
الأم (أيضًا): باب (طهر الحائض):
أخبرنا الربيع قال:
١ / ٣٣٦
أخبرنا الشَّافِعِي ﵀: وإذا انقطع عن الحائض الدم، لم يقربها زوجها
حتى تطهر للصلاة، فإن كانت واجدة للماء فحتى تغتسل، وإن كانت مسافرة
غير واجدة للماء فحتى تتيمم لقول الله ﷿: (وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ)
الآية، أي حتى ينقطع الدم ويرين الطهر، (فَإِذَا تَطَهَّرْنَ) يعني - واللَّه تعالى
أعلم -: الطهارة التي تحل بها الصلاة لها، ولو أتى رجل امرأته حائضًا، أو بعد تولية الدم، ولم تغتسل، فليستغفر اللَّه ولا يعد حتى تطهر، وتحل لها الصلاة، وقد روي فيه شيء لو كان ثابتًا أخذنا به، ولكنه لا يثبت مثله.
الأم (أيضًا): باب (ما ينال من الحائض):
أخبرنا الربيع قال:
أخبرنا الشَّافِعِي ﵀ قال: أخيرنا مالك، عن نافع، أن ابن عمر رضي
الله عنهما أرسل إلى عائشة ﵂ يسألها: «هل يباشر الرجل امرأته وهي حائض؛ فقالت: لتشدد إزارها على أسفلها ثم يياشرها إن شاء» الحديث.
الأم (أيضًا): باب (نكاح حرائر أهل الكتاب):
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: - وبينَ في نكاح الكتابية - وله جبرها على
الغسل من الحيضة، ولا يكون له إصابتها إذا طهرت من الحيض حتى تغتسل؛ لأن الله ﷿ يقول (حَتَّى يَطْهُرْنَ) فقال بعض أهل العلم بالقرآن: حتى ترى
الطهر قال: (فَإِذَا تَطَهَّرْنَ) يعني: بالماء إلا أن تكون في سفر لا تجد الماء فتتيمم، فإذا صارت ممن تحل لها الصلاة بالطهر حلت له.
١ / ٣٣٧
الأم (أيضًا): النصرانية تحت المسلم:
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: وإذا كانت النصرانية عند المسلم فطهرت من
الحيضة، جُبرت على الغسل منها، فإن امتنعت أُدِّبت حتى تفعل؛ لأنها تمنعه
الجماع في الوقت الذي يحل له، وقد قال اللَّه ﷿: (وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ)
الآية، فزعم بعض أهل التفسير أنه حتى يطهرن من الحيض قال اللَّه تعالى ١:
(فَإِذَا تَطَهَّرْنَ) يعني بالماء (فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ) الآية.
الرسالة: باب (فرض الصلاة الذى دل الكتاب ثم السنة على من تزول عنه
بالعذر:
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: قال اللَّه ﵎:
(وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (٢٢٢) .
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: افثرض اللَّه الطهارة على المصلي، في الوضوء
والغسل من الجنابة، فلم تكن لغير طاهر صلاة.
ولما ذكر اللَّه المحيض فأمر باعتزال النساء فيه حتى يطهرن، فإذا تطهرن أتِينَ.
استدللنا على أن تطهرهن بالماء بعد زوال المحيض، لأن الماء موجود في الحالات كلها في الحضر، فلا يكون للحائض طهارة بالماء، لأن اللَّه إنما ذكر التطهر بعد أن يَطْهُرن، ويطَهرُهُن: زوال المحيض في كتاب اللَّه ثم سنة رسوله.
١ / ٣٣٨
ْأخبرنا مالك، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة رضي اللَّه
عنها: وذكرت إحرامها مع النبي ﷺ، وأنها حاضت، فأمرها أن ئقضي ما يقضي الحاج «غير أن لا تطوفي بالبيت حتى تطهري» الحديث.
أحكام القرآن: فصل فيما يؤثر عن الشَّافِعِي من التفسير والمعاني في الطهارات والصلوات:
وفيما أنباني أبو عبد اللَّه (إجازة) عن الربيع قال:
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: قال اللَّه ﵎: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ) الآية.
فأبان: أنها حائض غير طاهر. وأمرنا: أن إلا نقرب حائضًا حتى تطهر، ولا
إذا طهرت حتى تتطهر بالماء، وتكون ممن تحل لها الصلاة.
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: قال بعض أهل العلم بالقرآن: (فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ) الآية، أن تعتزلوهن يعني: في مواضع الحيض.
وكانت الآية محتملة لما قال.
ومحتملة: أن اعتزالهن: اعتزال جميع أبدانهن، ودلت سنة رسول الله ﷺ: على اعتزال ما تحت الإزار منها، وإباحة ما فوقها - أي: ما فوق الإزار -.
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: وكان مبينًا في قول اللَّه ﷿:
(حَتَّى يَطْهُرْنَ)
أنهن حُيض في غير حال الطهارة وقضى اللَّه على الجنب: أن لا يقرب الصلاة
١ / ٣٣٩
حتى يغتسل، فكان مبينًا: أن لا مدة لطهارة الجنب إلا الغسل، ولا مدة لطهارة الحائض إلا ذهاب الحيض، ثم الغسل، لقول اللَّه ﷿: (حَتَّى يَطْهُرْنَ)، وذلك انقضاء الحيض، (فَإِذَا تَطَهَّرْنَ) يعني: بالغسل، لأن السنة دلت على أن طهارة
الحائض: الغسل، ودلت على بيان ما دلَّ عليه كتاب اللَّه: من ألَّا تصلي الحائض.
فذكر حديث عائشة ﵂ ثم قال: وأقرَّ النبي ﷺ عائشة ﵂: «أن لا تطوفي بالبيت حتى تطهري». الحديث، يدل على ألَّا تصلي حائضًا؛ لأنها غير طاهر ما كان الحيض قائمًا، ولذلك قال اللَّه ﷿: (حَتَّى يَطْهُرْنَ) .
قال الله ﷿: (نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (٢٢٣)
الأم: باب (إتيان النساء في أدبارهن):
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: قال اللَّه ﷿: (نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (٢٢٣» الآية، قال: وبيِّن أن موضع الحرث موضع الولد، وأن اللَّه تعالى أباح الإتيان فيه إلا في وقت المحيض.
و(أَنَّى شِئْتُمْ): من أين شئتم.
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: وإباحة الإتيان في موضع الحرث، يشبه أن
يكون تحريم إتيان في غيره، فالإتيان في الدبر حتى يبلغ منه مبلغ الإتيان في القُبُل محرَّم بدلالة الكتاب ثم السنة.
وذكر حديث جواب النبي ﷺ لمن سأله عن هذه الآية: «أمن دبرها في قبلها فنعم، أم من دبرها في دبرها فلا، إن الله لا يستحيي من الحق لا تأتوا النساء في أدبارهن» الحديث.
١ / ٣٤٠
الأم (أيضًا): باب (إتيان النساء في أدبارهن):
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: قال الله ﷿: (نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ) الآية، قال: احتملت الآية معنيين:
أحدهما: أن تؤتى المرأة من حيث شاء زوجها، لأن (أَنَّى شِئْتُمْ) يبين أين
شئتم لا محظور منها، كما لا محظور من الحرث.
ثانيهما: واحتملت أن الحرث إنما يراد به النبات، وموضع الحرث الذي
يطلب به الولد، الفرج دون ما سواه، لا سبيل لطلب الولد غيره. ..
ثم ختم الباب بقوله - أي الشَّافِعِي -: فلست أرَخِّصُ فيه بل أنهى عنه.
* * *
قال الله ﷿: (لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (٢٢٥)
مختصر المزنى: باب لغو اليمين من هذا، ومن اختلاف مالك والشافعى
رحمهما الله:
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: أخبرنا مالك، عن هشام بن عروة، عن أبيه.
عن عائشة ﵂ أنها قالت: «لغو اليمين قول الإنسان لا والله، وبلى والله» الحديث.
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: واللغو في لسان العرب: الكلام غير المعقود عليه.
وجماع اللغو: هو الخطأ واللغو، كما قالت عائشة ﵂ واللَّه أعلم -.
١ / ٣٤١
وذلك إذا كان على اللجاج والغضب والعجلة، وعقد اليمين أن يثبتها
على الشيء بعينه.
مختصر المزني (أيضًا): من كتاب الكفارات والنذور والأيمان:
أخبرنا سفيان، حدثنا عمرو، عن ابن جريج، عن عطاء قال: ذهبت أنا وعبيد بن عمير إلى عائشة ﵂، وهي معتكفة في ثَبير فسألناها عن قول الله ﷿:
(لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ) الآية، قالت: «هو لا والله، وبلى والله».
أخبرنا سفيان بن عيينة، عن أيوب السختياني، عن أبي قلابة، عن أبي
المهلب، عن عمران بن الحصين ﵁ أن النبي ﷺ قال: «لا نذر في معصية الله، ولا فيما لا يملك ابن آدم» الحديث.
* * *
قال الله ﷿: (لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٢٦) وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢٢٧)
الأم: الخلاف في طلاق المختلعة:
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: قال الله ﷿: (فخالفنا بعض الناس في
المختلعة، فقال: إذا طُلِّقت في العدة لحقها الطلاق، فسألته هل يروي في قوله
١ / ٣٤٢
خبرًا؛ فذكر حديثًا لا تقوم بمثله حجة عندنا ولا عنده.
فقلت: هذا عندنا وعندك غير ثابت.
قال: فقد قال به بعض التابعين.
فقلت له: وقول بعض التابعين لا يقوم به حجة لو لم يخالفهم غيرهم.
قال فما حجتك في أن الطلاق لا يلزمها؟
قلت: حجتي فيه من القرآن والأثر والإجماع، على ما يدل على أن الطلاق
لا يلزمها، قال: وأين الحجة من القرآن؟
قلت: قال اللَّه ﵎: (لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ) الآية.
وذكر منها أربع آيات أخرى -.
قال الشَّافِعِي ﵀: ألا إن أحكام الله ﵎ في هذه الآيات
الخمس تدل على أنها ليست بزوجة؛ قال: نعم. ..
أخبرنا مسلم بن خالد، عن ابن جريج، عن عطاء، عن ابن عباس، وابن
الزبير ﵄ أنهما قالا في المختلعة يطلقها زوجها، قالا: لا يلزمها
طلاق، لأنه طلَّق ما لا يملك. . . فكيف يطلق غير امرأته؟!
الأم (أيضًا): الإيلاء واختلاف الزوجين في الإصابة:
أخبرنا الربيع بن سليمان، قال:
١ / ٣٤٣
أخبرنا محمد بن إدريس الشَّافِعِي قال: قال الله ﵎: (لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٢٦) وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢٢٧) . الآيتان.
قال الشَّافِعِي ﵀: أخبرنا ابن عيينة، عن يحيى بن سعيد، عن سليمان
ابن يسار قال: أدركت بضعة عشر من أصحاب رسول الله ﷺ كلهم يقول بوقف المُوْلِي.
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: أخبرنا مالك، عن نافع، عن ابن عمر رضي
الله عنهما أنه قال: إذا آلى الرجل من امرأته، لم يقع عليه طلاق، وإن مضت أربعة أشهر حتى يوقف، فإمُّا أن يطلق، وإما أن يفيء.
الأم (أيضًا): الظهَار:
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: وإذا تظاهر من أمته - أم ولد كانت، أو غير
أم ولد - لم يلزمه الظهار؛ لأن اللَّه ﷿ يقول:
(وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ) الآية، وليست من نسائه، ولا يلزمه الإيلاء، ولا الطلاق، فيما لا يلزمه الظهار، وكذلك قال الله ﵎:
(لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍر) الآية.
فلو آلى من أمته لم يلزمه الإيلاء.
١ / ٣٤٤
مختصر المزني: كتاب الظهَار:
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: لأن الله ﷿ يقول: (يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ)
فعقلنا عن اللَّه ﷿ أنها ليست من نسائنا - الإماء أو أم ولد - وإنَّما نساؤنا: أزواجنا.
الرسالة: باب (الاختلاف):
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: قال الله ﷿:
(لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٢٦) وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢٢٧) . الآيتان.
فقال: الأكثر ممن رُوي عنه من أصحاب النبي ﷺ عندنا: إذا مضت أربعة أشهر وُفِفَ المُولِي، فإمَّا أن يفيء، وإما أن يطلق.
ورُوِيَ عن غيرهم من أصحاب النبي ﷺ: عزيمة الطلاق انقضاء أربعة أشهر.
ولم يُحفظ عن رسول الله ﷺ في هذا - بأبي هو وأمي - شيئًا.
قال: فأيُّ القولين ذهبتَ؟
قلتُ: ذهبت إلى أن المولى لا يلزمه الطلاق، وأن
امرأته إذا طلبت حقها منه لم أعرِضْ له حتى تمضي أربعة أشهر، فإذا مضت
أربعة أشهر قلت له: فِئ أو طَلِّق، والفَيئَة: الجماع.
قال: فكيف اخترْته على القول الذي يخالفه؟
قلت: رأيته أشبه بمعنى كتاب الله ﷿ وبالمعمول.
١ / ٣٤٥
قال: وما دل عليه من كتاب اللَّه؟
قلت: لما قال اللَّه ﷿: (لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ) الآية، كان ظاهر الآية أن من أَنظَرَهُ اللَّه أربعة
أشهر في شيء، لم يكن عليه سبيل حتى تمضي أربعة أشهر.
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: وليس في الفيئة دلالة على ألَّا يفيء
الأربعة إلا مضيُّها، لأن الجماع يكون في طرفة عين، فلو كانت على ما وصفتَ تزَايَلَ حاله حتى تمضي أربعة أشهر، ثم تزايل حالُه الأولى، فإذا زايلها صار إلى أنُّ لله عليه حقًا، فإمَّا أن يفيء، وإمَّا أن يطلق.
فلو لم يكن في آخر الآية ما يدل على أن معناها غير ما ذهبتَ إليه، كان
قوله أَوْلاَهُما بها، لما وصفنا، لأنه ظاهرها.
والقرآن على ظاهره، حتى تأتي دلالة منه، أو سنة، أو إجماع، بأنَّه على
باطن وظاهر.
قال: فما في سياق الآية ما يدلُّ على ما وصفت؟.
قلت: لما ذكر اللَّه ﷿: أنُّ للمولي أربعة أشهر ثم قال:
(فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٢٦) وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢٢٧) . الآيتان.
فذكر الحكمين معًا بلا فصل بينهما: أنهما إنما يقعان بعد الأربعة أشهر، لأنَّه
إنما جعل عليه الفيئة أو الطلاق، وجعل له الخيار فيهما في وقت واحد، فلا يتقدم واحد منهما صاحبه، وقد ذكِرا في وقت واحد، كما يقال له في الرهن أَفْدِه أو نبيعه عليك، بلا فصل، وفي كل ما خُيِّر فيه افعل كذا أوكذا بلا فصل.
١ / ٣٤٦
ثم قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: فَتَكَلْمُ الموُلي بالإيلَى ليس هو طلاق.
إنَّما هي يمين، ثم جاءت عليها مدة جعلتها طلاقًا، أيجوز لأحد يعقل من حيث يقول: أن يقول مثل هذا إلا بخبر لازم؟!
قال: فهو يدخلُ عليك مثلُ هذا. قلتُ: وأين؟
قال: أنت تقول: إذا مضت أربعة أشهر وُقِفَ، فإن فاء وإلا جُبِرَ على أن
يُطلق.
قلت: ليس من قِبَلِ أن الإيلى طلاق، ولكنها يمين جعل اللَّه لها وقتًا، منع
بها الزوج من الضِّرار، وحكم عليه إذا كانت أن جعل عليه إمَّا أن يفيء، وإمَّا أن يُطَلِّق، وهذا حكم حادث بمضي أربعة أشهر، غير الإيلى، ولكنه مُؤتنَف، يُجبر صاحبُه على أن يأتي بأيهما شاء، فَيئةِ أو طلاق، فإن امتنع منهما أخذ من الذي يُقدر على أخذه منه، وذلك أن يطلق عليه، لأنَّه لا في أن يُجامَع عنه!!.
مناقب الشَّافِعِي: باب (ما يستدل به على فقه الشافعى، وتقدُّمه فيه، وحسُنُ استنباطه):
وقال ﵎: (فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٢٦) وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢٢٧) . الآية.
وقال (وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ) الآية.
وقال (وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ)
قال الشَّافِعِي ﵀: أفرأيت إن قذفها أيُلاعِنُها؛ وآلى منها أيلزمه
الإيلاء؛ أو ظاهر أيلزمه الظهار؛ أو ماتت أيرثها؛ أو مات أترثه؟
قال: لا.
١ / ٣٤٧
قلت: الآن أحكام الله هذه الخمسة تدل على أنها ليست بزوجة.
قال: نعم.
* * *
قال الله ﷿: (وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٢٨)
الأم: رضاعة الكبير:
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: وما جعل اللَّه تعالى له غاية فالحكم بعد مضي
الغاية فيه غيره قبل مضيها، قال تعالى: (وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ) الآية، فكنَّ - إذا مضت الثلاثة الأقراء فحكمهن بعد مضيها غير
حكمهن فيها.
الأم (أيضًا): الفرقة بين الأزواج بالطلاق والفسخ:
أخبرنا الربيع قال:
أخبرنا الشَّافِعِي رحمه الله تعالى قال: الفرقة بين الزوجين وجوه، يجمعها
اسم الفرقة، ويفترق بها أسماء دون اسم الفرقة.
فمنها الطلاق: والطلاق ما ابتدأه الزوج، فأوقعه على امرأته بطلاق
صريح، أو كلام يشبه الطلاق يريد به الطلاق، وكذلك ما جعل إلى امرأته من أمرها فطلَّقت نفسها، أو إلى غيرها فطلقها، فهو كطلاقه، لأنه بأمره وقع، وهذا
١ / ٣٤٨
كله إذا كان الطلاق فيه من الزوج، أو ممن جعله إليه الزوج واحدة أو اثنتين، فالزوج يملك فيه رجعة المطلقة ما كانت في عدة منه.
قال الشَّافِعِي ﵀: فقال لي بعض الناس: ما الحجة فيما قلت؟
قلت: الكتاب والسنة والآثار والقياس.
قال: فأوجدني ما ذكرته.
قلت: قال الله ﵎: (الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ)
وقال تعالى ذكره: (وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ) إلى قوله: (إِصْلَاحًا) الآية، وقلت: أما يتبين لك في هاتين الآيتين أن اللَّه ﵎ جعل لكل مطلق لم يأت على جميع الطلاق الرجعة في العدة؛ ولم يخصص مطلّقًا دون مطلّق، ولا مطلقة دون مطلقة.
وقال الشَّافِعِي ﵀: وقوله في العدة: (وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ) الآية، فلما لم تكن هذه معتدة بحكم اللَّه تعالى، علمت أن اللَّه تبارك
وتعالى إنما قصد بالرجعة في العدة، قصد المعتدات، وكان المفَسَّر من القرآن يدل على معنى الجمل، ويفترق بافتراق حال المطلقات.
الأم (أيضًا): طلاق التي لم يدخل بها:
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: قال اللَّه ﷿: (وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ) الآية، وقال: (وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ) الآية.
فالقرآن يد، على أنَّ الرجعة لمن طلق واحدة أو ائنتين، إنما هي على المعتدة؛ لأنَّ اللَّه ﷿ إنما جعل الرجعة في العدة، وكان الزوج لا يملك الرجعة إذا انقضت
١ / ٣٤٩
العدة، لأنَّه يحلُّ للمرأة في تلك الحال أن تنكح زوجًا غير المطلق، فمن طلق
امرأته ولم يدخل بها تطليقة أو تطليفتين فلا رجعة له عليها، ولا عدة، ولها أن
تنكح من شاءت ممن يحلَّ لها نكاحه، وسواء البكر في هذا أو الثيب.
الأم (أيضًا): العدد (عدة المدخول بها التي تحيض):
أخبرنا الربيع قال:
أخبرنا الشَّافِعِي قال: قال الله ﵎: (وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ) الآية.
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: والأقراء عندنا - والله أعلم - الأطْهَار.
فإن قال قائل: ما دلَّ على أنَّها الأطهَار، وقد قال غيركم الحيض؟
قيل له: دلالتان: أولهما: الكتاب الذي دلَّت عليه السنة.
واآخر: اللسان.
فإن قال: وما الكتاب؟
قيل: قال اللَّه ﵎: (إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ) الآية.
قال الشَّافِعِي ﵀: أخبرنا مالك، عن نافع، عن ابن عمر رضي اللَّه
عنهما أنَّه طلق امرأته وهي حائض، في عهد النبي ﷺ فسأل عمر ﵁ رسول اللَّه ﷺ عن ذلك. فقال رسول الله ﷺ: "مُرهُ فليراجعها، ثم ليمسكها حتى تطهر،
١ / ٣٥٠
ثم تحيض، ثم تطهر، ثم إن شاء أمسك بعد، وإن شاء طلق قبل أن يمس، فتلك العدة التي أمر الله ﷿ أن تطلق لها النساء» الحديث.
وفي رواية: «قال النبي ﷺ: فإذا طهرت فليطلق أو ليمسك»، وتلا النبي ﷺ: (إذا طلقتم النساء فطلقوهن لقبل عدتهن أو في قبل عددتهن) .
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: أنا شككت.
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: فأخبر رسول الله ﷺ عن الله أن العدة: الطهر دون الحيض، وقرأ: «فطلقوهن لقبل عدتهن»
أن تطلق طاهرًا، لأنها حينئذ تستقبل عدتها.
ولو طُلقت حائضًا لم تكن مستقبلة عدتها إلا بعد الحيض.
فإن قال: فما اللسان؟
قيل: القُرْءُ: اسم وضع لمعنى، فلما كان الحيض دمًا
يرخيه الرحم فيخرج، والطهر دم يحبس فلا يخرج، كان معروفًا من لسان
العرب أن القُرْءَ: الحبس؛ لقول العرب: هو يقري الماء في حوضه وفي سقائه.
وتقول العرب: هو يقري الطعام في شدقه، يعني: يحبس الطعام في شدقه.
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: قال الله ﷿ في الآية التي ذكر فيها المطلقات ذوات الأقراء: (وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ) إلى قوله: (وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ) الآية.
١ / ٣٥١
فكان بينًا في الآية بالتنزيل أنَّه:
١ - لا يحلُّ للمطلقة أن تكتم ما في رحمها من المحيض، وذلك أن يحدث
للزوج عند خوفه انقضاء عدتها رأي في ارتجاعها، أو يكون طلاقه إياها أدبًا لها، لا إرادة أن تبينَ منه - فتُعلِمه ذلك، لئلا تنقضي عدتها، فلا يكون له سبيل إلى رجعتها.
٢ - وكان ذلك يحتمل: الحمل مع الحيض، لأن الحمل مما خلق اللَّه في
أرحامهن.
وإاذا سأل الرجل امرأته المطلقة أحامل هي أو هل حاضت؟
فبيّن عندي ألا يحلّ لها أن تكتمه واحدًا منهما، ولا أحدًا رأت أنَّه يُعلمه إياها؛ وإن لم يسألها ولا أحدًا يعلمه إياه، فأحبُّ إليَّ لو أخبرته به.
ولو كتمته بعد المسألة - الحمل أو الأقراء - حتى خلت عدتها كانت
عندي آثمة بالكتمان، إذ سئلت وكتمت. ..
أخبرنا سعيد بن سالم، عن ابن جريج، أنَّه قال لعطاء: ما قوله: (وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ) الآية، قال: الولد لا تكتمه ليرغب
فيها، وما أدري لعل الحيضة معه.
أخبرنا سعيد، عن ابن جريج، أنَّ مجاهدًا قال في قول اللَّه ﷿: (وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ) الآية، المرأة المطلقة لا يحلُّ لها أن تقول: أنا حبلى وليست بحبلى، ولا لست بحبلى وهي حبلى، ولا أنا حائض وليست بحائض، ولا لست بحائض وهي حائض.
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: وهذا - إن شاء اللَّه تعالى - كما قال مجاهد لمعانٍ:
١ / ٣٥٢
منها: ألَّا في الكذب. والآخر: ألَّا تكتمه الحَبَل والحَيضَ، لعله يرغب
فيراجع، ولا تدعِيهما لعله يراجع وليست له حاجة بالرجعة؛ لولا ما ذكرت
من الحبل والحيض فتغره، والغرور لا يجوز.
الأم (أيضًا): أحكام الرجعة:
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: في قول اللَّه ﷿: (إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا) الآية.
فقال: إصلاح الطلاق: الرجعة - واللَّه أعلم - فمن أراد الرجعة فهي له.
لأن اللَّه ﵎ جعلها له.
قال الشَّافِعِي ﵀: فأيما زوج حر، طلق امرأته بعد ما يصيبها، واحدة
أو اثنتين، فهو أحقُّ برجعتها ما لم تنقض عدتها، بدلالة كتاب اللَّه ﷿، ثم سنة رسول الله ﷺ ن، فإن (رُكَانة) طلق (امرأته ألبتة) ولم يُرِد إلا واحدة، فردها
إليه رسول الله ﷺ الحديث.
وذلك عندنا في العدة - واللَّه تعالى أعلم -.
الأم (أيضًا): الاستبراء:
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: فإن قال قائل: لم زعمت أن الاستبراء: طهر
ثم حيضة، وزعمت في العدة أن الأقراء: الأطهار؟
١ / ٣٥٣
قلنا له: بتفريق الكتاب ثم السنة بينهما، فلما قال اللَّه ﷿: (وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ) الآية، ودلَّ رسول الله ﷺ على أن الأقراء:
الأطهار، لقوله في ابن عمر ﵄:»يطلقها طاهرًا من غير جماع.
تلك العدة الي أمر الله ﷿ أن تطلق لها النساء.
فأمَرناها أن تأتي بثلاثة أطهار، فكان الحيض فيها فأصلًا بينهما حتى
يُسمى كل طهر منها غير الطهر الآخر، لأنه لو لم يكن بينهما حيض كان طهرًا واحدًا.
وكان قول النبي ﷺ في الإماء: «يسئبرئن بحيضة» يقصد: قصد الحيض بالبراءة، فأمرناها أن تأتي بحيض كامل، كما أمرناها إذا قصد: قصد الأطهار، أن تأتي بطهر كامل.
الأم (أيضًا): كيف تثبت الرجعة؟)
قال الشَّافِعِي ﵀: لما جعل اللَّه ﷿ الزوج أحق برجعة امرأته في العدة، كان بينًا أن ليس لها منعه الرجعة، ولا لها عوض في الرجعة بحال، لأنها له عليها لا لها عليه، ولا أمر لها فيما له دونها، فلما قال اللَّه ﷿: (وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ) الآية.
كان بينًا أن الرد هو بالكلام دون الفعل من جماع وغيره، لأن
ذلك رد بلا كلام، فلا تثبت رجعة لرجل على امرأته حتى يتكلم بالرجعة. ..
مثل: قد راجعتها، أو قد رددتها إليَّ، ونحو ذلك مما يدل على الرجعة -.
الأم (أيضًا) نكاح المطلقة ثلاثًا:
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: قال الله ﷿: (وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ) الآية، أي: إصلاح ما أفسدوا بالطلاق بالرجعة، فالرجعة
١ / ٣٥٤
ثابنة لكل زوج غير مغلوب على عقله، إذا أقام الرجعة. وإقامتها: أن يتراجعا في العدة التي جعل اللَّه عز ذكره عليها فيها الرجعة.
الأم (أيضًا): الطلاق الذي تُمْلَكُ فيه الرجعة:
قال الشَّافِعِي ﵀: قال اللَّه ﷿: (وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ) الآية كلّها.
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: فكان بينًا في كتاب اللَّه تعالى أن كل طلاق
حُسِب على مطلًقة فيه عدد طلاق - إلا الثلاث - فصاحبه يملك فيه الرجعة.
وكان ذلك بينًا في حديث ركانة عن رسول الله ﷺ، وإلا الطلاق الذي يؤخذ عليه مال - الخلع -، لأن اللَّه تعالى أذن به، وسماه فدية.
الأم (أيضًا): (طلاق المُولى عليه والعبد)
قال الشَّافِعِي ﵀: في مناقشة بعض أهل الحجاز إنَّه: ليس للعبد
طلاق، والطلاق بيد السيد وقال - اللَّه ﷿ - في المطلقات: (وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا) الآية، فكان العبد ممن عليه حرام، وله حلال، فحرامه: بالطلاق، ولم يكن السيد ممن حلت له امرأته فيكون له تحريمها.
الأم (أيضًا): باب (ما يفطر الصائم والسحوو والخلاف فيه):
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: وهذا حجة لنا على من قال في المطلقة
لزوجها عليها الرجعة حتى تغتسل من الحيضة الثالثة، وقد قال اللَّه تبارك
١ / ٣٥٥
وتعالى: (ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ) والقرء عنده الحيضة فما بال الغسل!
وإن وجب بالحيض فهو غير الحيض.
الأم (أيضًا): كتاب (النفقات):
قال الشَّافِعِي ﵀: قال الله تعالى: (وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ) .
قال الشَّافِعِي ﵀: هذه جملة ما ذكر اللَّه ﷿ من الفرائض بين
الزوجين، وقد كتبنا ما حضرنا مما فرض الله ﷿ للمرأة على الزوج، وللزوج على المرأة، مما سَن رسول الله ﷺ.
قال الشَّافِعِي ﵀: وفرض الله ﷿ أن يؤديَ كل ما عليه بالمعروف.
وجماع المعروف: إعفاء صاحب الحق من المؤنة في طلبه، وأداؤه إليه بطيب
النفس، لا بضرورئه إلى طلبه، ولا تأديته بإظهار الكراهية لتأديته، وأيهما ترك فظلم؛ لأن مَطْلَ الغني ظُلْم، ومَطلُه: تأخيره الحق.
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: في قوله تعالى: (وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ)
الآية، - واللَّه أعلم - أي: فمالهن مثل ما عليهن من أن يُؤدى إليهن بالمعروف.
الأم (أيضًا): جماع عشْرَة النساء:
قال الشَّافِعِي ﵀: قال جل وعلا: (وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ) الآية.
فجعل اللَّه للزوج على المرأة، والمرأة على الزوج
١ / ٣٥٦
حقوتًا بينها في كتابه، وعلى لسان نبيه مُفسَّرة ومجملة، ففهمها العرب الذين
خوطبوا بلسانهم على ما يعرفون من معاني كلامهم.
قال الشَّافِعِي ﵀: وقال: أقل ما يجب في أمره بالعشرة بالمعروف:
أن يؤدِّي الزوج إلى زوجثه ما فرض اللَّه لها عليه، من نفقة وكسوة وترك ميل ظاهر، فإنه يقول ﷿: (فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ) .
وجماع المعروف: إتيانُ ذلك بما يحسن لك ثوابه، وكفُّ المكروه.
اختلاف الحديث: باب (طلاق الحائض):
أخبرنا مسلم بن خالد، عن ابن جريج، أنهم أرسلوا إلى نافع يسألونه: هل
حُسِبَت تطليقةُ ابن عمر ﵄ على عهد رسول الله ﷺ؟
قال: «نعم» الحديث.
قال الشَّافِعِي ﵀: حديث مالك، عن نافع، عن ابن عمر رضي اللَّه
عنهما أن النبي ﷺ أمر عمر ﵁، أن يأمر ابن عمر ﵄، أن يراجع
امرأته دليل بين على أنه لا يقال له راجع، إلا ما قد وقع عليه طلاقه، لقول الله
١ / ٣٥٧
في المطلقات: (وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ) الآية، وأن معروفًا في اللسان، بأنه إنما يقال للرجل: راجع امرأتك إذا افترق هو وامرأته. . . ثم قال: والقرآن يدل على أنها تحسب - أي: تطليقة ابن عمر لزوجته وهي حائض - قال اللَّه تعالى:
(الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ) الآية.
لم يخصص طلاقًا دون طلاق، وما وافق ظاهر كتاب اللَّه من الحديث أولى أن يثبت.
مسند الشَّافِعِي: ومن كتاب (العدد إلا ما كان منه معادًا):
قال الشَّافِعِي ﵀: أخبرنا مالك، عن ابن شهاب، عن عروة، عن
عائشة ﵂ أنها انتقلت حفصة بنت عبد الرحمن حين دخلت في الدم من الحيضة الثالثة، قال ابن شهاب: فذكرت ذلك لعمرة بنت عبد الرحمن، فقالت: صدق عروة.
وقد جادلها في ذلك ناس، وقالوا: إن اللَّه يقول: (ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ) الآية، فقالت
عائشة ﵂: صدقتم وهل تدرون ما الأقْرَاءُ؟
الأقراء: الأطهار الحديث.
أخبرنا مالك، عن ابن شهاب قال: سمعت أبا بكر بن عبد الرحمن يقول:
ما أدركت أحدًا من فقهائنا إلا هو يقول هذا (يريد الذي قالت عائشة رضي
الله عنها) الحديث.
١ / ٣٥٨
مناقب الشَّافِعِي: باب (ما يستدل به على فقه الشَّافِعِي، وتقدمه فيه، وحُسن استنباطه):
قال الشَّافِعِي ﵀: وقال اللَّه تعالى: (وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ) الآية.
فلما كانت الصلاة مما يقوم به الإمام على المأموم، لم يجز أن تكون المرأة التي
عليها القيِّم قيِّمةَ على قيِّمِها.
ولما كانت الإمامة درجة فضل، لم يجز أن يكون لها درجة الفضل على من
جعل اللَّه له عليها درجة.
ولما كان من سنة النبي ﷺ، ثم الإسلام أن تكون
متأخرة خلف الرجال، لم يجز أن تكون متقدمة بين أيديهم.
فإن قال قائل: فالعبد مفضول؟
قيل: وكذلك الحرُّ يكون مفضولًا، ثم
يتقدم من هو أفضل منه فيجوز.
وقد يكون العبد خيرًا من الحر، وقد تأتي عليه الحال يعتق فيصير حرًا.
وهو في كل حال من الرجال، والمرأة لا تصير بكل حال من أن تكون امرأة
عليها قيم من الرجال في عامة أمرها.
* * *
قال الله ﷿: (الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٢٢٩)
الأم: جماع عشرة النساء:
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: قال اللَّه ﷿: (الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ) الآية.
١ / ٣٥٩
جماع المعروف: إتيان ذلك بما يحَسنُ لك ثوابه، وكفُّ المكروه.
الأم (أيضًا): ما لا يحل أن يؤخذ من المرأة:
قال الشَّافِعِي ﵀: إذا أخذ الزوج المهر من المرأة وهي طيبة النفس به.
فقد أذِن به في قول اللَّه ﵎: (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ) الآية.
فإن أخذ منها شيئًا على طلاقها، فأقرَّ أنَّه أخذ بالإضرار بها، مضى عليه
الطلاق وزد ما أخذ منها، وكان له عليها الرجعة إلَّا أن يكون طلقها ثلاثًا.
الأم (أيضًا): الوجه الذي يحل به للرجل أن يأخذ من امرأته:
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: قال اللَّه ﵎: (الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ) إلى
قولهْ (فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ) الآية.
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى:. فنهى اللَّه تعالى الزوج - كما نهاه في الأي
قبل هذه الآية - أن يأخذ مما آتى المرأة شيئًا، إلاّ أن يخافا ألَّا يقيما حدود اللَّه، فإن خافا (أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ) الآية.
وأباح لهما إذا انتقلت عن حد اللاتي حرّم أموالهن على أزواجهن لخوف
ألَّأ يقيما حدود اللَّه، أن يأخذ منها ما افتدت به، لم يحدد في ذلك ألَّا يأخذ إلا ما أعطاها ولا غيره، وذلك أنَّه يصير حينئذ كالبيع، والبيع إنما في ما تراضى به
١ / ٣٦٠
المتبايعان لا حد في ذلك، بل في كتاب الله ﷿ دلالة على إباحة ما كثر منه وقلَّ، لقوله تعالى: (فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ) الآية.
قال الإمام الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: وقول الله ﵎: (إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ) الآية.
١ - يحتمل أن يكون الابتداء بما يخرجهما إلى خوف ألا يقيما حدود اللَّه
من المرأة، بالامتناع من تأدية حق الزوج والكراهية له، أو عارض منها في حيِّ الخروج من غير بأس منه.
٢ - ويحتمل أن يكون من الزوج، فلما وجدنا حكم الله بتحريم أن يأخذ
الزوج من المرأة شيئًا، إذا أراد استبدال زوج مكان زوج، استدللنا أن الحال التي أباح بها للزوج الأخذ من المرأة الحال المخالفة، الحال التي حرّم بها الأخذ، فكانت تلك الحال هي: أن تكون المرأة المبتدئة المانعة لأكثر ما يجب عليها من حق الزوج، ولم يكن له الأخذ أيضًا منها حتى يجمع أن تطلب الفدية منه، لقوله ﷿: (فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ) الآية، وافتداؤها منه: شيء تعطيه من نفسها، لأن اللَّه ﷿ يقول: (وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا) الآية.
فكانت هذه الحال التي تخالف هذه الحال، وهي التي لم تبذل فيها المرأة
المهر، والحال التي يتداعيان فيها الأساءة لا تقر المرأة أنها منها.
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: وقول اللَّه ﵎: (إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ) الآية، كما وصفت من أن يكون لهما فعل، تبدأ به المرأة
يخاف عليهما فيه ألا يقيما حدود اللَّه، لا أن خوفًا منهما بلا سبب فعل.
١ / ٣٦١
أخبرنا سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن طاووس، عن ابن عباس
﵄ في رجل طلق امرأته تطليقتين ثم اختلعت منه بعد، فقال:
يتزوجها إن شاء، لأن اللَّه ﷿ يقول: (الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ) إلى قوله: (أَنْ يَتَرَاجَعَاَ) .
أخبرنا الربيع قال:
أخبرنا الشَّافِعِي قال: أخبرنا سفيان، عن عمرو، عن عكرمة قال: كل شيء
أجازه المال فليس بطلاق.
أخبرنا الربيع قال:
أخبرنا الشَّافِعِي قال: أخبرنا مالك، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن
جُهمان، عن أم بكرة الأسلمية، أنها اختلعت من زوجها عبد اللَّه بن أسيد.
ثم أتيا عثمان ﵁ في ذلك فقال: هي تطليقة، إلا أن تكون سمَّيت شيئًا فهو ما سمَّيت.
قال الشَّافِعِي ﵀: ولا أعرف جُمهان ولا أم بكرة بشيء يثبت به
خبرهما ولا يردُّه، وبقول عثمان ﵁ نأخذ وهي تطليقة، وذلك أني رجَّعت الطلاق من قبل الزوج، ومن ذهب مذهب ابن عباس ﵄ كان شبيهًا أن يقول: قول اللَّه ﵎:
(فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ) الآية.
يدلُّ على أن الفدية هي فسخ ما كان عليها، وفسخ ما كان له عليها لا
يكون إلا بفسخ العقد، وكل أمر نسب فيه الفرقة إلى انفساخ العقد لم يكن
طلاقًا، إنما الطلاق ما أحدث، والعقدة قائمة بعينها.
١ / ٣٦٢
الأم (أيضًا): الفرقه بين الأزواج بالطلاق أو الفسخ:
قال الشَّافِعِي ﵀: وأن اللَّه ﵎ إذا قال: (فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ) الآية.
فإنما أمر بالإمساك من له أن يمسك، وبالتسريح من له أن يسرِّح.
قال: فما التسريح هاهنا؟
قلت: ترك الحبس بالرجعة في العدة تسريح بمتقدم الطلاق.
قال الشَّافِعِي ﵀: يقول الله ﷿: (فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ) الآية، والفدية ممن ملك عليه أمره لا تكون إلا بإزالة الملك عنه، وغير
جائز أن يأذن الله تعالى لها بالفدية، وله أن يأخذها، ثم يملك عليها أمرها بغير
رضًا منها.
ألا ترى أن كل من أخذ شيئًا على شيء يخرجه من يديه، لم يكن له
سبيل على ما أخرج من يديه لما أخذ عليه من العوض.
والخلع: اسم مفارق للطلاق، وليس المختلع بمبتدئ طلاقًا إلا بحُعلِ.
والمطلقون غيره لم يستجعلوا.
وقلت له: الذي ذهب إليه من قول الله تبارك
وتعالى: (الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ) الآية، إنَّما هو على من عليه العدة.
الأم (أيضًا): ما كحلًا به الفديه:
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: قال اللَّه ﵎: (الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ) إلى (فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ) الآية.
١ / ٣٦٣
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: أخبرنا مالك، عن يحيى بن سعيد، عن عمرة
بنت عبد الرحمن، أن أم حبيبة بنت سهل أخبرتها أنها كانت عند ثابت بن قيس بن شماس، وأن رسول الله ﷺ خرج إلى صلاة الصبح، فوجد حبيبة بنت سهل عند بابه، فقال رسول الله ﷺ من هذه؛ قالت: أنا حبيبة بنت سهل يا رسول اللَّه، لا
أنا ولا ثابت - لزوجها - فلما جاء ثابت قال له رسول الله ﷺ: «هده حبيبة قد ذكرت ما شاء الله أن تذكر»، فقالت حبيبة: يا رسول الله كل ما أعطاني عندي.
فقال رسول الله ﷺ: «خذ منها» فأخذ منها وجلست في أهلها الحديث.
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: فقيل - واللَّه أعلم - في قوله تعالى: (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ) الآية، أن تكون المرأة تكره الرجل، حتى تخاف ألا تقيم حدود اللَّه بأداء ما يجب عليها له، أو كثره إليه، ويكون الزوج غير مانع لها ما يجب عليه، أو أكثره، فإذا كان هذا حلت الفدية للزوج، وإذا لم يُقِم أحدهما حدود اللَّه، فليسا معًا مقيمَينِ حدود الله.
وقيل: وهكذا قول اللَّه ﷿: (فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ) الآية، إذا حل ذلك للزوج، فليس بحرام على المرأة، والمرأة في كل حال لا يحرم عليها ما أعطت من مالها، وإذا حل له لم يحرم عليها فلا جناح عليهما معًا، وهذا كلام صحيح جائز إذا اجتمعا معًا، في أن لا جناح عليهما، وقد يكون الجناح على أحدهما دون الآخر.
قال الشَّافِعِي ﵀: ولا وقت في الفدية كانت أكثر مما أعطاها أو
أقل، لأن اللَّه ﷿ يقول: (فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ) الآية.
١ / ٣٦٤
وقال: وهكذا قول اللَّه ﷿: (فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ)
الآية. . . وقيل: أن تمتنع المرأة من أداء الحق، فتخاف على الزوج: ألَّا يؤدي الحق، إذا منعته حقًا فتحلُّ الفدية.
وجماع ذلك: أن تكون المرأة: المانعة لبعض ما يجب عليها له، المفتدية:
تحرجًا من ألَّا تؤدِّي حقه، أو كراهية له، فإذا كان هكذا، حلت الفدية للزوج.
الأم (أيضًا): عدة المطلقة يملك زوجها رجعتها:
قال الشَّافِعِي ﵀: وقد قال بعض أهل العلم بالتفسير، إن قول اللَّه
﷿: (الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ) الآية.
أخبرنا مالك، عن هشام، عن أبيه قال: كان الرجل إذا طلق امرأته ثم
ارتجعها قبل أن تنقضي عدتها، كان ذلك له وإن طلقها ألف مرة، فعمد رجل
إلى امرأته فطلقها حتى إذا شارفت انقضاء عدتها، ارتجعها. ثم طلقها ثم قال
واللَّه لا آويك إليَّ، ولا تحلين لي أبدًا، فأنزل اللَّه ﷿: (الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ) الآية، فاستقبل الناس الطلاق جديدًا من كان منهم طلق، ومن لم يطلق. الحديث.
١ / ٣٦٥
الأم (أيضًا): الطلاق الذي تُملَك فيه الرجعة:
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: قال ﷿: (فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ) الآية، فكان بينًا في كتاب الله تعالى إذ أحل له أخذ المال، أنه إذا ملك مالًا عوضًا من شيء لم يجز أن يكون له على ما ملك به المال سبيل، والمال هو: عوض من بضع المرأة. . .، واسم الفدية: أن تفدي نفسها بأن تقطع ملكه الذي له به الرجعة عليها، ولو ملك الرجعة لم تكن مالكة لنفسها، ولا واقعًا عليها اسم فدية.
وقال الشَّافِعِي ﵀: قال اللَّه تعالى: (الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ)
الآية، وما كان معقولًا عن اللَّه ﷿ في كل هذا أنه: الطلاق الذي من قبل الزوج.
الأم (أَيضًا) المدَّعي والمدَّعَى عليه:
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: فإذا لم تكن سنة، وكان القرآن محتملًا.
فوجدنا قول أصحاب النبي ﷺ، وإجماع أهل العلم يدلُّ على بعض المعاني دون بعض، قلنا: هم أعلم بكتاب اللَّه ﷿، وقولهم غير مخالف - إن شاء اللَّه تعالى -
كتاب اللَّه، وما لم يكن فيه سنة ولا قول أصحاب النبي ﷺ، ولا إجماع يدلُّ منه على ما وصفت من بعض المعاني دون بعض، فهو على ظهوره وعمومه، لا يُخَصُّ منه شيء دون شيء.
وما اختلف فيه بعض أصحاب النبي ﷺ أخذنا منه بأشبهه بظاهر التنزيل، وقولك فيما فيه سنة هو خلاف القرآن جهل بيِّن عند أهل العلم، وأنت تخالف قولك فيه.
١ / ٣٦٦
قال: وأين قلنا فيما بيَّنا وفيما سنبين - إن شاء اللَّه تعالى كفاية - قلت:
قال الله ﷿: (الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ) الآية، وقال:
(وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ) إلى قوله: (إِصْلَاحًا) الآية.
قال الشَّافِعِي ﵀: فظاهر هاتين الآيتين، يدل على أن كل مطلق فله
الرجعة على امرأته ما لم تنقض العدة، لأن الآيتين في كل مطلق عامة لا
خاصُّة على بعض المطلقين دون بعض، وكذلك قلنا: كل طلاق ابتدأه الزوج، فهو يملك فيه الرجعة في العدة.
الأم (أيضًا): باب حكاية من رد خبر الخاصة:
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: وقال الله ﷿: (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ) الآية.
أرأيت إذا فعلت امرأتان فعلًا واحدا، وكان زوج إحداهما يخاف به نشوزها، وزوج الأخرى لا يخاف به نشوزها؟
قال: يسع الذي يخاف به النشوز: العظة، والهجرة والضرب، ولا يسع
الآخر، وهكذا: أيسع الذي يخاف به أن لا تقيم زوجته حدود اللَّه الأخذ
منها، ولا يسع الآخر، وإن استوى فعلاهما؟
قال: نعم.
الأم (أيضًا): ما يقع بالخلع من الطلاق:
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: وإذا جاز ما أخذ - الزوج - من المال على
الخلع، والطلاق فيه واقع، فلا يملك الزوج فيه الرجعة، لأن اللَّه ﷿ يقول:
١ / ٣٦٧
(فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ) الآية، ولا تكون مفتدية وله عليها
الرجعة، ولا يملك المال، وهو كلك الرجعة، لأن من ملك شيئًا بعوض أعطاه، لم يجز أن يكون كللك ما خرج منه، وأخذ المال عليه.
الأم (أيضًا): إباحة الطلاق:
أخبرنا الربيع بن سليمان قال:
قال الشَّافِعِي ﵀: قال الله ﷿: (الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ) الآية.
فالطلاق مباح لكل زوج لزمه الفرض، ومن كانت زوجته لا تحرم من
محسنة ولا مسيئة في حال، إلا أنه يُنهى عنه لغير قُبِل العدة، وإمساك كل زوج محسنة أو مسيئة بكل حال مباح، إذا أمسكها بمعروف.
وجماع المعروف: إعفافها بتأدية الحق.
* * *
قال الله ﷿: (فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٢٣٠)
الأم: الفرقة بين الأزواج بالطلاق والفسخ:
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: قال - المحاور - فلم قلتَ: إنها تكون
للأزواج الرجعة في العدة قبل التطليقة الثالثة؟
فقلتُ له: لما بين الله ﷿ في كتابه:
١ / ٣٦٨
(فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ) إلى قوله: (أَنْ يَتَرَاجَعَا) الآية.
الأم (أيضًا): ما يحرم الجمع بينه من النساء في قول الله ﷿: (وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ):
قال الشَّافِعِي رحمه لذ: قد يُذكر الشيء في الكتاب فيحرمه، ويحرم على لسان نبيه ﷺ غيره كما ذكر المرأة المطلقة ثلاثًا، فقال: (فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ) الآية.
فبينَ على لسان رسوله ﷺ أن يصيبها، وإلا لم تحل له.
الأم (أيضًا): الخلاف فيما يؤتي بالزنا:
قال الشَّافِعِي ﵀: فإن اللَّه ﵎ قال في المطلقة ثلاثًا:
(فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ) الآية.
وجاءت السنة بأن يصيبها الزوج الذي نكح، فكانت حلالًا له قبل
الثلاث، ومحرمة عليه بعد الثلاث حتى تنكح، ثم وجدناها تنكح زوجًا.
ولا تحل له حتى يصيبها الزوج، ووجدنا المعنى الذي يحلها عليه الإصابة -
والإصابة: النكاح -.
الأم (أيضا): طلاق التي لم يدخل بها:
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: وقال ﵎: (فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ) الآية.
١ / ٣٦٩
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: والقرآن يدل - والله أعلم - على أن من
طلق زوجة له، دخل بها أو لم يدخل بها ثلاثًا، لم تحل له حتى تنكح زوجًا غيره.
أخبرنا مالك، عن ابن شهاب، عن الزهري، عن محمد بن عبد الرحمن بن
ثوبان، عن محمد بن إياس بن البُكَير قال: طلق رجل ثلاثًا قبل أن يدخل بها، ثم بدا له أن ينكحها فجاء يستفتي، فسأل أبا هريرة، وعبد الله بن عباس ﵄ فقالا: لا نرى أن تنكحها حتى تتزوج زوجًا غيرك فقال: إنما كان طلاقي إياها واحدة، فقال ابن عباس: إنك أرسلت من يدلُّ ما كان لك من فضل. الحديث.
الأم (أيضًا): نكاح المطلقة ثلاثًا:
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: أيُّ امرأة حل ابتداء نكاحها، فنكاحها حلال
متى شاء - من كانت تحل له - وشاءت، إلا امرأتان:
الأولى: الملاعنة، فإن الزوج إذا التعن، لم تحل له أبدًا بحال، والحجة في
الملاعنة مكتوبة في كتاب اللعان.
الثانية: المرأة يطلقها زوجها الحرُّ ثلاثًا، فلا تحلُّ له حتى يجامعها زوج غيره
لقول الله ﷿ في المطلقة الثالثة: (فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ) الآية.
قال الشَّافِعِي ﵀: فاحتملت الآية: حتى يجامعها زوج غيره، ودلت
على ذلك السنة، فكان أولى المعاني بكتاب الله، ما دلَّت عليه سُنَّة رسول الله) .
١ / ٣٧٠
أخبرنا سفيان بن عيينة، عن ابن شهاب، عن عروة، عن عائشة رضي اللَّه
عنها زوج النبي ﷺ سمعها تقول: جاءت امرأة رفاعة القرظي إلى النبي ﷺ
فقالت: إني كنت عند رفاعة القرظي فطلقني فبت طلاقي، فتزوجت عبد الرحمن ابن الزبير، وإنما معه مثل هدبة الثوب، فتبسم النبي ﷺ وقال: «أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة؛ لا حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك» الحديث.
قال الشَّافِعِي ﵀: فإذا تزوجت المطلقة ثلاثًا زوجًا صحيح النكاح.
فأصابها ثم طلقها، فانقضت عدتها، حل لزوجها الأول ابتداء نكاحها، لقول
الله ﷿: (فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ) الآية. وقول رسول اللَّه ﷺ لامرأة رفاعة: "لا ترجعي إلى رفاعة حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك الحديث، يعني: يجامعك.
وفي قول اللَّه تعالى: (أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ) الآية -
واللَّه تعالى أعلم بما أراد - أما الآية فتحتمل إن أقاما الرجعة، لأنها من حدود اللَّه تعالى. ..
ثم قال ﵀: وأحبُّ لهما أن ينويا إقامة حدود اللَّه تعالى فيما بينهما.
وغيره من حدود اللَّه تبارك اسمه.
الأم (أيضًا): ما يهدم الزوج من الطلاق وما لا يهدم:
قال الشَّافِعِي ﵀: قال اللَّه تعالى: (الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ) الآية. .
١ / ٣٧١
وقال - سبحانه -: (فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ) الآية.
قال الشَّافِعِي ﵀: دلَّ حكم اللَّه ﷿ على الفرق بين المطلقة واحدة واثنتين، والمطلقة ثلاثًا وذلك أنه: أبان أن المرأة في لمطلقها رجعئها من واحدة واثنتين، فإذا طلقت ثلاثًا حرمت عليه حتى ئنكح زوجًا غيره.
قال الشَّافِعِي ﵀: وإذا طُلّقت المرأة ثلاثًا فنكحت زوجًا، فادُّعت أله
أصابها، وأنكر الزوج، أحلها ذلك الزوج لمطلقها ثلاثًا.
وهكذا لو لم يعلم الزوج الذي يطلقها ثلاثًا أنها نكحت نكاحًا صحيحًا.
وأصيبت، حلَّت له إذا جاءت عليها مدة يمكن فيها انقضاء عدتها منه، ومن
الزوج الذي ذكرت أنَّه أصابها.
ولو كذَّبها - الزوج الأول - في هذا كله ثم صدقها، كان له نكاحها.
والورع ألَّا يفعل إذا وقع في نفسه أنها كاذبة، حتى يجد ما يدلُّ على صدقها.
الأم (أيضًا): طلاق المولى عليه والعبد:
قال الشَّافِعِي ﵀: وقال بعض من مضى: ليس للعبد طلاق
والطلاق بيد السيد، فإن قال قائل: فهل من حجة على من قال: لا يجوز
طلاق العبد؟
قيل: ما وصفنا من أن اللَّه تعالى قال في المطلقات ثلاثًا: (فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ) الآية.
١ / ٣٧٢
الأم (أيضًا): المدَّعي والمدَّعَى عليه:
قال الشَّافِعِي ﵀: فقال - المجادل - إن اللَّه ﷿ يقول في التي طلقها زوجها ثالثة من الطلاق: (فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ) الآية، فإن نكحت، - والنكاح: العقدة - حلَّت لزوجها الذي طلقها!
قال: ليس ذلك له، لأنّ السنة تدل على ألا تحل حتى يجامعها الزوج الذي
ينكحها.
قلنا: فقال لك: فإن النكاح يكون وهي لا تحل، وظاهر القرآن يحلها، فإن
كانت السنة تدل على أن جماع الزوج يحلها لزوجها الذي فارقها، فالمعنى: إنمّا هو في أن يجامعها غير - زوجها الأول - الذي فارقها.
الرسالة: باب (الفرائض التى أنزل الله نصًا):
قال الشَّافِعِي ﵀: وقد كانت لرسول اللَّه ﷺ في هذا سننًا ليست نصًا في القرآن، أبان رسول الله ﷺ عن اللَّه معنى ما أراد بها، وتكلم المسلمون في
أشياء من فروعها، لم يَسُن رسول الله ﷺ فيها سنة مخصوصة.
فمنها قول اللَّه ﷿: (فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا) الآيتان.
١ - فاحتمل قول اللَّه ﷿: (حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ) الآية، أن يتزوجها زوج غيره، وكان هذا المعنى الذي يسبق إلى من خوطب به؛ أنها إذا عُقِدَت عليها عقدة النكاح فقد نكحت.
١ / ٣٧٣
٢ - واحتمل: حتى يصيبها زوج غيره؛ لأن اسم النكاح يقع بالإصابة.
ويقع بالعقد.
فلما قال رسول الله ﷺ لامرأة طلقها زوجها ثلاثًا ونكحها بعده رجل:
«لا تحلين حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك»
يعني: يصيبك زوج غيره، والإصابة: النكاح.
فإن قال قائل: فاذكر الخبر عن رسول الله ﷺ بما ذكرت.
قيل: أخبرنا سفيان، عن ابن شهاب، عن عروة، عن عائشة رضي اللَّه
عنها: «أن امرأة رفاعة ...» الحديث.
قال الشَّافِعِي ﵀: فبيّن رسول الله ﷺ أن إحلال اللَّه إياها للزوج المطلقة ثلاثًا، بعد زوج بالنكاح: إذا كان مع النكاح إصابة من الزوج - الثاني - (المحلل) .
أحكام القرآن: ما يؤثر عنه في الخلع والطلاق والرجعة:
أخبرنا أبو سعيد، أخبرنا أبو العباس، أخبرنا أبو الربيع:
أخبرنا الشَّافِعِي ﵀ في المرأة يطلقها الحر ثلاثًا - قال: فلا تحل له
حتى يجامعها زوج غيره، لقوله ﷿ في المطلقة ثلاثًا: (فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ) الآية.
قال: فاحتملت الآية حتى يجامعها زوج غيره.
ودلت على ذلك السنة فكان أولى المعاني - بكتاب اللَّه ﷿ ما دلت
عليه سنة رسوله ﷺ.
وقال الشَّافِعِي ﵀: في قول اللَّه ﷿: (فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ) الآية، - واللَّه أعلم بما أراد - فأما الآية فتحتمل: إن أقاما الرجعة لأنَّها من حدود اللَّه.
١ / ٣٧٤
قال الله ﷿: (وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٢٣١)
الأم: جماع وجه الطلاق:
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: وقد أمر اللَّه تعالى بالإمساك بالمعروف
والتسريح بالإحسان ونهى عن الضرر، وطلاق الحائض ضرر عليها، لأنها لا
زوجة، ولا في أيام تعتد فيها من زوج ما كانت في الحيضة، وهي إذا طلقت
وهي تحيض بعد جماع لم تدر ولا زوجها عدتها: الحمل أو الحيض؟
الأم (أيضًا): الفرقة بين الأزواج بالطلاق والفسخ:
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: قال اللَّه ﷿: (وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ) إلى قوله: (لِتَعْتَدُوا) الآية. قال: فما معنى قوله: (فَبَلَغنَ أجَلَهُن)
قلت: يعني - واللَّه أعلم - قاربن بلوغ أجلهن، قال: وما الدليل على ذلك؟
قلت: الآية دليل عليه لقول اللَّه ﷿: (فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا) الآية.
فلا يُؤمر بالإمساك والسراح إلا مَنْ هذا إليه، ثم شرط عليهم في الإمساك
أن يكون بمعروف وهذه الآية ك الآية قبلها في قوله: (فَبَلَغنَ أجَلَهُنَّ) الآية.
قال: وتقول هذا العرب؟
قلت: نعم تقول للرجل إذا قارب البلد يريده، أو الأمر يريده، قد بلغته، وتقول إذا بلغه.
١ / ٣٧٥
وقال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: قال ﷿: (وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا) الآية.
فلا يؤمر بالإمساك إلا من يجوز له الإمساك في العدة، فيمن ليس لهن أن
يفعلن في أنفسهن ما شئن في العدة حتى تنقضي العدة، وهو كلام عربي هذا من أبينه وأقلِّه خفاء.
آداب الشَّافِعِي ومناقبه: ما في الزكاة والسيرة والبيومع، والعتق والنكاح، والطلاق:
أخبرنا عبد الرحمن قال: أخبرني أبي قال: سمعت يونس يقول:
قال لي الشَّافِعِي ﵀: في قوله ﷿: (وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ) الآية.
معنى هذه الآية - إذا أشرفن على الأجل، وليس الخروج منه، فإنه لا
يملك رجعتها وقد خرجت من العدة.
وقوله: (أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ) يقول: إن أمسكَ بمعروف فَلْيُرْجعْها، وإلا فَلْيَدَعْها.
قال الله ﷿: (وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ) إلى قوله: (أزوَاجَهُنَّ)
الأم: ما جاء في أمر النكاح:
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: وقد حفظ بعض أهل العلم بأن هذه الآية
نزلت في معقل بن يسار، وذلك أنه زوّج أخته رجلًا، فطلقها، وانقضت عدتها،
١ / ٣٧٦
ثم طلب نكاحها وطلبته، فقال: زوجتك دون غيرك أختي، ثم طلقتها، لا
أنكحك أبدًا، فنزلت الآية: (وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ) إلى: (أزوَاجَهُنَّ)
قال: وفي هذه الآية دلالة على أن النكاح يتم برضا الولي مع الزوج والزوجة، وهذا موضوع في ذكر الأولياء، والسُنة تدل على ما يدل عليه القرآن من أن على ولي الحرة أن يُنكِحها.
قال الشَّافِعِي: أخبرنا مالك، عن عبد اللَّه بن الفضل، عن نافع بن جبير.
عن ابن عباس ﵄ قال: قال رسول الله ﷺ: «الأيم أحق بنفسها من وليها، والبكر تستأذن في نفسها، وإذنها صمانها» الحديث.
وقال ﷺ: «أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل، فإن اشتجروا فالسلطان ولي من لا ولي له» الحديث.
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: وإذا كانت - المرأة - أحق بنفسها، وكان
النكاح يتم به، لم يكن له منعها النكاح، وقول النبي ﷺ: «فإن اشتجروا فالسلطان ولي من لا ولي له» يدل: على أن السلطان ينكح المرأة لا ولي لها.
والمرأة لها ولي يمتنع من إنكاحها، إذا أخرج الولي نفسه من الولاية بمعصيته
بالعضل، وهذان الحديثان مثبتان في كتاب الأولياء.
١ / ٣٧٧
الأم (أيضًا) (لا نكاح إلا بولي)
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: معنى إذا طلقتم: يعني الأزواج.
(النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ) يعني: فانقضى أجلهن، يعني: عدتهن.
(فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ) يعني: أولياءهن.
(أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ) يعني: إن طلقوهن ولم يبتُّوا طلاقهن، وما
أشبه معنى ما فالوا من هذا بما قالوا، ولا أعلم الآية تحتمل غيره.
وقال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: (فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ) وإن ذكَرَ - الولي -
شيئًا نظر فيه السلطان. فإن رآها تدعو إلى كفاءة، لم بكن له منعها، وإن دعاها الولي إلى خير منه، وإن دعت إلى غير كفاءة لم يكن له تزويجها، والولي لا يرضى به، وإنَّما العضل: أن تدعو إلى مثلها أو فوقها فيمننع الولي.
الأم (أيضًا): باب (نكاح الولاة والنكاح بالشهادة)
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: قال تعالى: (فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ) وفي هذه الآية
دلالة على: أن النكاح يتم برضا الولي، والمُنكَحة، والناكح، وعلى أن على الولي ألا يعضل، فإذا كان عليه ألا بعضل، فعلى السلطان التزويج إذا عضل، لأن من منع حقًا، فأمر السلطان جائز عليه أن يأخذه منه، وإعطاؤه عليه، والسنة تدل على ما دل عليه القرآن، وما وصفنا من الأولياء والسلطان.
مختصر المزني: مختصر من الرجعة:
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: قال الله تعالى في امطلقات:
(فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ) .
وقال تعالى: (فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ) الآية.
١ / ٣٧٨
فدلَّ سياق الكلام على افتراق البلوغين:
فأحدهما: مقاربة بلوغ الأجل، فله إمساكها، أو تركها فتُسرح بالطلاق
والمتقدم، والعرب تقول: إذا قاربت البلد تريده، قد بلغت، كما تقول: إذا بلغته.
والآخر: والبلوغ الآخر: انفضاء الأجل.
مختصرالمزني (أيضًا): باب (ما على الأولياء وإنكاح الأب البكر بغير إذنها):
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: فدلَّ كتاب الله ﷿، وسنة نبيه ﵊ على: أن حقًا على الأولياء أن يزوجوا الحرائر البوالغ إذا أردن النكاح، ودعون إلى رضا، قال اللَّه تعالى:
(وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ) الآية.
قال: وهذه أبين آية في كتاب اللَّه تعالى دلالة على: أن ليس للمرأة أن
تثزوج بغير ولي.
ثم ذكر ما ذكِرَ في الأم من سبب النزول والحديثين.
آداب الشَّافِعِي ومناقبه: ما في النكاح والطلاق:
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: قال اللَّه ﷿: (وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ) الآية.
معنى هذه - الآية -: أنه
١ / ٣٧٩
خاطب الأولياء، وأن هذا انقضاء الأجل، لا الأشراف على انقضائه، فقال
للولي: لا يعضلها عن النكاح إن أرادته كنعها منه.
قال الله ﷿: (وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ)
الأم: ما يحرم من النساء بالقرابة:
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: وقال عز ذكره: (وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ) الآية، فأخبر اللَّه ﷿ أن كمال الرضاع حولان، وجعل على الرجل يُرضَع له ابنه أجر المرُضِع، والأجر على الرضاع لا يكون إلا على ماله مدة معلومة.
والرضاع اسم جامع يقع على المصَّة وأكثر منها، إلى كمال رضاع الحولين.
ويقع على كل رضاع وإن كان بعد الحولين.
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: فلما كان هكذا، وجب على أهل العلم طلب
الدلالة، هل يحرم الرضاع بأقل ما يقع عليه اسم الرضاع، أو معنى من الرضاع دون غيره؟
أخبرنا مالك، عن عبد اللَّه بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حرّم، عن
عمرة، عن عائشة أم المؤمنين ﵂ أنَّها قالت: كان فيما أنزل اللَّه تعالى
١ / ٣٨٠
في القرآن: «عشر رضعات معلومات يحرمن ثم نسِخنَ بخمسٍ معلومات، فتوفي رسول الله وهن مما يقرأ من القرآن» الحديث.
أخبرنا سفيان، عن يحيى بن سعبد، عن عمرة، عن عائشة ﵂
ألها قالت: «نزل القرآن بعشر رضعات معلومات يحرمن، ثم صُيِّرن إلى خمسٍ
يحرمن، فكان لا بدخل على عائشة إلا من استكمل خمس رضعات» الحديث.
الأم (أيضًا): باب (رضاعة الكبير:
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: والدلالة على الفرق بين - رضاعة - الصغير
والكبير موجودة في كتاب الله، قال الله تعالى: (وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ) الآية، فجعل اللَّه ﷿ تمام الرضاع حولين كاملين، وقال: (فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَ) الآية، يعني - والله أعلم -: قبل الحولين.
فدلَّ على أن إرخاصه في فصال الحولين، على أن ذلك إنَّما يكون
باجتماعهما على فصاله قبل الحولين، وذلك لا يكون - والله أعلم - إلا بالنظر للمولود من والديه، أن يكون يربان أن فصاله قبل الحولين خير له من إتمام الرضاع له، لِعلَّةِ تكون به، أو بمرضعته، وأنه لا يقبل رضاع غيرها، أو ما أشبه ذلك.
١ / ٣٨١
الأم (أيضًا): الحجة على من خالفنا:
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: وخالفنا - من خالفنا - في النفقة فقال: إذا
مات الأب، أنفق على الصغير كل ذي رحم، يحرم عليه نكاحه من رجل أو
امرأة.
قلت له: فما حجتك في هذا؟
قال قول اللَّه ﵎: (وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ)
إلى قوله: (وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ) الآية.
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: قلت له: كان على الوارث مثل ذلك عندك
على جميع ما فرض الله ﵎ على الأب، والوارث يقوم في ذلك مقام
الأب؟ قال: نعم. فقلت: أوَجدتَ الأب ينفق ويسترضع المولود، وأمه وارث لا شيء عليها من ذلك؟ قال: نعم. قلت: أفيكون وارث غير أمه يقوم مقام أبيه، فينفق على أمه إذا أرضعته وعلى الصبي؟
قال: لا، ولكن الأم تنفق عليه مع الوارث.
قلنا: فأول ما تأولت تركت، قال: فإني أقول على الوارث مثل ذلك بعد
موت الأب، هي في الآية أن ذلك بعد موت الأب. قال: لا يكون له وارث
وأبوه حي.
قلنا: بلى، أمه، وقد يكون زمنًا مولودًا، فيرثه ولده لو مات، ويكون
على أبيه عندك نفقته، فقد خرجت مما تأولت.
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: فإن قال قائل: فإنا قد روينا من حديثكم، أن
عمر بن الخطاب ﵁ أجبر عصبة غلام على رضاعه، الرجال دون النساء.
قلنا: أفتأخذ بهذا؟ قال: نعم.
قلت: أفيختص العصبة وهم - الأعمام، وبنو الأعمام.
والقرابة من قبل الأب؛ قال: لا، إلا أن يكونوا ذوي رحم محرم.
قلنا: فالحجة
١ / ٣٨٢
عليك في هذا كالحجة عليك فيما احتججت به من القرآن، وقد خالفت هذا، قد يكون له بنو عم فيكونون له عصبة وورثة، ولا تجعل عليهم النفقة! وهم العصبة الورثة، وإن لم تجد له ذا رحم تركته ضائعًا؟!
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: فقال لي قائل: قد خالفتم هذا أيضًا.
قلنا: أما الأثر عن عمر ﵁ فنحن أعلم به منك، ليس تعرفه، ولو كان ثابتًا لم يخالفه ابن عباس ﵄ فكان يقول: (وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ)
الآية، على الوارث أن: (لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا) الآية.
وابن عباس ﵄ أعلم بمعنى كتاب اللَّه ﷿ منَّا، والآية محتملة على ما قال ابن عباس رضي اللَّه تعالى عنهما. ..
وقد فرض الله ﷿ نفقة المطلقات ذوات الأحمال، وجاءت السنة من ذلك بنفقة وغرامات تلزم الناس، ليس فيها أن يلزم الوارث نفقة الصبي وكل امرئ مالك لماله، وإنما لزمه فيه ما لزمه في كتاب، أو سنة، أو أثر، أو أمر مُجمَع عليه.
فأما أن تلزمه في ماله ما ليس في واحد من هذا، فلا يجوز لنا، فإن كان التأويل كما وصفنا، فنحن لم نخالف منه حرفًا، وإن كان كما وصفت فقد خالفته خلافًا بينًا.
الأم (أيضًا): باب (الاختلاف في العيب):
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: حدَّد اللَّه تعالى الرضاع بالسنين، فقال ﷿: (حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ) الآية.
مختصر المزني: مختصر ما يحرم من الرضاع:
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: وكذلك أبان - اللَّه تعالى - أن المراد بتحريم
الرضاع: بعض المرضعين دون بعض، واحتج فيما قال النبي ﷺ لسهلة بنت
١ / ٣٨٣
سُهيل لما قالت له: كنا نرى سالمًا ولدًا، وكان يدخل عليّ وأنا فُضُل، وليس لنا إلا بيت واحد، فما تأمرني؟
فقال: ﵊ فيما بلغنا:
أرضعيه خمس رضعات فيحرم بلبنها»، ففعلت، فكانت تراه ابنًا من الرضاعة، فأخذت بذلك عائشة ﵂ فيمن أحبَّت أن يدخل عليها من
الرجال، وأبى سائر أزواج النبي ﷺ أن يدخل عليهن بتلك الرضاعة أحد من الناس، وقلن: ما نرى الذي أمر به ﷺ إلا رخصة لسالم وحده.
وروى الشَّافِعِي ﵀: أن أم سلمة قالت في الحديث: هو لسالم خاصة.
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: فإذا كان خاصّا، فالخاص مُخرج من العام.
والدليل على ذلك قول اللَّه جل ثناؤه: (حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ) الآية، فجعل الحولين غاية، وما جُعل له غاية، فالحكم بعد مضي
الغاية خلاف الحكم قبل الغاية.
الرسالة: باب (الاستحسان):
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: فإن قال قائل، فاذكر من وجوه القياس ما
يدل على اختلافه في البيان والأسباب، والحجة فيه، سوى هذا الأول الذي
تدرك العامة علمه؟
١ / ٣٨٤
قيل له: إن شاء اللَّه، قال الله تعالى: (وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ)
الآية، وقال سبحانه: (وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ) الآية.
فأمر رسول الله ﷺ هند بنت عتبة، أن تأخذ من مال زوجها أبي سفيان ما يكفيها وولدها - وهم ولده - بالمعروف، بغير أمره.
قال: فدلّ كتاب الله، وسنة نبيه ﷺ أن على الوالد رضاع ولده ونفقتهم صغارًا، فكان الولد من الوالد، فجُبر على صلاحه في الحال التي لا يغني الولد فيها نفسه، فقلت: إذا بلغ الأب ألَّا يغني نفسه بكسب ولا مال، فعلى ولده صلاحه في نفقته وكسوته، قياسًا على الولد، وذلك أن الولد من الوالد، فلا يُضيِّع شيئًا هو منه، كما لم يكن للوالد أن يضيع شيئًا من ولده، إذ كان الولد منه، وكذلك الوَالِدُونَ وإن بَعُدُوا، والولد وإن سَفَلوا، في هذا المعنى - والله أعلم -.
فقلت: ينفق على كل محتاج منهم غير محترف، وله النففة على الغني
المحترف.
أحكام القرآن: ما يؤثر عنه - الشَّافِعِي - في العدة وقي الرضاع وفي النفقات:
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: في قول الله ﷿:
(وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ) الآية.
من ألا تضارً والدة بولدها، لا أن عليها الرضاع.
١ / ٣٨٥
قال الله ﷿: (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (٢٣٤)
الأم: المدعي والمدعى عليه:
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: وفرض اللَّه ﷿ العدة على الزوجة في الوفاة فقال: (يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا) الآية.
الأم (أيضًا): ما يُحَمث من انكاح العبيد:
قال الشَّافِعِي ﵀: وقال ﷿ في المعتدات: (فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ) الآية، وقال رسول الله ﷺ: «الأيم أحق بنفسها من وليها، والبكر تستأذن في نفسها» الحديث، مع ما سوى ذلك. ودلَّ الكتاب والسنة على أن المماليك لمن ملكهم، وأنههم لا يملكون من أنفسهم شيئًا.
ولم أعلم دليلًا على إيجاب إنكاح صالحي العبيد والإماء كما وجدت الدلالة
على إنكاح الحر إلا مطلقًا، فأحبّ إليَّ أن يُنكح من بلغ من العبيد والإماء، ثم صالحوهم خاصة، ولا يتبين لي أن يُجبَر أحد عليه، لأن الآية محتملة أن يكون أريد به الدلالة، لا الإيجاب.
١ / ٣٨٦
الأم (أيضًا): الفرقة بين الأزواج بالطلاق أو الفسخ:
قال الشَّافِعِي ﵀: وقلت: في قول الله ﷿ في المتوفى عنها زوجها:
(فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ)
هذا إذا قضين أجلهن والكلام فيهما واحد. ..
قال الشَّافِعِي ﵀: فقلت له (بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ): يحتمل قاربن البلوغ
وبلغن: فرغن مما عليهن - من العدة - فكان سياق الكلام في الآية دليل على هذا.
الرسالة: في العدد:
قال الشَّافِعِي ﵀: قال الله: (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا) الآية.
فقال بعض أهل العلم: قد أوجب اللَّه على المتوفى عنها زوجها أربعة أشهر
وعشرًا، وذكر أن أجل الحامل أن تضع، فإذا جمعت أن تكون حاملًا متوفى عنها، أتت بالعدتين معًا، كما أجدها في كل فرضين جعلا عليها، أتت بهما معًا.
قال الشَّافِعِي ﵀: فلما قال رسول الله ﷺ لسبيعة بنت الحارث، ووضعت بعد وفاة زوجها بأيام: «قد حللت فتزوجي» الحديث.
دلَّ هذا على أن العدة في الوفاة، والعدة في الطلاق بالأقراء والشهور، إنما أريد به من لا حمل به من النساء، وأن الحمل إذا كان فالعدة سواه ساقطة.
١ / ٣٨٧
الرسالة (أيضًا): فيما تُمسك عنه المعتدة من الوفاة:
قال الشَّافِعِي ﵀: - قال الله: (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ) إلى قوله: (وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) الآية.
فذكر اللَّه ﷿ أن على المتوفى عنهن عدة، وأنهن إذا بلغنها فلهن أن يفعلن في أنفسهن بالمعروف، ولم يذكر. شيئًا تجتَنبه في العدة.
فكان ظاهر الآية أن تمسك المعتدة في العدة عن الأزواج ففط، مع إقامتها في
بيتها بالكتاب، وكانت تحتمل أن تمسك عن الأزواج، وأن يكون عليها في الإمساك عن الأزواج إمساك عن غيره، مما كان مباحًا لها قبل العدة من طيب وزينة.
فلما سنَّ رسول الله ﷺ على المعتدة من الوفاة الإمساك عن الطيب وغيره.
كان عليها الإمساك عن الطيب وغيره بفرض السنة، والأمساك عن الأزواج، والسكنى في بيت زوجها بالكتاب ثم السنة.
واحتملت السنة في هذا الموضع ما احتملت في غيره، من أن تكون السنة
بينت عن اللَّه كيف إمساكها؛ كما بينت الصلاة والزكاة والحج، واحتملت أن يكون رسول الله ﷺ سنَ فيما ليس فيه نص حكم لله.
الرسالة (أيضًا): باب (الاختلاف):
قال الشَّافِعِي ﵀: وقال اللَّه تعالى: (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا) الآية.
فقال بعض أصحاب رسول الله ﷺ: ذكر اللَّه المطلقات، أن عدة الحوامل أن يضعن حملهن، وذكر في المتوفى عنها أربعة أشهر وعشرًا.
١ / ٣٨٨
وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (٢٣٤)
فعلى الحامل المنوفى عنها أن تعتد أربعة أشهر وعشرًا، وأن تضع حملها.
حتى تأتي بالعدتين معًا، إذ لم يكن وضع الحمل انقضاء العدة نصًا إلا في
الطلاق، كاله يذهب إلى أن وضع الحمل براءة، وأن الأربعة أشهر وعشرًا
تعبد، وأن المتوفى عنها تكون غير مدخول بها، فتأتي بأربعة أشهر، وأنه
وجب عليها شيء من وجهين، فلا يسقط أحدهما، كما لو وجب عليها حقان لرجلين، لم يسقط أحدهما حق الآخر.
وكما إذا نكحت في عدتها، وأصيبت، اعتدت من الأول، واعتدت من الآخر.
قال: - أي الشَّافِعِي ﵀ وقال غيره من أصحاب رسول الله ﷺ:
إذا وضعت ذا بطنها فقد حلَّت، ولو كان زوجها على السرير.
قال الشَّافِعِي ﵀: فكانت الآية محتملة المعنيين معًا، فكان أشبههما
بالمعقول الظاهر أن يكون الحمل انقضاء العدة.
وقال: فدلَّت سنة رسول الله ﷺ على أن وضع الحمل آخر العدة في الموت، مثلُ معناه الطلاق.
أخبرنا سفيان، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله، عن أبيه: أن سبيعة
الأسلمية وضعت بعد وفاة زوجها بليال، فمر بها أبو السنابل بن بَعْكَك، فقال: قد تصنعت للأزواج! إنها أربعة أشهر وعشرًا!
فذكرت ذلك سبيعة لرسول اللَّه ﷺ؟
١ / ٣٨٩
فقال: «كذب أبو السنابل»، أو: «لَيسَ كما قال أبو السنابل».
«قد حللت فتزوجي» الحديث.
* * *
قال الله ﷿: (وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا)
الأم: باب (التعريض بالخطبة):
أخبرنا الربيع بن سليمان قال:
أخبرنا الشَّافِعِي ﵀ هال: قال الله ﷿: (وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ الآية.
قال الشَّافِعِي ﵀: وبلوغ الكتاب أجله - والله تعالى أعلم - انقضاء
العدة، قال: فبين في كتاب اللَّه تعالى، أنَّ الله فرَّق في الحكم بين خلقه، بَين
أسباب الأمور، وعقد الأمور، وبين إذ فرّق الله - تعالى ذكره - بينهما أن ليس لأحد الجمع بينهما، وألا يفسد أمر بفساد السبب إذا كان في عقد الأمر صحيحًا، ولا بالنية في الأمر، ولا تفسد الأمور إلا بفساد إن كان في عقدها، لا بغيره، ألا ترى أن الله حرّم أن يعقد النكاح حتى تنقضي العدة، ولم يحرم
١ / ٣٩٠
التعريض بالخطبة في العدّة، ولا أن يذكرها وينوي نكاحها بالخطبة لها والذكر
لها، والنية في نكاحها سبب النكاح. ..
وبذلك قلنا: لا نجعل التعريض أبدًا يقوم مقام التصريح في شيء من
الحكم؛ إلا أن يريد المعرِّض التصريح، وجعلناه فيما يشبه الطلاق من النية
وغيره فقلنا: لا يكون طلاقًا إلا بإرادته، وقلنا: لا نحدُّ أحدًا في تعريض إلا
بإرادة التصريح بالقذف.
قال الشَّافِعِي ﵀: قول الله ﵎: (وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا)
الآية، يعني - والله تعالى أعلم -: جماعًا.
(إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا الآية: قولًا حسنًا لا فحش فيه.
الأم (أيضًا): اللعان:
قال الشَّافِعِي ﵀: وقد قال الله ﵎ في المعتدة: (وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ) إلى: (وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا)
الآية، فأحل - الله - التعريض بالخطبة، وفي إحلاله إياها تحريم التصريح، وقد قال الله ﵎ في الآية: (وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا) والسر: الجماع، واجتماعهما على العدة، بتصريح العقدة، بعد انقضاء العدة، وهو تصريح باسم نُهِيَ عنه، وهذا قول الأكثر من أهل مكة وغيرهم من أهل البلدان في التعريض.
وأهل المدينة فيه مختلفون، فمنهم من قال بقولنا، ومنهم من حد في التعريض.
وقال الشَّافِعِي ﵀: السر: الجماع.
قال امرؤ القيس:
١ / ٣٩١
ألا زَعَمت بَسبَاسَةُ اليومَ أنني ... كَبرتُ وأن لا يحسِن السّر أمثاِلي
كذبتِ لَقد أُصبي على المرءِ عِرْسَهُ ... وأمنَعُ عِرْسِي أن يُزَنَّ بها الخَالِي
وقال جرير يرثي امرأته:
كَانَت إدِا هَجَرَ الخَلِيلُ فِرَاشَها ... خُزِنَ الحديثُ وعَفَّتِ الأسرارُ
قال الشَّافِعِي ﵀: فإذا علم أن حديثها مخزون، فخزن الحديث: ألا
يباح به سرًّا ولا علانية، فإذا وصفها بهذا، فلا معنى للعفاف غير الأسرار.
والأسرار: الجماع.
الأم (أيضًا): باب (التعريض في خطبة النكاح):
أخِبرنا الربيع قال:
قال الشَّافِعِي وص الله تعالى: قال اللَّه ﷿: (وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ) الآية.
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: أخبرنا مالك، عن عبد الرحمن بن القاسم.
عن أبيه أنَّه كان يقول في قول اللَّه ﷿: (وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ)
١ / ٣٩٢
أن يقول الرجل للمرأة وهي في عدتها من وفاة زوجها:
إئك على لكريمة، وإني فيك لراغب، فإنّ اللَّه لسائق إليك خيرًا ورزقًا، ونحو هذا من القول.
قال الشَّافِعِي ﵀: كتاب اللَّه يدل على أنَّ التعريض في العدّة جائز، لما
وقع عليه اسم التعريض، إلا ما نهى الله ﷿ عنه من السر، وقد ذكر القاسم بعضه، والتعريض كثير واسع جائز كله، وهو خلاف التصريح؛ وهو ما يعرض به الرجل للمرأة، مما يدلّها على أنَّه أراد به خطبتها بغير تصريح، والسر الذي نهى الله عنه - واللَّه أعلم - يجمع بين أمرين، أنَّه ئصريح، والتصريح خلاف التعريض، وتصريح بحماع وهذا كأقبح التصريح.
فإن قال قائل: ما دل على أن السر الجماع؟
قيل: فالقرآن كالدليل عليه إذ أباح التعريض، والتعريض عند
أهل العلم جائز سرًا وعلانية، فإذا كان هذا فلا يجوز أن يتوهم أن السرَّ سر
التعريض، ولا بدّ من معنى غيره، وذلك من معنى غيره، وذلك المعنى:
الجماع. . . ثم ذكر بيتي امرؤ القيس وبيت جرير.
وقد سبق ذكرهم في الفقرة السابقة مع التعليق من الشَّافِعِي ﵀ بعد
الأبيات الذكورة.
الأم (أيضًا): الفرقة بين الأزواج بالطلاق أو الفسخ:
قال الشَّافِعِي ﵀: قال اللَّه تعالى ذكره في التوفى - عنها زوجها -، في
قوله: (وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ) الآية.
حتى تنقضي عدّتها فيحلّ نكاحها. ..
ثم ذكر حديث ركانة، وعدة آثار في ذلك.
١ / ٣٩٣
الأم (أيضًا): ما جاء في أمر النكاح:
قال الشَّافِعِي ﵀: قال اللَّه ﷿: (وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ) الآية، فلا يأمر بألَّا يمنع من النكاح من قد منعها منه، إنما يأمر بألَّا يمتنع مما أباح لها من هو سبب من منعها.
قال الشَّافِعِي ﵀: وقد حفظ بعض أهل العلم أنَّ هذه الآية نزلت
في معقل بن يسار. ..
قال الشَّافِعِي ﵀: وفي هذه الآية دلالة على أن النكاح يتم برضا
الولي مع المزوج والمزوَّجَة، وهذا موضوع في ذكر الأولياء، والسنة تدل على ما يدل عليه القرآن، من أن على ولي الحرة أن يُنكحها.
مختصر المزني: باب (حد القذف):
قال الشَّافِعِي ﵀: ولا حد في التعريض، لأن اللَّه تعالى أباح التعريض
فيما حَرُم عقده فقال: (وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ)
الآية، وقال تعالى: (وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ)
الآية، فجعل التعريض مخالفًا للتصريح، فلا يحذ إلا بقذف صريح.
١ / ٣٩٤
قال الله ﷿: (لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ (٢٣٦)
الأم: باب (صلاة المسافر):
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: قال اللَّه ﷿: (لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً) الآية، رخصة لا أن حتمًا عليهم أن يطلقوهن في هذه الحال.
الأم (أيضًا): كتاب (الصدَاق):
قال الشَّافِعِي ﵀: واستدللنا بقول الله ﷿: (لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ) الآية، أن عقد النكاح يصح بغير فريضة صداق، وذلك أن الطلاق لا يقع إلا على من عقد نكاحه، وإذا جاز أن يعقد النكاح بغير مهر فيثبت فهذا دليل على الخلاف بين النكاح والبيوع، والبيوع لا تنعقد إلا بثمن
١ / ٣٩٥
معلوم، والنكاح ينعقد بغير مهر، استدللنا على أن العقد بصح بالكلام به، وأن الصداق لا يفسد عقده أبدًا.
الأم (أيضًا): كتاب (الشغار):
قال الشَّافِعِي ﵀: ويقال له - أي: للمحاور -: إنما أجزنا النكاح بغير
مهر لقول اللَّه ﷿: (لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً) الآية، فلما أثبت الله ﷿ الطلاق، دلَّ ذلك على أن النكاح ثابت؛ لأن الطلاق لا يقع إلا من نكاح ثابت، فأجزنا النكاح بلا مهر، ولما أجازه
﷾ بلا مهر، كان عقد النكاح على شيئين، أحدهما: نكاح، والآخر: ما يملك بالنكاح من المهر، فلما جاز النكاح بلا مِلك مهر فخالف البيوع، وكان فيه مهر مثل المرأة إذا دخل بها.
الأم (أيضًا): المهر الفاسد:
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: فإن قال فائل: من أين أجزت هذا في النكاح.
ورددته في البيوع، وأنت تحكم في عامة النكاح أحكام البيوع؟!
قيل: قال اللَّه ﷿: (لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ) إلى: (وَمَتِّعُوهُنَّ) الآية.
وقال ﵎: (وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ) الآية، فأعلم الله تعالى في
المفروض لها أنَّ الطلاق يقع عليها، كما أعلم في التي لم يُفرض لها، أن الطلاق يقع عليها، والطلاق لا يقع إلا على زوجة، والزوجة لا تكون إلا ونكاحها
١ / ٣٩٦
ثابت، قال: ولم أعلم مخالفًا مضى، ولا أدركته في أن النكاح يثبت وإن لم يسم مهرًا، وأن لها إن طُلّقت وقد نكحت ولم يسمً مهرًا (المتعة)، وإن أصيبت فلها مهر مثلها، فلما كان هذا كما وصفت، لم يجز أبدًا أن "يفسد النكاح من جهة المهر بحالٍ أبدًا.
الأم (أيضًا): اللعان:
قال الشَّافِعِي ﵀: وقال الله ﷿: (لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ) الآية، فكان هذا عامًّا للأزواج والنساء، لا يخرج منه زوج مسلم، حر ولا عبد، ولا ذمي حر ولا عبد، فكذلك اللعان لا يخرج منه زوج ولا زوجة.
الأم (أيضًا): باب (المتعة):
قال الشَّافِعِي ﵀: أخبرنا مالك، عن نافع، عن ابن عمر رضي اللَّه
عنهما أنَّه كان يقول: لكل مطلقة متعة، إلا التي تطلق وقد فرض لها الصداق ولم تُمسَّ، فحَسبُها ما فُرضِ لها.
قال الشَّافِعِي ﵀: أخبرنا مالك، عن القاسم بن محمد مثله.
قال الشَّافِعِي ﵀: أخبرنا مالك، عن ابن شهاب أنه كان يقول: لكل
مطلقة متعة، فقلت للشافعى: فإئا نقول خلاف قول ابن شهاب، لقول ابن عمر ﵄.
١ / ٣٩٧
قال الشَّافِعِي ﵀: فبقول ابن عمر ﵄ قلتم، وأنتم
تخالفونه؟ قال: فقلت للشافعي وأين؛ قال زعمتم أن ابن عمر ﵄ قال: لكلّ مطلقة متعة إلا التي فرض لها ولم تمس فحسبها نصف الصداق.
وهذا يوافق القرآن فيه، وقوله فيما سواها من المطلقات أن لها متعة: يوافق القرآن لقول اللَّه جل ثناؤه: (لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ) الآية.
وقال الله جل ذكره: (وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ) الآية، فكذلك المختلعات ومن سمينا منهن مطلقات، لهن المتعة في كتاب اللَّه.
ثم قول ابن عمر، ﵄ واللَّه أعلم -.
مختصر المزني: الصداق: مختصر من الجامع من كتاب (الصداق)
قال الشَّافِعِي ﵀: ذكر اللَّه الصداق والأجر في كتابه: وهو المهر، قال
الله تعالى: لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً) الآية، فدلُّ أن عقدة النكاح بالكلام، وأن تركَ الصداق لا يفسدها، فلو عقد بمجهول، أو بحرام، ثبت النكاح، ولها مهر مثلها.
الرسالة: صفة نهي الله ونهي رسوله ﷺ:
قال الشَّافِعِي ﵀: ولو سمى صَدَاقًا كان أحبُّ إليَّ، ولا يفسد
النكاح بترك تسمية الصداق، لأن اللَّه أثبت النكاح في كتابه بغير مهر، وهذا مكتوب في غير هذا الموضع.
وسواء في هذا، المرأة الشريفة والدنية؛ لأن كل واحد منهما، فيما يَحِل به
ويحرم، ويجب لها وعليها، من الحلال والحرام والحدود سواء.
١ / ٣٩٨
قال الله ﷿: (وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٢٣٧)
الأم: بلوغ الرشد وهو الحجر:
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: قال الله ﷿: (وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٢٣٧) .
فدلت هذه الآية على أن على الرجل أن يسلم إلى المرأة نصف مهرها، كلما كان عليه أن يسلم إلى الأجنبيين من الرجال
ما وجب لهم، ودلَّت السنة على أن المرأة مسلطة على أن تعفو من مالها، وندب اللَّه ﷿ إلى العفو، وذكر أنَّه أقرب للتقوى، وسوى بين المرأة والرجل فيما يجوز من عفو كل واحد منهما ما وجب له، يجوز عفوه إذا دفع المهر كله، وكان له أن يرجع بنصفه، فعفاه جاز، لماذا لم يدفعه، فكان لها أن تأخذ نصفه، فعفته جاز، لم يفرق بينهما في ذلك.
١ / ٣٩٩
الأم (أيضًا): باب (الخلاف في الحجر
قال الشَّافِعِي ﵀: قال الله ﷿: (وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ) الآية، لا يرجع إلا بنصف ما أعطاها دنانير كانت أو غبرها؛ لأنَّه لا يوجب عليها أن تجهز إلا أن تشاء، وهو معنى قول الله ﵎: (فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ) الآية.
الأم (أيضًا): باب من قال: (لا يورث أحد حتى يموت):
قال الشَّافِعِي ﵀: وقلت له (أي: للمحاور): عبتم على من قال: قول عمر وعثمان ﵄ في امرأة المفقود، وقبلتم عن عمر ﵁ أنَّه قال: إذا أرخيت الستور وجب المهر والعدة، ورددتم على من تأوَّلَ الآيتين: وهما قول الله ﷿:
(وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ) الآية، وقوله: (فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا) الآية، وقد روي هذا عن ابن عباس وشريح.
وذهبنا إلى: أن الإرخاء والأغلاق لا يصنع شيئًا إنَّما يصنعه المسيس.
الأم (أيضًا): كتاب (الصْدَاق):
قال الشَّافِعِي ﵀: - بعد أن ساق الآيات في الصداق - فأمر الله
الأزواج: بأن يؤتوا النساء أجورهن، وصدقاتهن، والأجر: هو الصداق.
والصداق: هو الأجر والمهر، وهي كلمة عربية تسمى بعدة أسماء:
١ / ٤٠٠
- فيحتمل هذا أن يكون مأمورًا بصداق من فَرَضَه دون من لم يَفرضه، دخل أو لم يدخل؛ لأنَّه حق ألزمه المرء نفسه، فلا يكون له حبس شيء منه إلا بالمعنى الذي جعله الله تعالى له، وهو أن يطلق قبل الدخول، قال اللَّه ﵎: (وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ) الآية.
ويحتمل أن يكون يجب بالعفدة، وإن لم يُسم مهرًا، ولم يدخل.
- ويحتمل أن يكون المهر لا يلزم أبدًا، إلا بأن يُلزمه المرء نفسه، ويدخل
بالمرأة، وإن لم يُسم لها مهرًا.
فلما احتمل المعاني الثلاث كان أولاه أن بقال به، ما كانت عليه الدلالة
من كتاب، أو سنة، أو إجماع، واستدللنا بقول اللَّه ﷿:
(لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ) الآية.
ومن السنة قول الرسول ﷺ:
«أدُّو العلائق» قيل: وما العلائق يا رسول؟
قال: «ما نراضى به الأهلون» الحديث، ولا يقع اسم عَلَق إلا على شيء مما
يتمول وإن قل، ولا بقع اسم مال ولا علق إلا على ماله قيمة يتبايع بها، ويكون إذا استهلكها مستهلك أدى قيمتها وإن قلَّت. ..
قال الشَّافِعِي ﵀: فجعل اللَّه تعالى الفرض في ذلك للأزواج، فدلَّ
على أنَّه برضا الزوجة؛ لأن الفرض على الزوج للمرأة، ولا يلزم الزوج والمرأة إلا باجتماعهما، ولم يُحدَّد فيه شيء، فدل كتاب اللَّه ﷿ على أن الصداق ما تراضى به المتناكحان، كما يكون البيع ما تراضى به المتبايعان.
١ / ٤٠١
وكذلك دلّت سنة رسول الله ﷺ، فلم يجز في كل صداق مسمى إلا أن يكون ثمنًا من الأثمان.
الأم (أيضًا): التفويض:
قال الشَّافِعِي ﵀: لو عفون عنه - أي: المهر - وقد فُرض، جاز
عفوهن لقول الله ﷿: (إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ) الآية، والصغيرة لم تعف عن مهر، ولو عفت لم يجز عفوها، وإنَّما عفا عنها أبوها الذي لا عفو له في مالها، فألزمنا الزوج نصف مهر مثلها بالطلاق، وفرقنا بينهما لافتراق حالهما في مالهما.
الأم (أيضًا): ما جاء في عفو المهر:
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: قال اللَّه ﵎:
(وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً) الآية.
فجعل الله تعالى للمرأة فيما أوجب لها من نصف المهر أن تعفو، وجعل للذي يلي عقدة النكاح أن يعفو، وذلك أن يتمم لها الصداق فيدفعه إن لم يكن دفعه كاملًا، ولا يرجع بنصفه إن كان دفعه، وبيِّن - عندي - في الآية، أن الذي بيده عقدة النكاح: الزوج، وذلك أنه إنَّما يعفوه من له ما يعفوه، فلما ذكر اللَّه ﷿ عفوها مما ملكت من نصف
المهر أشبه أن يكون ذكر عفوه لما له من جنس نصف المهر - واللَّه تعالى أعلم -.
وحض تعالى على العفو والفضل فقال ﷿:
(وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ) الآية.
١ / ٤٠٢
وبلغنا عن علي بن أبي طالب ﵄ لأنَّه قال:
(الذي بيده عقدة النكاح: الز وج) .
وأخبرنا ابن أبي فديك، أخبرنا سعيد بن سالم، عن عبد اللَّه بن جعفر بن
المِسْوَر، عن واصل بن أبي سعيد، عن محمد بن جبير بن مطعمٍ، عن أبيه لأنه
تزوج امرأة ولم يدخل بها حتى طلقها، فأرسل إليها بالصداق تاما، فقيل له: في ذلك، فقال: أنا أولى بالعفو. الحديث.
أخبرنا عبد الوهاب، عن أيوب، عن ابن سيرين قال: الذي بيده عقدة
النكاح: الز وج الحديث.
أخبرنا سعيد، عن ابن جريج لأنَّه بلغه عن ابن المسيب لأنَّه قال: هو
الزوج. الحديث.
الأم (أيضًا): الخلاف في اللعان:
قال الشَّافِعِي ﵀: في قول الله ﷿:
(وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ) الآية.
فزعمنا نحن وأنتم: أنها على الأزواج عامة، كانوا مماليك، أو أحرارًا، عندهم مملوكة، أو حرة، أو ذمية.
الأم (أيضًا): باب إلا عدة على التي لم يدخل بها زوجها):
قال الشَّافِعِي ﵀: أخبرنا مسلم بن خالد، عن ابن جريج، عن ليث
ابن أبي سليم، عن طاووس، عن ابن عباس ﵄ أنه قال في الرجل
١ / ٤٠٣
يتزوج المرأة فيخلو بها ولا يمسها، ثم يطلقها: ليس لها إلا نصف الصداق؛ لأن اللَّه ﷿ يقول: (وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ) الآية، وبهذا أقول، وهو ظاهر كتاب الله عز ذكره.
الأم (أيضًا): الطلاق الذي تُملَك فيه الرجعة:
قال الشَّافِعِي ﵀: ومثل الرجل يُغرُّ بالمرأة، فيكون له الخيار، فيختار
فراقها فذلك فسخ بلا طلاق، ولو ذهب ذاهب إلى أن يكون طلاقًا لزمه أن
يجعل للمرأة نصف المهر، الذي فرض لها إذا لم يمسها؛ لأن الله ﵎
يقول: (وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ) الآية.
الأم (أيضًا): كتاب (اللعان)
قال الشَّافِعِي ﵀: قال اللَّه ﷿: (وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ) إلى قوله: (إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ)
الآية. فأبان - اللَّه - في هذه الآية وغيرها أن الحقوق لأهلها.
الأم (أيضًا): المدّعى والمدَّعَى عليه:
قال الشَّافِعِي ﵀: وأخبرنا مالك، عن نافع، عن ابن عمر رضي اللَّه
عنهما أنَّه قال: لكل مطلقة متعة، إلا التي فُرضِ لها صداق ولم يدخل بها.
فحسبها نصف المهر.
١ / ٤٠٤
قال الشَّافِعِي ﵀: وأحسب ابن عمر ﵄ استدل بالآية
التي قال: تتبع للتي لم يدخل بها، ولم يفرض لها؛ لأن اللَّه يقول بعدها: (وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ)
الآية، فرأيُ القرآن كالدلالة على أنها مخرَّجَة من جميع المطلقات.
الأم (أيضًا): باب في (إرخاء الستور):
قال الشَّافِعِي ﵀: أخبرنا مالك، عن يحيى بن سعيد، عن ابن المسيب.
أن عمر بن الخطاب ﵁ قضى في المرأة يتزوجها الرجل، أنَّها إذا أرخيت الستور فقد وجب الصداق.
وقال: أخبرنا مالك، عن ابن شهاب، أن زيد بن ثابت قال: إذا دخل
بأمرأته فأرخيت الستور فقد وجب الصداق.
قال الشَّافِعِي ﵀: ورُوي عن ابن عباس، وشريح: أن لا صداق إلا
بالمسيس، واحتجا أو أحدهما بقول اللَّه تعالى: (وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ) الآية، بهذا.
قال بهذا ناس من أهل الفقه، فقالوا: لا يُلتفت إلى الإغلاق وإنَّما يجب
المهر كاملًا بالمسيس، والقول في المسيس: قول الزوج.
وقال غيرهم: يجب المهر بإغلاق الباب وإرخاء الستور، ورُوي ذلك عن
عمر بن الخطاب ﵁، وأن عمر ﵁ قال: وما ذنبهن؟ إن جاء العجز من قبلكم.
فخالفتم ما قال ابن عباس وشريح، وما ذهبا إليه من تأويل الآيتين، وهما: قول اللَّه ﵎: (وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ) الآية، وقوله:
١ / ٤٠٥
(ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا) الآية.
وخالفتم ما رويتم عن عمر، وزيد، وذلك أن نصف المهر
يجب بالعقد، ونصفه الثاني بالدخول.
الأم (أيضًا): باب (نكاح الولاة والنكاح بالشهادة):
قال الشَّافِعِي ﵀: فالنكاح يثبت بأربعة أشياء، الولي، ورضا
المنكوحة، ورضا الناكح، وشاهدي عدل، إلا ما وصفنا من البكر يزوجها الأب، والأمة يزوجها السيد، بغير رضاهما، فإنهما مخالفان ما سواهما.
وقد تأول فيها بعض أهل العلم قول اللَّه ﷿: (أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ) الآية.
وقال: الأب في ابنته البكر، والسيد في أمته، وقد خالفه
غيره فيما تأول، وقال: هو الزوج يعفو فيدع ماله من أخذ نصف المهر، وفي الآية كالدلالة على أن الذي بيده عقدة النكاح هو: الزوج - والله سبحانه أعلم -.
مختصرالمزني: لا عدة على التي لم يدخل بها زوجها:
قال الشَّافِعِي ﵀: قال الله تعالى: (وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ) الآية، قال: والمسيس: الإصابة، وقال ابن عباس وشريح وغيرهما:
لا عدة عليها إلا بالإصابة بعينها؛ لأن الله تعالى قال هكذا.
قال الشَّافِعِي ﵀: وهذا ظاهر القرآن.
١ / ٤٠٦
أحكام القرآن: ما يؤثر عنه - الشافعى - في النكاح والصداق وغير ذلك:
قال الشَّافِعِي ﵀: في قوله ﷿: (إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ) الآية، يعني: النساء.
وفي قوله تعالى: (أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ) الآية، يعني:
الزوج، وذلك أنَّه إنَّما يعفو من له ما يعفوه، ورواه عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ﵁، وجبير بن مطعم، وابن سيرين، وشريح، وابن المسيب، وسعيد ابن جبير، ومجاهد - رحمهم اللَّه تعالى -.
وقال البيهقي ﵀: وقد حمل - الشَّافِعِي - المسيس المذكور في قوله: (وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ) الآية.
على الوطء، ورواه عن ابن عباس ﵄، وشريح - رحمه اللَّه تعالى -.
* * *
قال الله ﷿: (حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ (٢٣٨)
الأم: باب (ألا تقضى الصلاة حائض):
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: قال اللَّه ﵎: (حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ) الآية، فلما لم يرخص رسول اللَّه ﷺ في أن تؤخر الصلاة في الخوف، وأرخص أن يصليها المصلي كما أمكنه،
١ / ٤٠٧
راجلًا، أو راكبًا، وقال: (إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا (١٠٣) .
قال الشَّافِعِي ﵀: وكان من عقل الصلاة من البالغين عاصيًا بتركها.
إذا جاء وقتها وذكرها، وكان غير ناسٍ لها، وكانت الحائض بالغة عاقلة ذاكرة للصلاة مطيقة لها، فكان حكم اللَّه ﷿: لا يقربها زوجها حائضًا، ودل حكم رسول الله ﷺ على أنَّه إذا حَرُم على زوجها أن يقربها للحيض، حَرُم عليها أن
تصلي، كان في هذا دلائل على أن: فرض الصلاة في أيام الحيض زائل عنها، فإذا زال عنها وهي ذاكرة عافلة مطيقة، لم يكن عليها قضاء الصلاة، وكيف تقضي ما ليس بفرض عليها، بزوال فرضه عنها، وهذا مما لا أعلم فيه مخالفًا.
الأم (أيضًا): باب (صلاة المريض):
قال الشَّافِعِي ﵀: قال اللَّه ﷿: (حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ) الآية.
فقيل - واللَّه وأعلم -: قانتين: مطيعين.
وأمر رسول الله ﷺ بالصلاة قائمًا.
قال الشَّافِعِي ﵀: وإذا خوطب بالفرائض من أطاقها، فإذا كان المرء
مطيقًا للقيام في الصلاة لم يجزه إلا هو، إلا عندما ذكرت من الخوف، وإذا لم يطق القيام: صلى قاعدًا، وركع وسجد إذا أطاق الركوع والسجود - وإلا أومأ بالركوع والسجود إيماء -.
مختصر المزني: باب (الإسفار والتغليس با لفجر):
حدثنا الربيع قال:
١ / ٤٠٨
أخبرنا الشَّافِعِي قال: أخبرنا سفيان، عن - محمد بن عجلان، عن عاصم بن
عمر بن قتادة، عن محمود بن لبيد، عن رافع بن خديج، أن رسول الله ﷺ قال:
أسفروا بالصبح فإن ذلك أعظم لأجوركم» أو قال: «للأجر» الحديث.
أخبرنا الربيع قال:
أخبرنا الشَّافِعِي قال: أخبرنا سفيان عن الزهري، عن عروة، عن عائشة
﵂ قالت: «كن نساء من المؤمنات يصلين مع النبي ﷺ وهن متلفعات بمروطهن، ثم يرجعن إلى أهلهن ما يعرفهن أحد من الغلس» الحديث.
قال: وروى زيد بن ثابت عن النبي ﷺ ما يوافق هذا، وروى مثله أنس بن مالك، وسهل بن سعد الساعدي عن النبي ﷺ.
قال الشَّافِعِي ﵀: فقلنا إذا انقطع الشك في الفجر الآخر وبان
معترضًا، فالتغليس بالصبح أحبُّ إلينا.
وقال بعض الناس: الإسفار بالفجر أحبُّ إلينا.
قال: وروي حديثان مختلفان عن رسول الله ﷺ، فأخذنا بأحدهما، وذكر حديث رافع بن خديج وقال: أخذنا به؛ لأنَّه كان أرفق بالناس، قال: وقال لي أرأيت إن كانا مختلفين فلِمَ صرت إلى التغليس؟
قلت: لأنّ التغليس أولاهما بمعنى كتاب اللَّه، وأثبتهما عند أهل الحديث، وأشبههما لمجمل سنن النبي ﷺ.
وأعرفهما عند أهل العلم قال: فاذكر ذلك، قلت: قال اللَّه تعالى: (حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى) الآية، فذهبنا إلى أنها الصبح، وكان أقل ما في
١ / ٤٠٩
الصبح إن لم نكن هي أن تكون مما أمرنا بالمحافظة عليه، فلما دلَّت السنة، ولم
يختلف أحد أن الفجر إذا بأن معترضًا فقد جاز أن يصلي الصبح، علمنا أن
مؤدي الصلاة في أول وقتها أولى بالمحافظة عليها من مؤخًرها، وقال رسول اللَّه ﷺ: «أول الوقت رضوان الله»
وسئل رسول الله ﷺ أي الأعمال أفضل؟
فقال: «الصلاة في أول وقتها»، ورسول الله ﷺ لا يؤثر على رضوان الله، ولا على أفضل الأعمال شيئًا.
قال الشَّافِعِي ﵀: ولم يختلف أهل العلم في امرئ أراد التقرب إلى الله
بشىء، يتعجله مبادرة ما لا يخلو منه الآدميون - من النسيان والشغل - ومقدم الصلاة أشد فيها تمكنًا من مؤخرها، وكانت الصلاة المقدمة من أعلى أعمال بني آدم، وأمرنا بالتغليس بها لما وصفناه.
قال: فأين أنَّ حديثك الذي ذهبت إليه أثبتهما؟
قلت: حديث عائشة، وزيد بن ثابت، وثالث معهما ﵃
عن النبي ﷺ بالتغليس أثبت من حديث رافع بن خديج وحده في أمره بالإسفار.
فإن رسول الله ﷺ لا يأمر بأن يُصلى صلاة في وقت ويصليها في غيره.
قال الشَّافِعِي ﵀: وأثبت الحجج وأولاها ما ذكرنا من أمر الله
بالمحافظة على الصلوات. ..
الرسالة: وجه أخر مما يعد مختلفًا وليس عندنا بمختلف:
قال الشَّافِعِي ﵀: وإن تقدم صلاة الفجر في أول وقتها عن أبي بكر.
وعمر، وعثمان، وعلي بن أبي طالب، وابن مسعود، وأبي موسى الأشعري، وأنس بن مالك وغيرهم - رضوان اللَّه عليهم - مثبت.
١ / ٤١٠
فقال - أي: المحاور - فإن أبا بكر، وعمر، وعثمان، دخلوا في الصلاة
مُغلسين، وخرجوا منها مسفرين، بإطالة القراءة؟
فقلت له: قد أطالوا القراءة وأوجزوها، والوقت في الدخول لا في الخروج
من الصلاة، وكلّهم دخل مُغلِّسًا، وخرج رسول الله ﷺ مُغلِّسًا.
فخالفت الذي هو أولى بك أن تصير إليه، مما ثبت عن رسول الله ﷺ.
وخالفتهم، فقلت: يدخل الداخل فيها مسفرًا، ويخرج مسفرًا، ويوجز القراءة، فخالفتهم في الدخول وما احتججت به من طول القراءة، وفي الأحاديث عن بعضهم أنَّه خرج منها مُغلسًا، قال - الشَّافِعِي -: فقال (أي: المحاور): أفتعد خبر رافع يخالف خبر عائشة؟ فقلت له: لا.
فقال: فبأي وجه يوافقه؟
فقلت: إن رسول الله ﷺ لما حض الناس على تقديم الصلاة، وأخبر بالفضل فيها.
احتمل أن يكون من الراغبين من يقدمها قبل الفجر الآخر، فقال:
أسفروا بالفجر» يعني: حتى يتبين الفجر الآخر معترضًا.
قال: أفيحتمل معنى غير ذلك؟.
قلت: نعم، يحتمل ما قلت، وما بين ما قلنا وقلتَ، وكل معنى يقع عليه
اسم الإسفار.
قال: فما جعل مَغناكم أولى من معنانا؟.
فقلتُ: بما وصفت من التأويل، وبأنّ النبي ﷺ قال: «هما فجران، فأما الذي كأنه ذنب السرحان فلا يحل شيئًا ولا يحرمه، وأما الفجر المعترض فيحل الصلاة وُيحرّم الطعام» الحديث، يعني: على من أراد الصيام.
١ / ٤١١
السنن المأثورة: باب ما جاء في (الجمع بين الصلاتين في المطر:
قال: حدثنا الشَّافِعِي ﵀ قال: أخبرنا مالك بن أنس، عن زيد بن
أسلم، عن القعقاع بن حكيم، عن أبي يونس مولى عائشة أم المؤمنين لأنَّه قال: أمرتني عائشة أم المؤمنين أن أكتب لها مصحفًا قالت: إذا بلغت هذه الآية فآذني: (حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى) الآية.
قال: فلما بلغتها آذنتها؛ فأملت علي: (حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر وقوموا لله فأنتين) الآية، قالت عائشة ﵂: سمعتها من رسول اللَّه ﷺ الحديث.
أحكام القرآن: فصل فيما يؤثر عنه - الشَّافِعِي - من التفسير والمعاني
والطهارات والصلوات:
قال الشَّافِعِي ﵀: في قوله تعالى: (وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى) الآية، فذهبنا
إلى أنها الصبح، وكان أقل ما في الصبح، إن لم تكن هي: أن تكَون مما أمرنا
بالمحافظة عليه.
وذكر - في رواية المزني، وحرملة رحمهما اللَّه - حديث أبي بونس مولى
عائشة ﵂ أنها أملت عليه: (حافظوا على الصلوات والصلاة
الوسطى، وصلاة العصر) ثم قالت: سمعتها من رسول الله ﷺ».
قال الشَّافِعِي ﵀: فحديث عائشة ﵂ يدلُّ على أن الصلاة
الوسطى، ليست صلاة العصر.
١ / ٤١٢
واختلف أصحاب رسول الله ﷺ فرُوي عن علي، وروي عن ابن عباس ﵃: أنَّها الصبح وإلى هذا نذهب.
ورُوي عن زيد بن ثابت الأنصاري «الظهر» وعن غيره: «العصر»
ورُوي فيه حديثًا عن النبي ﷺ.
قال البيهقي ﵀: وقرأت في كتاب السنن - رواية حرملة - عن
الشَّافِعِي ﵀، قال الله ﵎: (وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ) الآية.
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: من خوطب بالقنوت مطلقًا، ذهب إلى أنَّه:
قيام في الصلاة، وذلك أن القنوت: قيام لمعنى طاعة الله ﷿، وإذا كان هكذا: فهو موضع كف عن قراءة، وإذا كان هكذا: أشبه أن يكون قيامًا في صلاة - لدعاء لاقراءةِ.
فهذا أظهر معانيه، وعليه دلالة الستة، وهو أولى المعاني أن يقال به عندي
- والله أعلم -.
قال الشَّافِعِي ﵀: وقد يحتمل القنوت: القيام كلّه في الصلاة، وروي
عن عبد اللَّه بن عمر ﵄: "قيل: أي الصلاة؛ قال: طول القنوت الحديث.
وقال طاووس: القنوت طاعة اللَّه ﷿.
وقال الشَّافِعِي ﵀: وما وصفت من المعنى الأول أولى المعاني به -
واللَّه أعلم -.
قال: فلما كان القنوت بعض القيام دون بعض، لم يجز - والله أعلم - أن
يكون إلا ما دلّت عليه السنة، من القنوت للدعاء، دون القراءة.
قال: واحتمل قول اللَّه ﷿: (وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ) الآية، قانتين في الصلاة كلها، وفي بعضها دون بعض.
١ / ٤١٣
فلما قنت رسول الله ﷺ في الصلاة، ثم ترك القنوت في بعضها، وحفظ عنه القنوت في الصبح خاصة، ودل هذا على أنَّه إن كان اللَّه أراد القنوت: القنوت في الصلاة، فإنَّما أراد به خاصًا.
واحتمل أن يكون في الصلوات في النازلة، واحتمل طول القنوت: طول
القيام، واحتمل القنوت: طاعة اللَّه، واحتمل السكات.
قال الشَّافِعِي ﵀: ولا أرخص في ثرك القنوت في الصبح بحال: لأنَّه
إن كان اختيارًا - مندوبًا - من الله ومن رسوله ﷺ، لم أرخص في ترك الاختيار، وإن كان فرضًا: كان مما لا يتبين تركه.
ولو تركه تارك كان عليه أن يسجد للسهو، كما يكون ذلك عليه لو ترك الجلوس - الأوسط - في شيء.
قال الشيخ - أي البيهقي ﵀ في قوله: (احتمل السكات): أراد:
السكوت عن كلام الآدميين، وقد روينا عن زيد بن أرقم: «أنهم كانوا يتكلمون في الصلاة»، فنزلت هذه الآية، قال:
فنهينا عن الكلام، وأمرنا بالسكوت.
وروينا عن أبي رجاء العطاردي أنَّه قال: صلى بنا ابن عباس صلاة الصبح
- وهو أمير على البصرة - فقنت، ورفع يديه حتى لو أن رجلًا بين يديه لرأى بياض إبطَيه، فلما قضى الصلاة أقبل علينا بوجهه فقال: هذه الصلاة التي ذكرها اللَّه ﷿ في كتابه: (حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ (٢٣٨) الآية.
أخبرنا أبو علي الروذباري، أخبرنا إسماعيل الصفار، أخبرنا الحسن بن
الفضل بن السمح، حدثنا سهل بن تمام، أخبرنا أبو الأشهب، ومسلم بن زيد، عن أبي رجاء، فذكره، وقال: "قبل الركوع.
١ / ٤١٤
قال الله ﷿: (فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (٢٣٩)
الأم: باب (الأذان والإقامة للجمع بين الصلاتين والصلوات):
أخبرنا الربيع قال:
أخبرنا الشَّافِعِي ﵀ قال: أخبرني ابن أبي فديك، عن ابن أبي ذئب.
عن المقبري، عن عبد الرحمن - بن أبي سعيد، عن أبي سعيد الخدري ﵁ قال:
حبسنا يوم الخندق عن الصلاة حتى كان بعد المغرب يهُويِ من الليل حتى
كفينا، وذلك قول اللَّه ﷿: (وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا (٢٥)
فدعا رسول الله ﷺ بلالًا فأمره، فأقام الظهر فصلاها، فأحسن صلاتها، كما كان يصليها في وقتها، ثم أقام العصر فصلاها كذلك، ثم أقام المغرب فصلاها كذلك، ثم أقام العشاء فصلاها كذلك أيضًا.
قال: وذلك قبل أن ينزل الله تعالى في صلاة الخوف: (فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا)
الآية.
قال الشَّافِعِي ﵀: وبهذا كله نأخذ، وفيه دلالة على أن كل من جمع
بين صلاتين، في وقت الأولى منهما، أقام لكل واحدة منهما، وأذَّن للأولى، وفي الآخرة يقيم بلا أذان، وكذلك كل صلاة صلاها في غير وقتها كما وصفت.
١ / ٤١٥
الأم (أيضًا): باب (الحالين اللذين يجوز فيهما استقبال غير القبلة):
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: الحالان اللذان يجوز فيهما استقبال غير
القبلة، قال اللَّه ﷿: (وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ) إلى قوله: (فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ) الآية.
قال: فأمرهم اللَّه خائفين محروسين بالصلاة، فدل ذلك على أنه أمرهم بالصلاة للجهة التي وجههم لها من القبلة.
وقال الله ﷿: (حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى) إلى: (رُكبَانًا)
الآيتان، فدل إرخاصه في أن يصلوا رجالًا وركبانًا، على أن الحال التي أذن لهم فيها بأن يصلوا رجالًا وركبانًا من الخوف؛ غير الحال الأولى التي أمرهم فيها أن يحرس بعضهم بعضًا، فعلمنا أنَّ الخوفين مختلفان. ..
ودلَّت على ذلك السنَّة: أخبرنا مالك، عن نافع، أن عبد الله بن عمر رضي
الله عنهما كان إذا سئل عن صلاة الخوف قال: يتقدم الإمام وطائفة ثم قصّ
الحديث، وقال ابن عمر ﵄ في الحديث: فإن كان خوف أشد من ذلك، صلوا رجالًا وركبانًا، مستقبلي القبلة وغير مستقبليها.
قال مالك: قال عن نافع: ما أرى عبد اللَّه ذكر ذلك إلا عن رسول اللَّه
ﷺ الحديث.
وأخبرنا عن ابن أبي ذئب، عن الزهري، عن سالم، عن أبيه.
١ / ٤١٦
قال الشَّافِعِي ﵀: ولا يجوز في صلاة مكتوبة، استقبال غير القبلة إلا
عند إطلال العدو على المسلمين، وذلك عند المسايفة وما أشبهها، ودنو
الزحف من الزحف، فيجوز أن يصفوا الصلاة في ذلك الوقت رجالًا أو ركبانًا، فإن قدروا على استقبال القبلة، وإلا صلّوا مستقبلي - القبلة - حيث يقدرون.
وإن لم يقدروا على ركوع ولا سجود أومؤوا إيماء. . . ولا يجوز لهم في واحد من الحالين، أن يصفوا على غير وضوء ولا تيمم، ولا ينقصون من عدد الصلاة شيئًا. . . وسواء أيُّ عدو أطل عليهم كفار، أم لصوص، أم أهل بغي، أم سباع، أم فحول إبل، لأن كل ذلك يخاف إتلافه.
الأم (أيضًا): باب (ما ينوب الإمام في صلاة الخوف):
قال الشَّافِعِي ﵀: وأذن اللَّه ﵎ في صلاة الخوف بوجهين
أحدهما:
أحدهما: الخوف الأدنى وهو قول اللَّه ﷿: (وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ) .
والثاني: الخوف الذي أشذ منه وهو قول اللَّه ﵎: (فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا) الآية، فلما فرّق بينهما، ودلت السنة على افتراقهما، لم يجز إلا التفريق بينهما - واللَّه تعالى أعلم -، لأن اللَّه فرّق بينهما لا فتراق الحالين فيهما.
١ / ٤١٧
الأم (أيضًا): الوجه الثاني من صلاة الخوف:
قال الشَّافِعِي ﵀: قال اللَّه ﵎: (حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ (٢٣٨) فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا) الآيتان، فكان بينًا في كتاب الله ﷿: (فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا) الآية، أنَّ الحال التي أذن لهم فيها أن يصلوا رجالًا أو ركبانًا، غير الحال التي أمر بها نبيه ﷺ يصلِّي بطائفة.
ثم بطائفة، فكان بيّنا لأنَّه: لا يؤذن لهم بأن يصلّوا رجالًا أو ركبانًا إلا في خوف أشد من الخوف الذي أمرهم فيه بأن يصلِّي بطائفة ثم بطائفة.
مختصر المزني: باب (استقبال القبلة ولا فرض إلا الخمس):
قال الشَّافِعِي ﵀: ولا يجوز لأحد صلاة فريضة، ولا نافلة، ولا
سجود قرآن، ولا جنازة، إلا متوجهًا إلى البيت الحرام، ما كان يقدر على رؤيته، إلا في حالتين:
إحداهما: النافلة في السفر راكبًا، وطويل السفر وقصيره سواء، ورُوي عن
ابن عمر ﵄ أن رسول الله ﷺ كان يصلي على راحلته في السفر، أينما توجهت به، وأنَّه ﷺ كان يوتر على البعير، وأنّ عليًا ﵁ -كان يوتر على
الراحلة.
قال الشَّافِعِي ﵀: وفي هذا دلالة على أن الوتر ليس بفرض، ولا
فرض إلا الخمس لقول النبي ﷺ للأعرابي حين قال: هل عليَّ غيرها. فقال النبي ﷺ: «إلا أن تطوع».
الحالة الثانية: شدة الخوف لقول اللَّه ﷿: (فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا) الآية.
١ / ٤١٨
قال ابن عمر ﵄: مستقبلي القبلة وغير مستقبليها، فلا
يُصلَّى في غير هاتين الحالتين إلا إلى البيت إن كان معاينًا فبالصواب، وإن كان مغيبًا فبالاجتهاد بالدلائل على صواب جهة القبلة.
الرسالة: وجه آخر من الناسخ والمنسوخ:
قال الشَّافِعِي ﵀: بعد ذكر حديث أبي سعيد الخدري في حبسهم عن
الصلاة يوم الخندق، الحديث.
فلما حكى أبو سعيد أن صلاة النبي ﷺ عام الخندق، كانت قبل أن يُنزل
في صلاة الخوف: (فَرِجَالًا أو رُكبَانًا) الآية، استدللنا على أنه لم يصل صلاة
الخوف إلا بعدها، إذ حضرها أبو سعيد، وحكى تأخير الصلوات حتى خرج
من وقت عامتها، وحكى أنَّ ذلك قبل نزول صلاة الخوف.
قال الشَّافِعِي ﵀: فلا تؤخر صلاة الخوف بحال أبدًا عن الوقت إن
كانت في حضر، أو عن وقت الجمع في السفر، بخوف ولا غيره، ولكن تصلى كما صلى رسول الله ﷺ.
* * *
قال الله ﷿: (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٤٠)
الأم: باب (الوصية للزوجة):
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: قال اللَّه ﵎: (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ) الآية، وكان فرض الزوجة، أن
١ / ٤١٩
يوصي لها الزوج بمتاع إلى الحول، ولم أحفظ عن أحد خلافًا أن المتاع: النفقة، والسكنى، والكسوة إلى الحول، وثبت لها السكنى فقال: (غَير إِخرَاجٍ)، ثم قال: (فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ)
الآية، فدل القرآن على أنهن إن خرجن فلا جناح على الأزواج؛ لأنَّهن تركن ما فرض لهن، ودلَّ الكتاب العزيز إذا كان السكنى لها فرضًا فتركت حقها فيه، ولم يجعل الله تعالى على الزوج حرجًا، أن من ترك حقه غير ممنوع له، لم يخرج من الحق عليه.
ثم حفظت عمن أرضى من أهل العلم، أن نفقة المتوفى عنها زوجها
وكسوتها حولًا منسوخ بآية المواريث.
الأم (أيضًا): عدة الوفاة:
قال الشَّافِعِي ﵀: قال اللَّه ﷿: (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ) الآية، قال: حفظتُ عن غير واحد من أهل العلم بالقرآن، أن هذه الآية نزلت قبل نزول آية المواريث، وأنها منسوخة، وحفظت أنَّ بعضهم يزيد على بعض - فيما يذكر - مما أحكي من معاني قولهم، وإن كنت قد أوضحت بعضه بكثر مما أوضحوه به، وكان بعضهم يذهب إلى أنَّها نزلت مع الوصية للوالدين والأقربين، وأن وصية المرأة محدودة بمتاع سنة، وذلك نفقتها وكسوتها وسكنها، وأن قد حظر على أهل زوجها إخراجها، ولم يحظر عليها أن تخرج، ولم يحرج زوجها ولا وارثه بخروجها، إذا كان غير إخراج منهم لها ولا هي، لأنها إنما هي تاركة لحق لها.
وكان مذهبهم أن الوصية لها بالمتاع إلى الحول، والسكنى منسوخة، بأن اللَّه ورثها الرُّبع، إن لم يكن لزوجها ولد، والسمن إن كان له ولد.
١ / ٤٢٠
الرسالة: الناسخ والمنسوخ الذصي تدل عليه السنة والإجماع:
قال الشَّافِعِي ﵀: قال اللَّه تعالى: (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ) الآية.
فأنزل اللَّه ميراث الوالدين، ومن وَرِثَ بعدهما
ومعهما من الأقربين، وميراثَ الزوج من زوجته، والزوجة من زوجها.
فكانت الآيتان محتملتين لأَنْ:
١ - تثبتا الوصية للوالدين والأقربين، والوصية للزوج، والميراث مع
الوصايا، فيأخذون بالميراث والوصايا.
٢ - ومحتملة بأن تكون المواريث ناسخة للوصايا.
فلما احتملت الآيتان ما وصفنا، كان على أهل العلم طلب الدلالة من
كتاب اللَّه، فما لم يجدوه نصًا في كتاب اللَّه، طلبوه في سنة رسول اللَّه، فإن
وجدوه فما قبلوا عن رسول اللَّه فعن اللَّه قبلوه، بما افترض من طاعته.
ووجدنا أهل الفُتيا، ومن حفظنا عنه من أهل العلم بالمغازي، من قريش
وغيرهم، لا يختلفون في أنَّ النبي ﷺ قال عام الفتح: «لا وصية لوارث، ولا يُقتل مؤمن بكافر» الحديث.
ويَأثِرونه عمُّن حفظوا عنه ممن لقوا من أهل العلم بالمغازي.
فكان هذا نقل عامة عن عامة، وكان أقوى في بعض الأمر من نقل واحد
عن واحد، وكذلك وجدنا أهل العلم عليه مجمعين.
١ / ٤٢١
قال الله ﷿: (وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (٢٤١)
الأم: المدَّعي والمدَّعي عليه:
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: - قلتُ مناقشًا لبعض من خالفنا - لِمَ تزعم
ب الآية أن المطلقات سواء في المتعة؛ وقال اللَّه ﷿: (وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ)
لم يخمن مطلقة دون مطلقة.
قال استدللنا بقول اللَّه ﷿: (حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ) الآية، أنها غير
واجبة، وذلك أن كل واجب، فهو على المتقين وغيرهم، ولا يُخص به المتقون.
الأم (أيضًا): تفسير قوله ﷿: (وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ):
أخبرنا الربيع قال:
أخبرنا الشَّافِعِي ﵀ قال: أخبرنا الثقة، عن أيوب، عن نافع، عن ابن
عمر ﵄ أنَّه كاتب عبدًا له خمسة وثلاثين ألفًا، ووضع عنه خمسة آلاف أحسبه قال: من آخر نجومه.
قال الشَّافِعِي ﵀: وهذا - واللَّه تعالى أعلم - عندي مثل قول اللَّه ﷿:
(وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ) الآية، فيجبر سيْد المكاتب على أن يضع عنه مما عقد عليه الكتابة شيئًا، وإذا وضع عنه شيئًا ما كان، لم يجبر على كثر منه.
١ / ٤٢٢
قال الله ﷿: (وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢٤٤)
الأم: أصل فرض الجهاد:
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: ولما مضت لرسول الله ﷺ مدة من هجرته، أنعم الله تعالى فيها على جماعة باتباعه، حدثت لهم بها مع عون الله قوة بالعدد، لم تكن قبلها، ففرض اللَّه تعالى عليهم الجهاد بعد إذ كان إباحة لا فرضًا، فقال ﵎: (وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) الآية.
أحكام القرآن: فصل في (فرض أصل الجهاد):
قال الشَّافِعِي ﵀: ففرض الله ﷿ عليهم الجهاد، بعد إذ كان إباحة لا فرضًا، فقال ﵎: (وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) الآية.
* * *
قال الله ﷿: (وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (٢٥٥)
الأم: كتاب (إبطال الاستحسان):
قال الشَّافِعِي ﵀: فعرَّف - الله تعالى - جميع خلقه في كتابه أن لا
علم لهم إلا ما عفمهم. . . فقال ﷿: (وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ) .
١ / ٤٢٣
ثم مَن عليهمْ بما آتاهم من العلم، وأمرهم بالاقتصار عليه، وألا
يتولوا غيره إلا بما علمهم.
الرسالة: القياس:
قال الشَّافِعِي ﵀: قلتُ: نعم ما وصفت لك مما كُلفتُ في القبلة، وفي
نفسي، وفي غيري، قال الله ﷿: (وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ) الآية، فآتاهم من علمه ما شاء، وكما شاء، لا معقب لحكمه، وهو سريع الحساب.
أحكام القرآن ما يؤثر عنه - الشَّافِعِي - في التفسير (في آيات متفرقة سوى ما مضى):
قال الشَّافِعِي ﵀: واستنبطت البارحة آيتين، فما أشتهي باستنباطهما
الدنيا وما فيها، الأولى: قول الله تعالى: (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ) . الآية.
وفي كتاب الله هذا كثير.
والثانية: قول الله تعالى: (مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ) الآية.
فَتَعَطلُ الشفعاء إلا بإذن الله.
* * *
قال الله ﷿: (فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ)
مناقب الشَّافِعِي: باب (ما جاء في خروجه إلى اليمن ومقامه بها، ثم في حمله
من اليمن إلى هارون، وما جرى بينه وبين محمد بن الحسن من المناظرة.
رحمهما الله):
قال البيهقي ﵀: وقرأت في كتاب (زكريا بن يحيى الساجي) فيما
حدثهم عن محمد بن إسماعيل، عن مصعب بن عمير الزبيري، في قصة قدوم
١ / ٤٢٤
الشَّافِعِي المدينة، واختلافه إلى الإمام مالك ﵀، ثم رجوعه إلى مكة.
وخروجه إلى اليمن، وسِعَاية من سعى به حتى حُمِل، ولم يُترَك أن يأخذ من
شعره وأظفاره، فلما وافى الرَّقة، لقي محمد بن الحسن فاتصل به، وكان معه
ستون دينارًا، فأعطى ورَّاقًا فكتب له كتبه، فجلس محمد بن الحسن يومًا في
مسجد الرقة، وجعل يزري بأهل الحجاز، فيقول: إيش يحسنون؛ وهل فيهم أحد يحسن مسألة؛ والشَّافِعِي في ناحية - فبلغه، فجاء وسلم عليه، وإن شاربه ليدخل في فمه - وذلك بحضرة الفضل بن الربيع. ..
فقال الشَّافِعِي ﵀: أما صاحبكم - يعني أبا حنيفة ﵀ فأعلم
الناس بما لم يكن ولا يكون أبدًا، وأجهلهم بالسنن.
فناظره في مسائل، فقال له: قد كثرت - والفضل يكتب ما جرى بينهما
- وكان فيما جرى بينهما يومئذ أن قال له الشَّافِعِي ﵀: ما تقول في صلاة الخوف، كيف يصليها الرجل؟
فقال محمد بن الحسن ﵀: منسوخة؛ قال اللَّه ﷿: (وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ) الآية.
فلما خرج رسول الله ﷺ، من بين
أظهرهم، لم تجب عليهم صلاة الخوف!
فقال له الشَّافِعِي: قال اللَّه تعالى: (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا) الآية.
فلما خرج رسول الله ﷺ، من بين أظهرهم لم تجب عليهم!
زاد فيه غيره، قال محمد بن الحسن ﵀: كلا بل تجب عليهم.
١ / ٤٢٥
فقال الشَّافِعِي ﵀: كلا بل تجب عليهم، ثم قال الشَّافِعِي: لا يُمكِّن
أحدًا من الخلق يُكلم أحدًا - وإن كان نبيًا مرسلا - حتى يذهب لسان الآخر، ولكن بحسبك أن يستبين عند ذوي الأقدار أنَّه قد قام بالحجة.
ألا ترى أن صاحب إبراهيم حيث قال له: (أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ) .
قال إبراهيم: (فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ)، قال اللَّه: (فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ) .
قال الشَّافِعِي ﵀: وكذلك بهت الذي ظلم؟
ودخل الفضل بن الربيع إلى الرشيد رحمهما الله فقال: يا أمير المؤمنين، ألا
أبشرك؟ ألا أقول لك شيئًا تقرُّ به عينك يا أمير المؤمنين؟ قال: وما هو؟ قال: رجل من آل شافع يُحسنُ كذا، وكان من مجلس قوم كذا، قرأ عليه ما جرى بينهم، فَسُرَّ بذلك هارون، فقال: اخرج إليه أعلمه أني قد رضيت عنه، وأعلمه بالرّضا قبل الصّلة، ثم صِلْهُ، قال: ثم خرج - الفضل - فأخبره، قال: فخرَّ الشَّافِعِي لله تعالى
ساجدًا، ثم قال: وقد وصَلَك أمير المؤمنين بمالٍ، وقد وصلتك بمثل ذلك.
قال: فدعا الشَّافِعِي ﵀ بالحجام، فأخذ شعر رأسه، فأعطاه خمسين دينارًا.
* * *
قال الله ﷿: (وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (٢٦٧)
الأم: باب (ما يحلُّ للناس أن يعطوا من أموالهم):
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: قال الله ﵎: (وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ) الآية، يعني - واللَّه أعلم -: تأخذونه لأنفسكم ئمن لكم عليه
١ / ٤٢٦
حق، فلا تنفقوا ما لا تأخذون لأنفسكم، يعني: لا تعطوا مما خبث عليكم -
واللَّه أعلم - وعندكم طيب.
قال الشَّافِعِي ﵀: فحرام على من عليه صدقة أن يعطي صدقة من شرها.
قال الربيع:
أخبرنا الشَّافِعِي قال: أخبرنا سفيان، عن داود بن أبي هند، عن الشعبي، عن جرير بن عبد اللَّه البجلي قال: قال رسول الله ﷺ: «إذا أتاكم المصدّق فلا يفارقكم إلا عن رضا» الحديث، يعني - والله أعلم -: أن يوفوه طائعين، ولا يلووه، لا أن يعطوه من أموالهم ما ليس عليهم، فبهذا نأمرهم، ونأمر المُصدّق.
مختصر المزني: باب (صدقة الوَرِق):
قال المزني (مُلخِصًا كلام الشَّافِعِي ﵀: وحرام أن يؤدي الرجل
الزكاة من شر ماله: لقول اللَّه ﷿: (وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ) الآية، يعني - واللَّه أعلم - لا تعطوا في الزكاة ما
خبث أن تأخذوه لأنفسكم، وتئركوا الطيب عندكم.
* * *
قال الله ﷿: (إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ)
مختصر المزني: باب (عطيلا الرجل لولده):
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: وقد حمد اللَّه جل ثناؤه على إعطاء المال، والطعام، في وجوه الخير، وأمر بهما. . فقال:
(إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ) الآية.
١ / ٤٢٧
قال الله ﷿: (لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ)
أحكام القرآن: ما يؤثر عنه - الشَّافِعِي - في التفسير (في آيات متفرقة سوى ما مضى):
قال البيهقي ﵀:
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: في قوله ﷿ (عَلَيكُم أَنفُسَكم) الآية.
قال: هذا مثل قوله تعالى: (لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ) الآية.
ومثل قوله ﷿: (فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ) الآية.
ومثل هذا في القرآن على ألفاظ.
* * *
قال الله ﷿: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا)
١ / ٤٢٨
أخبرنا الشَّافِعِي ﵀ قال: قال الله ﵎: (لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ) الآية.
وقال اللَّه تعالى: (وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا) الآية.
قال الشَّافِعِي ﵀: وذكر اللَّه البيع في غير موضع من كتابه، بما يدل
على إباحته، فاحتمل إحلال اللَّه ﷿ البيع، معنيين:
أحدهما: أن يكون أحلّ كلّ بيع تبايعه المتبايعان، جائزي الأمر فيما
تبايعاه عن تراض منهما، وهذا أظهر معانيه.
والثاني: أن يكون اللَّه ﷿ أحل البيع إذا كان مما لم ينه عنه رسول الله ﷺ.
المبيَِّن عن اللَّه ﷿ معنى ما أراد، فيكون هذا من الجمل التي أحكم اللَّه فرضها بكتابه، وبيَّن كيف هي على لسان نبيه، أو من العام الذي أراد به الخاص، فبيَّن رسول اللَّه ﷺ ما أريد بإحلاله منه وما حرّم، أو يكون داخلًا فيهما، أو من العام
الذي أباحه إلاّ ما حرُم على لسان نبيه ﷺ منه، وما في معناه.
قال الشَّافِعِي ﵀: فأصل البيوع كلها مباح إذا كانت برضا المتبايعين.
الجائزي الأمر فيما تبايعا إلا ما نهى رسول الله ﷺ منها، وما كان في معنى ما نهى عنه رسول الله ﷺ محرّم بإذنه، داخل في المعنى المنهي عنه، وما فارق
ذلك أبحناه بما وصفنا من إباحة البيع في كتاب اللَّه.
الأم (أيضًا): باب في: (بيع العروض):
قال الشَّافِعِي ﵀: قال اللَّه تعالى: (وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا) الآية.
وقال: (لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ) .
١ / ٤٢٩
فكلُّ بيع كان عن تراضٍ من المتبايعين جائز من الزيادة.
في جميع البيوع، إلا بيعًا حرُّمه رسول الله ﷺ إلا الذهب والوَرقِ يدًا بيد، والمأكول، والمشروب في معنى المأكول، فكل ما أكل الآدميون وشربوا، فلا يجوز أن يباع منه شيء من صنفه إلا مثلًا بمثل، إن كان وزنًا فوزن، وإن كان كيلًا
فكيل، يدًا بيد، وسواء في ذلك الذهب والوَرقِ وجميع المأكول، فإن تفرقا قبل أن يتقابضا فسد البيع بينهما.
الأم (أيضًا): باب (الشهادة في البيوع):
قال الشَّافِعِي ﵀: فإن الذي يشبه - والله أعلم وإياه أسال التوفيق
- أن يكون دلالة، لا حتمًا، يخرج من ترْكِ الإشْهَاد، فإن قال: ما دلَّ على ما وصفت؟
قيل: قال اللَّه ﷿: (وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا) الآية، فذكر أن
البيع حلال، ولم يذكر معه بينة.
الأم (أيضًا): (الغصب):
قال الشَّافِعِي ﵀: وقال تعالى: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا) الآية، فلم أعلم أحدًا من المسلمين، خالف
في لأنَّه لا يكون على أحد أن يملك شيئًا إلَّا أن يشاء أن يملكه إلا الميراث، فإن اللَّه ﷿ نقل مِلْكَ الأحياء، إذا ماتوا إلى أمن، ورُّثهم إياه، شاؤوا أو أبوا، ألا ترى أن الرجل لو أوصيَ له، أو وُهبَ له، أو تصدق عليه، أو ملك شيئًا، لم يكن عليه أن يملكه إلا أن يشاء، ولم أعلم أحدًا من المسلمين اختلفوا، في ألَّا
١ / ٤٣٠
يخرج ملك المالك المسلم من يديه إلا بإخراجه إياه هو نفسه، ببيع، أو هبة، أو غير ذلك، أو عتق، أو دين لزمه، فيباع في ماله، وكل هذا فعله لا فعل غيره.
الأم (أيضًا): كراء الأرض البيضاء:
قال الشَّافِعِي ﵀: ولو تكارى الأرض بالثمرة دون الأرض والشجر.
فإن كانت الثمرة قد حل بيعها، جاز الكراء بها، وإن كانت لم يحل بيعها، ل
يحل الكراء بها، قال اللَّه ﵎: (لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ) الآية.
وقال ﷿: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا) الآية، فكانت الآيتان مطلقتين على إحلال البيع كله، إلا أن تكون دلالة من رسول الله ﷺ، أو
في إجماع المسلمين، الذين لا يمكن أن يجهلوا معنى ما أراد اللَّه، تخص تحريم بيع دون بيع، فنصير إلى قول النبي ﷺ فيه؛ لأنه المبين عن الله ﷿ معنى ما أراد الله خاصًَا وعامًا، ووجدنا الدلالة عن النبي ﷺ بتحريم شيئين:
أحدهما: التفاضل في النفد.
والآخر: النسيئة كلها.
الرسالة: ما أبان الله لخدقه من فرضه على رسوله اتباع ما أوحى إليه:
قال الشَّافِعِي ﵀ ومنهم من قال -: لم يُسن سُنةُّ قط إلَّا ولها أصل
في الكتاب، كما كانت سنته لتبيين عدد الصلاة وعملها، على أصل جملة فرض الصلاة، وكذلك ما سنَّ من البيوع وغيرها من الشرائع؛ لأن الله قال:
١ / ٤٣١
(لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ) الآية.
وقال: (وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا) الآية، فما أحل وحَرم فإنَّما بَين فيه عن الله، كما بيَّن الصلاة.
ومنهم من قال: بل جاءته به رسالة اللَّه، فأثبتت سنته بفرض الله.
ومنهم من قال: ألقي في رُوعه كل ما سَن، وسنته الحكمة: الذي ألقي
في رُوعه عن اللَّه، فكان ما ألقي في رُوعه سُنته.
الرسالة (أيضًا): ابتداء الناسخ والمنسوخ:
قال الشَّافِعِي ﵀: فإن قال قائل: هل تنسخ السنة بالقرآن؟
قيل: لو نسخت السنة بالقرآن، كانت للنبي ﷺ فيه سنة، تبين أن سنته الأولى منسوخة بسنته الآخرة، حتى تقوم الحجة على الناس، بأن الشيء يُنسخ بمثله.
فإن قال قائل: ما الدليل على ما تقول؟
قلت: فما وصفت من موضعه
من الإبانة عن اللَّه معنى ما أراد بفرائضه، خاصًا وعامًا، مما وصفت في كتابي
هذا.
وأنه لا يقول أبدًا بشيء إلا بحكم اللَّه، ولو نسخ اللَّه مما قال حكمًا لَسَن
رسول اللَّه فيما نسخه سُنة، ولو جاز أن يقال: قد سنَّ رسول الله ﷺ ثم نسَخ - اللَّه - سنته بالقرآن، ولا يؤثر عن رسول اللَّه السنة الناسخة، جاز أن يقال فيما حَرم رسول الله ﷺ من البيوع كلها؛ قد يحتمل أن يكون حرَّمها قبل أن ينزل
عليه: (وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا) الآية.
١ / ٤٣٢
الرسالة (أيضًا): الفرض المنصوص الذي دلَّت السنة على أئه إنَّما أراد به
الخاصن:
قال الشَّافِعِي ﵀: وقال الله تعالى: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا) الآية.
ونهى رسول الله ﷺ عن بيوع تراضى بها المتبايعان فحُرِّمت، مثل الذهب بالذهب إلا مثلًا بمثلِ، ومثل الذهب بالوَرِق، وأحدهما نقد، والآخر نسيئة، وما كان في معنى هذا، مما ليس في التبايع به مخاطرةْ، ولا أمر يجهله البائع ولا المشتري.
فدلَّت السنة على أنَّ اللَّه جل ثناؤه أراد بإحلال البيع ما لم يُحَرِّم منه، دونَ
ما حَرم على لسان نبيه ﷺ.
ثم كانت لرسول اللَّه ﷺ في البيوع سوى هذا سننًا، منها: العبد يباع وقد دلس البائعُ المشتري بعيب، فللمشتري رده، وله الخراج بضمانه.
ومنها: أن من باع عبدًا وله مال، فماله للبائع إلا أن يشترط البتاع.
ومنها: من باع نخلًا قد أُبِّرت، فثمرها للبائع إلا أن يشترط المبتاع، لزم
الناسَ الأخذ بها، بما ألزمهم اللَّه من الانتهاء إلى أمره.
الرسالة (أيضًا): باب (العلل في الأحاديث):
قال الشَّافِعِي ﵀: وذكرتُ له قول اللَّه تعالى: (وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا) الآية، وقوله: (لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ) الآية، ثم حرم رسول الله ﷺ بيوعًا، منها:
١ / ٤٣٣
الدنانير بالدراهم إلى أجل وغيرها، فحرَّمها المسلمون بتحريم رسول الله ﷺ.
فليس هذا ولا غيره خلافًا لكتاب اللَّه.
قال: فَحُذَ لي معنى هذا بأجمع منه وأخصر.
فقلت له: لا كان في كتاب اللَّه دلالة على أن اللَّه قد وضع رسوله موضع
الإبانة عنه، وفرض على خلقه اتباع أمره فقال: (وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا) الآية، فإنَّما يعني: أحل اللَّه البيع إذا كان على غير ما نهى الله عنه في كتابه أو على لسان نبيه ﷺ.
وقال الشَّافِعِي ﵀: وأن يقال في البيوع التي حرم رسول الله ﷺ
إنما حرمها قبل التنزيل فلما أنزلت: (وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا) الآية.
كانت حلالًا.
والربا: أن يكون للرجل على الرجل الدَّين فَيَحِل فيقول: أتقضي أم تربي؟
فيؤخرُ عنه ويزيده في ماله، وأشباهٌ لهذا كثيرة.
فمن قال هذا، كان مُعطلًا لعامة سنن رسول الله ﷺ وهذا القول جهل ممن قاله. قال: أجل.
مناقب الشَّافِعِي: باب (ما يستدل به على معرفة الشَّافِعِي ﵀ بتفسير
القرآن ومعانيه، وسبب نزوله):
أخبرنا أبو عبد اللَّه الحافظ قال: حدثنا أبو العباس بن يعقوب قال: أنبأنا
الربيع بن سليمان قال:
قال الشَّافِعِي ﵀: في قوله تعالى: (وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا)
الآية، فإنما يعني: أحل اللَّه البيع إذا كان على غير ما نهى الله عنه في كتاَبه، أو على لسان نبيه ﷺ.
١ / ٤٣٤
قال الله ﷿: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٢٧٨)
وقال الله ﷿: (وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ)
الأم: الحكم بين أهل الجزية:
قال الشَّافِعِي ﵀: قال الله ﵎ في المشركين بعد إسلامهم: (اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)
وقال: (وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ) الآية.
فلم يأمرهم برد ما بقي من الربا، وأمرهم بأن لا يأخذوا ما لم يقبضوا منه.
ورجعوا إلى رؤوس أموالهم، وأنفذ رسول الله ﷺ نكاح المشرك بما كان قبل حكمه وإسلامهم وكان مقتضيًا، ورد ما جاوز أربعًا من النساء؛ لأنَّهن بواق، فتجاوز عما مضى كله في حكم اللَّه ﷿، وحكم رسوله ﷺ.
الأم (أيضًا): الحربي يسلم وعنده أكثر من أربع نسوة:
قال الشَّافِعِي ﵀: قال الله ﷿: (اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) إلى قوله: (تُظْلَمُونَ) الآيتان.
فعفا رسول الله ﷺ عما قبضوا من الربا، فلم يأمرهم برده، وأبطل ما أدرك حكم الإسلام من الربا، ما لم يَقبِضوه، فأمرهم بتركه، وردهم إلى رؤوس أموالهم التي كانت حلالًا لهم، فجمع حكم اللَّه، ثم حكم رسول الله ﷺ في الربا.
أن عفا عما فات، وأبطل ما أدرك الإسلام، فكذلك حكم رسول الله ﷺ في
١ / ٤٣٥
النكاح، كانت العقدة فيه ثابتة فعفاها، وكثر من أربعة نسوة مدركات في
الإسلام، فلم يعفهن.
قال الشَّافِعِي ﵀: أخبرنا الثقة (وأحسبه ابن علية)، عن معمر، عن
ابن شهاب، عن سالم، عن أبيه، أن غيلان بن سلمة أسلم وعنده عشر نسوة، فقال له رسول الله ﷺ: «أمسك أربعًا وفارق سائرهن» الحديث.
الأم (أيضًا): في قطع الشجر وحرق المنازل:
قال الشَّافِعِي ﵀: أربى أهل الجاهلية في الجاهلية، ثم سألوا رسول اللَّه
ﷺ فأنزل اللَّه ﵎: (اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) .
وقال في سياق الآية: (وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ) الآيتان، فلم يبطل
عنهم رؤوس أموالهم إذا لم يتقابضوا، وقد كانوا مُقرِّين بها، ومستيقنين في
الفضل فيها، فأهدر رسول الله ﷺ لهم ما أصابوا، من دم أو مال؛ لأنَّه كان على وجه الغصب، لا على وجه الإقرار به.
الأم (أيضًا): الصداق:
قال الشَّافِعِي ﵀: وإن كان الصداق محرّمًا، مثل: الخمر وما أشبهه، فلم تقبضه فلها مهر مثلها، وإن قبضته بعد ما أسلم أحد الزوجين فلها مهر مثلها، وليس لمسلم أن يعطي خمرًا، ولا لمسلم أن يأخذه، وإن قبضته وهما مشركان فقد
١ / ٤٣٦
مضى، وليس لها غيره؛ لأن الله ﷿ يقول: (اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا) الآية، فأبطل ما أدرك الإسلام، ولم يأمرهم برد ما كان قبله من الربا، فإن كان أرطال خمر، فأخذت نصفه في الشرك وبقي نصفه، أخذت منه نصف صداق مثلها.
الأم (أيضًا): البَحيرة والوصيلة والسائبة والحام:
قال الشَّافِعِي ﵀: فإن قال قائل: أفتوجدني في كتاب الله ﷿ في غير هذا بيانًا؛ لأن الشرط إذا بطل في شيء، أخرجه إنسان من ماله بغير عتق بني آدم، ورجع إلى أصل مُلكه؟
قيل: نعم. قال الله عز ذكره: (اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا)
وقال ﷿: (وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ) الآيتان، وفي الإجماع: أن من باع بيعًا فاسدًا فالبائع على أصل
ملكه، لا يخرج من ملكه إلَّا والبيع فيه صحيح، والمرأة تنكح نكاحًا فاسدًا، هي على ما كانت عليه، لا زوج لها.
الأم (أيضًا): ما قتل أهل دار الحرب من المسلمين فأصابوا من أموالهم:
قال الشَّافِعِي ﵀: وقال اللَّه ﵎: (وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا)
الآية، ولم يأمرهم برد ما مضى منه، وقتل وحشي ﵁ حمزة ﵁، فأسلم فلم يُقَدْ منه، ولم يتبع له بعقل، ولم يؤمر له بكفارة، لطرح الإسلام ما فات في الشرك. ..
ودلت السنة عن رسول الله ﷺ على أنَّه يُطرح عنهم ما بينهم وبين اللَّه - عز ذكره - والعباد.
وقال رسول الله ﷺ: «الإيمان يجبُّ ما كان قبله» الحديث.
١ / ٤٣٧
قال الله ﷿: (وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٢٨٠)
الأم: التفليس:
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: قال الله ﵎: (وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ) الآية، وقال رسول الله ﷺ:
«مَطلُ الغي ظُفمً» الحديث.
فلم يجعل على ذي دين سبيلًا في العسرة حتى تكون الميسرة، ولم يجعل رسول
الله ﷺ مَطْله ظلمًا إلا بالغنى، فإذا كان معسرًا فهو ليس ممن عليه سبيل إلا أن يوسر، وإذا لم يكن عليه سبيل فلا سبيل على إجارته؛ لأن إجارته عمل بدنه.
وإذا لم يكن على بدنه سبيل، وإنما السبيل على ماله، لم يكن إلى استعماله سبيل، وكذلك لا يحبس؛ لأنَّه لا سبيل عليه في حاله هذه.
الأم (أيضًا): باب (ما جاء في حبس المفلس):
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: ولا يؤخذ الحر في دين عليه إذا لم يوجد له
شيء، ولا يحبس إذا عرف أن لا شيء له؛ لأن الله ﷿ يقول:
(وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ) الآية.
١ / ٤٣٨
مختصر المزني: باب (جواز حبس من عليه الدين):
قال الشَّافِعِي ﵀: وإذا ثبت عليه الدين، ييع ما ظهر له، ودُفِع، ولم
يحبس، وإن لم يظهر، حُبس، وبيع ما قُدر عليه من ماله، فإن ذكر عُسره، قُبلتْ منه البيّنة، لقول اللَّه ﷿: (وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ) الآية، وأحلّفه مع ذلك بالله، وأخليه، ومنعت غرماءه من لزومه، حتى تقوم بيّنة أن قد أفاد مالًا.
قال الله ﷿: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ)
الأم: باب (بيع الآجال):
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: فلا يجوز البيع إلى العطاء، ولا إلى الحصاد.
ولا إلى الجداد؛ لأن ذلك يتقدم ويتأخر، وإنَّما قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ) الآية.
١ / ٤٣٩
الأم (أيضًا): باب (الشهادة في البيوم):
قال الشَّافِعِي ﵀: وقال ﷿ في آية الدين: (إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ) الآية، والدين تبايع، وقد أمر فيه بالإشهاد، فبين المعنى الذي أمر له به، فدلَّ ما بين اللَّه ﷿ في الدين، على أن اللَّه ﷿ إنَّما أمر به على النظر والاحتياط، لا على الحتم، قلتُ: قال اللَّه تعالى:
(إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ) الآية.
الأم (أيضًا): باب (السلف والمراد به السْلم):
قال الشَّافِعِي ﵀: قال اللَّه تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ) إلى قوله:
(وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ) الآية، فلما أمر اللَّه ﷿ بالكتاب ثم رخص في الإشهاد إن كانوا على سفر، ولم يجدوا كاتبًا احتمل أن يكون فرضًا، واحتمل أن يكون دلالة، فلما قال اللَّه جل ثناؤه: (فَرِهَانٌ مقبُوضَة) الآية.
والرهن غير الكتاب والشهادة، ثم قال: (فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ) الآية، دلَّ كتاب اللَّه ﷿ على أن أمره بالكتاب، ثم الشهود، ثم الرهن إرشادًا؛ لا فرضًا عليهم؛ لأن قوله: (فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ) الآية، إباحة لأنْ يأمن بعضهم بعضًا، فيدع الكتاب والشهود والرهن.
١ / ٤٤٠
قال الشَّافِعِي ﵀: وأحِبُّ الكتاب والشهود؛ لأنَّه إرشاد من الله.
ونظر للبائع والمشتري،. . . إلى أن قال: ومن تركه - الكتاب والشهود - فقد ترك حزمًا وأمرًا لم أحبّ تركه، من غير أن أزعم أنَّه محرم عليه بما وصفت من الآية بعدها.
وقال الشَّافِعِي ﵀: وقول اللَّه تعالى: (إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ) الآية، يحتمل كل دين، ويحتمل السلف خاصة، وقد ذهب فيه ابن
عباس ﵄ إلى أنَّه في السلف.
أخبرنا الشَّافِعِي قال: أخبرنا سفيان، عن أيوب، عن قتادة، عن أبي حسان
الأعرج، عن ابن عباس ﵄ قال: أشهد أن السلف المضمون إلى
أجل مسمى، قد أحلّه اللَّه تعالى في كتابه، وأذن فيه، ثم قال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ) الآية.
قال الشَّافِعِي ﵀: وإن كان كما قال ابن عباس في السلف، قلنا به في
كل دين قياسًا عليه؛ لأنَّه في معناه، والسلف جائز في سنة رسول الله ﷺ، والآثار، وما لا يختلف فيه أهل العلم علمته.
الأم (أيضًا): باب (الشهادة في الدين):
قال الشَّافِعِي ﵀: قال الله ﷿: (إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُهُ) الآية والتي بعدها، وقال في سياقها: (وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى) .
١ / ٤٤١
وذكر اللَّه شهود الدَّين فذكر فيهم النساء، وكان الدَّين أخذ مال من الشهود عليه، والأمر على ما فرق اللَّه بينه من الأحكام في الشهادات، أن ينظر كل ما شهد به على أحد، فكان لا يؤخذ منه بالشهادة نفسها مال، وكان إنَّما يلزم بها حق غير مال، أو شهد به
رجل، وكان لا يستحق به مالًا لنفسه، إنما يستحق به غير مال، مثل: الوصية والوكالة والقصاص والحد وما أشبهه، فلا يجوز فيه إلا شهادة الرجال، لا يجوز فيه امرأة، وينظر كل ما شهد به مما أخذ به المشهود له من المشهود عليه مالًا فتجوز فيه شهادة النساء مع الرجال؛ لأنه معنى الموضع الذي أجازهن اللَّه فيه، فيجوز قياسًا لا يختلف هذا القول، فلا يجوز غيره - واللَّه تعالى أعلم -.
ومن خالف هذا الأصل ترك عندي ما ينبغي أن يلزمه من معنى القرآن، ولا أعلم لأحد خالفه حجة فيه بقياس، ولا خبر لازم، وفي قول الله ﷿: (فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى) الآية، دلالة على أن لا تجوز شهادة النساء حيث نجيزهن إلا مع رجل، ولا يجوز منهن إلا امرأتان فصاعدًا؛ لأن اللَّه ﷿ لم يسم منهن أقل من اثنتين، ولم يأمر بهن اللَّه إلا مع رجل.
الأم (أيضًا): باب (ما على من دُعيَ يشهد بشهادة قبل أن يسألَها):
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: قال اللَّه ﷿: (إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ) إلى قوله: (وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا) الآية.
١ / ٤٤٢
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: في قول اللَّه ﷿: (وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ) الآية، دلالة على: أن عليه فيما علمه الله من الكتاب حقًا في منفعة المسلمين، ويحتمل ذلك الحق أن يكون كلما دُعي لحق كتبه لا بد، ويحتمل أن يكون عليه وعلى من هو في مثل حاله، أن يقوم منهم من يكفي حتى لا تكون الحقوق معطلة، لا يوجد لها في الابتداء من يقوم بكفايتها، والشهادة عليها
فيكون فرضًا لازمًا على الكفاية، فإذا قام بها من يكفي، أخرج من يتخلف من المأثم، والفضل للكافي على المتخلف، فإذا لم يقم به كان حرج جميع من دُعي إليه، فتخلف بلا عذر.
فلما احتمل هذين المعنيين معًا، وكان في سياق الآية: (وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا) الآية، كان فيها كالدليل على: أنَّه نهى الشهداء المدعوون كلفم أن
يابوا، قال: (وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ) الآية، فأشبه أن يكون يُحرج من ترك ذلك ضرارًا، وفرض القيام بها في الابتداء على الكفاية، وهذا يشبه والله تعالى أعلم ما وصفت من الجهاد، والجنائز، ورد السلام، وقد حفظت عن بعض أهل العلم قريبًا من هذا المعنى، ولم أحفظ خلافه عن أحد أذكره منهم.
الأم (أيضًا): باب (الحجر على البالغين):
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: الحجر على البالغين في آيتين من كتاب الله
. وهما: قول الله ﵎: (فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ) الآية.
١ / ٤٤٣
قال الشَّافِعِي ﵀: وإنَّما خاطب اللَّه ﷿ بفرائضه البالغين من الرجال والنساء، وجعل الإقرار له، فكان موجودًا في كتاب اللَّه ﷿، أن أمر اللَّه تعالى الذي عليه الحق، أن يمل هو، وأن إملاءه: إقراره.
وهذا يدل على جواز الإقرار على من أقر به، ولا يأمر - والله أعلم -
أحدًا أن يمل ليقر إلا البالغ، وذلك أن إقرار غير البالغ، وصمته، وإنكاره سواء عند أهل العلم، فيما حفظت عنهم، ولا أعلمهم اختلفوا فيه.
ثم قال في المرء الذي عليه الحق أن يملَّ: (فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ) الآية.
وأثبت الولاية على السفيه، والضعيف، والذي لا يستطيع أن يمل هو، وأمر
وليه بالإملاء عليه، لأنَّه أقامه فيما لا غناء عنه من ماله مقامه.
قال الشَّافِعِي ﵀: قد قيل: والذي لا يستطيع أن يمل يحتمل أن يكون
المغلوب على عقله، وهو أشبه معانيه - والله أعلم -.
والآية الأخرى: قول الله ﵎: (وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ) الآية.
قال الشَّافِعِي ﵀: وهكذا قلنا: نحن وهم في كل أمر يكمل بأمرين، أو
أمور، فإذا نقص واحد لم يقبل، فزعمنا أن شرط الله تعالى:
(مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ) الآية: عدلان، حران، مسلمان، فلو كان الرجلان حرين، مسلمين غير عدلين، أو عدلين غير حرين، أو عدلين حرين غير مسلمين، لم تجز شهادتهما حتى يستكملا الثلاث.
١ / ٤٤٤
الأم (أيضًا): تفريع ما يمنع من أهل الذمة:
قال الشَّافِعِي ﵀: فإن قال قائل: فكيف لا تجيز شهادة - أهل الذمة
- بعضهم على بعض، وفي ذلك إبطال الحكم عنهم؟
قيل: قال اللَّه ﷿: (وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ)
وقال: (مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ) الآية، فلم يكونوا من رجالنا، ولا ممن نرضى من الشهداء، فلما وصف الشهود منا، دلَّ على أنَّه لا يجوز أن نقضي بشهادة شهود من غيرنا، لم يجز أن نقبل شهادة غير مسلم، أما إبطال حقوقهم فلم نبطلها، إلا إذا لم يأتنا ما يجوز فيه.
الأم (أيضًا): المدَّعي والمدعَى عليه:
قال الشَّافِعِي ﵀: والذي جاء عنه - عن رسول الله ﷺ من اليمين مع الشاهد، ليس يخالف حكم الكتاب.
قال: ومن أين؟
قلنا: قال الله ﷿: (وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ)
الآية، فكان هذا محتملًا أن يكون: دلالة من اللَّه ﷿ على ما تتم به شهادة.
الأم (أيضًا): شهادة النساء:
قال الشَّافِعِي ﵀: لا تجوز شهادة النساء إلا في موضعين:
١ / ٤٤٥
الموضع الأول: في مال يجب للرجل على الرجل، فلا يجوز من
شهادتهن شيء، وإن كثرن، إلا ومعهن رجل شاهد، ولا يجوز منهن أقل من
اثنتين مع الرجل فصاعدًا، ولا نجيز اثنتين ويحلف معهما؛ لأن شرط الله ﷿ الذي أجازهما فيه مع شاهد، يشهد بمثل شهادتهما لغيره، قال الله ﷿: (فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ) الآية.
أما الموضع الثاني: حيث لا يرى الرجل من عورات النساء، فإنهن يجزن
فيه منفردات، ولا يجوز منهن أقلّ من أربع إذا انفردن، قياسًا على حكم الله
﵎ فيهن؛ لأنه جعل اثنتين تقومان مع الرجل مقام الرجل، وجعل
الشهادة شاهدين أو شاهدًا وامرأتين.
فإن انفردن فمقام شاهدين أربع، وهكذا كان عطاء يقول: أخبرنا مسلم.
عن ابن جريج، عن عطاء.
الأم (أيضًا): الشهادة على الشهادة وكتاب القاضي:
قال الشَّافِعِي ﵀: قال اللَّه تعالى: (مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ) الآية.
وليس الفاسق واحدًا من هذين، فمن قضى بشهادته، فقد خالف حكم اللَّه ﷿، وعليه ردّ قضائه، وردّ شهادة العبد، إنَّما هو تأويل ليس ببئني، واتباع بعض أهل العلم.
١ / ٤٤٦
الأم (أيضًا): باب (في الدَّين):
قال الشَّافِعِي ﵀: قال الله ﷿: (وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ)
الآية، وقال: (مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ) الآية.
أخبرنا الربيع قال:
أخبرنا الشَّافِعِي قال: أخبرنا مسلم بن خالد، عن ابن أبي نَجيح، عن
مجاهد أنه قال: عدلان، حران، مسلمان. ثم لم أعلم من أهل العلم مخالفًا في أن هذا معنى الآية.
قال الشَّافِعِي ﵀: ولا يقبل القاضي شهادة شاهد حتى يعرف
عدله، طعن فيه الخصم، أو لم يطعن، ولا تجوز شهادة الصبيان، بعضهم على بعض في الجراح ولا غيرها، قبل أن يتفرقوا، ولا بعد أن يتفرقوا؛ لأنَّهم ليسوا من شرط الله الذي شرطه في قوله: (مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ) الآية، وهذا قول ابن عباس ﵄، وخالفه ابن الزبير ﵄ وقال: نجيز شهادتهم إذا لم يتفرقوا.
وقول ابن عباس ﵄ أشبه بالقرآن، والقياس.
الأم (أيضًا): باب (إبطال الاستحسان):
قال الشَّافِعِي ﵀: قال اللَّه ﷿: (وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ) الآية، وقال (مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ) الآية، فكان على الحكام، ألَّا يقبلوا إلا
١ / ٤٤٧
عدلًا في الظاهر، وكانت صفات العدل عندهم معروفة وقد وصفتها في غير هذا الموضع.
وقد يكون في الظاهر عدلًا، وسريرته غير عدل، ولكن الله لم يكلفهم ما لم
يجعل لهم السبيل إلى علمه، ولم يجعل لهم - إذ كان يمكن - إلاّ أن يردوا مَنْ ظَهَرَ منه خلاف العدل عندهم.
وقد يمكن أن يكون الذي ظهر منه خلاف العدل خيرًا عند اللَّه ﷿، من الذي ظهر منه العدل، ولكن كُلفوا أن يجتهدوا على ما يعلمون من الظاهر الذي لم يؤتوا أكثر منه.
الأم (أيضًا): الطعام والشراب:
قال الشَّافِعِي ﵀: فإن قال قائل: فهل للحَجْر في القرآن أصل يدلّ
عليه؟
قيل: نعم، - إن شاء اللَّه - قال الله ﷿: (فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ) الآية.
الأم (أيضًا): باب (السلف والمراد به: السلم):
قال الشَّافِعِي ﵀: وقول الله جلَ ذكره: (وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا) الآية، يحتمل: ما وصفتُ من أن لا يأبى كل شاهد ابتدئ فيُدعى ليشهد.
ويحتمل: أن يكون فرضًا على من حضر الحق، أن يشهد منهم من فيه كفاية
للشهادة، فإذا شهدوا، أخرجوا غيرهم من المأثم، وإن ترك من حضر الشهادة خفت حرجهم، بل لا أشكَ فيه، وهذا أشبه معانيه به - واللَّه تعالى أعلم -.
١ / ٤٤٨
قال الشَّافِعِي ﵀: فأمّا من سبقت شهادته، بأن أشهِد أو علم حقًا
لمسلم، أو معاهد، فلا يسعه التخلف عن تأدية الشهادة متى طلبت منه في موضع مقطع الحق.
مختصر المزئي: كتاب (الوكالة):
قال الشَّافِعِي رعه الله: وقال تعالى (فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ) الآية، ووليه عند
الشَّافِعِي: هو القيم بماله.
مختصر المزني (أيضًا): باب (الدعوى والبينات):
قال الشَّافِعِي ﵀: وقال - سبحانه - في الدين: (وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ) الآية، فكان حكمه في الدين يقبل بشاهدين، أو شاهد وامرأتين، ولا يقال لشيء من هذا مختلف، على أن بعضه ناسخ لبعض، ولكن يقال: مختلف على أن كل واحد منه غير صاحبه.
مختصر المزني (أيضًا): باب الخلاف في هذه الأحاديث:
قال الشَّافِعِي ﵀: قال اللَّه ﵎: (شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ) الآية، فقلت له: لست أعلم في هذه الآية
تحريم أنَّ يجوز أقل من شاهدين بحال.
١ / ٤٤٩
أحكام القرآن: ما يؤثر عنه - الشافعى - في القضايا والشهادات:
قال البيهقي ﵀: أخبرنا أبو سعيد بن أبي عمرو، أخبرنا أبو العباس
الأصم، أخبرنا الربيع قال:
قال الشَّافِعِي ﵀: قال اللَّه ﵎: (وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ) الآية، يحتمل: أن يكون حتمًا على من دُعي لكتابِ، فإن
تركه تارك: كان عاصيًا.
ويحتمل: أن يكون على من حضر من الكُتَّاب، ألَّا يُعطلوا كتاب حق بين
رجلين، فإذا قام به واحد، أجزأ عنهم.
آداب الشَّافِعِي: ما ذكر من مناظرة الشَّافِعِي لمحمد بن الحسن وغيره:
أخبرنا أبو الحسن، أخبرنا أبو محمد قال: أخبرني أبي، حدثنا محمد بن
عبد الله بن عبد الحكم قال:
أخبرنا الشَّافِعِي قال: حضرت مجلسًا فيه جماعة: فيهم رجل يقال له: سفبان
ابن سَخبَان فقلت ليحيى بن البناء، وكان حاضرًا، كيف فِقهُ هذا؟
فقال لي: هو حسن الإشارة بالأصابع، ثم قال لي: تحبُّ أن تسمعه؟
قلت: نعم.
فقال: يا أبا فلان، رأيت شيئًا: أعجَبَ من إخواننا - من أهل المدينة - في
قضاياهم باليمين مع الشاهد؛ إنّ اللَّه ﷿ أمر بشاهدين، فنص على القضية، ثم قال: (فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ) ثم أكد
١ / ٤٥٠
ذلك فقال: (أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى) الآية، فبين الله ﷿: أنَّه لا تتم الشهادة إلا برجلين، وامرأتين فقالوا: يُقضى برجل واحد ويمين صاحب الحق؟!
فقال: نعم، إنهم يقولون: من هذا ما هو خلاف القرآن.
فقال له يحيى: احتجوا فقالوا: إن رسول الله ﷺ أعلم بمعنى كتاب اللَّه، وقد رووا عنه أنه قضى باليمين مع الشاهد، ورووا ذلك عن علي بن أبي طالب ﵁. ..
فقال ابن سخبان: لا يُقبل هذا من الرواة، وهو خلاف القرآن.
آداب الشَّافِعِي (أيضًا): قول الشَّافِعِي في أصول العلم:
أخبرنا أبو محمد، حدثنا أبي، حدثنا يونس قال:
سمعت الشَّافِعِي ﵀: يعتب على من يقول: لا يقاس المطلق - من
الكتاب - على المنصوص وقال: يلزم من قال هذا: أن يجيز شهادة العبيد
والسفهاء؛ لأن اللَّه ﷿ قال: (وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ) الآية، فَقَيَّد.
وقال في موضع آخر: (وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ) الآية، فأطْلَق.
ولكن المطلق يقاس على المنصوص، مثل هذا، ولا يجوز إلا العَدلُ.
آداب الشَّافِعِي (أيضًا): باب (في الأحكام):
أخبرنا أبو محمد قال: أخبرني أبي قال: سمعت يونس بن عبد الأعلى قال:
١ / ٤٥١
قال الشَّافِعِي ﵀: في قوله ﷿: (وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ) الآية، إنما معناه: أن يُقِر بالحق، ليس معناه: أن يُمِل، وقوله: (فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ) الآية، هاهنا
ثبتت الولاية، ثم نسخ هذا كلّه، وأخِبرَ: أنه اختيار وليس بفرض، بقوله: (إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا) الآية.
فائدتان:
الأولى: ومن طريف ما يحكى عن أمّ الشَّافِعِي رحمهما اللَّه من الحذق.
أنها شهدت عند قاضي مكة هي وأخرى، مع رجل، فأراد القاضي أن يفرق
بين المرأتين، فقالت له أم الشَّافِعِي رحمهما اللَّه: ليس لك ذلك، لأن اللَّه ﷿ يقول: (ان تَضِل إِخدَنهُمَا فَتُذَئحِرَ إِخدَنهُمَا اكاخرَى) الآية. فرجع القاضي إليها في ذلك - وقد علق ابن حجر على ذلك بقوله: هذا فرع غريب واستنباط قوي.
الثانية: وقال الأزهري ﵀: وقوله ﷿: (وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ) الآية، فيه قولان:
١ - قال بعضهم: (وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ) الآية، لا يُضارر، أي: لا يكتب إلا الحق، ولا يشهد الشاهد إلا بالحق.
١ / ٤٥٢
٢ - وقال قوم: (وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ) الآية، أي: لا يُضَارَر ولا يُدعى وهو مشغول، لا يمكنه ترك شغله إلا بضرر يدخل عليه، وكذلك لا يُدعى الشاهد ومجيئه للشهادة يَضُر به.
والأول: أبين، لقوله تعالى: (وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ) الآية.
ومن كذب بالشهادة، وحرَّف الكتاب، فهو أولى بالفسوق ممن دعا كاتبًا ليكتب وهو مشغول، أو شاهدًا ليشهد وهو مشغول.
* * *
قال الله ﷿: (وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (٢٨٣)
الأم: باب (الشهادة في البيوع):
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: - بعد آية الدين في السياق - قال الله تعالى:
(وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ) الآية، فلما أمر إذا لم يجدوا كاتبًا بالرهن، ثم أباح
ترك الرهن، وقال: (فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ) الآية، دلَّ على أن الأمر
الأول دلالة على الحظ، لا فرض منه، يعصي من تركه - والله أعلم -.
١ / ٤٥٣
وقد حُفظ عن النبي ﷺ أنَّه بايع أعرابيًا في فرس، فجحد الأعرابي بأمر بعض المنافقين، ولم يكن بينهما بينة، فلو كان هذا حتمًا لم يبايع رسول الله ﷺ بلا بينة، وقد حفظت عن عدة لقيتهم مثل معنى قولي، من أنَّه لا يعصي من ترك الإشهاد، وأن البيع لازم، إذا تصادقا، لا ينقضه أن لا تكون بيّنة كما يُنقض
النكاح، لاختلاف حكمها.
الأم (أيضًا): باب (السلف):
قال الشَّافِعِي ﵀: قال الله جلَ ثناؤه: (فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ) الآية.
والرهن غير الكتاب والشهادة، ثم قال: (فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ) الآية.
دلَّ كتاب الله ﷿ على أن أمره بالكتاب.
ثم الشهود، ثم الرهن ارشادًا لا فرضًا عليهم؛ لأن قوله: (فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ) الآية، إباحة لأن يأمن بعضهم بعضًا فيدع
الكتاب والشهود والرهن.
الأم (أيضًا): كتاب (الرهن الكبير - إباحة الرهن:
أخبرنا الربيع قال:
أخبرنا الشَّافِعِي قال: قال الله ﵎: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ)
الآية، وقال ﷿: (وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌة) الآية.
١ / ٤٥٤
قال الشَّافِعِي ﵀: فكان بينًا في الآية، الأمر بالكتاب في الحضر والسفر، وذكر اللَّه تبارك اسمه الرهن إذا كانوا مسافرين، ولم يجدوا كاتبًا، فكان معقولًا - والله أعلم فيها - أنهم أمروا بالكتاب والرهن احتياطًا لمالك الحق بالوثيقة، والمملوك عليه بألَّا ينسى ويذكر، لا أنَّه فرض عليهم أن يكتبوا، ولا أن يأخذوا رهنًا، لقول الله ﷿: (فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ) الآية.
فكان معقولًا أن الوثيقة في الحق في السفر والإعواز غير محرمة، والله أعلم في
الحضر وغير الإعواز، ولا بأس بالرهن في الحق الحالِّ، والدين في الحضر والسفر.
وما قلت من هذا مما لا أعلم فيه خلافًا، وقد رُوي أن رسول الله ﷺ رهن درعه في الحضر عند أبي الشحم اليهودي.
وقيل: في سلف، والسلف حالٌّ.
قال الشَّافِعِي ﵀: فأذن اللَّه جل ثناؤه بالرهن في الدين، والدين حق
لازم، فكل حق مما يملك، أو لزم بوجه من الوجوه جاز الرهن فيه.
الأم (أيضًا): الرهن الصغير:
أخبرنا الربيع بن سليمان قال:
أخبرنا الشَّافِعِي ﵀ قال: أصل أجازة الرهن في كتابه ﷿: (وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ) الآية، فالسنة تدلُّ على إجازة الرهن، ولا أعلم مخالفًا في إجازته.
أخبرنا محمد بن إسماعيل بن أبي فديك، عن ابن أبي ذئب، عن ابن
شهاب، عن سعيد بن المسيب ﵀، أن رسول الله ﷺ قال:
«لا يَغلَقُ الرهنُ، الرهنَ من صاحبه الذي رهنه، له غنمُه وعليه غرمُه» الحديث.
١ / ٤٥٥
قال الشَّافِعِي ﵀: فالحديث جملة على الرهن، ولم يخص رسول اللَّه ﷺ فيما بلغنا رهنًا دون رهن.
واسم الرهن يقع على: ما ظهر هلاكه ومخفي.
ومعنى قول النبي ﷺ واللَّه تعالى أعلم -:
«لا يغلق الرهن بشيء»، أي: إن ذهب لم يذهب بشيء، وإن أراد صاحبه افتكاكه، ولا يغلق في يدي الذي هو في يديه. ..
والرهن للراهن أبدًا، حتى يخرجه من ملكه بوجه يصحُّ إخراجه له، والدليل
على هذا قول رسول الله ﷺ: «الرهن من صاحبه الذي رهنه»، ثم بيّنه وأكدّه فقال:
«له غنمه وعليه غرمه»، وغنمه: سلامته وزيادته، وغرمه: عطبه ونقْصه.
الأم (أيضًا): رهن المشاع:
قال الشَّافِعِي ﵀: لا بأس بأن يرهن الرجل نصف أرضه، ونصف
داره، وسهمًا من أسهم من ذلك مشاعًا غير مقسوم، إذا كان الكلّ معلومًا، وكان ما رهن منه معلومًا، ولا فرق بين ذلك وبين البيوع.
وقال بعض الناس: لا يجوز الرهن إلا مقبوضًا مقسومًا، لا يخالطه غيره، واحتجّ بقول اللَّه ﵎: (فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ) الآية.
قال الشَّافِعِي ﵀: فالقبض: اسم جامع، وهو يقع كعان مختلفة، كيفما
كان الشيء معلومًا، أو كان الكلّ معلومًا، والشيء من الكل جزء معلوم من
أجزاء، وسُلِّم حتى لا يكون دونه حائل فهو قبض، فقبض الذهب والفضة
والثياب في مجلس الرجل، والأرض أن يؤتى في مكانها فتسلم، لا تحويها يد ولا يحيط بها جدار، والقبض في كثير من الدور والأرضيين إسلامها بأعْلاَقها،
١ / ٤٥٦
والعبيد تسليمهم بحضرة القابض، والمشاع من كل أرض وغيرها أن لا يكون
دونه حائل، فهذا كله قبض مختلف يجمعه اسم القبض، وإن تفرق الفعل فيه، غير أنه يجمعه أن يكون مجموع العين، والكل جزء من الكل معروف، ولا حائل دونه، فإذا كان هكذا فهو مقبوض، والذي يكون في البيع قبضًا، يكون في الرهن قبضًا، لا يختلف ذلك.
الأم (أيضًا): الوديعة:
قال الشَّافِعِي ﵀: وإذا استودع الرجلُ الرجلَ الوديعة، فاختلفا، فقال
المستودع: دفعتها إليك، وقال المستودع: لم تدفعها، فالقول قول المستودع، ولو كانت المسألة بحالها غير أن المستودعَ قال: أمرتني أن أدفعها إلى فلان فدفعتها.
وقال المستودِع: لم آمرك، فالقول قول المستودِع، وعلى المستودع البينة، وإنَّما فرقنا بينهما أنَّ المدفوع إليه غير المستودع، وقد قال الله ﷿: (فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ) الآية.
فالأول: إنَّما ادعى دفعها إلى من اتممنه، والثاني: إنَّما ادعى دفعها إلى غير
المستودِع بأمره، فلما أنكر أنه أمره، أغرم له؛ لأنٌ المدفوع إليه غير الدافع.
الأم (أيضًا): باب (ما يجب على المرء من القيام بشهادته):
قال الشَّافِعِي ﵀: وقال ﷿: (وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) الآية.
وقال: (وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ) .
١ / ٤٥٧
قال الشَّافِعِي ﵀: والذي أحفظ عن كل من سمعت منه، من أهل
العلم في هذه الآيات، أنَّه في الشاهد، وقد لزمته الشهادة، وأن فرضًا عليه أن يقوم بها على والديه، وولده، والقريب، والبعيد، وللبغيض والقريب والبعيد، ولا يكتم عن أحد، ولا يحابي بها، ولا يمنعها أحدًا.
ثم تتفرع الشهادات، فيجتمعون ويختلفون، فيما يلزم منها وما لا يلزم، ولهذا كتاب غير هذا.
مختصر المزني: باب (الرهن):
قال الشَّافِعِي ﵀: أذن اللَّه جل ثناؤه بالرهن في الدين، والدين حق.
فكذلك كل حق لزم في حين الرهن وما تقدم الرهن، وقال اللَّه ﵎: (فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ) الآية، ولا معنى للرهن حتى يكون مقبوضًا من جائز الأمر، حين رهن، وحين أقبض، وما جاز بيعه، جاز رهنه وقبضه من مشاع وغيره. ..
ولا يجوز - قبض الرهن - إلا معه أو بعده، فأما قبله فلا رهن.
* * *
قال الله ﷿: (لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٨٤)
وقال الله ﷿: (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا)
١ / ٤٥٨
أحكام القرآن: فيما يؤثر عنه - الشَّافِعِي - من التفسير والمعاني في آيات
متفرقة:
قال البيهقي: أخبرنا أبو عبد اللَّه الحافظ، حدثني أبو بكر أحمد بن محمد بن
أيوب الفارسي المفسر، أخبرنا أبو بكر محمد بن صالح بن الحسن البستاني
(بشيراز)، أخبرنا الربيع بن سليمان المرادي:
أخبرنا محمد بن إدريس الشَّافِعِي ﵀، أخبرنا إبراهيم بن سعد، عن
ابن شهاب، عن سعيد بن مرجانة، قال عكرمة لابن عباس ﵄: إن ابن عمر ﵄ تلا هذه الآية: (وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ) الآية، فبكى، ثم قال: والله لئن أخذنا اللَّه بها لنهلِكن.
فقال ابن عباس ﵄: (يرحم اللَّه أبا عبد الرحمن، وقد وجد
المسلمون منها - حين نزلت - ما وجدوا، فذكروا ذلك لرسول الله ﷺ فنزلت: (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا) الآية.
من القول والعمل، وكان حديث النفس مما لا يملكه أحد، ولا يقدر عليه أحد.
أحكام القرآن: فصل فيما لا يجب عليه الجهاد:
قال الشَّافِعِي ﵀: فرض اللَّه ﷿ قتال غير أهل الكتاب حتى يسلموا، وأهل الكتاب حتى يعطوا الجزية، وقال: (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا) .
فبذا فُرِض على المسلمين ما أطاقوه، فإذا عجزوا عنه، فإنما كُلفوا منه
ما أطاقوه، فلا بأس: أن يكفوا عن قتال الفريقين من المشركين، أو يهادنوهم.
١ / ٤٥٩
مناقب الشَّافِعِي: باب (ما يستدل به على معرفة الشَّافِعِي، بأصول الكلام.
وصحة اعتقاده فيه):
قال الشَّافِعِي ﵀: وقال تعالى: (وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ) الآية، فذلك ما فرض الله على القلب من الإيمان.
وهو عمله، وهو رأس الإيمان.
١ / ٤٦٠