الكتاب مباحث في التفسير الموضوعي
المؤلف مصطفى مسلم
الناشر دار القلم
الطبعة الرابعة 1426هـ - 2005م
عدد الأجزاء 1
الموضوع: علوم القرأن، علوم التفسير
فهرس الموضوعات
المؤلف مصطفى مسلم
الناشر دار القلم
الطبعة الرابعة 1426هـ - 2005م
عدد الأجزاء 1
الموضوع: علوم القرأن، علوم التفسير
فهرس الموضوعات
- المقطع الأول: قصة الفتية المؤمنين
- مدخل
- بين يدي قصص سورة الكهف
- العرض الإجمالي لقصة الفتية المؤمنين
- العرض التحليلى للقصة
- تعقيب واستطراد وتعليل
- عظات وعبر
- المقطع الثاني: مفارقات ومواقف في بواعث العزة
- المقطع الثالث: وقفة تأمل في المال والمصير
- مدخل
- المناسبات بين المقطع الثالث وما قبله
- العرض الإجمالي للمقطع الثالث
- الفوائد والعظات والعبر في المقطع الثالث
- العودة إلي كتاب مباحث في التفسير الموضوعي
المقطع الأول: قصة الفتية المؤمنين
مدخل
المقطع الأول: قصة الفتية المؤمنين
أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا، إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا، فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا، ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا، نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدىً، وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا، هَؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا، وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقًا، وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا، وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا، وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا، إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا
إِذًا أَبَدًا، وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا، سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا، وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا، إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا، وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا، قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا، وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا [الآيات من ٩-٢٧] .
بين يدي قصص سورة الكهف
قبل البدء بعرض قصة أصحاب الكهف والتعليق عليها يحسن بنا أن نذكر بعض المزايا للقصص القرآني عامة ولقصص سورة الكهف خاصة.
١- القصص القرآني تربوي في المقام الأول، يعالج المشاكل والأفكار والمواقع علاجًا معينًا على ضوء المبادئ الإسلامية والأحكام الشرعية في قالب فني جمالي، لتعميق المفاهيم التي يراد غرسها في النفس الإنسانية. أو لاجتثاث جذور الأفكار السيئة التي يريد الإسلام تزكية النفس منها.
- فمثلًا عندما تعرض قضية الطاعة والامتثال والتضحية من خلال قصة إسماعيل وإبراهيم عليهما السلام، تكون أوقع في النفس وأشد أثرًا.
- وكذلك آداب طلب العلم من خلال قصة موسى والخضر عليهما السلام في سورة الكهف.
- وعندما تعالج قضية الشح والبخل في النفس من خلال قصة أصحاب
الجنة في سورة "ن" ، تكون أوعى للاعتبار والاتعاظ. وكذلك مرض الغرور والبطر من خلال قصة صاحب الجنتين في سورة الكهف ولم يترك القرآن الكريم جانبًا من جوانب الحياة الإنسانية إلا وأورد فيه القصص التربوي على طريقته الخاصة ومن الزوايا الإنسانية العامة.
فساق نماذج بشرية تمثل الفطرة المهتدية، وأخرى تمثل الفطرة المنحرفة، وحتى الجانب الذي قد يخطر لنا أن القرآن لم يتعرض له وهو جانب "الحب والمرأة" فقد تناولها القرآن الكريم، ولكن -كما قلنا- على طريقته التربوية الخاصة.
يعرض القرآن نماذج إنسانية منحرفة في سلوكها ومعتقداتها، إلا أن الأسلوب القرآني في ذلك يجعل هذه الانحرافات في حجمها الطبيعي ولا يجعل منها أبطالًا، ويعرض انحرافاتها بشكل خاطف بعد أن يقدم لها بما يحقر من شأن أصحابها، ثم يعقب عليها بإبراز الهدايات الربانية في ذلك مما يحجم الانحراف ويزيل أثره من ذهن القارئ مباشرة، وخير نموذج لمثل هذا قصة امرأة العزيز ومراودتها ليوسف عليه السلام، هذا هو الأسلوب القرآني في عرض هذه النماذج البشرية.
أما الأساليب الجاهلية المعاصرة فإنها تعرض سيرة هذه النماذج بتفصيل كامل وفي صور مشرقة زاهية وتجعل منها أبطالًا تسلط عليهم الأضواء حتى إذا حفرت في النفس أخاديد من آثارها وتعلقت النفوس بسيرتهم، جاءت التعقيبات الهزيلة، فلا تغير من الأثر شيئًا، ولا تزيل من المعالم والبصمات إلا أخفها.
هذا الجانب التربوي كما هو ملاحظ في القصص التاريخي، فإنه ملاحظ أيضًا في القصص الواقعي "الحاضر" .
ونقصد به القصص التي عاشها رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام، أو القصص التي تعرض أحداثًا تتعلق بالحالة التي كانت فيها الفئة المؤمنة.
والغرض التربوي منها تقديم المسيرة، وتوضيح الرؤية أمام الجماعة المؤمنة خلال سير الحياة ونشر الدعوة إلى الله، هذا من جانب، ومن جانب آخر التسلية والتخفيف عما يعتور الدعاة إلى الله ويحدث لهم أثناء المسيرة الجهادية في
حياتهم: إن أحداث قصة بدر في سورة الأنفال، وأحد من آل عمران والخندق في الأحزاب، والإفك في النور، والحديبية في الفتح، وحنين في التوبة ... معالم بارزة في حياة الدعاة إلى الله لأخذ العظات والعبر إلى يوم القيامة.
٢- القصص القرآني يهمل عن قصد في حالات كثيرة؛ الناحية الزمنية، والمكانية، وأحيانًا أسماء الأشخاص -أبطال القصة.
كما نجد ذلك في قصة أصحاب الكهف، وقصة صاحب الجنتين، وقصة ذي القرنين وذلك لأن الهدف الهام من سوق القصة أخذ العبرة والعظة وترسيخ الفكرة المعينة من خلال أحداث القصة، فينبغي أن يركز الفكر وتثار المشاعر وتوجه العواطف حول الغرض منها.
وصرف الاهتمامات إلى أي عنصر آخر في القصة تبديد للطاقات العقلية والملكات النفسية وصرفها عن التفاعل مع الغرض الأساسي الذي سيقت القصة من أجله.
٣- القصص القرآني كلها حقائق وقعت أحداثها؛ ولئن عجز الجهد البشري عن إدراك تفصيلات هذه الوقائع، وتحديد زمانها ومكانها أو أشخاصها بوسائله القاصرة من كتابات وآثار ... فليس ذلك حجة لمن يزعم أنها قصص تمثيلي أو تخييلي.
وسواء ذكرت هذه القصص في كتب أهل الكتاب أو لم ترد، فلا تأثير لكل ذلك على الحقائق والأحداث التي ذكرها القرآن الكريم.
فلو عجز علم الآثار عن تحديد موقع الكهف أو المناطق التي تغلب عليها ذو القرنين وأخضعها لحكم الله أو عجز عن التعرف على مكان إيقاد النار على إبراهيم عليه السلام، فلا يؤثر ذلك على الحقيقة شيئًا.
وقد جعل القرآن الكريم سرد هذه القصص دليلًا على صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم في دعوته {تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} [هود: ٤٩] .
{لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [يوسف: ١١١] .
كما جعله وسيلة لتثبيت قلب رسوله ومن ورائه الدعاة إلى الله خلال العصور {وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} [هود: ١٢٠] .
٤- يهدف القرآن الكريم أن يقدم للفئة المؤمنة -من خلال قصصه- تجارب البشرية وخبرتها من خلال عرض هذه النماذج المختلفة من السمو الفكري والروحي والصفات الخلقية النبيلة.
والتعرف على سنن الله في الدعوات والحضارات والابتلاء والمحن والاعتبار بمصير النماذج المنحطة المسفة.
إن قصة فرعون وقارون والسامري تعطي صورًا منفرة من طريقة تفكيرهم وأسلوب تعاملهم مع غيرهم، وموقف الكفر والجحود الذي وقفوه من خالفهم ورازقهم، ثم المصير التعيس البئيس الذي صاروا إليه.
أما قصة إبراهيم وإسماعيل وموسى وأصحاب الكهف وذي القرنين فكلها قصص مشرفة تزكي في النفوس الرغبة في الخير، والتضحية من أجل المثل العليا، والخشوع والتضرع لخالق السماوات والأرض.
إن القصص القرآني عرض بأساليب معينة ووزع على السور توزيعًا خاصًا بين إيجاز وإطناب، وكل منها منسجم مع أهداف السورة الأساسية ولا ينفصل أسلوب القصة عن أجواء السورة وأغراضها، ومن هنا كانت الحكمة في عدم تكرار القضية الواحدة في السورة الواحدة.
لذا ينبغي دراسة القصة حسب أسلوب العرض في السورة، وقد تقدمت الإشارة إلى هذا في القسم المنهجي من التفسير الموضوعي.
العرض الإجمالي لقصة الفتية المؤمنين
تمثل هذه القصة جانبًا من الحياة البشرية ومشهدًا يتكرر عند وجود العقيدة الصحيحة في مجتمع ما، مهما كان وضع هذه العقيدة قوة أوضعفًا، ففي حال قوتها يكون السواد الأعظم من الناس يتحلون بها، ولا توجد مظاهر تلفت النظر.
أما في حال ضعف أصحاب العقيدة الصحيحة وقلتهم، فإن هذا النموذج يبرز، ولعل أبسط صورة لها ما ورد في قصة هؤلاء الفتية.
- إن المجتمع جاهلي وثني، ولا يتعرف إلا على القوة والثورة والمتع والشهوات والحكم الجائز يفرض نفسه، وقد ألقى بثقله على الناس، فلا يستطيعون النظر إلا من خلاله، ولا التنفس إلا برئتيه، ولا الإطعام إلا من يديه.
تحف المظاهر الكاذبة بأبهة السلطة، والمنافقون المتزلفون يرتعون في الملذات من خلال تزيين الباطل للحاكم المستبد.
فالناس الماديون أصحاب المصالح ينظرون من خلال الواقع، والواقع يصور أمامهم كما يلي:
- لا شبع من غير طعام، ولا طعام من غير مال، ولا مال إلا عند الدولة.
- ولا شرف ولا سمعة ولا جاه إلا بالوظيفة، ولا وظيفة إلا عند الدولة.
- ولا هدوء ولا سلامة إلا بمسايرة الناس وموافقة المجتمع، ولا موافقة إلا باتباع العقيدة السائدة والرأي العام المسيطر١.
هذه منطلقات الفلسفة المستندة على الأسباب والمسببات، وهي القيم التي يحتكمون إليها.
ولكن شعلة الإيمان إذا اتقدت في النفوس، وبدأت تنير القلب والفكر والجوارح، وتقطع أواصر الثقل الأرضي وتسمو بالروح وتبلغ الشفافية بالمؤمن أن
١ انظر تأملات في سورة الكهف لأبي الحسن الندوي: ٥٢ بتصرف واختصار.
ينظر بنور الله إلى ما وراء الأسباب، وأن يدرك أن هذه الأسباب قد وضعها خالق الكون ومدبره، وأن مصير الأشياء بيديه وأنه يقول للشيء كن فيكون.
إن جذوة ايمان هذه لها منطلقات خاصة ولها حساباتها المتفردة وتطلعاتها المستقلة، إنه يترفع عن متع الدنيا وشهواتها، وينظر إليها بعين الازدراء والاحتقار، وتسمو نفسه وروحه إلى الدار الباقية فهو لا يرضى الخنوع والاستسلام لجبروت السلطة مهما كان طغيانها، ولا لضغوط المجتمع وفلسفته مهما بلغ ثقلها، يقوم في وجه الظلم ليعلن كلمة التوحيد وأن لا إله إلا الله الذي خلق السماوات والأرض الذي بيده الأمر وإليه المرجع والمآب، وأن لا حكم إلا لمدبر الكون وواضع سننه وأقواته وخواصه ولا طاعة لمن تنكب شرعه ودستوره في الحياة.
والمؤمن بقيامه هذا في وجه الطغيان يلتزم العقل والحكمة، فيدعو الناس إلى التدبر والتفكر فيما حولهم من الكائنات ليتعرفوا على الخالق المعبود بحق، ويدعو الخصوم إلى مقارعة الحجة بالحجة وإلى التحاكم إلى البرهان وإلى العقل والمنطق {هَؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} .
لقد حقق هؤلاء من جانبهم مقومات تنزل النصر عليهم والاستجابة لدعائهم {إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِم} والفتوة والقوة الجسدية مطلوبة في الصراع مع الباطل ومقارعة أهله.
والإيمان هو السلاح الماضي الذي يصول به الداعية ويجول، ويلقي به على الباطل فإذا هو زاهق.
إن سنة الله في نصر الدعوات تكمن في كون منطلقات حاملها، سليمة، وأن يكونوا فئة متميزة تسموا إلى أفق الدعوة وتضحي في سبيلها بغض النظر عن العدد والكثرة.
وهذا ما جرى للفتية المؤمنين فقد قابل رب السماوات والأرض صنعهم بفضل منه ورحمة عظيمتين، فربط على قلوبهم فأخرج منها الخوف والحيرة والاضطراب، وملأها شجاعة وسكينة وقوة ويقينًا وانشراحًا وسرورًا وزادهم إيمانًا على إيمانهم
ورضى وتسليمًا بقضاء الله وقدره {إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدىً، وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ} .
وإذا توافرت هذه المقومات في الإنسان: الفتوة والإيمان ورباطه الجأش ومضاء العزيمة، لا يستقر لهذا الإنسان قرار بل لا بد من مصارعة الباطل، والوقوف في وجهه، وهذا ما كان من أمر الفتية {إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا، هَؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} وفي خضم هذه المشاعر النبيلة والعواطف المتأججة بنور الإيمان، يهتدون إلى رأي، أن يخرجوا مجتمعين إلى الغار، ليعتزلوا المجتمع الجاهلي ماديًا بعد أن اعتزلوه شعوريًا، وليفكروا بروية في الأسلوب الأنجح لمقارعة الباطل فإن لم يستطيعوا مقارعته وجهًا لوجه، فبإمكانهم أن يضربوا في أرض الله الواسعة ويهاجروا في سبيل الله {وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً} [النساء: ١٠٠] .
إذ العزلة الشعورية واجبة دائمًا فلا يجوز مطلقًا موادة من حاد الله ورسوله مهما كانت درجة قرابته ومكانته. ولا يجوز مهادنة الجاهلية وأهلها سواء كانت الغلبة لهم أو لنا.
أما العزلة المادية الجسدية فإن لها شروطًا ولعل من أهمها كما ذكرها رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن لا يجد المرء على الحق أعوانًا، وأن يرى شحًا مطاعًا وهوى متبعًا وإعجاب كل ذي رأي برأيه١، وأن لا تكون للمسلمين جماعة، عندئذ جازت العزلة الجسدية والانصراف إلى خويصة النفس وترك أمر العامة.
روى البخاري من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يوشك أن يكون خير مال المسلم غنمًا يتبع به شعف الجبال ومواقع القطر يفر بدينه من الفتن" ٢.
١ من حديث رواه الترمذي في كتاب التفسير ٤/ ٣٢٣، وقال عنه: هذا حديث حسن غريب.
٢ انظر صحيح البخاري كتاب الإيمان ١/ ١٠.
وبينما كان الفتية في طريقهم إلى الكهف وهم منهمكون في ما هم عليه من حال وما سيكون عليه العمل والمآل، كانت عناية الله وإرادته تهيئ لهم شيئًا أعظم من ذلك لتكفيهم مؤنة الجهد والمشقة، فما أن وصلوا إلى الكهف حتى ضرب على آذانهم فيه سنين عددًا، وهيأت لهم مكان إقامة تتوافر فيه الشروط الصحية الملائمة من شمس وتهوية وبعد عن القتم، وتوقفت عقارب الزمن بالنسبة لهم داخل كهفهم، إلا أنها بقيت دائرة خارجه، واستمرت عجلة الحياة على مشيئة الله، وكان انتصار الإيمان ودخول الناس في الإسلام، وتغيرت الأحوال، وحل الأمن والأمان مكان الظلم والطغيان، فأذن الله عز وجل بانبعاثهم، لكي يظهر آثار إكرامه للفتية، وليقيم في نفس الوقت الحجة على من زعم أن البعث يوم القيامة بالأرواح لا بالأبدان، فأخرج الله سبحانه وتعالى هؤلاء الفتية وبعثهم من رقادهم، وأعثر عليهم ليكونوا أنموذجًا محسوسًا لقدرة الخالق على الإحياء بعد الموت، فكما حفظ على هؤلاء أجسادهم من البلى وأعاد إليها الروح بعد اندثار الأجيال المتعاقبة، فإنه قادر على أن يجمع شتات الأبدان ورميمها، ويعيد إليها الروح يوم الحساب.
العرض التحليلي للقصة:
- أسلوب عرض قصة أصحاب الكهف: طريقة التلخيص والإجمال أولًا، ثم العرض المفصل آخرًا، وعرض مشاهد من القصة ثم ترك فجوات بين المشاهد تعرف من السياق.
- كما تذكر القصة جوانب أساسية في أبطال القصة، وتعرض عن جوانب أخرى لأنها غير ذات جدوى.
فهم فتية آمنوا، وتمردوا على الظلم والطغيان، وآواهم الكهف، بعد لجوئهم إلى كنف بارئهم ليجعل لهم من أمرهم رشدًا.
- ولقد أهمل الأسلوب القرآني اسم الحاكم الذي خرجوا عليه، وأعلنوا رفضهم لظلمه، فليس بذي شأن، لأن الجبابرة المتألهون والطغاة المتسلطون كثير في كل زمان ومكان، فليست العبرة بالأشخاص وإنما بالفعل السيئ الذي يدفعهم إلى ذلك والأثر الذي يتركونه بين الناس.
- ولم تتعرض الآيات الكريمة إلى الطبقة التي ينتمى إليها الفتية، وكيف اجتمعوا على هذه الفكرة.
- وكيف تم خروجهم عن أي طريق وعلى أي حال، وكم كان عددهم وما بال الكلب الذي رافقهم.
- وعند السرد التفصيلي للقصة نجده ينصب على جوانب العقيدة والمعاني الأساسية وتهمل ما سواها.
- فهم فتية جمعهم الإيمان بالله سبحانه وتعالى: {إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ} .
- وتتداركهم رحمة الله سبحانه وتعالى وعنايته، {وَزِدْنَاهُمْ هُدى} .
- ولأنهم فتية ليست لهم تلك التجارب العريقة في مواجهة الشدائد يتداركهم لطف الله {وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِم} .
- فنتج من هذا الربط على القلوب الثبات والرسوخ والاطمئنان والعزيمة الصادقة والاعتزاز بالإيمان {إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا} .
- ثم الالتفات إلى ما حولهم وهم ينظرون بنور البصيرة إلى هذا الظلام المخيم على القوم، وهذا الجهل والغي الذي هم فيه سادرون، فيستنكرون ذلك عليهم، لماذا لا يحتكمون إلى العقل الذي وهبهم إياه خالقهم، ولماذا لا يبحثون عن دليل على ما هم فيه {هَؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} .
ويأتي الفاصل في العرض، وكأن الستار قد أسدل على المشهد الأول وقد توجه الفتية إلى الكهف.
ثم يفتح الستار على المشهد الثاني، وقد ضرب على آذان الفتية في الكهف١، وتوقفت عوامل الزمن بالنسبة لهم، إلا أن دولات الكون لم يسكن وقد
١ الكهف: النقب المتسع في الجبل، فإن لم يكن واسعًا فهو غار.
سخر جانب من آله الكون لصيانة الفتية وكهفهم فالشمس قد شغلت بهم عن الدنيا كلها وكأن مدار فلكها حول هذا الكهف وحده، فكأنها حانية عليهم ترعاهم في الصباح والمساء {إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ} .
أما موقفهم، {وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْه} فمتسع من داخل الكهف، وفي ذلك عون على حفظ أجسادهم على حالة صحية بعيدة عن العفونة والرطوبة. إنها آيات ربانية عظيمة تحيط بهؤلاء الفتية الكرام على الله وتهيئ لهم الأسباب وتسخر لهم السنن الكونية {ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا} .
ولقد توجت هذه الآيات العظيمة بآية أعظم وهي إضفاء الحماية المعنوية عليهم بإلقاء الرعب في قلب كل من اطلع عليهم أو حاول الاقتراب منهم {وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا} .
- ولم تحدثنا الآيات الكريمة عن الوقت الذي قضوه في الكهف قبل نومهم.
- ولا عن تصرفاتهم التي قاموا بها، والتدابير التي فكروا فيها، هل يعودون إلى قومهم ليبينوا لهم الطريق، أو يضربوا في الأرض فرارًا بدينهم.
- وهل كان معهم كتاب يدرسون فيه ويتعلمون أمور دينهم، فقد ذهب بعض المفسرين إلى أن المقصود بالرقيم: الكتاب الذي كانوا يحملونه معهم للمدارسة {كِتَابٌ مَرْقُوم} ، وقال آخرون: إنه اللوح الذي وضع على بابهم فيما بعد.
ولا بد أن طعامهم الذي حملوه معهم قد نفذ قبل نومهم، لذا لم يستغربوا أن لم يكن معهم زاد.
وفجأة تدب الحركة في المشهد الثالث.
وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا
أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ .
إن أسلوب الحوار بين بعضهم، واختيار الكلمات المعبرة تلقي في النفس الشعور بالتثاقل من أثر النوم الطويل {كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ} .
إن تكرار حرف الثاء في هذا المشهد الذي يصف استيقاظهم لها إيحاءات مشعرة بهذا التثاقل "بعثناهم، كم لبثتم، لبثنا، بما لبثتم، فابعثوا" ثم عدم الوقوف طويلًا عند البحث عن المدة التي استغرق نومهم فيها، شأن المستيقظ من نوم ثقيل، لا يستطيع تركيز فكرة على شيء معين، وإنما يصرف ذهنه إلى الشيء الملح الذي يلاحقه وهو الشعور بالجوع والحاجة إلى تناول شيء من الطعام، ولكن لا زاد معهم، فليدبروا أمر نزول أحدهم إلى المدينة لشراء الطعام.
وبعد التوصية بأخذ الحيطة والحذر لئلا ينكشف أمرهم، ويقعوا في قبضة زبانية الطاغية {وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا، إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا} ، يسدل الستار على المشهد الثالث، والمشاهدون يمسكون أنفاسهم وهم ينتظرون المفاجأة في طريقة التعرف على الفتى الذي يريد دخول المدينة على حين غفلة من أهلها.
ويترك للسامع والقارئ أن يتخيل الصور والأشكال التي يمكن أن يتعرف بها أهل المدينة المؤمنين، ومدى الدهشة من الفتى وزملائه من هذا الانقلاب الجذري الهائل، فسبحان محول الأحوال، لقد زالت دولة الظلم والطغيان وولت جحافل الكفر والضلال، وأشرق على المدينة نور الإيمان.
أما الديار فإنها كديارهم ... وأرى رجال الحي غير رجاله
فالناس غير الناس، والحال غير الحال، فالمؤمنون آمنون على عقائدهم ومعايشهم والرغبة في الخير سائدة بينهم.
ويمر المشهد الرابع كلمح البصر سرعة ووجازة، قد تم التعرف عليهم وتم العثور على بقيتهم، وتتداركهم رحمة الله سبحانه وتعالى مرة أخرى فتلحقهم
بالرفيق الأعلى، فإن بقاءهم على الأرض لم يعد ذا جدوى، والناس غير الذين كانوا يعرفونهم، وقد انقطعت الوشائج وتغيرت العادات والأساليب المعيشية فهم في أعين الناس أشبه بالذكرى الحية منهم بالأشخاص الواقعية. {وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيهَا} .
لقد تحققت العظة والعبرة من خروجهم بعد رقودهم فكانوا مثلًا محسوسًا على البعث بعد الموت.
ثم يعرض المشهد الخامس والأخير، والناس يتناقشون في أمرين يتعلق بهم: عددهم، والمدة التي لبثوا في الكهف.
إن هذه الفجوات من خلال أحداث القصة مقصودة، وهي تضفي جو المشاركة من السامع وتطلعًا إلى التفاصيل.
ولو ذكرت الأحداث الجزئية لتبلد حسه ولتلقي الأحداث بخمول ذهن وبروده مشاعر.
وتنتهي القصة في المشهد الخامس بعرض صورة المتجادلين، ومقولة الحق في ذلك وفي المدة التي قضوها في الكهف.
وبالتوجيه الرباني بأن يلتجئ العباد إلى فاطر السماوات والأرض فكما التجأ أهل الكهف إليه فآواهم وهيأ لهم من أمرهم رشدًا وخلد ذكراهم بين الاتقياء الصالحين.
فكذلك يا محمد اتل ما أوحي إليك من كتاب ربك، واتكل على ربك فإنه ملجؤك وملاذك ولن تجد من دونه ملتحدًا.
تعقيب واستطراد وتعليل
جاء في سبب النزول أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للقوم القرشيين -عندما سألوه الأسئلة الثلاثة: "ائتوني أخبركم غدًا" ، فلبث الوحي فترة حتى أرجف أهل مكة.
وجاء أثناء التعقيب على المجادلين في شأن أهل الكهف -عددهم، ومدة لبثهم: {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا، إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا} .
لا شك أن في هذا الإرجاء في الجواب -في هذا الموقف الحرج- إحراجًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فهل من حكمة في هذا الإرجاء؟!
إننا نعتقد جازمين أن الحكمة كل الحكمة، والخيرة للمرء فيما اختاره الله سبحانه وتعالى لعباده المؤمنين، وعلى رأسها الخيار الذي يختاره الله سبحانه وتعالى لأنبيائه ورسله، وقد يظهر لنا وجه الحكمة وقد يخفى، ولكن مشيئة الله وخيرته في ذلك خير وأبقى.
ولعل من وجوه الحكمة في هذا الإرجاء ما ندركه في الأمور الثلاثة التالية:
أ- جانب تربوي للأمة من خلال هذا الموقف مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فعلى المؤمن أن يربط كل شيء بمشيئة الله سبحانه وتعالى وإرادته، ولا يغفل عن ذلك، وإن غفل عنه فليذكره في أول سانحة أو خاطرة {وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيت} ١.
ب- أن في هذا الإرجاء برهانًا -بصورة غير مباشرة- لقريش على أن محمدًا ليس له من أمر الوحي سوى التلقي والتبليغ، وأنه مكلف بهذه المهمة ومؤاخذ على التقصير فيها، وليس له أن يختلق شيئًا من عند نفسه، أو يبدل شيئًا أو يقدم أو يؤخر أو يكتم، وهذا الجانب أكدته آيات كثيرة: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ، لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ، ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ} [الحاقة: ٤٤-٤٦] .
{قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [يونس: ١٥] .
وإذا تذكرنا أن أصل الاستفسار وإيراد الأسئلة كان للتحقق من صدق محمد صلى الله عليه وسلم في دعوى الرسالة أدركنا أهمية هذا اللون البرهاني من واقع الأحداث
١ لم يأت التنبيه على ذكر المشيئة إلا بعد الإجابة على سؤله، وفي ذلك تكريم لرسوله وإيناس لنفسه، لأن في المبادرة بالنهي توهم الإعراض عن الإجابة، وهذا شأن تعليم الحبيب المكرم.
ومجريات الأمور، فجو الحادثة والسور والآيات كلها متجهة لإثبات صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم وإبطال أساليبهم وبيان زيف مواقفهم وما يحاولون الوصول إليه من إبطال دعوة النبوة وتبرير مواقفهم الشركية، واطلاعهم على حقيقة ما يعتقدون ويتبنون من قيم.
"ج" لو جاء الجواب في الوقت الذي حدده رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم، لمرت الحادثة كأي حادثة مرت في العلاقات بين القوم مما كان يجري في العلاقات اليومية.
لكن عندما انصب اهتمام قريش على هذه الأسئلة، وكان التحديد من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم كان الإرجاء والتأجيل، كما تقول الرواية -حتى أرجف أهل مكة- فقد أصبحت النفوس متشوفة متطلعة، وقد كثرت الأقاويل والإشاعات بين القوم.
وهذا أسلوب من أساليب الدعوة لشد الانتباه وإشغال الرأي العام بقضية الدعوة، ثم إذا جاءت الإجابة عند الحاجة الماسة إليها فإنها أوقع في النفس وأشد تأثيرًا.
ولعل هذا هو المراد بالإشارة التعقيبية على موضوع المشيئة {وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا} .
فما يأتي من نتائج وثمرات مترتبة على هذا الإرجاء فهو أقرب رشدًا.
ولعل مثل هذه اللفتة بعد آيات حادثة الإفك {لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} وذلك لما يترتب على هذه الحادثة من جوانب تربوية، وإبراز فضل آل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأزواجه الطاهرات، وآل أبي بكر، وما كشف عن معادن كريمة في نفوس أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وإبرازًا لهذا الجانب ولسوق بعض الفوائد نستطرد إلى ما ذكره القرآن الكريم من أحداث متشابهة كان فيها الإرجاء وعدم تلبية طلب النبي مما حدث ليوسف عليه السلام.
ففي قصة يوسف عليه السلام، طلب من الناجي -من صاحبي السجن-
{اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّك} [يوسف: ٤٢] . حيث كانت نفسه تتشوف إلى الخروج من السجن، وقد كانت الأيام الأولى، أو قل الأشهر الأولى من سجنه، ولنتصور الحالة التي كان عليها بلاط الملك وحاشيته في هذه الآونة:
١- كانت الشائعات التي تموج بها المدينة وأهل البلاط حول امرأة العزيز وفتاه، ومما أجبر الملك -على الرغم من تأكده من براءة يوسف- على أن يزج بيوسف في السجن قطعًا للقيل والقال. فعودة يوسف على الساحة من جديد يلقي بالوقود على النار من جديد ويذكي الشائعات والأراجيف مرة أخرى.
٢- امرأة العزيز التي شففها حب يوسف، لئن كانت الصدمة قد صعقتها عندما امتنع يوسف ولم يرضخ لرغبتها الجامحة، إلا أن تعلق القلب به لا يمكن أن يسكن خلال هذه الفترة القصيرة، بل لعلها أعادت شيئًا من معنوياتها المنهارة عندما ِأقامت الحجة على قريناتها من نسوة المدينة، واستلت منهن الاعتراف قسرًا، بأن أي أنثى لو كان مكانها لوقفت مثل هذا الموقف ولحاولت مثل هذه المحاولة وهي كأنثى معذورة في هذه المراودة في منطق الإناث، فإخراج يوسف من السجن مرة أخرى وخلال هذه الفترة القصيرة سيجلعها متوفرة للثأر من كرامتها وإعادة المحاولة مرة أخرى، وستلقي متاعب جديدة في طريق يوسف عليه السلام، الذي يعده ربه سبحانه وتعالى على عينه لمهمة أعظم من ذلك. ليكون أبا الأنبياء، وليتمكن من إحضار آباء الأسباط الذي ستكون منهم أسباط بني إسرائيل.
٣- لو خرج يوسف عليه السلام من السجن في هذه المرحلة فلن يشعر به أحد، لعدم الحاجة إليه في هذا الظرف، فهو أحد أفراد الحاشية -وما أكثرهم- والبلاد في بحبوحة من عيشها ورغد من رزقها، أما عندما تكون هنالك بوادر أزمات سياسية أو اقتصادية أو عسكرية فإن أهل الكفاءات والخبرات في هذه المجالات تتعلق بهم القلوب، ويمكن أن تضحى الجماهير بأرواحها في سبيل الحفاظ على حياتهم، وتبوئهم المكانة السامية الرفيعة، لأنها تنظر إليهم أنهم المنقذون لها في هذه المرحلة، وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر، وهذا ما كان يهيئه الله سبحانه وتعالى ليوسف.
لقد كان في الأفق بوادر مجاعة طاحنة -ولو بعد سبع سنوات مخصبة- فإن السبع العجاف التي تأكلها سيكون وقتًا عصيبًا إن لم تعد العدة من الآن وإن لم يكن التصرف حكيمًا، ستقع البلاد في مآزق وأزمات قد تثير الناس إلى الثورة والدمار، -والعامة والرعاع لا تسوقهم إلا بطونهم- إذن فالأمر جد، ولا بد من الاستعداد.
ويأتي دور يوسف عليه السلام لإملاء شروطه إذن، فبدلًا من أن يكون المعترف بإنعام الملك عليه لإخراجه من السجن -ليضيف رقمًا مهملًا على أرقام الحاشية- يكون الملك هو الراغب الملح في الإفراج عنه:
فالشرط الأول: أن يعاد إليه اعتباره، وتظهر براءته للناس جميعًا، وعلى رءوس الأشهاد، ولتكن صاحبة الدعوى أول المقرين والمعترفين، ولتذكر الحقيقة كاملة، {قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ} [يوسف: ٥١] .
الشرط الثاني: أن يتوجه الملك مع أعيان البلاط بالتأنيب والتوبيخ للمتسببات في هذه الأراجيف حول يوسف، {قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ} [يوسف: ٥١] .
وبعد أن ازدادت ثقة الملك بيوسف عليه السلام وأدرك قيمته وخبرته وأنه كنز لا يقدر بقيمة من المال ولا يساويه جيش من الرجال. ارتفعت مكانته عنده، وكانت هذه الثقة وهذه المكانة مقدمات لإيجاد القابلية عنده ليكون من أتباع دعوة يوسف عليه السلام، -ولم لا- فهو موطن سره وشوراه، وبطانته التي يعتمد عليها، فربما يكون النبي المرسل الذي يلقنه الهدايات الربانية وكان في الشرائع السابقة من الأمور المعتادة أن يوجد النبي في أمة، ويجود ملك تابع للنبي وشريعته، وبيده السلطة التنفيذية كما ورد ذلك في قصة طالوت١. ولا شك أن كون النبوة ورئاسة الدولة
١ انظر الآيات في سورة البقرة من ٢٤٦-٢٤٨.
في يد واحدة أمكن لأمر الرسالة وأقوى لسلطان الدولة، وأدعى لنشر العدالة. وبعد أن تبوأ يوسف عليه السلام هذه المكانة عند الملك ورجال الدولة، وفي قلب الجماهير مما جاء التعبير عنه على لسان الملك {قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ} [يوسف: ٥٤] ، جاء دور يوسف لإملاء شرطه الثالث والأخير: {قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [يوسف: ٥٥] .
أفليس الإرجاء كان الأفضل وأن اختيار الله سبحانه وتعالى هو الخيرة وفيه الفلاح والنجاح.
{وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ، وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يوسف: ٥٦، ٥٧] ١.
٤- ولا نغفل أن في هذا الإرجاء في قصة يوسف عليه السلام خاصة، كان لون من ألوان التربية الربانية وبيان سنة في دعوات الله سبحانه وتعالى فإن السجن وما فيه من تذوق مرارة الحرمان، وقطع الاعتماد على الأسباب وتقوية الصلة بالله سبحانه وتعالى والتوكل عليه.
إنها مدرسة الدعاة إلى الله سبحانه وتعالى. فهذه الحكمة لا تقل عن الحكم الثلاث الأولى.
١ لفظه التمكين في القرآن الكريم لا تأتي إلا للشيء الذي لا تسعفه الأسباب المادية من الوصول إليها، فيأتي بأسباب وتدابير ربانية غير عادية.
عظات وعبر
وقبل أن نودع قصة أصحاب الكهف نذكر جملة من العظات والعبر التي لم ترد مناسبة لذكرها في الفقرات السابقة:
١- الفتيان الشباب أسرع استجابة لنداء الحق، وأشد عزمًا وتصميمًا وتضحية في سبيله.
٢- صدق التوجه إلى الله سبحانه وتعالى واللجوء إلى كنفه وحسن الظن به من قبل الفتية، قوبل من الله سبحانه وتعالى بما يتناسب مع رحمته الواسعة الشاملة بعباده المخلصين١.
"أ" أوجد الطمأنينة في القلوب وربط عليها بالسكينة فأوجد فيها السعة والهدوء والأمان قبل أن يوجد في المحيط الخارجي.
"ب" هيأ لهم من أسباب الحماية والدفاع ما تعجز قوى البشر عنه فسخر لهم الشمس، ورفع عن أجسادهم آثار تقلب الليل والنهار واختلاف الأجواء وحماها من الآفات والبلى كما حماها من عبث العابثين. واطلاع الفضوليين فألقى عليهم الرعب {وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا} .
٣- إن العناية الإلهية رافقت أحوال الفتية والمشيئة الصمدية هيأت الأسباب لإبراز الحكمة العليا من العثور عليهم، فلو لم يحملوا معهم عند الخروج من المدينة شيئًا من العملة "الورق" لما فكروا بالنزول لشراء الطعام ولما كان للاستدلال عليهم من سبيل، لولا شعورهم بالجوع المفاجئ الشديد -وقد لبثوا هذه الفترة الطويلة ولم يكن للجوع أثر في أجسادهم- لما أسرعوا بإرسال الشخص لإحضار ما يسد جوعتهم، إنها تدابير ربانية سابقة ولاحقة لتخليد ذكرى هذه الواقعة، وبرهان ساطع لمن فكر واعتبر.
٤- التزام القيم الصحيحة تورث السيرة العطرة والذكر الحسن في الدنيا والمشوبة والخلود في جنات النعيم يوم القيامة.
أما أصحاب القيم الباطلة فإنهم يذهبون مع معتقداتهم الزائفة وتندثر ذكراهم في الدنيا، وإن بقي منها شيء فتقبيح واستهجان وفي الآخرة عذاب شديد.
١ وقعت كلمة "ينشر، ويهيئ" مجزومتين لوقوعهما جوابًا للطلب "فأووا" ، وفيه إشارة إلى صدقهم ويقينهم من الاستجابة لدعائهم، وهو من قبيل: إن من الناس من لو أقسم على الله لأبره.
لقد تمثلت القيم الزائفة الباطلة في موقف الطاغوت الذي ادعى الألوهية ودعا الناس إلى عبادته، وفي موقف أتباعه الذين أشركوا بالله واتخذوا معه آلهة أخرى.
وتتمثل القيم الصحيحة في موقف الفتية الذين آمنوا برب السماوات والأرض، ورفضوا ضغوط السلطة والبيئة والمجتمع والتجئوا إلى كنف الله سبحانه وتعالى وحمايته. فحماهم من الفتنة وخلد ذكراهم، وأجزل مثوبتهم.
لم يذكر كلب بعينه في القرآن الكريم إلا كلب أصحاب الكهف وذلك لصحبته الأماجد.
وما أجمل ما قاله الشيرازي في "كلستان" عن صحبة الكرام وكيف ترفع القدر والذكر. وقد صاغها بعض المتأخرين شعرًا بعد ترجمتها إلى العربية.
فقد دخل الحمام يومًا فوجد مجموعة من الناس يدهنون رءوسهم وأجسامهم بطين "البيلون" -وهو نوع من الطين الفخاري ينقع في الماء والورد ويعتبر نوعًا من المنظفات كالصابون والأشنان.
فخاطب البيلون بلسان الحال وهو يقول:
رأيت الطين في الحمام يومًا ... بكف الحب أثر ثم نسم
فقلت له أمسك أم عبير ... لقد صيرتني بالحب مغرم
أجاب الطين أني كنت تربًا ... صحبت الورد صيرني مكرم
ألفت أكابرًا وازددت علمًا ... كذا من عاشر العلماء يكرم
المقطع الثاني: مفارقات ومواقف في بواعث العزة
مدخل
المقطع الثاني: مقارفات ومواقف في بوعث العزة
{وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا، وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا، إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا، أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا، وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا، كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلالَهُمَا نَهَرًا، وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا، وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا، وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا، قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا، لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا، وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا، فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا، أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا، وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا، وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا، هُنَالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا، وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا، الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا} [الآيات منِ: ٢٨-٤٦] .
المناسبة بين المقطع الأول والثاني
هنالك مناسبات واضحة بين الافتتاحية وبين المقطع الأول، والمقطع الثاني فقد ذكرنا أن الافتتاحية تضمنت الحقائق والقيم الصحيحة التي توزن بها المبادئ والتصرفات.
فاشتمل المقطع الأول على قصة أصحاب الكهف وفيها الصراع بين الباطل المتمثل في السلطة الطاغية المتجبرة وبين الحق المتمثل في نور الإيمان ومشعل الحق الذي آمن به الفتية.
أما المقطع الثاني فقد اشتمل أيضًا على لونين من المبادئ والقيم: فالباطل ويتمثل في موقف زعماء قريش المتجبرين المتكبرين على عباد الله بسبب ما أوتوا من مال وجاه، فاتبعوا أهواءهم وطلبوا من الرسول صلى الله عليه وسلم طرد فقراء المسلمين المستضعفين.
وشبه حال هؤلاء القوم بحال صاحب الجنتين الذي أبطرته النعمة فتكبر وتجبر وكفر بالآخرة.
والحق يتمثل في موقف المؤمنين الضعفاء الذين أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصبر نفسه معهم، فقد وصفوا بالإخلاص {يُرِيدُونَ وَجْهَه} والمثابرة على طاعة الله وعبادته {يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ} وضرب لهم المثل بمحاور صاحب الجنتين الذي قال كلمة الحق للغافل المتكبر وبين له أن العزة الحقيقية والغنى الحقيقي لمن ملك الإيمان بالله سبحانه وتعالى واستغنى بما عنده عما في أيدي الناس.
هذه المناسبات بين المقاطع وبين الافتتاحية
أما المناسبات بين المقطعين نفسيهما فمما يرد على الذهن بشأنها -والله أعلم.
١- لما كان تعلق المقطع الأول بقصة أصحاب الكهف، وهو البند الأول من السؤال الأول الذي وجهته قريش -بتلقين من اليهود- إلى رسول الله وقد جاء الجواب عليه بالتفصيل، ولم تبق شبهة في ذلك، فمما يرد على الذهن -وقد قالوا: لقد جئنا بالأمر الفصل فيما بينكم وبين محمد، فاستقرت النتيجة لصالح محمد صلى الله عليه وسلم- أن يفكروا في الإيمان بمحمد، ولكن واقعهم وموروثاتهم الجاهلية لن يستطيعوا التخلي عنها بسهولة. ولن يستسلموا طواعية، فلكي يسمعوا من محمد دعوته وينظروا في أمر الإيمان به، فليطرد هؤلاء الضعفاء من مجلسه لكيلا يعير بهم الأسياد فيقال إنهم جلسوا مع الأرقاء والفقراء والمستضعفين في مجلس واحد. فهذا -في نظرهم- مما يزري بمكانتهم كما أن رائحة جباب هؤلاء تؤذي القوم، فإن كان حريصًا على إسلام السادة الزعماء فليهيئ لهم الجو المناسب اللائق بمقامهم فالمناسبة بين المقطع الأول والثاني كالمناسبة بين المقدمة والنتيجة فلما جاء الجواب على سؤالهم، فالنتيجة المنطقية أن يدخلوا الإسلام ولكن القوم طلبوا ما طلبوا واشترطوا ما اشترطوا ليبرروا موقفهم المعاند ولو بأتفه الأسباب.
٢- الوجه الثاني من المناسبة بين المقطع الأول والثاني: لما ورد ذكر الفتية المؤمنين في المقطع الأول ومنزلتهم في الحفاظ على العقيدة والتضحية في سبيل الله وكرامتهم على الله تعالى.
ناسب أن يذكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن في أمته أمثال أولئك فلا ينبغي التفريط فيهم، بل الواجب تقريبهم والعناية بهم فهم عدة الدعوة ووقود المعارك، وهم المخلصون الذين يعتمد عليهم -بعد ذلك- في الملمات والشدائد.
أما الغافلون عن ذكر الله، الساردون في ملذاتهم وشهواتهم، العابدون لأهوائهم فلا خير فيهم، وليسوا أهلًا للقيام بأعباء الدعوة ولا يزنون عند الله جناح
بعوضه، فلا يسمع كلامهم ولا تلبى طلباتهم والله غني عنهم، ثم ضرب لهم المثل بصاحب الجنتين.
٣- ختم المقطع الأول بقوله تعالى: {وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا} .
والآية كالجسر بين المقطعين فطرفها الأول في المقطع السابق يتعلق بالإخبار بحقيقة مكوث أصحاب الكهف، وأنه لا يلتفت إلى أقوال الفئات المتنازعة في شأنهم، فعند الله الذي يعلم غيب السماوات والأرض العلم الحقيقي، واتل ما أنزل عليك في شأنهم، يا محمد من أمور الغيب واستمسك به وبالهدايات التي ترد إليك، ومن هذه الهدايات الصبر مع المتقين المخلصين، وعدم الاغترار بالمظاهر الزائفة والأقوال الخادعة من زعماء الشرك فإنما يزينون لك الحياة الدنيا وقد علمت قيمتها الحقيقية. وهو الطرف الآخر من الجسر إلى المقطع الثاني.
٤- يضاف إلى هذه المناسبات ما تقدم في مبحث المناسبة بين المقاطع وبين هدف السورة وقد ذكرنا هناك أن سوق هذه القصة بمثابة التقريع والتوبيخ لزعماء قريش الذين أهملوا عقولهم وأغفلوا معرفتهم بمحمد صلى الله عليه وسلم وصدقه ونزاهته وأمانته وأرسلوا إلى اليهود ليعطوهم ما يتحققون به من صدق محمد في دعوته.
فسيق لهم هذا المثل أن من غفل قلبه عن ذكر الله واتبع هواه وكانت قيمه التي يحتكم إليها المال والجاه ضل ضلالًا بعيدًا، ولم يهتد إلى بدائه العقول وإلى نور الفطرة فلا ينظر إلى الأمور إلا بمنظار الغنى المادي وكثرة الرجال وعلو الجاه والمنزلة بين الناس.
فطغيانهم المادي واختلال الموازين والقيم عندهم هو الذي دفعهم إلى هذا التصرف فضرب لهم المثل لبيان الحقائق.
العرض العام للمقطع الثاني
عرض المقطع الثاني في فقرتين رئيسيتين تتعلق الأولى منهما بتوجيه رسول الله صلى الله عليه وسلم لصبر نفسه مع الفئة المؤمنة من فقراء المسلمين وضعفائهم ونبذ
ما طلبه زعماء قريش من إبعادهم، كما وضح سبب النزول ذلك١ ثم جاءت الفقرة الثانية بمثابة التقرير والتأكيد لما تضمنته الفقرة الأولى عن طريق ضرب المثل٢ لتوضح الحقائق وإبرازها.
وما ورد في هذه الفقرة الأولى من الفتن التي يتعرض لها أهل الدعوات خلال مسيرتهم في الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى.
إن من سنن الله في المجتمعات أن يستجيب لكل دعوة جديدة أقل الناس تعلقًا بالحياة الدنيا وأثقالها وأوثاقها، وأن يستجيب لها أقل الناس وجاهة ومكانة في القوم.
وأن يكون من جندها أول الأمر أهل الحماسة والنخوة الذين لم تفسد فطرهم.
نستطيع أن نقول إن هذا الأمر عام مشترك بين أتباع الدعوات جميعًا فإذا كانت الدعوة ربانية مقنعة للعقل ملائمة للفطرة الإنسانية ملبية لحاجات البشر المادية والروحية، تمكنت في القلب وارتفعت بالأتباع وازدادوا لها محبة وفي سبيلها تضحية وبذلًا، وجاهدوا في سبيلها بكل شيء.
أما إذا كانت الدعوة أرضية بشرية تهدف لتحقيق مصالح معينة فسرعان ما يحيط بها فئة أو طبقة من الناس فيستغلونها لتحقيق مآربهم وينكشف الأمر للرعيل الذي استجاب لها أول وهلة فمنهم من يستمر معها لأنها حققت له مصلحة، ومنهم من يتركها ويعاديها لأنه كان ضحية شعاراتها، وبريق أضوائها، فلا بد من وجود الصراع بين أتباع هذه الدعوة إلى أن يفني طرف منهما الآخر، وقد كانوا من الرعيل الأول الذي تبنى الدعوة وحمل لواءها.
هذه سنة الله في الدعوات واتباعها -حسب فهمنا.
ودعوة رسول الله صلى الله لعيه وسلم استجاب لها أول من استجاب الشباب والفقراء والنساء
١ انظر مبحث أسباب النزول: ١٧٢ من الكتاب.
٢ المقصود بضرب المثل، سوق القصة الواقعية المشابهة لحال القوم وليس المراد بضرب المثل، ضرب شيء متخيل للتقريب.
والأرقاء، ومن كانت تربطه برسول الله صلى الله عليه وسلم قبل البعثة روابط شخصية خاصة كأبي بكر رضي الله عنه. وتقاعس أهل الثراء والغنى وأهل الجاه والزعامة.
وذلك لأن أهل الثراء ينظرون إلى الدعوة من خلال مصالحهم المادية وما تدره الدعوة عليهم من مال ونشب، أو تفوت عليهم من مصالح وتلحق بهم من خسارة، فإن بان لهم -وخاصة في بداية الأمر- أنها مغارم وليس مغانم كانوا أبعد الناس عنها، بل كانوا من العقبات الشديدة في عرقلة مسيرتها١.
وصاحب الجاه والزعامة ينظر إلى مكانته في هذه الدعوة الجديدة، هل تبقى له الزعامة ويكون المقدم فيها، أو أنه سيفقد مكانته ويكون تابعًا كسائر الناس. فإن لم يضمن المكانة والمنزلة في الدعوة الجديدة لم يسلم له القياد، بل كان من جملة العقبات في سبيل انتشارها.
وكلا الفريقين يأتي ويساوم صاحب الدعوة، ماذا ستكون لنا إن نحن تبعناك ونصرنا دعوتك هل يكون لنا الأمر من بعدك٢.
وهنا تختلف الدعوة الربانية عن غيرها من الدعوات، إن الأمر لله من قبل ومن بعد يضعه حيث يشاء، ولكنهم إن آمنوا وعملوا الصالحات والتزموا أحكام دعوة الله وأخلاقها فلهم الجنة، أما في الدنيا فإن شأن الدنيا أحقر من أن تكون عوضًا عن الإيمان بالله والجهاد في سبيله وقد تأتي تبعًا ومن غير قصد إليها، ولكن لا تشكل في حال من الأحوال الغرض الأساسي في المتاجرة مع الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} [التوبة: ١١١] .
وصاحب أي دعوة وعلى رأسهم رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يلغي من حسابه الأسباب
١ هذه قاعدة غالبية فوجد بعض الأغنياء بين الرعيل الأول من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يبطل القاعدة الغالبية، فلكل قاعدة استثناءات.
٢ انظر: أحداث سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما عرض نفسه على القبائل لحمايته ونصره دعوته.
الظاهرة، ولا يمكن أن تلغى من المعادلة طبائع الناس ومطالبهم وتعلقاتهم وبخاصة إذا وضعت في صورة مبسطة، مبرأة عن المطامح.
ولكن موازين الله سبحانه وتعالى من الدقة والحساسية بحيث تميلها أدنى الانحرافات.
لقد سبق أن وقعت لرسول الله صلى الله عليه وسلم حادثة مشابهة، وكانت حسب الظاهر وحسب المقاييس البشرية لا غبار عليها، ولكن الله سبحانه وتعالى عاتب فيها رسوله وبين له أن الله غني عن العالمين {عَبَسَ وَتَوَلَّى، أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى، وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى، أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى، أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى، فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى، وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى، وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى، وَهُوَ يَخْشَى، فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى، كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ} [عبس: ١-١١] .
وهنا موقف يتكرر من زعماء قريش يريدون إبعاد الفقراء أصحاب جبب الصوف لئلا تؤذيهم روائح جببهم، وهم يلوحون ويلمحون أن في إسلامهم إسلام من وراءهم من الأتباع، وستوضع ثرواتهم ووجاهاتهم في خدمة الدعوة. كل ذلك يشترط أن يعرف صاحب الدعوة مكانتهم ويلبي لهم طلباتهم، وبدايتها تخصيصهم بهذا المجلس الخاص.
إلا أن الذي أنزل الكتاب وأرسل محمدًا بدعوة الحق، مطلع على ما يدور في الأذهان وما تحتويه الصدور.
إن هؤلاء لا يلجئون إلى مثل هذه المساومات إلا إذا أحسوا أن الوقت ليس في صالحهم١، وأن المستقبل أصبح يميل إلى جانب دعوة الحق نتيجة الأحداث
١ في بداية الدعوة لم يلق لها زعماء قريش بالًا، لعدم شعورهم بخطرهم على مصالحهم فلما تعرض القرآن الكريم إلى تسفيه أحلامهم وبيان بطلان ما هم عليه من تعظيم الحجارة واتخاذ الآلهة التي لا تضر ولا تنفع خطرت لهم فكرة المساومات ومرت بمراحل:
أ- مرحلة محاولة كبت الدعوة والقضاء عليها: بالاتصال بالقائم عليها ومحاولة ثنيه عن الاستمرار في دعوته مقابل مال أو جاه أو مغريات أخرى أو الاتصال بمن له نفوذ وتأثير=
التي يعايشونها، من دخول الناس في دين الله، وعدم ارتداد أحد منهم، ولم يستطيعوا حصر الدعوة بين جبال مكة فضلًا عن خنقها والقضاء عليها١ عند ذلك تراودهم المساومات وتخطر لهم العروض.
وأمثال هؤلاء تسيرهم مصالحهم وأهواؤهم، فما أن ينظروا في موقف من المواقف أن مصالحهم قد تعرضت لخطر وشيك حتى يقلبوا ظهر المجن ويتحولوا إلى الجانب الآخر.
ودعوة الله لا يصلح لها إلا من عاش بها ولها، ولم يكن له مطمع في شيء سوى رضوان الله سبحانه وتعالى والفوز بجنات عرضها السماوات والأرض، وسوى اتقاء غضب الله الجبار المنتقم وعذابه الشديد.
لا يصلح لدعوة الله إلا من وضع نصب عينيه العطاء والبذل من غير حدود ولو جاء ذلك على ماله وروحه التي بين جنبيه من غير أن يتوقع عوضًا دنيويًا من أحد.
= على صاحب الدعوة وقد فعلت قريش ذلك بعرض المال والسيادة والنساء على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم اتصلوا بعمه أبي طالب لمنع ابن أخيه من الاستمرار في دعوته فعندما يئسوا من ذلك جاءت المرحلة الثانية وهي:
ب- مرحلة المساومة على المتاركة والمداهنة في التعامل.
بأن يكف كل فريق عن التعرض لمعتقدات الفريق الآخر ومصالحه فإن استمرت دعوة الحق من غير تقديم تنازلات، ومن غير مهاودة أو مهانة مع الجاهلية، تأتي المرحلة الثالثة وهي:
ج- مرحلة المساومة على الشروط: بأن يبقى لأصحاب الجاه والمكانة الاجتماعية أو الثروة المادية مزايا خاصة على غيرهم.
وهذه المرحلة الثالثة هي التي تتحدث عنها سورة الكهف {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} .
وتتحدث عنها آيات الأنعام {وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنعام: ٥٢] .
١ ترتيب سورة الكهف في النزول الثامنة والستون، كما ذكره السيوطي في الإتقان: ١/ ٢٥.
لذا كان الأمر الجازم الصارم -لأن الموقف يقتضي ذلك، ولأنها المرحلة التأسيسية لدعوة الحق- {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا، وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} .
وفي ميزان الله أن الأمور بخواتيمها وعواقبها، وعاقبة هؤلاء الكفار الظالمين الطغاة إلى نار أحاط بهم سرادقها١، فأي خير يرجى من وجودهم في الصفوف.
- وعاقبة أصحاب جبب الصوف من الفئة المؤمنة {جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا} ، إنه الثواب والعوض عن القيود والأكبال التي كبلوا بها، وعن جبب الصوف ذات الرائحة الكريهة وعن المجالس المغطاة بالرمل والحصى والحجارة التي كانوا يجتمعون فيها لكي يدعوا ربهم بالغداة والعشي٢.
١ في ذكر ألوان العذاب للظالمين الغافلين الذين اتبعوا أهواءهم نوع من المقابلة لما كانوا عليه في حياتهم الدنيا:
أ- فالنار المعدة الحاضرة لا تحتاج إلى إيقاد وإعداد مقابل مجالس البطر والرقاه التي كانت تعد لهم.
ب- والنار ذات سرادق يحيط بالظالمين فلا سبيل إلى الهرب والنجاة، مقابل السرادقات التي كانت تمنع مشاركة غيرهم معهم ليصفو لهم الجو.
ج- إذا استغاثوا يغاثون بماء كدردي الزيت المغلي تتساقط أبشار وجوههم منه عندما يرفعونه إلى أفواههم مقابل الشراب والكئوس المترعة من الخمر المعتقة التي كانت يعلو عليها الزيد ويفوح منها العطر.
د- بئس المستقر والمنزل وبئس المرافق وبئس الطعام والشراب مقابل ما كانوا يظنونه نهاية السعادة ويتوقعون دوامها وخلودها.
٢ ذكر من أوصاف النعيم ما يتعلق بالأشخاص لأنهم محل التكريم والعناية، وذكر جريان الأنهار من تحتهم لأنهم محور الحديث، وليس المراد وصف الجنة بكثرة الأنهار، بينما في مواطن آخر يذكر تجري الأنهار من تحتها، أي تحت الجنات.
ثم تأتي الفقرة الثانية مقررة ومؤكدة للقيم التي وردت في الفقرة الأولى عن طريق سوق القصة مثلًا لحالهم جميعًا.
إن الإنسان العاقل يحدد منهجه في الحياة وسلوكه بين الناس على ضوء القيم التي يعتنقها ويؤمن بها.
فلما كانت منطلقات زعماء قريش زينة الحياة الدنيا "المال والجاه" دفعتهم إلى ذلك المطلب السخيف التافه بتخصيصهم بمجلس لا يشاركهم فيه الضعفاء والفقراء.
فليتدبر هؤلاء القوم ومن كان على شاكلتهم ممن أعشت زينة الحياة الدنيا بصائرهم عن رؤية الحق. فليتدبروا قصة صاحب الجنتين وصاحبه وليعتبروا فإن فيها العظة والعبرة:
صديقان أوتي أحدهما من زهرة الحياة الدنيا ما تتطلع إليه النفس البشرية وتنتشئ لرؤيته، لقد أعطاه الله سبحانه وتعالى جنتين١ فيهما من أنواع الفاكهة والأعناب ما لذ وطاب وقد حفتا بسياج من النخيل وبين أشجار النخيل والأعناب ساحات واسعة مخصصة لزراعة الحبوب والخضراوات الأخرى، ولا شك أن هذا التنويع في الزرع والشجر يضفي جمالًا وبهاء على منظر الجنتين ويضفي قيمة وغلاء على ثمنهما، فمن المعهود عند أصحاب الفاكهة أن أنواعًا منها تثمر في سنوات وينقص ثمرها في سنوات أخرى كما أن أنواعًا من الزراعة تتأثر ببعض الآفات في سنوات بينما أنواع لا تتأثر بها. فالتنويع في الأنواع يجعل صاحب الزراعة في منأى عن ضياع المواسم بالكلية وفوات الثمر والحصاد.
إلا أن الجنتين في القصة أتت أكلها خير ما يكون الإيتاء والإنتاج ولم تنقص شيئًا من العطاء.
١ تطلق الجنة على البستان الذي تداخلت أغصان الأشجار فيه بحيث تستر وجه الأرض وما خلفها. وإذا كان البستان مسورًا محوطًا سمي حديقة.
ومما أضفى الجمال على الجنتين، وأغلى من قيمتهما تفجر النهر خلال الأشجار والزرع١.
وبالإضافة إلى هذه الممتلكات والعقارات الثابتة، فقد كان لصاحب الجنتين من المال المنقول ومن النقدين ما كان يستثمره في التجارة والمجالات الأخرى، {وَكَانَ لَهُ ثَمَر} ٢، بحيث استكمل الرجل الأسباب الظاهرة للتمكن من الثروة والقبض عليها بأيد قوية، فلئن فاتته فرصة في التجارة فإن الزرع والأعناب ستعوضه، ولئن أصابته آفة زراعية فإن المال المستثمر سيغطي النقص لديه.
كل ذلك ساقه الله سبحانه وتعالى له سوقًا من غير جهد وخبرة من الرجل بدليل إسناد الضمائر إلى لفظ الجلالة "جعلنا، حففناهما، جعلنا بينهما زرعًا، وفجرنا" .
وحصول هذه النعم الدنيوية العظيمة له، وتسخير هذا الثراء وهذه الأموال لمصالحه، وتنعمه بها، يستدعي شكر مسدي هذا النعم، وتسخيرها في طاعته واتفاقها في سد خلة المحتاجين لتكون وسيلة إلى القربى من المولى عز وجل. هذا هو المفروض وهو المتوقع من العبد تجاه ما ساقه إليه سيده ومولاه.
إلا أن النفس البشرية إذا تركت على هواها، وحجب عنها نور الإيمان، ونظرت إلى ما بين يديها من الأسباب المادية، أخذها الغرور والبطر، وظنت أنها لم تؤت هذا المال وهذه المكانة والوجاهة إلا لمزايا ذاتية فيها، وهذا الصنف من
١ ذكر تفجير النهر خلال الجنتين متأخرًا عن ذكر إيتاء الجنتين الأكل، إشارة إلى أن خصوبة التربة ورطوبة الجو كانت كافية لإيتاء الجنتين النتاج، ووجود النهر عندئذ رصيد احتياطي عند تقلبات الأنواء، كما أن وجود النهر يزيد المنظر جمالًا.
٢ قال الراغب: والثمر: قيل هو الثمار، وقيل جمعه، ويكنى به عن المال المستفاد، وعلى ذلك حمل ابن عباس قوله تعالى: {وَكَانَ لَهُ ثَمَر} . ا. هـ. المفردات: ١٠٩.
وقرئت "ثُمُر" بضم الثاء والميم: وهو المال الكثير المختلف من النقدين والأنعام والجنات والزروع. ا. هـ. التحرير والتنوير: ١٥/ ٣١٨ وهي قراءة ابن كثير ونافع وابن عامر وحمزة والكسائي انظر: كتاب السبعة في القراءات لابن مجاهد: ٣٩٠ بتحقيق شوقي ضيف.
البشر يتكرر في كل زمان ومكان وفي كل حال لم تهذب بإشراقة الإيمان، ولقد ظن هذا الظن قارون عندما قال: {إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي} [القصص: ٨٧] .
لقد أخذه البطر والأشر والتكبر على عباد الله فالتقى صاحبه الفقير وهو في زينته ليحاوره ويقول له: "أنا أكثر منك مالًا وأعز نفرًا" لم يقف به الغرور والبطر عند التكبر على عباد الله وكسر قلوب الفقراء بل تجاوز ذلك إلى حين يفقد توازنه في الحكم على الأشياء وأن يضفي صفات كاذبة على ما بين يديه من المال والثراء فزعم لها البقاء والخلود: {قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا} ، ولكنه تذكر أن السنة الجارية على الأحياء أن لا يخلد استمتاعهم بمالهم وأولادهم فإما أن تفارقهم أو يفارقوها بالموت، يا هل ترى ما المصير عندئذ؟!
إن تذكر الموت وتصور الحياة الأخرى والحساب والجزاء، مما يقض مضجع المترفين البطرين الأشرين، لذا يحاولون إلقاء حجب كثيفة بينهم وبين الاعتقاد باليوم الآخر. فقال قولته الملحدة {وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً} ، ولكن المؤمنين يؤكدون على وجود هذا اليوم، وقد أرسل الرسل بهذه العقيدة، ولم يخل دين سماوي عن هذه العقيدة، فتنازلًا عند كل هذه الأقوال، وافتراضًا لغير الواقع يفترض وجود هذا اليوم افتراضًا فلو وجد هذا اليوم وبعث يوم القيامة، فلأنه ذو مواهب خاصة، وطاقات نادرة، ومزايا ذاتية فسيجد عند ربه خيرًا مما آتاه في الدنيا، يقول ذلك عجرفة وتهكمًا بصاحبه وبما يعتقده. إنها النفس الأمارة بالسوء، المغرورة بالقيم الزائفة المتبعة لهواها، قد أبطرتها النعمة وأذهلتها الثورة وأسرتها الوجاهة. إلا أن صاحبه المعتز بإيمانه بربه، الذي ينظر بنور الله، ويحكم على الأشياء بميزان العقيدة ولا تبهره المظاهرة البراقة المخادعة يجابهه بالحق، ويذكره بحقيقته، وحقيقة ما هو فيه لقد بدأ الانحراف في صاحب الجنتين من داخل نفسه ومرورًا بالمال وكثرة الرجال {أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا} .
فليذكر له صاحبه الدواء والعلاج والتقويم من داخل نفسه أيضًا إن نفسه المتكبرة المتجبرة المتعالية على العباد ما هي إلا مستلة من التراب المهين الذي يداس بالأقدام، ثم من النطفة القذرة التي يستحيي من إظهارها أو الحديث عنها،
ولولا رحمة الله بالناس، والنفخة الربانية التي نفخها فيها لما كان لها شأن ولا قيمة، فكيف ينسى المرء أصله ومنشأة والعناية الربانية به {أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا} .
إن هذه الحقائق العظمى ينبغي أن لا تنسى، ولا يليق بعاقل أن يغفل عنها ويخرجها من حسبانه في النظر إلى الحياة والناس والمال والمتع، لقد جرت سنة الله سبحانه وتعالى في الخلق أن يدخل السرور إلى القلب وتنتعش النفس إذا تيسرت لها سبل المعيشة وحصل على زينة الحياة الدنيا، إلا أن ذلك لا يخرجها عن طبيعتها ولا يعطيها قيمة أعظم من قيمتها {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ، قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ، الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ، الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ} [آل عمران: ١٤-١٧] .
فعلى ضوء هذه الحقائق كان عليه أن يدخل جنته ويحمد الله الذي أنعم عليه بها من غير حول منه ولا قوة، ولو عرف حق الله عليه فيها فأنفق منها في وجوه الخير والبر، لكانت له مزية على غيره، ولعرف الناس فضله ومكانته، "إن فقراء المهاجرين أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: ذهب أهل الدثور بالدرجات العلى والنعيم المقيم فقال:" وما ذاك؟ "قالوا: يصلون كما نصلي ويصومون كما نصوم ويتصدقون ولا نتصدق ويعتقون ولا نعتق، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" أفلا أعلمكم شيئًا تدركون به من سبقكم وتسبقون به من بعدكم، ولا يكون أحدًا أفضل منكم إلا من صنع مثل ما صنعتم؟ "قالوا: بلى يا رسول الله، قال:" تسبحون وتكبرون وتحمدون دبر كل صلاة ثلاثًا وثلاثين مرة "، قال أبو صالح: فرجع فقراء المهاجرين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: سمع إخواننا أهل الأموال بما فعلنا ففعلوا مثله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"
"ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء" ١. أمثال هؤلاء عرفوا قيمة الأعراض الدنيوية فلم تلههم عن طاعة الله وعبادته بل جعلوها وسائل تقربهم إلى الله سبحانه وتعالى.
ثم يلتفت صاحبه إلى الجنة التي كانت سبب غروره، وبطره، وتكبره على عباد الله وكسر قلوبهم، فعسى الله أن يرسل عليها إعصارًا فيه نار فتحرقها وتأتي على الأخضر واليابس فيها فتصبح خرابًا تزلق فيه الأقدام، {أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا} .
وأحد السببين كاف للقضاء عليها، فإذا اجتمع السببان فاتت المنفعة منها تمامًا.
وكانت الاستجابة لدعوة العبد الصالح فورية فلم يكد ينتهي من توجهه إلى ربه ويدعو بتفويت ما كان السبب في أشر صاحبه٢، حتى كان الدمار والخراب يحل بالجنتين، بل تعداهما إلى الأموال الأخرى {وَأُحِيطَ بِثَمَرِه} .
فصار يتجول في أرجاء الجنتين وهو {يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا} .
إنها ساعة الحسرة والندم بعد فوات الأوان. لقد ذهب كل شيء في طرفة عين، أين المال الذي كان يملأ نفسه كبرًا وعجبًا وأين الجنان التي كانت تملأ نفسه نشوة وبطرًا، بل أين الرجال والنفر الذين كان يهيئهم للملمات والشدائد، لم يقدم أحدهم له عونًا ونصرًا، لم يستطع أحدهم أن يدفع عنه الكارثة الماحقة، وأنى لمخلوق أن يقف أمام قدر الله سبحانه وتعالى الذي يقول للشيء كن فيكون. أما كان يسع هذا الإنسان الضعيف أن يلزم حدوده، فيستمتع بما وهبه الله عز وجل ويحمد الواهب على ما وهب ويشكره على ما سخر له فيكون في منأى من غضب الجبار وانتقامه، ألا يعلم الإنسان أن لله جنود السماوات والأرض، وأنه
١ انظر: صحيح مسلم كتاب المساجد: ٢/ ٩٧.
٢ لم يرد للنفر ذكر، فلعل الصاحب الصالح لم يدع على الرجال والأتباع والذرية فلعله يخرج من بينهم من يوحد الله سبحانه وتعالى، وهو اللائق بحال الكمل من الصالحين. كما أن تعلق أهل المتع والأهواء بالمال أكثر فتفويته أشد على نفوسهم من تفويت الأهل والرجال.
لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، وأن إليه المصير والمآب، وأن بيده الحكم والأمر فإن أقر بذلك فينبغي أن تكون التصرفات والأعمال على ضوء ما يقر ويعترف.
ثم تأتي العبرة المستقاة من الأحداث السابقة، وتساق خلاصة التجربة، وهي القاعدة العامة التي ينبغي أن لا يغفل الإنسان عنها فليتدبر زعماء قريش هذه الحقيقة، وليتدبر الآخرون من أمثال صاحب الجنتين، وليتدبر الناس جميعًا إلى قيام الساعة حقيقة ما هم فيه:
الحياة الدنيا سريعة الزوال، سريعة الانقضاء ما وجودها ولا استمتاعكم بها في سرعة زوالها إلا كسرعة دورة نباتية مما تشاهدونه أمامكم يتكرر كل موسم زراعي.
أمطار تنزل من السماء فتنبت الأرض من الأعشاب والحشائش وأنواع النباتات وخلال أشهر قليلة تزدهر وتزهو فتبلغ أوجها في النضارة والاخضرار في الربيع، فلا تكاد تنقضي أشهر الربيع حتى تصبح هشيمًا يابسًا مصفرًا يتكسر من هبات النسيم فتذروه الرياح في الأرجاء بددًا لا تقوم لها قائمة.
إنها أشهر معدودات. تتكرر فيها حياة النبات على هذه الشاكلة إن الدورة النباتية صورة مصغرة لدورات أخرى تجري، فعلى مستوى الأفراد ولادة فطفولة فشباب ثم كهولة وشيخوخة ثم قبض وانتهاء وهذا ما يشاهده الناس في أنفسهم وعلى مستوى الأجيال والدول والمجتمعات، نقرأ في التاريخ دولًا وأممًا ولدت ثم نمت وتوسعت وانتشرت ثقافاتها ثم أصابها الجمود ثم التقلص ثم الاندثار والفناء.
وقل مثل ذلك على مستوى البشرية والكوكب الذي نعيش عليه، إنها ومضات من تاريخ الكون الطويل، والقدم والبقاء للحي القيوم المقتدر.
إن سنة الله سبحانه وتعالى في الكون أن خلق المخلوقات ووفر لها نظم حياتها ووسائل معايشها، وسخر بعضهم لبعض، ووضع في الكون طاقات وقوى ورسم سبل الهداية إليها.
وأنزل على صفوته من خلقه -الأنبياء والمرسلين- النظام الذي ينبغي السير عليه في هذا الكون.
فهناك وسائل لا ينبغي أن تأخذ دور الغابات
وهنالك أشياء جعلت زينة لغيرها فلا تأخذ مكانة القيم والحقائق وهنالك وهنالك.
فعلى الناس جميعًا أن يتصرفوا في ضوء الهدايات الربانية، ويتعاملوا مع الموجودات في الكون.
ومن هذه المبادئ الأساسية {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} إنها زينة وليست قيمة، وإنها وسائل لا غايات.
أما الباقيات الصالحات١ فإنها قيمة وغاية وحقائق فهي التي توزن بها الرجال والأعمال، وبها تدرك الغايات والثوابت ومن منطلقاتها تصدر الأحكام.
وهي الباقية بعد انتهاء هذه الحياة الدنيا وزوالها، وهي الذخر والكنز الذي يبقى مع صاحبه إلى دار القرار.
ورد في الحديث: "يتبع الميت ثلاثة فيرجع اثنان ويبقى معه واحد يتبعه أهله وماله وعمله، فيرجع الأهل والمال، ويبقى العمل معه" ٢.
فيما فوز من ثقلت موازينه بالباقيات الصالحات.
١ تعددت أقوال المفسرين في تفسير الباقيات الصالحات: فمنهم من قال ذكر الله سبحانه وتعالى، استنادًا إلى الحديث الصحيح الذي رواه أحمد والحاكم وصححه عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "استكثروا من الباقيات الصالحات" ، قيل: وما هي يا رسول الله؟ قال: "التكبير والتهليل والتسبيح والتحميد ولا حول ولا قوة إلا بالله" . وقيل: هي الصلوات الخمس وقال بعضهم: إنها العبادات والطاعات عمومًا. ولعل التعميم أولى، والذكر من الباقيات الصالحات.
٢ رواه مسلم في صحيحه، كتاب الزهد: ٨/ ٢١١.
عظات وعبر
لقد أطلنا في العرض الإجمالي لهذا المقطع، لذا نكتفي به عن العرض التحليلي مخافة الإطالة وتجنبًا للتكرار، وبعض النقاط الهامة سنذكرها في جملة فقرات العظات والعبر.
اشتمل هذا المقطع على حكم جليلة -شأن المقاطع جميعًا- وفيما يلي نذكر جملة منها:
١- في تقديم الحديث عن فقراء الصحابة والصبر معهم، وعدم سماع قول المشركين الغافلين عن ذكر الله على قصة صاحب الجنتين حكم منها:
أ- ربط المثل والقصة بالواقع المحسوس المشاهد أشد أثرًا في النفس وأقوى دلالة على المطلوب، فعندما ذكر واقع هؤلاء وأولئك ومصير كل، جاء المثل ليقرر الحقائق ويبين القيم والمعاني التي يعتنقها كل فريق.
ب- وجود شبه ومناسبة بين الفتية المؤمنين، أصحاب الكهف، وبين الفتية الفقراء من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ج- لو ذكرت قصة صاحب الجنتين بعد قصة أصحاب الكهف مباشرة لكان الانتقال من قصة إلى قصة، وفي ذلك إغراق في الخيال للمستمع والقارئ وإيغال في الأمور النظرية. مما يؤدي إلى أثر عكسي عليهما بينما التنويع في أسلوب العرض بين الأحداث الواقعية وضرب الأمثلة وسوق القصص ينشط الذهن ويحمل النفس على التفاعل مع القضايا المعروضة.
٢- ينبغي أن تكون الدعوة جماهيرية المنحى، ولا يجوز حصرها في طبقة معينة، وإذا حاولت طبقة ما: من المثقفين، أو النجار أو العمال، أو الفلاسفة، أو العسكريين حصر القيادة فيهم ستقع الفجوة بين القاعدة الجماهيرية، وبين القيادة، ويؤدي بالتالي هذا الوضع إلى تبلد إحساس القيادة بمشاكل عامة المسلمين، وتزداد النقمة من العامة على القيادة، لذا كان الصبر مع الحريصين على الدعوة المقبلين على الالتزام بمبادئها، والتضحية في سبيلها من أساسيات الصفات القيادية في الزعامة المؤمنة.
والمخلصون الباذلون الربانيون هم بطانة القيادة وموضع شوراها بغض النظر عن الأنساب والطبقات والمستوى المعاشي {وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} .
٣- المرونة في الدعوة والتدرج مع المدعوين في حملهم على الالتزام بمبادئ الدعوة، وترغيبهم فيها وتحبيبها إلى نفوسهم بشتى الأساليب كل ذلك شيء مرغوب فيه -وسيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم مليئة بالشواهد على ذلك- أما إذا تعلق الأمر بالمساومة على مبادئ الدعوة وتعديل منهجها وتغيير حقائقها، فينبغي على الداعية أن يقف وقفة صارمة صريحة، وإفهام المدعوين أن الله غني عن العالمين وأن دخولهم في دعوة الحق تكريم لهم وتشريف لمقامهم، وليس تشريفًا للدعوة فإن شرفها تستمده من المصدر الذي أنزلها، {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الحجرات: ١٧] .
وهذا ما اشتملت عليه الآيات الكريمة {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} .
ومثل هذا الأسلوب يفعل فعله في نفوس المترددين والمساومين الراغبين في المداهنة ويترك أثرًا في أذهانهم لإعادة النظر في مواقفهم من الدعوة.
٤- جاء عرض مصير الفريقين على طريقة اللف والنشر غير المرتب، وذلك لحكمتين:
أ- للمناسبة بين ذكر الفتية أصحاب الكهف، والفتية من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم كما تقدم.
ب- لتعقيب ذكر الغافلين المتكبرين بذكر سوء مصيرهم، فما يفصلهم عنه سوى حاجز الموت ليروا النار المعدة لهم {إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا} .
٥- الجزاء من جنس العمل، أبدل كل فريق بمجالس تعكس صورة أعمالهم في الحياة الدنيا.
أ- لقد كان الغافلون المتبطرون يعيشون حياة الرفاه والترف في الدنيا، فكانوا يجلسون في أماكن خاصة تحيط بها السرادقات تحجبهم عن أعين الناس، فلا يستطيع أحد اقتحامها عليهم، لئلا تفسد أمزجتهم ويكدر عليهم صفو استمتاعهم، وكانت هذه المجالس تعد خصيصًا لهذه المناسبات، وقد أبدلوا
بها اليوم نارًا أحاط بهم سرادقها، فلا يستطيعون النجاة من النار، ولا اقتحام السرادقات، فهم في عذاب مقيم، وهذه المجالس جاهزة لهم معدة تنتظر ورودهم إليها.
ب- كانوا في مجالسهم الدنيوية ينادون على الخدم والغلمان للاستزادة من الشراب ويشربون الكئوس المترعة للمزيد من النشوة والفتوة والنشاط وأبدوا بها يوم القيامة زبانية جهنم، كلما اشتد عليهم الحريق والعذاب بالنار استغاثوا بالماء ليطفئ اللهيب في أجوافهم {يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ} إذا رفعوا الإناء إلى أفواههم جاءهم لفح الماء ولهبه فتساقطت أبشار الوجوه في الإناء، هذا فعلها في الوجوه فكيف تفعل بالجوف والأمعاء.
جـ- كانوا يظنون أن السعادة كل السعادة في هذا اللون من المجالس والخدم والشراب، وأن من أوتي في الدنيا مثل هذا فقد نعم في حياته ولا يريد عنها بديلًا.
فأدركوا في الآخرة حقيقة ما كانوا عليه، ووجدوا الشفاء الذي صاروا إليه، فأدركوا أن متعًا زائفة هذا مصيرها ساءت لذة وفي الآخرة {بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا} .
أما أهل التقوى والصدق، الذين حبسوا أنفسهم على طاعة الله وتدبر آياته، وكانت لهم مجالسهم وهيئاتهم ومرافقهم قد أبدلهم الله عز وجل بها مجالس ومرافق خيرًا منها:
أ- أما مجالسهم في الدنيا فقد كانت الحصباء في الأودية والشعاب أو في قعر البيوت المظلمة وفي السراديب والأقبية مخافة اطلاع الجبابرة عليهم -وأغلبهم من الأرقاء والمستضعفين والموالي- فيسيمونهم سوء العذاب.
أبدلهم الله سبحانه وتعالى بها الحدائق الغناء والبساتين الملتفة الأشجار تجري من تحت أقدامهم الأنهار.
ب- كانت ملابسهم في حياتهم الدنيا جبب الصوف تفوح منها رائحة العرق
ولا تكاد تجد على أحدهم رداء وإزارًا، فمنهم من اشتمل بإزاره فعقده بين منكبيه، ومنهم من لا رداء له. ومنهم من تخلل بعباءة إنهم كانوا حفاة عراة جياعًا.
لقد بوأهم الله سبحانه وتعالى في جنات الخلد مقاعد صدق عند مليك مقتدر وحلوا حلل الكرامة والعز والشرف، فهي أيديهم -التي طالما وضعت فيها القيود والأكبال- أساور من ذهب وفضة، ويلبسون الحلل السندسية من رقيق الحرير وغليظه، تفروح من مجالسهم رائحة المسك والعنبر.
ج- كانوا في حياتهم الدنيا يفترشون الأرض ويلتحفون السماء ويتخذون الحجاة والصخور الصماء وسائد ومتكًأ.
أما اليوم فلهم أرائك وعروش كعروش الملوك والسلاطين، وأين العروش الدنيوية الزائلة من أرائك الجنة الباقية.
إن العيش عيش الآخرة، وكل نعيم سوى نعيم الجنة زائل، وساء كل مرتفق إلا مرتفق الجنة فنعم الثواب وحسنت مرتفقًا.
٦- منطق الفكر المادي: خطوات تجر بعضها بعضًا ومقدمات تؤدي إلى نتائج:
أ- الانطلاق من النفس "أنا" والنظر إلى الأشياء بمنظارها والتحاكم إلى هواها في معرفة قيم الأشياء وحقائقها وإذا أوتي المرء مزية أو قدرة أو كفاءة، أسند ذلك إلى الفضل الذاتي والطبيعة.
ب- حصر اللذة والمتعة والسعادة في المحسوسات البهيمية العاجلة.
جـ- إنكار الغيبيات، واليوم الآخر والحساب والجزاء، تشبثًا باللذة الفانية، وشهوات النفس الوضيعة وعدم التفكير بالعواقب إبقاء لها وتغريرًا وخداعًا للنفس.
د- اختلال التوازن والمحاكة العقلية الصحيحة فيحسبون أن القيم التي يعاملهم بها أهل الدنيا، تظل محفوظة لهم في الملأ الأعلى،
فما داموا يستطيلون على أهل الأرض فيظنون أن لهم عند أهل السماء مكانًا ملحوظًا: "ألا ساء ما يظنون" .
٧- سنة الله في خلقه أن لا يزيل النعمة عن العباد بمجرد كفرهم، فقد يمتع الكافر طول حياته بماله وصحته وولده، وفي ذلك استدراج له، أما إذا أصبحت الصحة والثروة والأتباع وسيلة طغيان واحتقار وإذلال لعباد الله الصالحين، فإن عقوبة الله العاجلة له بالمرصاد.
٨- المال والبنون، زينة الحياة الدنيا، يجعلها أهل الدنيا قيمًا وهي أعراض زائلة، وبذلك يعيبون، الحقائق، ويبنون عليها أمور الآخرة وهو وهم وسراب خلب ذهبت بآمالهم أدراج الرياح.
الباقيات الصالحات هي القيم الصحيحة وبها توزن الأعمال وهي سبب السعادة في الآخرة.
المقطع الثالث: وقفة تأمل في المال والمصير
مدخل
المقطع الثالث: وقفة تأمل في المآل والمصير
{وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا، وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا، وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا، وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا، مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا، وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا، وَرَأى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا، وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْأِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا، وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلًا، وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا هُزُوًا، وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا، وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا، وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا} . [الآيات من: ٤٧-٥٩] .
المناسبات بين المقطع الثالث وما قبله
يأتي هذا المقطع مختلفًا في أسلوب العرض عن المقطعين السابقين، حيث تعرض مشاهد سريعة من مشاهد يوم القيامة، وهي بمثابة النتائج لتصرفات المغرورين بالقيم الزائفة في الحياة الدنيا ولعل من أبرز وجوه المناسبة بين هذا المقطع والمقطع السابق.
١- لما انتهى المقطع السابق بذكر الباقيات الصالحات، وأنها خير ثوابًا وخير أملًا، بدأ هذا المقطع بذكر اليوم الذي تظهر فيه الخيرية للباقيات الصالحات وهو {وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً} حيث تبرز قيم الأشياء على حقيقتها للعيان.
٢- لما كانت زينة الحياة الدنيا أكبر همهم ومبلغ علمهم -كما عرض في المقطع السابق- بين لهم في هذا المقطع أن الذي يزين لهم ذلك هو عدوهم الأول إبليس، فلا ينبغي اتخاذه وذريته أولياء، لأنه سيؤدي بهم إلى المهالك وسوء المصير، إلى جهنم ولن يجدوا لهم عنها مصرفًا.
أما الباقيات الصالحات فستعيدهم إلى ما كان فيه أبوهم آدم عليه السلام من التكريم والنعيم المقيم.
٣- تشابه بين المواقف الثلاثة:
- موقف مشركي قريش من فقراء المسلمين وتكبرهم عليهم.
- وموقف صاحب الجنتين وتكبره على صاحبه وقوله: {أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا} وقوله: {وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا} .
- وموقف إبليس من آدم {فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} . وإبليس في موقفه هذا قدوة كل متكبر على الحق ومن كان إبليس وليه وقدوته فقد خسر الدنيا والاخرة.
٤- منهج المعرفة الخاطئ يجمع بين الطوائف الثلاث:
فقد جعل زعماء قريش النسب والثروة ميزان التقويم ومقياس التفاضل وجعل صاحب الجنتين الثروة وكثرة الرجال والمزايا الشخصية معيار الخيرية وجعل إبليس الماهية التي خلق منها الميزان والمقياس {قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [الأعراف: ١٢] .
العرض الإجمالي للمقطع الثالث
هذا المقطع بمثابة التعقيب على أحداث مقطع صاحب الجنتين.
ومن وحي ذكر الزينة الفانية الزائلة، والباقيات الصالحات.
لقد عرض المقطع جانبًا من مشاهد يوم القيامة وأحداثه.
فقد سيرت الجبال وسويت بالأرض بعد أن دكت ونفست فصارت كثيبًا مهيلًا كالعهن المنفوش، وأصبحت الأرض قاعًا صفصفًا لا ترى فيها عوجًا ولا أمتًا.
وحشر الناس كما خلقوا أول مرة١ وعرضوا صفًا على طبيعتهم من غير أصبغة وزخارف، فلا ملابس تميزهم، ولا مال يدل على ثرائهم وغناهم ولا أتباع يرمزون إلى مكانهم وجاههم.
وأسقط في أيدي أصحاب الزينة وأدركوا أن ما كانوا يتحاشون ذكره ويظنون بعيدًا ماثلًا أمامهم.
١ جاء في سورة الأنعام ما يشبه الموقف حيث قال تعالى: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} [الأنعام: ٩٤] .
والملاحظ ذكر الشفعاء والشركاء وتخليهم عن أوليائهم يوم القيامة في آية الأنعام بينما لم يرد لهم ذكر في سياق آية الكهف، والحكمة في ذلك -والله أعلم- أن آية الأنعام جاءت في سياق الحديث عن نفي الشركاء وبعد محاجة إبراهيم عليه السلام قومه وإقامة الأدلة والبراهين على الوحدانية.
بينما آية الكهف جاءت في سياق الحديث عن القيم الزائفة من زينة الحياة الدنيا من المال والبنين، لذا ذكر حشرهم مجردين كما خلقوا أول مرة فلا مال ولا نفر.
وفوجئ الناس بوضع الموازين القسط وعرض الكتاب، إنه صحائف الأعمال في الحياة الدنيا التي خلفوها وراء ظهورهم، لقد مضت كالسراب بزخارفها ومآسيها وآثامها وغرورها ومتعها، ولم يبق منها سوى "الباقيات الصالحات" .
لقد رأى المجرمون جرائرهم ويستعرض أمامهم شريط الأقوال والأفعال وخطرات السوء، {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا، اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا} [الإسراء: ١٣-١٤] .
لا مجال للإنكار. فقد ردوا أيديهم في أفواههم مستغربين مدهوشين {مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا} .
لا مجال للتظلم، فقد وضحت الحقائق، وأقيمت الحجج، وأدلى الشهود العدول من الجوارح والأعضاء بشهاداتهم، وهم يدركون شعار الحق {لا ظُلْمَ الْيَوْم} [غافر: ١٧] .
لم يكن تباكيهم على وقوع الظلم عليهم أو احتمال وقوعه، ولكن دعاؤهم بالويل والثبور على أنفسهم كان مما وجدوا في الكتاب من حصر شامل لمخازيهم {وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا} لم يترك الكتاب صغيرة مما كانوا يعتبرونها من محفرات الأعمال: فربما تكلم الرجل بكلمة من سخط الله أهوت به في نار جهنم١.
ولربما كانوا يلهون ويلعبون ويستهزئون ويضحكون، وهم غافلون، فاليوم يقال لهم: {أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ} [التوبة: ٦٥] .
وهذا التعقيب مناسب لما تقدم في المقطع السابق من موقف زعماء قريش من فقراء الصحابة، كما أنه منسجم مع أحداث المحاورة بين صاحب الجنتين وصاحبه المؤمن المعتز بإيمانه.
وتأتي بعد ذلك لفتة لأصل الغواية، لمعرفة جذور الداء، وأصول هذه الضلالة
١ انظر: صحيح البخاري كتاب الرقاق: ٧/ ١٨٥.
التي عليها غالبية الناس، وهي سبب خداعهم بالمظاهر البراقة والقيم الزائفة، فما أساس البلاء.
إن جذور الداء موصولة بأب الغواة، وأساس الفساد إبليس عليه لعائن الله.
لقد تمرد على أمر ربه فلم يسجد لآدم عليه السلام، وطرد بسبب هذا العصيان من رحمة ربه. فأضمر العداوة لآدم لكونه السبب في هذا الطرد وأوعد بإغواء ذريته إلى يوم الدين، وقد حذر الله سبحانه وتعالى آدم وذريته من مكائد إبليس {فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى} [طه: ١١٧] .
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ، إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [فاطر: ٥، ٦] . ألا فليتدبر العقلاء:
- الله خلقكم في أحسن تقويم وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة.
- طرد إبليس من رحمته بسببكم وتكريمًا لكم.
- ولما توعد إبليس بإغوائكم كشف ربكم عن مكائده وحذركم منه.
- وسلحكم بالأسلحة التي تدافعون بها عن أنفسكم، والحصون التي تلجئون إليها عند غاراته وقبيله عليكم، على ألسنة أنبيائه ورسله الذين أرسلهم إليكم تترا.
ثم بعد كل ذلك {أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا} فهل من تعليل لهذا الموقف يقبله المنطق، وهل من شبهة تثور في أذهانكم حول مقدرة إبليس وطاقاته وإمكاناته، فتضفي على تفكيركم ظلالًا من الشك في الحقائق:
- هل يقدر إبليس وجنده على خلق السماوات والأرض منفردين أو مجتمعين؟
- هل حضروا خلق الكون فاطلعوا على السر في السماوات والأرض؟
- هل كان لهم مؤازرة ودعم في إيجاد الأنظمة الكونية؟
- هل كان لهم أدنى مساهمة في خلق شيء حتى خلق أنفسهم؟
- هل كان لهم خيار في اختيار الماهية أو الكيفية أو الزمان أو المكان الذي يخلقون فيه؟
فإن كان العجز المطلق عن التطلع إلى مقام الألوهية وخصائصها من شأنهم فما السبب في ترك الناس موالاة الإله الخالق الرازق المتصرف المدبر لشئون الكون كله، واتخاذهم إبليس وذريته -وهم لهم عدو- أولياء من دونه. ألا بئس الاختيار وساء المنطلق والمصير.
ولكن هل ستذهب هذه التصرفات الغبية ومواقف الحمق والبلادة، والانحرافات الماكرة ويسدل عليها الستار، فيسوى بين أصحابها وبين الذين استجابوا لنداء الفطرة ولبوا دعوة الحق فآمنوا بالله وحده لا شريك له؟ كلا، شتان بين الفئات؟
إن هنالك يومًا للمجابهة والمحاسبة {وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ} .
يوم تكشف الحقائق ويظهر بطلان دعوى الشركاء والأنداد، وأقر المشركون على أنفسهم بالضلال، وعلموا علم اليقين أن الشركاء لن يغنوا عنهم في هذا اليوم شيئًا.
ولكن يوجه إليهم الأمر الإلهي، أن ينادوا على شركائهم الذين دعوهم من دون الله في الحياة الدنيا، تبكيتًا وتوبيخًا وتحقيرًا.
ومع يقينهم أن نداءهم صرخة في واد ونفخة في رماد، إلا أنه الأمر الإلهي ولا مفر من التنفيد.
فينادي أصحاب الأصنام أصنامهم.
وينادي عباد الصليب صليبهم.
وينادي عباد الطواغيت طواغيتهم.
وينادي عبيد الحزب أحزابهم.
وينادي عبيد الشهوات والمتع البهيمية قيمهم.
{فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ} .
إن بين العابدين والمعبودين المزيفين هوة سحيقة من الكره والبغض {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} [الزخرف: ٦٧] .
لقد تحولت المودة التي كانوا يوادون بها بعضهم إلى بغض وعداوة، وانفصمت الروابط والوشائج التي كانوا يوالون بها غيرهم من مصالح مادية ومتع جسدية، ودعوات قومية ونعرات إقليمية وعنصرية أو حزبية وسائر العصبيات الجاهلية {وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا} ١.
وبعد هذا الموقف الرهيب تتحدد المصائر، ويؤتى بجهنم لها سبعون ألف زمام، يجر كل زمام سبعون ألف ملك٢، إنه يوم يشيب له الولدان، ويرى المجرمون النار -ويا هول ما يرون- وتساورهم الظنون هل من منقذ في آخر لحظة؟ هل نحن صائرون إلى ما نرى؟
إن هول المنظر، ورهبة الموقف أفقدهم التوازن في التفكير.
نعم، إن المصير الوحيد للمجرمين {وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا} .
لقد كان لهم ولغيرهم ملجأ ومصرف يومًا ما، قبل هذا اليوم.
لقد كان لهم في القرآن العظيم الذي صرف فيه من كل مثل، وبينت فيه الحقائق ورسمت الحدود وأقيمت المعالم، لقد كان فيها الملجأ والملاذ فلو التجئوا إلى هداياته، وتركوا الجدل، وأقبلوا على الله، ونهلوا من معين كتابه واستهدوا بالحكمة والرشاد، واستنار بالمعارف القرآنية إذن لاختلف المصير الذي يوجهون إليه اليوم.
١ الموبق: الفاصل المهلك سواء كان حسيًا أو معنويًا من وبق وأبق بمعنى انفصل وابتعد، أو تثبط فهلك. انظر: المفردات: ٨٠٣.
٢ انظر: صحيح مسلم، كتاب الجنة: ٨/ ١٤٩.
ولكن القوم اتبعوا سنن من قبلهم من المجادلين الرافضين للحقائق الذين تبنوا مواقف العناد، وطلبوا العذاب العاجل في الدنيا نكاية بالرسل ومحادة لله ورسله.
لقد قال قبلهم قوم هود عليه السلام لنبيهم {قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [الأحقاف: ٢٢] .
وقالت ثمود لنبي الله صالح عليه السلام: {وَقَالُوا يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} [الأعراف: ٧٧] .
ومن قبلهم قوم نوح عليه السلام قالوا لنبيهم: {قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [هود: ٣٢] .
ومشركو مكة لم يخرجوا عن سنة المكذبين قبلهم فقالوا: {وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأنفال: ٣٢] .
ومن دعائهم أيضًا: {وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ} [ص: ١٦] .
إن هذه المواقف تتنافى مع الحكمة من إرسال الرسل، لقد أرسل الله سبحانه وتعالى رسله لهداية الناس، بما يحملون معهم من مشاعل الحق والنور وليحذروهم من مسالك الغواية والردى.
ولكن أتباع إبليس الذين طمسوا كل بارقة خير في نفوسهم، زين لهم الشيطان سوء أعمالهم، وزخرف لهم أساليب الجدل فيحاولون دحض الحق به فإن عجزوا عن ذلك -وهم عاجزون لا محاله- لجئوا إلى السخرية والاستهزاء والإعراض عن دعوة الحق بشتى الوسائل.
لقد غلفت قلوبهم بحجب كثيفة من الرين من آثار الشهوات، وحجبت عقولهم بأغلفة سميكة من آثار الشبهات، فهم في صمم عن سماع صيحات الحق،
وهم في بكم عن التفوه بكلمة الصدق، وهم في عمى عن رؤية دلائل التوحيد.
فلا تجدي معهم جهود دعاة الخير، لأنهم عطلوا وسائل المعرفة لديهم. ومع كل ذلك فإن رحمة الله واسعة عمت الخلق جميعًا، فلم يعجل لهم العقوبة المستأصلة بسبب ذنوبهم وآثامهم {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ} [فاطر: ٥٤] .
ولوجود رسول الله صلى الله عليه وسلم بين ظهراني المكذبين من قريش ميزة خاصة في استحقاق الرحمة وتأجيل العذاب.
{وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الأنفال: ٣٣] .
فلعل الله يهدي ضالهم فيستغفرون، أو يخرج من أصلابهم من يوحد الله ويعبده.
ولكن لا بد للاستمرار على الكفر والجحود والعناد من نهاية، {بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا} .
كما جرت سنة الله فيمن سبقهم من أهل القرى، والسعيد من اتعظ بغيره وأخذ العبرة من حال القرون الخالية، ولا تزال القرى ماثلة بأطلالها خاوية على عروشها، وهم يمرون عليها مصبيحن وبالليل أفلا يتذكرون فهل من معتبر؟!
الفوائد والعظات والعبر في المقطع الثالث
١- في قوله تعالى: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} .
بيان لحشرهم مجردين عن الثياب والمال والأعوان، وفي ذلك ترسيخ لحقيقة وردت في المقطع السابق وهي أن زينة الحياة الدنيا تذهب مع الحياة الدنيا، لأنها لم ترتبط بقيم باقية خالدة "ذكر الله وما والاه" .
٢- أسلوب الالتفات من الأساليب البلاغية العريقة في البيان القرآني لإعطاء كل مقام ما يناسبه من أفانين القول.
فلما كان الحديث عن القدرة والعظمة جاء التعبير بإسناد الأفعال إلى ضمير المتكلم المعظم نفسه "نسير، وحشرناهم، فلم نغادر، جئتمونا، خلقناكم، نجعل، وجعلنا وصرفنا، نرسل، أهلكناهم" .
ولما كان الكلام عن الوحدانية والتفرد بالخلق والتدبير ونفي الشركاء، جاء التعبير بضمير المتكلم المفرد "أولياء من دوني، ما أشهدتهم، وما كانت، واتخذوا آياتي" .
وعندما يكون الحديث عن الخالق المنعم الرحيم بعباده على الرغم من كفرانهم للنعمة وعدم قيامهم بواجب الشكر، يأتي التعبير بإسناد الأفعال إلى الاسم الظاهر، وخاصة إلى "الرب" .
"وعرضوا على ربك صفًا، ولا يظلم ربك أحدًا، ففسق عن أمر ربه، ويستغفروا ربهم، ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه، وربك الغفور ذو الرحمة" .
وكذلك في أسلوب الالتفات من الغيبة إلى الحضور والعكس.
٣- في قوله تعالى عن إبليس: {فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} وفي آبة البقرة {إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [البقرة: ٣٤] . وفي آية الأعراف {إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ، قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [الأعراف: ١١، ١٢] .
في هذه الآيات وغيرها بيان لعلة انحراف إبليس وهي "الكبر" وذلك لنظرته الخاطئة للقيم -قال: خلقتني من نار وخلقته من طين- لقد نظر إلى الصنعة فاعترض من خلالها على الصانع، وتمرد على أمره.
قال العلماء: من كانت خطيئته في كبر لم يكن صلاحه مرجوًا، ومن كانت خطيئته في معصية كان صلاحه مرجوًا١.
٤- كل الولاءات والصلات والأنساب والقرابات مبتورة مقطوعة إلا الموصول بالإيمان بالله ورسوله وشرائعه.
١ انظر: تفسير ابن كثير: ٣/ ٨٩، ونظم الدرر للبقاعي: ١٢/ ٧٦.
لذا تنقلب المودة إلى كره، والولاء إلى عداوة، والصلة إلى قطيعة والنصرة إلى براءة.
يقول تعالى في شأنهم: {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ} [يونس: ٢٨] .
وقال أيضًا: {وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} [العنكبوت: ٢٥] .
وقال: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ، الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} [الزخرف: ٦٦، ٦٧] .
وهو الفاصل المشار إليه في قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا} .
٥- وفي ثنايا المقطع الثالث نلحظ الدعوة إلى ترسيخ قيم وحقائق، والدعوة إلى اجتثاث قيم أخرى زائفة:
ولعل أبرز القيم الصحيحة في المقطع تتبلور في الآتي:
أ- كرامة آدم وذريته على الله تعالى بإسناد مهمة الاستخلاف في الأرض له، وإسجاد الملائكة له، وطرد إبليس من رحمته من أجله.
ب- من شأن الإله الحق التفرد بالخلق والتدبير، وهو الجدير بإعطاء الولاء له وتوجيه المحبة إليه.
جـ- الطريق المنفذ من الضلال في الحياة الدنيا، ومن عذاب جهنم في الآخرة اتباع الكتب المنزلة والكتاب المهيمن عليها القرآن الكريم والاقتداء برسل الله وخاتمهم محمد صلى الله عليه وسلم.
د- أخذ العظات والعبر من مصير الأقوام السابقين، والالتجاء إلى الله لتجنب ما حاق بهم.
وتقابلها القيم الزائفة الباطلة وتظهر من خلال:
أ- زوال زينة الحياة الدنيا وظهور أصحابها مجردين عن الأصبغة والألوان كما خلقوا أول مرة.
ب- قدوة الضالين إبليس المتمرد على طاعة ربه، وسبب غوايته عتوه تكبره.
فمن يتخذه وذريته أولياء من دون الله -مع عدم ما يؤهلهم للتطلع إلى مقام الألوهية من الخليق والتدبير- فقد باء بالخسران المبين، وستظهر فداحة الخسارة يوم ينادونهم فلا يستجيبون.
جـ- سبب ضلال الناس: اتباع الهوى، والمجادلة بالباطل، لدحض الحق، الاستهواء بالدعاء والمصلحين، واتباع سنن السابقين في استعجال العقوبة الدنيوية.
د- تعطيل وسائل المعرفة، وعدم الاعتبار بمصير المكذبين السابقين على الرغم من مرورهم في أسفارهم على ديارهم الخاوية على عروشها ومساكنهم المندثرة التي لم تسكن من بعدهم.
كل ذلك كان من دواعي هلاكهم ودمارهم. []
مدخل
المقطع الثالث: وقفة تأمل في المآل والمصير
{وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا، وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا، وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا، وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا، مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا، وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا، وَرَأى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا، وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْأِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا، وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلًا، وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا هُزُوًا، وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا، وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا، وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا} . [الآيات من: ٤٧-٥٩] .
المناسبات بين المقطع الثالث وما قبله
يأتي هذا المقطع مختلفًا في أسلوب العرض عن المقطعين السابقين، حيث تعرض مشاهد سريعة من مشاهد يوم القيامة، وهي بمثابة النتائج لتصرفات المغرورين بالقيم الزائفة في الحياة الدنيا ولعل من أبرز وجوه المناسبة بين هذا المقطع والمقطع السابق.
١- لما انتهى المقطع السابق بذكر الباقيات الصالحات، وأنها خير ثوابًا وخير أملًا، بدأ هذا المقطع بذكر اليوم الذي تظهر فيه الخيرية للباقيات الصالحات وهو {وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً} حيث تبرز قيم الأشياء على حقيقتها للعيان.
٢- لما كانت زينة الحياة الدنيا أكبر همهم ومبلغ علمهم -كما عرض في المقطع السابق- بين لهم في هذا المقطع أن الذي يزين لهم ذلك هو عدوهم الأول إبليس، فلا ينبغي اتخاذه وذريته أولياء، لأنه سيؤدي بهم إلى المهالك وسوء المصير، إلى جهنم ولن يجدوا لهم عنها مصرفًا.
أما الباقيات الصالحات فستعيدهم إلى ما كان فيه أبوهم آدم عليه السلام من التكريم والنعيم المقيم.
٣- تشابه بين المواقف الثلاثة:
- موقف مشركي قريش من فقراء المسلمين وتكبرهم عليهم.
- وموقف صاحب الجنتين وتكبره على صاحبه وقوله: {أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا} وقوله: {وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا} .
- وموقف إبليس من آدم {فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} . وإبليس في موقفه هذا قدوة كل متكبر على الحق ومن كان إبليس وليه وقدوته فقد خسر الدنيا والاخرة.
٤- منهج المعرفة الخاطئ يجمع بين الطوائف الثلاث:
فقد جعل زعماء قريش النسب والثروة ميزان التقويم ومقياس التفاضل وجعل صاحب الجنتين الثروة وكثرة الرجال والمزايا الشخصية معيار الخيرية وجعل إبليس الماهية التي خلق منها الميزان والمقياس {قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [الأعراف: ١٢] .
العرض الإجمالي للمقطع الثالث
هذا المقطع بمثابة التعقيب على أحداث مقطع صاحب الجنتين.
ومن وحي ذكر الزينة الفانية الزائلة، والباقيات الصالحات.
لقد عرض المقطع جانبًا من مشاهد يوم القيامة وأحداثه.
فقد سيرت الجبال وسويت بالأرض بعد أن دكت ونفست فصارت كثيبًا مهيلًا كالعهن المنفوش، وأصبحت الأرض قاعًا صفصفًا لا ترى فيها عوجًا ولا أمتًا.
وحشر الناس كما خلقوا أول مرة١ وعرضوا صفًا على طبيعتهم من غير أصبغة وزخارف، فلا ملابس تميزهم، ولا مال يدل على ثرائهم وغناهم ولا أتباع يرمزون إلى مكانهم وجاههم.
وأسقط في أيدي أصحاب الزينة وأدركوا أن ما كانوا يتحاشون ذكره ويظنون بعيدًا ماثلًا أمامهم.
١ جاء في سورة الأنعام ما يشبه الموقف حيث قال تعالى: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} [الأنعام: ٩٤] .
والملاحظ ذكر الشفعاء والشركاء وتخليهم عن أوليائهم يوم القيامة في آية الأنعام بينما لم يرد لهم ذكر في سياق آية الكهف، والحكمة في ذلك -والله أعلم- أن آية الأنعام جاءت في سياق الحديث عن نفي الشركاء وبعد محاجة إبراهيم عليه السلام قومه وإقامة الأدلة والبراهين على الوحدانية.
بينما آية الكهف جاءت في سياق الحديث عن القيم الزائفة من زينة الحياة الدنيا من المال والبنين، لذا ذكر حشرهم مجردين كما خلقوا أول مرة فلا مال ولا نفر.
وفوجئ الناس بوضع الموازين القسط وعرض الكتاب، إنه صحائف الأعمال في الحياة الدنيا التي خلفوها وراء ظهورهم، لقد مضت كالسراب بزخارفها ومآسيها وآثامها وغرورها ومتعها، ولم يبق منها سوى "الباقيات الصالحات" .
لقد رأى المجرمون جرائرهم ويستعرض أمامهم شريط الأقوال والأفعال وخطرات السوء، {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا، اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا} [الإسراء: ١٣-١٤] .
لا مجال للإنكار. فقد ردوا أيديهم في أفواههم مستغربين مدهوشين {مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا} .
لا مجال للتظلم، فقد وضحت الحقائق، وأقيمت الحجج، وأدلى الشهود العدول من الجوارح والأعضاء بشهاداتهم، وهم يدركون شعار الحق {لا ظُلْمَ الْيَوْم} [غافر: ١٧] .
لم يكن تباكيهم على وقوع الظلم عليهم أو احتمال وقوعه، ولكن دعاؤهم بالويل والثبور على أنفسهم كان مما وجدوا في الكتاب من حصر شامل لمخازيهم {وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا} لم يترك الكتاب صغيرة مما كانوا يعتبرونها من محفرات الأعمال: فربما تكلم الرجل بكلمة من سخط الله أهوت به في نار جهنم١.
ولربما كانوا يلهون ويلعبون ويستهزئون ويضحكون، وهم غافلون، فاليوم يقال لهم: {أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ} [التوبة: ٦٥] .
وهذا التعقيب مناسب لما تقدم في المقطع السابق من موقف زعماء قريش من فقراء الصحابة، كما أنه منسجم مع أحداث المحاورة بين صاحب الجنتين وصاحبه المؤمن المعتز بإيمانه.
وتأتي بعد ذلك لفتة لأصل الغواية، لمعرفة جذور الداء، وأصول هذه الضلالة
١ انظر: صحيح البخاري كتاب الرقاق: ٧/ ١٨٥.
التي عليها غالبية الناس، وهي سبب خداعهم بالمظاهر البراقة والقيم الزائفة، فما أساس البلاء.
إن جذور الداء موصولة بأب الغواة، وأساس الفساد إبليس عليه لعائن الله.
لقد تمرد على أمر ربه فلم يسجد لآدم عليه السلام، وطرد بسبب هذا العصيان من رحمة ربه. فأضمر العداوة لآدم لكونه السبب في هذا الطرد وأوعد بإغواء ذريته إلى يوم الدين، وقد حذر الله سبحانه وتعالى آدم وذريته من مكائد إبليس {فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى} [طه: ١١٧] .
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ، إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [فاطر: ٥، ٦] . ألا فليتدبر العقلاء:
- الله خلقكم في أحسن تقويم وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة.
- طرد إبليس من رحمته بسببكم وتكريمًا لكم.
- ولما توعد إبليس بإغوائكم كشف ربكم عن مكائده وحذركم منه.
- وسلحكم بالأسلحة التي تدافعون بها عن أنفسكم، والحصون التي تلجئون إليها عند غاراته وقبيله عليكم، على ألسنة أنبيائه ورسله الذين أرسلهم إليكم تترا.
ثم بعد كل ذلك {أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا} فهل من تعليل لهذا الموقف يقبله المنطق، وهل من شبهة تثور في أذهانكم حول مقدرة إبليس وطاقاته وإمكاناته، فتضفي على تفكيركم ظلالًا من الشك في الحقائق:
- هل يقدر إبليس وجنده على خلق السماوات والأرض منفردين أو مجتمعين؟
- هل حضروا خلق الكون فاطلعوا على السر في السماوات والأرض؟
- هل كان لهم مؤازرة ودعم في إيجاد الأنظمة الكونية؟
- هل كان لهم أدنى مساهمة في خلق شيء حتى خلق أنفسهم؟
- هل كان لهم خيار في اختيار الماهية أو الكيفية أو الزمان أو المكان الذي يخلقون فيه؟
فإن كان العجز المطلق عن التطلع إلى مقام الألوهية وخصائصها من شأنهم فما السبب في ترك الناس موالاة الإله الخالق الرازق المتصرف المدبر لشئون الكون كله، واتخاذهم إبليس وذريته -وهم لهم عدو- أولياء من دونه. ألا بئس الاختيار وساء المنطلق والمصير.
ولكن هل ستذهب هذه التصرفات الغبية ومواقف الحمق والبلادة، والانحرافات الماكرة ويسدل عليها الستار، فيسوى بين أصحابها وبين الذين استجابوا لنداء الفطرة ولبوا دعوة الحق فآمنوا بالله وحده لا شريك له؟ كلا، شتان بين الفئات؟
إن هنالك يومًا للمجابهة والمحاسبة {وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ} .
يوم تكشف الحقائق ويظهر بطلان دعوى الشركاء والأنداد، وأقر المشركون على أنفسهم بالضلال، وعلموا علم اليقين أن الشركاء لن يغنوا عنهم في هذا اليوم شيئًا.
ولكن يوجه إليهم الأمر الإلهي، أن ينادوا على شركائهم الذين دعوهم من دون الله في الحياة الدنيا، تبكيتًا وتوبيخًا وتحقيرًا.
ومع يقينهم أن نداءهم صرخة في واد ونفخة في رماد، إلا أنه الأمر الإلهي ولا مفر من التنفيد.
فينادي أصحاب الأصنام أصنامهم.
وينادي عباد الصليب صليبهم.
وينادي عباد الطواغيت طواغيتهم.
وينادي عبيد الحزب أحزابهم.
وينادي عبيد الشهوات والمتع البهيمية قيمهم.
{فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ} .
إن بين العابدين والمعبودين المزيفين هوة سحيقة من الكره والبغض {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} [الزخرف: ٦٧] .
لقد تحولت المودة التي كانوا يوادون بها بعضهم إلى بغض وعداوة، وانفصمت الروابط والوشائج التي كانوا يوالون بها غيرهم من مصالح مادية ومتع جسدية، ودعوات قومية ونعرات إقليمية وعنصرية أو حزبية وسائر العصبيات الجاهلية {وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا} ١.
وبعد هذا الموقف الرهيب تتحدد المصائر، ويؤتى بجهنم لها سبعون ألف زمام، يجر كل زمام سبعون ألف ملك٢، إنه يوم يشيب له الولدان، ويرى المجرمون النار -ويا هول ما يرون- وتساورهم الظنون هل من منقذ في آخر لحظة؟ هل نحن صائرون إلى ما نرى؟
إن هول المنظر، ورهبة الموقف أفقدهم التوازن في التفكير.
نعم، إن المصير الوحيد للمجرمين {وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا} .
لقد كان لهم ولغيرهم ملجأ ومصرف يومًا ما، قبل هذا اليوم.
لقد كان لهم في القرآن العظيم الذي صرف فيه من كل مثل، وبينت فيه الحقائق ورسمت الحدود وأقيمت المعالم، لقد كان فيها الملجأ والملاذ فلو التجئوا إلى هداياته، وتركوا الجدل، وأقبلوا على الله، ونهلوا من معين كتابه واستهدوا بالحكمة والرشاد، واستنار بالمعارف القرآنية إذن لاختلف المصير الذي يوجهون إليه اليوم.
١ الموبق: الفاصل المهلك سواء كان حسيًا أو معنويًا من وبق وأبق بمعنى انفصل وابتعد، أو تثبط فهلك. انظر: المفردات: ٨٠٣.
٢ انظر: صحيح مسلم، كتاب الجنة: ٨/ ١٤٩.
ولكن القوم اتبعوا سنن من قبلهم من المجادلين الرافضين للحقائق الذين تبنوا مواقف العناد، وطلبوا العذاب العاجل في الدنيا نكاية بالرسل ومحادة لله ورسله.
لقد قال قبلهم قوم هود عليه السلام لنبيهم {قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [الأحقاف: ٢٢] .
وقالت ثمود لنبي الله صالح عليه السلام: {وَقَالُوا يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} [الأعراف: ٧٧] .
ومن قبلهم قوم نوح عليه السلام قالوا لنبيهم: {قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [هود: ٣٢] .
ومشركو مكة لم يخرجوا عن سنة المكذبين قبلهم فقالوا: {وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأنفال: ٣٢] .
ومن دعائهم أيضًا: {وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ} [ص: ١٦] .
إن هذه المواقف تتنافى مع الحكمة من إرسال الرسل، لقد أرسل الله سبحانه وتعالى رسله لهداية الناس، بما يحملون معهم من مشاعل الحق والنور وليحذروهم من مسالك الغواية والردى.
ولكن أتباع إبليس الذين طمسوا كل بارقة خير في نفوسهم، زين لهم الشيطان سوء أعمالهم، وزخرف لهم أساليب الجدل فيحاولون دحض الحق به فإن عجزوا عن ذلك -وهم عاجزون لا محاله- لجئوا إلى السخرية والاستهزاء والإعراض عن دعوة الحق بشتى الوسائل.
لقد غلفت قلوبهم بحجب كثيفة من الرين من آثار الشهوات، وحجبت عقولهم بأغلفة سميكة من آثار الشبهات، فهم في صمم عن سماع صيحات الحق،
وهم في بكم عن التفوه بكلمة الصدق، وهم في عمى عن رؤية دلائل التوحيد.
فلا تجدي معهم جهود دعاة الخير، لأنهم عطلوا وسائل المعرفة لديهم. ومع كل ذلك فإن رحمة الله واسعة عمت الخلق جميعًا، فلم يعجل لهم العقوبة المستأصلة بسبب ذنوبهم وآثامهم {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ} [فاطر: ٥٤] .
ولوجود رسول الله صلى الله عليه وسلم بين ظهراني المكذبين من قريش ميزة خاصة في استحقاق الرحمة وتأجيل العذاب.
{وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الأنفال: ٣٣] .
فلعل الله يهدي ضالهم فيستغفرون، أو يخرج من أصلابهم من يوحد الله ويعبده.
ولكن لا بد للاستمرار على الكفر والجحود والعناد من نهاية، {بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا} .
كما جرت سنة الله فيمن سبقهم من أهل القرى، والسعيد من اتعظ بغيره وأخذ العبرة من حال القرون الخالية، ولا تزال القرى ماثلة بأطلالها خاوية على عروشها، وهم يمرون عليها مصبيحن وبالليل أفلا يتذكرون فهل من معتبر؟!
الفوائد والعظات والعبر في المقطع الثالث
١- في قوله تعالى: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} .
بيان لحشرهم مجردين عن الثياب والمال والأعوان، وفي ذلك ترسيخ لحقيقة وردت في المقطع السابق وهي أن زينة الحياة الدنيا تذهب مع الحياة الدنيا، لأنها لم ترتبط بقيم باقية خالدة "ذكر الله وما والاه" .
٢- أسلوب الالتفات من الأساليب البلاغية العريقة في البيان القرآني لإعطاء كل مقام ما يناسبه من أفانين القول.
فلما كان الحديث عن القدرة والعظمة جاء التعبير بإسناد الأفعال إلى ضمير المتكلم المعظم نفسه "نسير، وحشرناهم، فلم نغادر، جئتمونا، خلقناكم، نجعل، وجعلنا وصرفنا، نرسل، أهلكناهم" .
ولما كان الكلام عن الوحدانية والتفرد بالخلق والتدبير ونفي الشركاء، جاء التعبير بضمير المتكلم المفرد "أولياء من دوني، ما أشهدتهم، وما كانت، واتخذوا آياتي" .
وعندما يكون الحديث عن الخالق المنعم الرحيم بعباده على الرغم من كفرانهم للنعمة وعدم قيامهم بواجب الشكر، يأتي التعبير بإسناد الأفعال إلى الاسم الظاهر، وخاصة إلى "الرب" .
"وعرضوا على ربك صفًا، ولا يظلم ربك أحدًا، ففسق عن أمر ربه، ويستغفروا ربهم، ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه، وربك الغفور ذو الرحمة" .
وكذلك في أسلوب الالتفات من الغيبة إلى الحضور والعكس.
٣- في قوله تعالى عن إبليس: {فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} وفي آبة البقرة {إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [البقرة: ٣٤] . وفي آية الأعراف {إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ، قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [الأعراف: ١١، ١٢] .
في هذه الآيات وغيرها بيان لعلة انحراف إبليس وهي "الكبر" وذلك لنظرته الخاطئة للقيم -قال: خلقتني من نار وخلقته من طين- لقد نظر إلى الصنعة فاعترض من خلالها على الصانع، وتمرد على أمره.
قال العلماء: من كانت خطيئته في كبر لم يكن صلاحه مرجوًا، ومن كانت خطيئته في معصية كان صلاحه مرجوًا١.
٤- كل الولاءات والصلات والأنساب والقرابات مبتورة مقطوعة إلا الموصول بالإيمان بالله ورسوله وشرائعه.
١ انظر: تفسير ابن كثير: ٣/ ٨٩، ونظم الدرر للبقاعي: ١٢/ ٧٦.
لذا تنقلب المودة إلى كره، والولاء إلى عداوة، والصلة إلى قطيعة والنصرة إلى براءة.
يقول تعالى في شأنهم: {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ} [يونس: ٢٨] .
وقال أيضًا: {وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} [العنكبوت: ٢٥] .
وقال: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ، الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} [الزخرف: ٦٦، ٦٧] .
وهو الفاصل المشار إليه في قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا} .
٥- وفي ثنايا المقطع الثالث نلحظ الدعوة إلى ترسيخ قيم وحقائق، والدعوة إلى اجتثاث قيم أخرى زائفة:
ولعل أبرز القيم الصحيحة في المقطع تتبلور في الآتي:
أ- كرامة آدم وذريته على الله تعالى بإسناد مهمة الاستخلاف في الأرض له، وإسجاد الملائكة له، وطرد إبليس من رحمته من أجله.
ب- من شأن الإله الحق التفرد بالخلق والتدبير، وهو الجدير بإعطاء الولاء له وتوجيه المحبة إليه.
جـ- الطريق المنفذ من الضلال في الحياة الدنيا، ومن عذاب جهنم في الآخرة اتباع الكتب المنزلة والكتاب المهيمن عليها القرآن الكريم والاقتداء برسل الله وخاتمهم محمد صلى الله عليه وسلم.
د- أخذ العظات والعبر من مصير الأقوام السابقين، والالتجاء إلى الله لتجنب ما حاق بهم.
وتقابلها القيم الزائفة الباطلة وتظهر من خلال:
أ- زوال زينة الحياة الدنيا وظهور أصحابها مجردين عن الأصبغة والألوان كما خلقوا أول مرة.
ب- قدوة الضالين إبليس المتمرد على طاعة ربه، وسبب غوايته عتوه تكبره.
فمن يتخذه وذريته أولياء من دون الله -مع عدم ما يؤهلهم للتطلع إلى مقام الألوهية من الخليق والتدبير- فقد باء بالخسران المبين، وستظهر فداحة الخسارة يوم ينادونهم فلا يستجيبون.
جـ- سبب ضلال الناس: اتباع الهوى، والمجادلة بالباطل، لدحض الحق، الاستهواء بالدعاء والمصلحين، واتباع سنن السابقين في استعجال العقوبة الدنيوية.
د- تعطيل وسائل المعرفة، وعدم الاعتبار بمصير المكذبين السابقين على الرغم من مرورهم في أسفارهم على ديارهم الخاوية على عروشها ومساكنهم المندثرة التي لم تسكن من بعدهم.
كل ذلك كان من دواعي هلاكهم ودمارهم. []