المؤلف: الذهبي، محمد حسين
حالة الفهرسة: غير مفهرس
الناشر: مكتبة وهبة
سنة النشر: 2000
عدد المجلدات: 3
رقم الطبعة: 7
تاريخ إضافته: 15 / 10 / 2008
- الباب الثالث: المرحلة الثالثة للتفسير.. أو التفسير فى عصور التدوين
- تمهيد
- التفسير بالمأثور
- التفسير بالرأى وما يتعلق به من مباحث
- أهم كتب التفسير بالرأى الجائز
- التفسير بالرأى المذموم.. أو تفسير الفرقة المبتدعة
- العودة إلي كتاب التفسير والمفسرون محمد حسين الذهبي
الباب الثالث: المرحلة الثالثة للتفسير.. أو التفسير فى عصور التدوين
تمهيد
* ابتداء هذه المرحلة:
تبدأ المرحلة الثالثة للتفسير من مبدأ ظهور
التدوين، وذلك فى أواخر عهد بنى أمية، وأول عهد للعباسين.
* الخطوة الأولى
للتفسير:
وكان التفسير قبل ذلك يُتناقل بطريق الرواية، فالصحابة يروون عن
رسول الله ﷺ، كما يروى بعضهم عن بعض. والتابعون يروون عن الصحابة. كما يروى بعضهم
عن بعض، وهذه هى الخطوة الأولى للتفسير.
* *
* الخطوة الثانية:
ثم
بعد عصر الصحابة والتابعين، خطا التفسير خطوة ثانية، وذلك حيث ابتدأ التدوين
لحديث رسول الله ﷺ، فكانت أبوابه متنوعة، وكان التفسير بابًا من هذه الأبواب التى
اشتمل عليها الحديث، فلم يُفرد له تأليف خاص يُفسِّر القرآن سورة سورة، وآية آية،
من مبدئه إلى منتهاه، بل وُجد من العلماء مَن طوَّف فى الأمصار المختلفة ليجمع
الحديث، فجمع بجوار ذلك ما رُوِى فى الأمصار من تفسير منسوب إلى النبى ﷺ، أو إلى
الصحابة، أو إلى التابعين، ومن هؤلاء: يزيد بن هارون السلمى المتوفى سنة ١١٧هـ،
وشعبة بن الحجاج المتوفى سنة ١٦٠هـ، ووكيع بن الجراح المتوفى سنة ١٩٧هـ وسفيان بن
عيينة المتوفى سنة ١٩٨هـ، وروح عن عبادة البصرى المتوفى سنة ٢٠٥هـ، وعبد الرزاق
بن همام المتوفى سنة ٢١١هـ، وآدم بن أبى إياس المتوفى سنة ٢٢٠هـ، وعبد بن حميد
المتوفى سنة ٢٤٩هـ وغيرهم، وهؤلاء جميعًا كانوا من أئمة الحديث، فكان جمعهم
للتفسير جمعًا لباب من أبواب الحديث، ولم يكن جمعًا للتفسير على استقلال وانفراد.
وجميع ما نقله هؤلاء الأعلام عن أسلافهم من أئمة التفسير نقلوه مسندًا إليهم، غير
أن هذه التفاسير لم يصل إلينا شئ منها، ولذا لا نستطيع أن نحكم عليها.
*
*
* الخطوة الثالثة:
ثم بعد هذه الخطوة الثانية، خطا التفسير خطوة
ثالثة، انفصل بها عن الحديث،
١ / ١٠٤
فأصبح
علمًا قائمًا بنفسه، ووضع التفسير لكل آية من القرآن، ورُتَّب ذلك على حسب ترتب
المصحف. وتم ذلك على أيدى طائفة من العلماء منهم ابن ماجه المتوفى سنة ٢٧٣هـ،
وابن جرير الطبرى المتوفى سنة ٣١٠هـ، وأبو بكر بن المنذر النيسابورى المتوفى سنة
٣١٨هـ، وابن أبى حاتم المتوفى سنة ٣٢٧هـ، وأبو الشيخ بن حبان المتوفى سنة ٣٦٩هـ،
والحاكم المتوفى سنة ٤٠٥هـ، وأبو بكر بن مردويه المتوفى سنة ٤١٠هـ، وغيرهم من
أئمة هذا الشأن.
وكل هذه التفاسير مروية بالإسناد إلى رسول الله ﷺ، وإلى
الصحابة، والتابعين، وتابع التابعين، وليس فيها شئ من التفسير أكثر من التفسير
المأثور، اللَّهم إلا ابن جرير الطبرى فإنه ذكر الأقوال ثم وجهَّها، ورجَّح بعضها
على بعض، وزاد على ذلك الإعراب إن دعت إليه حاجة، واستبط الأحكام التى يمكن أن
تؤخذ من الآيات القرآنية ... وسنأتى بالكلام عن هذا التفسير عند الكلام عن الكتب
المؤلَّفة فى التفسير بالمأثور إن شاء الله تعالى.
وإذا كان التفسير قد خطا
هذه الخطوة الثالثة التى انفصل بها عن الحديث، فليس معنى أن هذه الخطوة محت ما
قبلها وألغت العمل به، بل معناه أن التفسير تدرح فى خطواته، فبعد أن كانت الخطوة
الأولى للتفسير هي النقل عن طريق التلقى والرواية، كانت الخطوة الثانية له، وهى
تدوينه على أنه باب من أبواب الحديث، ثم جاءت بعد ذلك الخطوة الثالثة، وهى تدوينه
على استقلال وانفراد، فكل هذه الخطوات، تم إسلام بعضها إلى بعض، بل وظل
المحدِّثون بعد هذه الخطوة الثالثة، يسيرون على نمط الخطوة الثانية، من رواية
المنقول من التفسير فى باب خاص من أبواب الحديث، مقتصرين فى ذلك على ما ورد عن
رسول الله ﷺ، أو عن الصحابة أو عن التابعين.
* *
* ليس من السهل معرفة
أول من دَوَّن تفسير كل القرآن مرتَّبًا:
هذا.. ولا نستطيع أن نُعيِّن
بالضبط، المفسِّر الأول الذى فسرَّ القرآن آية آية، ودوَّنه على التتابع وحسب
ترتيب المصحف. ونجد فى الفهرست لابن النديم (ص ٩٩) أن أبا العباس ثعلب قال: "كان
السبب فى إملاء كتاب الفرَّاء فى المعانى أن عمر بن بكير كان من أصحابه، وكان
منقطعًا إلى الحسن بن سهل فكتب إلى الفرَّاء: إن الأمير الحسن بن سهل، ربما سألنى
عن الشئ بعد الشئ
١ / ١٠٥
من القرآن فلا
يحضرنى فيه جواب، فإن رأيت أن تجمع لى أصولًا، أو تجعل فى ذلك كتابًا أرجع إليه
فعلت، فقال الفرَّاء لأصحابه: اجتمعوا حتى أُملى عليكم كتابًا فى القرآن، وجعل
لهم يومًا، فلما حضروا خرج إليهم، وكان فى المسجد رجل يُؤذِّن ويقرأ بالناس فى
الصلاة، فالتفت إليه الفرَّاء فقال له: اقرأ بفاتحة الكتاب نفسِّرها، ثم نوفى
الكتاب كله، فقرأ الرجل ويفسِّر الفراء، قال أبو العباس: لم يعمل أحد قبل مثله،
ولا أحسب أن أحدًا يزيد عليه».
فهل نستطيع أن نستخلص من ذلك: أن الفرَّاء
المتوفى سنة ٢٠٧ هـ، هو أول مَن دَوَّن تفسيرًا جامعًا لكل آيات القرآن مرتَّبًا
على وفقٍ ترتيب المصحف؟ وهل نستطيع أن نقول: إن كل مَن تقدَّم الفرَّاء من
المفسِّرين كانوا يقتصرون على تفسير المشكل فقط؟.. لا.. لا نستطيع أن نفهم هذا من
عبارة ابن النديم لأنها غير قاطعة فى هذا، كما لا نستطيع أن نميل إليه كما مال
إليه الأستاذ أحمد أمين فى كتابه ضحى الإسلام (جـ ٢ ص ١٤١)، وذلك لأن كتاب «معانى
القرآن» للفرَّاء شبيه فى تناوله للآى على ترتيبها فى السور بكتاب «مجاز القرآن»
لأبى عبيدة، فإنه يتناول السور على ترتيبها، ويعرض لما فى السورة من آى تحتاج
لبيان مجازها - أى المراد منها - فليس للفرَّاء أوَّلية فى هذا، بل تلك على ما
يبدو كانت خطة العصر، ثم إن ما نُقِل لنا عن السَلَف يُشعر - وإن كان غير قاطع -
بأن استيفاء التفسير لسور القرآن وآياته كان عملًا مبكرًا لم يتأخر إلى نهاية
القرن الثانى وأوائل الثالث، فمثلًا يقول ابن أبى مليكة: «رأيت مجاهدًا يسأل ابن
عباس عن تفسير القرآن ومعه ألواحه، فيقول له ابن عباس: اكتب. قال: حتى سأله عن
التفسير كله».
ونجد الحافظ ابن حجر عندما ترجم لعطاء بن دينار الهذلى المصرى
فى كتابه «تهذيب التهذيب» يقول: «قال علىّ بن الحسن الهسنجانى، عن أحمد ابن صالح:
عطاء بن دينار، من ثقات المصريين، وتفسيره فيما يروى عن سعيد بن جبير صحيفة، وليس
له دلالة على أنه سمع من سعيد بن جبير، وقال أبو حاتم: صالح الحديث إلا أن
التفسير أخذه من الديوان، وكان عبد الملك بن مروان (المتوفى سنة ٨٦ هـ) سأل سعيد
بن جبير أن يكتب إليه بتفسير القرآن، فكتب سعيد بهذا التفسير، فوجده عطاء بن
دينار فى الديوان فأخذه فأرسله عن سعيد بن جبير».
فهذا صريح فى أن سعيد بن
جبير رضى الله عنه جمع تفسير القرآن فى كتاب، وأخذه من الكتاب عطاء بن دينار،
ومعروف أن سعيد بن جبير قُتِل سنة ٩٤ - أو سنة
١ / ١٠٦
٩٥
هجرية - على الخلاف فى ذلك، ولا شك أن تأليفه هذا كان قبل موت عبد الملك بن مروان
المتوفى سنة ٨٦ هجرية.
وكذلك نجد فى وفيات الأعيان (جـ ٢ ص ٣): أن عمرو بن
عبيد شيخ المعتزلة، كتب تفسيرًا للقرآن عن الحسن البصرى، ومعلوم أن الحسن توفى
سنة ١١٦ هجرية.
ومرَّ بنا فيما سبق (ص ٨٥) أن ابن جريج المتوفى سنة ١٥٠
هجرية له ثلاثة أجزاء كبار فى التفسير رواها عنه محمد بن ثور، فإذا انضم إلى هذا
ما نلاحظه من قوة اتصال القرآن بالحياة الإسلامية، وشدة عناية القوم بأخذ الأحكام
وغيرها من آيات القرآن، وحاجاتهم المُلِّحة فى ذلك، نستطيع أن نقول إن الفرَّاء
لم يُسبق إلى هذا الاستيفاء والتقصى، بل هو مسبوق بذلك، وإن كنا لا نستطيع أن
نُعيِّن مَن سبق إلى هذا العمل على وجه التحقيق، ولو أنه وقع لنا كل ما كتب من
التفسير من مبدأ عهد التدوين. لأمكننا أن نُعيِّن المفسِّر الأول الذى دوَّن
التفسير على هذا النمط.
* *
* الخطوة الرابعة:
ثم إن التفسير لم
يقف عند هذه الخطوة الثالثة بل خطا بعدها خطوة رابعة، لم يتجاوز بها حدود التفسير
بالمأثور، وإن كان قد تجاوز روايته بالإسناد، فصنَّف فى التفسير خلق كثير،
اختصروا الأسانيد، ونقلوا الأقوال المأثورة عن المفسِّرين من أسلافهم دون أن
ينسبوها لقائليها، فدخل الوضع فى التفسير والتبس الصحيح بالعليل، وأصبح الناظر فى
هذه الكتب يظن أن كل ما فيها صحيح، فنقله كثير من المتأخرين فى تفاسيرهم، ونقلوا
ما جاء فى هذه الكتب من إسرائيليات على أنها حقائق ثابتة، وكان ذلك هو مبدأ ظهور
خطر الوضع والإسرئليات فى التفسير. وسنعرض لهذا بالبيان والتفصيل فيما بعد إن شاء
الله تعالى.
ولقد وُجِد من بين هؤلاء المفسِّرين مَن عَنِىَ بجمع شتات
الأقوال، فصار كلما سنح لَه قول أورده، وكلما خطر بباله شئ اعتمده، فيأتى مَن
بعده وينقل ذلك عنه بدون أن يتحرى الصواب فيما ينقل، ويدون التفاوت منه إلى تحرير
ما ورد عن السلَف الصالح ومَن يرجع إليهم فى التفسير، ظنًا منه أن كل ما ذكر له
أصل ثابت!! وليس أدل على نهم هؤلاء القوم بكثرة النقل من أن بعضهم ذكر فى تفسير
قوله تعالى: ﴿غَيْرِ المغضوب عَلَيْهِم وَلاَ الضآلين﴾ [الفاتحة: ٧] عشرة أقوال
مع أن تفسيرها باليهود والنصارى، هو الوارد عن رسول الله ﷺ وعن جميع الصحابة
والتابعين، حتى قال ابن أبى حاتم: «لا أعلم فى ذلك اختلافًا بين المفسِّرين».
*
*
*
١ / ١٠٧
الخطوة الخامسة:
ثم
خطا التفسير بعد ذلك خطوة خامسة، هى أوسع الخطا وأفسحها، امتدت من العصر العباسى
إلى يومنا هذا، فبعد أن كان تدوين التفسير مقصورًا على رواية ما نُقِل عن سَلَف
هذه الأمة، تجاوز بهذه الخطوة الواسعة إلى تدوين تفسير اختلط فيه الفهم العقلى
بالتفسير النقلى، وكان ذلك على تدرج ملحوظ فى ذلك.
* * *
* تدرج
التفسير العقلى:
بدأ ذلك أولًا على هيئة محاولات فهم شخص، وترجيح لبعض
الأقوال على بعض، وكان هذا أمرًا مقبولًا ما دام يرجع الجانب العقلى منه إلى حدود
اللغة ودلالة الكلمات القرآنية. ثم ظلت محاولات هذا الفهم الشخصى تزداد وتتضخم،
متأثرة بالمعارف المختلفة، والعلوم المتنوعة، والآراء المتشعبة، والعقائد
المتباينة، حتى وُجِد من كتب التفسير ما يجمع أشياء كثيرة، لا تكاد تتصل بالتفسير
إلا عن بُعْدٍ عظيم.
دُوِّنت علوم اللغة، ودُوِّن النحو الصرف، وتشعبَّت
مذاهب الخلاف الفقهى، وأثيرت مسائل الكلام، وظهر التعصب المذهبى قائمًا على قدمه
وساقه فى العصر العباسى، وقامت الفِرَق الإسلامية بنشر مذاهبها والدعوة إليها،
وتُرجمت كتب كثيرة من كتب الفلاسفة، فامتزجت كل هذه العلوم وما يتعلق بها من
أبحاث بالتفسير حتى طغت عليه، وغلب الجانب العقلى على الجانب النقلى، وصار أظهر
شئ فى هذه الكتب، هو الناحية العقلية، وإن كانت لا تخلو مع ذلك من منقول يتصل
بأسباب النزول، أو بغير ذلك على المأثور.
وهكذا تدرج التفسير، واتجهت الكتب
المؤلَّفة فيه اتجاهات متنوعة، وتحكَّمت الاصطلاحات العلمية، والعقائد المذهبية
فى عبارات القرآن الكريم، فظهرت آثار الثقافة الفلسفية والعلمية للمسلمين فى
تفسير القرآن، كما ظهرت آثار التصوف واضحة فيه، وكما ظهرت آثار النِحَل والأهواء
فيه ظهورًا جليًا.
١ / ١٠٨
وإنَّا لنلحظ فى
وضوح وجلاء: أن كل مَن برع فى فن من فنون العلم، يكاد يقتصر تفسيره على الفن الذى
برع فيه، فالنحوى تراه لا هَمَّ له إلا الإعراب وذكر ما يحتمل فى ذلك من أوجه،
وتراه ينقل مسائل النحو وفروعه وخلافياته، وذلك كالزَجَّاج، والواحدى فى
«البسيط»، وأبى حيان فى «البحر المحيط»..
وصاحب العلوم العقلية، تراه يعنى
فى تفسيره بأقوال الحكماء والفلاسفة، كما تراه يعنى بذكر شبُههم والرد عليهم،
وذلك كالفخر الرازى فى كتابه «مفاتيح الغيب».
وصاحب الفقه تراه قد عنى
بتقريره الأدلة للفروع الفقهية، والرد على مَن يخالف مذهبه، وذلك كالجصَّاص،
والقرطبى..
وصاحب التاريخ، ليس له شغل إلا القصص، وذكر أخبار مَن سَلَف، ما
صح منها وما لا يصح، وذلك كالثعلبى والخازن..
وصاحب البدع، ليس له قصد إلا
أن يُؤوِّل كلام الله ويُنزله على مذهبه الفاسد، وذلك كالرمانى، والجبائى،
والقاضى عبد الجبار، والزمخشرى من المعتزلة، والطبرسى، وملا محسن الكاشى من
الإمامية الإثنا عشرية.
وأصحاب التصوف قصدوا إلى ناحية الترغيب والترهيب.
واستخراج المعانى الإشارية من الآيات القرآنية بما يتفق مع مشاربهم، ويتناسب مع
رياضاتهم ومواجيدهم، ومن هؤلاء ابن عربى، وأبو عبد الرحمن السلمى..
وهكذا
فسَّر كل صاحب فن أو مذهب بما يتناسب مع فنه أو يشهد لمذهبه، وقد استمرت هذه
النزعة العلمية العقلية وراجت فى بعض العصور رواجًا عظيمًا، كما راجت فى عصرنا
الحاضر تفسيرات يريد أهلها من ورائها أن يُحَمِّلوا آيات القرآن كل العلوم، ما
ظهر منها وما لم يظهر، كأن هذا فيما يبدو وجه من وجوه إعجاز القرآن وصلاحيته لأن
يتمشى مع الزمن. وفى الحق أن هذا غلو منهم، وإسراف يُخرج القرآن عن مقصده الذى
نزل من أجله، ويحيد به عن هدفه الذى يرمى إليه.
وسوف نتكلم على ذلك بتوسع
عند الكلام عن التفسير العلمى إن شاء الله تعالى.
ثم إن هذا الطغيان العقلى
العلمى، لم يطغ على التفسير بالمأثور الطغيان الذى يجعله فى عداد ما درس وذهب، بل
وُجِد من العلماء فى عصور مختلفة، مَن استطاع أن يقاوم تيار هذا الطغيان، ففسَّر
القرآن تفسيرًا نقليًا بحتًا، على توسع منهم فى النقل، وعدم تفرقة بين ما صح وما
لم يصح، كما فعل السيوطى فى كتابه «الدر المنثور».
* *
*
١
/ ١٠٩
التفسير الموضوعى:
وكذلك وُجِد مِنَ العلماء مَن
ضيَّق دائرة البحث فى التفسير، فتكلَّم عن ناحية واحدة من نَواحيه المتشعبة
المتعددة، فابن القيم - مثلًا - أفرد كتابًا من مؤلفاته للكلام عن أقسام القرآن
سماه «التبيان فى أقسام القرآن». وأبو عبيدة أفرد كتابًا للكلام عن مجاز القرآن
والراغب الأصفهانى أفرد كتابًا فى مفردات القرآن. وأبو جعفر النحاس أفرد كتابًا
فى الناسخ والمنسوخ من القرآن. وأبو الحسن الواحدى أفرد كتابًا فى أسباب نزول
القرآن. والجصاص أفرد كتابًا فى أحكام القرآن.. وغير هؤلاء كثير من العلماء الذين
قصدوا إلى موضوع خاص فى القرآن يجمعون ما تفرَّق منه، ويفردونه بالدرس والبحث.
*
*
* توسع متقدمى المفسَرين قعد بمتأخريهم عن البحث المستقل:
ثم إنَّا
نجد متقدمى المفسِّرين قد توسَّعوا فى التفسير إلى حد كبير، جعل مَن جاء بعدهم من
المفسِّرين لا يلقون عنتًا، ولا يجدون مشقة فى محاولتهم لفهم كتاب الله، وتدوين
ما دوَّنوا من كتب فى التفسير، فمنهم مَن أخذ كلام غيره وزاد عليه، ومنهم مَن
اختصر، ومنهم مَن علَّق الحواشى وتتبع كلام من سبقه، تارة بالكشف عن المراد،
وأخرى بالتفنيد والاعتراض، ومع ذلك فاتجاهات التفسير، وتعدد طرائقه وألوانه. مل
تزل على ما كانت عليه، متشعبة متكاثرة.
أما فى عصرنا الحاضر، فقد غلب اللون
الأدبى الاجتماعى على التفسير، ووُجِدت بعض محاولات علمية، فى كثير منها تكلف
ظاهر وغلو كبير، أما اللون المذهبى، فقد بقى منه إلى يومنا هذا بمقدار ما بقى من
المذاهب الإسلامية، وسوف نعرض للتفسير فى عصرنا الحاضر بما فيه الكفاية إن شاء
الله تعالى.
هذا هو شأن التفسير فى مرحلته الثالثة - مرحلة التدوين - وهذه
هى خطواته التى تدرج فيها من لدن نشأته إلى عصرنا الحاضر، وتلك هى ألوانه
وطرائقه، وأرى من العسير علىّ أن أتمشى بالتفسير مع الزمن، وأن أتكلم عن طرائقه،
ومميزاته، واتجاهاته، وألوانه فى كل عصر من العصور التى مرَّت عليه، وذلك راجع
إلى أننا لم نقف على كثير مما خلفته تلك العصور من آثار فيه وهى كثرة كاثرة
تنوَّعت مقاصدها واختلفت اتجاهاتها. وإننا لندهش عند سماع ما أُلِّف فى التفسير
من الكتب التى بلغت حد الكثرة. ونُسِبت لرجال لهم قيمتهم العلمية، ففى القرن
الثانى كتب عمرو بن عبيد شيخ المعتزلة تفسيرًا للقرآن عن الحسن البصرى، كما ذكره
ابن خلكان فى كتابه «وفيات الأعيان»، ويذكر صاحب كتاب «تبيين كذب المفترى»: أن
أبا الحسن
١ / ١١٠
الأشعرى كتب كتابًا فى
التفسير يسمى «المختزن»، لم يترك آية تعلَّق بها بَدْعى إلا أبطل تعلقه بها،
وجعلها حُجَّة لأهل الحق، كما يُنسب إلى الجوينى تفسير كبير يشتمل على عشرة أنواع
فى كل آية، ويُنسب للقشيرى أيضًا تفسير كبير. وابن الأنبارى يذكرون أنه كان يحفظ
مائة وعشرين تفسيرًا من تفاسير القرآن بأسانيدها وأبو هلال العسكرى، له كتاب
«المحاسن فى تفسير القرآن»، خمس مجلدات، وغير هذا كثير جدًا من الكتب التى
أُلِّفت فى تفسير القرآن.
وبعد ... فهل يكون فى مقدورى - وقد اندرست معظم
كتب التفسير - أن أتكلم عن التفسير وما أُلِّف فيه فى جميع مراحله الزمنية؟ اللهم
إن هذا أمر لا أقدر عليه إلا إذا جُمِع بين يدىّ كل ما كُتِب فى التفسير من مبدأ
نشأته إلى يومنا هذا، وكان لدىّ من الوقت ما يتسع لدراسته كله، وأنَّى لى
بذلك؟
على أننا لو نظرنا إلى مناحى المفسِّرين واتجاهاتهم، لوجدناهم مع
اختلاف عصورهم يشتركون فيها، فبينما نجد مِنَ المتقدمين مَنْ دوَّن التفسير
بالمأثور خاصة، نجد من المتأخرين مَنْ قَصرَ تفسيره على المأثور أيضًا. وبينما
نجد مِنَ المتقدمين مَنْ نحا فى تفسيره الناحية الإشارية نجد مِنَ المتأخرين مَنْ
ينحو هذا المنحى بعينه، وبينما نجد مِنَ المتقدمين مَنْ حاول إخضاع القرآن لمذهبه
وعقيدته نجد مِنَ المتأخرين مَنْ حاول مثل هذه المحاولة وهكذا نجد كثيرًا من كتب
التفسير على اختلاف أزمانها تتحد فى مشربها، وتتجه إلى ناحية واحدة من نواحى
التفسير المختلفة.
لهذا كله، أرى نفسى مضطرًا إلى أن أعدل فى هذه المرحلة
الثالثة - مرحلة عصور التدوين - عن السير بالتفسير مع الزمن إلى التكلم عنه من
ناحية هذه الاتجاهات التى اتجه إليها المفسِّرون فى تفاسيرهم وأتبع ذلك بالكلام
عن أشهر الكتب المؤلَّفة فى التفسير، فأتكلم أولًا عن التفسير المأثور وأشهر ما
دُوِّنَ فيه، ثم عن التفسير بالرأى الجائز وغير الجائز، وعن أشهر الكتب المؤلَّفة
فى ذلك. ويندرج فى هذا الكلام على تفاسير الفِرَق المختلفة، ثم أتكلم بعد ذلك عن
التفسير عند الصوفية وأهم كتبهم فيه، ثم عند الفلاسفة، ثم عند الفقهاء كذلك، ثم
أتكلم عن التفسير العلمى، ثم أختم بكلمة عامة عن التفسير فى عصرنا الحاضر، وأسأل
الله العون والتوفيق.
* * *
١ / ١١١
التفسير بالمأثور
* ما هو التفسير المأثور؟
يشمل التفسير المأثور ما جاء فى
القرآن نفسه من البيان والتفصيل لبعض آياته، وما نُقل عن الرسول ﷺ، وما نُقِل عن
الصحابة رضوان الله عليهم، وما نُقِل عن التابعين، من كل ما هو بيان وتوضح لمراد
الله تعالى من نصوص كتابه الكريم.
وإنما أدرجنا فى التفسير المأوثر ما
رُوِىَ عن التابعين - وإن كان فيه خلاف: هل هو من قبيل المأثور أو من قبيل الرأى
- لأننا وجدنا كتب التفسير المأثور، كتفسير ابن جرير وغيره، لم تقتصر على ما
ذِكْر ما رُوِىَ عن النبى ﷺ وما رُوِىَ عن أصحابه، بل ضمت إلى ذلك ما نُقِل عن
التابعين فى التفسير.
* *
* تدرج التفسير المأثور:
تدرَّج التفسير
المأثور فى دوريه - دور الرواية ودور التدوين - أما فى دور الرواية، فإن رسول
الله ﷺ بيَّن لأصحابه ما أشكل عليهم من معانى القرآن، فكان هذا القَدْر من
التفسير يتناوله الصحابة بالرواية بعضهم لبعض، ولمن جاء بعدهم من التابعين.
ثم
وُجِد من الصحابة مَنْ تكلم فى تفسير القرآن بما ثبت لديه عن رسول الله ﷺ، أو
بمحض رأيه واجتهاده، وكان ذلك على قِلَّة يرجع السبب فيها إلى الروعة الدينية
التى كانت لهذا العهد، والمستوى العقلى الرفيع لأهله، وتحدد حاجات حياتهم
العملية، ثم شعورهم مع هذا بأن التفسير شهادة على الله بأنه عَنِىَ باللفظ
كذا.
ثم وُجِد من التابعين مَنْ تصدَّى للتفسير، فروى ما تجمَّع لديه من ذلك
عن رسولَ الله ﷺ وعن الصحابة، وزاد على ذلك من القول بالرأى والاجتهاد، بمقدار ما
زاد من الغموض الذى كان يتزايد كلما بَعُدَ الناس عن عصر النبى ﷺ والصحابة.
ثم
جاءت الطبقة التى تلى التابعين وروت عنهم ما قالوا، وزادوا عليه بمقدار ما زاد من
غموض ... وهكذا ظل التفسير يتضخم طبقة بعد طبقة، وتروى الطبقة التالية ما كان عند
الطبقات التى سبقتها، كما أشرنا إلى ذلك فيما سبق.
ثم ابتدأ دورالتدوين -
وهو ما يعنينا فى هذا البحث - فكان أول ما دُوِّن من التفسير، هو التفسير
المأثور، على تدرج فى التدوين كذلك، فكان رجال الحديث والرواية هم أصحاب الشأن
الأول فى هذا. وقد رأينا أصحاب مبادئ العلوم حين
١ / ١١٢
ينسبون
- على عادتهم - وضع كل علم لشخص بعينه، يعدون واضع التفسير - بمعنى جامعه لا
مُدَوِّنه - الإمام مالك بن أنس الأصبحى، إمام دار الهجرة.
وكان التفسير إلى
هذا الوقت لم يتخذ له شكلًا منظمًا، ولم يُفرد بالتدوين، بل كان يُكتب على أنه
باب من أبواب الحديث المختلفة، يجمعون فيه ما رُوِى عن النبى ﷺ وعن الصحابة
والتابعين.
ثم بعد ذلك انفصل التفسير عن الحديث، وأُفرد بتأليف خاص، فكان
أول ما عُرف لنا من ذلك، تلك الصحيفة التى رواها علىّ بن أبى طلحة عن ابن
عباس.
ثم وُجِد من ذلك جزء أو أجزاء دُوِّنت فى التفسير خاصة، مثل ذلك الجزء
المنسوب لأبى رَوق، وتلك الأجزاء الثلاثة التى يرويها محمد بن ثور عن ابن
جريج.
ثم وُجِدَت من ذلك موسوعات من الكتب المؤلَّفة فى التفسير، جمعت كل ما
وقع لأصحابها من التفسير المروى عن النبى ﷺ وأصحابه وتابعيهم، كتفسير ابن جرير
الطبرى. ويُلاحَظ أن ابن جرير ومَنْ على شاكلته - وإن نقلوا تفاسيرهم بالإسناد -
توسَّعوا فى النقل وأكثروا منه، حتى استفاض وشمل ما ليس موثوقًا به. كما يُلاحَظ
أنه كان لا يزال موجودًا إلى ما بعد عصر ابن جرير ومَنْ على شاكلته - ممن أفردوا
التفسير بالتأليف - رجال من المحدِّثين بوَّبوا للتفسير بابًا ضمن أبواب ما جمعوا
من الأحاديث.
ثم وُجِد بعد هذا أقوام دوَّنوا التفسير المأثور بدون أن
يذكروا أسانيدهم فى ذلك، وأكثروا من نقل الأقوال فى تفاسيرهم بدون تفرقة بين
الصحيح والعليل، مما جعل الناظر فى هذه الكتب لا يركن لما جاء فيها، لجواز أن
يكون من قبيل الموضوع المختلق، وهو كثير فى التفسير.
ثم بعد هذا تغيَّرت
موجهات الحياة، فبعد أن كان التدوين فى التفسير لا يتعدى المأثور منه، تعدَّى إلى
تدوين التفسير بالرأى على تدرج فيه، كما أشرنا إليه فيما سبق (ص ١٥٦) .
*
*
* اللَّون الشخصى للتفسير المأثور:
من المعلوم أن الشخص الذى يُفسِّر
نصًا من النصوص، يُلوِّن هذا النص بتفسيره إياه، لأن المتفهم لعبارة من العبارات،
هو الذى يحدد معناه ومرماها وفق مستواه الفكرى، وعلى سعة أفقه العقلى، وليس فى
استطاعته أن يفهم من النص إلا ما يرمى إليه فكره، ويمتد إليه عقله، وبمقدار هذا
يتحكم فى النص ويُحدِّد بيانه، وهذا أصل ملحوظ،
١ / ١١٣
نجد
آثاره واضحة فى كتب التفسير على اختلافها، فما من كتاب منها إلا وقد وجدنا آثار
شخصية صاحبه وقد طبعت تفسيره بطابع خاص لا يعسر علينا إدراكه.
غير أن هذا
الطابع الشخصى الذى يُطبع به التفسير، إن ظهر لنا جليًا واضحًا فى كتب التفسير
بالرأى، فإنَّا لا نكاد نجده لأول وهلة على هذا النحو من الوضوح والجلاء بالنسبة
لكتب التفسير بالمأثور، ولكن نستطيع أن نتبينه إذا ما قدَّرنا أن المتصدى لهذا
التفسير النقلى إنما يجمع حول الآية من المرويات ما يشعر أنها متجهة إليه، متعلقة
به، فيقصد إلى ما يتبادر لذهنه من معناها، ثم تدفعه الفكرة العامة فيها إلى أن
يصل بين الآية وما يروى حولها فى اطمئنان، وبهذا الاطمئنان، يتأثر نفسيًا
وعقليًا، حينما يقبل مرويًا ويعنى به، أو يرفض مرويًا حين لا يرتاح إليه.
وكذلك
راج بين المتقدمين - كما لاحظه ابن خلدون فى مقدمته - ما هم فى شوق إليه وتعلق
به، من أسباب المكونات، وبدء الخليقة، وأسرار الوجود، وتفصيل الأحداث الكبرى فى
تاريخ الإنسانية الأولى، نظرًا لبداوتهم وأُميِّتهم، وقلَّة المتداول بينهم منه،
فكان من وراء ذلك كثرة الإسرائيليات، وليس من شك فى أن هذا صورة عقلية، وطابع
شخصى لهذا العصر الأول، كما أنه صورة عقلية، وطابع شخصى لكل مَن يقبل هذه
الإسرائيليات، ويُفسِّر بعض آيات القرآن على ضوئها.
ثم إننا بعد هذا نلحظ
لونًا شخصيًا آخر فى التفسير النقلى، ذلك أن الشخص الذى يعرف قيمة الرجال،
ويستطيع أن ينقد السند، ويعرف أسباب الضعف فى الرواية، نرى تفسيره يُطبع بهذا
الطابع الشخصى الخاص، فيتحرى الصحة فيما يرويه، فلا يدخل فى كتابه مرويًا اعتراه
الضعف أو تطرق إليه الخلل. أما الشخص الذى لا دراية له بأسباب الضعف فى الرواية،
وليس عنده القدرة على نقد الرجال ونقد المروى عنهم فحاطب ليل، يجمع كل ما يُنقل
له فى ذلك بدون أن يُفرِّق بين الصحيح وغيره.
وبعد ... أفلا ترى أنه حتى فى
رواج التفسير النقلى وتداوله تكون شخصية المتعرض للتفسير هى الملوِّنة له،
المروِّجة لصنف منه، أظن أن نعم.
* *
* الضعف فى رواية التفسير المأثور
وأسبابه:
علمنا مما تقدَّم أن التفسير المأثور يشمل ما كان تفسيرًا للقرآن
بالقرآن، وما كان تفسيرًا للقرآن بالسُّنَّة، وما كان تفسيرًا للقرآن بالموقوف
على الصحابة أو المروى عن التابعين. أما تفسير القرآن بالقرآن. أو بما ثبت من
السُّنَّة الصحيحة، فذلك مما لا خلاف فى قبوله، لأنه لا يتطرق إليه الضعف. ولا
يجد الشك إليه سبيلًا.
١ / ١١٤
وأما ما أُضيف
إلى النبى ﷺ وهو ضعيف فى سنده أو متنه فذلك مردود غير مقبول، ما دام لم تصح نسبته
إلى النبى ﷺ.
وأما تفسير القرآن بما يُروى عن الصحابة أو التابعين، فقد
تسرَّب إليه الخلل، وتطرَّق إليه الضعف، إلى حد كاد يُفقدنا الثقة بكل ما رُوِى
من ذلك، لولا أن قيَّض الله لهذا التراث العظيم مَنْ أزاح عنه هذه الشكوك، فسلمت
لنا منه كمية لا يُستهان بها، وإن كان صحيحها وسقيمها لا يزال خليطًا فى كثير من
الكتب التى عَنِىَ أصحابها بجمع شتات الأقوال.
ولقد كانت كثرة المروى من ذل
كثرة جاوزت الحد - وبخاصة عن ابن عباس وعلىّ بن أبى طالب رضى الله عنهما - أكبر
عامل فى صرف همة العلماء ولفت أنظارهم إلى البحث والتمحيص، والنقد والتعديل
والتجريح، حتى لقد نُقِل عن الإمام الشافعى رضى الله عنه أنه قال: «لم يثبت عن
ابن عباس فى التفسير إلا شبيه بمائة حديث». وهذا العدد الذى ذكره الشافعى، لا
يكاد يُذكر بجوار ما رُوِى عن ابن عباس من التفسير. وهذا يدل على مبلغ ما دخل من
التفسير النقلى من الروايات المكذوبة المصنوعة.
* *
* أسباب الضعف:
ونستطيع
أن نُرجِعْ أسباب الضعف فى رواية التفسير المأثور إلى أُمور ثلاثة:
أولها:
كثرة الوضع فى التفسير.
ثانيها: دخول الإسرائيليات فيه.
ثالثها: حذف
الأسانيد.
وأرى أن أعرض لكل سبب من هذه الأسباب الثلاثة المجملة بالإيضاح
والتفصيل، حتى يتبيَّن لنا مقدار ما كان لكل منها من الأثر فى فقدان الثقة بكثير
من الروايات المأثورة فى التفسير.
* * *
أولًا: الوضع فى التفسير
*
نشأة الوضع فى التفسير:
نشأ الوضع فى التفسير مع نشأته فى الحديث، لأنهما
كانا أول الأمر مزيجًا لا يستقل أحدهما عن الآخر، فكما أننا نجد فى الحديث:
الصحيح والحسن والضعيف، وفى رواته مَنْ هو موثوق به، ومَنْ هو مشكوك فيه، ومَنْ
عُرِف بالوضع، نجد مثل ذلك فيما رُوِىَ من التفسير، ومَنْ روَى من المفسِّرين.
وكان
مبدأ ظهور الوضع فى سنة إحدى وأربعين من الهجرة، حين اختلف المسلمون
١
/ ١١٥
سياسيًا، وتفرَّقوا إلى شيعة وخوارج وجمهور، ووُجِدَ من
أهل البدع والأهواء مَنْ روَّجوا لبدعهم، وتعصبَّوا لأهوائهم، ودخل فى الإسلام
مَن تبطن الكفر والتحف الإسلام بقصد الكيد له، وتضليل أهله، فوضعوا ما وضعوا من
روايات باطلة، ليصلوا بها إلى أغراضهم السيئة، ورغباتهم الخبيثة.
* *
*
أسبابه:
ويرجع الوضع فى التفسير إلى أسباب متعددة: منها التعصب المذهبى،
فإنَّ ما جَدَّ من افتراق الأُمة إلى شيعة تطرَّفوا فى حب علىّ، وخوارج انصرفوا
عنه وناصبوه العداء، وجمهور المسلمين الذين وقفوا بجانب هاتين الطائفتين بدون أن
يمسهم شئ من ابتداع التشيع أو الخروج، جعل كل طائفة من هذه الطوائف تحاول بكل
جهودها أن تؤيد مذهبها بشئ من القرآن، فنسب الشيعة إلى النبى ﷺ، وإلى علىّ وغيره
من أهل البيت - رضى الله عنهم - أقوالًا كثيرة من التفسير تشهد لمذهبهم. كما وضع
الحوارج كثيرًا من التفسير الذى يشهد لمذهبهم، ونسبوه إلى النبى ﷺ أو إلى أحد
أصحابه، وكان قصد كل فريق من نسبة هذه الموضوعات إلى النبى ﷺ أو إلى أحد أصحابه،
الترويج للمروى، والإمعان فى التدليس، فإن نسبة المروى إلى الرسول ﵊ أو إلى أحد
الصحابة، تورث المروى ثقة وقبولًا. لا يوجد شئ منهما عندما يُنسب المروى لغير
النبى ﵊ أو لغير صحابى.
كذلك نجد اللون السياسى فى هذا العصر يترك له أثرًا
بَيِّنًا فى وضع التفسير، ويُلاحَظ أن المروى عن علىّ وابن عباس رضى الله عنهما
قد جاوز حد الكثرة، مما يجعلنا نميل إلى القول بأنه قد وُضع عليهما فى التفسير
أكثر مما وُضِع على غيرهما، والسبب فى ذلك أنَّ عليًا وابن عباس رضى الله عنهما
من بيت النبوة، فالوضع عليهما يُكسب الموضوع ثقة وقبولًا، وتقديسًا ورواجًا، مما
لا يكون لشئ مما يُنسب إلى غيرهما. وفوق هذا فقد كان لعلىّ من الشيعة ما ليس
لغيره، فنسبوا إليه من القول فى التفسير ما يظنون أنه يُعلى من قدره، ويرفع من
شأنه. وابن عباس كان من نسله الخلفاء العباسيون، فوُجِد من الناس مَنْ تزَّلف
إليهم، وتقرَّب بكثرة ما يرويه لهم عن جدهم ابن عباس، مما يدل على أن اللون
السياسى كان له أثر ظاهر فى وضع التفسير.
كذلك نجد من أسباب الوضع فى
التفسير ما قصده أعداء الإسلام الذين اندَّسوا بين أبنائه متظاهرين بالإسلام، من
الكيد له ولأهله، فعمدوا إلى الدس والوضع فى التفسير بعد أن عجزوا عن أن ينالوا
من هذا الدين عن طريق الحرب والقوة، أو عن طريق البرهان والحُجَّة.
* *
*
١
/ ١١٦
أثر الوضع فى التفسير:
وكان من وراء هذه الكثرة
التى دخلت فى التفسير ودُسَّت عليه، أن ضاع كثير من هذا التراث العظيم الذى
خلَّفه لنا أعلام المفسِّرين من السَلَف، لأن ما أحاط به من شكوك، أفقدنا الثقة
به، وجعلنا نرد كل رواية تطرَّق إليها شئ من الضعف، وربما كانت صحيحة فى
ذاتها.
كما أن اختلاط الصحيح من هذه الروايات بالسقيم منها، جعل بعض مَنْ
ينظر فيها وليس عنده القدرة على التمييز بين الصحيح والعليل، ينظر إلى جميع ما
رُوِىَ بعين واحدة، فيحكم على الجميع بالصحة، وربما وَجَد من ذلك روايتين
متناقضتين عن مفسِّر واحد فيتهمه بالتناقض فى قوله، ويتهم المسلمين بقبول هذه
الروايات المتناقضة المتضاربة.
يقول الأستاذ «جولدزيهر» فى كتابه «المذاهب
الإسلامية فى تفسير القرآن» (٧٨-٨٢) - ما نصه: «وإنما لمما يلفت النظر فى هذا
المحيط، هذه الظاهرة الغريبة، وهى أن التعاليم المنسوبة إلى ابن عباس تحمل طابع
التصديق بشكل متساو، وهى فى نفسها تظهر فى تضاد شديد بينها وبين بعضها، مما لا
يقبل التوسط أو التوفيق».
ثم يسوق بعد ذلك مثالًا لهذا التضاد، فيذكر ما قام
حول تعيين الذبيح من خلاف أسنده مثيروه إلى أقوال مأثورة عن السلَفَ، ويذكر فى
ضمن كلامه: «أن كل فريق يعتمد فى رأيه على إسناد متصل بابن عباس يدعم به رأيه،
فالإسحاقيون عن عِكرمة، والإسماعيليون عن الشعبى أو مجاهد، كل أُولئك سمعوا ذلك
عن ابن عباس، وكل ادَّعى بأن هذا هو رأيه فى هذه المسألة..»
ثم يقول بعد
كلام ساقه فى هذا الموضوع: «ويمكن أن يُرى من ذلك إلى أى حد يكون مقدار صحة الرأى
المستند إلى ابن عباس، وإلى أى حد يمكن الاعتراف به. وما نعتبره بالنسبة له
وللآراء المأثورة عنه، يمكن أن يُعتبر إلى أقصى حد بالنسبة للتفسير المأثور،
فالأقوال المتناقضة يمكن أن ترجع دائمًا إلى قائل واحد، معتمدة فى الوقت نفسه على
أسانيد مرضية موثوق بها ...»
ثم يقول بعد كلام ساقه عن الإسناد وما قع فيه
من اللعب والخداع: «ومن الملاحظات التى أبديناها، يمكن أن نخلص بهذه النتيجة: وهى
أنه لا يوجد بالنسبة لتفسير مأثور للقرآن ما نستطيع أن نسميه وحده تامة أو كيانًا
قائمًا، فإنه قد تُروى عن الصحابة فى تفسير الموضوع الواحد آراء متخالفة وفى أغلب
الأحيان يناقض بعضها بعضًا من جهة، ومن جهة أخرى فقد تُنسب للصحابى الواحد فى
معنى الكلمة الواحدة أو الجملة كلها آراء مختلفة، وبناء على ذلك، يُعتبر التفسير
الذي يخالف بعضه بعضًا، والمناقض بعضه بعضًا، مساويًا للتفسير بالعلم».
١
/ ١١٧
هذا ما حكم به الأستاذ «جولدزيهر» على التفسير بالمأثور
فى كتابه، وكل ما قاله فى هذا الموضوع لا يعدو أن يكون محاولات فاشلة يريد من
ورائها أن يُظهر أن ابن عباس خاصة، ومن تكلم فى التفسير من الصحابة عامة، بمظهر
الشخص الذى يناقض نفسه فى الكلمة الواحدة أو الموضوع الواحد. كما يرمى من وراء
ذلك أن يصرف نظر المسلمين عن هذه الثروة الضخمة التى خلَّفها لهم السَلَف الصالح
فى التفسير، زعمًا أن هذا التناقض الموجود بين الروايات، نتيجة لاختلاف وجهات
النظر من شخص واحد أو أشخاص، وتفسير هذا شأنه نحن فى حِلٍّ من التزامه، لأنهم
قالوا بعقولهم، ونحن مشتركون معهم فى هذا القَدْر.
ونحن لا ننكر أن هناك
اختلافًا بين السَلَف فى التفسير، كما لا ننكر أنَّ هناك اختلافًا بين قولين أو
أقوال لشخص واحد منهم، ولكن هذا الاختلاف قلنا عنه فيما سبق مفصَّلًا: إن معظمه
يرجع إلى اختلاف عبارة وتنوع، لا اختلاف تناقض وتضاد، فما كان من هذا القبيل،
فالجمع بينه سهل ميسور، وما لم يمكن فيه الجمع، فالمتأخر من القولين عن الشخص
الواحد مقدَّم إن استويا فى الصحة عنه، وإلا فالصحيح المقدَّم.
أما إذا
تعارضت أقوال جماعة من الصحابة وتعذَّر الجمع أو الترجيح، فيُقدَّم ابن عباس على
غيره، لأن النبى ﷺ بشَّره بذلك حيث قال: «اللَّهم علِّمه التأويل» وقد رجح
الشافعى قول زيد فى الفرائض لحديث: «أفرضكم زيد».
وأما ما ساقه على سبيل
المثال من اختلاف الرواية عن ابن عباس فى تعيين الذبيح، فقد رجعتُ إلى ابن جرير
فى تفسيره، فوجدته قد ذكر عن ابن عباس هاتين الروايتين المختلفتين، وساق كل رواية
منها بأسانيد تتصل إلى ابن عباس، بعضها يرفعه إلى الرسول ﷺ، وبعضها موقوف
عليه.
وابن جرير - كما نعلم - لم يلتزم الصحة فى كل ما يرويه، ولو أننا
عرضنا هاتين الروايتين على قواعد المحدَثين فى نقد الرواية والترجيح، لتبين لنا
بكل وضوح وجلاء، أن الرواية القائلة بأن الذبيح هو إسماعيل، أصح من غيرها وأرجح
مما يخالفها، لأنها مؤيَّدة بأدلة كثيرة يطول ذكرها، وأيضًا فإن الرواية التى
يذكرها ابن جرير عن ابن عباس مرفوعة إلى رسول الله ﷺ ومقيدة أن الذبيح هو إسحاق،
فى سندها الحسن بن دينار عن علىّ بن زيد، والحسن بن دينار متروك، وعلىّ بن زيد
منكر الحديث، كما ذكره الحافظ ابن كثير فى تفسيره.
١ / ١١٨
أما
باقى الروايات الموقوفة على ابن عباس، والتى تفيد أن الذبيح هو إسحاق، فهى - وإن
كانت صحيحة الأسانيد - محمولة على أن ما تضمنته من أن الذبيح هو إسحاق، كان رأى
ابن عباس فى أول الأمر، لأنه سمع ذلك من بعض الصحابة الذين كانوا يحدِّثون فى مثل
هذا بما سمعوه من كعب وغيره من مسلمى اليهود، ثم علم بعد: أن ذلك قول اليهود فرجع
عنه وصرَّح بنقيضه، كما قال ابن جرير: «حدَّثنى يونس، أخبرنا ابن وهب، أخبرنى عمر
بن قيس، عن عطاء بن أبى رباح، عن عبد الله بن عباس أنه قال: المفدَّى إسماعيل،
وزعمت اليهود أنه إسحاق وكذبت اليهود»، وهذا الأثر صحيح عن ابن عباس، إسناده على
شرط الصحيح، وهو كما ترى صريح فى تكذيب اليهود فيما زعموه، وهو يقضى على كل أثر
بخلافه، وبهذا الطريق تنتظم الآثار الواردة عن ابن عباس فى هذا الباب. قال ابن
كثير فى تفسيره (جـ ٤ ص ١٧) بعد ما ساق الروايات فى أن الذبيح هو إسحاق: «وهذه
الأقوال - والله أعلم - كلها مأخوذة عن كعب الأحبار، فإنه لما أسلم فى الدولة
العمرية جعل يُحدِّث عمر رضى الله عنه عن كتبه قديمًا، فربما استمع له عمر رضى
الله عنه، فترخَّص الناس فى استماع ما عنده، ونقلوا ما عنده عنه، غثها وسمينها،
وليس لهذه الأُمَّة - والله أعلم - حاجة إلى حرف واحد مما عنده».
وأما ما
رمى إليه من جعل التفسير المأثور مساويًا للتفسير بالعلم، وادعاؤه أنه لا يوجد له
وحدة تامة أو كيان قائم، فهذا شطط منه فى الرأى، ولا يكاد يسلم له هذا المدَّعى،
لأن المأثور الذى صح عن النبى ﷺ له مكانته وقيمته، ﴿إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ
يوحى﴾ [النجم: ٤] .. وأما ما صح عن الصحابة فغالبه مما تلقوه عن الرسول ﷺ، وقليل
منه قالوه عن نظر منهم واجتهاد وحتى هذا القليل - عند مَنْ لا يرى أن له حكم
المرفوع - له أيضًا قيمته ومكانته، ولا يجوز العدول عنه إذا صح إلى غيره، لأنهم
أدرى بذلك، لما شاهدوه من القرائن والأحوال التى اختُصوا بها، ولما لهم من الفهم
التام والعلم الصحيح.
وبعد.. فهل يعُدَ التفسير المأثور مساويًا للتفسير
بالعلم؟ اللَّهم إن هذا لا يقوله منصف.
* *
* قيمة التفسير الموضوع:
ثم
إن هذا التفسير الموضوع، لو نظرنا إليه من ناحيته الذاتية بصرف النظر عن ناحيته
الإسنادية، لوجدنا أنه لا يخلو من قيمته العلمية، لأنه مهما كثر الوضع فى التفسير
فإن الوضع ينصب على الرواية نفسها، أما التفسير فى حد ذاته فليس دائمًا
١
/ ١١٩
أمرًا خياليًا بعيدًا عن الآية، وإنما هو - فى كثير من
الأحيان - نتيجة اجتهاد علمى له قيمته، فمثلًا مَنْ يضع فى التفسير شيئًا وينسبه
إلى علىّ أو إلى ابن عباس، لا يضعه على أنه مجرد قول يلقيه على عواهنه، وإنما هو
رأى له، واجتهاد منه فى تفسير الآية، بناه على تفكيره الشخصى، وكثيرًا ما يكون
صحيحًا، غاية الأمر أنه أراد لرأيه رواجًا وقبولًا، فنسبه إلى مَنْ نُسِب إليه من
الصحابة. ثم إن هذا التفسير المنسوب إلى علىّ أو ابن عباس لم يفقد شيئًا من قيمته
العلمية غالبًا، وإنما الشئ الذى لا قيمة له فيه هو نسبته إلى علىّ أو ابن
عباس.
فالموضوع من التفسير - والحق يقال - لم يكن مجرد خيال أو وهم خُلِق
خلقًا، بل له أساس ما، يهم الناظر فى التفسير درسه وبحثه، وله قيمته الذاتية وإن
لم يكن له قيمته الإسنادية.
* * *
١ / ١٢٠
ثانيًا:
الإسرائيليات
* تمهيد - فى بيان المراد بالإسرائيليات ومدى الصلة بينها وبين
القرآن:
لفظ الإسرائيليات وإن كان يدل بظاهره على اللون اليهودى للتفسير،
وما كان للثقافة اليهودية من أثر ظاهر فيه، إلا أنَّا نريد به ما هو أوسع من ذلك
وأشمل، فنريد به ما يعم اللون اليهودى واللون النصرانى للتفسير، وما تأثر به
التفسير من الثقافتين اليهودية والنصرانية.
وإنما أطلقنا على جميع ذلك لفظ
«الإسرائيليات»، من باب التغليب للجانب اليهودى على الجانب النصرانى، فإن الجانب
اليهودى هو الذى اشتهر أمره فكثر النقل عنه، وذلك لكثرة أهله، وظهور أمرهم، وشدة
اختلاطهم بالمسلمين من مبدأ ظهور الإسلام إلى أن بسط رواقه على كثير من بلاد
العالَم ودخل الناس فى دين الله أفواجًا.
كان لليهود ثقافة دينية، وكان
للنصارى ثقافة دينية كذلك، وكلتا الثقافتين كان لها أثر فى التفسير إلى حد ما.
أما
اليهود، فإن ثقافتهم تعتمد أول ما تعتمد على التوراة التى أشار إليها القرآن
بقوله: ﴿إِنَّآ أَنزَلْنَا التوراة فِيهَا هُدًى وَنُورٌ﴾ [المائدة: ٤٤] ودلَّ
على بعض ما جاء فيها من أحكام بقوله: ﴿وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَآ أَنَّ النفس
بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قِصَاصٌ﴾
[المائدة: ٤٥] ..
وكثيرًا ما يستعمل المسلمون واليهود أنفسهم لفظ «التوراة»
ويطلقونه على كل الكتب المقدَّسة عند اليهود فيشمل الزبور وغيره. وتسمى التوراة
بما اشتملت عليه من الأسفار الموسوية وغيرها: العهد القديم.
وكان لليهود
بجانب التوراة سنن ونصائح وشروح لم تؤخذ عن موسى بطريق الكتابة، وإنما تحمَّلوها
ونقلوها بطريق المشافهة، ثم نمت على مرور الزمن وتعاقب الأجيال، ثم دُوِّنت
وعُرِفت باسم التلمود، ووُجِد بجوار ذلك كثير من الأدب اليهودى، والقصص،
والتاريخ، والتشريع، والأساطير.
وأما النصارى فكانت ثقافتهم تعتمد - فى
الغالب الأهم - على الإنجيل، وقد أشار القرآن إلى أنه من كتب السماء التى نزلت
على الرسل فقال: ﴿ثُمَّ قَفَّيْنَا على آثَارِهِم بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا
بِعِيسَى ابن مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الإنجيل﴾ [الحديد: ٢٧] وغير هذا كثير من آيات
القرآن التى تشهد له بذلك.
١ / ١٢١
والأناجيل
المعتبرة عند النصارى يُطلق عليها وعلى ما انضم إليها من رسائل الرسل، اسم: العهد
الجديد. والكتاب المقدّس لدى النصارى يشمل: التوراة والإنجيل ويُطلق عليه: العهد
القديم والعهد الجديد.
وكان طبيعيًا أن يُشرح الإنجيل بشروح مختلفة، كانت
فيما بعد منبعًا من منابع الثقافة النصرانية، كما وُجِدَ بجوار ذلك ما زاده
النصارى من القصص، والأخبار، والتعاليم، التى زعموا أنهم تلقوها عن عيسى ﵇، وهذا
كله كان من ينابيع هذه الثقافة النصرانية.
إذن ... فقد كانت التوراة المصدر
الأول لثقافة اليهودية الدينية، كما كان الإنجيل المصدر الأهم لثقافة النصارى
الدينية.
وإذا نحن أجلنا النظر فى التوراة والإنجيل نجد أنهما قد اشتملا على
كثير مما اشتمل عليه القرآن الكريم، وبخاصة ما كان له تعلق بقصص الأنبياء ﵈، وذلك
على اختلاف فى الإجمال والتفصيل، فالقرآن إذا عرض لقصة من قصص الأنبياء - مثلًا -
فإنه ينحو فيها ناحية يخالف بها منحى التوراة والإنجيل، فتراه يقتصر على مواضع
العظة، ولا يتعرض لتفصيل جزئيات المسائل، فلا يذكر تاريخ الوقائع، ولا أسماء
البلدان التى حصلت فيها، كما أنه لا يذكر فى الغالب أسماء الأشخاص الذين جرت على
أيديهم بعض الحوادث. ويدخل فى تفاصيل الجزئيات، بل يتخيَّر من ذلك ما يمس جوهر
الموضوع، وما يتعلق بموضع العبرة.
وإذا نحن تتبعنا هذه الموضوعات التى اتفق
فى ذكرها القرآن والتوراة، أو القرآن والإنجيل، ثم أخذنا موضوعًا منها، وقارنا
بين ما جاء فى الكتابين وجدنا اختلاف المسلك ظاهرًا جليًا.
فمثلًا قصة آدم
﵇، ورد ذكرها فى التوراة، كما وردت فى القرآن فى مواضع كثيرة، أطولها ما ورد فى
سورة البقرة، وما ورد فى سورة الأعراف. وبالنظر فى هذه الآيات من السورتين، نجد
أن القرآن لم يتعرض لمكان الجنة، ولا لنوع الشجرة التى نُهِىَ آدم وزوجه عن الأكل
منها، ولا بيَّن الحيوان الذى تقمصه الشيطان فدخل الجنة ليزل آدم وزوجه. كما لم
يتعرَّض للبقعة التى هبط إليها آدم وزوجه وأقام بها بعد خروجهما من الجنة ... إلى
آخر ما يتعلق بهذه القصة من تفصيل وتوضيح.
ولكن نظرة واحدة يجيلها الإنسان
فى التوراة يجد بعدها أنها قد تعرَّضت لكل ذلك وأكثر منه. فأبانت أن الجنة فى عدن
شرقًا، وأن الشجرة التى نُهيا عنها كانت فى وسط الجنة، وأنها شجرة الحياة، وأنها
شجرة معرفة الخير والشر، وأن الذى خاطب حواء هو الحيَّة، وذكرت ما انتقم الله به
من الحيَّة التى تقمصها إبليس، بأن جعلها تسعى
١ / ١٢٢
على
بطنها وتأكل التراب، وانتقم من حواء بتعبها هى ونسلها فى حبلها ... إلى آخر ما
ذُكر فيها مما يتعلق بهذه القصة.
ومثلًا نجد القرآن الكريم قد اشتمل على
موضوعات وردت فى الإنجيل، فمن ذلك قصة عيسى ومريم، ومعجزات عيسى ﵇، كل ذلك جاء به
القرآن فى أسلوب موجز، يقتصر على موضع العظة، ومكان العبرة، فلم يتعرَّض القرآن
لنسب عيسى مفصَّلًا، ولا لكيفية ولادته، ولا للمكان الذى وُلِدَ فيه، ولا لذكر
الشخص الذى قُذِفت به مريم، كما لم يتعرض لنوع الطعام الذى نزلت به مائدة السماء،
ولا لحوادث جزئية من إبراء عيسى للأكمه والأبرص وإحياء الموتى..
مع أننا لو
نظرنا فى الإنجيل لوجدناه قد تعرَّض لنسب عيسى، ولكيفية ولادة مريم له، ولذكر
الشخص الذى قُذِفت به مريم، ولنوع الطعام الذى نزلت به مائدة السماء ولحوادث
جزئية من إبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى، ولكثير من مثل هذا التفصيل
الموسَّع الذى أعرض عنه القرآن فلم يذكره لنا.
وبعد ... فهل يجد المسلمون
هذا الإيجاز فى كتابهم، ويجدون بجانب ذلك تفصيلًا لهذا الإيجاز فى كتب الديانات
الأخرى، ثم لا يقتبسون منها بقدر ما يرون أنه شارح لهذا الإيجاز وموضِّح لما فيه
من غموض؟.. هذا ما نريد أن نعرض له فى هذا البحث، ليتبين لنا كيف دخلت
الإسرائيليات فى التفسير، وكيف تطوَّر هذا الدخول، وإلى أى حد تأثر التفسير
بالتعاليم اليهودية والنصرانية.
* *
* مبدأ دخول الإسرائيليات فى
التفسير وتطوره:
نستطيع أن نقول: إن دخول الإسرائيات فى التفسير، أمر يرجع
إلى عهد الصحابة رضى الله عنهم، وذلك نظرًا لاتفاق القرآن مع التوراة والإنجيل فى
ذكر بعض المسائل كما تقدَّم، مع فارق واحد، هو الإيجاز فى القرآن، والبسط
والإطناب فى التوراة والإنجيل. وسبق لنا القول بأن الرجوع إلى أهل الكتاب، كان
مصدرًا من مصادر التفسير عند الصحابة، فكان الصحابى إذا مَرَّ على قصة من قصص
القرآن يجد من نفسه ميلًا إلى أن يسأل عن بعض ما طواه القرآن منها ولم يتعرض له،
فلا يجد مَن يجيبه على سؤاله سوى هؤلاء النفر الذين دخلوا فى الإسلام، وحملوا إلى
أهله ما معهم من ثقافة دينية، فألقوا إليهم ما ألقوا من الأخبار والقصص
الدينى.
غير أن الصحابة - رضوان الله عليهم أجمعين - لم يسألوا أهل الكتاب
عن كل
١ / ١٢٣
شئ، ولم يقبلوا منهم كل شئ، بل
كانوا يسألون عن أشياء لا تعدو أن تكون توضيحًا للقصة وبيانًا لما أجمله القرآن
منها، مع توقفهم فيما يُلقى إليهم، فلا يحكمون عليه بصدق أو بكذب ما دام يحتمل
كلا الأمرين، امتثالًا لقول الرسول ﷺ:»لا تُصَدِّقوا أهل الكتاب ولا تُكَذِّبوهم،
وقولوا: ﴿آمَنَّا بالله وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا﴾ [المائدة: ٥٩] .. الآية.
كما
أنهم لم يسألوهم عن شئ مما يتعلق بالعقيدة أو يتصل بالأحكام، اللهم إلا إذا كان
على جهة الاستشهاد والتقوية لما جاء به القرآن. كذلك كانوا لا يعدلون عما ثبت عن
الرسول ﷺ من ذلك إلى سؤال أهل الكتاب، لأنه إذا ثبت الشئ عن الرسول ﷺ فليس لهم أن
يعدلوا عنه إلى غيره، كما كانوا لا يسألون عن الأشياء التى يُشبه أن يكون السؤال
عنها نوعًا من اللهو والعبث، كالسؤال عن لون كلب أهل الكهف، والبعض الذى ضُرِب به
القتيل من البقرة، ومقدار سفينة نوح، ونوع خشبها، واسم الغلام الذى قتله الخضر..
وغير ذلك، ولهذا قال الدهلوى بعد أن بيّن أن السؤال عن مثل هذا تكلف ما لا يعنى:
«وكانت الصحابة رضى الله عنهم يعدون مثل ذلك قبيحًا من قبيل تضييع الأوقات».
كذلك
كان الصحابة لا يُصَدِّقون اليهود فيما يخالف الشريعة أو يتنافى مع العقيدة. بل
بلغ بهم الأمر أنهم كانوا إذا سألوا أهل الكتاب عن شئ فأجابوا عنه خطأ، رَدُّوا
عليهم خطأهم. وبيَّنوا لهم وجه الصواب فيه، فمن ذلك ما رواه البخارى عن أبى هريرة
رضى الله عنه أن رسول الله ﷺ ذكر يوم الجمعة فقال: «فيه ساعة لا يوافقها عبد مسلم
وهو قائم يصلى يسأل الله تعالى شيئًا إلا أعطاه إياهوأشار بيده يقللها».
فقد
اختلف السَلَف فى تعيين هذه الساعة، وهل هى باقية أو رُفِعَت؟ وإذا كانت باقية،
فهل هى فى جمعة واحدة من السنة أو فى كل جمعة منها؟ فنجد أبا هريرة رضى الله عنه
يسأل كعب الأحبار عن ذلك، فيجيبه كعب: بأنها فى جمعة واحدة من السنة، فيرد عليه
أبو هريرة قوله هذا ويبيِّن له: أنها فى كل جمعة، فيرجع كعب إلى التوراة، فيرى
الصواب مع أبى هريرة فيرجع إليه.
كما نجد أبا هريرة أيضًا يسأل عبد الله بن
سلام عن تحديد هذه الساعة ويقول له: أخبرنى ولا تضن علىّ، فيجيبه عبد الله بن
سلام بأنها آخر ساعة فى يوم الجمعة، فيرد
١ / ١٢٤
عليه
أبو هريرة بقوله: كيف تكون آخر ساعة فى يوم الجمعة وقد قال رسول الله ﷺ: «لا
يصادفها عبد مسلم وهو يُصَلِّى» وتلك الساعة لا يُصلَّى فيها؟ فيجيبه عبد الله بن
سلام بقوله: ألم يقل رسول الله ﷺ: «مَن جلس مجلسًا ينتظر الصلاة فهو فى صلاة حتى
يُصلِّى»؟ ... الحديث.
فمثل هذه المراجعة التى كانت بين أبى هريرة وكعب
تارة، وبينه وبين ابن سلام تارة أخرى، تدلنا على أن الصحابة كانوا لا يقبلون كل
ما يقال لهم، بل كانوا يتحرون الصواب ما استطاعوا، ويردُّون على أهل الكتاب
أقوالهم إن كانت لا توافق وجه الصواب.
ومهما يكن من شئ فإن الصحابة - رضى
الله عنهم - لم يخرجوا عن دائرة الجواز التى حدَّها لهم رسول الله ﷺ وعما فهموه
من الإباحة فى قوله ﵇: «بلِّغوا عنى ولو آية، وحَدِّثوا عن بنى إسرائيل ولا
حَرَج، ومَن كذب علىَّ متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار».
كما أنهم لم
يخالفوا قول رسول الله ﷺ: «لا تُصدِّقوا أهل الكتاب ولا تُكَذِّبوهم، وقولوا:
آمنا بالله وما أُنزل إلينا ... الآية» ولا تعارض بين هذين الحديثين، لأن الأول
أباح لهم أن يُحَدِّثوا عما وقع لبنى إسرائيل من الأعاجيب، لما فيها من العبرة
والعظة، وهذا بشرط أن يعلموا أنه ليس مكذوبًا، لأن الرسول ﷺ لا يعقل أن يبيح لهم
رواية المكذوب.
قال الحافظ ابن حجر فى الفتح عند شرحه لهذا الحديث: «وقال
الشافعى: من المعلوم أن النبى ﷺ لا يجيز التحدث بالكذب، فالمعنى: حَدِّثوا عن بنى
إسرائيل بما لا تعلمون كذبه، وأما ما تجوِّزونه فلا حَرَج عليكم فى التحدث به
عنهم. وهو نظير قوله:»إذا حدَّثكم أهل الكتاب فلا تُصَدِّقوهم ولا تُكَذِّبوهم«،
ولم يرد الإذن ولا المنع من التحدث بما يقطع بصدقه».
وأما الحديث الثانى،
فُيراد منه التوقف فيما يُحدِّث به أهل الكتاب، مما يكون محتملًا للصدق والكذب،
لأنه ربما كان صدقًا فيُكَذِّبونه، أو كذبًا فيُصَدِّقونه، فيقعون بذلك فى
الحَرَج، أما ما خالف شرعنا فنحن فى حِلٍّ من تكذيبه، وأما وافقه فنحن فى حِلٍّ
من تصديقه.
١ / ١٢٥
قال الحافظ ابن حجر عند
شرحه لهذا الحديث:»لا تُصدِّقوا أهل الكتاب ولا تُكَذِّبوهم«:»أي: إذا كان ما
يخبرونكم به محتملًا، لئلا يكون فى نفس الأمر صدقًا فتكذِّبوه، أو كذبًا
فتصدِّقوه، فتقعوا فى الحَرَج، ولم يرد النهى عن تكذيبهم فيما ورد شرعنا بخلافه،
ولا عن تصديقهم فيما ورد شرعنا بوفاقه. نبَّه على ذلك الشافعى ﵀«...
ثم
قال:»وعلى هذا نحمل ما جاء عن السَلَف من ذلك«.
وأما ما أخرجه الإمام أحمد،
وابن أبى شيبة، والبزار، من حديث جابر ابن عبد الله:»أن عمر بن الخطاب أتى النبى
ﷺ بكتاب أصابه من بعض أهل الكتاب، فقرأه عليه فغضب فقال: «أمتهوكون فيها يا بن
الخطاب؟ والذى نفسى بيده، لقد جئتكم بها بيضاء نقية. لا تسألوهم عن شئ فيخبروكم
بحق فَتُكَذِّبوا به، أو بباطل فَتُصَدِّقوا به، والذى نفسى بيده، لو أنَّ موسى ﷺ
كان حيًا ما وسعه إلا أن يتبعنى» فلا يعارض ما قلناه من الجواز، لأن النهى الوارد
هنا كان فى مبدأ الإسلام وقبل استقرار الأحكام. والإباحة بعد أن عُرِفت الأحكام
واستقرَّت، وذهب خوف الاختلاط.. قال الحافظ ابن حجر فى الفتح: «وكأن النهى وقع
قبل استقرار الأحكام الإسلامية، والقواعد الدينية خشية الفتنة، فلما زال المحذور
وقع الإذن فى ذلك، لما فى سماع الأخبار التى كانت فى زمانهم من الاعتبار».
ويمكن
أن ندفع ما يُتوهم من التعارض بما نقله ابن بطال عن المهلب أنه قال: «هذا النهى
إنما هو فى سؤالهم عما لا نص فيه، لأن شرعنا مكتف بنفسه، فإذا لم يوجد فيه نص ففى
النظر والاستدلال غنىً عن سؤالهم، ولا يدخل فى النهى سؤالهم عن الأخبار المصدِّقة
لشرعنا، والأخبار عن الأمم السالفة».
ومن هذا كله يتبين لنا: أنه لا تعارض
بين هذه الأحاديث الثلاثة، كما يتبين لنا المقدار الذى أباحه الشارع من الرواية
عن أهل الكتاب.
ولسنا بعد ما فهمناه من هذه الأحاديث، وما عرفناه من حرص
الصحابة، على امتثال ما أمرهم به الرسول ﷺ، نستطيع أن نقر الأستاذ «جولدزيهر»
والأستاذ أحمد أمين على هذا الاتهام الذى وجَّهاه إلى ابن عباس خاصة، وإلى
الصحابة عامة، من رجوعهم إلى أهل الكتاب فى كل شئ، وقبولهم لما نهى الرسول عن
أخذه من أهل الكتاب، وقد ذكرنا كلامهما ورددنا عليه عند الكلام عن ابن عباس، كما
ذكرنا الأثر الذى
١ / ١٢٦
أخرجه البخارى عن
ابن عباس، وفيه يُشدِّد - رضى الله عنه - النكير على مَن يأخذون من أهل الكتاب
ويُصدِّقونهم فى كل شئ، فهل يُعقل بعد هذا، وبعد ما عرفناه من عدالة الصحابة
وحرصهم على امتثال أوامر الله ورسوله، ومراجعة أبى هريرة لكعب الأحبار وعبد الله
بن سلام، أن نعترف بتهاون الصحابة ومخالفتهم لتعاليم رسول الله ﷺ!! اللهم إنَّا
لا نقر ذلك ولا نرضاه.
وأما ما ذكره الأستاذ «جولدزيهر»: من أن ابن عباس كان
يرجع لرجل يسمى أبا الجلد غيلان بن فروة الأزدى فى تفسير القرآن، فعلى فرض صحة
ذلك. فإنّا لا نكاد نُصدِّق أن ابن عباس كان يرجع إليه فى كل شئ، بل كان يرجع
إليه فيسأله عن أشياء لا تعدو دائرة الجواز، وليس من شك فى ذلك بعد ما عرفتَ من
شدة نكير ابن عباس على مَن كان يرجع لأهل الكتاب ويأخذ عنهم.
وأما ما اعتمد
عليه هذا المستشرق فى دعواه هذه، من أن الطبرى عند تفسيره للفظ «البرق» فى قوله
تعالى فى الآية (١٢) من سورة الرعد: ﴿هُوَ الذي يُرِيكُمُ البرق خَوْفًا
وَطَمَعًا﴾ .. نسب إلى ابن عباس أنه قال: إنَّ أبا الجلد يقول: إن معناه المطر
فهو اعتماد لا يكاد ينهض بهذه الدعوى، لأن ما رواه ابن جرير رواه عن المثنى، قال:
حدَّثنا حجاج، قال: حدَّثنا حماد، قال: أخبرنا موسى بن سالم أبو جهضم مولى ابن
عباس قال: كتب ابن عباس إلى أبى الجلد يسأله عن البرق فقال: البرق: الماء" وهذا
إسناد منقطع، لأن موسى بن سالم أبا جهضم لم يدرك ابن عباس، ولم يكن مولى له،
وإنما كان مولى العباسيين، وروى عن أبى جعفر الباقر الذى كان بعد ابن عباس بمدة
طويلة ولعل ما قاله ابن جرير من أنه مولى ابن عباس سهو منه، أو لعله خطأ وقع
أثناء الطبع.
ثم إنَّ سؤال ابن عباس عن معنى البرق، ليس سؤالًا عن أمر يتعلق
بالعقيدة أو الأحكام، وإنما هو سؤال يرجع إلى تعرف بعض ظواهر الكون الطبيعية،
وليس فى هذا ما يجر إلى مخالفة الرسول ﷺ فى نهيه عن سؤال أهل الكتاب. على أن
الحديث ليس فيه ما يدل على أن ابن عباس صدَّق أبا الجلد فيما قال، وكل ما فيه:
أنه حكى قوله فى البرق.
وأما ما نُسِب لعبد الله بن عمرو بن العاص من أنه
أصاب يوم اليرموك زاملتين من كتب اليهود فكان يُحدِّث منهما، فليس على إطلاقه، بل
كان يُحَدِّث منهما فى
١ / ١٢٧
حدود ما فهمه
من الإذن فى قوله ﵇: «حَدِّثوا عن بنى إسرائيل ولا حَرَج» كما نص على ذلك ابن
تيمية.
هذا هو مبلغ رجوع الصحابة إلى أهل الكتاب وأخذهم عنهم. أما التابعون
فقد توسَّعوا فى الأخذ عن أهل الكتاب، فكثرت على عهدهم الروايات الإسرائيلية فى
التفسير، ويرجع ذلك لكثرة مَن دخل مِنْ أهل الكتاب فى الإسلام، وميل نفوس القوم
لسماع التفاصيل عما يشير إليه القرآن من أحداث يهودية أو نصرانية، فظهرت فى هذا
العهد جماعة من المفسِّرين أرادوا أن يسدُّوا هذه الثغرات القائمة فى التفسير بما
هو موجود عند اليهود والنصارى، فحشوا التفسير بكثير من القصص المتناقض، ومن
هؤلاء: مقاتل بن سليمان (المتوفى سنة ١٥ هـ) الذى نسبه أبو حاتم إلى أنه استقى
علومه بالقرآن من اليهود والنصارى وجعلها موافقة لما فى كتبهم، بل ونجد بعض
المفسِّرين فى هذا العصر - عصر التابعين - يصل بهم الأمر إلى أن يصلوا بين القرآن
وما يتعلق بالإسلام فى مستقبله، فيشرحوا القرآن بما يشبه التكهن عن المستقبل،
والتنبؤ بما يطويه الغيب، فهذا مقاتل بن سليمان، كان يرى أن قوله تعالى: ﴿وَإِن
مِّن قَرْيَةٍ إِلاَّ نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ القيامة أَوْ
مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا كَانَ ذلك فِي الكتاب مَسْطُورًا﴾ [الإسراء: ٥٨]
. يرجع إلى فتح القسطنطينية، وتدمير الأندلس وغيرها من البلاد، فقد جاء عنه أنه
قال: وجدتُ فى كتاب الضحاك بن مزاحم فى تفسيرها: «أما مكة فتخربها الحبشة، وتهلك
المدينة بالجوع، والبصرة بالغرق، والكوفة بالترك، والجبال بالصواعق والرواجف،
وأما خراسان فهلاكها ضروب ... ثم ذكر بلدًا بلدًا. وروى عن وهب بن منبه: أن
الجزيرة آمنة من الخراب حتى تخرب أرمينية، وأرمينية آمنة حتى تخرب مصر، ومصر
آمنتة حتى تخرب الكوفة، ولا تكون الملحمة الكبرى حتى تخرب الكوفة، فإذا كانت
الملحمة الكبرى، فتُحِت قسطنطينية على يد رجل من بنى هاشم، وخراب الأندلس من
قِبَل الزنج، وخراب إفريقية من قِبَل الأندلس، وخراب مصر من انقطاع النيل واختلاف
الجيوش فيها، وخراب العراق من الجوع. وخراب الكوفة من قِبَل عدو يحصرهم ويمنعهم
من الشراب من الفرات، وخراب البصرة من قِبَل الغراق (الغرق)، وخراب الأيلة من عدو
يحصرهم برًا وبحرًا، وخراب الرى من الديلم، وخراب خراسان من
قِبَل التبت،
وخراب التبت من قِبَل الصين، وخراب الهند واليمن من قِبَل الجراد والسلطان، وخراب
مكة من قِبَل الحبشة، وخراب المدينة من قِبَل الجوع».
ثم جاء بعد عصر
التابعين مَن عظم شغفه بالإسرائيليات، وأفرط فى الأخذ منها إلى
١
/ ١٢٨
درجة جعلتهم لا يردُّون قولًا. ولا يحجمون عن أن يلصقوا
بالقرآن كل ما يُروَى لهم وإن كان لا يتصوره العقل!!. واستمر هذا الشغف
بالإسرائيليات، والولع بنقل هذه الأخبار التى أصبح الكثير منها نوعًا من الخرافة
إلى أن جاء دور التدوين للتفسير، فَوُجِد من المفسِّرين مَنْ حشوا كتبهم بهذا
القصص الإسرائيلى، الذى كاد يصد الناس عن النظر فيها والركون إليها.
* *
*
مقالة ابن خلدون فى الإسرائيليات:
ونرى بعد هذا أن نذكر عبارة ابن خلدون فى
مقدمته، ليتبين لنا أسباب الاستكثار من هذه المرويات الإسرائيلية، وكيف تسرَّبت
إلى المسلمين، فإنه خير مَنْ كتب فى هذا الموضوع، وإليك نص عبارته:
قال
﵀:»... وقد جمع المتقدمون فى ذلك - يعنى التفسير النقلى - وأوعوا إلا أن كتبهم
ومنقولاتهم تشتمل على الغث والسمين، والمقبول والمردود. والسبب فى ذلك أن العرب
لم يكونوا أهل كتاب ولا علم. وإنما غلبت عليهم البداوة والأُميَّة، وإذا تشوقوا
إلى معرفة شىء مما تتشوق إليه النفوس البَشرية فى أسباب المكونات، وبدء الخليقة،
وأسرار الوجود فإنما يسألون عنه أهل الكتاب قبلهم، ويستفيدونه منهم، وهم أهل
التوراة من اليهود ومَنْ تبع دينهم من النصارى. وأهل التوراة الذين بين العرب
يومئذ بادية مثلهم، ولا يعرفون من ذلك إلا ما تعرفه العامة من أهل الكتاب،
ومعظمهم من «حِمير» الذين أخذوا بدين اليهودية، فلما أسلموا بقوا على ما كان
عندهم مما لا تعلق له بالأحكام الشرعية التى يحتاطون لها، مثل أخبار بدء الخليقة،
وما يرجع إلى الحدثان والملاحم، وأمثال ذلك وهؤلاء مثل: كعب الأحبار، ووهب بن
منبه، وعبد الله بن سلام، وأمثالهم، فامتلأت التفاسير من المنقولات عنهم، وفى
أمثال هذه الأغراض أخبار موقوفة عليهم، وليست مما يُرجع إلى الأحكام فيتُحرَّى
فيها الصحة التى يجب بها العمل، وتساهل المفسِّرون فى مثل ذلك، وملأوا الكتب بهذه
المنقولات، وأصلها - كما قلنا - عن أهل التوراة الذين يسكنون البادية ولا تحقيق
عندهم بمعرفة ما ينقلونه من ذلك، إلا أنهم بَعُد صيتهم، وعظمت أقدارهم، لما كانوا
عليه من المقامات فى الدين والمِلَّة، فتلقيت بالقبول من يومئذ ... "
ومن
هذا يتضح لنا أن ابن خلدون أرجع الأمر إلى اعتبارات اجتماعية وأخرى دينية، فعد من
الاعتبارات الاجتماعية غلبة البداوة والأُميِّة على العرب وتشوقهم لمعرفة ما
تتشوَّق إليه النفوس البَشرية، من أسباب المكونات وبدء الخليقة وأسرار الوجود،
وهم إنما يسألون فى ذلك أهل الكتاب قبلهم.
١ / ١٢٩
وعدَّ
من الاعتبارات الدينية التى سوَّغت لهم تلقى المرويات فى تساهل وعدم تحر للصحة
«أن مثل هذه المنقولات ليست مما يرجع إلى الأحكام فيُتحرَّى فيها الصحة التى يجب
بها العمل».
وسواء أكانت هذه هى كل الأسباب أم كانت هناك أسباب أخرى، فإن
كثيرًا من كتب التفسير قد اتسع لما قيل من ذلك وأكثر، حتى أصبح ما فيها مزيجًا
متنوعًا من مخلفات الأديان المختلفة، والمذاهب المتباينة.
* *
* أثر
الإسرائليات فى التفسير:
ولقد كان لهذه الإسرائيليات التى أخذها المفسِّرون
عن أهل الكتاب وشرحوا بها كتاب الله تعالى أثر سئ فى التفسير، ذلك لأن الأمر لم
يقف على ما كان عليه فى عهد الصحابة، بل زادوا على ذلك فرووا كل ما قيل لهم إن
صدقًا وإن كذبًا، بل ودخل هذا النوع من التفسير كثير من القصص الخيالى المخترَع،
مما جعل الناظر فى كتب التفسير التى هذا شأنها يكاد لا يقبل شيئًا مما جاء فيها،
لاعتقاده أنَّ الكل من واد واحد. وفى الحق أنَّ المكثرين من هذه الإسرائيليات
وضعوا الشوك فى طريق المشتغلين بالتفسير، وذهبوا بكثير من الأخبار الصحيحة بجانب
ما رووه من قصص مكذوب وأخبار لا تصح، كما أن نسبة هذه الإسرائيليات التى لا يكاد
يصح شئ منها إلى بعض من آمن مِنْ أهل الكتاب، جعلت بعض الناس ينظر إليهم بعين
الاتهام والريبة. وسوفَ نعرض لهذا فيما بعد، ونرد عليه إن شاء الله تعالى.
*
*
* قيمة ما يُروى من الإسرائيليات:
تنقسم الأخبار الإسرائيلية إلى
أقسام ثلاثة، وهى ما يأتى:
القسم الأول: ما يُعلم صحته بأن نُقِل عن النبى ﷺ
نقلًا صحيحًا، وذلك كتعيين اسم صاحب موسى ﵇ بأنه الخضر، فقد جاء هذا الاسم صريحًا
على لسان رسول الله ﷺ كما عند البخارى أو كان له شاهد من الشرع يؤيده. وهذا القسم
صحيح مقبول.
القسم الثانى: ما يُعلم كذبه بأن يناقض ما عرفناه من شرعنا، أو
كان لا يتفق مع العقل، وهذا القسم لا يصح قبوله ولا روايته.
القسم الثالث:
ما هو مسكوت عنه، لا هو من قبيل الأول، ولا هو من قبيل الثانى، وهذا القسم نتوقف
فيه، فلا نؤمن به ولا نُكذِّبه، وتجوز حكايته، لما تقدَّم من قوله ﷺ: «لا
تُصَدِّقوا أهل الكتاب ولا تُكَذِّبوهم، وقولوا آمنا بالله وما أُنِزلَ إلينا
...» الآية.
١ / ١٣٠
وهذا القسم غالبه مما
ليس فيه فائدة تعود إلى أمر دينى، ولهذا يختلف علماء أهل الكتاب فى مثل هذا
اختلافًا كثيرًا، ويأتى عن المفسِّرين خلاف بسبب ذلك، كما يذكرون فى مثل هذا
أسماء أصحاب الكهف، ولون كلبهم، وعصا موسى من أى الشجر كانت، وأسماء الطيور التى
أحياها الله لإبراهيم، وتعيين بعض البقرة الذى ضُرِب به قتيل بنى إسرائيل، ونوع
الشجرة التى كلِّم الله منها موسى.. إلى غير ذلك مما أبهمه الله فى القرآن ولا
فائدة فى تعيينه تعود على المكلَّفين فى ديناهم أو دينهم.
ثم إذا جاء شى من
هذا القبيل - أعنى ما سكت عنه الشرع ولم يكن فيه ما يؤيده أو يفنده - عن أحد من
الصحابة بطريق صحيح، فإن كان قد جزم به فهو كالقسم الأول، يُقبل ولا يُرد، لأنه
لا يعقل أن يكون قد أخذه عن أهل الكتاب بعد ما علم من نهى رسول الله ﷺ عن
تصديقهم. وإن كان لم يجزم به فالنفس أسكن إلى قبوله، لأن احتمال أن يكون الصحابى
قد سمعه من النبى ﷺ، أو ممن سمعه منه، أقوى من احتمال السماع من أهل الكتاب، ولا
سيما بعد ما تقرر من أن أخذ الصحابة عن أهل الكتاب كان قليلًا بالنسبة لغيرهم من
التابعين ومَن يليهم.
أما إن جاء شئ من هذا عن بعض التابعين، فهو مما يُتوقف
فيه ولا يُحكم عليه بصدق ولا يكذب، وذلك لقوة احتمال السماع من أهل الكتاب، لما
عُرفوا به من كثرة الأخذ عنهم، وبُعْد احتمال كونه مما سُمع من رسول الله ﷺ، وهذا
إذا لم يتفق أهل الرواية من علماء التفسير على ذلك، أما إن اتفقوا عليه. فإنه
يكون أبعد من أن يكون مسموعًا من أهل الكتاب، وحينئذ تسكن النفس إلى قبوله والأخذ
به. والله أعلم.
* *
* موقف المفسِّر إزاء هذه الإسرائيليات:
علمنا
أن كثرة النقل عن أهل الكتاب بدون تفرقة بين الصحيح والعليل دسيسة دخلت فى ديننا
واستفحل خطرها، كما علمنا أن قوله ﷺ: «لا تُصَدِّقوا أهل الكتاب ولا تُكَذِّبوهم»
قاعدة مقرَّرة لا يصح العدول عنها بأى حال من الأحوال، وبعد هذا وذاك نقول: إنه
يجب على المفسِّر أن يكون يقظًا إلى أبعد حدود اليقظة، ناقدًا إلى نهاية ما يصل
إليه النقاد من دقة وروية حتى يستطيع أن يستخلص من هذا الهشيم المركوم من
الإسرائيليات ما يناسب روح القرآن، ويتفق مع العقل والنقل، كما يجب عليه أن لا
يرتكب النقل عن أهل الكتاب إذا كان فى سُّنَّة نبينا ﷺ بيان لمجمل القرآن، فمثلًا
حيث وجد لقوله
١ / ١٣١
تعالى: ﴿وَلَقَدْ
فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا على كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ﴾ [ص:
٣٤] مجمل فى السُّنَّة النبوية الصحيحة وهو قصة ترك «إن شاء الله» والمؤاخذة عليه
فلا يرتكب قصة صخر المارد.
كذلك يجب على المفسِّر أن يلحظ أن الضرورى
يتقدَّر بقدر الحاجة، فلا يذكر فى تفسيره شيئًا من ذلك إلا بقدر ما يقتضيه بيان
الإجمال، ليحصل التصديق بشهادة القرآن فيكف اللسان عن الزيادة.
نعم ... إذا
اختلف المتقدمون فى شئ من هذا القبيل وكثرت أقوالهم ونقولهم، فلا مانع من نقل
المفسِّر لهذه الأقوال جميعًا، على أن ينبه على الصحيح منها، ويبطُل الباطل،
وليس
١ / ١٣٢
له أن يحكى الخلاف ويُطلقه، ولا
ينبه على الصحيح من الأقوال، لأن مثل هذا العمل يُعَد ناقصًا لا فائدة فيه ما دام
قد خلط الصحيح بالعليل، ووضع أمام القارئ من الأقوال المختلفة ما يسبب له الحيرة
والاضطراب.
على أن من الخير للمفسِّر أن يعرض كل الإعراض عن هذه
الإسرائيليات وأن يمسك عما لا طائل تحته مما يُعَد صارفًا عن القرآن، وشاغلًا عن
التدبير فى حكمه وأحكامه، وبدهى أن هذا أحكم وأسلم.
هذا.. وقد يشير إلى ما
قلناه من جواز نقل الخلاف من المتقدمين على شريطة استيفاء الأقوال وتزييف الزائف
منها وتصحيح الصحيح، وأن من الخير أن يمسك الإنسان عن الخوض فيما لا طائل تحته،
ما جاء فى الآية [٢٢] من سورة الكهف من قوله تعالى: ﴿سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ
رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا
بالغيب وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُل رَّبِّي أَعْلَمُ
بِعِدَّتِهِم مَّا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ قَلِيلٌ فَلاَ تُمَارِ فِيهِمْ إِلاَّ
مِرَآءً ظَاهِرًا وَلاَ تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِّنْهُمْ أَحَدًا﴾ .. فقد اشتملت هذه
الآية الكريمة - كما يقول ابن تيمية - على الأدب فى هذا المقام، وتعليم ما ينبغى
فى مثل هذا، فإنه تعالى أخبر عنهم بثلاثة أقوال ضَعَّفِ القولين الأوَّلين، وسكت
عن الثالث، فدلَّ على صحته، إذ لو كان باطلًا لرده كما ردَّهما، ثم أرشد إلى أن
الاطلاع على عِدَّتهم لا طائل تحته، فيقال فى مثل هذا: ﴿قُل رَّبِّي أَعْلَمُ
بِعِدَّتِهِم﴾ .. فإنه ما يعلم بذلك إلا قليل من الناس ممن أطلعه الله عليه،
فَلَهذا قال: ﴿فَلاَ تُمَارِ فِيهِمْ إِلاَّ مِرَآءً ظَاهِرًا﴾ .. أى لا تجهد
نفسك فيما لا طائل تحته، ولا تسألهم عن ذلك، فإنهم لا يعلمون من ذلك إلى رجم
الغيب».
* *
* أقطاب الروايات الإسرائيلية:
يتصفح الإنسان كتب
التفسير بالمأثور، فلا يلبث أن يلحظ أن غالب ما يرى فيها من إسرائيليات، يكاد
يدور على أربعة أشخاص، هم: عبد الله ابن سلام، وكعب الأحبار، ووهب بن منبِّه،
وعبد الملك بن عبد العزيز ابن جريج.. وهؤلاء الأربعة اختلفت أنظار الناسِ فى
الحكم عليهم والثقة بهم، فمنهم من ارتفع بهم عن حد التهمة، ومنهم مَن رماهم
بالكذب وعدم التثبت فى الرواية ولهذا أرى أن أعرض لكل فرد منهم، لأكشف عن قيمته
فى باب الرواية، وبخاصة ما يرجع من ذلك إلى ناحية التفسير، لنرى أى الفريقين أصدق
فى حكمه، وأدق فى نقده.
١- عبد الله بن سلام
* ترجمته:
هو أبو
يوسف، عبد الله بن سلام بن الحارث الإسرائيلى الأنصارى، حليف بن عوف من
١
/ ١٣٣
الخرزج، وهو من ولد يوسف بن يعقوب ﵉. أسلم عند قدوم
النبى ﷺ المدينة. ويحدثنا البخارى عن قصة إسلامه فيقول فى ضمن حديث ساقه فى باب
الهجرة:»... فلما جاء نبى الله ﷺ، جاء عبد الله بن سلام فقال: أشهد أنك رسول
الله، وأنك جئتَ بحق، وقد علمت اليهود أنى سيدهم وابن سيدهم، وأعلمهم وابن
أعلمهم، فادعهم فاسألهم عنى قبل أن يعلموا أنى قد أسلمت، فإنهم إن يعلموا أنى قد
أسلمتُ قالوا فىَّ ما ليس فىّ، فأرسل نبى الله ﷺ، فأقبلوا فدخلوا عليه، فقال لهم
رسول الله ﷺ: «يا معشر اليهود؛ ويلكم، اتقوا الله، فواللهِ الذى لا إله إلا هو،
إنكم لتعلمون أنى رسول الله حقًا، وأنى جئتكم بحق فأسلموا»، قالوا: ما نعلمه،
قالوا للنبى ﷺ، قالها ثلاث مرات، قال: «فأى رجل فيكم عبد الله بن سلام»؟ قالوا:
ذلك سيدنا وابن سيدنا، وأعلمنا وابن أعلمنا، قال: «أفرأيتم إن أسلم»؟ قالوا: حاشا
لله، ما كان ليسلم، قال: «أفرأيتم إن أسلم»؟ قالوا: حاشا لله ما كان ليسلم، قال:
«أفرأيتم إن أسلم»؟ قالوا: حاشا لله ما كان ليسلم، قال: «يابن سلام.. اخرج
عليهم»، فخرج، فقال: يا معشر اليهود؛ اتقوا الله، فواللهِ الذى لا إله إلا هو،
إنكم لتعلمون أنه رسول الله وأنه جاء بحق، فقالوا: كذبت، فأخرجهم رسول الله
ﷺ«.
قيل: وكان اسمه الحصين، فسماه النبى ﷺ:»عبد الله«، وشهد له بالجنة. ونجد
البخارى رضى الله عن - عند الكلام عن مناقب الأنصار - يُفرد لعبد الله بن سلام
بابًا مستقلًا فى مناقبه، فروى فيما روى من ذلك بإسناده إلى سعد بن أبى وقاص أنه
قال: ما سمعتُ النبى ﷺ يقول لأحد يمشى على الأرض إنه من أهل الجنة إلا لعبد الله
بن سلام، وقال: فيه نزلت هذه الآية: ﴿وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّن بني إِسْرَائِيلَ﴾
[الأحقاف: ١٠] ... الآية.
ومما يُذكر عنه ﵀: أنه وقف خطيبًا فى المتألبين
على عثمان رضى الله عنه يدافع عنه، ويُخذِّل الثائرين، فقد روى عبد الملك بن عمير
عن ابن أخى عبد الله بن سلام، قال: لما أريد قتل عثمان رضى الله عنه، جاء عبد
الله بن سلام، فقال له عثمان: ما جاءبك؟ قال: جئتُ فى نصرك، قال: أخرج إلى الناس
فاطردهم عنى، فإنك خارج خير لى منك داخل، فخرج عبد الله إلى الناس فقال: يا أيها
الناس؛ إنه كان اسمى فى الجاهلية فلانًا، فسمانى رسول الله ﷺ: عبد الله، ونزلت
فىَّ آيات من كتاب الله ﷿، نزل فىَّ: ﴿وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّن بني إِسْرَائِيلَ
على مِثْلِهِ فَآمَنَ واستكبرتم﴾ .. ونزل فى: ﴿قُلْ كفى بالله شَهِيدًا بَيْنِي
وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الكتاب﴾ [الرعد: ٤٣] .. إن لله سيفًا
مغمودًا، وإن الملائكة قد جاورتكم فى بلدكم هذا الذى نزل فيه رسول الله ﷺ، فاللهَ
اللهَ فى هذا الرجل أن تقتلوه، فوالله لئن قتلتموه لتطردن جيرانكم من الملائكة
وليُسلَنَّ سيف الله المغمود فيكم فلا يُغمد إلى يوم القيامة. قالوا: اقتلوا
اليهودى.. وقتلوا عثمان»..
١ / ١٣٤
روى عن
النبى ﷺ، وروى عنه ابناه: يوسف ومحمد، وعوف بن مالك، وأبو هريرة، وأبو بردة بن
أبى موسى، وعطاء بن يسار، وغيرهم. وشهد مع عمر رضى الله عنه فتح بيت المقدس
والجابية. ومات بالمدينة سنة ٤٣ هـ (ثلاث وأربعين من الهجرة)، وقيل غير ذلك. وقد
عَدَّه بعضهم فى البدريين، أما ابن سعد فذكره فى الطبقة الثالثة ممن شهد الخندق
وما بعدها.
* *
* مبلغه من العلم والعدالة:
أما مبلغه من العلم،
فيكفى ما جاء فى الحديث البخارى السابق من إخباره عن نفسه: أنه أعلم اليهود وابن
أعلمهم، وإقرار اليهود بين يدى رسول الله ﷺ بذلك. والحق أنه اشتهر بين الصحابة
بالعلم، حتى لقد روى أنه لَّما حضر معاذ بن جبل الموت قيل له: يا أبا عبد الرحمن
أوصنا، فقال: أجلسونى ... قال: إن العلم والإيمان عند أربعة رهط: عند عويمر أبى
الدرداء، وعند سلمان الفارسى، وعند عبد الله بن مسعود، وعند عبد الله ابن سلام
الذى كان يهوديًا فأسلم، فإنى سمعتُ رسول الله ﷺ يقول: «إنه عاشر عشرة فى
الجنة».
وليس عجيبًا أن يكون عبد الله بن سلام فى هذه المكانة العالية من
العلم بعد أن اجتمع لديه علم التوراة وعلم القرآن، وبعد أن امتزجت فيه الثقافتان
اليهودية والإسلامية، ولقد نقل عنه المسلمون كثيرًا مما يدل على علمه بالتوراة
وما حولها، ونجد ابن جرير الطبرى ينسب إليه فى تاريخه كثيرًا من الأقوال فى
المسائل التاريخية الدينية، كما نجده يتجمع حول اسمه كثير من المسائل
الإسرائيلية، يرويها كثير من المفسِّرين فى كتبهم.
ونحن أمام ما يُروَى عنه
من ذلك لا نُزيِّف كل ما قيل، ولا نقبل كل ما قيل، بل علينا أن نعرض كل ما يُروَى
عنه على مقياس الصحة المعتبر فى باب الرواية، فما صح قبلناه، وما لم يصح
رفضناه.
هذا.. وإنَّا لا نستطيع أن نتهم الرجل فى علمه، ولا فى ثقته
وعدالته، بعد ما علمتَ أنه من خيار الصحابة وأعلمهم، وبعد ما جاء من آيات القرآن،
وبعد أن اعتمده البخارى وغيره من أهل الحديث، كما أننا لم نجد من أصحاب الكتب
التى بين أيدينا مَن طعن عليه فى علمه، أو نسب إليه من التهم مثل ما نسب إلى كعب
الأحبار ووهب بن منبِّه.
* * *
٢- كعب الأحبار
* ترجمته:
هو
أبو إسحاق، كعب بن ماتع الحميرى، المعروف بكعب الأحبار، من آل ذى رعين، وقيل: من
ذى الكلاع، وأصله من يهود اليمن، ويقال: إنه أدرك الجاهلية وأسلم فى خلافة أبى
بكر، وقيل: فى خلافة عمر، وقيل: إنه أسلم فى عهد النبى ﷺ وتأخرت هجرته، وقال ابن
حجر فى الفتح: إن إسلامه فى خلافة عمر أشهر، وبعد إسلامه انتقل إلى المدينة،
وغزا
١ / ١٣٥
الروم فى خلافة عمر، ثم تحوَّل
فى خلافة عثمان إلى الشام فسكنها إلى أن مات بحمص سنة ٣٢ هـ (اثنتين وثلاثين من
الهجرة) على أرجح الأقوال فى ذلك. وذكره ابن سعد فى الطبقة الأولى من تابعى أهل
الشام وقال: كان على دين يهود فأسلم وقدم المدينة، ثم خرج إلى الشام فسكن حمص حتى
تُوفى بها سنة اثنتين وثلاثين فى خلافة عثمان، وقد بلغ مائة وأربعين سنة. وقال
أبو مسهر: والذى حدَّثنى به غير واحد: أنه كان مسكنه اليمن، فقدم على أبى بكر، ثم
أتى الشام فمات به. روى عن رسول الله ﷺ مرسلًا، وعن عمر، وصهيب، وعائشة، وروى عنه
معاوية، وأبو هريرة، وابن عباس، وعطاء بن أبى رباح وغيرهم.
* *
* مبلغه
من العلم:
كان كعب بن ماتع على مبلغ عظيم من العلم، ولهذا كان يقال له: «كعب
الحَبْر» و«وكعب الأحبار»، ولقد نُقل عنه فى التفسير وغيره ما يدل على علمه
الواسع بالثقافة اليهودية والثقافة الإسلامية، ولم يؤثر عنه أنه ألَّفَ كما ألَّف
وهب بن منبِّه، بل كانت تعاليمه كلها - على ما يظهر لنا وما وصل إلينا - شفوية
تناقلها عنه أصحابه ومَن أخذوا عنه. وقد جاء فى الطبقات الكبرى حكاية عن رجل دخل
المسجد فإذا عامر بن عبد الله بن قيس جالس إلى كتب وبينها سِفْر من أسفار التوراة
وكعب يقرأ، وهذا يدلنا على أن كعبًا كان لا يزال بعد إسلامه يرجع إلى التوراة
والتعاليم الإسرائيلية. وقال ابن سعد: قالوا: ذكر أبو الدرداء كعبًا فقال: إن عند
ابن الحميرى لعلمًا كثيرًا. وروى معاوية بن صالح عن عبد الرحمن بن جبير أنه قال:
قال معاوية: ألا إنَّ أبا الدرداء أحد الحكماء، ألا إنَّ عمرو بن العاص أحد
الحكماء، ألا إنَّ كعب الأحبار أحد العلماء، إن كان عنده علم كالثمار وإن كنا
المفرطين. وفى تاريخ محمد بن عثمان بن أبى شيبة، من طريق ابن أبى ذئب، أن عبد
الله ابن الزبير قال: ما أصبت فى سلطانى شيئًا إلا قد أخبرنى به كعب قبل أن
يقع.
* *
* ثقته وعدالته:
أما ثقته وعدالته فهذا أمر نقول به، ولا
نستطيع أن نطعن عليه كما طعن بعض الناس، فابن عباس على جلاله قدره، وأبو هريرة
على مبلغ علمه، وغيرهما من الصحابة كانوا يأخذون عنه ويروون له، ونرى الإمام
مسلمًا يُخرِّج له فى صحيحه، فقد وقعت الرواية عنه فى مواضع من صحيحه فى أواخر
كتاب الإيمان، كما نرى أبا داود والترمذى والنسائى يُخرِّجون له، وهذا دليل على
أن كعبًا كان ثقة عند هؤلاء جميعًا، وتلك شهادة كافية لرد كل تهمة تلصق بهذا
الحَبْر الجليل.
*
١ / ١٣٦
اتهام
الأستاذ أحمد أمين لكعب:
ولكننا نجد الأستاذ أحمد أمين ﵀ يحاول أن يغض من
ثقة كعب وعدالته، بل ودينه، فنراه يوجه إليه من التهم ما نعيذ كعبًا من أن يلحقه
شئ منها، وذلك حيث يقول: «وقد لاحظ بعض الباحثين، أن بعض الثقات كابن قتيبة
والنووى لا يروى عنه أبدًا، وابن جرير الطبرى يروى عنه قليلًا، ولكن غيرهم
كالثعلبى، والكسائى ينقل عنه كثيرًا فى قصص الأنبياء، كقصة يوسف، والوليد بن
الريَّان وأشباه ذلك، ويروى ابن جرير أنه جاء إلى عمر بن الخطاب قبل مقتله بثلاثة
أيام وقاله له: اعهد فإنك ميت فى ثلاثة أيام، قال: وما يدريك؟ قال: أجده فى كتاب
الله ﷿.. فى التوراة قال عمر: إنك لتجد عمر بن الخطاب فى التوراة!: قال: اللَّهم
لا، ولكن أجد صفتك وحليتك وأنه قد فنى أجلك».
ثم قال الأستاذ أحمد أمين:
«وهذه القصة إن صحَّت دلَّت على وقوف كعب على مكيدة قتل عمر، ثم وضعها هو فى هذه
الصيغة الإسرائيلية، كما تدلنا على مقدار اختلافه فيما ينقل».
ثم قال: «وعلى
الجملة فقد دخل على المسلمين من هؤلاء وأمثالهم - يريد كعبًا ووهبًا وغيرهما من
أهل الكتاب - فى عقيدتهم وعلمهم كثير كان له فيهم أثر غير صالح».
*
*
تفنيد هذا الاتهام:
ونحن مع الأستاذ فى قوله: «وهذه القصة، إن صحَّت دلَّت
على وقوف كعب على مكيدة قتل عمر، ثم وضعها هو فى هذه الصيغة الإسرائيلية» ولكن
لسنا نعتقد صحة هذه القصة، ورواية ابن جرير لها لا تدل على صحتها، لأن ابن جرير -
كما هو معروف عنه - لم يلتزم الصحة فى كل ما يرويه، والذى ينظر فى تفسيره يجد فيه
مما لا يصح شيئًا كثيرًا، كما أن ما يرويه فى تاريخه لا يعدو أن يكون من قبيل
الأخبار التى تحتمل الصدق والكذب، ولم يقل أحد بأن كل ما يُذكر فى كتب التاريخ
ثابت صحيح.
ثم إنَّ ما يُعرف عن كعب الأحبار من دينه، وخُلُقه، وأمانته،
وتوثيق أكثر أصحاب الصحاح له، يجعلنا نحكم بأنَّ هذه القصة موضوعة عليه، ونحن
ننزه كعبًا عن أن يكون على علم بمكيدة قتل عمر وما دُبِّرَ من أمرها، ثم لا يذكر
لعمر مَن يُدبِّر له القتل ويكيد له، كما ننزهه عن أن يكون كذَّابًا وضَّاعًا،
يحتال على تأكيد ما يُخبَر به بنسبته إلى التوراة وصوغه فى قالب إسرائيلى.
وأما
قوله: "وعلى الجملة فقد دخل على المسلمين من هؤلاء وأمثالهم فى عقيدتهم
١
/ ١٣٧
وعلمهم كثير كان له فيهم أثر غير صالح» فإن أراد أن
يُرجع ذنب هذا الأثر السئ إلى كعب وأضزابه فنحن لا نوافقه عليه، لأن ما يرويه كعب
وغيره من أهل الكتاب لم يسندوه إلى رسول الله ﷺ، ولم يكذبوا فيه على أحد من
المسلمين، وإنما كانوا يروونه على أنه من الإسرائيليات الموجودة فى كتبهم، ولسنا
مُكلَّفين بتصديق شئ من ذلك، ولا مُطالَبين بالإيمان به، بعد ما قال رسول الله ﷺ:
«لا تُصَدِّقوا أهل الكتاب ولا تُكَذِّبوهم».
وإذا كانت هذه الإسرائيليات
المروية عن كعب وغيره، قد أثَّرَت فى عقيدة المسلمين وعلمهم أثرًا غير صالح، فليس
ذنب هذا راجعًا إلى كعب وأضرابه، لأنهم رووه على أنه مما فى كتبهم، ولم يشرحوا به
القرآن - اللَّهم إلا ما يتفق من هذا مع القرآن ويشهد له - ثم جاء مَنْ بعدهم
فحاولوا أن يشرحوا القرآن بهذه الإسرائيليات فربطوا بينها وبينه على ما بينهما من
بُعد شاسع، بل وزادوا على ذلك ما نسجوه من قصص خرافية، نسبوها لهؤلاء الأعلام،
ترويجًا لها وتمويهًا على العامة.
فالذنب إذن ذنب المتأخرين الذين ربطوا هذه
الإسرائيليات بالقرآن وشرحوه على ضوئها، واخترعوا من الأساطير ما نسبوه زورًا
وبهتانًا إلى هؤلاء الأعلام وهم منه براء.
* *
* اتهام الشيخ رشد رضا
الكعب:
كذلك نجد السيد محمد رشيد رضا ﵀ فى مقدمة تفسيره بعد أن ذكر كلامًا
لابن تيمية فى شأن ما يُروَى من الإسرائيليات عن كعب ووهب يقول ما نصه: «فأنت ترى
أن هذا الإمام المحقق - يريد ابن تيمية - جزم بالوقف عن تصديق جميع ما عُرِف أنه
من رواة الإسرائيليات. وهذا فى غير ما يقوم الدليل على بطلانه فى نفسه، وصرَّح فى
هذا المقام بروايات كعب الأحبار ووهب بن منبِّه، مع أن قدماء رجال الجرح والتعديل
اغتروا بهما وعدَّلوهما، فكيف لو تبين له ما تبين لنا من كذب كعب ووهب وعزوهما
إلى التوراة وغيرها من كتب الرسل ما ليس فيها شئ منه ولا حوَّمت حوله».
*
*
تفنيد هذا الاتهام:
ونحن لا ننكر ما ذهب إليه ابن تيمية فى مقدمة أصول
التفسير التى اعتمد عليها الشيخ فيما نقل عنه، ولكن ننكر على الشيخ فهمه لعبارة
ابن تيمية، وذلك أنه ادَّعى أن ابن تيمية جزم بالوقف عن تصديق جميع ما عُرِف أنه
من رواة الإسرائيليات، وهذا فى غير ما يقوم الدليل على بطلانه فى نفسه - يعنى أنه
لا يُتوقف فيه بل يُرفض رفضًا باتًا.
وعبارة ابن تيمية التى ذكرها الشيخ لا
تفيد ذلك الذى قاله وإنما تفيد أنَّ ما جاء
١ / ١٣٨
عن
رواة الإسرائيليات يُتوقف فيه إذا كان مما هو مسكوت عنه فى شرعنا ولم يقم دليل
على بطلانه، أما ما روى عنه موافقًا لما جاء فى شرعنا فهذا صحيح مقبول بدون توقف،
كما نص عليه ابن تيمية (فى ص ٢٦، ٢٧) من مقدمة فى أصول التفسير، وهو عين ما عناه
بعبارته الموجودة (فى ص ١٣، ١٤) وهى التى اعتمد عليها السيد محمد رشيد فى طعنه
على كعب وغيره.
كما أننا لا نقر الشيخ على هذا الاتهام البليغ لكعب ووهب،
ولا على رميهما بالكذب، ولا على ادعاء عزوهما إلى التوراة وغيرها ما ليس فيها،
كما أنَّا لا نقره على اتهامه لعلماء الجرح والتعديل الذين طهَّروا لنا
السُّنَّة، وأزاحوا عنها ما لصق بها من الموضوعات، وبيَّنوا لنا الصحيح والعليل
منها والعدل والمجروح من رواتها، حيث رماهم بالغفلة والاغترار، وهم أهل هذا الفن
الذى لا يصلح له إلا قليل من الناس، ولا ندرى ما هذا الكذب الذى تبيَّن له من كعب
ووهب وخفى على ابن تيمية وهو مَن نعلم علمًا ومعرفة. وليت الشيخ ﵀ بيَّن لنا ما
يستند إليه فى دعواه، ولا أظن إلا أنه استند إلى ما جاء عن معاوية رضى الله عنه
عند البخارى فى شأن كعب، وهذا نصه كما فى صحيح البخارى:
قال أبو اليمان:
أخبرنا شعيب عن الزهرى: أخبرنى حميد بن عبد الرحمن: أنه سمع معاوية يُحدِّث رهطًا
من قريش بالمدينة وذكر كعب الأحبار، فقال: «إن كان من أصدق هؤلاء المحدِّثين
الذين يحدِّثون عن أهل الكتاب، وإن كنا مع ذلك لنبلوا عليه الكذب».
نعم أظن
أن الشيخ ﵀ اتهم كعبًا وأضرابه بالكذب استنادًا لهذا الأثر المروى عن معاوية،
والذى رجَّح لدىَّ هذا الظن ما قاله الشيخ بعد كلامه السابق بقليل: «وقد عُلِم أن
بعض الصحابة رووا عن أهل الكتاب حتى عن كعب الأحبار الذى روى البخارى عن معاوية
أنه قال: إن كنا لنبلوا عليه الكذب.. ومنهم أبو هريرة وابن عباس».
وأرى أن
الشيخ قد فَنَّد قول نفسه بنفسه حيث أثبت - كما هو الواقع - أن أبا هريرة وابن
عباس وغيرهما من الصحابة أخذوا عن كعب، وهل يُعقل أن صحابيًا يأخذ علمه عن كذَّاب
وضَّاع، بعد ما عُرِف عن الصحابة من العدالة والتثبت فى تحمل الأخبار، خصوصًا ابن
عباس الذى كان يتشدد فى الرواية ويتأكد من صحة ما يُروَى له؟
نعم.. إن حديث
البخارى الذى رواه عن معاوية، يُشعر لأول وهلة بنسبة
١ /
١٣٩
الكذب إلى كعب، ولكن لو رجعنا إلى شرَّاح الحديث لوجدناهم
جميعًا يشرحونه بما يُبعد هذه الوصمة الشنيعة عن كعب الأحبار، وإليك بعض ما قيل
فى ذلك:
قال ابن حجر فى الفتح عند قوله: «وإن كنا لنبلوا عليه الكذب» - أى
يقع بعض ما يخبرنا عنه بخلاف ما يخبرنا به، فال ابن التين: وهذا نحو قول ابن عباس
فى حق كعب المذكور: بَدَّل مَن قبله فوقع فى الكذب، قال: والمراد بالمحدِّثين -
فى قوله: إن كان من أصدق هؤلاء المحدِّثين الذين يُحدِّثون عن أهل الكتاب - أنداد
كعب ممن كان من أهل الكتاب وأسلم فكان يُحدِّث عنهم، وكذا مَن نظر فى كتبهم
فحدَّث عما فيها، قال: ولعلهم كانوا مثل كعب، إلا أن كعبًا كان أشد منهم بصيرة،
وأعرف بما يتوقاه.
وقال ابن حبان فى كتاب الثقات: أراد معاوية أنه يخطئ
أحيانًا فيما يُخبر به، ولم يرد أنه كان كذَّابًا. وقال غيره: الضمير فى قوله:
«لنبلوا عليه» للكتاب لا لكعب، وإنما يقع فى كتابهم الكذب لكونهم بَدَّلوه
وحَرَّفوه. وقال عياض: يصح عوده على الكتاب، ويصح عوده على كعب وعلى حديثه وإن لم
يقصد الكذب ويتعمده، إذ لا يُشترط فى مسمى الكذب التعمد، بل هو الإخبار عن الشئ
بخلاف ما هو عليه، وليس فيه تجريح لكعب بالكذب. وقال ابن الجوزى: المعنى أن بعض
الذى يُخبر به كعب عن أهل الكتاب يكون كذبًا، لا أنه يتعمد الكذب، وإلا فقد كان
كعب من أخيار الأحبار«.
هذه هى الأقوال التى سردها لنا الحافظ ابن حجر، ونحن
نميل إلى القول بأن كعبًا كان يروى ما يرويه على أنه صحيح لم يُبدَّل ولم
يُحرَّف، فهو لم يتعمد كذبًا ولا يُنسب إلى كذب، وإن كان ما يرويه كذبًا فى حد
ذاته، خفى عليه كما خفى على غيره. ولهذا التحريف والتبديل نهى رسول الله ﷺ عن
تصديق أهل الكتاب وعن تكذيبهم فيما يروونه من ذلك، لأنه ربما كان صدقًا
فيُكذِّبونه أو كذبًا فيُصدِّقونه فى الحَرَج.
ثم إن معاوية الذى قال هذا
القول، روينا عنه فيما سبق أنه قال:»ألا إن كعب الأحبار أحد العلماء إن كان عنده
علم كالثمار وإن كنا المفرطين"، فمعاوية قد شهد لكعب بالعلم وغزارته، وحكم على
نفسه بأنه فرَّط فى علم كعب، فهل يُعقل أن معاوية يشهد هذه الشهادة لرجل كذَّاب؟،
وهل يُعقل أنه يتحسر ويتندم على ما فاته من علم رجل يُدلِّس فى كتب الله ويُحرِّف
فى وحى السماء؟.. اللَّهم إنى
١ / ١٤٠
لا
أعقل ذلك، ولا أقول إلا أنَّ كعبًا عالِم له مكانته، وثقة له قيمته، وعدل له
منزلته وشهرته..
* * *
٣- وهب بن مُنَبِّه
* ترجمته:
هو أبو
عبد الله، وهب بن منبَّه بن سيج بن ذى كناز، اليمانى الصنعانى، صاحب القصص، من
خيار علماء التابعين. قال عبد الله ابن أحمد بن حنبل عن أبيه: كان من أبناء فارس،
وأصل والده «منبِّه» من خراسان من أهل هراة، أخرجه كسرى منها إلى اليمن فأسلم فى
عهد النبى ﷺ، وكان وهب بن منبِّه يختلف إلى هراة ويتفقد أمرها، وقيل: إنه تولى
قضاء صنعاء. قال إسحاق بن إبراهيم بن عبد الرحمن الهروى: ولد سنة ٣٤ هـ (أربع
وثلاثين) فى خلافة عثمان، وقال ابن سعد وجماعة: مات سنة ١١٠ هـ (عشر ومائة)، وقيل
غير ذلك.
روى عن أبى هريرة، وأبى سعيد الخدرى، وابن عباس، وابن عمر، وابن
عمرو بن العاص، وجابر، وأنس، وغيرهم، وروى عنه ابناه: عبد الله وعبد الرحمن، وعمر
بن دينار، وغيرهم. وأخرج له البخارى، ومسلم، والنسائى، والترمذى، وأبو داود.
*
*
* مبلغه من العلم والعدالة:
كان وهب بن منبِّه واسع العلم، كثير
الاطلاع على الكتب القديمة، محيطًا بأخبار كثيرة وقصص يتعلق بأخبار الأُوَل ومبدأ
العالم، ومما يؤثر عنه أنه ألَّف كتابًا فى المغازى، ويحدِّثنا ابن خلكان: أنه
رأى لوهب بن منبِّه تصنيفًا ترجمه بذكر الملوك المتوَّجة من حِميَر، وأخبارهم،
وقصصهم، وقبورهم وأشعارهم، فى مجلد واحد، قال: وهو من الكتب المفيدة.
وقال
أحمد بن حنبل عن عبد الرزاق عن أبيه: حج عامة الفقهاء سنة مائة فحج وهب، فلما
صلوا العشاء أتاه نفر فيهم عطاء والحسن، وهم يريدون أن يتذاكروا القَدَر، قال:
فأمعن فى باب الحمد، فما زال فيه حتى طلع الفجر، فافترقوا ولم يسألوه عن شئ، قال
أحمد: وكان يُتهم بشئ من القَدَر ثم رجع، وقال حماد بن سلمة عن أبى سنان: سمعت
وهب بن منبِّه يقول: كنت أقول بالقَدَر حتى قرأت بضعة وسبعين كتابًا من كتب
الأنبياء فى كلها: «مَن جعل إلى نفسه شيئًا من المشيئة فقد كفر» فتركت قولى. وقال
الجوزجانى: كان وهب كتب كتابًا فى القَدَر ثم حدث أنه ندم عليه.
فأنت ترى من
بين هذه الأخبار أن وهبًا كان على ناحية عظيمة من المعرفة بالكتب
١
/ ١٤١
الإلهية القديمة، كما ترى أنه لم يثبت على رأيه وعقيدته
فى القَدَر، بل تركها بعد ما تبين له الحق، وندم على ما كان منه بعد أن ظهر له
الصواب، وبعد رجوعه عن رأيه لا يصح أن نطعن عليه من هذه الناحية، ولقد كان وهب
يرى من نفسه أنه قد جمع علم ابن سلام وعلم كعب، ويحدِّث هو بذلك عن نفسه فيقول:
يقولون: عبد الله بن سلام أعلم أهل زمانه، وكعب أعلم أهل زمانه، أفرأيتَ من جمع
علمهما؟ - يريد نفسه.
* *
* مطاعن بعض الناس عليه:
ومع تلك
المنزلة العالية التى كان عليها وهب، طعن عليه بعض الناس كما طعن على كعب، ورموه
بالكذب والتدليس وإفساد عقول بعض المسلمين وعقائدهم، وقد سمعتَ مقالة السيد محمد
رشيد رضا فيه وفى كعب، وسمعتَ الرد عليه، كما سمعتَ مقالة الأستاذ أحمد أمين وما
تعقبناه به.
* *
* رأينا فيه وشهادات الموثِّقين له:
وأنا وإن كنت
لا أنكر أن صاحبنا أكثرَ من الإسرائيليات، وقصَّ كثيرًا من القصص إلا أنى لا
أتهمه بشئ من الكذب، ولا أنسب إليه إفساد العقول والعقائد، ولا أُحَمله تبعة ذلك،
لأن القوم هم الذين أفسدوا بإدخالهم فى التفسير ما لا صلة له به، وبالوضع عليه
وعلى غيره ترويجًا للموضوع كما سبق.
ولو أنَّا رجعنا إلى ما قاله العلماء
النُقَّاد فى شأن وهب لتبين لنا أنه رجل منزَّه عما رُمِى به، مبرأ من كل ما يخدش
عدالته وصدقه. قال الذهبى: كان ثقة صادقًا، كثير النقل من كتب الإسرائيليات. وقال
العجلى: ثقة تابعى، كان على قضاء صنعاء، وقال ابن حجر: وهب بن منبِّه الصنعانى من
التابعين، وثَّقة الجمهور، وشذَّ الفلاس فقال: كان ضعيفًا، وكان شبهته فى ذلك أنه
كان يُتهم بالقول فى القَدَر. وقال أبو زرعة والنسائى: ثقة. وذكره ابن حبان فى
الثقات. والبخارى نفسه يعتمد عليه ويُوثَقه، ونرى له فى البخارى حديثًا واحدًا عن
أخيه همام عن أبى هريرة فى كتابة الحديث، وتابعه عليه معمر عن همام، ولهمام هذا
عن أبى هريرة نسخة مشهورة أكثرها فى الصحاح، رواها عنه معمر ويحدِّثنا مثنى بن
الصباح. أن وهبًا لبث عشرين سنة لم يجعل بين العشاء والصبح وضوءًا.. وغير هذا
كثير مما شهد لعدالة الرجل وحسن إيمانه..
ونحن أمام توثيق الجمهور له،
واعتماد البخارى وغيره لحديثه، وما ثبت عنه من الورع والصلاح، لا نقول إلا أنه
رجل مظلوم من متهميه، ومظلوم هو وكعب من
١ / ١٤٢
أولئك
الذين استغلوا شهرة الرجلين ومنزلتهما العلمية، فنسبوا إليهما ما لا يصح عنهما،
وشوَّهوا سمعتهما، وعرَّضوهما للنقد اللاذع والطعن المرير!!
* * *
٤-
عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج
* ترجمته:
هو أبو خالد - أو أبو
الوليد - عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج، الأموى مولاهم - أصله رومى نصرانى.
كان من علماء مكة ومحدِّثيهم، وهو مِن أول مَنْ صنَّف الكتب بالحجاز، وهو قطب
الإسرائيليات فى عهد التابعين، ولو أنَّا رجعنا إلى تفسير ابن جرير الطبرى،
وتتعبنا الآيات التى وردت فى النصارى، لوجدنا كثيرًا مما يرويه ابن جرير فى تفسير
هذه الآيات يدور على عبد الملك، الذى يُعَبِّر عنه دائمًا بـ «ابن جريج».
روى
عن أبيه، وعطاء بن أبى رباح، وزيد بن أسلم، والزهرى، وغيرهم. وروى عنه ابناه: عبد
العزيز ومحمد، والأوزاعى، والليث، ويحيى بن سعيد الأنصارى، وحماد بن زيد، وغيرهم.
قال أبو سعد: ولد سنة ٨٠ هـ (ثمانين)، وأما وفاته فمختلف فيها، فمنهم مَن قال:
سنة ١٥٠ هـ (خمسين ومائة)، ومنهم مَن قال: سنة ١٥٩ هـ (تسع وخمسين ومائة)، وقيل
غير ذلك.
* *
*مبلغه من العلم والعدالة:
ابن جريج - كما قيل - هو
أول مَن صنَّف الكتب بالحجاز، ويعدونه من طبقة مالك بن أنس وغيره ممن جمعوا
الحديث ودَوَّنوه. قال عبد الله ابن أحمد بن حنبل: قلت لأبى: مَنْ أول مَنْ صنَّف
الكتب؟ قال: ابن جريج وابن أبى عروبة. وقال ابن عيينة: سمعت أخى عبد الرزاق بن
همام عن ابن جريج يقول: ما دوَّن العلم تدوينى أحد. وقد عُرف عن ابن جريج أنه كان
رحَّالة فى طلب العلم، فقد وُلِدَ بمكة ثم طوَّف فى كثير من البلاد، فرحل إلى
البصرة واليمن وبغداد. ويقول ابن خلدون فى «العبر»: إنه لم يطلب العلم إلا فى
الكهولة، ولو سمع فى عنفوان شبابه لحمل عن غير واحد من الصحابة، فإنه قال: كنت
أتتبع الأشعار العربية والأنساب فقيل لى: لو لزمتَ عطاء؟ فلزمته ثمانية عشر
عامًا".
وقد رويت عن ابن جريج أجزاء كثيرة فى التفسير عن ابن عباس، منها
الصحيح، ومنها ما ليس بصحيح، وذلك لأنه لم يقصد الصحة فيما جمع، بل روى ما ذُكِرَ
فى كل آية من الصحيح والسقيم.
أما منزلته من ناحية العدالة، فإنه لم يظفر
بإجماع العلماء على توثيقه وتثبته فيما يرويه، وإنما اختلفت أنظارهم فيه، فمنهم
مَن وثَّقه، ومنهم مَن ضعَّفه. قال فيه
١ / ١٤٣
العجلى:
مكى ثقة. وقال سليمان بن النضر بن مخلد بن يزيد: ما رأيت أصدق لهجة من ابن جريج.
وعن يحيى بن سعيد قال: كنا نسمى كتب ابن جريج كتب الأمانة، وإن لم يحدثك بها ابن
جريج من كتابه لم يُنتفع به. وقال ابن معين: ثقة فى كل ما رُوِى عنه من الكتاب.
وعن يحيى ابن سعيد قال: كان ابن جريج صدوقًا فإذا قال: «حدَّثنى»، فهو سماع. وإذا
قال: «أخبرنى» فهو قراءة، وإذا قال: «قال»، فهو شبه الريح. وقال الدراقطنى: تجنب
تدليس ابن جريج فإنه قبيح التدليس، لا يُدَلِّس إلا فيما سمعه من مجروح. وذكره
ابن حبان فى الثقات وقال: كان من فقهاء أهل الحجاز وقرَّائهم ومتقنيهم وكان
يُدَلِّس. وقال عنه الذهبنى فى ميزان الاعتدال: أحد الأعلام الثقات يُدَلِّس، وهو
فى نفسه مجمع على ثقته مع كونه قد تزوج نحوًا من تسعين امرأة نكاح متعة، وكان يرى
الرُخصة فى ذلك، وكان فقيه أهل مكة فى زمانه. قال عبد الله بن أحمد بن حنبل: قال
أبى: بعض هذه الأحاديث التى كان يرسلها ابن جريج أحاديث موضوعة، كان ابن جريج لا
يبالى من أين يأخذها، يعنى قوله: أُخْبِرت وحُدِثت عن فلان. وذكر الخزرجى فى
«خلاصته» أنه مجمع عليه من أصحاب الكتب الستة. ولكن نرى الأستاذ أحمد أمين ينقل
فى «ضحى الإسلام»: أن البخارى لم يوثِّقه وقال: إنه لا يُتابَع فى حديثه، ولسنا
ندرى من أين استقى صاحب «ضحى الإسلام» هذا الكلام الذى عزاه إلى البخارى رضى الله
عنه.
هذه هى نظرة العلماء إليه وحكمهم عليه، ونرى أن كثيرًا منهم يحكم عليه
بالتدليس وعدم الثقة ببعض مروياته، ومع هذا فقد قال فيه الإمام أحمد: إنه من
أوعية العلم، ونحن معه فى ذلك، ولكنه وعاء لعلم امتزج صحيحه بعليله، ولا نظن إلا
أن الإمام أحمد يعنى ذلك، بدليل ما تقدم عنه من قوله: «بعض هذه الأحاديث التى كان
يرسلها ابن جريج أحاديث موضوعة، وكان ابن جريج لا يبالى من أين أخذها».
وكان
الإمام مالك رضى الله عنه يرى فيه أنه لا يبالى من أين يأخذ، فقد روى عنه أنه
قال: كان ابن جريج حاطب ليل.
وأخيرًا فعلى المفسِّر أن يكون على حذر فيما
رُوِى عن ابن جريج فى التفسير حتى لا يروى ضعيفًا، أو يعتمد على سقيم.
وبعد
... فهؤلاء هم أقطاب الإسرائيليات، وعليهم يدور كثير مما هو مبثوث فى كتب
التفسير، وسواء أكان كل ما يُنسب إليهم صح عنهم أم وُضِعَ عليهم، فقد علمتَ قيمة
كل واحد منهم، وعلمتَ قيمة ما يُروَى من هذه الإسرائيليات وما يجوز روايته وما لا
يجوز ... وهذا هو جهد المُقِّل وغاية ما وصلتُ إليه فى هذا الموضوع الذى التوى،
ثم التوى، حتى صار أعقد من ذَنَبِ الضَّب.
* * *
١ /
١٤٤
ثالثًا: حذف الإسناد
حذف الإسناد هو السبب الثالث
والأخير الذى يرجع إليه ضعف التفسير المأثور، وسبق أن أشرنا إلى مبدأ اختصار
الأسانيد، ونعود إليه فنقول:
إنَّ الصحابة - رضوان الله عليهم أجمعين -
كانوا يتحرون الصحة فيما يتحملون، وكان الواحد منهم لا يروى حديثًا إلا وهو متثبت
مما يقول، ولكن لم يُعرف عن الصحابة أهم كانوا يسألون عن الإسناد، لما عُرفوا به
جميعًا من العدالة والأمانة. وإذا كان الأمر قد وصل ببعضهم إلى أنه كان لا يقبل
الحديث إلا بعد أن تثبت عنده صحته بالشهادة أو اليمين كما دلَّت على ذلك الآثار
الكثيرة، فإن الغرض من ذلك هو زيادة التأكد والتثبت، لا عدم الثقة بمن يروون عنه
منهم، فقد روى أن عمر قال لأُبَىِّ بن كعب - وقد روى له حديثًا - لتأتيننى على ما
تقول ببيِّنة، فخرج فإذا ناس من الأنصار فذكر لهم، قالوا: قد سمعنا هذا من رسول
الله ﷺ، فقال عمر: أما إنى لم أتهمك، ولكن أحببت أن أتثبت».
ثم جاء عصر
التابعين، وفيه ظهر الوضع وفشا الكذب، فكانوا لا يقبلون حديثًا إلا إذا جاء
بسنده، وتثبتت لهم عدالة رواته، أما إن حُذِف السند، أو ذُكِر وكان فى رواته مَنْ
لا يُوثق بحديثه، فإنهم كانوا لا يقبلون الحديث الذى هذا شأنه، فقد روى الإمام
مسلم فى مقدمة صحيحه عن ابن سيرين أنه قال: «لم يكونوا يسألون عن الإسناد، فلما
وقعت الفتنة قالوا: سموا لنا رجالكم».
ظل الأمر فى عهد التابعين على هذا،
فكان ما يروونه من التفسير المأثور عن النبى ﷺ أو عن الصحابة، لا يروونه إلا
بإسناده، ثم جاء بعد عصر التابعين مَن جمَّعَ التفسير، ودَوَّن ما تجمَّع لديه من
ذلك، فأُلِّفت تفاسير تجمع أقوال النبى ﷺ فى التفسير، وأقوال الصحابة والتابعين،
مع ذكر الأسانيد، كتفسير سفيان بن عيينة، ووكيع بن الجراح، وغيرهما ممن تقدَّم
ذكرهم.
ثم جاء بعد هؤلاء أقوام ألَّفوا فى التفسير، فاختصروا الأسانيد،
ونقلوا الأقوال غير معزوَّة لقائليها، ولم يتحروا الصحة فيما يروون، فدخل من هنا
الدخيل، والتبس الصحيح بالعليل.
ثم صار كل مَنْ يسنح له قول يورده، ومَنْ
يخطر بباله شئ يعتمده، ثم ينقل ذلك عنه مَنْ يجئ بعده، ظانًا أنَّ له أصلًا، غير
ملتفت إلى تحرير ما ورد عن السَلَف.
١ / ١٤٥
وفى
الحق أن هذا السبب يكاد يكون أخطر الأسباب جميعًا، لأن حذف الأسانيد جعل مَنْ
ينظر فى هذه الكتب يظن صحة كل ما جاء فيها، وجعل كثيرًا من المفسِّرين ينقلون
عنها ما فيها من الإسرائيليات والقصص المخترع على أنه صحيح كله، مع أن فيها ما
يخالف النقل ولا يتفق مع العقل.
وإذا كان للوضع خطره، وللإسرائيليات خطرها،
فإن هذا الخطر كان من الممكن تلافيه لو ذُكِرت لنا هذه الأقوال بأسانيدها، ولكن
حذفها - وللأسف - عمَّى علينا كل شئ، وليت هؤلاء الذين حذفوا الأسانيد وعنوا بجمع
شتات الأقوال فعلوا كما فعل ابن جرير من رواية كل قول بإسناده، فهو وإن كان له
يتحر الصحة فيما يرويه، إلا أن عذره فى ذلك، أنه ذكر لنا السند مع كل رواية
يرويها، وكانوا يرون أنهم متى ذكروا السند فقد خرجوا عن العهدة، فإن أحوال الرجال
كانت معروفة فى العهد الأول، وبذلك تعرف قيمة ما يروونه من ضعف وصحة.
وبعد
... فهذه هى الأسباب الثلاثة التى يرجع إليها ضعف التفسير المأثور، وكل واحد
منهما له خطره وأثره فى التفسير، وقد أدرك المسلمون أخيرًا هذا الخطر، وقدَّروا
ما كان لهذه الأسباب من أثر، فتداعى علماؤهم وأشياخهم إلى تجريد كتب التفسير من
هذه الإسرائيليات، وتطهيرها من كل ما دخل عليها، ولكن لم نجد منهم مَنْ نشط لهذا
العمل، وإنَّا لنرجو آملين، أن يهيئ الله للمسلمين من بين علمائنا وأشياخنا مَنْ
ينقد لهم هذه المجموعة المركومة من التفسير النقلىَ، على هدى قواعد القوم فى نقد
الرواية متنًا وسندًا، ليستبعد منها هذا الكثير الذى لا يستحق البقاء، وليستريح
الناظرون فى الكتاب الكريم من الوقوف أمام شئ لا أساس له إذا ما حاولوا تفهم آية
منه.
وليستُ أظن أن هذا العمل الشاق المضنى يستطيع أن يقوم به فرد وحده، بل
لا بد له من جماعة كبيرة، تتفرغ له، ويتسع أمامها الزمن، وتتوفر لديها جميع
المصادر والمراجع التى تتعلق بالموضوع وتتصل به.
ذلك ما نرجوه ونأمله، ونسأل
الله تعالى أن يحقق الرجاء ويصدق الأمل..
* * *
١ /
١٤٦
أشهر ما دُوِّنَ من كتب التفسير المأثور وخصائص هذه
الكتب
لا نريد أن نستقصى هنا جميع الكتب المدوَّنة فى التفسير المأثور، لأن
هذا أمر لا يتيسر لنا، نظرًا لعدم وقوع كثير منها فى أيدينا. ولو تيسر لنا لوقفت
عند عزمى هذا: وهو أنى لا أتعرض لكل كتاب أُلِّفَ فى هذا النوع من التفسير، بل
أتكلم عما اشتهر وكثر تداوله فحسب، لأنى لو ذهبت أتكلم عن جميع ما دُوِّن من هذه
الكتب، كتابًا كتابًا، لطال علىَّ الأمر، والرسول ﷺ يقول: «إن المُنْبَتَّ لا
أرضًا قطع ولا ظهرًا أبقى».
لهذا رأيت أن أتكلم عن ثمانية كتب منها، هى
أهمها وأشهرها وأكثرها تداولًا، وسبيلى فى هذا: أن أعرض أولًا لنبذة مختصرة عن
المؤلف، ثم أُبيِّن خصائص كل كتاب وطريقة مؤلفه فيه، وهذه الكتب التى وقع عليها
اختيارى هى ما يأتى:
١ - جامع البيان فى تفسير القرآن: لابن جرير الطبرى
٢
- بحر العلوم: لأبى الليث السمرقندى
٣ - الكشف والبيان عن تفسير القرآن:
لأبى إسحاق الثعلبى
٤ - معالم التنزيل: لأبى محمد الحسين البغوى
٥ -
المحرر الوجيز فى تفسير الكتاب العزيز: لابن عطية الأندلسى.
٦ - تفسير
القرآن العظيم: لأبى الفداء الحافظ ابن كثير
٧ - الجواهر الحسان فى تفسير
القرآن: لعبد الرحمن الثعالبى
٨ - الدر المنثور فى التفسير المأثور: لجلال
الدين السيوطى
وسنتكلم عن كل واحد منها بحسب هذا الترتيب فنقول وبالله
التوفيق:
١- جامع البيان فى تفسير القرآن (للطبرى)
* التعريف بمؤلف هذا
التفسير:
مؤلف هذا التفسير، هو أبو جعفر، محمد بن جرير بن يزيد بن كثير ابن
غالب الطبرى، الإمام الجليل، المجتهد المطلق، صاحب التصانيف المشهورة، وهو من أهل
آمل طبرستان، وُلِدَ بها سنة ٢٢٤ هـ (أربع وعشرين ومائتين من الهجرة)، ورحل من
بلده فى طلب العلم وهو ابن اثنتى عشرة سنة، سنة ٢٣٦ هـ (ست وثلاثين ومائتين)،
وطوَّف فى الأقاليم، فسُمِعَ بمصر والشام والعراق، ثم ألقى عصاه واستقر ببغداد،
وبقى بها إلى أن مات سنة ٣١٠ هـ (عشر وثلاثمائة من الهجرة) .
* *
*
مبلغه من العلم والعدالة:
كان ابن جرير أحد الأئمة الأعلام، يُحكم بقوله،
ويُرجع إلى رأيه لمعرفته وفضله، وكان قد جمع من العلوم ما لم يشاركه فيه أحد من
أهل عصره، فكان حافظاَ لكتاب
١ / ١٤٧
الله،
بصيرًا بالقرآن، عارفًا بالمعانى، فقيهًا فى أحكام القرآن، عالمًا بالسنن وطرقها،
وصحيحها وسقيمها، وناسخها ومنسوخها، عارفًا بأقوال الصحابة والتابعين ومَنْ بعدهم
مِنَ المخالفين فى الأحكام، ومسائل الحلال والحرام، عارفًا بأيام الناس وأخبارهم،
هذا هو ابن جرير فى نظر الخطيب البغدادى وهى شهادة عالِم خبير بأحوال الرجال.
وذُكِرَ أن أبا العباس بن سريج كان يقول: محمد بن جرير فقيه عالِم. وهذه الشهادة
جد صادقة، فإن الرجل برع فى علوم كثيرة، منها: علم القراءات، والتفسير، والحديث،
والفقه. والتاريخ وقد صَنَّف فى علوم كثيرة وأبدع التأليف وأجاد فيما صنَّف، فمن
مصنفاته: كتاب التفسير الذى نحن بصدده. وكتاب التاريخ المعروف بتاريخ الأمم
والملوك، وهو من أُمهات المراجع، وكتاب القراءات، والعدد والتنزيل، وكتاب اختلاف
العلماء، وتاريخ الرجال من الصحابة والتابعين، وكتاب أحكام شرائع الإسلام، ألَّفه
على ما أدَّاه إليه اجتهاده، وكتاب التبصر فى أصول الدين ... وغير هذا كثير من
تصانيفه التى تدل على سعة علمه وغزارة فضله.
ولكن هذه الكتب قد اختفى معظمها
من زمن بعيد، ولم يحظ منها بالبقاء إلى يومنا هذا وبالشهرة الواسعة، سوى كتاب
التفسير، وكتاب التاريخ.
وقد اعتُبِر الطبرى أبًا للتفسير. كما اعتُبِر أبًا
للتاريخ الإسلامى، وذلك بالنظر لما فى هذين الكتابين من الناحية العلمية العالية.
ويقول ابن خلكان: إنه كان من الأئمة المجتهدين، لم يقلدا أحدًا، ونُقِل أن الشيخ
أبا إسحاق الشيرازى ذكره فى طبقات الفقهاء فى جملة المجتهدين. قالوا: وله مذهب
معروف، وأصحاب ينتحلون مذهبه يقال لهم «الجريرية»، ولكن هذا المذهب الذى أسسه -
على ما يظهر - بعد بحث طويل، ووجد له أتباعًا من الناس، لم يستطع البقاء إلى
يومنا هذا كغيره من مذاهب المسلمين، ويظهر أن ابن جرير كان قبل أن يبلغ هذه
الدرجة من الاجتهاد متُمذهبًا بمذهب الشافعى، يدلنا على ذلك ما جاء فى الطبقات
الكبرى لابن السبكى، من أن ابن جرير قال: أظهرتُ فقه الشافعى، وأفتيتُ به ببغداد
عشر سنين، وتلقاه منى ابن بشار الأحول، أستاذ أبى العباس بن سريج. وقال السيوطى
فى طبقات المفسِّرين: وكان أولًا شافعيًا ثم انفرد بمذهب مستقل، وأقاويل
واختيارات، وله أتباع مقلِّدون، وله فى الأصول والفروع كتب كثيرة.
وذكره
صاحب لسان الميزان فقال: «ثقة، صادق، فيه تشيع يسير، وموالاة لا تضر ...» ثم قال:
أقذع أحمد بن على السليمانى الحافظ فقال: كان يضع للروافض، وهذا رجم بالظن
الكاذب، بل ابن جرير من كبار أئمة الإسلام المعتمدين، وما ندَّعى
١
/ ١٤٨
عصمته من الخطأ، ولا يحل لنا أن نؤذيه بالباطل والهوى،
فإن كلام العلماء بعضهم فى بعض ينبغى أن يُتأتَّى فيه، ولا سيما فى مثل إمام
كبير، ولعل السليمانى أراد الآتى - يريد محمد ابن جرير بن رستم الطبرى الرافضى -
قال: ولو حلفتُ أن السليمانى ما أراد إلا الآتى لبررت، والسليمانى حافظ متقن، كان
يدرى ما يخرج من رأسه، فلا أعتقد أنه يطعن فى مثل هذا الإمام بهذا الباطل».
هذا
هو ابن جرير، وهذه هى نظرات العلماء إليه، وذلك هو حكمهم عليه، ومن كل ذلك تتبين
لنا قيمته ومكانته.
* *
* التعريف بهذا التفسير وطريقة مؤلفه فيه:
يعتبر
تفسير ابن جرير من أقوم التفاسير وأشهرها، كما يعتبر المرجع الأول عند المفسِّرين
الذين عنوا بالتفسير النقلى، وإن كان فى الوقت نفسه يُعتبر مرجعًا غير قليل
الأهمية من مراجع التفسير العقلى، نظرًا لما فيه من الاستنباط، وتوجيه الأقوال،
وترجيح بعضها على بعض، ترجيحًا يعتمد على النظر العقلى، والبحث الحر الدقيق.
ويقع
تفسير ابن جرير فى ثلاثين جزءًا من الحجم الكبير، وقد كان هذا الكتاب من عهد قريب
يكاد يُعتبر مفقودًا لا وجود له، ثم قدَّر الله له الظهور والتداول، فكانت مفاجأة
سارة للأوساط العلمية فى الشرق والغرب أن وُجِدَت فى حيازة أمير «حائل» الأمير
حمود ابن الأمير عبد الرشيد من أمراء نجد نسخة مخطوطة كاملة من هذا الكتاب، طُبِع
عليها الكتاب من زمن قريب، فأصبحت فى يدنا دائرة معارف غنية فى التفسير
المأثور.
ولو أننا تتبعنا ما قاله العلماء فى تفسير ابن جرير، لوجدنا أن
الباحثين فى الشرق والغرب قد أجمعوا الحكم على عظيم قيمته، واتفقوا على أنه مرجع
لا غِنَى عنه لطالب التفسير، فقد قال السيوطى رضى الله عنه: «وكتابه - يعنى تفسير
محمد بن جرير - أجَّل التفاسير وأعظمها، فإنه يتعرض لتوجيه الأقوال، وترجيح بعضها
على بعض، والإعراب، والاستنباط، فهو يفوق بذلك على تفاسير الأقدمين». وقال
النووى: «أجمعت الأُمة على أنه لم يُصنَّف مثل تفسير الطبرى» وقال أبو حامد
الإسفرايينى: "لو سافر رجل إلى الصين حتى يحصل على كتاب تفسير محمد بن
١
/ ١٤٩
جرير لم يكن ذلك كثيرًا»، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية:
«وأما التفاسير التى فى أيدى الناس، فأصحها تفسير ابن جرير الطبرى، فإنه يذكر
مقالات السَلَف بالأسانيد الثابتة، وليس فيه بدعة، ولا ينقل عن المتهمين، كمقاتل
بن بكير والكلبى».
ويذكر صاحب لسان الميزان: أن ابن خزيمة استعار تفسير ابن
جرير من ابن خالويه فرده بعد سنين ثم قال: «نظرتُ فيه من أوله إلى آخره فما أعلم
على أديم الأرض أعلم من ابن جرير» فابن خزيمة ما شهد هذه الشهادة إلا بعد أن اطلع
على ما فى هذا التفسير من علم واسع غزير.
وهذا قد كتب «نولدكه» فى سنة ١٨٦٠
بعد اطلاعه على بعض فقرات من هذا الكتاب: «لو كان بيدنا هذا الكتاب لاستغنينا به
عن كل التفاسير المتأخرة، ومع الأسف فقد كان يظهر أنه مفقود تمامًا، وكان مثل
تاريخه الكبير مرجعًا لا يغيض معينه أخذ عنه المتأخرون معارفهم».
ويظهر مما
بأيدينا من المراجع، أن هذا التفسير كان أوسع مما هو عليه اليوم، اختصر مؤلفه إلى
هذا القدر الذى هو عليه الآن، كما أن كتابه فى التاريخ ظفر بمثل هذا البسط
والاختصار، فابن السبكى يذكر فى طبقاته الكبرى: «أن أبا جعفر قال لأصحابه:
أتنشطون لتفسير القرآن؟ قالوا: كم يكون قدره؟، فقال: ثلاثون ألف ورقة، فقالوا:
هذا ربما تفنى الأعمار قبل تمامه، فاختصره فى نحو ثلاثة آلاف ورقة، ثم قال: هل
تنشطون لتاريخ العالم من آدم إلى وقتنا هذا؟، قالوا: كم قدره؟، فذكر نحوًا مما
ذكره فى التفسير، فأجابوه بمثل ذلك، فقال: إنَّا لله، ماتت الهمم.. فاختصره فى
نحو ما اختصر التفسير».
وهذا ونستطيع أن نقول إن تفسير ابن جرير هو التفسير
الذى له الأوَّلية بين كتب التفسير، أوَّلية زمنية، وأوَّلية من ناحية الفن
والصناعة.
أما أوَّليته الزمنية، فلأنه أقدم كتاب فى التفسير وصل إلينا، وما
سبقه من
١ / ١٥٠
المحاولات التفسيرية ذهبت
بمرور الزمن، ولم يصل إلينا شئ منها، اللَّهم إلا ما وصل إلينا منها فى ثنايا ذلك
الكتاب الخالد الذى نحن بصدده.
وأما أوَّليته من ناحية الفن والصناعة، فذلك
أمر يرجع إلى ما يمتاز به الكتاب من الطريقة البديعة التى سلكها فيه مؤلفه، حتى
أخرجه للناس كتابًا له قيمته ومكانته.
ونريد أن نعطى هنا مثالًا لطريقة ابن
جرير فى تفسيره، بعد أن أخذنا فكرة عامة عن الكتاب، حتى يتبين للقارئ أن الكتاب
واحد فى بابه، سبق به مؤلفه غيره من المفسِّرين، فكان عمدة المتأخرين، ومرجعًا
مهمًا من مراجع المفسِّرين، على اختلاف مذاهبهم، وتعدد طرائقهم، فنقول:
*
طريقة ابن جرير فى تفسيره:
تتجلَّى طريقة ابن جرير فى تفسيره بكل وضوح إذا
نحن قرأنا فيه وقطعنا فى القراءة شوطًا بعيدًا، فأول ما نشاهده، أنه إذا أراد أن
يفسِّر الآية من القرآن يقول: «القول فى تأويل قوله تعالى كذا وكذا» ثم يفسِّر
الآية ويستشهد على ما قاله بما يرويه بسنده إلى الصحابة أو التابعين من التفسير
المأثور عنهم فى هذه الآية، وإذا كان فى الآية قولان أو أكثر، فإنه يعرض لكل ما
قيل فيها، ويستشهد على كل قول بما يرويه فى ذلك عن الصحابة أو التابعين.
ثم
هو لا يقتصر على مجرد الرواية، بل نجده يتعرض لتوجيه الأقوال، ويرجح بعضها على
بعض، كما نجده يتعرض لناحية الإعراب إن دعت الحال إلى ذلك، كما أنه يستنبط
الأحكام التى يمكن أن تؤخذ من الآية، مع توجيه الأدلة وترجيح ما يختار.
*
إنكاره على مَن يفسِّر بمجرد الرأى:
ثم هو يخاصم بقوة أصحاب الرأى المستقلين
فى التفكير، ولا يزال يُشدِّد فى ضرورة الرجوع إلى العلم الراجع إلى الصحابة أو
التابعين، والمنقول عنهم نقلًا صحيحًا مستفيضًا، ويرى أن ذلك وحده هو علامة
التفسير الصحيح، فمثلًا عندما تكلَّم عن قوله تعالى فى الآية [٤٩] من سورة يوسف:
﴿ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذلك عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ الناس وَفِيهِ يَعْصِرُونَ﴾
.. نجده يذكر ما ورد فى تفسيرها عن السَلَف مع توجيهه للأقوال وتعرّضه للقراءات
بقدر ما يحتاج إليه تفسير الآية، ثم يعرج بعد ذلك على مَنْ يفسِّر القرآن برأيه،
وبدون اعتماد منه على شئ إلا على مجرد اللغة، فيفند قوله، ويبطل رأيه، فيقل ما
نصه: "... وكان بعض مَن لا علم له بأقوال السَلَف من أهل التأويل، ممن يُفسِّر
القرآن برأيه على مذهب كلام العرب، يوجه معنى قوله: ﴿وَفِيهِ يَعْصِرُونَ﴾ ..
إلى: وفيه ينجون من الجدب والقحط بالغيث، ويزعم أنه مِنَ العصر، والعصر التى
بمعنى المنجاة، من قول أبى زبيد الطائى:
١ / ١٥١
صاديًا
يستغيث غير مغاث ... ولقد كان عصرة المنجود
أى المقهور - ومِنْ قول لبيد:
فبات
وأسرى القوم آخر ليلهم ... وما كان وقافًا بغير معصر
وذلك تأويل يكفى من
الشهادة على خطئه خلافه قول جميع أهل العلم من الصحابة والتابعين«.
وكثيرًا
ما يقف ابن جرير مثل هذا الموقف حيال ما يروى عن مجاهد أو الضحاك أو غيرهما ممن
يروون عن ابن عباس.
فمثلًا عند قوله تعالى فى الآية [٦٥] من سورة البقرة:
﴿وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الذين اعتدوا مِنْكُمْ فِي السبت فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ
قِرَدَةً خَاسِئِينَ﴾ .. يقول ما نصه:»حدَّثنى المثنى، قال. حدَّثنا أبو حذيفة،
قال: حدَّثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: ﴿وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الذين اعتدوا
مِنْكُمْ فِي السبت فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ﴾ قال:
«مُسِخَتَ قلوبهم ولم يمُسخوا قردة، وإنما هو مثل ضربه الله لهم، كمثل الحمار
يحمل أسفارًا».
ثم يعقب ابن جرير بعد ذلك على قول مجاهد فيقول ما نصه: «وهذا
القول الذى قاله مجاهد، قول لظاهر ما دلَّ عليه كتاب الله مخالف» ... . الخ.
ومثلًا
عند تفسيره لقوله تعالى: فى الآية: [٢٢٩] من سورة البقرة أيضًا: ﴿تِلْكَ حُدُودُ
الله فَلاَ تَعْتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ الله فأولائك هُمُ الظالمون﴾ ..
نجده يروى عن الضحاك فى معنى هذه الآية: أنَ مَنْ طلَّق لغير العِدَّة فقد اعتدى
وظلم نفسه، ومَنْ يتعدَّ حدود الله فأولئك هم الظالمون. ثم يقول: «وهذا الذى ذُكر
عن الضحاك لا معنى له فى هذا الموضع، لأنه لم يجر للطلاق فى العِدَّة ذكر فيقال:
﴿تِلْكَ حُدُودُ﴾، وإنما جرى ذكر العدد الذى يكون للمطلِّق فيه الرجعة والذى لا
يكون له فيه الرجعة، دون ذكر البيان عن الطلاق للعِدَّة».
... وهكذا نجد ابن
جرير فى غير موضع من تفسيره، ينبرى للرد على مثل هذه الآراء التى لا تستند على شئ
إلا على مجرد الرأى أو محض اللغة.
* *
* موقفه من الأسانيد:
ثم إن
ابن جرير وإن التزم فى تفسيره ذكر الروايات بأسانيدها، إلا أنه فى الأعم الأغلب
لا يتعقب الأسانيد بتصحيح ولا تضعيف، لأنه كان يرى - كما هو مقرر فى أصول الحديث
- أنَّ مَن أسند لك فقد حملك البحث عن رجال السند ومعرفة مبلغهم من العدالة أو
الجرح، فهو بعمله هذا قد خرج من العهدة، ومع ذلك فابن جرير
١ /
١٥٢
يقف من السند أحيانًا موقف الناقد البصير، فيُعَدِّل مَنْ
يُعَدِّل مِن رجال الإسناد، ويُجرِّح مَنْ يُجَرِّح منهم، ويرد الرواية التى لا
يثق بصحتها، ويُصرِّح برأيه فيها بما يناسبها، فمثلًا نجده عنده تفسيره لقوله
تعالى فى الآية [٩٤] من سورة الكهف: ﴿... فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا على أَن
تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا﴾ .. يقول ما نصه: «رُوِى عن عكرمة فى ذلك
- يعنى فى ضم سين» سدًا«وفتحها - ما حدَّثنا به أحمد بن يوسف.
قال: حدَّثنا
القاسم، قال: حدَّثنا حجاج، عن هارون، عن أيوب، عن عِكرمة قال: ما كان من صنعة
بنى آدم فهو السَّد - يعنى بفتح السين، وما كان من صنع الله فهو السُّد، ثم يعقب
على هذا السند فيقول: وأما ما ذكره عن عِكرمة فى ذلك، فإنَّ الذى نقلَ عن
أيوب:»هارون«، وفى نقله نظر، ولا نعرف ذلك عن أيوب من رواية ثقاة أصحابه».
*
*
* تقديره للإجماع:
كذلك نجد ابن جرير فى تفسيره يُقَدِّر إجماع
الأُمَّة، ويعطيه سلطانًا كبيرًا فى اختيار ما يذهب إليه من التفسير، فمثلًا عند
قوله تعالى فى الآية [٢٣٠] من سورة البقرة: ﴿فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ
لَهُ مِن بَعْدُ حتى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ﴾ .. يقول ما نصه: «فإن قال قائل:
فأى النكاحين عَنِىَ الله بقوله: ﴿فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حتى تَنْكِحَ
زَوْجًا غَيْرَهُ﴾؟ النكاح الذى هو جِماع؟ أم النكاح الذى هو عقد تزويج؟ قيل:
كلاهما، وذلك أن المرأة إذا نكحت زوجًا نكاح تزويج ثم لم يطأها فى ذلك النكاح
ناكحها ولم يجامعها حتى يُطلِّقها لم تحل للأول، وكذلك إن وطئها واطئ بغير نكاح
لم تحل للأول، لإجماع الأُمَّة جميعًا، فإذا كان ذلك كذلك، فمعلوم أن تأويل قوله:
﴿فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حتى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ﴾، نكاحًا صحيحًا،
ثم يجامعها فيه، ثم يُطلِّقها، فإن قال: فإن ذكر الجِماع غير موجود فى كتاب الله
تعالى ذكره، فما الدلالة على أن معناه ما قلت؟ قيل: الدلالة على ذلك إجماع
الأُمَّة جميعًا على أن ذلك معناه».
* موقفه من القراءات:
كذلك نجد ابن
جرير يعنى بذكر القراءات وينزلها على المعانى المختلفة، وكثيرًا ما يرد القراءات
التى لا تعتمد على الأئمة الذين يعتُبرون عنده وعند علماء القراءت حُجَّة، والتى
تقوم على أُصول مضطربة مما يكون فيه تغيير وتبديل لكتاب الله، ثم يتبع ذلك برأيه
فى آخر الأمر مع توجيه رأيه بالأسباب، فمثلًا عند قوله تعالى فى الآية [٨١] من
سورة الأنبياء: ﴿وَلِسُلَيْمَانَ الريح عَاصِفَةً﴾ .. يذكر أن عامة قُرَّاء
الأمصار قرأوا «الريحَ»
١ / ١٥٣
بالنصب على
أنها مفعول لـ «سخَّرنا» المحذوف، وأن عبد الرحمن الأعرج قرأ «الريحُ» بالرفع على
أنها مبتدأ ثم يقول: والقراءة التى لا أستجيز القراءة بغيرها فى ذلك ما عليه
قُرَّاء الأمصار لإجماع الحُجَّة من القُرّاء عليه.
ولقد يرجع السبب فى
عناية ابن جرير بالقراءات وتوجيهها إلى أنه كان من علماء القراءات المشهورين، حتى
إنهم ليقولون عنه: إنه ألَّف فيها مؤلَّفًا خاصًا فى ثمانية عشر مجلدًا، ذكر فيه
جميع القراءات من المشهور والشواذ وعلَّل ذلك وشرحه، واختار منها قراءة لم يخرج
بها عن المشهور، وإن كان هذا الكتاب قد ضاع بمرور الزمن ولم يصل إلى أيدينا، شأن
الكثير من مؤلفاته.
* *
*موقفه من الإسرائيليات:
ثم إننا نجد ابن
جرير يأتى فى تفسيره بأخبار مأخوذة من القصص الإسرائيلى، يرويها بإسناده إلى كعب
الأحبار، ووهب بن منبِّه، وابن جريج، والسدى، وغيرهم، ونراه ينقل عن محمد بن
إسحاق كثيرًا مما رواه عن مسلمة النصارى. ومن الأسانيد التى تسترعى النظر، هذا
الإسناد: حدَّثنى ابن حميد، قال: حدَّثنا سلمة عن ابن إسحاق عن أبى عتاب - رجل من
تغلب - كان نصرانيًا عمرًا من دهره ثم أسلم بعد فقرأ القرآن وفقه فى الدين، وكان
فيما ذكر، أنه كان نصرانيًا أربعين سنة ثم عمر فى الإسلام أربعين سنة.
يذكر
ابن جرير هذا الإسناد، ويروى لهذا الرجل النصرانى الأصل خبرًا عن آخر أنبياء بنى
إسرائيل، عند تفسيره لقوله تعالى فى الآية [٧] من سورة الإسراء: ﴿إِنْ
أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا
جَآءَ وَعْدُ الآخرة لِيَسُوءُواْ وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُواْ المسجد كَمَا
دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُواْ مَا عَلَوْاْ تَتْبِيرًا﴾ .
كما
نراه عند تفسيره لقوله تعالى فى الآية [٩٤] من سورة الكهف: ﴿قَالُواْ ياذا
القرنين إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الأرض﴾ .. الآية.. يسوق هذا
الإسناد: حدَّثنا ابن حميد قال: حدَّثنا سلمة قال: حدَّثنا محمد ابن إسحاق قال:
حدَّثنى بعض مَنْ يسوق أحاديث الأعاجم من أهل الكتاب ممن قد أسلم، مما توارثوا من
علم ذى القرنين أنَّ ذا القرنين كان رجلًا من أهل مصر، اسمه مرزبا بن مردبة
اليونانى من ولد يونن بن يافث بن نوح.. إلخ".
... وهكذا يُكثر ابن جرير من
رواية الإسرائيليات، ولعل هذا راجع إلى ما تأثَّر به من الروايات التاريخية التى
عالجها فى بحوثه التاريخية الواسعة.
١ / ١٥٤
وإذا
كان ابن جرير يتعقب كثيرًا من هذه الروايات بالنقد، فتفسيره لا يزال يحتاج إلى
النقد الفاحص الشامل، احتياج كثير من كتب التفسير التى اشتملت على الموضوع والقصص
الإسرائيلى، على أن ابن جرير - كما قدَّمنا - قد ذكر لنا السند بتمامه فى كل
رواية يرويها، وبذلك يكون قد خرج من العهدة، وعلينا نحن أن ننظر فى السند ونتفقد
الروايات.
* *
*انصرافه عما لا فائدة فيه:
ومما يلفت النظر فى
تفسير ابن جرير أن مؤلِّفه لا يهتم فيه -كما يهتم غيره من المفسِّرين - بالأمور
التى لا تغنى ولا تفيد، فنراه مثلًا عند تفسيره لقوله تعالى فى سورة المائدة:
﴿إِذْ قَالَ الحواريون ياعيسى ابن مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَن
يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السمآء ... ... .﴾ الآيات إلى قوله:
﴿وارزقنا وَأَنتَ خَيْرُ الرازقين﴾ [١١٢-١١٤] .. يعرض لذكر ما ورد من الروايات فى
نوع الطعام الذى نزلت به مائدة السماء.. ثم يُعقِّب على هذا بقوله: «وأما الصواب
من القول فيما كان على المائدة فأن يقال: كان عليها مأكول، وجائز أن يكون سمكًا
وخبزًا، وجائز أن يكون ثمرًا من الجنة، وغير نافع العلم به، ولا ضار الجهل به،
إذا أقرَّ تالى الآية بظاهر ما احتمله التنزيل».
كما نراه عند تفسير قوله
تعالى فى الآية [٢٠] من سورة يوسف: ﴿وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ
مَعْدُودَةٍ وَكَانُواْ فِيهِ مِنَ الزاهدين﴾ .. يعرض لمحاولات قدماء المفسِّرين
فى تحديد عدد الدراهم، هل هى عشرون؟ أو اثنان وعشرون؟ أو أربعون؟.. إلى آخر ما
ذكره من الروايات.. ثم يُعقِّب على ذلك كله بقوله: «والصواب من القول أن يقال:
إنَّ الله - تعالى ذكره - أخبر أنهم باعوه بدراهم معدودة غير موزونة، ولم يحد
مبلغ ذلك بوزن ولا عدد، ولا وضع عليه دلالة فى كتاب ولا خبر من الرسول ﷺ، وقد
يحتمل أن يكون كان اثنين وعشرين، وأن يكون كان أربعون، وأقل من ذلك وأكثر، وأى
ذلك فإنها كانت معدودة غير موزونة، وليس فى العلم بمبلغ وزن ذلك فائدة تقع فى
دين، ولا فى الجهل به دخول ضُرٍّ فيه، والإيمان بظاهر التنزيل فرض، وما عداه
فموضوع عنا تكلف علمه»
* *
*احتكامه إلى المعروف من كلام العرب:
وثمة
أمر آخر سلكه ابن جرير فى كتابه، ذلك أنه اعتبر الاستعمالات اللغوية بجانب النقول
المأثورة وجعلها مرجعًا موثوقًا به عند تفسيره للعبارات المشكوك فيها، وترجيح بعض
الأقوال على بعض.
١ / ١٥٥
فمثلًا عند تفسيره
لقوله تعالى فى الآية [٤٠] من سورة هود: ﴿حتى إِذَا جَآءَ أَمْرُنَا وَفَارَ
التنور قُلْنَا احمل فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثنين﴾ .. الآية - نراه يعرض
لذكر الروايات عن السَلَف فى معنى لفظ «التنور»، فيروى لنا قول مَنْ قال: إن
التنور عبارة عن وجه الأرض، وقول مَنْ قال: إنه عبارة عن تنوير الصبح، وقول مَنْ
قال: إنه عبارة عن أعلى الأرض وأشرفها، وقول مَنْ قال: إنه عبارة عما يُختبز
فيه.. ثم يقول بعد أن يفرغ من هذا كله: «وأَوْلى هذه الأقوال عندنا بتأويل
قوله»التنور«قول مَنْ قال: التنور: الذى يُختبز فيه، لأن ذلك هو المعروف من كلام
العرب، وكلام الله لا يُوَّجه إلا إلى الأغلب الأشهر من معانيه عند العرب، إلا أن
تقوم حُجَّة على شئ منه بخلاف ذلك فيُسلَّم لها، وذلك أنه جَلَّ ثناؤه إنما
خاطبهم بما خاطبهم به لإفهامهم معنى ما خاطبهم به ...»
* *
* رجوعه إلى
الشِعر القديم:
كذلك نجد ابن جرير يرجع إلى شواهد من الشِعر القديم بشكل
واسع، متبعًا فى هذا ما أثاره ابن عباس فى ذلك، فمثلًا عند تفسيره لقوله تعالى فى
الآية [٢٢] من سورة البقرة: ﴿... فَلاَ تَجْعَلُواْ للَّهِ أَندَادًا﴾ .. يقول ما
نصه: قال أبو جعفر: والأنداد جمع ند، والند: العَدل والمثل، كما قال حسان ابن
ثابت:
أتهجوهُ وليستَ له بندٍ ... فَشَرُّكُمَا لِخَيرِكُما الفِدَاءُ
يعنى
بقوله: «وليستَ له بندٍ»: «ليست له بمثل ولا عدل، وكل شئ كان نظيرًا لشئ وشبيهًا
فهو له ند» ثم يسوق الروايات عمن قال ذلك من السَلَف.
* *
* اهتمامه
بالمذاهب النحوية:
كذلك نجد ابن جرير يتعرَّض كثيرًا لمذاهب النحويين من
البصريين والكوفيين فى النحو والصرف، ويوجه الأقوال، تارة على المذهب البصرى،
وأخرى على المذهب الكوفى، فمثلًا عند قوله تعالى فى الآية [١٨] من سورة إبراهيم:
﴿مَّثَلُ الذين كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشتدت بِهِ الريح
فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ﴾ .. يقول ما نصه: «اختلف أهل العربية فى رافع»مثل«فقال بعض
نحويى البصرة: إنما هو كأنه قال: ومما نَقُصُّ عليكم مَثَل الذين كفروا، ثم أقبل
يُفسِّره كما قال: مثل الجنة.. وهذا كثير. وقال بعض نحويى الكوفيين: إنما المَثَل
للأعمال، ولكن العرب تُقَدِّم الأسماء لأنها أعرف، ثم تأتى بالخبر الذى تُخْبر
عنه مع صاحبه، ومعنى الكلام: مَثَلُ أعمال الذين كفروا بربهم كرماد.. إلخ».
١
/ ١٥٦
وهكذا يُكثر ابن جرير فى مناسبات متعددة من الاحتكام إلى
ما هو معروف من لغة العرب، ومن الرجوع إلى الشِعر القديم يستشهد به على ما يقول،
ومن التعرض للمذاهب النحوية عند ما تمس الحاجة، مما جعل الكتاب يحتوى على جملة
كبيرة من المعالجات اللغوية والنحوية التى أكسبت الكتاب شهرة عظيمة.
والحق
أنَّ ما قدَّمه لنا ابن جرير فى تفسيره من البحوث اللغوية المتعددة والتى تعتبر
كنزًا ثمينًا ومرجعًا مهمًا فى بابها، أمر يرجع إلى ما كان عليه صاحبنا من
المعرفة الواسعة بعلوم اللغة وأشعار العرب، معرفة لا تقل عن معرفته بالدين
والتاريخ. ونرى أن ننبه هنا إلى أن هذه البحوث اللغوية التى عالجها ابن جرير فى
تفسيره لم تكن أمرًا مقصودًا لذاته، وإنما كانت وسيلة للتفسير، على معنى أنه
يتوصل بذلك إلى ترجيح بعض الأقوال على بعض، كما يحاول بذلك - أحيانًا - أن يوفق
بين ما صح عن السَلَف وبين المعارف اللغوية بحيث يزيل ما يُتوهم من التناقض
بينهما.
* *
* معالجته للأحكام الفقهية:
كذلك نجد فى هذا التفسير
آثارًا للأحكام الفقهية، يعالج فيها ابن جرير أقوال العلماء ومذاهبهم، ويخلص من
ذلك كله برأى يختاره لنفسه، ويرجحه بالأدلة العلمية القيمة، فمثلًا نجده عند
تفسيره لقوله تعالى فى الآية [٨] من سورة النحل: ﴿والخيل والبغال والحمير
لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ﴾ .. نجده يعرض لأقوال
العلماء فى حكم أكل لحوم الخيل والبغال والحمير، ويذكر قول كل قائل بسنده ...
وأخيرًا يختار قول مَنْ قال: إن الآية لا تدل على حُرْمة شئ من ذلك، ووجَّه
اختياره هذا فقال ما نصه:»والصواب مِنَ القول فى ذلك عندنا ما قاله أهل القول
الثانى - وهو أن الآية لا تدل على الحُرْمة - وذلك أنه لو كان فى قوله - تعالى
ذكره - ﴿لِتَرْكَبُوهَا﴾ دلالة على أنها لا تصلح إذا كانت للركوب للأكل، لكان فى
قوله: ﴿فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ﴾ دلالة على أنها لا تصلح
إذ كانت للأكل والدفء للركوب. وفى إجماع الجميع على أنَّ ركوب ما قال تعالى ذكره:
﴿وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ﴾ جائز حلال غير حرام، دليل واضح على أن أكل ما قال:
﴿لِتَرْكَبُوهَا﴾ جائز حلال غير حرام، إلا بما نص على تحريمه، أو وضع على تحريمه
دلالة من كتاب أو وحى إلى رسول الله ﷺ، فأما بهذه الآية فلا يحرم أكل شئ. وقد وضع
الدلالة على تحريم لحوم الحُمُر الأهلية بوحيه إلى رسول الله ﷺ، وعلى البغال بما
قد بيَّنا فى كتابنا «كتاب الأطعمة» بما أغنى عن إعادته فى هذا الموضع، إذ لم يكن
هذا الموضع من مواضع البيان
١ / ١٥٧
عن تحريم
ذلك، وإنما ذكرنا ما ذكرنا ليدل على أن لا وجه لقول مَن استدَّل بهذه الآية على
تحريم لحم الفرس».
* *
* خوضه فى مسائل الكلام:
ولا يفوتنا أن
ننبه على ما نلحظه فى هذا التفسير الكبير، من تعرض صاحبه لبعض النواحى الكلامية
عند كثير من آيات القرآن، مما يشهد له بأنه كان عالمًا ممتازًا فى أمور العقيدة،
فهو إذا ما طبَّق أصول العقائد على ما يتفق مع الآية أفاد فى تطبيقه، وإذا ناقش
بعض الآراء الكلامية أجاد فى مناقشته، وهو فى جدله الكلامى وتطبيقه ومناقشته،
موافق لأهل السُّنَّة فى آرائهم، ويظهر ذلك جليًا فى رده على القدرية فى مسألة
الاختيار.
فمثلًا عند تفسيره لقوله تعالى فى آخر سورة الفاتحة آية [٧]:
﴿غَيْرِ المغضوب عَلَيْهِم وَلاَ الضآلين﴾ .. نراه يقول ما نصه: "وقد ظن بعض أهل
الغباء من القَدَرية أن فى وصف الله جَلَّ ثناؤه النصارى بالضلال بقوله: ﴿وَلاَ
الضآلين﴾ وإضافة الضلال إليهم دون إضافة إضلالهم إلى نفسه، وتركه وصفهم بأنهم
المضللون كالذى وصف به اليهود أنه مغضوب عليهم، دلالة على صحة ما قاله إخوانه من
جهلة القَدَرية، جهلًا منه بسعة كلام العرب وتصاريف وجوهه. ولو كان الأمر على ما
ظنه الغبى الذى وصفنا شأنه، لوجب أن يكون كل موصوف بصفة أو مضاف إليه فعل لا يجوز
أن يكون فيه سبب لغيره، وأن يكون كل ما كان فيه من ذلك من فعله، ولوجب أن يكون
خطأ قول القائل: تحركت الشجرة إذا حرَّكتها الرياح، واضطربت الأرض إذا حرَّكتها
الزلزلة، وما أشبه ذلك من الكلام الذى يطول بإحصائه الكتاب، وفى قوله جَلَّ
ثناؤه: ﴿حتى إِذَا كُنتُمْ فِي الفلك وَجَرَيْنَ بِهِم﴾ [يونس: ٢٢] وإن كان جريها
بإجراء غيرها إياها، ما يدل على خطأَ التأويل الَذَى تأوَّله مَن وصفنا قوله فى
قوله: ﴿وَلاَ الضآلين﴾ .. وادعائه أن فى نسبة الله جَلَّ ثناؤه الضلالة إلى مَن
نسبها إليه من النصارى تصحيحًا لما ادَّعى المنكرون أن يكوِّن الله جَلَّ ثناؤه
في أفعال خلقه بسبب من أجلها وجدت أفعالهم، مع إبانة الله عَزَّ ذكره نصًا فى آى
كثيرة من تنزيله: أنه المضل الهادى، فمن ذلك قوله جَلَّ ثناؤه: ﴿أَفَرَأَيْتَ
مَنِ اتخذ إلاهه هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ الله على عِلْمٍ وَخَتَمَ على سَمْعِهِ
وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ على بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ الله
أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ﴾ [الجاثية: ٢٣] .. فأنبأ جَلَّ ذكره أنه المِضِّلُ الهادى
دونَ غيره، ولكن القرآن نزل بلسان العرب على ما قدَّمنا البيان عنه فى أول
الكتاب، ومن شأن العرب إضافة الفعل إلى مَنْ وُجِدَ منه وإن كان مشيئة غير الذى
وُجِدَ منه الفعل غيره، فكيف بالفعل الذى
١ / ١٥٨
يكتسبه
العبد كسبًا، ويُوجدِه الله جَلَّ ثناؤه عَيْنًا منشأة، بل ذلك أحرى أن يُضاف إلى
مكتسبه كسبًا له بالقوة منه عليه، والاختيار منه له، وإلى الله جلَّ ثناؤه
بإيجاد
عَيْنه وإنشائها تدبيرًا».
وكثيرًا ما نجد ابن جرير يتصدى للرد
على المعتزلة فى كثير من آرائهم الاعتقادية، فنراه مثلًا يجادلهم مجادلة حادة فى
تفسيرهم العقلى التنزيهى للآيات التى تثبت رؤية الله عند أهل السُّنَّة، كما نراه
يذهب إلى ما ذهب إليه السَلَف من عدم صرف آيات الصفات عن ظاهرها، مع المعارضة
لفكرة التجسيم والتشبيه، والرد على أُولئك الذين يُشَبِّهون الله بالإنسان.
...
وهكذا نجد ابن جرير لم يقف كمفسِّر موقفًا بعيدًا عن مسائل النزاع التى تدور حول
العقيدة فى عصره، بل نراه يشارك فى هذا المجال من الجدل الكلامى بنصيب لا يُستهان
به، مع حرصه كل الحرص على أن يحتفظ بسُنِّيته ضد وجوه النظر التى لا تتفق وتعاليم
أهل السُّنَّة.
وبعد.. فإن ما جمعه ابن جرير فى كتابه من أقوال المفسِّرين
الذين تقدَّموا عليه، وما نقله لنا من مدرسة ابن عباس، ومدرسة ابن مسعود، ومدرسة
على بن أبى طالب، ومدرسة أُبَىّ بن كعب، وما استفاده مما جمعه ابن جريج والسدى
وابن إسحاق وغيرهم من التفاسير جعلت هذا الكتاب أعظم الكتب المؤلَّفة فى التفسير
بالمأثور، كما أن ما جاء فى الكتاب من إعراب، وتوجيهات لُغوية، واستنباطات فى
نواح متعددة، وترجيح لبعض الأقوال على بعض، كان نقطة التحول فى التفسير، ونواة
لما وُجِد بعد من التفسير بالرأى، كما كان مظهرًا من مظاهر الروح العلمية السائدة
فى هذا العصر الذى يعيش فيه ابن جرير.
وفى الحق إن شخصية ابن جرير الأدبية
والعلمية، جعلت تفسيره مرجعًا مهمًا من مراجع التفسير بالرواية، فترجيحاته
المختلفة تقوم على نظرات أدبية ولُغوية وعلمية قيِّمة، فوق ما جمع فيه من
الروايات الأثرية المتكاثرة.
وعلى الإجمال، فخير ما وُصِف به هذا الكتاب ما
نقله الداودى عن أبى محمد عبد الله بن أحمد الفرغانى فى تاريخه حيث قال: "فتم من
كتبه - يعنى محمد بن جرير - كتاب تفسير القرآن، وجوَّده، وبيَّن فيه أحكامه،
وناسخه ومنسوخة،
١ / ١٥٩
ومشكله وغريبه،
ومعانيه، واختلاف أهل التأويل والعلماء فى أحكامه وتأويله، والصحيح لديه من ذلك،
وإعراب حروفه، والكلام على الملحدين فيه، والقصص، وأخبار الأُمَّة والقيامة، وغير
ذلك مما حواه من الحِكم والعجائب كلمة كلمة، وآية آية، من الاستعاذة، وإلى أبى
جاد، فلو ادَّعى عالم أن يُصنِّف منه عشرة كتب كل كتاب منها يحتوى على علم مفرد
وعجيب مستفيض لفعل».
هذا وقد جاء فى معجم الأدباء (الجزء ١٨ ص ٦٤-٦٥) وصف
مسهب لتفسير ابن جرير، جاء فى آخره ما نصه: «... وذكر فيه من كتب التفاسير
المصنَّفة عن ابن عباس خمسة طرق، وعن سعيد بن جبير طريقين، وعن مجاهد بن جبر
ثلاثة طرق، وعن الحسن البصرى ثلاثة طرق، وعن عِكرمة ثلاثة طرق، وعن الضحاك بن
مزاحم طريقين، وعن عبد الله ابن مسعود طريقًا، وتفسير عبد الرحمن بن زيد بن أسلم،
وتفسير ابن جريج، وتفسير مقاتل بن حبان، سوى ما فيه من مشهور الحديث عن
المفسِّرين وغيرهم، وفيه من المسند حسب حاجته إليه، ولم يتعرض لتفسير غير موثوق
به، فإنه لم يُدخل فى كتابه شيئًا عن كتاب محمد بن السائب الكلبى، ولا مقاتل بن
سليمان، ولا محمد بن عمر الواقدى، لأنهم عنده أظنَّاء والله أعلم. وكان إذا رجع
إلى التاريخ والسير وأخبار العرب حكى عن محمد بن السائب الكلبى، وعن ابنه هشام،
وعن محمد بن عمرالواقدى، وغيرهم فيما يُفتقر إليه ولا يُؤخذ إلا عنهم.
وذكر
فيه مجموع الكلام والمعانى من كتاب علىّ بن حمزة الكسائى، ومن كتاب يحيى بن زيادة
الفرَّاء، ومن كتاب أبى الحسن الأخفش، ومن كتاب أبى علىّ قطرب، وغيرهم مما يقتضيه
الكلام عند حاجته إليه، إذ كان هؤلاء هم المتكلمون فى المعانى، وعنهم يؤخذ معانيه
وإعرابه، وربما لم يسمهم إذا ذكر شيئًا من كلامهم، وهذا كتاب يشتمل على عشرة آلاف
ورقة أو دونها حسب سعة الخط أو ضيقه».
كما نجد فى معجم الأدباء أيضًا قبل
ذلك بقليل، ما يدل على أن الطبرى أتم تفسيره هذا فى سبع سنوات، إملاءً على
أصحابه، فقد جاء فى الجزء (١٨ ص ٤٢) على أبى بكر بن بالويه أنه قال: «قال لى أبو
بكر محمد بن إسحاق - يعنى ابن خزيمة -: بلغنى أنك كتبت التفسير عن محمد بن جرير؟
قلت: نعم، كتبنا التفسير عنه إملاءً، قال: كله؟ قلت: نعم، قال: فى أى سنة؟ قلت:
من سنة ثلاث وثمانين إلى سنة تسعين ...» إلخ.
وبعد.. فأحسب أنى قد أفضت فى
الكلام عن هذا التفسير، وتوسعت فى الحديث
١ / ١٦٠
عنه،
وأقول: إن السر فى ذلك هو أن الكتاب يُعتبر المرجع الأول والأهم للتفسير
بالمأثور، وتلك ميزة لا نعرفها لغيره من كتب التفسير بالرواية.
* * *
٢-
بحر العلوم (للسمرقندى)
* التعريف بمؤلف هذا التفسير:
مؤلف هذا
التفسير، هو أبو الليث، نصر بن محمد بن إبراهيم السمرقندى الفقيه الحنفى، المعروف
بإمام الهدى. تفقه على أبى جعفر الهندوانى، واشتهر بكثرة الأقوال المفيدة،
والتصانيف المشهورة. ومن أهم تصانيفه تفسير القرآن المسمى بـ «بحر العلوم»،
والمعروف بتفسير أبى الليث السمرقندى، وهو ما نحن بصدده الآن، وكتاب النوازل فى
الفقه، وخزانة الفقه فى مجلد، وتنبيه الغافلين، والبستان. وكانت وفاته ﵀ سنة ٣٧٣
هـ (ثلاث وسبعين وثلاثمائة) وقيل: سنة ٣٧٥ هـ (خمس وسبعين وثلاثمائة) من
الهجرة.
* التعريف بهذا التفسير وطريقة مؤلفه فيه:
قال فى كشف الظنون:
"تفسير أبى الليث، نصر بن محمد الفقيه السمرقندى الحنفى، المتوفى سنة ٣٧٥ هـ (خمس
وسبعين وثلاثمائة)، وهو كتاب مشهور لطيف مفيد، خرَّج أحاديثه الشيخ زين الدين
قاسم ابن قطلوبغا الحنفى سنة ٨٥٤ هـ (أربع وخسمين وثمانمائة) .
وهذا التفسير
مخطوط فى ثلاث مجلدات كبار، وموجود بدار الكتب المصرية، وتوجد منه نسختان
مخطوطتان بمكتبة الأهر. واحدة فى مجلدين والأخرى فى ثلاث مجلدات.
وقد رجعتُ
إلى هذا التفسير وقرأتُ فيه كثيرًا، فوجدتُ مؤلِّفه قد قدَّم له بباب فى الحث على
طلب التفسير وبيان فضله، واستشهد على ذلك بروايات عن السَلَف، رواها بإسناد
إليهم، ثم بيَّن أنه لا يجوز لأحد أن يفسِّر القرآن برأيه من ذات نفسه ما لم
يتعلم أو يعرف وجوه اللغة وأحوال التنزيل، واستدلَّ على حُرْمه التفسير بمجرد
الرأى بأقوال رواها عن السَلَف بإسناده إليهم أيضًا، ثم بيَّن أن الرجل إذا لم
يعلم وجوه اللغة وأحوال التنزيل، فليتعلم التفسير ويتكلَّف حفظه، ولا بأس بذلك
على سبيل الحكاية.. وبعد أن فرغ من المقدمة شرع فى التفسير.
تتبعتُ هذا
التفسير فوجدتُ صاحبه يفسِّر القرآن بالمأثور عن السَلَف، فيسوق الروايات عن
الصحابة والتابعين ومَنْ بعدهم فى التفسير، ولكنه لا يذكر إسناده إلى مَنْ يروى
عنه، ويندر سياقه للإسناد فى بعض الروايات، وقد لاحظتُ عليه أنه إذا ذكر
١
/ ١٦١
الأقوال والروايات المختلفة لا يُعقِّب عليها ولا
يُرَجَّح كما يفعل ابن جرير الطبرى - مثلًا - اللَّهم إلا فى حالات نادرة أيضًا،
وهو يعرض للقراءات ولكن بقدر، كما أنه يحتكم إلى اللغة أحيانًا ويشرح القرآن
بالقرآن إن وجد من الآيات القرآنية ما يوضح معنى آية أخرى، كما أنه يروى من القصص
الإسرائيلى، ولكن على قِلَّة وبدون تعقيب منه على ما يرويه، وكثيرًا ما يقول: قال
بعضهم كذا، وقال بعضهم كذا، ولا يُعيَّن هذا البعض. وهو يروى أحيانًا عن الضعفاء،
فيُخَرِّج من رواية الكلبى ومن رواية أسباط عن السدى، ومن رواية غيرهما ممن
تُكلِّم فيه، ووجدته يُوجِّه بعض إشكالات ترد على ظاهر النظم ثم يجيب عنها، كما
يعرض لموهم الاختلاف والتناقض فى القرآن ويزل هذا الإيهام.. وبالجملة، فالكتاب
قَيِّمٌ فى ذاته، جمع فيه صاحبه بين التفسير بالرواية والتفسير بالدراية إلا أنه
غلَّب الجانب النقلى فيه على الجانب العقلى، ولهذا عددناه ضمن كتب التفسير
المأثور.
* * *
١ / ١٦٢
٣- الكشف
والبيان عن تفسير القرآن (للثعلبى)
التعريف بمؤلف هذا التفسير:
مؤلف
هذا التفسير، هو أبو إسحاق أحمد بن إبراهيم الثعلبى النيسابورى المقرئ، المفسِّر،
كان حافظًا واعظًا، رأسًا فى التفسير والعربية، متين الديانة، قال ابن خلكان:
«كان أوحد زمانه فى علم التفسير، وصنَّف التفسير الكبير الذى فاق غيره من
التفاسير». وقال ياقوت فى معجم الأدباء: «أبو إسحاق الثعلبى، المقرئ، المفسِّر،
الواعظ، الأديب، الثقة، الحافظ، صاحب التصانيف الجليلة: من التفسير الحاوى أنواع
الفرائد من المعانى والإشارات، وكلمات أرباب الحقائق ووجوه الإعراب والقراءات..».
وله من المؤلَّفات كتاب العرائس فى قصص الأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين، وله
غير ذلك من المؤلفات. ونقل السمعانى عن بعض العلماء أنه يقال له «الثعلبى»
و«الثعالبى»، وهو لقب له وليس بنسب. وذكره عبد الغفار بن إسماعيل الفارسى فى كتاب
«سياق تاريخ نيسابور»، وأثنى عليه، وقال: هو صحيح النقل موثوق به. حدَّث عن أبى
طاهر بن خزيمة والإمام أبى بكر بن مهران المقرئ. وعنه أخذ أبو الحسن الواحدى
التفسير وأثنى عليه، وكان كثير الحديث كثير الشيوخ. ولكن هناك مِنَ العلماء مَنْ
يرى أنه لا يوثق به، ولا يصح نقله. وسنذكر بعض مَن يرى ذلك فيه ومقالاتهم عند
الكلام عن تفسيره هذا.. وقد توفى الثعلبى ﵀ سنة ٤٢٧ هـ (سبع وعشرين وأربعمائة) .
فرحمه الله وأرضاه.
* *
* التعريف بهذا التفسير وطريقة مؤلفه فيه:
ألقى
مؤلف هذا التفسير ضوءًا عليه فى مقدمته، وأوضح فيها عن منهجه وطريقته التى سلكها
فيه فذكر أولًا اختلافه منذ الصغر إلى العلماء، واجتهاده فى الاقتباس من علم
التفسير الذى هو أساس الدين ورأس العلوم الشرعية، ومواصلته ظلام الليل بضوء
الصباح بعزم أكيد وجهد جهيد، حتى رزقه الله ما عرف به الحق من الباطل، والمفضول
من الفاضل، والحديث من القديم، والبدعة من السُّنَّة، والحُجَّة من الشبهة، وظهر
له أن المصنفين فى تفسير القرآن فِرَق على طُرقٍ مختلفة:
فِرقة أهل البدع
والأهواء، وعَدَّ منهم الجبائى والرمَّانى.
١ / ١٦٣
وفِرقة
مَن ألَّفوا فأحسنوا، إلا أنهم خلطوا أباطيل المبتدعين بأقاويل السَلَف الصالحين،
وعَدَّ منهم أبا بكر القفَّال.
وفِرقة اقتصر أصحابها على الرواية والنقل دون
الدارية والنقد، وعَدَّ منهم أبا يعقوب إسحاق بن إبراهيم الحنظلى.
وفِرقة
حذفت الإسناد الذى هو الركن والعماد، ونقلت من الصحف والدفاتر، وحرَّرت على هوى
الخواطر، وذكرت الغثّ والسمين، والواهى والمتين، قال: وليسوا فى عِداد العلماء،
فصنتُ الكتاب عن ذكرهم.
وفِرقة حازوا قصب السبق، فى جودة التصنيف والحذق.
غير أنهم طوَّلوا فى كتبهم بالمعادات، وكثرة الطُرُق والروايات، وعَدَّ منهم ابن
جرير الطبرى. وفِرقة جرَّدت التفسير دون الأحكام، وبيان الحلال والحرام، والحل عن
الغوامض والمشكلات، والرد على أهل الزيغ والشبهات، كمشايخ السَلَف الماضين، مثل
مجاهد والسدى والكلبى.
ثم بيّن أنه لم يعثر فى كتب مَنْ تقدَّمه على كتاب
جامع مهذَّب يُعتمد.. ثم ذكر ما كان من رغبة الناس إليه فى إخراج كتاب فى تفسير
القرآن وإجابته لمطلوبهم، رعاية منه لحقوقهم، وتقربًا به إلى الله.. ثم قال:
«فاستخرتُ الله تعالى فى تصنيف كتاب شامل، مهذب، ملخص، مفهوم، منظوم، مستخرج من
زهاء مائة كتاب مجموعات مسموعات. سوى ما التقطته من التعليقات والأجزاء
المتفرقات، وتلقفته عن أقوام من المشايخ الأثبات، وهم قريب من ثلاثمائة شيخ،
نسَّقته بأبلغ ما قدرتُ عليه من الإيجاز والترتيب». ثم قال: وخرَّجت فيه الكلام
على أربعة عشر نحوًا: البسائط والمقدمات، والعدد والتنزلات، والقصص، والنزولات،
والوجوه والقراءات، والعلل والاحتجاجات، والعربية واللغات، والإعراب والموازنات،
والتفسير والتأويلات، والمعانى والجهات، والغوامض والمشكلات، والأحكام والفقهيات،
والحكم والإشارات، والفضائل والكرامات، والأخبار والمتعلقات، أدرجتها فى أثناء
الكتاب بحذف الأبواب، وسميته: كتاب «الكشف والبيان عن تفسير القرآن».. ثم ذكر فى
أول الكتاب أسانيده إلى مَنْ يروى عنهم التفسير من علماء السَلَف، واكتفى بذلك عن
ذكرها أثناء الكتاب، كما ذكر أسانيده إلى مصنفات أهل عصره - وهى كثيرة - وكتب
الغريب والمشكل والقراءات، ثم ذكر بابًا فى فضل القرآن وأهله، وبابًا فى معنى
التفسير والتأويل، ثم شرع فى التفسير.
عثرتُ على هذا التفسير بمكتبة الأزهر
فوجدته مخطوطًا غير كامل، وجدتُ منه
١ / ١٦٤
أربع
مجلدات ضخام - الأول والثانى والثالث والرابع -. والرابع ينتهى عند أواخر سورة
الفرقان، وباقى الكتاب مفقود لم أعثر عليه بحال.
قرأتُ فى هذا التفسير
فوجدته يُفسِّر القرآن بما جاء عن السَلَف، مع اختصاره للأسانيد، اكتفاءً بذكرها
فى مقدمة الكتاب، ولاحظتُ عليه أنه يعرض للمسائل النحوية ويخوض فيها بتوسع ظاهر،
فمثلًا عند تفسيره لقوله تعالى فى الآية [٩٠] من سورة البقرة: ﴿بِئْسَمَا اشتروا
بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَن يَكْفُرُواْ بِمَآ أنَزَلَ الله﴾ .. الآية، نجده يتوسع فى
الكلام على «نِعْمَ» و«بِئْسَ» ويفيض فى ذلك.
كما أنه يعرض لشرح الكلمات
اللغوية وأصولها وتصاريفها، ويستشهد على ما يقول بالشعر العربى، فمثلًا عند
تفسيره لقوله تعالى فى الآية [١٧١] من سورة البقرة: ﴿وَمَثَلُ الذين كَفَرُواْ
كَمَثَلِ الذي يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَآءً﴾ .. الآية، نجده يحلل
كلمة «ينعق» تحليلًا دقيقًا ويصرفها على وجوهها كلها.
ومثلًا عند تفسيره
لقوله تعالى فى الآية [١٧٣] من السورة نفسها: ﴿فَمَنِ اضطر غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ
عَادٍ﴾ ... الآية، نجده يحلل لفظ البغى ويتكلم عن أصل المادة بتوسع.
ومما
لاحظته على هذا التفسير أنه يتوسع فى الكلام عن الأحكام الفقهية عندما يتناول آية
من آيات الأحكام، فتراه يذكر الأقوال والخلافات والأدلة ويعرض للمسألة من جميع
نواحيها، إلى درجة أنه يخرج عما يُراد من الآية، انظر إليه عندما يعرض لقوله
تعالى فى الآية [١١] من سورة النساء: ﴿يُوصِيكُمُ الله في أَوْلاَدِكُمْ﴾ ..
الآية، تجده يفيض فى الكلام عما يُفعل بتركه الميت بعد موته، ثم يذكر جملة الورثة
والسهام المحددة، ومَنْ فرضه الرُبُع، ومَنْ فرضه الثُمُن، والثُلُثان، والثُلُث،
والسُدُس.. وهكذا، ثم يعرض لنصيب الجد والجدة والجدَّات، ثم يقول بعد هذا: «فصل
فى بساط الآية»، وفيه يتكلم عن نظام الميراث عند الجاهلية وقبل مبعث الرسول.
وارجع
إليه عند تفسيره لقوله تعالى فى الآية [٢٤] من سورة النساء: ﴿فَمَا استمتعتم بِهِ
مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً﴾، تجده قد توسَّع فى نكاح المتعة
وتعرَّض لأقوال العلماء، وذكر أدلتهم بتوسع ظاهر.
وارجع إليه عند تفسيره
لقوله تعالى فى الآية [٣١] من سورة النساء: ﴿إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا
تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ﴾ .. الآية، تجده يقول:
"فصل: فى أقاويل
١ / ١٦٥
أهل التأويل فى عدد
الكبائر، مجموعة من الكتاب والسُّنَّة، مقرونة بالدليل والحُجَّة».. ثم يسردها
جميعًا ويذكر أدلتها على وجه التفصيل.
وارجع إليه عند تفسيره لقوله تعالى فى
الآية [٤٣] من سورة النساء: ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ مرضى أَوْ على سَفَرٍ أَوْ جَآءَ
أَحَدٌ مِّنْكُمْ مِّن الغآئط أَوْ لاَمَسْتُمُ النسآء فَلَمْ تَجِدُواْ مَآءً
فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدًا طَيِّبًا﴾ .. الآية، تجده يعرض لأقوال السَلَف فى معنى
اللمس والملامسة.. ثم يقول: واختلف الفقهاء فى حكم الآية على خمسة مذاهب، ويتوسع
على الخصوص فى بيان مذهب الشافعى ويسرد أدلته، ويذكر تفصيل كيفية الملامسة عنده،
كما يعرض لأقوال العلماء فى التيمم ومذاهبهم وأدلتهم بتوسع ظاهر عندما يتكلم عن
قوله تعالى: ﴿فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدًا طَيِّبًا﴾ ...
وهكذا يتطرق الكتاب إلى
نواح علمية متعددة، فى إكثار وتطويل يكاد يخرج به عن دائرة التفسير بالمأثور.
ثم
إن هناك ناحية أخرى يمتاز بها هذا التفسير، هى التوسع إلى حد كبير فى ذكر
الإسرائيليات بدون أن يتعقب شيئًا من ذلك أو يُنبِّه على ما فيه رغم استبعاده
وغرابته، وقد قرأتُ فيه قصصًا إسرائيليًا نهاية فى الغرابة.
ويظهر لنا أن
الثعلبى كان مولعًا بالأخبار والقصص إلى درجة كبيرة، بدليل أنه ألَّف كتابًا
يشتمل على قصص الأنبياء، ولو أنك رجعت إليه عند تفسيره لقوله تعالى فى الآية [١٠]
من سورة الكهف: ﴿إِذْ أَوَى الفتية إِلَى الكهف﴾ .. الآية، لوجدته يروى عن السدى
ووهب وغيرهما كلامًا طويلًا فى أسماء أصحاب الكهف وعددهم، وسبب خروجهم إليه،
ولوجدته يروى عن كعب الأحبار، ما جرى لهم مع الكلب حين تبعهم إلى الغار، ولعجبتَ
حين تراه يروى أن النبى ﷺ طلب من ربه رؤية أصحاب الكهف فأجابه الله بأنه لن يراهم
فى دار الدنيا، وأمره بأن يبعث لهم أربعة من خيار أصحابه ليبلغوهم رسالته.. إلى
آخر القصة التى لا يكاد العقل يصدقها.
ثم ارجع إليه عند تفسيره لقوله تعالى
فى الآية [٩٤] من سورة الكهف أيضًا ﴿... إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ
فِي الأرض﴾ ... الآية، تجده قد أطال وذكر كلامًا لا يمكن أن يُقبل بحال، لأنه
أقرب إلى الخيال منه إلى الحقيقة.
ثم ارجع إليه عند تفسيره لقوله تعالى فى
الآية [٢٧] من سورة مريم: ﴿فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ﴾ .. الآية، تجده
يروى عن السدى ووهب وغيرهما قصصًا كثيرًا، وأخبارًا فى نهاية الغرابة
والبُعْد.
١ / ١٦٦
ثم إن الثعلبى لم يتحر
الصحة فى كل ما ينقل من تفاسير السَلَف، بل نجده - كما لاحظنا عليه وكما قال
السيوطى فى الإتقان - يكثر من الرواية عن السدى الصغير عن الكلبى عن أبى صالح عن
ابن عباس.
كذلك نجده قد وقع فيما وقع فيه كثير من المفسِّرين من الاغترار
بالأحاديث الموضوعة فى فضائل القرآن سورة سورة، فروى فى نهاية كل سورة حديثًا فى
فضلها منسوبًا إلى أُبَىّ بن كعب، كما اغتر بكثير من الأحاديث الموضوعة على ألسنة
الشيعة فسوَّد بها كتابه دون أن يشير إلى وضعها واختلاقها. وفى هذا ما يدل عن أن
الثعلبى لم يكن له باع فى معرفة صحيح الأخبار من سقيمها.
هذا.. وإن الثعلبى
قد جَرَّ على نفسه وعلى تفسيره بسبب هذه الكثرة من الإسرائيليات، وعدم الدقة فى
اختيار الأحاديث، اللوم المرير والنقد اللاذع من بعض العلماء الذين لاحظوا هذا
العيب على تفسيره، فقال ابن تيمية فى مقدمته فى أصول التفسير: «والثعلبى هو نفسه
كان فيه خير ودين، وكان حاطب ليل، ينقل ما وجد فى كتب التفسير من صحيح وضعيف
وموضوع».
وقال أيضًا فى فتاواه - وقد سئل عن بعض كتب التفسير: «وأما الواحدى
فإنه تلميذ الثعلبى، وهو أخبر منه بالعربية، لكن الثعلبى فيه سلامة من البدع وإن
ذكرها تقليدًا لغيره وتفسيره، وتفسير الواحدى البسيط والوسيط والوجيز فيها فوائد
جليلة، وفيها غث كثير من المنقولات الباطلة وغيرها».
ومَن يقرأ تفسير
الثعلبى يعلم أن ابن تيمية لم يتقوَّل عليه، ولم يصفه إلا بما هو فيه.
وقال
الكتانى فى الرسالة المستطرفة عند الكلام عن الواحدى المفسِّر: «ولم يكن له ولا
لشيخه الثعلبى كبير بضاعة فى الحديث، بل فى تفسيرهما - وخصوصًا الثعلبى - أحاديث
موضوعة وقصص باطلة».
والحق أن الثعلبى رجل قليل البضاعة فى الحديث، بل ولا
أكون قاسيًا عليه إذا قلت إنه لا يستطيع أن يميز الحديث الموضوع من غير الموضوع،
وإلا لما روى فى تفسيره أحاديث الشيعة الموضوعة على علىّ، وأهل البيت، وغيرها من
الأحاديث التى اشتهر وضعها، وحَذَّرَ العلماء من روايتها.
والعجب أن الثعلبى
بعد هذا كله يعيب كل كتب التفسير أو معظمها، حتى كتاب محمد بن جرير الطبرى الذى
شهد له خلق كثير، وليته إذ ادَّعى فى مقدمة
١ / ١٦٧
تفسيره
أنه لم يعثر فى كتب مَنْ تقدَّمه من المفسِّرين على كتاب جامع مهذَّب يُعتمد،
أخرج لنا كتابه خاليًا مما عاب عليه المفسِّرين.. ليته فعل ذلك.. إذن لكان قد
أراحنا وأراح الناس من هذا الخلط والخبط الذى لا يخلو منه موضع من كتابه.
٤-
معالم التنزيل (للبغوى)
* التعريف بمؤلف هذا التفسير:
مؤلف معالم
التنزيل هو أبو محمد، الحسين بن مسعود بن محمد المعروف بالفرَّاء البغوى، الفقيه،
الشافعى، المحدِّث، المفسِّر، الملقَّب بمحيى السُّنَّة وركن الدين. تفقه البغوى
على القاضى حسين وسمع الحديث منه، وكان تقيًا ورعًا، زاهدًا، قانعًا، إذا ألقى
الدرس لا يلقيه إلا على طهارة، وإذا أكل لا يأكل إلا الخبز وحده، ثم عدل عن ذلك
فصار يأكل الخبز مع الزيت. توفى ﵀ فى شوَّال سنة ٥١٠ هـ (عشر وخمسمائة من الهجرة)
بـ «مروروز» وقد جاوز الثمانين، ودُفِن عند شيخه القاضى حسين بمقبرة
الطالقانى.
* مبلغه من العلم:
كان البغوى إمامًا فى التفسير، إمامًا فى
الحديث، إمامًا فى الفقه، وعَدَّه التاج السبكى من علماء الشافعية الأعلام، وقال:
كان إمامًا جليلًا، ورعًا زاهدا فقيهًا، محدِّثًا مفسِّرًا، جامعًا بين العلم
والعمل، سالكًا سبيل السَلَف، وصنَّف فى تفسير كلام الله تعالى، وأوضح المشكلات
من قول النبى ﷺ، وروى الحديث واعتنى بدراسته، وصنَّف كتبًا كثيرة، فمن تصانيفه:
«معالم التنزيل فى التفسير»، وهو الذى ترجمنا له، وسنتكلم عنه، وشرح السُّنَّة فى
الحديث، والمصابيح فى الحديث أيضًا، والجمع بين الصحيحين، والتهذيب فى الفقه،
وغير ذلك، وقد بورك له فى تصانيفه ورِزُق فيها القبول لحسن نِيَّته.
*
التعريف بمعالم التنزيل وطريقة مؤلفه فيه:
قال فى كشف الظنون: "معالم
التنزيل فى التفسير، للإمام محيى السُّنَّة، أبى
١ / ١٦٨
محمد
حسين بن مسعود الفرَّاء البغوى الشافعى المتوفى سنة ٥١٦ هـ (ست عشرة وخمسمائة)،
وهو كتاب متوسط، نقل فيه عن مفسِّرى الصحابة والتابعين ومَن بعدهم، واختصره الشيخ
تاج الدين أبو نصرى عبد الوهاب بن محمد الحسينى المتوفى سنة ٨٧٥ هـ (خمس وسبعين
وثمانمائة)».
ووصفه الخازن فى مقدمة تفسيره بأنه: «من أجَّلِ المصنفات فى
علم التفسير وأعلاها، وأنبلها وأسناها، جامع للصحيح من الأقاويل، عار عن الشبُهِ
والتصحيف والتبديل، محلَّى بالأحاديث النبوية، مطرَّز بالأحكام الشرعية، موشَّى
بالقصص الغريبة، وأخبار الماضيين العجيبة، مرصَّع بأحسن الإشارات، مُخَرَّج بأوضح
العبارات، مُفَرَّغ فى قالب الجمال بأفصح مقال».
وقال ابن تيمية فى مقدمته
فى أصول التفسير: «والبغوى تفسيره مختصر من الثعلبى، لكنه صان تفسيره عن الأحاديث
الموضوعة والآراء المبتدعة».
وقال فى فتاواه - وقد سئل عن أى التفاسير أقرب
إلى الكتاب والسُّنَّة: الزمخشرى. أم القرطبى. أم البغوى أم غير هؤلاء؟؟ - قال:
«وأما التفاسير الثلاثة المسئول عنها، فأسلمها من البدعة والأحاديث الضعيفة
البغوى، لكنه مختصر من تفسير الثعلبى، وحذف منه الأحاديث الموضوعة والبدع التى
فيه، وحذف أشياء غير ذلك».
وقال الكتانى فى الرسالة المستطرفة (ص٥٨): «وقد
يوجد فيه - يعنى معالم التنزيل - من المعانى والحكايات ما يُحكم بضعفه أو
وضعه».
وقد طُبِع هذا التفسير فى نسخة واحدة مع تفسير ابن كثير القرشى
الدمشقى، كما طُبِعَ مع تفسير الخازن، وقد قرأتُ فيه فوجدته يتعرض لتفسير الآية
بلفظ سهل موجز، وينقل ما جاء عن السَلَف فى تفسيرها، وذلك بدون أن يذكر السند،
يكتفى فى ذلك بأن يقول مثلًا: قال ابن عباس كذا وكذا، وقال مجاهد كذا وكذا، وقال
عطاء كذا وكذا، والسر فى هذا هو أنه ذكر فى مقدمة تفسيره إسناده إلى كل مَن يروى
عنه. وبيَّن أن له طرقًا سواها تركها اختصارًا. ثم إنه إذا روى عمن ذكر أسانيده
إليهم بإسناد آخر غير الذى ذكره فى مقدمة تفسيره فإنه يذكره عند الرواية، كما
يذكر إسناده إذا روى عن غير مَنْ ذكر أسانيده إليهم مِنَ الصحابة والتابعين، كما
أنه - بحكم كونه مِنَ الحفَّاظ المتقنين للحديث - كان يتحرَّى الصحة فيما يسنده
إلى الرسول ﷺ، ويعرض
١ / ١٦٩
عن المناكير وما
لا تعلق له بالتفسير، وقد أوضح هذا فى مقدمة كتابه فقال: وما ذكرتُ من أحاديث
رسول الله ﷺ فى أثناء الكتاب على وفاق آية أو بيان حكم فإن الكتاب يُطلَب بيانه
من السُنَّة. وعليها مدار الشرع وأُمور الدين - فهى من الكتب المسموعة للحُفَّاظ
وأئمة الحديث، وأعرضتُ عن ذكر المناكير وما لا يليق بحال التفسير».
وقد
لاحظتُ على هذا التفسير أنه يروى عن الكلبى وغيره من الضعفاء، كما لاحظتُ أنه
يتعرض للقراءات، ولكن بدون إسراف منه فى ذلك، كما أنه يتحاشى ما ولع به كثير من
المفسِّرين من مباحث الإعراب، ونكت البلاغة، والاستطراد إلى علوم أخرى لا صلة لها
بعلم التفسير، وإن كان فى بعض الأحيان يتطرق إلى الصناعة النحوية ضرورة الكشف عن
المعنى، ولكنه مقل لا يكثر. ووجدته يذكر أحيانًا بعض الإسرائيليات ولا يُعَقِّب
عليها ووجدته يورد بعض إشكالات على ظاهر النظم ثم يجيب عنها، كما وجدته ينقل
الخلاف عن السَلَف فى التفسير ويذكر الروايات عنهم فى ذلك، ولا يُرَجِّح رواية
على رواية، ولا يُضَعِّف رواية ويُصحح أخرى.
وعلى العموم فالكتاب فى جملته
أحسن وأسلم من كثير من كتب التفسير بالمأثور وهو متداوَل بين أهل العلم.
* *
*
٥- المحرر الوجيز فى تفسير الكتاب العزيز (لابن عطية)
* التعريف
بمؤلف هذا التفسير:
مؤلف هذا التفسير هو أبو محمد عبد الحق بن غالب بن عطية
الأندلسى المغربى الغرناطى الحافظ القاضى. ولى القضاء بمدينة المرية بالأندلس
ولما تولَّى توخى الحق وعدل فى الحكم وأعز الخطة. ويقال: إنه قصد مرسية بالمغرب
ليتولى قضاءها، فصُدَّ عن دخولها، وصُرِف منها إلى الرقة بالمغرب، واعتُدى عليه
﵀، وكان مولده سنة ٤٨١ هـ (إحدى وثمانين وأربعمائة)، وتُوفى بالرِّقة سنة ٥٤٦ هـ
(ست وأربعين وخمسمائة من الهجرة)، وقيل غير ذلك.
* *
*
١
/ ١٧٠
مكانته العلمية:
نشأ القاضى أبو محمد بن عطية فى
بيت علم وفضل، فأبوه أبو بكر غالب بن عطية، إمام حافظ، وعالم جليل. رحل فى طلب
العلم وتفقه على العلماء. وجدَه عطية أنسل كثيرًا لهم قدر وفيهم فضل، فلا عجب إذن
أن يشبه الفرع أصله.
كان أبو محمد بن عطية غاية فى الدهاء والذكاء وحسن
الفهم وجلالة التصرف، شغوفًا باقتناء الكتب، وكان على مبلغ عظيم من العلم، فكان
فقيهًا جليلًا، عارفًا بالأحكام والحديث والتفسير، نحويًا لُغويًا، أديبًا
شاعرًا، مقيدًا ضابطًا، سُنِّيًا فاضلا. وصفه صاحب «قلائد العقيان» بالبراعة فى
الأدب، والنظم، والنثر، وذكر شيئًا من شِعره، ووصفه أبو حيان فى مقدمة البحر
المحيط بأنه: «أجَّل مَنْ صنَّف فى علم التفسير، وأفضل مَنْ تعرَّض فيه للتنقيح
والتحرير».
روى عن أبيه، وأبى علىّ الغسَّانى، والصفدى. وروى عنه أبو بكر
ابن أبى حمزة، وأبو القاسم بن حبيش، وأبو جعفر بن مضاء، وغيرهم.
وقد خلَّف
من المؤلفات كتاب التفسير، المسمى بـ «المحرر الوجيز فى تفسير الكتاب العزيز»،
وهو الكتاب الذى ترجمنا له وستتكلم عنه، كما ألَّف برنامجًا ضمنه مروياته وأسماء
شيوخه، وقد حرر هذا الكتاب وأجاد فيه.
وعلى الجملة، فالقاضى أبو محمد بن
عطية عالِم له شهرته العلمية فى نواح مختلفة، وقد عدَّه ابن فرحون فى «الديباج
المذهب» من أعيان مذهب المالكية، كما عدَّه السيوطى فى «بغية الوعاة» من شيوخ
النحو وأساطين النحاة.
* *
* التعريف بهذا التفسير وطريقة مؤلفه
فيه:
تفسير ابن عطية المسمى بـ «المحرر الوجيز فى تفسير الكتاب العزيز»
تفسير له
١ / ١٧١
قيمته العالية بين كتب
التفسير وعند جميع المفسِّرين، وذلك راجع إلى أن مؤلفه أضفى عليه من روحه العلمية
الفيّاضة ما أكسبه دقة، ورواجًا، وقبولًا. وقد لخصه مؤلفه - كما يقول ابن خلدون
فى مقدمته - من كتب التفاسير كلها - أى تفاسير المنقول - وتحرَّى ما هو أقرب إلى
الصحة منها، ووضع ذلك فى كتاب متداول بين أهل المغرب والأندلس، حسن المنحى».
والحق
أن ابن عطية أحسن فى هذا التفسير وأبدع، حتى طار صيته كل مطار، وصار أصدق شاهد
لمؤلفه بإمامته فى العربية وغيرها من النواحى العلمية المختلفة، ومع هذه الشهرة
الواسعة لهذا الكتاب فإنه لا يزال مخطوطًا إلى اليوم، وهو يقع فى عشر مجلدات
كبار، ويوجد منه فى دار الكتب المصرية أربعة أجزاء فقط: الجزء الثالث، والخامس،
والثامن، والعاشر. وقد رجعتُ إلى هذه الأجزاء وقرأتُ منها ما شاء الله أن أقرأ،
فوجدتُ المؤلف يذكر الآية ثم يفسِّرها بعبارة عذبة سهلة، ويورد من التفسير
المأثور ويختار منه فى غير إكثار، وينقل عن ابن جرير الطبرى كثيرًا، ويناقش
المنقول عنه أحيانًا، كما يناقش ما ينقله عن غير ابن جرير ويرد عليه. وهو كثير
الاستشهاد بالشعر العربى، مَعْنِى بالشواهد الأدبية للعبارات، كما أنه يحتكم إلى
اللغة العربية عندما يُوجه بعض المعانى، وهو كثير الاهتمام بالصناعة النحوية، كما
أنه يتعرض كثيرًا للقراءات ويُنزل عليها المعانى المختلفة.
ونجد أبا حيان فى
مقدمة تفسيره يعقد مقارنة بين تفسير ابن عطية وتفسير الزمخشرى فيقول: «وكتاب ابن
عطية أنقل، وأجمع، وأخلص، وكتاب الزمخشرى ألخص، وأغوص».
ونجد ابن تيمية يعقد
مقارنة بين الكتابين - كتاب ابن عطية وكتاب الزمخشرى - فى فتاواه فيقول: «وتفسير
ابن عطية خير من تفسير الزمخشرى، وأصح نقلًا وبحثًا، وأبعد عن البدع وإن اشتمل
على بعضها، بل هو خير منه بكثير، بل لعله أرجح هذه التفاسير». كما يعقد مثل هذه
المقارنة فى مقدمته فى أصول التفسير فيقول: "وتفسير ابن عطية وأمثاله أتبع
للسُّنَّة والجماعة، وأسلم من البدعة من تفسير الزمخشرى، ولو ذكر كلام السَلَف
الموجود فى التفاسير المأثورة عنهم على وجهه لكان أحسن وأجمل، فإنه كثيرًا ما
ينقل من تفسير محمد بن جرير الطبرى - وهو من أجَّلِ التفاسير وأعظمها قدرًا - ثم
إنه يدع ما نقله ابن جرير عن السَلَف لا يحكيه بحَال، ويذكر ما يزعم أنه قول
المحققين، وإنما يعنى بهم طائفة من أهل الكلام الذين قرروا
١ /
١٧٢
أصولهم بطرق من جنس ما قررت به المعتزلة أصولهم، وإن كان
أقرب إلى السُّنَّة من المعتزلة».
وأنا فى أثناء قراءتى فى هذا التفسير،
رأيت ابن عطية عند تفسيره لقوله تعالى فى الآية [٢٦] من سورة يونس: ﴿لِّلَّذِينَ
أَحْسَنُواْ الحسنى وَزِيَادَةٌ﴾ .. يقول ما نصه: «قالت فرقة هى الجمهور:
الحُسنى: الجنة. والزيادة: النظر إلى الله ﷿، ورُوى فى ذلك حديث عن النبى ﷺ، رواه
صهيب، ورُوى هذا القول عن أبى بكر الصِدِّيق، وحُذيفة، وأبى موسى الأشعرى..».
ثم
يقول: «وقالت فرقة: الحُسنى هى الحسنة، والزيادة هى تضعيف الحسنات إلى سبعمائة،
فروتها حسب ما روى فى نص الحديث وتفسير قوله تعالى: ﴿يُضَاعِفُ لِمَن يَشَآءُ﴾
[البقرة: ٢٦١] ..، وهذا قول يعضده النظر، ولولا عظم القائلين بالقول الأول لترجح
هذا القول».. ثم يأخذ فى ذكر طرق الترجيح للقول الثانى.
وهذا يدلنا على أنه
يميل إليه المعتزلة، أو على الأقل يقدِّر ما ذهبت إليه المعتزلة فى مسألة الرؤية
وإن كان يحترم مع ذلك رأى الجمهور. ولعل مثل هذا التصرف من ابن عطية هو الذى جعل
ابن تيمية يحكم عليه بحكمه السابق.
* * *
٦- تفسير القرآن العظيم (لابن
كثير)
* التعريف بمؤلف هذا التفسير:
مؤلف هذا التفسير، هو الإمام
الجليل الحافظ، عماد الدين، أبو الفداء، إسماعيل بن عمرو بن كثير من ضوء بن كثير
بن زرع البصرى ثم الدمشقى، الفقيه الشافعى، قَدِم دمشق وله سبع سنين مع أخيه بعد
موت أبيه. سمع من ابن الشجنة، والآمدى، وابن عساكر، وغيرهم، كما لازم المزى وقرأ
عليه تهذيب الكمال، وصاهره على ابنته. وأخذ عن ابن تيمية، وفُتِن بحبه، وامتُحِن
بسببه. وذكر ابن قاضى شهبة فى طبقاته: أنه كانت له خصوصية بابن تيمية، ومناضلة
عنه، واتباع له فى كثير من آرائه، وكان يفتى برأيه فى مسألة الطلاق وامتُحِن بسبب
ذلك وأُوذِى.
وقال الداودى فى طبقات المفسِّرين: «كان قدوة العلماء
والحُفَّاظ، وعمدة أهل المعانى والألفاظ، وَلِىَ مشيخة أم الصالح بعد موت الذهبى
- وبعد موت السبكى مشيخة الحديث الأشرفية مدة يسيرة، ثم أُخِذت منه».
وكان
مولده سن ٧٠٠ هـ (سبعمائة) أو بعدها بقليل وتوفى فى شعبان سنة ٧٧٤
١
/ ١٧٣
هـ (أربع وسبعين وسعبمائة من الهجرة)، ودُفِن بمقبرة
الصوفية عند شيخه ابن تيمية، وكان قد كفَّ بصره فى آخر عمره. ﵀ رحمة واسعة.
*
*
* مكانته العلمية:
كان ابن كثير على مبلغ عظيم من العلم، وقد شهد له
العلماء بسعة علمه، وغزارة مادته، خصوصًا فى التفسير والحديث والتاريخ. قال عنه
ابن حجر: «اشتغل بالحديث مطالعة فى متونه ورجاله، وجمع التفسير، وشرع فى كتاب
كبير فى الأحكام لم يكمل، وجمع التاريخ الذى سمَّاه البداية والنهاية، وعمل طبقات
الشافعية، وشرع فى شرح البخارى.. وكان كثير الاستحضار، حسن المفاكهة، وصارت
تصانيفه فى البلاد فى حياته، وانتفع بها الناس بعد وفاته، ولم يكن على طريق
المحدِّثين فى تحصيل العوالى، وتمييز العالى من النازل، ونحو ذلك من فنونهم،
وإنما هو من محدِّثى الفقهاء، وقد اختصر مع ذلك كتاب ابن الصلاح، وله فيه فوائد».
وقال الذهبى عنه فى المعجم المختص: «الإمام المفتى، المحدِّث البارع، فقيه متفنن،
مُحَدِّث متقن، مُفَسِّر نقَّال، وله تصانيف مفيدة»، وذكره صاحب شذرات الذهب
فقال: «كان كثير الاستحضار، قليل النسيان، جيد الفهم»، وقال ابن حبيب فيه: «زعيم
أرباب التأويل، سمع وجمع وصنَّف، وأطرب الأسماع بالفتوى وشنَّف، وحدَّث وأفاد،
وطارت أوراق فتاويه فى البلاد، واشتهر بالضبط والتحرير، وانتهت إليه رياسة العلم
فى التاريخ والحديث والتفسير»، وقال فيه أحد تلاميذه ابن حجى: «أحفظ مَنْ أدركناه
لمتون الحديث، وأعرفهم بجرحها ورجالها، وصحيحها وسقيمها، وكان أقرانه وشيوخه
يعترفون له بذلك، وما أعرف أنى اجتمعتُ به على كثرة ترددى عليه إلا واستفدتُ
منه»..
وعلى الجملة.. فعلم ابن كثير يتجلى بوضوح لمن يقرأ تفسيره أو تاريخه،
وهما من خير ما ألَّف، وأجود ما أخرج الناس.
* *
* التعريف بهذا
التفسير وطريقة مؤلفه فيه:
تفسير ابن كثير من أشهر ما دُوِّن فى التفسير
المأثور، ويُعتبر فى هذه الناحية الكتاب الثانى بعد كتاب ابن جرير. اعتنى فيه
مؤلفه بالرواية عن مفسِّرى السَلَف، ففسَّر فيه كلام الله تعالى بالأحاديث
والآثار مسندة إلى أصحابها، مع الكلام عما يحتاج إليه جرحًا وتعديلًا. وقد طُبِع
هذا التفسير مع معالم التفسير للبغوى، ثم طُبِع مستقلًا فى أربعة أجزاء كبار.
وقد
قدَّم له مؤلفه بمقدمة طويلة هامة، تعرَّض فيها لكثير من الأُمور التى لها
تعلق
١ / ١٧٤
واتصال بالقرآن وتفسيره، ولكن
أغلب هذه المقدمة مأخوذ بنصه من كلام شيخه ابن تيمية الذى ذكره فى مقدمته فى أصول
التفسير.
ولقد قرأتُ فى هذا التفسير فوجدته يمتاز فى طريقته بأنه يذكر
الآية، ثم يُفسِّرها بعبارة سهلة موجزة، وإن أمكن توضيح الآية بآية أخرى ذكرها
وقارن بين الآيتين حتى يتبين المعنى ويظهر المراد، وهو شديد العناية بهذا النوع
من التفسير الذى يسمونه تفسير القرآن بالقرآن، وهذا الكتاب أكثر ما عُرِف من كتب
التفسير سردًا للآيات المتناسبة فى المعنى الواحد.
ثم بعد أن يفرغ من هذا
كله، يشرع فى سرد الأحاديث المرفوعة التى تتعلق بالآية، ويبين ما يُحتَج به وما
لا يُحتَج به منها، ثم يردف هذا بأقوال الصحابة والتابعين ومَن يليهم من علماء
السَلَف.
ونجد ابن كثير يُرَجِّح بعض الأقوال على بعض، ويُضَعِّف بعض
الروايات، ويُصحِّح بعضًا آخر منها، ويُعَدِّل بعض الرواة ويُجَرِّح بعضًا آخر.
وهذا يرجع إلى ما كان عليه من المعرفة بفنون الحديث وأحوال الرجال.
وكثيرًا
ما نجد ابن كثير ينقل من تفسير ابن جرير، وابن أبى حاتم، وتفسير ابن عطية، وغيرهم
ممن تقدَّمه.
ومما يمتاز به ابن كثير، أنه يُنَبِّه إلى ما فى التفسير
المأثور من منكرات الإسرائيليات، ويُحَذِّر منها على وجه الإجمال تارة، وعلى وجه
التعيين والبيان لبعض منكراتها تارة أخرى.
فمثلًا عند تفسيره لقوله تعالى فى
الآية [٦٧] وما بعدها من سورة البقرة: ﴿إِنَّ الله يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ
بَقَرَةً ...﴾ .. إلى آخر القصة، نراه يقص لنا قصة طويلة وغريبة عن طلبهم للبقرة
المخصوصة، وعن وجودهم لها عند رجل من بنى إسرائيل كان من أَبَرِّ الناس بأبيه..
إلخ، ويروى كل ما قيل من ذلك عن بعض علماء السَلَف:. ثم بعد أن يفرغ من هذا كله
يقول ما نصه: «وهذه السياقات عن عبيدة وأبى العالية والسدىّ وغيرهم، فيها اختلاف،
والظاهر أنها مأخوذة من كتب بنى إسرائيل، وهى مما يجوز نقلها ولكن لا تُصَدَّق
ولا تُكَذَّب، فلهذا لا يُعتمد عليها إلا ما وافق الحق عندنا. والله أعلم».
١
/ ١٧٥
ومثلًا عند تفسيره لأول سورة «ق» نراه يعرض لمعنى هذا
الحرف فى أول السورة «ق» ويقول: «.. وقد روى عن بعض السَلَف أنهم قالوا:»ق«جبل
محيط بجميع الأرض يقال له جبل قاف، وكأن هذا - والله أعلم - من خرافات بنى
إسرائيل التى أخذها عنهم مما لا يُصدَّق ولا يُكَذَّب، وعندى أن هذا وأمثاله
وأشباهه من اختلاق بعض زنادقتهم، يُلَبِّسون به على الناس أمر دينهم، كما افترى
فى هذه الأُمَّة مع جلالة قدر علمائها وحُفَّاظها وأئمتها أحاديث عن النبى ﷺ، وما
بالعهد من قِدَم، فكيف بأُمَّه بنى إسرائيل مع طول المدى وقِلَّة الحُفَّاظ
النُقَّاد فيهم، وشربهم الخمور وتحريف علمائهم الكلم عن مواضعه، وتبديل كتب الله
وآياته؟ وإنما أباح الشارع الرواية عنهم فى قوله:»وحدِّثوا عن بنى إسرائيل ولا
حَرَج«فيما قد يُجَوِّزه العقل، فأما فيما تحيله العقول، ويُحكم فيه بالبطلان،
ويغلب على الظنون كذبه، فليس من هذا القبيل. والله أعلم».
كما نلاحظ على ابن
كثير أنه يدخل فى المناقشات الفقهية، ويذكر أقوال العلماء وأدلتهم عندما يشرح آية
من آيات الأحكام، وإن شئتَ أن ترى مثالًا لذلك فارجع إليه عند تفسير قوله تعالى
فى الآية [١٨٥] من سورة البقرة: ﴿... فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ
فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ على سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ
أُخَرَ﴾ .. الآية، فإنه ذكر أربع مسائل تتعلق بهذه الآية، وذكر أقوال العلّماء
فيها، وأدلتهم على ما ذهبوا إليه، وارجع إليه عند تفسير قوله تعالى فى الآية
[٢٣٠] من سورة البقرة أيضًا: ﴿فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ
حتى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ﴾ .. الآية، فإنه قد تعرَّض لما يُشترط فى نكاح
الزوج المحلِّل، وذكر أقوال العلماء وأدلَّتهم.
وهكذا يدخل ابن كثير فى
خلافات الفقهاء، ويخوض فى مذاهبهم وأدلَّتهم كلما تكلَّم عن آية لها تعلق
بالأحكام، ولكنه مع هذا مقتصد مُقِلٌ لا يُسرف كما أسرف غيره من فقهاء
المفسِّرين.
وبالجملة.. فإن هذا التفسير من خير كتب التفسير بالمأثور، وقد
شهد له بعض العلماء فقال السيوطى فى ذيل «تذكرة الحفَّاظ» والزرقانى فى «شرح
المواهب»: إنه لم يُؤَلَّف على نمطه مثله.
* * *
١ /
١٧٦
٧ - الجواهر الحسان فى تفسير القرآن (للثعالبى)
*
التعريف بمؤلف هذا التفسير:
مؤلف الجواهر الحسان، هو أبو زيد عبد الرحمن بن
محمد بن مخلوف الثعالبى، الجزائرى، المغربى، المالكى، الإمام الحُجَّة، العالِم
العامل، الزاهد الورع، ولىُّ الله الصالح العارف بالله. كان من أولياء الله
المعرضين عن الدنيا وأهلها، ومن خيار عباد الله الصالحين. قال ابن سلامة الكبرى:
كان شيخنا الثعالبى رجلًا صالحًا، زاهدًا عالمًا، عارفًا، وليًا من أكابر
الأولياء. وبالجملة فقد اتفق الناس على صلاحه وإمامته، وأثنى عليه جماعة من شيوخه
بالعلم والدين والصلاح، كالإمام الأبىّ، والولىّ العراقى، وغيرهما. وقد عرَّف هو
بنفسه فى مواضع من كتبه، وبيَّن أنه رحل من الجزائر لطلب العلم فى آخر القرن
الثامن فدخل بجاية، ثم تونس، ثم رحل إلى مصر، ثم رجع إلى تونس، ويقول هو: لم يكن
بتونس يومئذ مَن يفوتنى فى علم الحديث، إذا تكلمت أنصتوا وقبلوا ما أرويه،
تواضعًا منهم وإنصافًا، واعترفًا بالحق، وكان بعض المغاربة يقول لى لما قدمت من
المشرق: أنت آية فى علم الحديث. وذكر كل شيوخه الذين سمع منهم فى تلك البلاد.
وكان
الثعالبى إمامًا علاَّمة مُصَنِّفًا، خلَّف للناس كُتبًا كثيرة نافعة، منها:
«الجواهر الحسان فى تفسير القرآن» وهو التفسير الذى نحن بصدده، وكتاب الذهب
الإبريز فى غرائب القرآن العزيز، وتحفة الإخوان فى إعراب بعض آيات القرآن، وكتاب
جامع الأُمهات فى أحكام العبادات، وغير ذلك من الكتب النافعة فى نواح علمية
مختلفة. وكانت وفاته سنة ٨٧٦هـ (ست وسبعين وثمانمائة من الهجرة) أو فى أواخر التى
قبلها، عن نحو تسعين سنة، ودفن بمدينة الجزائر، فرحمه الله ورضى عنه.
*
التعريف بهذا التفسير وطريقة مؤلفه فيه:
نستطيع أن نأخذ فكرة عامة واضحة عن
هذا التفسير من كلام مؤلِّفه نفسه الذى ذكره فى مقدمته وخاتمته. يقول الثعالبى ﵀
فى مقدمة تفسيره بعد حمد الله والصلاة والسلام على رسول الله: "فإنى قد جمعت
لنفسى ولك فى هذا المختصر ما أرجو أن يقر الله به عينى وعينك فى الدارين، فقد
ضمَّنته بحمد الله المهم مما اشتمل عليه تفسير ابن عطية، وزدته فوائد جمَّة، من
غيره من كتب الأئمة، وثقات أعلام
١ / ١٧٧
هذه
الأُمَّة، حسبما رأيته أو رُوِيته عن الإثبات وذلك قريب من مائة تأليف، وما فيها
تأليف إلا وهو لإمام مشهور بالدين ومعدود فى المحققين، وكل مَنْ نقلت عنه من
المفسِّرين شيئًا فمن تأليفه نقلت، وعلى لفظ صاحبه عوَّلت، ولم أنقل شيئًا من ذلك
بالمعنى خوف الوقوع فى الزلل، وإنما هى عبارات وألفاظ لمن أعزوها إليه، وما
انفردتُ بنقله عن الطبرى، فمن اختصار الشيخ أبى عبد الله محمد ابن عبد الله بن
أحمد اللخمى النحوى لتفسير الطبرى نقلت، لأنه اعتنى بتهزيبه«.
ثم أبان
المؤلف عن رموز الكتاب فقال:»وكل ما فى آخره: «انتهى» فليس هو من كلام ابن عطية،
بل ذلك مما انفردتُ بنقله من غيره، ومَنْ أشكل عليه لفظ فى هذا المختصر فليراجع
الأُمهات المنقول عنها فليصلحه منها، ولا يصلحه برأيه وبديهة عقله فيقع فى الزلل
من حيث لا يشعر. وجعلتُ علامة «التاء» لنفسى بدلًا من: «قلت»، ومَنْ شاء كتبها:
قلت. وأما «العين» فلابن عطية. وما نقلته من الإعراب عن غير ابن عطية فمن
الصفاقصى مختصر أبى حيان غالبًا. وجعلت «الصاد» علامة عليه، وربما نقلتُ عن غيره
معزوًا لمن عنه نقلت. وكل ما نقلته عن أبى حيان - وإنما نقلى له بواسطة الصفاقصى
- أقول: قال الصفاقصى: وجعلت علامة ما زدته على أبى حيان «م» وما يتفق لى إن أمكن
فعلامته: «قلت».. وبالجملة فحيث أطلق، فالكلام لأبى حيان.. «
ثم قال:»وما
نقلته من الأحاديث الصحاح والحسان عن غير البخارى ومسلم وأبى داود والترمذى فى
باب الأذكار والدعوات، فأكثره من النووى وسلاح المؤمن. وفى الترغيب والترهيب
وأصول الآخرة، فمعظمه من التذكرة للقرطبى، والعاقبة لعبد الحق. وربما زدتُ زيادة
كثيرة من مصابيح البغوى وغيره، كما ستقف إن شاء الله تعالى على كل ذلك معزوًا
لمحاله. وبالجملة فكتابى هذا محشو بنفائس الحِكَم، وجواهر السُنن الصحيحة،
والحِسان المأثورة عن سيدنا محمد ﷺ. وسميته بالجواهر الحسان فى تفسير القرآن«.
ثم
نقل مما جاء فى مقدمة تفسير ابن عطية، فذكر بابًا فى فضل القرآن، وبابًا فى فضل
تفسير القرآن وإعرابه، وفصلًا فيما قيل فى الكلام فيه، والجرأة عليه، ومراتب
المفسِّرين، وفصلًا فى اختلاف الناس فى معنى قوله ﷺ:»أُنزِل القرآن على سبعة
أحرف"، وفصلًا فى ذكر الألفاظ التى فى القرآن مما للغات العجم بها تعلق، وبابًا
فى تفسير أسماء القرآن وذكر السورة والآية.. ثم شرع فى التفسير بعد ذلك كله، وفى
كل ما تقدَّم يعتمد على ابن عطية وينقل عنه.
١ / ١٧٨
وفى
خاتمة التفسير يقول: «وقد أودعته بحمد الله جزيلًا من الدرر، وقد استوعبتُ بحمد
الله مهمات ابن عطية، وأسقطتُ كثيرًا من التكرار وما كان من الشواذ فى غاية
الوهى، وزدتُ من غيره جواهر ونفائس لا يُستغنى عنها، مميَّزة معزوَّة لمحالها،
منقولة بألفاظها، وتوخيتُ فى جميع ذلك الصِّدق والصواب».
هذا هو وصف المؤلف
لكتابه وبيانه له، ومنه يضح جليًا أن الكتاب عبارة عن مختصر لتفسير ابن عطية، مع
زيادة نُقُول نقلها الثعالبى عمَّن سبقه من المفسِّرين، ومن أجل هذا نستطيع أن
نقول: إن الثعالبى فى تفسيره هذا ليس له بعد الجمع والترتيب إلا عمل قليل، وأثر
فكرى ضئيل.
والكتاب مطبوع فى الجزائر فى أربعة أجزاء، وتوجد منه نسخة بدار
الكتب المصرية، وأخرى بالمكتبة الأزهرية، وفى آخر الكتاب معجم مختصر فى شرح ما
وقع فيه من الألفاظ الغريبة، ألحقه به مؤلفه، وزاد فيه كلمات أخرى وردت فى غيره
يُحتاج إلى معرفتها، وجُلَّها مما جاء فى الموطأ وصحيحى البخارى، ومسلم وغيرهما
من الكتب الستة، وبعد هذا ذكر الثعالبى مرائيه التى رأى فيها النبى ﷺ.
وقد
قرأت فى هذا التفسير فلاحظتُ أنه التزم ما ذكره فى مقدمته، فنقل عمَّن ذكرهم،
ورمز إليهم بالحروف المذكورة، ووجدته يتعرض للقراءات أحيانًا، ويدخل فى الصناعة
النحوية ناقلًا عمَّن ذكره ومِنْ عند نفسه، ورأيته يستشهد فى بعض المواضع بالشعر
العربى على المعنى الذى يذكره، وهو إذ يذكر الروايات المأثورة فى التفسير يذكرها
بدون أن يذكر سنده إلى مَن يروى عنه، وقد وجدتُ الثعالبى يذكر بعض الروايات
الإسرائيلية، ولكنه يتعقب ما يذكره بما يفيد عدم صحته، أو على الأقل بما يفيد عدم
القطع بصحته، فمثلًا عند تفسيره لقوله تعالى فى الآية [٢٠] من سورة النمل:
﴿وَتَفَقَّدَ الطير فَقَالَ مَالِيَ لاَ أَرَى الهدهد أَمْ كَانَ مِنَ الغآئبين﴾
نجده يذكر بعض الأخبار الإسرائيلية، ثم يقول بعد الفراغ منها: «والله أعلم بما
صحَّ من ذلك»، ومثلًا عندما تكلم عن «بلقيس» فى نفس السورة السابقة نجده يقول:
«وأكثرَ بعض الناس فى قصصها بما رأيتُ اختصاره لعدم صحته، وإنما اللازم من الآية،
أنها امرأة ملكة على مدائن اليمن، ذات مُلْك عظيم، وكانت كافرة من قوم
كُفَّار».
وجملة القول.. فإن الكتاب مفيد، جامع لخلاصات كتب مفيدة، وليس فيه
ما فى غيره من الحشو المُخِل، والاستطراد المُمِل.
* * *
١
/ ١٧٩
٨ - الدُرُّ المنثور فى التفسير المأثور (للسيوطى)
*
التعريف بمؤلف هذا التفسير:
مؤلف هذا التفسير هو الحافظ جلال الدين أبو
الفضل عبد الرحمن بن أبى بكر بن محمد، السيوطى الشافعى، المسند المحقق، صاحب
المؤلفات الفائقة النافعة، وِلُد فى رجب سنة ٨٤٩ هـ (تسع وأربعين وثمانمائة)،
وتوفى والده وله من العمر خمس سنوات وسبعة أشهر، وأسند وصايته إلى جماعة، منهم
الكمال بن الهمام، فقرره فى وظيفة الشيخونية ولحظه بنظره، وختم القرآن وله من
العمر ثمان سنين، وحفظ كثيرًا من المتون، وأخذ عن شيوخ كثيرين، عدّهم تلميذه
الداودى فبلغ بهم واحدًا وخمسين، كما عَدَّ مؤلفاته فبلغ بها ما يزيد على
الخمسمائة مُؤلَّف، وشهرة مؤلفاته تُغنى عن ذكرها، فقد اشتهرت شرقًا وغربًا،
ورُزِقت قبول الناس. وكان السيوطى ﵀ آية فى سرعة التأليف حتى قال تلميذه الداودى:
عاينتُ الشيخ وقد كتب فى يوم واحد ثلاثة كراريس تأليفًا وتحريرًا.
وكان أعلم
أهل زمانه بعلم الحديث وفنونه، رجالًا، وغريبًا، ومتنًا، وسندًا، واستنباطًا
للأحكام. ولقد أخبر عن نفسه أنه يحفظ مائتى ألف حديث، قال: لو وجدتُ أكثر لحفظت.
ولما بلغ الأربعين سنة تجرَّد للعبادة، وانقطع إلى الله تعالى، وأعرض عن الدنيا
وأهلها، وترك الإفتاء والتدريس، واعتذر عن ذلك فى مُؤلَّف سمَّاه بـ «التنفيس»،
وأقام فى روضة المقياس ولم يتحوَّل عنها إلى أن مات. وله مناقب وكرامات كثيرة.
وله شعر كثير جيد، أغلبه فى الفوائد العلمية، والأحكام الشرعية. وتوفى فى سَحَر
ليلة الجمعة تاسع عشر جمادى الأولى سنة ٩١١ هـ (إحدى عشرة وتسعمائة) فى منزله
بروضة المقياس، فرضى الله عنه وأرضاه.
* *
التعريف بهذا التفسير وطريقة
مؤلفه فيه:
عرَّف الجلال السيوطى نفسه هذا التفسير، وبيَّن لنا الحامل له
على تأليفه، وذلك بمجموع ما ذكره فى آخر كتاب الإتقان له، وما ذكره فى مقدمة
الدُرّ المنثور نفسه، فقال فى آخر الإتقان (٢/ ١٨٣): «وقد جمعت كتابًا مسندًا فيه
تفاسير النبى ﷺ، فيه بضعة عشر ألف حديث ما بين مرفوع وموقوف، وقد تم ولله الحمد
فى أربع مجلدات، وسميته»ترجمان القرآن«.
وقال فى مقدمة الدُرِّ المنثور
(١/٢):»وبعد.. فلما ألفَّتُ كتاب ترجمان القرآن - وهو التفسير المُسْنَد عن رسول
الله ﷺ وتم بحمد الله فى مجلدات، فكان ما أوردته فيه من الآثار بأسانيد الكتب
المخرَّجة منها واردات، رأيتُ قصور أكثر
١ / ١٨٠
الهمم
عن تحصيله، ورغبتهم فى الاقتصار على متون الأحاديث دون الإسناد وتطويله، فلخَّصتُ
منه هذا المختصر، مقتصرًا فيه على متن الأثر، مصدرًا بالعزو والتخريج إلى كل كتاب
معتبر، وسميته بالدُرِّ المنثور، فى التفسير المأثور».
ومن هاتين العبارتين
يتبين لنا أن السيوطى اختصر كتابه الدُرّ المنثور من كتابه ترجمان القرآن، وحذف
الأسانيد مخافة الملل، مع عزوه كل رواية إلى الكتاب الذى أخذها منه.
ويقول
السيوطى فى آخر الإتقان (٣/ ١٩٠): «وقد شرعتُ فى تفسير جامع لجميع ما يُحتاج إليه
من التفاسير المنقولة، والأقوال المعقولة، والاستنباطات والإشارات، والأعاريب
واللغات، ونكت البلاغة ومحاسن البدائع وغير ذلك، بحيث لا يُحتاج معه إلى غيره
أصلًا، وسميته بمجمع البحرين ومطلع البدرين، وهو الذى جعلت هذا الكتاب - يعنى
الإتقان مقدمة له».
ومن هذه العبارة يتبين لنا أن كتاب: «مجمع البحرين،
ومطلع البدرين» يشبه فى منهجه وطريقته - إلى حد كبير - تفسير ابن جرير الطبرى،
ولكن لا ندرى إذا كان السيوطى قد أتم هذا التفسير أم لا، ويظهر لنا أنه لا صلة
بينه وبين كتاب الدُرّ المنثور، وذلك لأنى استعرضتُ كتاب الدُرّ المنثور فوجدته
لا يتعرض فيه مطلقًا لما ذكره من منهجه فى مجمع البحرين ومطلع البدرين، فلا
استنباط، ولا إعراب، ولا نكات بلاغية، ولا مُحَسِّنات بديعية، ولا شئ مما ذكر أنه
سيعرض له فى مجمع البحرين ومطلع البدرين، وكل ما فيه هو سرد الروايات عن السَلَف
فى التفسير بدون أن يُعقِّب عليها، فلا يُعَدِّل ولا يُجَرِّح، ولا يُضَعِّف ولا
يُصَحِّح، فهو كتاب جامع فقط لما يُروى عن السَلَف فى التفسير، أخذه السيوطى من
البخارى، ومسلم، والنسائى، والترمذى، وأحمد، وأبى داود، وابن جرير، وابن أبى
حاتم، وعبد ابن حميد، وابن أبى الدنيا، وغيرهم ممن تَقدَّمه ودَوَّن التفسير.
والسيوطى
رجل مُغرم بالجمع وكثرة الرواية، وهو مع جلالة قدره، ومعرفته بالحديث وعلله، لم
يتحر الصحة فيما جمع فى هذا التفسير، وإنما خلط فيه بين الصحيح والعليل، فالكتاب
يحتاج إلى تصفية حتى يتميز لنا عثه من سمينه، وهو مطبوع فى ست مجلدات، ومتداوَل
بين أهل العلم.
ولا يفوتنا هنا أن ننبه إلى أن كتاب الدُرّ المنثور، هو
الكتاب الوحيد الذى اقتصر على التفسير المأثور من بين هذه الكتب التى تكلمنا
عنها، فلم يخلط بالروايات التى نقلها شيئًا من عمل الرأى كما فعل غيره.
وإنما
اعتبرنا كل هذه الكتب من كتب التفسير بالمأثور، نظرًا لما امتازت به عمَّا
١
/ ١٨١
عداها من الإكثار فى النقل، والاعتماد على الرواية، وما
كان وراء ذلك من محاولات تفسيرية أو استطردات إلى نواح تتصل بالتفسير، فذلك أمر
يكاد يكون ثانويًا بالنسبة لما جاء فيها من روايات عن السَلَف فى التفسير.
وإلى
هنا نمسك عن الكلام عن بقية الكتب المؤلَّفة فى التفسير المأثور لما قدّمناه من
عدم وصول جميعها إلينا، ومن مخافة التطويل.. ولعل القارئ الكريم يتفق معى على أن
هذه الكتب التى تقدَّمت، يغنى الكلام عنها عن الكلام عما عداها من الكتب التى
نهجت هذا المنهج وسلكت هذا الطريق.
* * *
١ / ١٨٢
التفسير بالرأى وما يتعلق به من مباحث
*معنى التفسير بالرأى:
يُطلق الرأى على الاعتقاد، وعلى
الاجتهاد، وعلى القياس، ومنه: أصحاب الرأى: أى أصحاب القياس.
والمراد بالرأى
هنا «الاجتهاد» وعليه فالتفسير بالرأى، عبارة عن تفسير القرآن بالاجتهاد بعد
معرفة المفسِّر لكلام العرب ومناحيهم فى القول، ومعرفته للألفاظ العربية ووجوه
دلالاتها، واستعانته فى ذلك بالشعر الجاهلى ووقوفه على أسباب النزول، ومعرفته
بالناسخ والمنسوخ من آيات القرآن، وغير ذلك من الأدوات التى يحتاج إليها
المفسِّر، وسنذكرها قريبًا إن شاء الله تعالى.
* موقف العلماء من التفسير
بالرأى:
اختلف العلماء من قديم الزمان فى جواز تفسير القرآن بالرأى، ووقف
المفسِّرون بإزاء هذا الموضوع موقفين متعارضين:
فقوم تشدَّدوا فى ذلك فلم
يجرءوا على تفسير شئ من القرآن، ولم يبيحوه لغيرهم، وقالوا: لا يجوز لأحد تفسير
شئ من القرآن وإن كان عالمًا أديبًا متسعًا فى معرفة الأدلة، والفقه، والنحو،
والأخبار، والآثار، وإنما له أن ينتهى إلى ما روى النبى ﷺ، وعن الذين شهدوا
التنزيل من الصحابة رضى الله عنهم، أو عن الذين أخذوا عنهم من التابعين.
وقوم
كان موقفهم على العكس من ذلك، فلم يروا بأسًا من أن يفسِّروا القرآن باجتهادهم،
ورأوا أن مَنْ كان ذا أدب وسيع فموسَّع له أن يُفسِّر القرآن برأيه واجتهاده.
والفريقان
على طرفى نقيض فيما يبدو، وكل يُعَزِّز رأيه ويُقَوِّيه بالأدلة والبراهين. أما
الفريق الأول - فريق المانعين - قد استدَّلوا بما يأتى:
أولًا - قالوا: إن
التفسير بالرأى قول على الله بغير علم، والقول على الله بغير علم منهى عنه
فالتفسير بالرأى منهى عنه، دليل الصغرى: أن المفسِّر بالرأى ليس على يقين بأنه
أصاب ما أراد الله تعالى، ولا يمكنه أن يقطع بما يقول، وغاية الأمر أنه يقول
بالظن، والقول بالظن قول على الله بغير علم.
١ / ١٨٣
ودليل
الكبرى: قوله تعالى: ﴿وَأَن تَقُولُواْ عَلَى الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ﴾ وهو
معطوف على ما قبله من المحرَّمات فى قوله تعالى فى الآية [٣٣] من سورة الأعراف:
﴿قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الفواحش مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ﴾ ..
الآية، وقوله تعالى فى الآية [٣٦] من سورة الإسراء: ﴿وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ
لَكَ بِهِ عِلْمٌ﴾ ..
قد رَدَّ المجيزون هذا الدليل فقالوا: نمنع الصغرى.
لأن الظن نوع من العلم، إذ هو إدراك الطرف الراجح. وعلى فرض تسليم الصغرى فإنَّا
نمنع الكبرى، لأن الظن منهى عنه إذا أمكن الوصول إلى العلم اليقينى القطعى، بأن
يوجد نص قاطع من نصوص الشرع، أو دليل عقلى موصل لذلك. أما إذا لم يوجد شئ من ذلك،
فالظن كاف هنا، لاستناده إلى دليل قطعى من الله ﷾ على صحة العمل به إذ ذاك. كقوله
تعالى: ﴿لاَ يُكَلِّفُ الله نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا﴾ [البقرة: ٢٨٦] .. وقوله ﵊:
«جعل الله للمصيب أجرين وللمخطئ واحدًا»، ولقول رسول الله ﷺ لمعاذ حين بعثه إلى
اليمن: «فبِمَ تحكم؟ قال: بكتاب الله، قال: فإن لم تجد؟ قال: بسُّنَّة رسول الله،
قال: فإن لم تجد؟ قال: أجتهد رأيى، فضرب رسول الله ﷺ فى صدره وقال: الحمد لله
الذى وفق رسول رسول الله لما يُرضى رسول الله».
ثانيًا - استدلوا بقوله
تعالى: ﴿وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذكر لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ
إِلَيْهِمْ﴾، فقد أضاف البيان إليه، فعُلِمَ أنه ليس لغيره شئ من البيان لمعانى
القرآن.
وأجاب المجيزون عن هذا الدليل فقالوا: نعم إنَّ النبى ﷺ مأمور
بالبيان ولكنه مات ولم يبيِّن كل شئ فما ورد بيانه عنه ﷺ ففيه الكفاية عن فكره من
بعده، وما لم يرد عنه ففيه حينئذ فكرة أهل العلم بعده، فيستدلون بما ورد بيانه
على ما لم يرد، والله تعالى يقول فى آخر الآية: ﴿وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾
.
ثالثًا - استدَّلوا بما ورد فى السُّنَّة من تحريم القول فى القرآن بالرأى
فمن ذلك:
١ - ما رواه الترمذى عن ابن عباس رضى الله عنهما عن النبى ﷺ أنه
قال: «اتقوا الحديث عنى إلا ما علمتم، فمَن كذب علىّ متعمدًا فليتبوأ مقعده من
النار، ومَن قال فى القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار».. قال أبو عيسى: هذا
حديث حسن.
٢ - ما رواه الترمذى وأبو داود عن جُندب أنه قال: قال رسول الله
ﷺ: «مَن قال فى القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ».
وأجاب المجيزون عن هذين
الحديثين بأجوبة:
١ / ١٨٤
منها: أن النهى
محمول على مَنْ قال برأيه فى نحو مشكل القرآن، ومشتابهه، من كل ما لم يُعلم إلا
عن طريق النقل عن النبى ﷺ والصحابة عليهم رضوان الله.
ومنها: أنه أراد -
بالرأى - الرأى الذى يغلب على صاحبه من غير دليل يقوم عليه، أما الذى يشده
البرهان، ويشهد له الدليل، فالقول به جائز، فالنهى على هذا متناول لمن كان يعرف
الحق ولكنه له فى الشئ رأى وميل إليه من طبعه وهواه، فيتأوَّل القرآن على وفق
هواه، ليحتج به على تصحيح رأيه الذى يميل إليه، ولو لم يكن له ذلك الرأى والهوى
لما لاح له هذا المعنى الذى حمل القرآن عليه. ومتناول لمن كان جاهلًا بالحق ولكنه
يحمل الآية التى تحتمل أكثر من وجه على ما يوافق رأيه وهواه، ويُرَجِّح هذا الرأى
بما يتناسب مع ميوله، ولولا هذا لما تَرَجَّحَ عنده ذلك الوجه. ومتناول أيضًا لمن
كان له غرض صحيح ولكنه يستدل لغرضه هذا بدليل قرآنى يعلم أنه ليس مقصودًا به ما
أراد، مثل الداعى إلى مجاهدة النفس الذى يستدل على ذلك بقوله تعالى: ﴿اذهب إلى
فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طغى﴾، [طه: ٢٤] ويريد من فرعون النفس.. ولا شك أن مثل هذا
قائل فى القرآن برأيه.
ومنها: أن النهى محمول على مَنْ يقول فى القرآن بظاهر
العربية، ومن غير أن يرجع إلى أخبار الصحابة الذى شاهدوا تنزيله، وأدُّوا إلينا
من السنُن ما يكون بيانًا لكتاب الله تعالى، وبدون أن يرجع إلى السماع والنقل
فيما يتعلق بغريب القرآن، وما فيه من المبهمات. والحذف، والاختصار، والإضمار،
والتقديم، والتأخير، ومراعاة مقتضى الحال، ومعرفة الناسخ والمنسوخ، وما إلى ذلك
من كل ما يجب معرفته لمن يتكلم فى التفسير، فإنَّ النظر إلى ظاهر العربية وحده لا
يكفى، بل لا بد من ذلك أولًا، ثم بعد ذلك يكون التوسع فى الفهم والاستنباط.
فمثلًا
قوله تعالى: ﴿وَآتَيْنَا ثَمُودَ الناقة مُبْصِرَةً فَظَلَمُواْ بِهَا﴾ [الإسراء:
٥٩] معناه: وآتينا ثمود الناقة معجزة واضحة، وآية بيِّنة على صدق رسالته، فظلموا
بعقرها أنفسهم، ولكن الواقف عن ظاهر العربية وحدها بدون أن يستظهر بشئ مما
تقدَّم، يظن أن «مبصرة» من الإبصار بالعين، وهو حال من الناقة، وصف لها فى معنى،
ولا يدرى بعد ذلك بِمَ ظلموا، ولا مَنْ ظلموا.
كل من هذه الأجوبة الثلاثة.
يمكن أن يُجاب به على مَنْ يستند فى قوله بحُرْمة التفسير بالرأى على هذين
الحديثين المتقدمين، وهى أجوبة سليمة دامغة، كافية لإسقاط حُجَّتهما والاعتماد
عليهما.
هذا.. ويمكن الإجابة عن حديث جُندب - زيادة عما تقدَّم - بأنَّ هذا
الحديث لم تثبت صحته، لأن مِن رواته سُهيل بن أبى حزم، وهو مُتكلَّم فيه، قال فيه
أبو
١ / ١٨٥
حاتم: ليس بالقوى، وكذا قال
البخارى والنسائى، وضعَّفه ابن معين، وقال فيه الإمام أحمد: روى أحاديث منكرة،
والترمذى نفسه يقول بعد روايته لهذا الحديث: «وقد تكلَّم بعض أهل الحديث فى سُهيل
بن أبى حزم».
رابعًا - ما ورد عن السَلَف من الصحابة والتابعين، من الآثار
التى تدل على أنهم كانوا يُعَظِّمون تفسير القرآن ويتحرَّجون من القول فيه
بآرائهم.
فمن ذلك: ما جاء عن أبى مُليكة أنه قال: سُئل أبو بكر الصِدِّيق
رضى الله عنه فى تفسير حرف من القرآن فقال: «أىُّ سماء تظلنى، وأىُّ أرض تقلنى،
وأين أذهب، وكيف أصنع إذا قلتُ فى حرف من كتاب الله بغير ما أراد ﵎»؟
وما
ورد عن سعيد بن المسيب: أنه كان إذا سُئل عن الحلال والحرام تكلَّم، وإذا سُئل عن
تفسير آية من القرآن سكت كأن لم يسمع شيئًا.
وما روى عن الشعبى أنه قال:
«ثلاث لا أقول فيهن حتى أموت: القرآن، والروح، والرأى».
وهذا ابن مجاهد
يقول: «قال رجل لأُبَىِّ: أنت الذى تُفسِّر القرآن برأيك؟ فبكى أُبَىّ، ثم قال:
إنى إذن لجرئ، لقد حملتُ التفسير عن بضعة عشر رجلًا من أصحاب النبى ﷺ ورضى
عنهم».
وهذا هو الأصمعى إمام اللغة، كان مع علمه الواسع شديد الاحتراز فى
تفسير الكتاب، بل والسُّنَّة، فإذا سُئل عن معنى شئ من ذلك يقول: «العرب تقول:
معنى هذا كذا، ولا أعلم المراد منه فى الكتاب والسُّنَّة أى شئ هو».
.. وغير
هذا كثير من الآثار الدالة على المنع من القول فى التفسير بالرأى.
وقد أجاب
المجيزون عن هذه الآثار: بأن إحجام مَن أحجم من السَلَف عن التفسير بالرأى، إنما
كان منهم ورعًا واحتياطًا لأنفسهم، مخافة ألا يبلغوا ما كُلِّفوا به من إصابة
الحق فى القول، وكانوا يرون أن التفسير شهادة على الله بأنه عَنِى باللفظ كذا
وكذا، فأمسكوا عنه خشية أن لا يوافقوا مراد الله ﷿، وكان منهم مَن يخشى أن
يُفسِّر القرآن برأيه فيُجعل فى التفسير إمامًا يُبنَى على مذهبه ويُقتفَى طريقه،
فربما جاء أحد المتأخرين وفسَّر القرآن برأيه فوقع فى الخطأ، ويقول: إمامى فى
التفسير بالرأى فلان من السَلَف.
ويمكن أن يُقال أيضًا: إن إحجامهم كان
مُقيَّدًا بما لم يعرفوا وجه الصواب فيه، أما إذا عرفوا وجه الصواب فكانوا لا
يتحرَّجون من إبداء ما يظهر لهم ولو بطريق الظن. فهذا
١ /
١٨٦
أبو بكر رضى الله عنه يقول - وقد سُئل عن الكلالة -: «أقول
فيها برأيى فإن كان صوابًا فمِن الله، وإن كان غير ذلك فمِنى ومِن الشيطان:
الكلالة كذا وكذا».
ويمكن أن يُقال أيضًا: إنما أحجم مَنْ أحجم، لأنه كان لا
يتعيَّن للإجابة، لوجود مَنْ يقوم عنه فى تفسير القرآن وإجابة السائل، وإلا
لكانوا كاتمين للعلم، وقد أمرهم الله ببيانه للناس.
وهناك أجوبة أُخرى غير
ما تقدَّم. والكل يوضح لنا سر إحجام مَنْ أحجم مِنَ السَلَف عن القول فى التفسير
برأيهم، ويبيِّن أنه لم يكن عن اعتقاد منهم بعدم جواز التفسير بالرأى.
وأما
الفريق الثانى - فريق المجوِّزين - فقد استدلوا على ما ذهبوا إليه بما يأتى:
أولًا
- بنصوص كثيرة وردت فى كتاب الله تعالى: منها قوله تعالى: ﴿أَفَلاَ
يَتَدَبَّرُونَ القرآن أَمْ على قُلُوبٍ أَقْفَالُهَآ..﴾ [محمد: ٢٤] وقوله:
﴿كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ ليدبروا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ
أُوْلُواْ الألباب﴾ [ص: ٢٩] .. وقوله: ﴿وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرسول وإلى
أُوْلِي الأمر مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الذين يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ﴾ [النساء:
٨٣]، ووجه الدلالة فى هذه الآيات: أنه تعالى حَثَّ فى الآيتين الأوليين على تدبر
القرآن والاعتبار بآياته، والاتعاظ بعظاته، كما دلّت الآية الأخيرة على أن فى
القرآن ما يستنبطه أُولوا الألباب باجتهادهم، ويصلون إليه بإعمال عقولهم، وإذا
كان الله قد حثَّنا على التدبر، وتعبَّدنا بالنظر فى القرآن واستنباط الأحكام
منه، فهل يُعقل أن يكون تأويل ما لم يستأثر الله بعلمه محظورًا على العلماء، مع
أنه طريق العلم، وسبيل المعرفة والعظة؟ لو كان ذلك لكنَّا مُلْزَمين بالاتعاظ
والاعتبار بما لا نفهم، ولما توصلنا لشئ من الاستنباط، ولما فُهِم الكثير من كتاب
الله تعالى.
ثانيًا - قالوا: لو كان التفسير بالرأى غير جائز لما كان
الاجتهاد جائزًا، ولتعطل كثير من الأحكام، وهذا باطل بَيَّنُ البطلان، وذلك لأن
باب الاجتهاد لا يزال مفتوحًا إلى اليوم أمام أربابه، والمجتهد فى حكم الشرع
مأجور، أصاب أو أخطأ، والنبى ﷺ لم يُفسِّر كل آيات القرآن، ولم يستخرج لنا جميع
ما فيه من أحكام.
ثالثًا - استدلوا بما ثبت من أن الصحابة - رضوان الله
عليهم - قرأوا القرآن واختلفوا فى تفسيره على وجوه، ومعلوم أنهم لم يسمعوا كل ما
قالوه فى تفسير القرآن من النبى ﷺ، إذ أنه لم يُبيِّن لهم كل معانى القرآن، بل
بَيَّنَ لهم بعض معانيه، وبعضه الآخر توَّصلوا إلى معرفته بعقولهم واجتهادهم، ولو
كان القول بالرأى فى القرآن محظورًا لكانت الصحابة قد خالفت ووقعت فيما حرَّم
الله، ونحن نُعيذ الصحابة من المخالفة والجرُأة على محارم الله.
١
/ ١٨٧
رابعًا - قالوا: إنَّ النبى ﷺ دعا لابن عباس رضى الله
عنهما، فقال فى دعائه له: «اللَّهم فقهه فى الدين، وعلِّمه التأويل» فلو كان
التأويل مقصورًا على السماع والنقل كالتنزيل، لما كان هناك فائدة لتخصيص ابن عباس
بهذا الدعاء، فَدَلَّ ذلك على أن التأويل الذى دعا به الرسول ﷺ لابن عباس أمر آخر
وراء النقل والسماع، ذلك هو التفسير بالرأى والاجتهاد، وهذا بَيِّنٌ لا إشكال
فيه.
هذه هى أدلة الفريقين، وكلُّ يحاول بما ذكر من الأدلة أن يثبت قوله
ويركز مُدَّعاه. والغزالى - فى الإحياء، بعد الاحتجاج والاستدلال على بطلان القول
بأن لا يتكلم أحد فى القرآن إلا بما يسمعه - يقول: «فبطل أن يُشترط السماع فى
التأويل، وجاز لكل واحد أن يستنبط من القرآن بقدر فهمه وحد عقله». كما قال قبل
ذلك بقليل: «إن فى فهم معانى القرآن مجالًا رحبًا، ومتسعًا بالغًا، وإن المنقول
من ظاهر التفسير ليس منتهى الإدراك فيه».
والراغب الأصفهانى - بعد أن ذكر
المذهبين وأدلتهما فى مقدمة التفسير - يقول: "وذكر بعض المحققين: أن المذهبين هما
الغلو والتقصير، فمَن اقتصر على المنقول إليه فقد ترك كثيرًا مما يحتاج إليه،
ومَنْ أجاز لكل أحد الخوض فيه فقد عرَّضه للتخليط، ولم يعتبر حقيقة قوله تعالى:
﴿ليدبروا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُواْ الألباب﴾ .
* *
* حقيقة
الخلاف:
ونحن مع هذا البعض الذى نقل عنه الراغب هذا التحقيق إن وقف الفريق
الأول عند المنقول فلم يتجاوزه، وأجاز الفريق الثانى لكل أحد الخوض فى التفسير
والكلام فيه، إذ أن الجمود على المنقول تقصير وتفريط بل نزاع، والخوض فى التفسير
لكل إنسان غلو وإفراط بلا جدال.
ولكن لو رجعنا إلى هؤلاء المتشدِّدين فى
التفسير وعرفنا سر تشددهم فيه، ثم رجعنا إلى هؤلاء المجوِّزين للتفسير بالرأى
ووقفنا على ما شرطوه من شروط لا بد منها لمن يتكلم فى التفسير برأيه، وحلَّلنا
أدلة الفريقين تحليلًا دقيقًا، لظهر لنا أن الخلاف لفظى لا حقيقى، ولبيان ذلك
نقول:
الرأى قسمان: قسم جار على موافقة كلام العرب، ومناحيهم فى القول، مع
موافقة الكتاب والسُنَّة، ومراعاة سائر شروط التفسير، وهذا القسم جائز لا شك فيه،
وعليه يُحمل كلام المجيزين للتفسير بالرأى.
وقسم غير جار على قوانين
العربية، ولا موافق للأدلة الشرعية، ولا مستوف لشرائط
١ /
١٨٨
التفسير، وهذا هو مورد النهى ومحط الذم، وهو الذى يرمى إليه
كلام ابن مسعود إذ يقول: «ستجدون أقوامًا يدعونكم إلى كتاب الله وقد نبذوه وراء
ظهورهم، فعليكم بالعلم، وإياكم والتبدع، وإياكم والتنطع»، وكلام عمر إذ يقول:
«إنما أخاف عليكم رجلين: رجل يتأوَّل القرآن على غير تأويله، ورجل ينافس المُلْك
على أخيه»، وكلامه إذ يقول: «ما أخاف على هذه الأُمَّة من مؤمن ينهاه إيمانه، ولا
من فاسق بَيِّن فسقه، ولكنى أخاف عليها رجلًا قد قرأ القرآن حتى أذلقه بلسانه، ثم
تأوَّله على غير تأويله».. فكل هذا ونحوه، وارد فى حق مَن لا يُراعى فى تفسير
القرآن قوانين اللغة ولا أدلة الشريعة، جاعلًا هواه رائده، ومذهبه قائده، وهذا هو
الذى يُحمل عليه كلام المانعين للتفسير بالرأى، وقد قال ابن تيمية - بعد أن ساق
الآثار عَمَّن تحرَّج من السَلَف من القول فى التفسير -: فهذه الآثار الصحيحة وما
شاكلها عن أئمة السَلَف، محمولة على تحرجهم عن الكلام فى التفسير بما لا علم لهم
به، فأما مَن تكلَّم بما يعلم من ذلك لغة وشرعًا فلا حَرَج عليه، ولهذا رُوِى عن
هؤلاء وغيرهم أقوال فى التفسير، ولا منافاة، لأنهم تكلِّموا فيما علموه، وسكتوا
عما جهلوه، هذا هو الواجب على كل أحد، فإنه كما يجب السكوت عما لا عمل له به،
فكذلك يجب القول فيما سُئِل عنه مما يعلمه، لقوله تعالى: ﴿لَتُبَيِّنُنَّهُ
لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ﴾ [آل عمران: ١٨٧] .. ولما جاء فى الحديث المروى من
طرق: «مَنْ سُئِلَ عن علم فكتمه أُلْجِمَ يوم القيامة بلجامٍ من نار».
وإذ
قد علمنا أن التفسير بالرأى قسمان: قسم مذموم غير جائز، وقسم ممدوح جائز، وتبين
لنا أن القسم الجائز محدود بحدود، ومقيَّد بقيود، فلا بد لنا من أن نعرض هنا لما
ذكروه من العلوم التى يحتاج إليها المفسِّر، وما ذكروه من الأدوات التى إذا
توافرت لديه وتكاملت فيه، خرج عن كونه مفسِّرًا للقرآن بمجرد الرأى، ومحض
الهوى.
* *
* العلوم التى يحتاج إليها المفسِّر:
اشترط العلماء فى
المفسِّر الذى يريد أن يُفسِّر القرآن برأيه بدون أن يلتزم الوقوف عند حدود
المأثور منه فقط، أن يكون مُلِمًا بجملة من العلوم التى يستطيع بواسطتها
١
/ ١٨٩
أن يُفسِّر القرآن تفسيرًا عقليًا مقبولًا، وجعلوا هذه
العلوم بمثابة أدوات تعصم المفسِّر من الوقوع فى الخطأ، وتحميه من القول على الله
بدون علم. وإليك هذه العلوم مفصَّلة، مع توضيح ما لكل علم منها من الأثر فى الفهم
وإصابة وجه الصواب:
الأول - علم اللغة: لأن به يمكن شرح مفردات الألفاظ
ومدلولاتها بحسب الوضع، قال مجاهد: «لا يحل لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن
يتكلم فى كتاب الله إذا لم يكن عالمًا بلغات العرب»، ثم إنه لا بد من التوسع
والتبحر فى ذلك، لأن اليسير لا يكفى، إذ ربما كان اللفظ مشتركًا، والمفسِّر يعلم
أحد المعنيين ويخفى عليه الآخر، وقد يكون هو المراد.
الثانى - علم النحو:
لأن المعنى يتغير ويختلف باختلاف الإعراب، فلا بد من اعتباره. أخرج أبو عبيدة عن
الحسن أنه سُئِل عن الرجل يتعلم العربية يلتمس بها حُسن المنطق ويقيم بها قراءته
فقال: حسن فتعلمها، فإن الرجل يقرأ الآية فيعيى بوجهها فيهلك فيها.
الثالث -
علم الصرف: وبواسطته تُعرف الأبنية والصيغ. قال ابن فارس: «ومَن فاته المعظم،
لأنَّ»وجد«مثلًا كلمة مبهمة، فإذا صرفناها اتضحت بمصادرها»، وحكى السيوطى عن
الزمخشرى أنه قال: «من بدع التفاسير قول مَن قال: إن الإمام فى قوله تعالى:
﴿يَوْمَ نَدْعُواْ كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ﴾ [الإسراء: ٧١] جمع»أُمّ«، وأن
الناس يُدعون يوم القيامة بأمهاتهم دون آبائهم قال: وهذا غلط أوجبه جهله
بالتصريف، فإن»أُمًَّا«لا تُجمع على إمام».
الرابع - الاشتقاق: لأن الاسم
إذا كان اشتقاقه من مادتين مختلفتين، اختلف باختلافهما، كالمسيح مثلًا، هل هو من
السياحة أو من المسح؟
الخامس والسادس والسابع - علوم البلاغة الثلاثة
«المعانى، والبيان، والبديع»: فعلم المعانى، يُعرف به خواص تراكيب الكلام من جهة
إفادتها المعنى، وعلم البيان، يُعرف به خواص التراكيب من حيث اختلافها بحسب وضوح
الدلالة وخفائها، وعلم البديع، يُعرب به وجوه تحسين الكلام..
١
/ ١٩٠
وهذه العلوم الثلاثة من أعظم أركان المفسِّر، لأنه لا بد
له من مراعاة ما يقتضيه الإعجاز، وذلك لا يُدرك إلا بهذه العلوم.
الثامن: -
علم القراءات: إذ بمعرفة القراءة يمكن ترجيح بعض الوجوه المحتملة على بعض.
التاسع
- علم أصول الدين: وهو علم الكلام، وبه يستطيع المفسٍّر أن يستدل على ما يجب فى
حقه تعالى، وما يجوز، وما يُستحَل، وأن ينظر فى الآيات المتعلقة بالنبوات،
والمعاد، وما إلى ذلك نظرة صائبة، ولولا ذلك لوقع المفسِّر فى ورطات.
العاشر
- علم أصول الفقه: إذ به يعرف كيف يستنبط الأحكام من الآيات ويستدل عليها، ويعرف
الإجمال والتبيين، والعموم، والخصوص، والإطلاق، والتقييد، ودلالة الأمر والنهى،
وما سوى ذلك من كل ما يرجع إلى هذا العلم.
الحادى عشر - علم أسباب النزول:
إذ أن معرفة سبب النزول يعين على فهم المراد من الآية.
الثانى عشر - علم
القصص: لأن معرفة القصة تفصيلًا يعين على توضيح ما أجمل منها فى القرآن.
الثالث
عشر - علم الناسخ والمنسوخ: وبه يعلم المحكوم من غيره. ومَن فقد هذه الناحية،
ربما أفتى بحكم منسوخ فيقع فى الضلال والإضلال.
الرابع عشر - الأحاديث
المبيِّنة لتفسير المجمل والمبهم، ليستعين بها على توضيح ما يشكل عليه.
الخامس
عشر - علم الموهبة: وهو علم يُورثه الله تعالى - لمن عمل بما علم، وإليه الإشارة
بقوله تعالى: ﴿واتقوا الله وَيُعَلِّمُكُمُ الله﴾ .. [البقرة: ٢٨٢] .. وبقوله ﷺ:
«مَن عمل بما علم وَرَّثه اللهُ علم ما لا يعلم».
قال السيوطى بعد أن عَدَّ
علم الموهبة من العلوم التى لا بد منها للمفسِّر: «ولعلك تستشكل علم الموهبة
وتقول: هذا شئ ليس فى قدرة الإنسان. وليس الأمر كما ظننت من الإشكال، والطريق فى
تحصيله ارتكاب الأسباب الموجبة له من العمل والزهد. قال فى البرهان:»اعلم أنه لا
يحصل للناظر فهم معانى الوحى ولا تظهر له أسراره، وفى قلبه بدعة، أو كبر، أو هوى،
أو حب دنيا، أو هو مُصِّرُ على ذنب، أو غير متحقق بالإيمان، أو ضعيف التحقيق، أو
يعتمد على قول مفسِّر ليس عنده علم، أو راجع إلى معقوله، وهذه كلها حُجُب وموانع
بعضها آكد من بعض" قلت: وفى هذا المعنى قوله تعالى: ﴿سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِي
الذين يَتَكَبَّرُونَ فِي الأرض بِغَيْرِ الحق﴾ [الأعراف: ١٤٦]
١
/ ١٩١
قال ابن عيينة: أنزع عنهم فهم القرآن. أخرجه ابن أبى
حاتم».
هذه هى العلوم التى اعتبرها العلماء أدوات لفهم كتاب الله تعالى، وقد
ذكرناها مسهبة مفصَّلة، وإن كان بعض العلماء ذكر بعضًا وأعرض عن بعض آخر، ومنهم
مَن أدمج بعضها فى بعض وضغطها حتى كانت أقل عددًا مما ذكرنا، وليس هذا العدد الذى
ذكرنا حاصرًا لجميع العلوم التى يتوقف عليها التفسير، فإن القرآن - مثلًا - قد
اشتمل على أخبار الأمم الماضية وسيرهم وحوادثهم، وهى أمور تقتضى الإلمام بعلمى
التاريخ وتقويم البلدان، لمعرفة العصور والأمكنة التى وُجِدت فيها تلك الأُمم،
ووقعت فيها هذه الحوادث. وأرى أن أسوق هنا مقالة الأستاذ المرحوم السيد محمد رشيد
رضا فى مقدمة تفسيره تتميمًا للفائدة، وإليك نص هذه المقالة التى اقتبسها من دروس
أستاذه الإمام الشيخ محمد عبده عليه رضوان الله.
قال ﵀: «للتفسير
مراتب:»أدناها أن يُبيِّن بالإجمال ما يُشرِب القلب عظمة الله وتنزيهه، ويصرف
النفس عن الشر، ويجذبها إلى الخير، وهذه هى التى قلنا إنها متيسرة لكل أحد:
﴿وَلَقَدْ يَسَّرْنَا القرآن لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ﴾ [القمر: ١٧]
..
وأما المرتبة العليا فهى لا تتم إلا بأمور:
أحدها: فهم حقائق
الألفاظ المفردة التى أودعها القرآن، بحيث يحقق المفسِّر ذلك من استعمالات أهل
اللغة، غير مكتف بقول فلان وفهم فلان، فإن كثيرًا من الألفاظ كانت تُستعمل فى زمن
التنزيل لمعان ثم غلبت على غيرها بعد ذلك بزمن قريب أو بعيد، من ذلك لفظ:
«التأويل»، اشتُهر بمعنى التفسير مطلقًا، أو على وجه مخصوص، ولكنه جاء فى القرآن
بمعان أخرى، كقوله تعالى: ﴿هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي
تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الذين نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَآءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا
بالحق﴾ [الأعراف: ٥٣] .. فما هذا التأويل؟ يجب على مَنْ يريد الفهم الصحيح أن
يتتبع الاصطلاحات التى حدثت فى المِلَّة، ليفرِّق بينها وبين ما ورد فى الكتاب،
فكثيرًا ما يُفسِّر المفسِّرون كلمات القرآن بالاصطلاحات التى حدثت فى المِلَّة
بعد القرون الثلاثة الأولى، فعلى المُدقِّق أن يُفسِّر القرآن بحسب المعانى التى
كانت مستعملة فى عصر نزوله، والأحسن أن يفهم اللفظ من القرآن نفسه، بأن يجمع ما
تكرر فى مواضع منه وينظر فيه، فربما استُعمِل بمعان مختلفة كلفظ الهداية وغيره،
ويحقق كيف يتفق معناه مع جملة معنى الآية: فيعرف المعنى المطلوب من بين معانيه،
وقد قالوا: إن القرآن يُفسِّر بعضه
١ / ١٩٢
بعضاَ،
وإن أفضل قرينة تقوم على حقيقة معنى اللفظ موافقته لما سيق له من القول، واتفاقه
مع جملة المعنى، وائتلافه مع القصد الذى جاء له الكتاب بجملته.
ثانيها:
الأساليب، فينبغى أن يكون عنده من عملها ما يفهم به هذه الأساليب الرفيعة، وذلك
يحصل بممارسة الكلام البليغ ومزاولته، مع التفطن لنكته ومحاسنه، والعناية بالوقوف
على مراد المتكلم منه. نعم إننا لا نتسامى إلى فهم مراد الله تعالى كله على وجه
الكمال والتمام، ولكن يمكننا فهم ما نهتدى به بقدر الطاقة، ويُحتاج فى هذا إلى
علم الإعراب وعلم الأساليب (المعانى والبيان) ولكن مجرد العلم بهذه الفنون وفهم
مسائلها وحفظ أحكامها لا يفيد المطلوب.
ترون فى كتب العربية أن العرب كانوا
مسددين فى النطق، يتكلمون بما يوافق القواعد قبل أن توضع، أتحسبون أن ذلك كان
طبيعيًا لهم؟ كلا، وإنما هى مَلَكة مكتسبة بالسماع والمحاكاة، ولذلك صار أبناء
العرب أشد عُجْمة من العجم عندما اختلطوا بهم، ولو كان طبيعيًا ذاتيًا لما فقدوه
فى مدة خمسين سنة بعد الهجرة.
ثالثها: علم أحوال البَشر، فقد أنزل الله هذا
الكتاب وجعله آخر الكتب، وبيَّن فيه ما لم يُبيِّن فى غيره، بَيَّن فيه كثيرًا من
أحوال الخلق وطبائعهم، والسُنن الإلهية فى البشر، وقصَّ علينا أحسن القَصص عن
الأمم وسيرها الموافقة لسُنَّته فيها، فلا بد للناظر فى هذا الكتاب من النظر فى
أحوال البشر فى أطوارهم وأدوارهم، ومناشئ اختلاف أحوالهم من قوة وضعف، وعز وذل،
وعلم وجهل، وإيمان وكفر، ومن العلم بأحوال العالَم الكبير، عُلويه وسُفليه،
ويحتاج هذا إلى فنون كثيرة من أهمها التاريخ بأنواعه.
قال الأستاذ الإمام:
أنا لا أعقل كيف يمكن لأحد أن يفسِّر قوله تعالى: ﴿كَانَ الناس أُمَّةً وَاحِدَةً
فَبَعَثَ الله النبيين مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ﴾ [البقرة: ٢١٣] .. الآية، وهو
لا يعرف أحوال البَشر، وكيف اتحدوا، وكيف تفرَّقوا، وما معنى تلك الوحدة التى
كانوا عليها، وهل كانت نافعة أو ضارة، وماذا كان من آثار بعثة النبيين فيهم.
أجمل
القرآن الكريم عن الأُمم وعن السُنن الإلَهية، وعن آياته فى السماوات والأرض، وفى
الآفاق والأنفس، وهو إجمال صادر عمَّن أحاط بكل شئ علمًا، وأمرنا بالنظر والتفكر،
والسير فى الأرض لنفهم إجماله بالتفصيل الذى يزيدنا ارتقاءً وكمالًا، ولو اكتفينا
من علم الكون بنظرة فى ظاهره، لكنَّا كمن يعتبر الكتاب بلون جلده، لا بما حواه من
علم وحكمة.
رابعها: العلم بوجه هداية البَشر كلهم بالقرآن، فيجب على
المفسِّر القائم بهذا
١ / ١٩٣
الفرض الكفائى،
أن يعلم ماكان عليه الناس فى عصر النبوة من العرب وغيرهم، لأن القرآن ينادى بأن
الناس كلهم كانوا فى شقاء وضلال، وأن النبى ﷺ بُعث به لهدايتهم وإسعادهم، وكيف
يفهم المفسِّر ما قبَّحته الآيات من عوائدهم على وجه الحقيقة أو ما يقرب منها،
إذا لم يكن عارفًا بأحوالهم وما كانوا عليه؟
هل يُكتَفى من علماء القرآن -
دعاة الدين والمناضلين عنه بالتقليد - بأن يقولوا تقليدًا لغيرهم: إن الناس كانوا
على باطل، وإن القرآن دحض أباطيلهم فى الجملة؟ كلا.
وأقول الآن: يُروى عن
عمر رضى الله عنه أنه قال: «إن جهل الناس بأحوال الجاهلية هو الذى يُخشَى أن ينقض
عُرى الإسلام عُروة عروة».
(انتهى بالمعنى) .
والمراد: أن مَن نشأ فى
الإسلام ولم يعرف حال الناس قبله، يجهل تأثير هدايته، وعناية الله بجعله
مُغيِّرًا لأحوال البَشر، ومُخْرِجًا لهم من الظلمات إلى النور، ومَن جهل هذا يظن
أن الإسلام أمر عادى، كما ترى بعض الذين يتربون فى النظافة والنعيم يعدون التشديد
فى الأمر بالنظافة والسواك من قبيل اللغو، لأنه من ضروريات الحياة عندهم، ولو
اختبروا غيرهم من طبقات الناس لعرفوا الحكمة فى تلك الأوامر، وتأثير تلك الآداب
من أين جاء؟
خامسها: العلم بسيرة النبى ﷺ وأصحابه، وما كانوا عليه من علم
وعمل، وتصرف فى الشئون دنيويها وأُخرويَّهَا.
هذه هى عبارة الأستاذ الشيخ
رشيد رضا بنصها، وفيها تركيز وإدماج لبعض ما قلناه من قبل، وفيها شرح وإيضاح لبعض
آخر منه، وهى تُلقى ضوءًا على ما تقدَّم، وتُوضِّح بعض ما فيه من إيجاز.
*
*
* مصادر التفسير:
خرجنا من المعركة التى قامت بين المتحرجين من القول
فى التفسير بالرأى والمجيزين له: بأن الخلاف لفظى لا حقيقى، وأسفرت النتيجة عن
انقسام التفسير بالرأى إلى قسمين: قسم جائز ممدوح، وقسم حرام مذموم، وعرفنا
العلوم التى يجب على المفسِّر معرفتها حتى يكون أهلًا للتفسير بالرأى الجائز،
وبقى علينا بعد ذلك أن نذكر المصادر التى يجب على المفسِّر أن يرجع إليها عند
شرحه للقرآن، حتى يكون تفسيره جائزًا ومقبولًا، وإليك أهم هذه المصادر:
١
/ ١٩٤
أولًا: الرجوع إلى القرآن نفسه، وذلك بأن ينظر فى القرآن
نظرة فاحص مُدَقِّق، ويجمع الآيات التى فى موضوع واحد، ثم يقارن بعضها ببعضها
الآخر، فإن من الآيات ما أُجْمَل فى مكان وفُسِّر فى مكان آخر، ومنها ما أُوجز فى
موضع وبُسِط فى موضع آخر، فيحمل المُجمَل على المُفسَّر، ويشرح ما جاء موجزًا بما
جاء مُسهبًا مُفصَّلًا، وهذا هو ما يسمونه تفسير القرآن بالقرآن، فإن عدل عن هذا
وفسَّر برأيه فقد أخطأ وقال برأيه المذموم.
ثانيًا: النقل عن الرسول ﷺ، مع
الاحتراز عن الضعيف والموضوع فإنه كثير، فإن وقع له تفسير صحيح عن رسول الله ﷺ
فليس له أن يعدل عنه ويقول برأيه، لأن النبى ﷺ مؤيَّد من ربه، وموكول إليه أن
يُبَيِّن للناس ما نُزِّل إليهم، فمَن يترك ما يصح عن النبى ﷺ فى التفسير إلى
رأيه فهو قائل بالرأى المذموم.
ثالثًا: الأخذ بما صحّ عن الصحابة فى
التفسير، ولا يغتر بكل ما يُنسب لهم من ذلك، لأن فى التفسير كثيرًا مما وُضِع على
الصحابة كذبًا واختلاقًا، فإن وقع على قول صحيح لصحابى فى التفسير، فليس له أن
يهجره ويقول برأيه، لأنهم أعلم بكتاب الله، وأدرى بأسرار التنزيل، لِمَا شاهدوه
من القرائن والأحوال، ولما اختُصوا به من الفهم التام والعلم الصحيح، لا سيما
علماؤهم وكبراؤهم، كالأئمة الأربعة: الخلفاء الراشدين، وأُبَىّ بن كعب، وابن
مسعود، وابن عباس وغيرهم، وقد سبق لنا أن عرضنا لقول الصحابى، هل له حكم المرفوع
أو لا، واستوفينا الكلام فى ذلك بما يُغنى عن إعادته هنا.
ثم هل للمفسِّر أن
يعدل عن أقوال التابعين فى التفسير، أو لا بد له من الرجوع إلى أقوالهم؟ خلاف سبق
لنا أن عرضنا له أيضًا فلا داعى لإعادته.
رابعًا: الأخذ بمطلق اللغة، لأن
القرآن نزل بلسان عربى مبين، ولكن على المفسِّر أن يحترز من صرف الآية عن ظاهرها
إلى معان خارجة محتملة، يدل عليها القليل من كلام العرب، ولا توجد غالبًا إلا فى
الشعر ونحوه، ويكون المتبادر خلافها، روى البيهقى فى الشُعَب عن مالك رضى الله
عنه أنه قال: «لا أُوتِىَ برجلٍ غير عالِم بلغة العرب يُفسِّر كتاب الله إلا
جعلته نكالًا».
خامسًا: التفسير بالمقتضى من معنى الكلام والمتقضب من قوة
الشرع، وهذا هو الذى دعا به النبى ﷺ لابن عباس حيث قال: «اللَّهم فقِّهه فى الدين
وعلِّمه التأويل» والذى عناه علىُّ رضى الله عنه بقوله - حين سُئِل: هل عندكم عن
رسول الله ﷺ شئ بعد القرآن؟ فقال: «لا والذى فلق الحبة وبرأ النسمة إلا فهم يؤتيه
الله ﷿ رجلًا فى القرآن».
١ / ١٩٥
ومن هنا
اختلف الصحابة فى فهم بعض آيات القرآن، فأخذ كلٌ بما وصل إليه عقله، وأدَّاه إليه
نظره.
* *
* الأُمور التى يجب على المفسِّر أن يتجنبها فى تفسيره:
هناك
أُمور يجب على المفسِّر أن يتجنبها فى تفسيره حتى لا يقع فى الخطأ ويكون ممن قال
فى القرآن برأيه الفاسد، وهذه الأمُور هى ما يأتى:
أولًا: التهجم على بيان
مراد الله تعالى من كلامه مع الجهالة بقوانين اللغة وأصول الشريعة، وبدون أن
يُحَصِّل العلوم التى يجوز معها التفسير.
ثانيًا: الخوض فيما استأثر الله
بعلمه، وذلك كالمتشابه الذى لا يعلمه إلا الله. فليس للمفسِّر أن يتهجم على الغيب
بعد أن جعله الله تعالى سرًا من أسراره وحَجَبه عن عباده.
ثالثًا: السير مع
الهوى والاستحسان، فلا يُفسِّر بهواه ولا يُرَجِّح باستحسانه.
رابعًا:
التفسير المقرر للمذهب الفاسد، بأن يجعل المذهب أصلًا والتفسير تابعًا، فيحتال فى
التأويل حتى يصرفه إلى عقيدته، ويرده إلى مذهبه بأى طريق أمكن، وإن كان غاية فى
البُعْدِ والغرابة.
خامسًا: التفسير مع القطع بأن مراد الله كذا وكذا من غير
دليل، وهذا منهى عنه شرعًا، لقوله تعالى فى الآية [١٦٩] من سورة البقرة: ﴿وَأَن
تَقُولُواْ عَلَى الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ﴾ .
وإذ قد بيِّنا أن المفسِّر لا
يجوز له أن يتهجم على تفسير ما استأثر الله تعالى بعلمه وحَجبَه عن خلقه، وبيَّنا
أنه لا يجوز له أن يقطع بأن مراد الله كذا وكذا من غير دليل، لزم علينا أن نبيَّن
أنواع العلوم التى اشتمل عليها القرآن ما يمكن معرفته منها وما لا يمكن،
فنقول:
أنواع علوم القرآن
تتنوع علوم القرآن إلى أنواع ثلاثة، وهى ما
يأتى:
النوع الأول: علم لم يطلع الله عليه أحدًا من خلقه، وهو ما استأثر به
من علوم أسرار كتابه، من معرفة كُنْه ذاته وغيوبه التى لا يعلمها إلا هو، وهذا
النوع لا يجوز لأحد الخوض فيه والتهجم عليه بوجه من الوجوه إجماعًا.
النوع
الثانى: ما أطلع الله عليه نبيه ﷺ من أسرار الكتاب واختصه به، وهذا لا يجوز
الكلام فيه إلا له ﷺ أو لمن أذن له. قيل: ومنه الحروف المقطعة فى أوائل السور،
ومِنَ العلماء مَنْ يجعلها من النوع الأول.
١ / ١٩٦
النوع
الثالث: علوم علَّمها الله نبيه مما أودع فى كتابه من المعانى الجلية والخفية
وأمره بتعليمها، وهذا النوع قسمان:
قسم لا يجوز الكلام فيه إلا بطريق السمع،
وذلك كأسباب النزول، والناسخ والمنسوخ، والقراءات، واللغات، وقصص الأُمم الماضية،
وأخبار ما هو كائن من الحوادث، وأُمور الحشر والمعاد.
وقسم يؤخذ بطريق النظر
والاستدلال والاستنباط والاستخراج من العبارات والألفاظ، وهو ينقسم إلى قسمين..
أحدهما: اختلفوا فى جوازه، وهو تأويل الآيات المتشابهات فى الصفات، وثانيهما:
اتفقوا على جوازه، وهو استنباط الأحكام الأصلية والفرعية، والمواعظ والحِكَم
والإشارات وما شاكل ذلك من كل ما لا يمتنع استنباطه من القرآن واستخراجه منه لمن
كان أهلًا لذلك.
* *
* المنهج الذى يجب على المفسِّر أن ينهجه فى
تفسيره:
علمنا مما سبق: أن المفسِّر برأيه لا بد أن يلم بكل العلوم التى هى
وسائل لفهم كتاب الله، وأدوات للكشف عن أسراره، كما علمنا مما سبق أيضًا: أن
المفسِّر لا بد أن يطلب المعنى أولًا من كتاب الله، فإن لم يجده طلبه من
السُّنَّة، لانها شارحة للقرآن ومُوضِّحة له، فإن أعجزه ذلك رجع إلى أقوال
الصحابة، لأنهم أدرى بكتاب الله وأعلم بمعانيه، لما اختُصوا به من الفهم التام،
والعلم الصحيح، والعمل الصالح، ولاحتمال أن يكونوا سمعوه من الرسول ﷺ، فإن عجز عن
هذا كله، ولم يظفر بشئ من تلك المراجع الأولى للتفسير، فليس عليه بعد ذلك إلا أن
يُعمل عقله، ويقدح فكره، ويجتهد وسعه فى الكشف عن مراد الله تعالى، مستندًا إلى
الأصول التى تقدَّمت، مبتعدًا عن كل ما ذكرنا من الأُمور التى تجعل المفسِّر فى
عِداد المفسِّرين بالرأى المذموم، وعليه بعد ذلك أن ينهج فى تفسيره منهجًا يراعى
فيه القواعد الآتية، بحيث لا يحيد عنها، ولا يخرج عن نطاقها، وهذه القواعد هى ما
يأتى:
أولًا: مطابقة التفسير للمفسَّر، من غير نقص لما يحتاج إليه فى إيضاح
المعنى، ولا زيادة لا تليق بالغرض ولا تناسب المقام، مع الاحتراز من كون التفسير
فيه زيغ عن المعنى وعدول عن المراد.
ثانيًا: مراعاة المعنى الحقيقى والمعنى
المجازى، فلعل المراد المجازى، فيحمل الكلام على الحقيقة أو العكس.
ثالثًا:
مراعاة التأليف والغرض الذى سِيق له الكلام، والمؤاخاة بين المفردات.
رابعًا:
مراعاة التناسب بين الآيات، فيبيِّن وجه المناسبة، ويربط بين السابق واللاحق
١
/ ١٩٧
من آيات القرآن، حتى يوضِّح أن القرآن لا تفكك فيه،
وإنما هو آيات متناسبة يأخذ بعضها بحُجز بعض.
خامسًا: ملاحظة أسباب النزول.
فكل آية نزلت على سبب فلا بد من ذكره بعد بيان المناسبة وقبل الدخول فى شرح
الآية، وقد ذكر السيوطى فى الإتقان أن الزركشى قال فى أوائل البرهان: «قد جرت
عادة المفسِّرين أن يبدأوا بذكر سبب النزول، ووقع البحث فى أنه: أيهما أولى
بالبداءة؟ أيُبدأ بذكر السبب، أو بالمناسبة لأنها المصحِّحة لنظم الكلام، وهى
سابقة على النزول؟ قال: والتحقيق التفصيل بين أن يكون وجه المناسبة متوقفًا على
سبب النزول كآية ﴿إِنَّ الله يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأمانات إلى أَهْلِهَا﴾
[النساء: ٥٨] .. فهذا ينبغى فيه تقديم ذكر السبب، لأنه حينئذ من باب تقديم
الوسائل على المقاصد. وإن لم يتوقف على ذلك، فالأَوْلى تقديم وجه المناسبة».
سادسًا:
بعد الفراغ من ذكر المناسبة وسبب النزول. يبدأ بما يتعلق بالألفاظ المفردة - من
اللغة، والصرف، والاشتقاق - ثم يتكلم عليها بحسب التركيب، فيبدأ بالإعراب، ثم بما
يتعلق بالمعانى، ثم البيان، ثم البديع، ثم يبيِّن المعنى المراد، ثم يستنبط ما
يمكن استنباطه من الآية فى حدود القوانين الشرعية.
سابعًا: على المفسِّر أن
يتجنب ادعاء التكرار فى القرآن ما أمكن.
نقل السيوطى عن بعض العلماء أنه
قال: «مما يدفع توهم التكرار فى عطف المترادفين نحو: ﴿لاَ تُبْقِي وَلاَ تَذَرُ﴾،
﴿صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ﴾ وأشباه ذلك، أن يعتقد أن مجموع
المترادفين يحصل معنى لا يوجد عند انفراد أحدهما، فإن التركيب يُحدث معنًى
زائدًا، وإذا كانت كثرة الحروف تفيد زيادة المعنى، فكذلك كثرة الألفاظ».
وعلى
المفسِّر أيضًا أن يتجنب كل ما يُعتبر من قبيل الحشو فى التفسير كالخوض فى ذكر
علل النحو، ودلائل مسائل أصول الفقه، ودلائل مسائل الفقه، ودلائل مسائل أصول
الدين، فإن كل ذلك مقرر فى تآليف هذه العلوم، وإنما يؤخذ ذلك مسلَّمًا فى علم
التفسير دون استدلال عليه.
وكذلك على المفسِّر أن يتجنب ذكر ما لا يصح من
أسباب النزول وأحاديث الفضائل، والقَصص الموضوع، والأخبار الإسرائيلية، فإن هذا
مما يُذهِب بجمال القرآن، ويُشغِل الناس عن التدبر والاعتبار.
١
/ ١٩٨
ثامنًا: على المفسِّر بعد كل هذا أن يكون يقظًا، فطنًا
عليمًا بقانون الترجيح، حتى إذا ما كانت الآية محتملة لأكثر من وجه أمكنه أن
يُرَجِّح ويختار.
وإذا كان المفسِّر لا بد له من أن يحتكم إلى قانون الترجيح
عندما تحتمل الآية أكثر من وجه، فإنَّا فى حاجة إلى بيان هذا القانون، الذى هو
الحَكَم الفصل عند تزاحم الوجوه وكثرة الاحتمالات، فنقول:
قانون الترجيح فى
الرأى
أجمع كلمة قيلت فى بيان هذا القانون، هى الكلمة التى نقلها لنا
السيوطى فى كتابه الإتقان عن البرهان للزركشى، ونرى أن نسوقها هنا نقلًا عن
الإتقان، ونكتفى بذلك لما فيها من الكفاية:
قال الزركشى رحمه الله تعالى:
«كل لفظ احتمل معنيين فصاعدًا هو الذى لا يجوز لغير العلماء الاجتهاد فيه، وعليهم
اعتماد الشواهد والدلائل دون مجرد الرأى، فإن كان أحد المعنيين أظهر، وجب الحمل
عليه، إلا أن يقوم الدليل على أن المراد هو الخفى.
وإن استويا، والاستعمال
فيهما حقيقة، لكن فى أحدهما حقيقة لغوية أو عرفية، وفى الآخر شرعية، فالحمل على
الشرعية أولى، إلا أن يدل دليل على إرادة اللغوية، كما فى قوله: ﴿وَصَلِّ
عَلَيْهِمْ إِنَّ صلاوتك سَكَنٌ لَّهُمْ﴾ [التوبة: ١٠٣] .. ولو كان فى أحدهما
عرفية، والآخر لغوية، فالحمل على العرفية أولى. وإن اتفقا فى ذلك أيضًا، فإن
تنافى اجتماعهما ولم يمكن إرادتهما باللفظ الواحد، كالقُرء للحيض والطُهر، اجتهد
فى المراد منهما بالأمارات الدالة عليه، فما ظنه فهو مراد الله تعالى فى حقه. وإن
لم يظهر له شئ فهل يتخيَّر فى الحمل على أيهما شاء؟ أو يأخذ بالأغلظ حكمًا؟ أو
بالأخف؟ أقوال. وإن لم يتنافيا وجب الحمل عليهما عند المحققين، ويكون ذلك أبلغ فى
الإعجاز والفصاحة، إلا إن دَلَّ دليل على إرادة أحدهما».
* *
* منشأ
الخطأ فى التفسير بالرأى:
يقع الخطأ كثيرًا فى التفسير من بعض المتصدرين
للتفسير بالرأى، الذين عدلوا عن مذاهب الصحابة والتابعين، وفسَّروا بمجرد الرأى
والهوى، غير مستندين إلى تلك الأصول التى قدَّمنا أنها أول شئ يجب على المفسِّر
أن يعتمد عليه. ولا متذرعين بتلك العلوم التى هى فى الواقع أدوات لفهم كتاب الله
والكشف عن أسراره ومعانيه.
١ / ١٩٩
ونرى هنا
أن نذكر منشأ هذا الخطأ الذى وقع فيه كثير من طوائف المفسِّرين فنقول:
يرجع
الخطأ فى التفسير بالرأى - غالبًا - إلى جهتين حدثنا بعد تفسير الصحابة والتابعين
وتابعيهم بإحسان، فإن الكتب التى يُذكر فيها كلام هؤلاء صرفًا غير ممزوج بغيره،
كتفسير عبد الرزاق، وعبد بن حميد، وغيرهما، لا يكاد يوجد فيها شئ من هاتين
الجهتين، بخلاف الكتب التى جَدَّت بعد ذلك فإن كثيرًا منها، كتفاسير المعتزلة
والشيعة، مليئة بأخطاء لا تُغتفر، حملهم على ارتكابهم نُصرة المذهب والدفاع عن
العقيدة.
أما هاتان الجهتان اللتان يرجع إليهما الخطأ فى الغالب فهما ما
يأتى:
الجهة الأولى: أن يعتقد المفسِّر معنى من المعانى، ثم يريد أن يحمل
ألفاظ القرآن على ذلك المعنى الذى يعتقده.
الجهة الثانية: أن يفسِّر القرآن
بمجرد ما يسوغ أن يريده بكلامه مَنْ كان مِنَ الناطقين بلغة العرب. وذلك بدون نظر
إلى المتكلم بالقرآن، والمنزَّل عليه، والمخاطَب به.
فالجهة الأولى: مراعى
فيها المعنى الذى يعتقده المفسِّر من غير نظر إلى ما تستحقه ألفاظ القرآن من
الدلالة والبيان.
والجهة الثانية: مراعى فيها مجرد اللفظ وما يجوز أن يريد
به العربى، من غير نظر إلى ما يصلح للمتكلم به والمخاطَب، وسياق الكلام.
ثم
إن الخطأ الذى يرجع إلى الجهة الأولى يقع على أربع صور:
الصورة الأولى: أن
يكون المعنى الذى يريد المفسِّر نفيه أو إثباته صوابًا، فمراعاة لهذا المعنى يحمل
عليه لفظ القرآن، مع أنه لا يدل عليه ولا يُراد منه، وهو مع ذلك لا ينفى المعنى
الظاهر المراد، وعلى هذا يكون الخطأ واقعًا فى الدليل لا فى المدلول، وهذه الصورة
تنطبق على كثير من تفاسير الصوفية والوعَّاظ الذين يفسِّرون القرآن بمعان صحيحة
فى ذاتها ولكنها غير مرادة، ومع ذلك فهم يقولون بظاهر المعنى، وذلك مثل كثير مما
ذكره أبو عبد الرحمن السلمى فى حقائق التفسير، فمثلًا عندما عرض لقوله تعالى فى
الآية [٦٦] من سورة النساء: ﴿وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقتلوا
أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخرجوا مِن دِيَارِكُمْ ... .﴾ الآية، نجده يقول ما نصه:
﴿اقتلوا أَنْفُسَكُمْ﴾ بمخالفة هواها، ﴿أَوِ اخرجوا مِن دِيَارِكُمْ﴾، أي أخرجوا
حب الدنيا من قلوبكم.. إلخ.
الصورة الثانية: أن يكون المعنى الذى يريد
المفسِّر نفيه أو إثباته صوابًا، فمراعاة لهذا المعنى يسلب لفظ القرآن ما يدل
عليه ويُراد به. ويحمله على ما يريده هو، وعلى
١ / ٢٠٠
هذا
يكون الخطأ واقعًا فى الدليل لا فى المدلول أيضًا، وهذه الصورة تنطبق على تفاسير
بعض المتصوفة الذين يفسِّرون القرآن بمعان إشارية صحيحة فى حد ذاتها، ومع ذلك
فإنهم يقولون: إن المعانى الظاهرة غير مرادة، وتفسير هؤلاء أقرب ما يكون إلى
تفسير الباطنية، ومن ذلك ما فسَّرَ به سهل التسترى قوله تعالى فى الآية [٣٥] من
سورة البقرة: ﴿وَلاَ تَقْرَبَا هاذه الشجرة فَتَكُونَا مِنَ الظالمين﴾ .. حيث
يقول ما نصه: لم يرد الله معنى الأكل فى الحقيقة، وإنما أراد معنى مساكنة الهمة
لشئ هو غيره ... . إلخ.
الصورة الثالثة: أن يكون المعنى الذى يريد المفسِّر
نفيه أو إثباته خطأ، فمراعاة لهذا المعنى يحمل عليه لفظ القرآن، مع أنه لا يدل
عليه ولا يُراد منه، وهو مع ذلك لا ينفى الظاهر المراد، وعلى هذا يكون الخطأ
واقعًا فى الدليل والمدلول معًا، وهذه الصورة تنطبق على ما ذكره بعض المتصوفة من
المعانى الباطلة، وذلك كالتفسير المبنى على القول بوحدة الوجود، كما جاء فى
التفسير المنسوب لابن عربى عندما عرض لقوله تعالى فى الآية [٨] من سورة المزمل:
﴿واذكر اسم رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا﴾ .. من قوله فى تفسيرها:
واذكر اسم ربك الذى هو أنت، أى اعرف نفسك ولا تنسها فينسك الله ... . إلخ.
الصورة
الرابعة: أن يكون المعنى الذى يريد المفسِّر نفيه أو إثباته خطأ، فمراعاة لهذا
المعنى يسلب لفظ القرآن ما يدل عليه ويُراد به، ويحمله على ذلك الخطأ دون الظاهر
المراد، وعلى هذا يكون الخطأ فى الدليل والمدلول معًا، وهذه الصورة تنطبق على
تفاسير أهل البدع، والمذاهب الباطلة، فتارة يلوون لفظ القرآن عن ظاهره المراد إلى
معنى ليس فى اللفظ أى دلالة عليه، كتفسير بعض غلاة الشيعة: «الجبت والطاغوت» بأبى
بكر وعمر، وتارة يحتالون على صرف اللفظ عن ظاهره إلى معنى فيه تكلف غير مقبول،
وذلك إذا أحسوا أن اللفظ القرآنى يصادم مذهبهم الباطل، كما فعل بعض المعتزلة
ففسَّر لفظ «إلى» فى قوله تعالى فى الآيتين [٢٢، ٢٣] من سورة القيامة: ﴿وُجُوهٌ
يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ * إلى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ﴾ بالنعمة، ذهابًا منهم إلى أن
«إلى» واحد الآلاء، بمعنى النعم، فيكون المعنى: ناظرة نعمة ربها، على التقديم
والتأخير، وذلك كله ليصرف الآية عما تدل عليه من رؤية الله فى الآخرة.
وأما
الخطأ الذى يرجع إلى الجهة الثانية فهو يقع على صورتين:
الصورة الأولى: أن
يكون اللفظ محتملًا للمعنى الذى ذكره المفسِّر لغة، ولكنه غير مراد، وذلك كاللفظ
الذى يُطلق فى اللغة على معنيين أو أكثر. والمراد منه واحد بعينه، فيأتى المفسِّر
فيحمله على معنى آخر من معانيه غير المعنى المراد، وذلك كلفظ «أُمَّة» فإنه يُطلق
على معان، منها: الجماعة، والطريقة المسلوكة فى الدين، والرجل الجامع لصفات
الخير، فحمله على غير معنى الطريقة المسلوكة فى الدين فى قوله تعالى فى الآية
[٢٢] من سورة الزخرف: ﴿إِنَّا وَجَدْنَآ آبَآءَنَا على أُمَّةٍ﴾ غير صحيح وإن
احتمله اللفظ لغة.
الصورة الثانية: أن يكون اللفظ موضوعًا لمعنى بعينه،
ولكنه
١ / ٢٠١
غير مُراد فى الآية، وإنما
المراد معنى آخر غير ما وضع له اللفظ بقرينة السياق مثلًا، فيخطئ المفسِّر فى
تعيين المعنى المراد، لأنه اكتفى بظاهر اللغة، فشرح اللفظ على معناه الوضعى، وذلك
كتفسير لفظ «مبصرة» فى قوله تعالى فى الآية [٥٩] من سورة الإسراء: ﴿وَآتَيْنَا
ثَمُودَ الناقة مُبْصِرَةً﴾ بجعل «مبصرة» من الإبصار بالعين، على أنها حال من
الناقة، وهذا خلاف المراد، إذ المراد: آية واضحة.
* *
* التعارض بين
التفسير المأثور والتفسير بالرأى:
قلنا إن التفسير بالرأى قسمان: قسم مذموم
غير مقبول، وقسم ممدوح ومقبول، أما القسم المذموم، فلا يعقل وجود تعارض بينه وبين
المأثور، لأنه ساقط من أول الأمر، وخارج عن محيط التفسير بمعناه الصحيح.
وأما
التفسير بالرأى المحمود، فهذا هو الذى يعقل التعارض بينه وبين التفسير المأثور،
وهذا هو الذى نريد أن نتكلم فيه ونعرض له بالبحث والبيان، غير أنه يتحتم علينا -
ليكون الكلام على بصيرة - أن نعرض لبيان معنى هذا التعارض فنقول:
التعارض
بين التفسير العقلى والتفسير المأثور معناه التقابل والتنافى بينهما، وذلك بأن
يدل أحدهما على إثبات أمر مثلًا، والآخر يدل على نفيه، بحيث لا يمكن اجتماعهما
بحال من الأحوال، فكأن كلًا منهما وقف فى عرض الطريق فمنع الآخر من السير فيه.
وأما إذا وجدت المغايرة بينهما بدون منافاة وأمكن الجمع، فلا يُسمى ذلك تعارضًا،
وذلك كتفسيرهم: ﴿الصراط المستقيم﴾ بالقرآن، وبالإسلام، وبطريق العبودية، وبطاعة
الله ورسوله، فهذه المعانى وإن تغايرت غير متنافية ولا متناقضة، لأن طريق الإسلام
هو طريق القرآن، وهو طريق العبودية، وهو طاعة الله ورسوله. ومثلًا تفسيرهم لقوله
تعالى: ﴿فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ
سَابِقٌ بالخيرات﴾
١ / ٢٠٢
[فاطر: ٣٢] .. قيل
فيه: السابق هو الذى يُصلِّى فى أول الوقت، والمقتصد هو الذى يُصلَّى فى أثنائه،
والظالم هو الذى يُصلِّى بعد فواته.
وقيل: السابق مَن يُؤدى الزكاة المفروضة
مع الصدقة، والمقتصد مَن يُؤدى الزكاة المفروضة وحدها، والظالم لنفسه مَن يمنع
الزكاة ولا يتصدق.
وغير خاف أنه لا تنافى بين هذين التفسيرين وأن تغايرا،
لأن الظالم لنفسه يتناول المُضَيِّعُ للواجبات، والمنتهك للحرمات، والمقتصد
يتناول فاعل الواجبات وتارك المحرَّمات، والسابق يتناول مَن يفعل الواجبات
ويتقرَّب بعد ذلك بزيادة الحسنات، فكل ذكرَ فردًا لعام على سبيل التمثيل لا
الحصر.
هذا.. وإن الصور العقلية التى يحصل فيها التعارض بين التفسير العقلى
والتفسير النقلى هى ما يأتى:
أولًا: أن يكون العقلى قطعيًا والنقلى قطعيًا
كذلك.
ثانيًا: أن يكون أحدهما قطعيًا والآخر ظنيًا.
ثالثًا: أن يكون
أحدهما ظنيًا والآخر ظنيًا كذلك.
أما الصورة الأولى، ففرضية، لأنه لا يعقل
تعارض بين قطعى وقطعى، ومن المحال أن يتناقض الشرع مع العقل.
وأما الصورة
الثانية: فالقطعى منهما مُقَدَّم على الظنى إذا تعذَّر الجمع ولم يمكن التوفيق،
أخذًا بالأرجح وعملًا بالأقوى.
وأما الصورة الثالثة: فإن أمكن الجمع بين
العقلى والنقلى، وجب حمل النظم الكريم عليهما. وإن تعذَّر الجمع، قُدِّمَ التفسير
المأثور عن النبى ﷺ إن ثبت من طريق صحيح، وكذا يُقَدَّم ما صحَّ عن الصحابة، لأن
ما يصح نسبته إلى الصحابة فى التفسير، النفس إليه أميل، لاحتمال سماعه من الرسول
ﷺ، ولما امتازوا به من الفهم الصحيح والعمل الصالح، ولما اختُصوا به من مشاهدة
التنزيل.
وأما ما يؤثر عن التابعين ففيه التفصيل، وذلك إما أن يكون التابعى
معروفًا بالأخذ عن أهل الكتاب أو لا، فإن عُرِف بالأخذ عن أهل الكتاب قدم التفسير
العقلى. وإن لم يُعرف بالأخذ عن أهل الكتاب وتعارض ما جاء عنه مع التفسير العقلى
- كما هو الفرض - فحينئذ نلجأ إلى الترجيح، فإن تأيَّد أحدهما بسمع أو استدلال
رجحناه على الآخر، وإن اشتبهت القرائن، وتعارضت الأدلة والشواهد، توقفنا فى
الأمر، فنؤمن بمراد الله تعالى، ولا نتهجم على تعيينه، وينزل ذلك منزلة المجمل
قبل تفصيله، والمتشابه قبل تبيينه.
وبعد.. فهذا هو التفسير العقلى بقسميه،
وهذه هى نظرات العلماء إليه، وتلك
١ / ٢٠٣
هى
حقيقة الخلاف، ثم هذه هى البحوث التى تتعلق به تعلقًا قويًا، وتتصل به اتصلًا
وثيقًا، وأرى بعد ذلك أن أتكلم عن أهم كتب التفسير بالرأى الجائز وأشهرها،
متعرضًا لنبذة قصيرة عن كل مؤلف، تلقى لنا ضوءًا على شخصيته الذاتية والعلمية،
ملتزمًا بيان المسلك الذى سلكه كل منهم فى تفسيره، وطريقته التى جرى عليها وامتاز
بها، بما يظهر لى من ذلك أثناء قراءتى فى هذه الكتب، مستعينًا فى ذلك بما أظفر به
من مقدمات قدَّم بها أصحاب هذه الكتب لكتبهم، ثم بعد الفراغ من ذلك يكون لنا كلام
آخر عن موقف بعض الفِرق من التفسير، وعن أشهر مؤلفاتهم فيه، وهى لا تكاد تخرج عن
دائرة التفسير بالرأى المذموم.
* * *
١ / ٢٠٤
أهم كتب التفسير بالرأى الجائز
* تمهيد:
ابتدأ عهد التدوين من قديم، وظفر التفسير بالتدوين
كغيره من العلوم، فأُلِّفت فيه كتب اختلفت فى منهجها، حسب اختلاف مشارب مؤلفيها،
وظفرت هذه الناحية من التفسير - ناحية التفسير بالرأى الجائز - بكثرة زاخرة من
الكتب المؤلفة، كثرة تضخمت على مَرِّ العصور وكَرِّ الدهور، ففى كل عصر يَجِّد
جديد من الكتب المؤلَّفة فى التفسير بالرأى الجائز، ثم تنضم إلى ما سبق من ذلك،
حتى ازدحمت بها المكتبة الإسلامية على اتساعها وطول عهدها.
ولكن هل احتفظت
لنا المكتبة الإسلامية بكل هذه الكتب؟ أو عفى رسمها وذهب أثرها؟
لا.. لا
هذا، ولا ذاك، بل احتفظت لنا ببعضها، وذهب بعضها الآخر بتقادم الزمن عليه، ومع
هذا فإن القصور المكتبى، حال بيننا وبين الاطلاع، على جميع ما خلَّفته لنا
المكتبة الإسلامية العامة.. لهذا، ولعدم القدرة على الاطلاع على كل ما يوجد من
هذه الكتب واستيعابه بالبحث والدراسة، أكتفى بأن أتعرض لبعض هذه الكتب على ضوء
المنهج الذى بيَّنته، ولعل فى ذلك غِنَىً عن بعضها الآخر، الذى حال بينى وبين
القصور المكتبى تارة، والقصور الزمنى تارة أخرى.
هذا.. ولا يقوتنى أن أنبه
إلى أن هذه الكتب التى وقع عليها اختيارى، يتجه كل منها إلى اتجاه معيَّن، وتغلب
عليه ناحية خاصة من نواحى التفسير وألوانه، فمنها ما تغلب عليه الصناعة النحوية،
ومنها ما تغلب عليه النزعة الفلسفية والكلامية، ومنها ما تطغى فيه الناحية
القصصية والإسرائيلية، ومنها غير ذلك. ولكن الجميع ينضم تحت شئ واحد هو التفسير
بالرأى الجائز، فلا عليه - إذن - إن كنت قد جمعت بين هذه الكتب المختلفة المنازع
والاتجاهات، وهذا أمر اعتبارى لا أقل ولا أكثر.
أما هذه الكتب التى وقع
عليها اختيارى، فهى ما يأتى:
١ - مفاتيح الغيب: للفخر الرازى
٢ - أنوار
التنزيل وأسرار التأويل: للبيضاوى
٣ - مدارك التنزيل وحقائق التأويل:
للنسفى
٤ - لُباب التأويل فى معانى التنزيل: للخازن
٥ - البحر المحيط:
لأبى حيان
٦ - غرائب القرآن ورغائب الفرقان: للنيسابورى
١
/ ٢٠٥
٧ - تفسير الجلالين: للجلال المحلى، والجلال السيوطى
٨
- السراج المنير فى الإعانة على معرفة بعض معانى كلام ربنا الحكيم الخبير: للخطيب
الشربينى
٩ - إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم: لأبى السعود
١٠
- روح المعانى فى تفسير القرآن العظيم والسبع المثانى: للألوسى
هذه هى الكتب
التى وقع عليها اختيارى، وسأتكلم عنها على حسب هذا الترتيب، فأقول وبالله
التوفيق:
١ - مفاتيح الغيب (للرازى)
* التعريف بمؤلف هذا التفسير:
مؤلف
هذا التفسير، هو أبو عبد الله، محمد بن عمر بن الحسين بن الحسن ابن علىّ،
التميمى، البكرى، الطبرستانى، الرازى، الملقَّب بفخر الدين، والمعروف بابن الخطيب
الشافعى، المولود سنة ٥٤٤ هـ (أربع وأربعين وخمسمائة من الهجرة) . كان ﵀ فريد
عصره، ومتكلم زمانه، جمع كثيرًا من العلوم ونبغ فيها، فكان إمامًا فى التفسير
والكلام، والعلوم العقلية، وعلوم اللغة، ولقد أكسبه نبوغه العلمى شهرة عظيمة،
فكان العلماء يقصدونه من البلاد، ويشدون إليه الرحال من مختلف الأقطار، وقد أخذ
العلم عن والده ضياء الدين المعروف بخطيب الرى، وعن الكمال السمعانى، والمجد
الجيلى، وكثير من العلماء الذين عاصرهم ولقيهم، وله فوق شهرته العلمية شهرة كبيرة
فى الوعظ، حتى قيل إنه كان يعظ باللسان العربى واللسان العجمى، وكان يلحقه الوجد
فى حال الوعظ ويكثر البكاء، ولقد خلَّف ﵀ للناس مجموعة كبيرة من تصانيفه فى
الفنون المختلفة، وقد انتشرت هذه التصانيف فى البلاد، ورزق فيها الحظوة الواسعة،
والسعادة العظيمة، إذ أن الناس اشتغلوا بها، وأعرضوا عن كتب المتقدمين. ومن أهم
هذه المصنفات: تفسيره الكبير المسمى بمفاتيح الغيب، وهو ما نحن بصدده الآن، وله
تفسير سورة الفاتحة فى مجلد واحد، ولعله هو الموجود بأول تفسيره «مفاتيح الغيب»،
وله فى علم الكلام: المطالب العالية، وكتاب البيان والبرهان فى الرد على أهل
الزيغ والطغيان. وله فى أصول الفقه: المحصول، وفى الحكمة: المخلص، وشرح الإشارات
لابن سينا، وشرح عيون الحِكمة، وفى الطلمسات: السر المكنون، ويقال: إنه شرح
المفصل فى النحو للزمخشرى، وشرح الوجيز فى الفقه للغزالى.. وغير هذا كثير من
مصنفاته، التى يتجلى فيها علم الرجل الواسع الغزير.
هذا.. وقد كانت وفاة
الرازى ﵀ سنة ٦٠٦ هـ (ست وستمائة من
١ / ٢٠٦
الهجرة)
بالرى، ويقال فى سبب وفاته: أنه كان بينه وبين الكرَّامية خلاف كبير وجدل فى أمور
العقيدة، فكان ينال منهم وينالون منه سبًا وتكفيرًا، وأخيرًا سمُّوه فمات على إثر
ذلك واستراحوا منه.
* *
* التعريف بهذا التفسير وطريقة مؤلفه فيه:
يقع
هذا التفسير فى ثمانى مجلدات كبار، وهو مطبوع ومتداول بين أهل العلم، ويقول ابن
قاضى شُهبة: إنه - أى الفخر الرازى - لم يتمه، كما يقول ذلك ابن خلكان فى وفيات
الأعيان، إذن فمَن الذى أكمل هذا التفسير؟ وإلى أى موضع من القرآن وصل الفخر
الرازى فى تفسيره؟
الحق أن هذه مشكلة لم نوفق إلى حلها حلًا حاسمًا، لتضارب
أقوال العلماء فى هذا الموضوع، فابن حجر العسقلانى، فى كتابه الدرر الكامنة فى
أعيان المائة الثامنة، يقول: «الذى أكمل تفسير فخر الدين الرازى، هو أحمد بن محمد
بن أبى الحزم مكى نجم الدين المخزومى القمولى، مات سنة ٧٢٧ هـ (سبع وعشرين
وسبعمائة من الهجرة) هو مصرى».
وصاحب كشف الظنون يقول: «وصنَّف الشيخ نجم
الدين أحمد ابن محمد القمولى تكملة له، وتوفى سنة ٧٢٧ هـ (سبع وعشرين وسبعمائة من
الهجرة)، وقاضى القضاة شهاب الدين بن خليل الخويى الدمشقى، كمَّل ما نقص منه
أيضًا، وتوفى سنة ٦٣٩ هـ (تسع وثلاثين وستمائة)».
فأنت ترى أن ابن حجر يذكر
أن الذى أتم تفسير الفخر هو نجم الدين القمولى، وصاحب كشف الظنون يجعل لشهاب
الدين الخويى مشاركة على وجه ما فى هذه التكملة، وإن كانا يتفقان على أن الرازى
لم يتم تفسيره.
وأما إلى أى موضع وصل الفخر فى تفسيره؟ فهذه كالأولى أيضًا،
وذلك لأننا وجدنا على هامش كشف الظنون ما نصه: «الذى رأيته بخط السيد مرتضى نقلًا
عن شرح الشفا للشهاب، أنه وصل فيه إلى سورة الأنبياء».
وقد وجدت فى أثناء
قراءتى فى هذا التفسير عند قوله تعالى فى الآية [٢٤] من سورة الواقعة: ﴿جَزَآءً
بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾ هذه العبارة: "المسألة الأولى أصولية، ذكرها
١
/ ٢٠٧
الإمام فخر الدين ﵀ فى مواضع كثيرة، ونحن نذكر بعضها..
إلخ».
وهذه العبارة تدل على أن الإمام فخر الدين، لم يصل فى تفسيره إلى هذه
السورة.
كما وجدتُ عند تفسيره لقوله تعالى فى الآية [٦] من سورة المائدة
﴿يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصلاة﴾ .. الآية، أنه تعرَّض
لموضوع النيَّة فى الوضوء. واستشهد على اشتراط النيَّة فيه بقوله تعالى فى الآية
[٥] من سورة البينة: ﴿وَمَآ أمروا إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ الله مُخْلِصِينَ لَهُ
الدين﴾ .. وبيَّن أن الإخلاص عبارة عن النيَّة، ثم قال: «وقد حققنا الكلام فى هذا
الدليل فى تفسير قوله تعالى: ﴿وَمَآ أمروا إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ الله مُخْلِصِينَ
لَهُ الدين﴾ فليُرجع إليه فى طلب زيادة الإتقان».
وهذه العبارة تُشعر بأن
الفخر الرازى فسَّر سورة البيِّنة، أى أنه وصل إليها فى تفسيره، وهذا طبعًا بحسب
ظاهر العبارة المجرد عن كل شئ.
والذى أستطيع أن أقوله كحل لهذا الاضطراب: هو
أن الإمام فخر الدين، كتب تفسيره هذا إلى سورة الأنبياء، فأتى بعده شهاب الدين
الخويى، فشرع فى تكملة هذا التفسير ولكنه لم يتمه، فأتى بعده نجم الدين القمولى
فأكمل ما بقى منه. كما يجوز أن يكون الخويى أكمله إلى النهاية، والقمولى كتب
تكملة أخرى غير التى كتبها الخويى، وهذا هو الظاهر من عبارة صاحب كشف الظنون.
وأما
إحالة الفخر على ما كتبه فى سورة البيِّنة، فهذا ليس بصريح فى أنه وصل إليها فى
تفسيره، إذ لعله كتب تفسيرًا مستقلًا لسورة البيِّنة، أو لهذه الآية وحدها، فهو
يشير إلى ما كتب فيها ويحيل عليه.
أقول هذا، وأعتقد أنه ليس حلًا حاسمًا
لهذا الاضطراب، وإنما هو توفيق يقول على الظن يُخطئ ويُصيب.
ثم إن القارئ فى
هذا التفسير، لا يكاد يلحظ فيه تفاوتًا فى المنهج والمسلك، بل يجرى الكتاب من
أوله إلى آخره على نمط واحد، وطريقة واحدة، تجعل الناظر فيه لا يستطيع أن يُميِّز
بين الأصل والتكملة، ولا يتمكن من الوقوف على حقيقة المقدار الذى كتبه الفخر،
والمقدار الذى كتبه صاحب التكملة.
هذا.. وإن تفسير الفخر الرازى ليحظى بشهرة
واسعة بين العلماء، وذلك لأنه يمتاز عن غيره من كتب التفسير، بالأبحاث الفيَّاضة
الواسعة، فى نواح شتَّى من العلم،
١ / ٢٠٨
ولهذا
يصفه ابن خلكان فيقول: «إنه - أى الفخر الرازى - جمع فيه كل غريب وغريبة».
*
*
* اهتمام الفخر الرازى ببيان المناسبات بين آيات القرآن وسوره:
وقد
قرأتُ فى هذا التفسير، فوجدتُ أنه يمتاز بذكر المناسبات بين الآيات بعضها مع بعض،
وبين السور بعضها مع بعض، وهو لا يكتفى بذكر مناسبة واحدة بل كثيرًا ما يذكر أكثر
من مناسبة.
* *
* اهتمامه بالعلوم الرياضية والفلسفية:
كما أنه
يُكثر من الاستطراد إلى العلوم الرياضية والطبيعية، وغيرها من العلوم الحادثة فى
المِلَّة، على ما كانت عليه فى عهده، كالهيئة الفلكية وغيرها، كما أنه يعرض
كثيرًا لأقوال الفلاسفة بالرد والتفنيد، وإن كان يصوغ أدلته فى مباحث الإلهيات
على نمط استدلالاته العقلية، ولكن بما يتفق ومذهب أهل السُنَّة.
* *
*
موقفه من المعتزلة:
ثم إنه - كسُّنِّى يرى ما يراه أهل السُّنَّة، ويعتقد
بكل ما يقررونه من مسائل علم الكلام - لا يدع فرصة تمر دون أن يعرض لمذهب
المعتزلة بذكر أقوالهم والرد عليهم، ردًا لا يراه البعض كافيًا ولا شافيًا.
فهذا
هو الحافظ ابن حجر يقول عنه فى لسان الميزان: «وكان يُعاب بإيراد الشبهة الشديدة،
ويُقَصِّر فى حلها، حتى قال بعض المغاربة:»يُورد الشُبَه نقدًا ويحلها نسيئة«.
وقال
ابن حجر أيضًا فى لسان الميزان:»ورأيت فى الإكسير فى علم التفسير للنجم الطوفى ما
ملخصه: ما رأيت فى التفاسير أجمع لغالب علم التفسير من القرطبى، ومن تفسير الإمام
فخر الدين، إلا أنه كثير العيوب، فحدَّثنى شرف الدين النصيبى، عن شيخه سراج الدين
السرمياحى المغربى، أنه صنَّف كتاب المأخذ فى مجلدين، بيَّن فيهما فى تفسير الفخر
من الزيف والبهرج، وكان ينقم عليه كثيرًا ويقول: يورد شُبَه المخالفين فى المذهب
والدين على غاية ما يكون من التحقيق، ثم يورد مذهب أهل السُّنَّة والحق على غاية
من الوهاء. قال الطوفى: ولعَمرى، إن هذا دأبه فى كتبه الكلامية والحكمة. حتى
اتهمه بعض الناس، ولكنه خلاف ظاهر حاله، لأنه لو كان اختار قولًا أو مذهبًا ما
كان عنده مَن يخاف منه حتى يستر عنه، ولعل سببه أنه كان يستفرغ أقوالًا فى تقرير
دليل الخصم، فإذا انتهى إلى تقرير دليل نفسه لا يبقى عنده
١ /
٢٠٩
شئ من القوى، ولا شك أن القوى النفسانية تابعة للقوى
البدنية، وقد صرَّح فى مقدمة نهاية العقول: أنه مقرر مذهب خصمه تقريرًا لو أراد
خصمه تقريره لم يقدر على الزيادة على ذلك».
* *
* موقفه من علوم الفقه
والأصول والنحو والبلاغة:
ثم إن الفخر الرازى لا يكاد يمر بآية من آيات
الأحكام إلا ويذكر مذاهب الفقهاء فيها، مع ترويجه لمذهب الشافعى - الذى يُقلِّدُه
- بالأدلة والبراهين.
كذلك نجده يستطرد لذكر المسائل الأصولية، والمسائل
النحوية، والبلاغية، وإن كان لا يتوسع فى ذلك توسعه فى مسائل العلوم الكونية
والرياضية.
وبالجملة.. فالكتاب أشبه ما يكون بموسوعة فى علم الكلام، وفى
علوم الكون والطبيعة، إذ أن هذه الناحية، هى التى غلبت عليه حتى كادت تُقَلِّل من
أهمية الكتاب كتفسير للقرآن الكريم.
ومن أجل ذلك قال صاحب كشف الظنون: «إن
الإمام فخر الدين الرازى ملأ تفسيره بأقوال الحكماء والفلاسفة، وخرج من شئ إلى
شئ، حتى يقضى الناظر العجب» ونقل عن أبى حيان أنه قال فى البحر المحيط: «جمع
الإمام الرازى فى تفسيره أشياء كثيرة طويلة لا حاجة بها فى علم التفسير، ولذلك
قال بعض العلماء: فيه كل شئ إلا التفسير».
ويظهر لنا أن الإمام فخر الدين
الرازى كان مولعًا بكثرة الاستنباطات والاستطرادات فى تفسيره، ما دام يستطيع أن
يجد صلة ما بين المستنبَط أو المستطرَد إليه وبين اللفظ القرآنى، والذى يقرأ
مقدمة تفسيره لا يسعه إلا أن يحكم على الفخر هذا الحكم، وذلك حيث يقول: «اعلم أنه
مَرَّ على لسانى فى بعض الأوقات، أن هذه السورة الكريمة - يريد الفاتحة - يمكن أن
يُستنبَط من فوائدها ونفائسها عشرة آلاف مسألة، فاستبعد هذا بعض الحُسَّاد، وقوم
من أهل الجهل والغى والعناد، وحملوا ذلك على ما ألفوه من أنفسهم من التعلقات
الفارغة عن المعانى، والكلمات الخالية عن تحقيق المعاقد والمبانى، فلما شرعتُ فى
تصنيف هذا الكتاب، قدَّمتُ هذه المقدمة، لتصير كالتنبيه على أن ما ذكرناه أمر
ممكن الحصول، قريب الوصول» ... إلخ.
وبعد.. فالكتاب بين يديك، فأجِلْ نظرك
فى جميع نواحيه، فسوف لا ترى إلا ما قلته فيه، وما حكمتُ به عليه.
* * *
١
/ ٢١٠
٢ - أنوار التنزيل وأسرار التأويل (للبيضاوى)
*
التعريف بمؤلف هذا التفسير:
مؤلف هذا التفسير، هو قاضى القضاة، ناصر الدين
أبو الخير، عبد الله ابن عمر بن محمد بن علىّ، البيضاوى الشافعى، وهو من بلاد
فارس، قال ابن قاضى شهبة فى طبقاته: «صاحب المصنفات، وعالم أذربيجان، وشيخ تلك
الناحية. ولى قضاء شيراز». وقال السبكى: «كان إمامًا مُبرَزًا نظَّارًا خَيِّرًا،
صالحًا متعبدًا». وقال ابن حبيب: «تكلَّم كل من الأئمة بالثناء على مصنفاته، ولو
لم يكن له غير المنهاج الوجيز لفظه المحرر لكفاه». ولى القضاء بشيراز، وتوفى
بمدينة تبريز. قال السبكى والأسنوى: سنة ٦٩١هـ (إحدى وتسعين وستمائة)، وقال ابن
كثير وغيره: «سنة ٦٨٥هـ (خمس وثمانين وستمائة) . ومن أهم مصنفاته: كتاب المنهاج
وشرحه فى أصول الفقه، وكتاب الطوالع فى أصول الدين، وأنوار التنزيل وأسرار
التأويل فى التفسير، وهو ما نحن بصدده الآن. وهذه الكتب الثلاثة من أشهر الكتب
وأكثرها تداولًا بين أهل العلم.
* *
* التعريف بهذا التفسير وطريقة
مؤلفه فيه:
تفسير العلامة البيضاوى، تفسير متوسط الحجم، جمع فيه صاحبه بين
التفسير والتأويل، على مقتضى قواعد اللغة العربية، وقرر فيه الأدلة على أصول أهل
السُّنَّة.
وقد اختصر البيضاوى تفسيره من الكشاف للزمخشرى، ولكنه ترك ما فيه
من اعتزالات، وإن كان أحيانًا يذهب إلى ما يذهب إليه صاحب الكشاف، ومن ذلك أنه
عندما فسَّر قوله تعالى فى الآية [٢٧٥] من سورة البقرة: ﴿الذين يَأْكُلُونَ الربا
لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الذي يَتَخَبَّطُهُ الشيطان مِنَ المس﴾ ...
.. الآية، وجدناه يقول:»إلا قيامًا كقيام المصروع، وهو وارد على ما يزعمون أن
الشيطان يخبط الإنسان فيُصرَع«.. ثم يفسِّر المس بالجنون ويقول:»وهذا أيضًا من
زعمانهم أنَّ الجنى يمس الرجل فيختلط عقله".
ولا شك أن هذا موافق لما ذهب
إليه الزمخشرى من أن الجن لا تسلط لها على الإنسان إلا بالوسوسة والإغواء.
كما
أننا نجد البيضاوى قد وقع فيما وقع فيه صاحب الكشاف، من ذكره فى نهاية كل سورة
حديثًا فى فضلها وما لقارئها من الثواب والأجر عند الله، وقد عرفنا قيمة هذه
الأحاديث، وقلنا إنها موضوعة باتفاق أهل الحديث، وليستُ أعرف كيف اغترَّ
١
/ ٢١١
بها البيضاوى فرواها وتابع الزمخشرى فى ذكرها عند آخر
تفسيره لكل سورة، مع ما له من مكانة علمية، وسيأتى اعتذار بعض الناس عنه فى ذلك،
وإن كان اعتذارًا ضعيفًا، لا يكتفى لتبرير هذا العمل الذى لا يليق بعالم
كالبيضاوى له قيمته ومكانته.
وكذلك استمد البيضاوى تفسيره من التفسير الكبير
المسمى بمفاتيح الغيب للفخر الرازى، ومن تفسير الراغب الأصفهانى، وضم لذلك بعض
الآثار الواردة عن الصحابة والتابعين، كما أنه أعمل فيه عقله، فضمنه نكتًا بارعة،
ولطائف رائعة، واستنباطات دقيقة، كل هذا فى أسلوب رائع موجز، وعبارة تدُق أحيانًا
وتخفى إلا على ذى بصيرة ثاقبة، وفطنة نيِّرة. وهو يهتم أحيانًا بذكر القراءت،
ولكنه لا يلتزم المتواتر منها فيذكر الشاذ، كما أنه يعرض للصناعة النحوية، ولكن
بدون توسع واستفاضة، كما أنه يتعرض عند آيات الأحكام لبعض المسائل الفقهية بدون
توسع منه فى ذلك، وإن كان يظهر لنا أنه يميل غالبًا لتأييد مذهبه وترويجه، فمثلًا
عند تفسيره لقوله تعالى فى الآية [٢٢٨] من سورة البقرة: ﴿والمطلقات يَتَرَبَّصْنَ
بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قرواء﴾ .. يقول ما نصه: وقُروء جمع قُرء، وهو يُطلق
للحيض كقوله ﵊: «دَعِى الصلاة أيام أقرائك» وللطُهر الفاصل بين الحيضتين، كقول
الأعشى:
مورثة مالًا وفى الحى رفعة ... لما ضاع فيها من قُروء نسائكما
وأصله
الانتقال من الطُهر إلى الحيض، وهو المراد فى الآية، لأنه الدال على براءة الرحم
لا الحيض كما قاله الحنفية، لقوله تعالى: ﴿فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ﴾
[الطلاق: ١] أى وقت عدّتهن، والطلاق المشروع لا يكون فى الحيض. وأما قوله ﵊:
«طلاق الأمَة تطليقتان وعدِتَّها حيضتان»، فلا يُقاوِم ما رواه الشيخان فى قصة
ابن عمر: «مُرْهُ فليراجعها، ثم ليمسكها حتى تطهر، ثم تحيض، ثم تطهر، ثم إن شاء
أمسك بعد، وإن شاء طلّق قبل أن يمس، فتلك العِدَّة التى أمر الله تعالى أن
تُطَلَّق لها النساء» ... إلخ.
كذلك نجد البيضاوى كثيرًا ما يقرر مذهب أهل
السُّنَّة ومذهب المعتزلة، عندما يعرض لتفسير آية لها صلة بنقطة من نقط النزاع
بينهم.
فمثلًا عند تفسيره لقوله تعالى فى الآيتين [٢] و[٣] من سورة البقرة:
﴿ذَلِكَ الكتاب لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ * الذين يُؤْمِنُونَ
بالغيب وَيُقِيمُونَ الصلاة وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ﴾ نراه يعرض لبيان
معنى الإيمان والنفاق عند أهل السُّنَّة والمعتزلة والخوراج. بتوسع ظاهر، وترجيح
منه لمذهب أهل السُّنَّة.
١ / ٢١٢
ومثلًا عند
تفسيره لقوله تعالى فى أول سورة البقرة أيضًا: ﴿وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ
يُنْفِقُونَ﴾ نراه يتعرض للخلاف الذى بين أهل السُّنَّة والمعتزلة فيما يُطلق
عليه اسم الرزق، ويذكر وجهة نظر كل فريق، مع ترجيحه لمذهب أهل السُّنَّة.
والبيضاوى
﵀ مُقِّلٌ جدًا من ذكر الروايات الإسرائيلية، وهو يُصْدِّر الرواية بقوله: رُوِى،
أو قِيل ... إشعارًا منه بضعفها.
فمثلًا عند تفسيره لقوله تعالى فى الآية
[٢٢] من سورة النمل: ﴿فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ
بِهِ وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ﴾ يقول بعد فراغه من تفسيرها: رُوى
أنه ﵇ لما أتم بناء بيت المقدس تجهز للحج.. إلى آخر القصة التى يقف البيضاوى بعد
روايتها موقف المجوِّز لها. غير القاطع بصحتها، حيث يقول ما نصه: «ولعله فى عجائب
قدرة الله وما خصّ به خاصة عباده أشياء أعظم من ذلك، يستكبرها مَن يعرفها،
ويستنكرها مَن ينكرها».
ثم إن البيضاوى إذا عرض للآيات الكونية، فإنه لا
يتركها بدون أن يخوض فى مباحث الكون والطبيعة، ولعل هذه الظاهرة سرت إليه من طريق
التفسير الكبير للفخر الرازى، الذى استمد منه كما قلنا. فمثلًا عند تفسيره لقوله
تعالى فى الآية [١٠] من سورة الصافات: ﴿فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ﴾ نراه يعرض
لحقيقة الشهاب فيقول: الشهاب ما يُرى كأن كوكبًا انقض، ثم يرد على مَن يخالف ذلك
فيقول: وما قيل إنه بخار يصعد إلى الأثير فيشتعل فتخمين - إن صَحَّ - لم يُناف
ذلك«.. إلى آخر كلامه فى هذا الموضوع.
هذا وأرى أن أسوق لك بعض العبارات
الشارحة لمنهج البيضاوى فى تفسيره، والمبيِّنة لمصادره التى رجع إليها واختصره
منها، كشاهد على بعض ما ذكرناه من ناحية، وتتميمًا للفائدة من ناحية أخرى.
قال
البيضاوى نفسه فى مقدمة تفسيره هذا بعد الديباجة ما نصه:»ولطالما أحدِّث نفسى بأن
أصنِّف فى هذا الفن - يعنى التفسير - كتابًا يحتوى على صفوة ما بلغنى من عظماء
الصحابة، وعلماء التابعين ومَن دونهم من السَلَف الصالحين، وينطوى على نِكات
بارعة، ولطائف رائعة، استنبطتها أنا ومَن قبلى مِن أفاضل المتأخرين، وأماثل
المحققين، ويعرب عن وجوه القراءات المشهورة المَعْزِّية إلى الأئمة الثمانية
المشهورين، والشواذ المروية عن القرَّاء المعتبرين، إلاَّ أن قصور بضاعتى يُثبطنى
عن الإقدام، ويمنعنى عن الانتصاب فى هذا المقام، حتى سنح لى بعد الاستخارة ما صمم
به عزمى على
١ / ٢١٣
الشروع فيما أردته،
والإتيان بما قصدته، ناويًا أن أسميه بأنوار التنزيل وأسرار التأويل».
ويقول
فى آخر الكتاب ما نصه: «وقد اتفق إتمام تعليق سواد هذا الكتاب المنطوى على فوائد
ذوى الألباب. المشتمل على خلاصة أقوال أكابر الأئمة، وصفوة آراء أعلام الأُمة، فى
تفسير القرآن وتحقيق معانيه. والكشف عن عويصات ألفاظه ومعجزات مبانيه، مع الإيجاز
الخالى عن الإخلال، والتلخيص العارى عن الإضلال، الموسوم بأنوار التنزيل وأسرار
التأويل».
وكأنِّى به فى هذه الجملة الأخيرة، يشير إلى أنه اختصر من تفسير
الكشاف ولخَّصَ منه، ضمن ما اختصره ولخَّصَهُ من كتب التفسير الأخرى، غير أنه ترك
ما فيه من نزعات الضلال، وشطحات الاعتزال.
ويقول الجلال السيوطى ﵀ فى حاشيته
على هذا التفسير المسماة بـ «نواهد الأبكار وشوارد الأفكار» ما نصه: «وإن القاضى
ناصر الدين البيضاوى لخَّصَ هذا الكتاب فأجاد، وأتى بكل مُستجاد، وماز فيه أماكن
الاعتزال، وطرح موضع الدسائس وأزال، وحرَّر مُهمات، واستدرك تتمات، فظهر كأنه
سبيكه نِضار، واشتهر اشتهار الشمس فى رائعة النهار، وعكف عليه العاكفون، ولهَج
بذكر محاسنه الواصفون، وذاق طعم دقائقه العارفون، فأكَبَّ عليه العلماء تدريسًا
ومطالعة، وبادروا إلى تلقيه بالقبول رغبة فيه ومسارعة».
ويقول صاحب كشف
الظنون ما نصه: "وتفسيره هذا - يريد تفسير البيضاوى - كتاب عظيم الشأن غنى عن
البيان، لخَّصَ فيه من الكشاف ما يتعلق بالإعراب والمعانى والبيان، ومن التفسير
الكبير ما يتعلق بالحكمة والكلام، ومن تفسير الراغب ما يتعلق بالاشتقاق وغوامض
الحقائق ولطائف الإشارات. وضم إليه ما وَرَّى زناد فكره من الوجوه المعقولة، فجلا
رين الشك عن السريرة، وزاد فى العلم بسطة وبصيرة، كما قال مولانا المنشى:
أولوا
الألباب لم يأتوا ... بكشف قناع ما يُتلى
ولكن كان للقاضى ... يد بيضاء لا
تُبلى
ولكونه متبحرًا جال فى ميدان فرسان الكلام، فأظهر مهارته فى العلوم
حسبما يليق بالمقام، كشف القناع عن تارة عن وجوه محاسن الإشارة، ومْلح الاستعارة،
وهتك
١ / ٢١٤
الأستار أخرى عن أسرار
المعقولات بيد الحكمة ولسانها. وترجمان المناطقة وميزانها، فحل ما أشْكَلَ على
الآنام، وذلَّل لهم صِعاب المرام، وأورد فى المباحث الدقيقة ما يُؤْمَنُ به عن
الشُبَه المضلة، وأوضح لهم مناهج الأدلة. والذى ذكره من وجوه التفسير ثانيًا أو
ثالثًا أو رابعًا بلفظ «قيل»، فهو ضعيف ضعف المرجوح أو ضعف المردود.
وأما
الوجه الذى تفرَّد فيه، وظن بعضهم أنه مما لا ينبغى أن يكون من الوجوه التفسيرية
السُّنِّية، كقوله: وحمل الملائكة العرش وحفيفهم حوله مجاز عن حفظهم وتدبيرهم له،
ونحوه، فهو ظن من لعله يقصر فهمه عن تصور مبانيه، ولا يبلغ علمه إلى الإحاطة بما
فيه، فمَن اعترض بمثله على كلامه كأنه ينصب الحبالة للعنقاء، ويروم أن يقنص نسر
السماء، لأنه مالك زمام العلوم الدينية، والفنون اليقينية، على مذهب أهل
السُّنَّة والجماعة. وقد اعترفوا له قاطبة بالفضل المطلق، وسلَّموا إليه قصب
السبق، فكان تفسيره يحتوى فنونًا من العلم وعرة المسالك، وأنواعًا من القواعد
المختلفة الطرائق، وقلّ من برز فى فن إلا وصدَّه عن سواه وشغله، والمرء عده لما
جهله، فلا يصل إلى مرامه إلا من نظر إليه بعين فكره، وأعمى عين هواه، واستعبد
نفسه فى طاعة مولاه، حتى يسلم من الغلط والزلل، ويقتدر على رد السفسطة والجدل.
وأما
أكثر الأحاديث التى أوردها فى أواخر السور، فإنه لكونه ممن صفت مرآة قلبه، وتعرّض
لنفحات ربه، تسامح فيه، وأعرض عن أسباب التجريح والتعديل، ونحا نحو الترغيب
والتأويل، عالمًا بأنها مما فاه صاحبه بزور، ودلَّى بغرور.
ثم إن هذا الكتاب
رُزِق من عند الله ﷾ بحسن القبول عند جمهور الأفاضل والفحولَ، فعكفوا عليه بالدرس
والتحشية، فمنهم من علَّق تعليقة على سورة منه، ومنهم مَن حشى تحشية تامة، ومنهم
من كتب على بعض مواضع منه".. ثم عَدَّ من هذه الحواشى ما يزيد عدده على الأربعين،
ولا أطيل بذكرها، ومَن شاء الاطلاع على ذلك فليرجع إليه فى موضعه الذى أشرتْ
إليه، وحسبى أن أقول: إن أشهر هذه الحواشى وأكثرها تداولًا ونفعًا: حاشية قاضى
زاده، وحاشية الشهاب الخفاجى، وحاشية القونوى.
١ / ٢١٥
وجملة
القول.. فالكتاب من أُمهات كتب التفسير، التى لا يستغنى عنها مَن يريد أن يفهم
كلام الله تعالى، ويقف على أسراره ومعانيه، وهو مطبوع عدة طبعات، ومتوسط فى
حجمه.
* * *
٣ - مدارك التنزيل وحقائق التأويل (للنسفى)
* التعريف
بمؤلف هذا التفسير:
مؤلف هذا التفسير، هو أبو البركات، عبد الله بن أحمد بن
محمود النسفى الحنفى، أحد الزُّهاد المتأخرين، والأئمة المعتبرين، كان إمامًا
كاملًا عديم النظير فى زمانه، رأسًا فى الفقه والأصول، بارعًا فى الحديث ومعانيه،
بصيرًا بكتاب الله تعالى، وهو صاحب التصانيف المفيدة المعتبرة فى الفقه والأصول
وغيرهما. فمن مؤلفاته: متن الوافى فى الفروع، وشرحه الكافى، وكنز الدقائق فى
الفقه أيضًا، والمنار في أصول الفقه، والعُمدة فى أصول الدين، ومدارك التنزيل
وحقائق التأويل، وهو التفسير الذى نحن بصدد الكلام عنه، وغير ذلك من المؤلَّفات
التى تداولها العلماء، وتناولوها دراسة وبحثًا، وليس هذا التراث العلمى بكثير على
رجل تفقَّه على كثير من مشايخ عصره وأخذ عنهم، ومن هؤلاء: شمس الأئمة الكردى
وعليه تفقه، وأحمد بن محمد العتابى الذى روى عنه الزيادات.
وكانت وفاة
النسفى ﵀ سنة ٧٠١ هـ (إحدى وسبعمائة من الهجرة)، ودفن ببلدة أيذج فرضى الله عنه
وأرضاه.
* *
* التعريف بهذا التفسير وطريقة مؤلفه فيه:
هذا
التفسير، اختصره النسفى ﵀ من تفسير البيضاوى ومن الكشاف للزمخشرى، غير أنه ترك ما
فى الكشاف من الاعتزالات، وجرى فيه على مذهب أهل السُّنَّة والجماعة، وهو تفسير
وسيط بين الطول والقصر، جمع فيه صاحبه بين وجوه الإعراب والقراءات، وضمنه ما
اشتمل عليه الكشاف من النكت البلاغية، والمحسنَّات البديعية، والكشف عن المعانى
الدقيقة الخفية، وأورد فيه ما أورده الزمخشرى فى تفسيره من الأسئلة والأجوبة، لكن
لا على طريقته من قوله: «فإن قيل ... قلت» بل جعل ذلك فى الغالب كلامًا مدرجًا فى
ضمن شرحه للآية، كما أنه لم يقع فيما وقع فيه صاحب الكشاف من ذكره للأحاديث
الموضوعة فى فضائل السور.
١ / ٢١٦
هذا وقد
أورد النسفى فى مقدمة تفسيره عبارة قصيرة، أوضح فيها عن طريقته التى سلكها فيه،
وأرى أن أسوقها لك بنصها لتمام الفائدة:
قال ﵀: «قد سألنى مَن تتعين إجابته،
كتابًا وسطًا فى التأويلات، جامعًا لوجوه، الإعراب والقراءات، متضمنًا لدقائق
علمى البديع والإشارات، حاليًا بأقاويل أهل السُّنَّة والجماعة، خاليًا عن أباطيل
أهل البدع والضلالة، ليس بالطويل الممل، ولا بالقصير المخل، وكنت أُقدِّم فيه
رِجْلًا وأؤخر أخرى، استقصارًا لقوة البَشر عن درك هذا الوطر، وأخذًا لسبيل الحذر
عن ركوب متن الخطر، حتى شرعتُ فيه بتوفيق الله والعوائق كثيرة، وأتممته فى مدة
يسيرة، وسميته بمدارك التنزيل وحقائق التأويل».
وقال صاحب كشف الظنون:
«اختصره - يعنى تفسير النسفى - الشيخ زين الدين، أبو محمد، عبد الرحمن بن أبى بكر
بن العينى، وزاد فيه». ولكن لم يقع فى يدنا هذا المختصر، ولم نظفر به حتى نحكم
عليه.
قرأتُ فى هذا التفسير فوجدته كما قلت آنفًا موجز العبارة سهل المأخذ،
مختصرًا من تفسير الكشاف، جامعًا لمحاسنه، متحاشيًا لمساوئه، ومن تفسير البيضاوى
أيضًا حتى إنه ليأخذ عبارته بنصها أو قريبًا منه ويضمنها تفسيره.
* *
*
خوضه فى المسائل النحوية:
كذلك وجدته - كما يقول صاحبه - جامعًا بين وجوه
الإعراب والقراءات، غير أنه من ناحية الإعراب لا يستطرد كثيرًا. ولا يزج
بالتفاصيل النحوية فى تفسيره كما يفعل غيره، فمثلًا عند تفسيره لقوله تعالى فى
الآية [٢١٧] من سورة البقرة: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشهر الحرام قِتَالٍ فِيهِ
قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ الله وَكُفْرٌ بِهِ والمسجد
الحرام﴾ .. الآية.
يقول ما نصه: «والمسجد الحرام»: عطف على «سبيل الله»، أى
وَصَدّ عن سبيل الله وعن المسجد الحرام، وزعم الفرّاء أنه معطوف على الهاء فى
«به»، أى كفر به وبالمسجد الحرام، ولا يجوز عند البصريين العطف على الضمير
المجرور إلا بإعادة الجار،
١ / ٢١٧
فلا تقول:
مررت به وزيد، ولكن تقول: وبزيد، ولو كان معطوفًا على الهاء هنا لقيل: وكفر به
وبالمسجد الحرام».
* *
* موقفه من القراءات:
وأما من ناحية
القراءات فهو ملتزم للقراءات السبع المتواترة مع نسبة كل قراءة إلى قارئها.
*
* *
* خوضه فى مسائل الفقه:
كذلك عند تفسيره لآية من آيات الأحكام نجده
يعرض للمذاهب الفقهية التى لها تعلق وارتباط بالآية، ويوجه الأقوال ولكن بدون
توسع.
فمثلًا عند تفسيره لقوله تعالى فى الآية [٢٢٢] من سورة البقرة:
﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ المحيض قُلْ هُوَ أَذًى فاعتزلوا النسآء فِي المحيض وَلاَ
تَقْرَبُوهُنَّ حتى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ
أَمَرَكُمُ الله﴾ .
يقول ما نصه: «... ثم عند أبى حنيفة وأبى يوسف - رحمهما
الله - يجتنب ما اشتمل عليه الإزار. ومحمد ﵀ لا يُوجب إلا اعتزال الفَرُج، وقالت
عائشة رضى الله عنها: يجتنب شعار الدم وله ما سوى ذلك.
﴿وَلاَ
تَقْرَبُوهُنَّ﴾ مجامعين، أو: ولا تقربوا مجامعتهن ﴿حتى يَطْهُرْنَ﴾ بالتشديد -
كوفى غير حفص - أى يغتسلن، وأصله يتطهرن فأدغم التاء فى الطاء لقرب مخرجيهما.
غيرهم ﴿يَطْهُرْنَ﴾ أى ينقطع دمهن، والقراءتان كآيتين، فعملنا بهما. وقلنا: له أن
يقربها فى أكثر الحيض بعد انقطاع الدم وإن لم تغتسل، عملًا بقراءة التخفيف، وفى
أقل منه لا يقربها حتى تغتسل أو يمضى عليها وقت الصلاة، عملًا بقراءة التشديد،
والحمل على هذا أولى من العكس، لأنه حينئذ يجب ترك العمل بإحداهما لما عُرف. وعند
الشافعى ﵀ لا يقربها حتى تطهر وتتطهر، دليله قوله تعالى: ﴿فَإِذَا تَطَهَّرْنَ
فَأْتُوهُنَّ﴾: فجامعوهن، فجمع بينهما..».
وهو ينتصر لمذهبه الحنفى ويرد على
مَنْ خالفه فى كثير من الأحيان، وإن أردت الوقوف على ذلك فارجع إليه عند تفسيره
لقوله تعالى فى الآية [٢٢٨] من سورة البقرة: ﴿والمطلقات يَتَرَبَّصْنَ
بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قرواء﴾ .. (جـ ١ ص ٨٩)؛ وعند
١ /
٢١٨
تفسيره لقوله تعالى فى الآية (٢٣٧) من سورة البقرة: ﴿وَإِن
طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ
فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلاَّ أَن يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَاْ الذي
بِيَدِهِ عُقْدَةُ النكاح﴾ . (جـ ١ ص ٩٥) وعند تفسيره لقوله تعالى فى الآية [٦]
من سورة الطلاق: ﴿أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم مِّن وُجْدِكُمْ﴾ ..
الآية، (جـ ٤ ص ٢٠١) .
* *
* موقفه من الإسرائيليات:
ومما نلحظه
على هذا التفسير أنه مُقِل جدًا فى ذكره للإسرائيليات، وما يذكره من ذلك يمر عليه
بدون أن يتعقبه أحيانًا، وأحيانًا يتعقبه ولا يرتضيه.
فمثلًا نجده عند
تفسيره لقوله تعالى فى الآية [١٦] من سورة النمل: ﴿وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ
وَقَالَ ياأيها الناس عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطير﴾ يقول: روى أنه صاحب فاختة فأخبر
أنها تقول: ليت ذا الخلق لم يُخلقوا، وصاح طاووس فقال: يقول: كما تدين تدان. وصاح
هدهد فقال: يقول: استغفروا الله يا مذنبون. وصاح خطاف فقال: يقول: قَدِّموا خيرًا
تجدوه، وصاحت رخمة فقال: تقول: سبحان ربى الأعلى ملء سمائه وأرضه، وصاح قمرى
فأخبر أنه يقول: سبحان ربى الأعلى، وقال: الحدأة تقول: كل شئ هالك إلا الله،
والقطاة تقول: مَن سكت سلم، والديك يقول: اذكروا الله يا غافلون، والنسر يقول: يا
بن آدم، عِشْ ما شئت آخرك الموت، والعُقاب يقول: فى البُعد عن الناس أُنس.
والضفدع يقول: سبحانه ربى القدوس.
ثم يتكلم عن قوله تعالى: ﴿وَأُوتِينَا مِن
كُلِّ شَيْءٍ﴾ بدون أن يتعقب ما ذكره من ذلك كله.
ومثلًا عند تفسيره لقوله
تعالى فى الآية [٣٥] من سورة النمل أيضًا: ﴿وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ
بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ المرسلون﴾ .. نراه يذكر خبر هدية بلقيس
لسليمان وما كان من امتحانها له، وهو خبر أشبه ما يكون بقصة نسجها خيال شخص مسرف
فى تخيله، ومع ذلك فلا يُعَقِّب عليها الإمام النسفى بكلمة واحدة.
ومثلًا
عند تفسيره لقوله تعالى فى الآيتين [٢١] و[٢٢] فى سورة [ص]: ﴿وَهَلْ أَتَاكَ
نَبَأُ الخصم إِذْ تَسَوَّرُواْ المحراب * إِذْ دَخَلُواْ على دَاوُودَ فَفَزِعَ
مِنْهُمْ قَالُواْ لاَ تَخَفْ خَصْمَانِ بغى بَعْضُنَا على بَعْضٍ فاحكم
بَيْنَنَا بالحق وَلاَ تُشْطِطْ واهدنآ إلى سَوَآءِ الصراط﴾ .. نراه - بعد أن
يذكر من الروايات ما لاَ يتنافى مع عصمة داود ﵇ يقول ما نصه: "وما يُحكى أنه بعث
مرة بعد مرة أوريا إلى غزوة البلقاء وأحب أن يُقتل
١ / ٢١٩
ليتزوجها
- يعنى زوجة أوريا - فلا يليق من المتسمين بالصلاح من أفناء الناس، فضلًا عن بعض
أعلام الأنبياء، وقال علىّ رضى الله عنه: مَن حدَّثكم بحديث داود ﵇ على ما يرويه
القصاص، جلدته مائة وستين، وهو حد الفرية على الأنبياء».
ومثلًا عند تفسيره
لقوله تعالى فى الآية [٣٤] من سورة [ص] أيضًا: ﴿وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ
وَأَلْقَيْنَا على كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ﴾ .. نراه يذكر من الروايات
ما لا يتنافى مع عصمة سليمان ﵇، ثم يقول ما نصه: «وأما ما يُروى من حديث الخاتم
والشيطان، وعبادة الوثن فى بيت سليمان ﵇، فمن أباطيل اليهود».
ففى هذه الآية
الأخيرة وما قبلها نجد النسفى ﵀ يتصدى للتنبيه والرد على القَصص المكذوب الذى
يتنافى مع عصمة الأنبياء، ولا يتساهل هنا كما تساهل فيما مثَّلنا به قبل ذلك،
ولعله يرى أن كل ما يمس العقيدة من هذا القَصص يجب التنبيه على عدم صحته، وما لا
يمس العقيدة فلا مانع من روايته بدون تعقيب عليه، ما دام يحتمل الصدق والكذب فى
ذاته، ولا يتنافى مع العقل أو يتصادم مع الشرع.
هذا.. وإن الكتاب لمتداول
بين أهل العلم، ومطبوع فى أربعة أجزاء متوسطة الحجم، وقد نَفَّعَ الله به الناس
كما نفَّعَهم بغيره من مؤلَّفات النسفى ﵀.
* * *
٤ - لُبَاب التأويل فى
معانى التنزيل (للخازن)
* التعريف بمؤلف هذا التفسير:
مؤلف هذا
التفسير. هو علاء الدين، أبو الحسن، علىّ بن محمد ابن إبراهيم بن عمر بن خليل
الشيحى. البغدادى، الشافعى، الصوفى، المعروف بالخازن. اشتهر بذلك لأنه كان خازن
كتب خانقاه السميساطية بدمشق. ولُد ببغداد سنة ٦٧٨ هـ (ثمان وسبعين وستمائة من
الهجرة)، وسمع بها من ابن الدواليبى، وقدم دمشق فسمع من القاسم ابن مظفر ووزيرة
بنت عمر، واشتغل بالعلم كثيرًا. قال ابن قاضى شهبة: «كان من أهل العلم، جمع
وألَّف، وحدَّث ببعض مصنفاته». وقد خَلَّف ﵀ كتبًا جمَّة فى فنون مختلفة، فمن
ذلك: لُبَاب التأويل فى معانى التنزيل، وهو التفسير الذى نريد الكلام عنه، وشرح
عمدة الأحكام، ومقبول المنقول فى عشر مجلدات، جمع فيه بين مسندى الشافعى وأحمد
والكتب الستة والموطأ وسنن الدارقطنى، ورتَّبه على الأبواب، وجمع سيرة نبوية
مطوَّلة. وكان ﵀
١ / ٢٢٠
صوفيًا حسن السمت
بشوش الوجه، كثير التودد للناس. توفى سنة ٧٤١ هـ (إحدى وأربعين وسبعمائة من
الهجرة) بمدينة حلب، فرحمه الله رحمة واسعة.
* *
* التعريف بهذا
التفسير وطريقة مؤلفه فيه:
هذا التفسير اختصره مؤلفه من معالم التنزيل
للبغوى، وضم إلى ذلك ما نقله ولخّصه من تفاسير من تقدَّم عليه، وليس له فيه - كما
يقول - سوى النقل والانتخاب، مع حذف الأسانيد وتجنب التطويل والإسهاب.
وهو
مكثر من رواية التفسير المأثور إلى حد ما، مَعْنِىُّ بتقرير الأحكام وأدلتها،
مملوء بالأخبار التاريخية، والقصص الإسرائيلى الذى لا يكاد يسلم كثير منه أمام
ميزان العلم الصحيح والعقل السليم، وأرى أن أسوق هنا ما قاله الخازن نفسه فى
مقدمة تفسيره، مبيِّنًا به طريقته التى سلكها، ومنهجه الذى نهجه فيه، وفيها غِنى
عن كل شئ.
قال رحمه الله تعالى: ولما كان كتاب معالم التنزيل، الذى صنَّفه
الشيخ الجليل، والحَبْر النبيل، الإمام العالم محيى السُّنَّة، قدوة الأُمة،
وإمام الأئمة، مفتى الفِرق، ناصر الحديث، ظهير الدين، أبو محمد الحسين ابن مسعود
البغوى - قدَّس الله روحه، ونوَّر ضريحه - مِن أجَّلِّ المصنفات فى علم التفسير
وأعلاها، وأنبلها وأسناها. جامعًا للصحيح من الأقاويل، عاريًا عن الشُبه والتصحيف
والتبديل، محلىّ بالأحاديث النبوية، مطرزًا بالأحكام الشرعية، موشىً بالقَصص
الغريبة، وأخبار الماضين العجيبة، مُرصعًا بأحسن الإشارات، مخرجًا بأوضح
العبارات، مُفرغًا فى قالب الجمال بأفصح مقال، فرحم الله تعالى مُصنِّفه وأجزل
ثوابه. وجعل الجنة متقلبه ومآبه. لما كان هذا كتاب كما وصفتُ، أحببتُ أن أنتخب من
غُرَرِ فوائده، ودُرَرِ فرائده، وزواهر نصوصه، وجواهر فصوصه، مختصرًا جامعًا
لمعانى التفسير، ولُباب التأويل والتعبير، حاويًا لخلاصة منقوله، متضمنًا لنكته
وأصوله، مع فوائد نقلتها، وفرائد لخَّصتها من كتب التفسير المصنَّفة، فى سائر
علومه المؤلَّفة، ولم أجعل لنفسى تصرفًا سوى النقل والانتخاب، مجتنبًا حد التطويل
والإسهاب، وحذفتُ منه الإسناد لأنه أقرب إلى تحصيل المراد، فما أوردتُ فيه من
الأحاديث النبوية والأخبار المصطفوية، على تفسير آية أو بيان حكم - فإن الكتاب
يُطلب بيانه من السُّنَّة، وعليها مدار الشرع وأحكام الدين - عزوتُه إلى مخرجه،
وبيَّنتُ اسم ناقله، وجعلتُ عوض كل اسم حرفًا يُعرف به، ليهون على الطالب طلبه.
فما كان من صحيح أبى عبد الله محمد بن إسماعيل البخارى فعلامته قبل ذكر الصحابى
الراوى للحديث (خ) . وما كان من صحيح أبى الحسين مسلم ابن الحجاج
١
/ ٢٢١
النيسابورى فعلامته (م) . وما كان مما اتفقا عليه
فعلامته (ق) . وما كان من كتب السنن، كسنن أبى داود، والترمذى، والنسائى فإنى
أذكر اسمه بغير علامة. وما لم أجده فى هذه الكتب ووجدت البغوى قد أخرجه بسند له
انفرد به. قلت: روى البغوى بسنده، وما رواه البغوى بإسناد الثعلبى قلت: روى
البغوى بإسناد الثعلبى. وما كان فيه من أحاديث زائدة وألفاظ متغيرة فأعتمده، فإنى
اجتهدت فى تصحيح ما أخرجته من
الكتب المعتبرة عند العلماء كالجمع بين
الصحيحين للحميدى، وكتاب جامع الأصول لابن الأثير الجزرى، ثم إنى عوَّضتُ عن حذف
الإسناد شرح غريب الحديث وما يتعلق به. ليكون أكمل فائدة فى هذا الكتاب، وأسهل
على الطُلاب، وسقته بأبلغ ما قدرتُ عليه من الإيجاز وحسن الترتيب، مع التسهيل
والتقريب. وينبغى لكل مؤلف كتابًا فى فن قد سُبق إليه، أن لا يخلو كتابه من خمس
فوائد: استنباط شئ إن كان معضلًا. أو جمعه إن كان متفرقًا. أو شرحه إن كان
غامضًا. أو حُسْن نظم وتأليف. أو إسقاط حشو وتطويل، وأرجو أن لا يخلو هذا الكتاب
عن هذه الخصال التى ذكرت. وسمَّيته: «لُباب التأويل فى معانى التنزيل».
ثم
قدَّم الخازن لتفسيره بخمسة فصول - الفصل الأول: فى فصل القرآن وتلاوته وتعليمه.
الفصل الثانى: فى وعيد مَن قال فى القرآن برأيه من غير علم، ووعيد مَن أوتى
القرآن فنسيه ولم يتعهده. الفصل الثالث: فى جمع القرآن وترتيب نزوله، وفى كونه
نزل على سبعة أحرف. الفصل الرابع: فى كون القرآن نزل على سبعة أحرف وما قيل فى
ذلك. الفصل الخامس: فى معنى التفسير والتأويل. ثم ابتدأ بعد ذلك فى التفسير.
*
توسعه فى ذكر الإسرائيليات:
وقد قرأت فى هذا التفسير كثيرًا فوجدته يتوسع فى
ذكر القصص الإسرائيلى وكثيرًا ما ينقل ما جاء من ذلك عن بعض التفاسير التى تعنى
بهذه الناحية كتفسير الثعلبى وغيره، وهو فى الغالب لا يُعَقِّب على ما يذكر من
القَصص الإسرائيلى، ولا ينظر إليه بعين الناقد البصير، وإن كان فى بعض المواضيع
لا يترك القصة تمر بدون أن يُبَيِّن لنا ضعفها أو كذبها، ولكن على ندرة.
فمثلًا
عند تفسيره لقوله تعالى فى سورة [ص]: ﴿وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الخصم إِذْ
تَسَوَّرُواْ المحراب ... ... .﴾ الآيات إلى قوله تعالى: ﴿وَظَنَّ دَاوُودُ
أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فاستغفر رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ﴾ [٢١-٢٤] نراه
يسوق قَصصًا أشبه ما يكون بالخرافة كقصة الشيطان الذى تمثَّل لداود فى صورة حمامة
من ذهب فيها من كل لون حسن، وجناحاها من الدُّر والزبرجد، فطارت ثم وقعت بين
رجليه وألهته عن صلاته، وقصة المرأة التى وقع بصره عليها فأعجبه جمالها فاحتال
على زوجها حتى قُتِل رجاء أن تسلم له هذه المرأة التى فُتِنَ بها وشُغِفَ بحبها،
وغير ذلك من الروايات العجيبة الغريبة، ولكنه يأتى بعد كل هذا فيقول: "فصل فى
تنزيه داود ﵊ عما لا يليق به ويُنسب
١ / ٢٢٢
إليه»
ويُفَنِّد فى هذا الفصل كل ما ذكره مما يتنافى مع عصمة نبى الله داود ﵇.
ولكنَّا
نرى الخازن يمر بقصص كثيرة لا يُعقِّب عليها، مع أن بعضها غاية فى الغرابة،
وبعضها مما يخل بمقام النبوَّة.
فمثلًا عند تفسيره لقوله تعالى فى الآية
[١٠] من سورة الكهف: ﴿إِذْ أَوَى الفتية إِلَى الكهف﴾ .. الآية، نراه يذكر قصة
أصحاب الكهف، وسبب خروجهم إليه عن محمد بن إسحاق ومحمد بن يسار، وهى غاية فى
الطول والغرابة ومع ذلك فهو يذكرها ولا يُعَقِّب عليها بلفظ واحد.
ومثلًا
عند تفسيره لقوله تعالى فى الآيتين [٨٣، ٨٤] من سورة الأنبياء: ﴿وَأَيُّوبَ إِذْ
نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضر وَأَنتَ أَرْحَمُ الراحمين * فاستجبنا لَهُ
فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَّعَهُمْ
رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وذكرى لِلْعَابِدِينَ﴾ .. نراه يروى فى حق أيوب ﵇، قصة
طويلة جدًا عن وَهب بن منبَّه، وهى مما لا يكاد يقرها الشرع أو يُصدِّقها العقل،
لما فيها من المنافاة لمقام النبوَّة، ومع ذلك، فهو يذكر هذه القصة ويمر عليها
بدون أن يُعَقِّب عليها بأية كلمة.
* *
* عنايته بالأخبار
التاريخية:
كذلك نلاحظ على هذا التفسير أنه يفيض فى ذكر الغزوات التى كانت
على عهد النبى ﷺ وأشار إليها القرآن.
فمثلًا عند تفسيره لقوله تعالى فى
الآية [٩] من سورة الأحزاب: ﴿ياأيها الذين آمَنُواْ اذكروا نِعْمَةَ الله
عَلَيْكُمْ إِذْ جَآءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا
لَّمْ تَرَوْهَا وَكَانَ الله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا﴾ نراه بعد أن يفرغ من
التفسير يقول: «ذكر غزوة الخندق وهى الأحزاب» ثم يذكر وقائع الغزوة وما جرى فيها
باستفاضة وتوسع.
ومثلًا عند تفسيره لقوله تعالى فى الآية [٢٧] من سورة
الأحزاب أيضًا: ﴿وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ
وَأَرْضًا لَّمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا﴾ .. نراه
يستطرد إلى ذكر غزوة بنى قريظة، بتوسع ظاهر، وتفصيل تام.
* *
* عنايته
بالناحية الفقهية:
كذلك نجد هذا التفسير يعنى جد العناية بالناحية الفقهية،
فإذا تكلَّم
١ / ٢٢٣
عن آية من آيات الأحكام،
استطرد إلى مذاهب الفقهاء وأدلَّتهم، وأقحم فى التفسير فروعًا فقهية كثيرة، قد لا
تهم المفسِّر بوصف كونه مفسِّرًا فى قليل ولا كثير.
فمثلًا عند تفسيره لقوله
تعالى فى الآية (٢٢٦) من سورة البقرة: ﴿لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ
تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَآءُو فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾
نراه بعد أن ينتهى من التفسير يقول: «فروع تتعلق بحكم الآية» ثم يذكر خمسة فروع -
الفرع الأول: فى حكم ما إذا حف أنه لا يقرب زوجته أبدًا أو مدة هى أكثر من أربعة
أشهر، والثانى: فى حكم ما لو حلف ألا يطأها أقل من أربعة أشهر، والثالث: فى حكم
ما لو حلف ألا يطأها أربعة أشهر، والرابع: فى مدة الإيلاء فى حق الحر والعبد
واختلاف المذاهب فى ذلك، والخامس: فيما إذا خرج من الإيلاء بالوطء، فهل تجب عليه
كفَّارة أو لا تجب.
ومثلًا عند تفسيره لقوله تعالى فى الآية [٢٢٨] من سورة
البقرة: ﴿والمطلقات يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قرواء﴾ .. الآية،
نراه يعرض لمذهب الحنفية ومذهب الشافعية فيما تنقضى به عِدَّة الحائض.. ثم يقول:
«فصل فى أحكم العِدَّة، وفيه مسائل» فيذكر أربع مسائل، يتكلم فى المسألة الأولى
منها: عن عِدَّة الحوامل، وفى الثانية: عن عِدَّة المتوفى عنها زوجها، وفى
الثالثة: عن عِدَّة المطلِّقة المدخول بها، وفى الرابعة: عن عِدَّة الإماء..
ومثلًا
عند تفسيره لقوله تعالى فى الآية [٢٢٩] من سورة البقرة: ﴿فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ
يُقِيمَا حُدُودَ الله فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افتدت بِهِ﴾ .. الآية،
نجده يقول: «فصل فى حكم الخُلْع، وفيه مسائل» ويذكر ثلاث مسائل؛ المسألة الأولى:
فيما يُباح من أجله الخُلْع، والثانية: فى جواز الخُلْع بأكثر مما أعطاها وعدم
جوازه، الثالثة: فى اختلاف العلماء فى الخُلْع هل هو فسخ أو طلاق؟.
ومثلًا
عند تفسيره لآية الظَهَار التِى فى أول سورة المجادلة نراه يسوق فصلًا فى أحكام
الكفَّارة، وما يتعلق بالظَهَار، ويورد فيه ثمانى مسائل لا نطيل بذكرها.
*
*
* عنايته بالمواعظ:
ثم إنَّ هذا التفسير كثيرًا ما يتعرض للمواعظ
والرقاق، ويسوق أحاديث الترغيب والترهيب، ولعل نزعة الخازن الصوفية هى التى
أثَّرت فيه فجعلته يعنى بهذه الناحية ويستطرد إليها عند المناسبات.
فمثلًا
عند تفسيره لقوله تعالى فى الآية [١٦] من سورة السجدة: ﴿تتجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ
المضاجع﴾ .. الآية؛ نراه يقول بعد الانتهاء من التفسير: "فصل فى فضل
١
/ ٢٢٤
قيام الليل والحث عليه».. ثم يسوق فى ذلك أحاديث كثيرة
عن النبى ﷺ كلها تدور على البخارى ومسلم والترمذى.
وهكذا نجد هذا التفسير
يطرق موضوعات كثيرة فى نواح من العلم مختلفة. ولكن شُهْرته القَصصية، وسُمْعه
الإسرائيلية، أساءت إليه كثيرًا، وكادت تصد الناس عن الرجوع إليه والتعويل
عليه!!. ولعل الله يهيئ لهذا الكتاب مَنْ يُعَلِّق عليه بتعليقات توضح غَثَّهُ
مِنْ سَمِينه، وتستخلص صحيحه مِنْ سقيمه. والكتاب مطبوع فى سبعة أجزاء متوسطة
الحجم، وهو متداوَل بين الناس، خصوصًا مَنْ له شغف بالقَصص وولوع بالأخبار.
*
* *
٥ - البحر المحيط (لأبى حيان)
* التعريف بمؤلف هذا التفسير:
مؤلف
هذا التفسير هو أثير الدين، أبو عبد الله، محمد بن يوسف بن علىّ بن يوسف بن حيان،
الأندلسى، الغرناطى، الحيَّانى، الشهير بأبى حيَّان، المولود سنة ٦٥٤ هـ (أربع
وخمسين وستمائة من الهجرة) .
كان ﵀ مُلِّمًا بالقراءات صحيحها وشاذها، قرأ
القرآن على الخطيب عبد الحق بن علىّ إفرادًا وجمعًا، ثم على الخطيب أبى جعفر ابن
الطباع، ثم على الحافظ أبى علىّ بن أبى الأحوص بمالقة، وسمع الكثير من العلماء
ببلاد الأندلس وإفريقية، ثم قَدِمَ الإسكندرية فقرأ القراءات على عبد النصير بن
علىّ المريوطى، وبمصر على أَبى طاهر إسماعيل بن عبد الله المليجى، ولازم بها
الشيخ بهاء الدين بن النحاس، فسمع عليه كثيرًا من كتب الأدب. قال أبو حيان: «وعدة
مَن أخذتُ عنه أربعمائة وخمسون شخصًا، وأما مَنْ أجازتى فكثير جدًا» وقال الصفدى:
«لم أره قط إلا يسمع، أو يشتغل، أو يكتب، أو ينظر فى كتاب، ولم أره على غير
ذلك».
كذلك عُرِف أبو حيان، بكثرة نظمه للأشعار والموشحات، كما كان على جانب
كبير من المعرفة باللغة، أما النحو والتصريف فهو الإمام المطلق فيهما، خدم هذا
الفن أكثر عمره، حتى صار لا يُذكر أحد فى أقطار الأرض فيهما غيره، وبجانب هذا كله
كان لأبى حيان اليد الطولى فى التفسير، والحديث، وتراجم الرجال، ومعرفة طبقاتهم،
خصوصًا المغاربة.
ولقد أخذ كثير عنه العلم حتى صار من تلامذته أئمة وأشياخ
فى حياته، وهو الذى جَسَّر الناس على كتب ابن مالك ورَغَّبتهم فيها وشرح لهم
غامضها. وأما مؤلفاته فكثيرة، انتشرت فى حياته وبعد وفاته فى كثير من أقطار الأرض
وتلقاها الناس
١ / ٢٢٥
بالقبول، ومن أهمها:
تفسير البحر المحيط الذى نحن بصدده الآن، وغريب القرآن فى مجلد واحد، وشرح
التسهيل، ونهاية الإعراب، وخلاصة البيان، وله منظومة على وزن الشاطبية فى
القراءات بغير رموز، وهي أخصر وأكثر فوائد، ولكنها لم تُرزق من القبول حظ
الشاطبية هذا، وقد قيل: إن أبا حيان كان ظاهرى المذهب، ثم رجع عنه وتبع الشافعى
على مذهبه، وكان عريًا من الفلسفة، بريئًا من الاعتزال والتجسيم، متمسكًا بطريقة
السَلَف. أما وفاته فكانت بمصر سنة ٧٤٥ هـ (خمس وأربعين وسبعمائة من الهجرة)،
فرحمه الله ورضى عنه.
* *
* التعريف بهذا التفسير وطريقة مؤلفه فيه:
يقع
هذا التفسير فى ثمان مجلدات كبار، وهو مطبوع ومتداول بين أهل العلم. ومعتبر عندهم
المرجع الأول والأهم لمن يريد أن يقف على وجوه الإعراب الألفاظ القرآن الكريم، إذ
أن الناحية النحوية هى أبرز ما فيه من البحوث التى تدور حول آيات الكتاب العزيز،
والمؤلف إذ يتكلم عن هذه الناحية، فهو ابن بجدتها، وفارس حلبتها، غير أنه - والحق
يقال - قد أكثر من مسائل النحو فى كتابه، مع توسعه فى مسائل الخلاف بين النحويين،
حتى أصبح الكتاب أقرب ما يكون إلى كتب النحو منه إلى كتب التفسير.
هذا.. وإن
أبا حيان وإن غلبت عليه الصناعة النحوية فى تفسيره إلا أنه مع ذلك لم يُهمل ما
عداها من النواحى التى لها اتصال بالتفسير، فنراه يتكلم على المعانى اللغوية
للمفردات، ويذكر أسباب النزول، والناسخ والمنسوخ، والقراءات الواردة مع توجيهها،
كما أنه لا يغفل الناحية البلاغية فى القرآن، ولا يهمل الأحكام الفقهية عندما يمر
بآيات الأحكام، مع ذكره لما جاء عن السلف ومن تقدمه من الخلف فى ذلك، كل هذا على
طريقة وضعها لنفسه، ومشى عليها فى كتابه، ونبهنا عليها فى مقدمته، وذلك حيث
يقول:
"وترتيبى فى هذا الكتاب، أنى أبتدئ أولًا بالكلام على مفردات الآية
التى أفسرها لفظة لفظة، فيما يحتاج إليه من اللغة والأحكام النحوية التى لتلك
اللفظة قبل التركيب، وإذا كان للكلمة معنيان أو معان ذكرتُ ذلك فى أول موضع فيه
تلك الكلمة، ليُنظر ما يناسب لها من تلك المعانى فى كل موضع تقع فيه فيْحمل عليه،
ثم أشرع فى تفسير الآية ذاكرًا سبب نزولها إذا كان لها سبب، ونسخها، ومناسبتها،
وارتباطها بما قبلها، حاشدًا فيها القراءات، شاذها ومستعملها. ذاكرًا توجيه ذلك
فى علم العربية، ناقلًا أقاويل السَلَف والخلَف فى فهم معانيها، متكلمًا
١
/ ٢٢٦
على جليها وخفيها، بحيث أنى لا أغادر منها كلمة وإن
اشتهرت حتى أتكلم عليها، مبديًا ما فيها من غوامض الإعراب، ودقائق الآداب، من
بديع وبيان، مجتهدًا أنى لا أكرر الكلام فى لفظ سبق، ولا فى جملة تقدَّم الكلام
عليها، ولا فى آية فُسِّرت، بل أذكر فى كثير منها الحوالة على الموضع الذى
تُكلِّم فيه على تلك اللفظة أو الجملة أو الآية، وإن عرض تكرير فبمزيد فائدة،
ناقلًا أقاويل الفقهاء الأربعة وغيرهم فى الأحكام الشرعية مما فيه تعلق باللفظ
القرآنى، مُحيلًا على الدلائل التى فى كتب الفقه، وكذلك ما نذكره من القواعد
النحوية أحيل فى تقريرها والاستدلال عليها على كتب النحو، وربما أذكر الدليل إذا
كان الحكم غريبًا أو خلاف مشهور ما قال معظم الناس، بادئًا بمقتضى الدليل وما
دَلَّ عليه ظاهر اللفظ مرجِّحًا له لذلك، ما لم يصد عن الظاهر ما يجب إخراجه به
عنه متنكبًا فى الإعراب عن الوجوه التى تنزّه القرآن عنها، مبيِّنًا أنها مما يجب
أن يُعدل عنه، وأنه ينبغى أن يُحمل على أحسن إعراب وأحسن تركيب، إذ كلام الله
تعالى أفصح الكلام، فلا يجوز فيه جميع ما يُجوِّزه النحاة فى شعر الشماخ والطرماح
وغيرهما من سلوك التقادير البعيدة، والتراكيب القلقة، والمجازات المعقَّدة، ثم
أختتم فى جملة من الآيات التى فسّرتُها إفرادًا وتركيبًا بما ذكروا فيها من علم
البيان والبديع ملخصًا، ثم أتبع آخر الآيات بكلام منثور، أشرح به مضمون تلك
الآيات على ما أختاره من تلك المعانى، ملخصًا جملها أحسن تلخيص، وقد ينجر معها
ذكر معان لم
تتقدم فى التفسير، وصار ذلك أنموذجًا لمن يريد أن يسلك ذلك فيما
بقى من سائر القرآن، وستقف على هذا المنهج الذى سلكته إن شاء الله تعالى، وربما
ألممت بشئ من كلام الصوفية بما فيه بعض مناسبة لمدلول اللفظ، وتجنبت كثيرًا من
أقاويلهم ومعانيهم التى يُحَمِّلونها الألفاظ وتركتُ أقوال الملحدين الباطنية،
المخرجين الألفاظ العربية عن مدلولاتها فى اللغة، إلى هذيان افتروه على الله،
وعلى علىٍّ كرَّم الله تعالى وجهه، وعلى ذُرِّيته، ويسمونه علم التأويل..».
هذا..
وإن أبا حيان - رحمه الله تعالى - ينقل فى تفسيره كثيرًا من تفسير الزمخشرى،
وتفسير ابن عطية، خصوصًا ما كان من مسائل النحو ووجوه الإعراب، كما أنه يتعقبهما
كثيرًا بالرد والتفنيد لما قالاه فى مسائل النحو على الخصوص،
١
/ ٢٢٧
ولكثرة هذا التعقيب منه على كلام الزمخشرى وابن عطية تجد
تلميذه تاج الدين أحمد بن عبد القادر (بن أحمد) بن مكتوم المتوفى سنة ٧٤٩ هـ (تسع
وأربعين وسبعمائة من الهجرة) يختصر هذا التفسير فى كتاب سمَّاه: «الدُّرّ اللقيط
من البحر المحيط» يكاد يقتصر فيه على مباحثه مع ابن عطية والزمخشرى ورده عليها
وهذا المختصر تُوجد منه نسخة مخطوطة بمكتبة الأزهر، كما أنه مطبوع على هامش البحر
المحيط.
كذلك نجد الشيخ يحيى الشاوى المغربى يفرد مؤلفًا عنوانه: «بين أبى
حيان والزمخشرى» يجمع فيه اعتراضات أبى حيان على الزمخشرى وهو مخطوط فى مجلد كبير
بالمكتبة الأزهرية.
وكثيرًا ما يحمل أبو حيان على الزمخشرى حملات ساخرة
قاسية من أجل آرائه الاعتزالية (جـ٢ ص٢٧٦، جـ٧ ص٨٥)، ومع ذلك نجده يشيد بما
للزمخشرى من مهارة فائقة فى تجلية بلاغة القرآن وقوة بيانه. حيث يصفه بأنه أوتى
من علم القرآن أوفر حظ، وجمع بين اختراع المعنى وبراعة اللفظ (جـ٧ ص٨٥) .
هذا..
وإن أبا حيان يعتمد فى أكثر نقول كتابه هذا - كما يقول - «على كتاب التحرير
والتحبير لأقوال أئمة التفسير، من جمع شيخه الصالح، القدوة، الأديب، جمال الدين
أبى عبد الله، محمد بن سليمان بن حسن ابن حسين المقدسى، المعروف بابن النقيب، ﵀.
إذ هو أكبر كتاب صُنِّف فى علم التفسير، يبلغ فى العدد مائة سِفْرٍ أو يكاد».
ونهاية
القول، فإن أبا حيان قد غلبت عليه فى تفسيره الناحية التى برز فيها وبرع فيها وهى
الناحية النحوية التى طغت على ما عداها من نواحى التفسير.
* * *
٦ -
غرائب القرآن ورغائب الفرقان (للنيسابورى)
* التعريف بمؤلف هذا التفسير:
مؤلِّف
هذا التفسير، هو الإمام الشهير، والعلاَّمة الخطير، نظام الدين ابن الحسن بن محمد
بن الحسين، الخراسانى، النيسابورى، المعروف بالنظام الأعرج. أصله وموطن أهله
وعشيرته مدينة «قُم»، وكان منشؤه وموطنه بديار نيسابور. كان ﵀ من
١
/ ٢٢٨
أساطين العلم بنيسابور، مُلِّمًا بالعلوم العقلية،
جامعًا لفنون اللغة العربية، له القدم الراسخ فى صناعة الإنشاء، والمعرفة الوافرة
بعلم التأويل والتفسير.
وهو معدود فى عِداد كبار الحفَّاظ والمقرئين، وكان
مع هذه الشهرة العلمية الواسعة على جانب كبير من الورع والتقوى، وعلى مبلغ عظيم
من الزهد والتصوف، ويظهر أثر ذلك واضحًا جليًا فى تفسيره الذى أودع فيه مواجيده
الروحية، وفيوضاته الربانية، ولقد خَلَّف ﵀ للناس كتبا مفيدة نافعة، ومصنَّفات
فريدة واسعة، فمن ذلك شرحه على متن الشافية فى فن الصرف للإمام ابن الحاجب، وهو
معروف بشرح النظام، وشرحه على تذكرة الخواجة نصير المِلَّة والدين الطوسى فى علم
الهيأة، وهو المسمى بتوضيح التذكرة، ورسائل فى علم الحساب، وكتاب فى أوقات القرآن
على حذو ما كتبه السجاوندى المشهور، وأهم مصنَّفاته تفسيره لكتاب الله تعالى
المعروف بـ «غرائب القرآن ورغائب الفرقان»، وهو ما نحن بصدده الآن، وله مجلد آخر
فى لب التأويل نظير تأويلات المولى عبد الرزاق القاشانى.
أما تاريخ وفاته،
فلم نعثر عليه فى الكتب التى بين أيدينا، وكل ما عثرنا عليه هو قول صاحب روضات
الجنَّات: «إنه كان من علماء رأس المائة التاسعة، على قرب من درجة السيد الشريف،
والمولى جلال الدين الدوانى، وابن حجر العسقلانى، وقرنائهم الكثيرين من علماء
الجمهور، وتاريخ إنهاء مجلدات تفسيره المذكور، صادفت حدود ما بعد الثمانمائة
والخمسين من الهجرة» قال: «ويوجد أيضًا بالبال نسبة التشيع إليه فى بعض مصنفات
الأصحاب».
* *
* التعريف بهذا التفسير وطريقة مؤلفه فيه:
اختصر
النيسابورى تفسيره هذا من التفسير الكبير للفخر الرازى، وضم إلى ذلك بعض ما جاء
فى الكشاف وغيره من التفاسير، وما فتح الله به عليه من الفهم لحكم كتابه، وضمَّنه
ما ثبت لديه من تفاسير سَلَف هذه الأُمَّة من الصحابة والتابعين.
* *
*
١
/ ٢٢٩
موقفه من الزمخشرى والفخر الرازى:
وهو إذ يختصر
كلام الفخر الرازى، أو يقتبس من تفسير الكشاف أو غيره، لا يقف عند النص وقوف مَنْ
يجمد عند النصوص ويرى أنها ضربة لازب عليه فلا يعترض ولا يتصرف، بل نجده حرًا فى
تفكيره، متصرفًا فيما يختصر أو يقتبس، فإن وجد فسادًا نَبَّه عليه وأصلحه، وإن
رأى نقصًا تداركه فأتمه وأكمله.
وكثيرًا ما نجده ينقل عن الكشاف فيقول: قال
فى الكشاف كذا وكذا، أو قال جار الله كذا وكذا، وقد ينقل ما ذكره صاحب الكشاف وما
اعترض به عليه الفخر الرازى ثم ينصب نفسه حَكَمًا بين الإمامين، ويبدى رأيه على
حسب ما يظهر له.
فمثلًا عند تفسيره لقوله تعالى فى الآية [٦٧] من سورة
الزمر: ﴿والأرض جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ القيامة﴾ .. يقول ما نصه: "قال جار
الله: الغرض من هذا الكلام - إذا أخذته كما هو بجملته - تصوير عظمته، والتوقيف
على كنه جلاله، من غير ذهاب بالقبضة واليمين إلى جهة حقيقة أو إلى جهة مجاز،
وكذلك حكم ما يُروى عن عبد الله بن مسعود: أن رجلًا من أهل الكتاب جاء إلى النبى
ﷺ فقال: يا أبا القاسم؛ إن الله يمسك السماوات يوم القيامة على إصبع، والأرض على
إصبع، والجبال على إصبع، والشجر على إصبع، والثرى على إصبع، وسائر الخلق على
إصبع، ثم يهزهن فيقول: أنا الملك. فضحك رسول الله ﷺ تعجبًا مما قال، وأنزل الله
الآية تصديقًا له. قال جار الله: وإنما ضحك أفصح العرب وتعجب لأنه لم يفهم منه
إلا ما يفهمه علماء البيان من غير تصور إمساك، ولا إصبع، ولا هز، ولا شئ من ذلك،
ولكن فهمه وقع أول شئ وآخره على الزُبْدة والخلاصة، التى هى الدلالة على القدرة
الباهرة. وأن الأفعال العظام التى لا تكتنهها الأوهام هيِّنة عليه.. ثم ذكر
كلامًا آخر طويلًا، واعترض عليه الإمام فخر الدين الرازى: بأن هذا الكلام الطويل
لا طائل تحته، لأنه هل يسلم أن الأصل فى الكلام حمله على حقيقته أم لا؟ وعلى
الثانى يلزم خروج القرآن بكليته عن كونه حُجَّة، فإن الكل أحد حينئذ أن يؤول
الآية بما يشاء، وعلى الأول - وهو الذى عليه الجمهور - يلزم بيان أنه لا يمكن حمل
اللفظ الفلانى على معناه الحقيقى لتعين المصير إلى التأويل، ثم إن كان هناك
مجازان وجب إقامة الدليل على تعيين أحدهما، ففى هذه الصورة لا شك أن لفظ القبضة
واليمين مشعر بهذه الجوارح، إلا أن الدلائل العقلية قامت على امتناع الأعضاء
والجوارح لله تعالى، فوجب المصير إلى التأويل صونًا للنص عن التعطيل، ولا تأويل
إلا أن يُقال: المراد كونها تحت تدبيره وتسخيره، كما يقال: فلان فى قبضة فلان.
وقال تعالى: ﴿وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ﴾ ويقال: هذه الدار فى يد فلان ويمينه،
وفلان صاحب اليد.
١ / ٢٣٠
وأنا أقول: هذا
الذى ذكره الإمام طريق أصولى، والذى ذكره جار الله طريق بيانى. وإنهم يحيلون
كثيرًا من المسائل إلى الذوق فلا منافاة بينها، ولا يرد اعتراض الإمام تشنيعه،
وقد مرَّ لنا فى هذا الكتاب الأصل الذى كان يعمل به السَلَف فى باب المتشابهات فى
مواضع، فتذكر».
* *
* منهجه فى التفسير:
ثم إننا نجد الإمام
النيسابورى، قد سلك فى تفسيره مسلكًا قد يكون منفردًا به من بين المفسِّرين، ذلك
أنه يذكر الآيات القرآنية أولًا، ثم يذكر القراءات، مع التزامه ألا يذكر ما كان
منها منسوبًا إلى الأئمة العشرة، وإضافة كل قراءة إلى صاحبها الذى تُنسب إليه، ثم
بعد ذلك يذكر الوقوف مع التعليل لكل وقف منها، ثم بعد ذلك يشرع فى التفسير،
مبتدئًا بذكر المناسبة وربط اللاحق بالسابق مع عناية كبيرة بذلك سرت إليه من
التفسير الكبير للفخر الرازى، ثم بعد ذلك يبين معانى الآيات بأسلوب بديع، يشتمل
على إبراز المقدرات، وإظهار المضمرات، وتأويل المتشابهات، وتصريح الكنايات،
وتحقيق المجاز والاستعارات، وتفصيل المذاهب الفقهية، مع توجيه أدلة كل مذهب وما
حُمِلت عليه الآية القرآنية، لتكون مؤيدة لمذهب من المذاهب، أو غير متعارضة معه
ولا منافية له.
فمثلًا عند تفسيره لقوله تعالى فى الآية [٣٨] من سورة
المائدة: ﴿والسارق والسارقة فاقطعوا أَيْدِيَهُمَا﴾ نجده يقول: «واعلم أن الكلام
فى السرقة، يتعلق بأطراف المسروق، ونفس السرقة، والسارق».. ثم يمضى فيتكلم عن هذه
النواحى الثلاث من الناحية الفقهية، بتفصيل واسع وتوجيه للأدلة.
* *
*
خوضه فى المسائل الكلامية:
كذلك نجده يخوض فى المسائل الكلامية، فيذكر مذهب
أهل السُّنَّة ومذهب غيرهم، مع ذكره لأدلة كل مذهب، وانتصاره لمذهب أهل السُّنَّة
وتأييده له، وردّ ما يرد عليه من جانب المخالفين.
فمثلًا عند تفسيره لقوله
تعالى فى الآية [٢٥] من سورة الأنعام: ﴿وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ
وَجَعَلْنَا على قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وفي آذَانِهِمْ وَقْرًا﴾
... الآية، تجده يقول: "وفى الآية دلالة على أن الله تعالى هو الذى يصرف عن
الإيمان، ويحول بين المرء وبين قلبه، وقالت المعتزلة: لا يمكن إجراؤها على
ظاهرها، وإلا كان حُجَّة للكفار، ولأنه يكون تكليفًا للعاجز، ولم يتوجه ذمهم فى
قولهم: ﴿وَقَالُواْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ﴾، [البقرة: ٨٨] فلا بد من التأويل. وذلك من
وجوه.. ثم ساق
١ / ٢٣١
خمسة أوجه للمعتزلة،
وبعد أن فرغ منها تعقبها بالرد عليها، تفنيدًا لمذهب المعتزلة، وتصحيحًا لمذهب
أهل السُّنَّة.
* *
*خوضه فى المسائل الكونية والفلسفية:
كذلك إذا
مرّ النيسابورى على آية من الآيات الكونية فإنه لا يمر عليها بدون أن يخوض بأسرار
الكون وكلام الطبيعيين والفلاسفة.
فمثلًا عند تفسيره لقوله تعالى فى الآية
[١٨٩] من سورة البقرة: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهلة﴾ نراه يذكر سبب نزول الآية، ثم
يبين الحكمة التى أرادها الله من وراء جوابه لهم على غير مقصودهم، وهنا يتعرض
للسبب الذى من أجله يبدو الهلال دقيقًا ثم يزيد شيئًا فشيئًا حتى يصير بدرًا، ثم
يأخذ فى النقصان إلى أن يعود كما بدأ.
ومثلًا عند تفسيره لقوله تعالى فى
الآية [٤٢] من سورة الزمر: ﴿الله يَتَوَفَّى الأنفس حِينَ مِوْتِهَا﴾ .. الآية،
يقول ما نصه: «وقال حكماء الإسلام: النفس الإنسانية جوهر مشرق نورانى، إذا تعلق
بالبدن حصل ضوءه فى جميع الأعضاء ظاهرها وباطنها، وهو الحياة واليقظة، وأما فى
وقت النوم فإن ضوءه لا يقع إلا على باطن البدن وينقطع عن ظاهره، فتبقى نفس الحياة
التى بها النفس وعمل القوى البدنية فى الباطن ويفنى ما به التمييز والعقل، وإذا
انقطع هذا الضوء بالكلية عن البدن فهو الموت».
وهذا المسلك الذى سلكه
النيسابورى فى الكونيات والآراء الفلسفية. ليس هو فى الواقع إلا صدى لما جاء فى
تفسير الفخر الرازى الذى لخَّص منه تفسيره. وإن كان النيسابورى ليس بوقًا للرازى
فى كل ما يقول بل كثيرًا ما يستدرك عليه ولا يرتضى قوله.
فمثلًا نراه عند
تفسيره لقوله تعالى فى الآيتين [١، ٢] من سورة الانفطار: ﴿إِذَا السمآء انفطرت *
وَإِذَا الكواكب انتثرت﴾ يقول ما نصه: "وفيه - يعنى فى قوله تعالى ﴿إِذَا السمآء
انفطرت﴾، وكذا فى قوله: ﴿وَإِذَا الكواكب انتثرت﴾ - إبطال قول من زعم أن الفلكيات
لا تنخرق، أما الدليل المعقول الذى ذكره الإمام فخر الدين الرازى فى تفسيره، وهو
أن الأجسام متماثلة فى الجسمية. فيصح على كل واحد منهما ما يصح على الباقى، لكن
السفليات يصح عليها الانخراق، فيصح على العلويات
١ / ٢٣٢
أيضًا،
فغير مفيد ولا مقنع، لأن الخصم لو سلَّم الصحة فله أن ينازع فى الوقوع لمانع،
كالصورة الفلكية وغيرها».
* *
* النزعة الصوفية فى تفيسر
النيسابورى:
ثم إن النيسابورى بعد أن يفرغ من تفسير الآية يتكلم عن التأويل،
والتأويل الذى يتكلم عنه هو عبارة عن التفسيرات الإشارية للآيات القرآنية التى
يفتح الله بها على عقول أهل الحقيقة من المتصوِّفة، والنيسابورى ﵀ كان صوفيًا
كبيرًا، أفاض من روحه الصوفية الصافية على تفسيره، فنراه لذلك يستطرد أثناء
التفسير إلى كثير من المواعظ والمبكيات. والحكم والغاليات، كما نراه فى تأويله
الإشارى يمثل الفلسفة التصوفية بأعلى أنواعها.
* *
* ليس فى تفسير
النيسابورى ما يدل على تشيعه:
وعلى كثرة ما قرأت فى هذا التفسير لم أقع على
نص منه يدل على تشيع مؤلفه، وكل ما وقعت عليه، أنه قال فى خاتمة تفسيره (جـ٣٠
ص٢٢٨): «وإنى أرجو فضل الله العظيم، وأتوسل إليه بوجهه الكريم، ثم بنبيه القرشى
الأبطحى ووليه المعظم العلى.. إلخ» وهذه الجملة الأخيرة: «ووليه المعظم العلى»
وإن كانت اعترافًا منه بولاية علىّ رضى الله عنه، ليست دليلًا قاطعًا على تشيعه،
بل نجد النيسابورى على العكس من ذلك يعترف فى نفس خاتمة تفسيره (جـ٣٠ ص٢٢٤) بأنه
لم يمل فى تفسيره إلا إلى مذهب أهل السُّنَّة والجماعة، وإذا رجعت إلى تفسيره
لقوله تعالى فى الآيتين [٥٤، ٥٥] من سورة المائدة: ﴿ياأيها الذين آمَنُواْ مَن
يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي الله بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ
وَيُحِبُّونَهُ﴾ .. إلخ (جـ٦ ص١٩٥ وما بعدها) لوجدته يرد على الشيعة استدلالهم
بهاتين الآيتين على ولاية علىّ رضى الله عنه وأنه الخليفة بعد رسول الله ﷺ، وإن
كان ما ذكره تلخيصًا لما قال الفخر الرازى فى تفسيره.
وهنا - وبعد ما ذكرت -
أرى لزامًا علىَّ أن أذكر كلام النيسابورى الذى أوضح فيه مسلكه فى تفسيره ومنهجه
الذى نهجه فيه، فإن صاحب البيت أعرف به وأدرى بما فيه.
قال ﵀ فى مقدمة
تفسيره ما نصه: "وإذا وفَّقنى الله تعالى لتحريك القلم فى أكثر الفنون المنقولة
والمعقولة - كما اشتهر بحمد الله تعالى ومنه فيما بين أهل الزمان - وكان علم
التفسير من العلوم بمنزلة الإنسان من العين والعين من الإنسان، وكان قد رزقنى
الله تعالى من إبَّان الصبا وعنفوان الشباب، حفظ لفظ القرآن وفهم
١
/ ٢٣٣
معنى الفرقان، وطالما طالبنى بعض أجِلَّةُ الإخوان،
وأعِزَّة الأخدان ممن كنت مشارًا إليه عندهم بالبنان فى البيان - والله المنَّان
يجازيهم عن حسن ظنونهم، ويوفقنا لإسعاف سؤلهم، وإنجاح مطلوبهم - أن أجمع كتابًا
فى علم التفسير، مشتملًا على المهمات، منبئًا عما وقع إلينا من نقل الإثبات،
وأقوال الثقات من الصحابة والتابعين، ثم من العلماء الراسخين، والفضلاء المحققين،
المتقدمين والمتأخرين - جعل الله تعالى سعيهم مشكورًا، وعملهم مبرورًا - فاستعنتُ
بالمعبود، وشرعتُ فى المقصود، معترفًا بالعجز والقصور فى هذا الفن، وفى سائر
الفنون لا كمن هو بابنه مفتون، كيف وقد قال عَزَّ مِنْ قائل: ﴿وَمَآ أُوتِيتُم
مِّنَ العلم إِلاَّ قَلِيلًا﴾، ومَن أصدق من الله قيلًا، وكفى بالله وليًا، وكفى
بالله وكيلًا.
ولما كان التفسير الكبير المنسوب إلى الإمام الأفضل، والهمام
الأمثل، والحَبْر النِحْرير، والبحر الغزير، الجامع بين المعقول والمنقول، الفائز
بالفروع والأصول، أفضل المتأخرين، فخر المِلَّة والحق والدين، محمد بن عمر ابن
الحسين الخطيب الرازى، تغمَّده الله برضوانه وأسكنه بحبوبة جِنانه، اسمه مطابق
لمسماه وفيه من اللطائف والبحوث ما لا يُحصى، ومن الزوائد والفتوى ما لا يُخفى،
فإنه قد بذل مجهوده، ونثل موجوده، حتى عَسَّرَ كتبه على الطالبين، وأْعَّوَز
تحصيله على الراغبين، فحاذيتُ سياق مرامه، وأوردتُ حاصل كلامه، وقرَّبتُ مسالك
أقدامه، والتقطتُ عقود نظامه، من غير إخلال بشئ من الفوائد. وإهمال لما يُعَد من
اللطائف والفرائد، وضممتُ إليه ما وجدتُ فى الكشاف وفى سائر التفاسير من اللطائف
المهمات، أو رزقنى الله تعالى من البضاعة المزجاة، وأثبت القراءات المعتبرات
والوقوف المعللات، ثم التفسير المشتمل على المباحث اللفظيات، والمعنويات مع إصلاح
ما يجب إصلاحه وإتمام ما ينبغى إتمامه من المسائل الموردة فى التفسير الكبير
والاعتراضات، ومع كل ما يُوجد فى الكشاف من المواضع المعضلات، سوى الأبيات
المعقدات، فإن ذلك يوردها مَنْ ظن أن تصحيح القراءات وغرائب القرآن، إنما يكون
بالأمثال والمستشهدات، كلاَّ فإن القرآن حُجَّة على غيره وليس غيره حُجَّة عليه،
فلا علينا أن نقتصر فى غرائب القرآن على تفسيرها بالألفاظ المشتهرات، وعلى إيراد
بعض المتجانسات التى نعرف منها أصول الاشتقاقات، وذكرتُ طرفًا من الإشارات
المقنعات، والتأويلات الممكنات، والحكايات المبكيات، والمواعظ الرادعة عن
المنهيات، الباعثة على أداء الواجبات، والتزمتُ إيراد لفظ القرآن الكريم أولًا،
مع ترجمته على وجه بديع، وطريق منيع، يشتمل على إبراز المقدرات، وإظهار المضمرات،
وتأويل المتشابهات، وتصريح الكنايات، وتحقيق المجازات والاستعارات، فإن هذا النوع
من الترجمة مما تُسكب فيه
١ / ٢٣٤
العبرات،
وترن المترحمون هنالك إلى العثرات، وقلَّما يفطن له الناشئ الواقف على متن اللغة
العربية، فضلًا عن الدخيل الزحيل القاصر فى العلوم الأدبية، واجتهدتُ كل
الاجتهاد، فى تسهيل سبيل الرشاد،
ووضعت الجميع على طرف التمام، ليكون الكتاب
كالبدر التمام، وكالشمس فى إفادة الخاص والعام، من غير تطويل يُورث الملام، ولا
تقصير يُوعر مسالك السالك ويبدد نظام الكلام، فخير الكلام ما قَلَّ ودَلَّ:
«وحسبك من الزاد ما بلغك المحل».
وقال فى آخر تفسيره ما نصه: «وقد تضمن
كتابى هذا حاصل التفسير الكبير، الجامع لأكثر التفاسير، وجُلَّ كتاب الكشاف الذى
رُزِق له القبول من أساتذة الأطراف والأكتاف، واحتوى على ذلك على النكت المستحسنة
الغريبة، والتأويلات المحكمة العجيبة، مما لم يوجد فى سائر تفاسير الأصحاب، أو
وُجِدَت متفرقة الأسباب، أو مجموعة طويلة الذيول والأذناب.
أما الأحاديث،
فإما من الكتب المشهورة، كجامع الأصول، والمصابيح وغيرها، وإما من كتاب الكشاف
والتفسير الكبير ونحوهما، إلا الأحاديث الموردة فى الكشاف فى فضائل السور، فإنَّا
قد أسقطناها لأن النقد زَيَّفها إلا ما شَذَّ منها.
وأما الوقوف فللإمام
السجاوندى، مع اختصار لبعض تعليلات، وإثبات للآيات لتوقفها على التوقيف.
وأما
أسباب النزول، فمن كتاب جامع الأصول، والتفسيرين، أو من تفسير الواحدى.
وأما
اللغة، فمن صحاح الجوهرى، ومن التفسيرين كما نُقلا.
وأما المعانى والبيان
وسائر المسائل الأدبية، فمن التفسيرين، والمفتاح، وسائر الكتب العربية.
وأما
الأحكام الشرعية، فمنهما، ومن الكتب المعتبرة فى الفقه، ولا سيما شرح الوجيز
للإمام الرافعى.
وأما التآويل، فأكثرها للشيخ المحقق، المتقى المتقن نجم
المِلَّة والدين المعروف بـ»داية" قُدِّس نفسه ورُوِّح رمسه، وطرف منها مما دار
بخلدى، وسمحت به ذات يدى غير جازم بأنه المراد من الآية، بل خائف من أن يكون ذلك
جرأة منى وخصوصًا فيما لا
١ / ٢٣٥
يعنينى،
وإنما شجعنى على ذلك سائر الأئمة الذين اشتهروا بالذوق والوجدان، وجمعوا بين
العرفان والإيمان، والإتقان فى معنى القرآن، الذى هو باب واسع، يطمع فى تصنيفه كل
طامع، فإن أصبتُ فبها، وإن أخطأتُ فعلى الإمام ما سها، والعذر مقبول عند أهل
الكرم والنهى، والله المستعان لنا ولهم فى مظان الخلل والزلل، وعلى رحمته التكلان
فى محال الخطأ والخطل، فعلى المرء أن يبذل وسعه لإدراك الحق، ثم الله معين لإرادة
الصواب، ومعين لإلهام الصدق.
وكذا الكلام فى بيان الرباطات والمناسبات بين
السور والآيات، وفى أنواع التكريرات وأصناف المشتبهات، فإن للخواطر والظنون فيها
مجالًا، وللناس الأكياس فى استنباط الوجوه والنسب هناك مقالًا».
ثم مضى
فقال: «وإنى لم أمل فى هذا الإملاء إلا إلى مذهب أهل السُّنَّة والجماعة،
فبيَّنتُ أصولهم، ووجوه استدلالاتهم بها، وما ورد عليها من الاعتراضات، والأجوبة
عنها.
وأما فى الفروع، فذكرتُ استدلال كل طائفة بالآية على مذهبه، من غير
تعصب ومراء وجدال وهراء»..
ثم مضى فقال: «ولقد وُفِّقتُ لإتمام هذا الكتاب
فى مدة خلافة علىّ رضى الله عنه وكنا نُقَدِّر إتمامه فى مدة خلافة الخلفاء
الراشدين وهى ثلاثون سنة، ولو لم يكن ما اتفق فى أثناء التفسير من وجود الأسفار
الشاسعة، وعدم الأسفار النافعة، ومن غموم لا يُعد عديدها، وهموم لا يُنادَى
وليدها - لكان يمكن إتمامه فى مدة خلافة أبى بكر، كما وقع لجار الله
العلاَّمة».
هذا.. وقد نَوَّه صاحب روضات الجنَّات بمكانة هذا التفسير فقال:
«وتفسيره - يريد النيسابورى - من أحسن شروح كتاب الله المجيد، وأجمعها للفوائد
اللفظية والمعنوية، وأحوزها للفوائد القشرية واللُّبية، وهو قريب من تفسير مجمع
البيان كمَّا وكيفًا، وسِمَة وترتيبًا، بزيادة أحكام الأوقاف فى أوائل تفسير
الآى، ومراتب التأويل فى آخره، والإشارة إلى جملة من دقائق نكات العربية فى
البيِّن».
والكتاب مطبوع على هامش تفسير ابن جرير الطبرى ومتداوَل بين أهل
العلم.
* * *
١ / ٢٣٦
٧ - تفسير
الجلالين لـ (جلال الدين المحلَّى) و(جلال الدين السيوطى)
* التعريف بمؤلفى
هذا التفسير:
ألَّف هذا التفسير الإمامان الجليلان، جلا الدين المحلَّى،
وجلال الدين السيوطى. أما جلال الدين السيوطى، فقد سبق التعريف به عند الكلام عن
تفسيره المسمى بالدُّرِّ المنثور.
وأما جلال الدين المحلَّى، فهو جلال
الدين، محمد بن أحمد بن محمد بن إبراهيم المحلَّى الشافعى، تفتازانى العرب،
الإمام العلاَّمة. قال فى حسن المحاضرة: «ولد بمصر سنة ٧٩١ هـ (إحدى وتسعين
وسبعمائة)، واشتغل وبرع فى الفنون فقهًا، وكلامًا، وأُصولًا، ونحوًا، ومنطقًا،
وغيرها. وأخذ من البدر محمود الأقصرانى، والبرهان البيجورى، والشمس البساطى،
والعلاء البخارى، وغيرهم، وكان علاَّمة آية فى الذكاء والفهم، حتى كان بعض أهل
عصره يقول فيه: إن ذهنه يثقب الماس، وكان يقول عن نفسه: إن فهمه لا يقبل الخطأ،
ولم يك يقدر على الحفظ».
وكان غُرَّة عصره فى سلوك طريق السَلَف، على مبلغ
عظيم من الصلاح والورع، آمرًا بالمعروف، ناهيًا عن المنكر، لا تأخذه فى الحق لومه
لائم، فكان يواجه بالحق أكابر الظَلَمة والحُكَّام، وكانوا يأتون إليه فلا يلتفت
إليهم، ولا يأذن لهم فى الدخول عليه، وكان حديد الطبع لا يراعى أحدًا فى القول،
وقد عُرِض عليه القضاء الأكبر فلم يقبله، وولى تدريس الفقه بالمؤيدية والبرقوقية،
وسمع من جماعة، وكان مع هذا متقشفًا فى معيشته يتكسب بالتجارة، وقد ألَّف كتبًا
كثيرة تُشَد إليها الرِحَال، وهى غاية فى الاختصار، والتحرير والتنقيح، وسلامة
العبارة وحسن المزج والحل، وقد أقبل الناس على مؤلفاته وتلقوها بالقبول،
وتداولوها فى دراساتهم، فمن مؤلفاته: شرح جمع الجوامع فى الأصول، وشرح المنهاج فى
فقه الشافعية، وشرح الورقات فى الأصول، ومنها هذا التفسير الذى نحن بصدده.
توفى
﵀ فى أول يوم من سنة ٨٦٤ هـ (أربع وستين وثمانمائة من الهجرة) .
* *
*
التعريف بهذا التفسير وطريقة مؤلفيه فيه:
اشترك فى هذا التفسير - كما قلنا -
الإمامان الجليلان، جلال الدين المحلَّى، وجلال الدين السيوطى.
١
/ ٢٣٧
أما جلال الدين المحلَّى، فقد ابتدأ تفسيره من أول سورة
الكهف إلى آخر سورة الناس، ثم ابتدأ بتفسير الفاتحة، وبعد أن أتمها اخترمته
المنية فلم يُفسِّر ما بعدها.
وأما جلال الدين السيوطى - فقد جاء بعد الجلال
المحلَّى فكمَّل تفسيره، فابتدأ بتفسير سورة البقرة، وانتهى عند آخر سورة
الإسراء، ووضع تفسير الفاتحة فى آخر تفسير الجلال المحلَّى لتكون ملحقة به.
هذا
هو الواقع. ولا أظن صاحب كشف الظنون مصيبا حيث يقول عند الكلام على تفسير
الجلالين ما نصه:»تفسير الجلالين من أوله إلى آخر سورة الإسراء للعلاَّمة جلال
الدين محمد بن أحمد المحلّى الشافعى المتوفى سنة ٨٦٤هـ (أربع وستين وثمانمائة)،
ولما مات كمّله الشيخ المتبحر جلال الدين عبد الرحمن بن أبى بكر السيوطى المتوفى
سنة ٩١١ هـ (إحدى عشرة وتسعمائة) .. وحيث يقول بعد ذلك بقليل: «وكأن المحلَّى لم
يُفسِّر الفاتحة، وفسَّرها السيوطى تفسيرًا مناسبًا».
نعم.. لا أظن صاحب كشف
الظنون مصيبًا فى ذلك، لأن السيوطى - فى مقدمة هذا التفسير وقبل الكلام على سورة
البقرة - يقول بعد الديباجة ما نصه: «هذا ما اشتدت إليه حاجة الراغبين فى تكملة
تفسير القرآن الكريم، الذى أَلَّفه الإمام المحقق، جلال الدين، محمد بن أحمد،
المحلَّى الشافعى ﵀، وتتميم ما فاته وهو - يريد ما فات الجلال المحلَّى وقام هو
بتفسيره - من أول سورة البقرة إلى آخر سورة الإسراء».
ويقول فى آخر سورة
الإسراء ما نصه: «قال مؤلفه: هذا آخر ما كمَّلتُ به تفسير القرآن الكريم، الذى
ألَّفه الشيخ الإمام، العالِم العلاَّمة المحقق، جلال الدين المحلَّى الشافعى رضى
الله عنه».
هذا هو ناحية تعيين القَدْر الذى فسَّره كل منهما. وأما من
الناحية الأخرى وهى ادعاء صاحب كشف الظنون أن المحلَّى لم يُفسِّر الفاتحة، وإنما
الذى فسَّرها هو السيوطى، فهى أيضًا دعوى يظهر لنا أنها غير صحيحة وذلك لما يقوله
الشيخ سليمان الجمل فى مقدمة حاشيته على هذا التفسير (جـ١ ص٧): «وأما الفاتحة
ففسَّرها المحلَّى، فجعلها السيوطى فى آخر تفسير المحلَّى لتكون منضمة لتفسيره،
وابتدأ هو من أول سورة البقرة».
ولقوله فى الحاشية نفسها (جـ٤ ص٦٢٦) عند
نهاية ما كتبه على تفسير سورة الفاتحة: «إنه - أى الجلال المحلَّى - كان قد شرع
فى تفسير النصف الأول، وأنه ابتدأ بالفاتحة، وأنه اخترمته المنية بعد الفراغ وقبل
الشروع فى البقرة وما بعدها».
١ / ٢٣٨
هذا..
وقد قال صاحب كشف الظنون بعد ما نقلناه عنه آنفًا بقليل: «ولم يتكلم الشيخان على
البسملة، فتكلَّم عليها بأقل مما ينبغى من الكلام بعض العلماء من زبيد وكتب ذلك
حاشية بالهامش، وهذا صحيح، فإن الجلال المحلَّى لم يتكلم عن تفسير البسملة مطلقًا
فى الجزء الذى فسَّره، لا فى أول سورة الكهف، ولا فى أول فاتحة الكتاب، كذلك
الجلال السيوطى، لم يتكلَّم عن تفسيرها مطلقًا فى الجزء الذى فسَّره.
وبعد
هذا.. فالجلال المحلَّى، فسَّر الجزء الذى فسَّره بعبارة موجزة محررة، فى غاية
الحسن ونهاية الدقة. والجلال السيوطى تابعه على ذلك ولم يتوسع؛ لأنه التزم بأن
يتم الكتاب على النمط الذى جرى عليه الجلال المحلَّى، كما أوضح هو ذلك فى مقدمته،
وذكر فى خاتمة سورة الإسراء أنه ألَّف الجزء الذى ألَّفه فى قدر ميعاد الكليم،
وهو أربعون يومًا، كما ذكر فى هذا الموضوع نفسه: أنه استفاد فى تفسيره من تفسير
الجلال المحلَّى، وأنه اعتمد عليه فى الآى المتشابهة، كما أنه اعترف - جازمًا -
بأن الذى وضعه الجلال المحلَّى فى قطعته أحسن مما وضعه هو بطبقات كثيرة».
وعلى
الجملة.. فالسيوطى قد نهج فى تفسيره منهج المحلَّى «من ذكر ما يفهم من كلام الله
تعالى، والاعتماد على أرجح الأقوال، وإعراب ما يحتاج إليه، والتنبيه على القراءات
المختلفة المشهورة، على وجه لطيف، وتعبير وجيز، وترك التطويل بذكر أقوال غير
مرضية، وأعاريب محلها كتب العربية».
ولا شك أن الذى يقرأ تفسير الجلالين، لا
يكاد يلمس فرقًا واضحًا بين طريقة الشيخين فيما فسَّراه، ولا يكاد يحس بمخالفة
بينهما فى ناحية من نواحى التفسير المختلفة، اللَّهم إلا فى مواضع قليلة لا تبلغ
العشرة كما قيل.
فمن هذه المواضع أن المحلَّى فى سورة (ص) فَسَّرَ «الروح»:
بأنها جسم لطيف يحيا به الإنسان بنفوذه فيه. والسيوطى تابعه على هذا التفسير فى
سورة الحِجْر ثم ضرب عليه لقوله تعالى فى الآية [٨٥] من سورة الإسراء:
﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الروح قُلِ الروح مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَآ أُوتِيتُم
مِّنَ العلم إِلاَّ قَلِيلًا﴾ فهى صريحة أو كالصريحة فى أن الروح من علم الله
تعالى، فالإمساك عن تعريفها أولى.
ومنها: أن المحلَّى قال فى سورة الحج:
«الصابئون: فرقة من اليهود»، والسيوطى فى
١ / ٢٣٩
سورة
البقرة تابعه على ذلك وزاد عليه: «أو النصارى» بيانًا منه لقول ثان ... وهكذا
تلمح الخلاف بين الشيخين قليلا نادرًا.
ثم إن هذا التفسير، غاية فى الاختصار
والإيجاز، حتى لقد ذكر صاحب كشف الظنون عن بعض علماء اليمن أنه قال: «عددتُ حروف
القرآن وتفسيره للجلالين فوجدتهما متساويين إلى سورة المزمل. ومن سورة المدثر
التفسير زائد على القرآن، فعلى هذا يجوز حمله بغير الوضوء».
ومع هذا
الاختصار، فالكتاب قَيِّمٌ فى بابه، وهو من أعظم التفاسير انتشارًا، وأكثرها
تداولًا ونفعًا، وقد طُبِع مرارًا كثيرة، وظفر بكثير من تعاليق العلماء وحواشيهم
عليه، ومن أهم هذه الحواشى: حاشية الجمل، وحاشية الصاوى، وهما متداولتان بين أهل
العلم.
وذكر صاحب كشف الظنون: أن عليه حاشية لشمس الدين محمد ابن العلقمى
سمَّاها: قبس النيرين، فرغ من تأليفها سنة ٩٥٢ هـ (اثنين وخمسين وتسعمائة)،
وحاشية مسماة بالجمالين، لمولانا الفاضل نور الدين على بن سلطان محمد القارى نزيل
مكة المكرمة، والمتوفى بها عام ١٠١٠ هـ (عشر وألف)، وشرح لجلال الدين محمد بن
محمد الكرخى، وهو كبير فى مجلدات سماه مجمع البحرين ومطلع البدرين، وله حاشية
صغرى".. ولكن شيئًا مما ذكره صاحب كشف الظنون لم يقع تحت أيدينا، ولم نظفر
بالاطلاع عليه.
* * *
٨ - السراج المنير.. فى الإعانة على معرفة بعض
معانى كلام ربنا الحكيم الخبير - للخطيب الشربينى.
* التعريف بمؤلف هذا
التفسير:
مؤلف هذا التفسير، هو الإمام العلاَّمة شمس الدين، محمد بن محمد
الشربينى، القاهرة الشافعى الخطيب. تلقى العلم عن كثير من مشايخ عصره؛ فمنهم
الشيخ
١ / ٢٤٠
أحمد البرلسى، والنور
المحلَّى، والبدر المشهدى، والشهاب الرملى، وغيرهم، ولما أنس منه أشياخه ورأوه
أهلًا للفتوى والتدريس أجازوه بها فدرَّس وأفتى فى حياتهم، وانتفع به خلائق لا
يحصون.
ولقد كان ﵀ على جانب عظيم من الصلاح والورع، وقد أجمع أهل مصر على
ذلك، ووصفوه بالعلم والعمل، والزهد والورع، وكثرة التنسك والعبادة. وكان من عادته
أن يعتكف من أول رمضان فلا يخرج من الجامع إلا بعد صلاة العيد، وكان إذا حج لا
يركب إلا بعد تعب شديد، وكان يؤثر الخمول ولا يكترث بأشغال الدنيا. وعلى الجملة،
فقد كان آية من آيات الله تعالى، وحُجَّة من حُجَجه على خلقه. توفى فى عصر يوم
الخميس ثانى شعبان سنة ٩٧٧هـ (سبع وسبعين وتسعمائة من الهجرة) . ومن أهم مؤلفاته:
شرحه لكتاب المنهاج وكتاب التنبيه، وهما شرحان عظيمان، جمع فيهما تحريرات أشياخه
بعد القاضى زكريا، وأقبل الناس على قراءتهما وكتابتهما إلى حياته، وتفسيره لكتاب
الله تعالى، وهو الذى نحن بصدده الآن.
* *
* التعريف بهذا التفسير
وطريقة مؤلفة فيه:
ذكر مؤلف هذا الكتاب فى مقدمته: أن أئمة السَلَف ألَّفوا
فى التفسير كتبًا، كل على قدر فهمه ومبلغ علمه، وأنه خطر له أن يقتفى أثرهم،
ويسلك طريقهم، ولكنه تردد فى ذلك مدة من الزمن، مخافة أن يدخل تحت الوعيد الوارد
فى حق مَنْ فَسَّر القرآن برأيه أو بغير علم، ثم ذكر أنه استخار الله تعالى فى
حضرته، بعد أن صلَّى ركعتين فى روضته، وسأله أن يشرح صدره لذلك وييسره له، فشرح
الله له صدره، ولما رجع من سفره، كتم ذلك فى سره، حتى قال له شخص من أصحابه: إنه
رأى فى المنام أن النبى ﷺ أو الشافعى يقول: قل لفلان يعمل تفسيرًا على القرآن.
وذكر المؤلف أنه لم يمض عليه إلا القليل حتى قرر فى وظيفة مشيخة تفسير
البيمارستان، وذكر أن جماعة من أصحابه ممن لم شغف بالعلم، طلبوا منه بعد فراغه من
شرح منهاج الطالبين، أن يجعل لهم تفسيرًا وسيطًا بين الطويل الممل والقصير المخل،
فأجابهم إلى ذلك، متمثلًا وصية الرسول ﷺ فيهم، حيث قال فيما يرويه عنه أبو سعيد
الخدرى رضى الله عنه: «إن رجالًا يأتونكم من أقطار الأرض يتفقهون فى الدين، فإذا
أتوكم فاستوصوا بهم خيرًا» ومقتديًا بالماضين من السَلَف، فى تدوين العلم إبقاءً
على الخلف، وذكر أنه ليس على ما فعلوه مزيد، ولكن لا بد فى كل زمان من تجديد ما
طال به العهد، وقصر للطالبين فيه الجد والجهد، تنبيهًا للمتوقفين، وتحريضًا
للمتثبطين، وليكون ذلك عونًا له وللقاصرين أمثاله - كما يقول.
١
/ ٢٤١
وذكر أنه اقتصر فيه على أرجح الأقوال، وإعراب ما يحتاج
إليه عند السؤال، وترك التطويل بذكر أقوال غير مرضية، وأعاريب محلها كتب العربية،
وذكر أن ما يذكره فيه من القراءات فهو من السبع المشهورات. قال: وقد أذكر بعض
أقوال وأعاريب لقوة مدراكها، أو لورودها ولكن بصيغة: «قيل»، ليعلم أن المرضى
أولها، وسميته: «السراج المنير فى الإعانة على معرفة بعض معانى كلام ربنا الحكيم
الخبير».. ثم قال: وقد تلقيت التفسير - بحمد الله - من تفاسير متعددة رواية، عن
أئمة ظهرت وبهرت مفاخرهم واشتهرت وانتشرت مآثرهم«.
وقال فى خاتمة
الكتاب:»فدونك تفسيرًا كأنه سبيكة عسجد، أو در منضد، جمع من التفاسير معظمها، ومن
القراءات متواترها، ومن الأقاويل أظهرها، ومن الأحاديث صحيحها وحسنها، محررًا
لدلائل فى هذا الفن، مظهرًا لدقائق استعملنا الفكر فيها إذا الليل جن«.. إلخ.
وقد
قرأتُ فى هذا التفسير فوجدته تفسيرًا سهل المأخذ، ممتع العبارة. ليس بالطويل
الممل ولا بالقصير المخل، نقل فيه صاحبه بعض تفسيرات مأثورة عن السَلَف، كما أنه
يذكر أحيانًا أقوال مَن سبقه من المفسِّرين كالزمخشرى، والبيضاوى، والبغوى، وقد
يُوجِّه ما يذكره من هذه الأقوال ويرتضيها، وقد يناقشها ويرد عليها.
* *
*
موقفه من القراءات والأعاريب والحديث:
وقد وفَّى فيه صاحبه بما وعد فلم يذكر
من القراءات إلا ما تواتر منها، ولم يُقحم نفسه فيما لا يعنى المفسِّر من ذكر
الأعاريب التى لا تَمُتُّ إلى التفسير بسبب. كما أنه وَفَّى بما التزمه من أنه لا
يذكر فيه إلا حديثًا صحيحًا أو حسنًا، ولهذا نراه يتعقب الزمخشرى والبيضاوى فيما
ذكراه من الأحاديث الموضوعة فى فضائل القرآن سورة سورة، كما يُنَبِّه على
الأحاديث الضعيفة إن روى شيئًا منها فى تفسيره.
فمثلًا فى آخر سورة آل عمران
يقول ما نصه:»روى الطبرى لكن بإسناد ضعيف: «مَن قرأ السورة التى يُذكر فيه آل
عمران يوم الجمعة صلَّى الله عليه وملائكته حتى تُحجب الشمس».. أى تغيب، وما رواه
البيضاوى تبعًا للزمخشرى وتبعهما ابن عادل من أنه ﷺ قال: "مَنْ قرأ سورة آل عمران
أُعْطَى بكل آية منها أمانًا على جسر
١ / ٢٤٢
جهنم«،
فهو من الأحاديث الموضوعة على أُبَىِّ بن كعب فى فضائل السور، فليُتنبه لذلك
ويُحذر منه، وقد نبَّه أئمة الحديث قديمًا وحديثًا على ذلك، وعابوا مَن أورده من
المفسِّرين فى تفاسيرهم، والله أعلم».
وفى آخر سورة الأعراف يقول ما نصه:
«والحديث الذى ذكره البيضاوى تبعًا للزمخشرى وهو:»مَنْ قرأ سورة الأعراف جعل الله
يوم القيامة بينه وبين إبليس سدًا، وكان آدم شفيعًا له يوم القيامة«.. حديث
موضوع».
وفى آخر سورة الجاثية يقول ما نصه: «وما رواه البيضاوى تبعًا
للزمخشرى من أنه ﷺ قال:»مَنْ قرأ سورة حم الجاثية، ستر الله عورته، وسَكّنَ روعته
يوم الحساب«.. حديث موضوع».
* *
* اهتمامه بالنكت التفسيرية ومشكلات
القرآن:
ومما نلحظه فى هذا التفسير، أنه يورد بعض النكت التفسيرية، وبعض
الإشكالات والإجابة عنها، تارة بقوله: تنبيه، وتارة بقوله: فإن قيل كذا أُجيب
بكذا.
* *
* عنايته بالمناسبات بين الآيات:
كما أنه شديد العناية
بذكر المناسبات بين آيات القرآن، عظيم الاهتمام بتقرير الأدلة وتوجيهها.
*
*
* موقفه من المسائل الفقهية:
كما أننا نلاحظ عليه أنه يستطرد إلى ذكر
الأحكام الفقهية. ومذاهب العلماء وأدلتهم، وإن كان مقلًا فى هذه الناحية، فلا
يتوسع ولا يكثر من ذكر الفروع.
فمثلًا عند تفسيره لقوله تعالى فى الآية
[٢٢٥] من سورة البقرة: ﴿لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ الله باللغو في أَيْمَانِكُمْ ولاكن
يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ والله غَفُورٌ حَلِيمٌ﴾ نراه يعرض لبعض
أقوال العلماء فى معنى اليمين اللَّغو، ثم بعد الفراغ من تفسير الآية يقول:
«تنبيه» ثم يذكر ما ينعقد به اليمين، وما يترتب على الحِنث فى اليمين المنعقدة،
وهل تجب الكفَّارة بالحِنث فى اليمين الغَموس أو لا تجب؟ فيذكر عن الشافعية أنهم
يقولون بوجوبها، وعن بعض العلماء أنه لا كفَّارة فيها كأكثر الكبائر، ويعرض لحكم
الحلف بغير الله كالكعبة والنبى والأب غير ذلك.
ومثلًا عند تفسيره لقوله
تعالى فى الآية [٢٢٩] من سورة البقرة: ﴿الطلاق مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ
بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ﴾ يقول بعد الفراغ من التفسير: "تنبيه:
اختلف العلماء فيما إذا كان أحد الزوجين رقيقًا، فذهب الأكثر - ومنهم الشافعى رضى
الله
١ / ٢٤٣
عنه - إلى أنه يعتبر عدد الطلاق
بالزوج، فالحر يملك على زوجته الأَمَة ثلاث تطليقات، والعبد لا يملك على زوجته
الحُرَّة إلا طلقتين. وذهب الأقل - ومنهم أبو حنيفة رضى الله عنه - إلى أن
الاعتبار بالمرأة فى عدد الطلاق كالعِدَّة، فيملك العبد على زوجته الحُرَّة ثلاث
طلقات، ولا يملك الحر على زوجته الأَمَة إلا طلقتين».
* *
* خوضه فى
الإسرائيليات:
هذا.. ولم يخل تفسير الخطيب، من ذكر بعض القَصص الإسرائيلى
الغريب، وذلك بدون أن يتعقبه بالتصحيح أو التضعيف.
فمثلًا عند تفسيره لقوله
تعالى فى الآية [١٦] من سورة النمل: ﴿وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ
ياأيها الناس عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطير﴾ ... الآية، نراه يروى خبرًا طويلًا عن
كعب فيه: أنه صاح ورشَان عند سليمان ﵇ فقال: أتدرون ما يقول؟ قالوا: لا. قال: إنه
يقول: لدوا للموت وابنوا للخراب. وصاحت فاختة فقال: أتدرون ما تقول؟ قالوا: لا،
قال: فإنها تقول: ليت ذا الخلق لم يُخْلَقوا. وصاح طاووس فقال: أتدرون ما يقول؟
قالوا: لا. قال: فإنه يقول: كما تدين تُدَان ... إلى آخر ما ذكره من صيحات
حيوانات متعددة، ومعانى هذه الصيحات، ثم يروى ما يشبه هذا عن مكحول، وعن فرقد
السنجى كما يروى بعد ذلك أن جماعة من اليهود سألوا ابن عباس عن معانى ما تقوله
بعض الطيور، وما كان من جواب ابن عباس عن ذلك، وهو شبيه بما تقدَّم أيضًا، ومع
كون القصة فى نهاية الغرابة والبُعْد فإن الخطيب يمر عليها مَرّ الكرام، ولا
يُعَقِّب عليها بكلمة واحدة.
ومثلًا عند تفسيره لقوله تعالى فى الآية [٣٥]
من سورة النمل أيضًا: ﴿وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ
بِمَ يَرْجِعُ المرسلون﴾ نراه يقص لنا عن وهب بن منَّبه وغيره قصة غريبة فيها
بيان نوع هدية بلقيس لسليمان، وما كان اختبارها له. وما كان من سليمان ﵇ من
إجابته على ما اختبرته به، وإظهاره لعظمة مُلْكه وقوة سلطانه، مما يبعث الدهشة
ويثير العجب، ومع ذلك لا يُعَقِّب على ما رواه بكلمة واحدة.
ومثلًا عند
تفسيره لقوله تعالى فى الآية [١٢٣] من سورة الصافات: ﴿وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ
المرسلين﴾ .. نراه يقول: «تنبيه أذكر فيه شيئًا من قصته ﵇».. ثم يروى لنا قصة
طويلة وعجيبة عن علماء السير والأخبار، وبعد الفراغ منها لا يتعقبها بتصحيح أو
تضعيف.
١ / ٢٤٤
ولكن الخطيب إن مَرّ على مثل
هذه القصص بدون أن يُعَقِّب عليها، لا يرضى لنفسه أن يَمُرَّ على قصة فيها ما يخل
بمقام النبوة إلا بعد أن يُعَقِّب عليها بما يُظهر بطلانها وعدم صحتها.
فمثلًا
عند تفسيره لقوله تعالى فى الآيات: [٢١، ٢٢، ٢٣، ٢٤] من سورة [ص]: ﴿وَهَلْ
أَتَاكَ نَبَأُ الخصم إِذْ تَسَوَّرُواْ المحراب﴾ ... الآيات، إلى آخر القصة،
نراه يذكر لنا عبارة الفخر الرازى التى ذكرها فى تفسيره لتفنيد الروايات الباطلة
فى هذه القصة، وتقرير ما هو لائق فى حق نبى الله داود ﵇.
... وهكذا نلاحظ
على هذا التفسير أنه يغلب عليه الجانب القَصصى بالنسبة لغيره من بقية جوانب
التفسير.
* *
* كثرة نقوله عن تفسير الفخر الرازى:
هذا ولا يفوتنا
أن الخطيب الشربينى، كثيرًا ما يعتمد على التفسير الكبير للفخر الرازى، والذى
يقرأ فى تفسيره هذا، يجد أنه يكثر من النقول عنه.
والكتاب مطبوع فى أربعة
أجزاء كبار، ومتداوَل بين أهل العلم، لما فيه من السهولة والجمع لخلاصة التفاسير
التى سبقته مع الدقة والإيجاز.
* * *
٩ - إرشاد العقل السليم إلى مزايا
الكتاب الكريم (لأبى السعود)
* التعريف بمؤلف هذا التفسير:
مؤلف هذا
التفسير، هو أبو السعود محمد بن محمد بن مصطفى، العمادى، الحنفى المولود فى سنة
٩٨٣ هـ (ثلاث وتسعين وثمانمائة من الهجرة)، بقرية قريبة من القسطنطينية، وهو من
بيت عُرف أهله بالعلم والفضل حتى قال بعضهم فيه: تَربَّى فى حجر العلم حتى رَبَى،
وارتضع ثدى الفضل إلى أن ترعرع وحَبَا، ولا زال يخدم العلوم الشريفة حتى رحب
باعه، وامتد ساعده واشتد اتساعه».
قرأ كثيرًا من كتب العلم على والده،
وتتلمذ لكثير من جلَّة العلماء، فاستفاد منهم علما جمًّا، ثم طارت سمعته، وفاضت
شهرته، وعظم صيته، وتولى التدريس فى كثير من المدارس التركية، ثم قُلِّد قضاء
بروسة ثم نُقل إلى قضاء القسطنطينية، ثم نُقل إلى قضاء ولاية العسكر فى ولاية روم
أيلى، ودام على قضائها مدة ثمان سنين، ثم تولى أمر الفتوى بعد ذلك، فقام بها خير
قيام بعد أن اضطرب أمرها بانتقالها من يد إلى يد، وكان ذلك سنة ٩٥٢ هـ (اثنتين
وخمسين وتسعمائة من الهجرة) ومكث فى منصب
١ / ٢٤٥
الإفتاء
نحوًا من ثلاثين سنة أظهر فيها الدقة العلمية التامة، والبراعة فى الفتوى والتفنن
فيها، وقد ذكروا عنه أنه كان يكتب جواب الفتوى على منوال ما يكتبه السائل من
الخطاب، فإن كان السؤال منظومًا، كان الجواب منظومًا كذلك، مع الاتفاق بينهما فى
الوزن والقافية، وإن كان السؤال نثرًا مسجعًا، كان الجواب مثله، وإن كان بلغة
العرب فالجواب بلغة العرب، وإن كان بلغة التُرْك، فالجواب بلغة التُرْك ... وهكذا
مما يشهد للرجل بسعة أُفقه وغزارة مادته، ولقد قرأنا فى ترجمته شيئًا من
الاستفتاء والفتوى، فوجدنا صدق ما قيل عنه فى ذلك.
وكان ﵀ كما قيل عنه من
الذى قعدوا من الفضائل والمعارف على سنامها وغاربها، وسارت بذكره الركبان فى
مشارق الأرض ومغاربها، ولقد حاز قصب السبق بين أقرانه، ولم يقدر أحد أن يجاريه فى
ميدانه، ولقد كان اشتغاله بالتدريس وتنقله بين كثير من المدارس وتوليه للقضاء ثم
الفتوى سببًا عاتقًا له عن التفرغ والتصنيف والتأليف، ولكنه اختلس فرصًا من وقته
فصرفها إلى كتابة التفسير. فأخرج الناس كتابه الذى نحن بصدده، كما أنه كتب بعض
الحواشى على تفسير الكشاف، وكتب حاشية على العناية من أول كتاب البيع من الهداية.
وعلى الجملة فقد جمع صاحبنا بين العلم والأدب، فبينما نراه مُجوِّدًا فيما كتبه
وألَّفه من كتب العلم، نراه مبدعًا غاية الإبداع فيما أُثِر عنه من منثور ومنظوم،
ولا أظن أن صاحبه الذى رثاه بعد وفاته قد تغالى فى الثناء، أو اشتط فى الرثاء حيث
يقول فى مرثيته الطويلة:
ما العلم إلا ما حويتَ حقيقة ... وعلوم غيرك فى
الورى كسراب
توفى ﵀ بمدينة القسطنطينية، ودفن بجوار أبى أيوب الأنصارى، وذلك
فى أوائل جمادى الأولى سنة ٩٨٢ هـ (اثنتين وثمانين وتسعمائة من الهجرة) . فرحمه
الله رحمة واسعة.
* *
* التعريف بهذا التفسير وطريقة مؤلفه فيه:
قلنا:
إن صاحب هذا التفسير شغُل كثيرًا بالتدريس والقضاء والفتوى، ولكنه اختلس فرصًا من
وقته ألَّف فيها كتابه فى التفسير، قلنا هذا فيما سبق، والمؤلف نفسه يقرر هذا فى
مقدمة تفسيره، ولم يُعرف أنه أخرج تفسيره للناس دفعة واحدة، بل ذكروا أنه ابتدأ
فيه، فلما وصل إلى آخر سورة (ص) عرض له من الشواغل ما جعله يقف فى تفسيره عند هذا
الحد، فبيَّض ما كتب فى شعبان سنة ٩٧٣هـ (ثلاث وسبعين وتسعمائة من الهجرة) ثم
أرسله إلى الباب العالى، فتلقاه السلطان سليمان
١ / ٢٤٦
خان
بحسن القبول، وأنعم عليه بما أنعم، وزاد فى وظيفته كل يوم خمسمائة درهم، ثم
تيَّسر له بعد ذلك إتمامه، فأتمه بعد سنة، ثم أرسله إلى السلطان ثانيًا بعد
إتمامه، فقابله السلطان بمزيد لطفه وإنعامه، وزاد فى وظيفته مرة أخرى.
والحق
أن هذا التفسير غاية فى بابه، ونهاية فى حسن الصوغ وجمال التعبير، كشف فيه صاحبه
عن أسرار البلاغة القرآنية، بما لم يسبقه أحد إليه، ومن أجل ذلك ذاعت شهرة هذا
التفسير بين أهل العلم، وشهد له كثير من العلماء بأنه خير ما كُتب فى التفسير،
فصاحب «العقد المنظوم فى ذكر أفاضل الروم»، يقول عنه فى كتابه: «وقد أتى فيه بما
لم تسمح به الأزمان، ولم تقرع به الآذان، فصدق المثل السائر: كم ترك الأول
للآخر».
وصاحب «الفوائد البهية فى تراجم الحنفية» يقول: «وقد طالعتُ تفسيره
وانتفعتُ به وهو تفسير حسن، ليس بالطويل الممل، ولا بالقصير المخل، متضمن لطائف
ونكات، ومشتمل على فوائد وإشارات». ونقل عن صاحب «الكشف» أنه قال: «انتشرت نسخه
فى الأقطار، ووقع له التلقى بالقبول من الفحول الكبار، لحسن سبكه وصدق تعبيره،
فصار يقال له:»خطيب المفسرين«. ومن المعلوم أن تفسير أحد سواه بعد الكشاف والقاضى
لم يبلغ إلى ما بلغه من رتبة الاعتبار».
ولم يظفر هذا التفسير - كغيره من
التفاسير - بكثرة الحواشى والتعليقات التى تكشف عن مراده. أو تتعقبه فى بعض ما
يقول، ولم يقع تحت يدنا شئ من ذلك، غير أننا نجد فى «كشف الظنون» عند الكلام عن
هذا التفسير، ذكر ما كتب عليه من التعليقات فمن ذلك: تعليقة الشيخ أحمد الرومى
الآحصارى المتوفى سنة ١٠٤١ هـ (إحدى وأربعين وألف من الهجرة)، من سورة الروم إلى
سورة الدخان. وتعليقة الشيخ رضى الدين بن يوسف القدسى، علَّقها إلى قريب من
النصف، وأهداها إلى المولى أسعد بن سعد الدين، حين دخل المقدس زائرًا، وكان دأبه
فيها نقل كلام العلامتين الزمخشرى والبيضاوى، وكلام ذلك الفاضل «أبى السعود»
بقوله: قال الكشاف، وقال القاضى، وقال المفتى، ثم المحاكمة فيما بينهم. هذا ما
ذكره صاحب كشف الظنون، ولا نعلم أحدًا كتب عليه غير من ذكرهما.
قرأت مقدمة
الكتاب لمؤلفه، فوجدته يثنى كثيرًا على تفسير الكشاف، وأنوار التنزيل للبيضاوى،
ويذكر أنه قرأهما قبل أن يؤلف تفسيره، ثم يقول: "ولقد كان فى سوابق الأيام،
وسوالف الدهور والأعوام، أوان اشتغالى بمطالعتهما وممارستهما، وزمان انتصابى
لمفاوضتهما ومدارستهما، يدور فى خلدى على استمرار، آناء الليل
١
/ ٢٤٧
وأطراف النهار، أن أنظم درر فوائدهما فى سمط دقيق، وأرتب
غرر فرائدهما على ترتيب أنيق، وأضيف إليهما ما ألفيته فى تضاعيف الكتب الفاخرة من
جواهر الحقائق، وصادفته فى أصداف العيالم الزاخرة من زواهر الدقائق، وأسلك خلالها
بطريق الترصيع، على نسق أنيق وأسلوب بديع، حسبما تقتضيه جلاله شأن التنزيل،
ويستدعيه جزالة نظمه الجليل، ما سنح للفكر العليل بالعناية الربانية، وسمح به
النظر الكليل بالهداية السبحانية، من عوارف معارف تمتد إليها أعناق الهمم من كل
ماهر لبيب. وغرائب رغائب ترنو إليها أحداق الأمم من كل نحرير أريب، وتحقيقات
رصينة تقيل عثرات الأفهام فى مداحض الأقدام، وتدقيقات متينة تزيل خطرات الأوهام
من خواطر الآنام، فى معارك أفكار تشتبه فيها الشئون، ومدارك أنظار تختلط فيها
الظنون، وأبرز من وراء أستار الكمون، من دقائق السر المخزون فى خزائن الكتاب
المكنون، ما تطمئن إليه النفوس، وتقر به العيون، من خفايا الرموز وخبايا الكنوز..
ناويًا أن أسميه عند تمامه، بتوفيق الله وإنعامه «إرشاد العقل السليم، إلى مزايا
الكتاب الكريم».
ومن هنا تبين لنا، أن أبا السعود يعتمد فى تفسيره على تفسير
الكشاف والبيضاوى وغيرهما ممن تقدمه، غير أنه لم يغتر بما جاء فى الكشاف من
الاعتزالات. ولهذا لم يذكرها إلا على جهة التحذير منها، مع جريانه على مذهب أهل
السُّنَّة فى تفسيره، ولكن نجده قد وقع فيما وقع فيه صاحب الكشاف، وصاحب أنوار
التنزيل من أنه ذكر فى آخر كل سورة حديثًا عن النبى ﷺ فى فضلها، وما لقارئها من
الثواب والأجر عند الله، مع أن هذه الأحاديث موضوعة باتفاق أهل العلم جميعًا.
*
*
* عنايته بالكشف عن بلاغة القرآن وسر إعجازه:
قرأت فى هذا التفسير
فلاحظت عليه - غير ما تقدم - أنه كثير العناية بسبك العبارة وصوغها، مولع كل
الولوع بالناحية البلاغية للقرآن، فهو يهتم بأن يكشف عن نواحى القرآن البلاغية،
وسر إعجازه فى نظمه وأسلوبه، وبخاصة فى باب الفصل والوصل، والإيجاز والإطناب،
والتقديم والتأخير، والاعتراض والتذييل، كما أنه يهتم بإبداء المعانى الدقيقة
التى تحملها التراكيب القرآنية بين طيَّاتها، مما لا يكاد يظهر إلا لمن أوتى حظًا
وافرًا من المعرفة بدقائق اللغة العربية، ويكاد يكون صاحبنا هو أول المفسِّرين
المبرزين فى هذه الناحية.
* *
* اهتمامه بالمناسبات وإلمامه ببعض
القراءات:
ونلحظ على أبى السعود فى تفسيره أنه كثيرًا ما يهتم بإبداء وجوه
المناسبات بين
١ / ٢٤٨
الآيات، كما نلحظ عليه
أنه يعرض أحيانًا لذكر القراءات، ولكن بقدر ما يوضح به المعنى، ولا يتوسع كما
يتوسع غيره.
* *
* إقلاله من رواية الإسرائيليات:
ومن ناحية أخرى
نجد أنه مُقِلٌ فى سرد الإسرائيليات، غير مُولع بذكرها، وإن ذكرها أحيانًا فإنه
لا يذكرها على سبيل الجزم بها، والقطع بصحتها، بل يُصَدِّر ذكر الرواية بقوله:
روى، أو قيل، مما يُشعر بضعفها، وإن كان لا يُعَقَّب عليها بعد ذلك، ولعله يكتفى
بهذه الإشارة.
فمثلًا عند تفسيره لقوله تعالى فى الآية [٣٥] من سورة النمل:
﴿وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ
المرسلون﴾ يقول: رُوى أنها بعثت خمسمائة غلام عليهم ثياب الجوارى وحليهم الأساور
والأطواق ... إلى آخر ما ذكره من القصة العجيبة الغريبة، ومع ذلك فلم يُعَقِّب
عليها ولا بكلمة واحدة، ولعله اكتفى - كما قلت - بما يشير إليه لفظ «رُوى» من عدم
صحة ما ذكره.
* *
* روايته عن بعض مَن اشتهر بالكذب:
كما نلاحظ
عليه أنه يروى بعض القصص عن طريق الكلبى عن أبى صالح، فمثلًا عند تفسيره لقوله
تعالى فى الآية [١٥] وما بعدها من سورة سبأ: ﴿لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي
مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ﴾ ... الآيات إلى آخر القصة،
نجده يقول: وأصل قصتهم ما رواه الكلبى عن أبى صالح: أن عمرو بن عامر من أولاد
سبأ، وبينهما أثنى عشر أبًا، وهو الذى يقال له «مزيقيا بن ماء السماء»، أخبرته
«طريفة» الكاهنة بخراب سد مأرب، وتغريق سيل العرم الجنَّتين.. ويمضى فى ذكر
روايات أخرى عن رجال آخرين مع العلم أن الكلبى مُتَّهم بالكذب، فقد قال السيوطى
فى خاتمة الدر المنثور ما نصه: «الكلبى اتهموه بالكذب وقد مرض فقال لأصحابه فى
مرضه: كل شئ حدَّثتكم عن أبى صالح كذب» ولكن نجد أبا السعود، يخلص من تبعة هذه
الروايات التى سردها بقوله أخيرًا: «والله تعالى أعلم» وهذا يُشعر بأنه يشك فى
صدقها وصحتها.
* *
* إقلاله من ذكر المسائل الفقهية:
كذلك نجد أبا
السعود ﵀ يتعرض فى تفسيره لبعض المسائل الفقهية، ولكنه مُقِلٌ جدًا، ولا يكاد
يدخل فى المناقشات الفقهية والأدلة المذهبية، بل نجده يسرد المذاهب فى الآية ولا
يزيد على ذلك.
١ / ٢٤٩
فمثلًا عند قوله تعالى
فى الآية [٢٢٥] من سورة البقرة: ﴿لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ الله باللغو في
أَيْمَانِكُمْ﴾ .. الآية، نجده يعرض للخلاف المذهبى فى تحديد معنى اليمين اللغو
فيقول: «وقد اختُلِفَ فيه، فعندنا هو أن يحلف على شئ يظنه على ما حلف عليه ثم
يظهر خلافه، فإنه لا يقصد فيه الكذب. وعند الشافعى ﵀ هو قول العرب: لا واللهِ،
وبلى واللهِ، مما يؤكدون به كلامهم من غير إخطار الحلف بالبال» ولا يزيد على ذلك
بل يمضى فينزل الآية على قول الحنفية.
* *
* تناوله لما تحتمله الآيات
من وجوه الإعراب:
كما نلحظ عليه أنه يعرض أحيانًا للناحية النحوية إذا كانت
الآية تحتمل أوجهًا من الإعراب، ويُنزل الآية على اختلاف الأعاريب، ويُرَجِّح
واحدًا منها ويدلل على رجحانه.
وعلى الجملة.. فالكتاب دقيق غاية الدقة، بعيد
عن خلط التفسير بما لا يتصل به، غير مُسرف فيما يضطر إليه من التكلم عن بعض
النواحى العلمية، وهو مرجع مهم يعتمد عليه كثير ممن جاء بعده من المفسِّرين، وقد
طُبع هذا التفسير مرارًا، وهو يقع فى خمسة أجزاء متوسطة الحجم.
* * *
١٠
- روح المعانى فى تفسير القرآن العظيم والسبع المثانى (للألوسى) .
* التعريف
بمؤلف هذا التفسير:
مؤلف هذا التفسير هو: أبو الثناء، شهاب الدين، السيد
محمود أفندى الألوسى البغدادى. ولد فى سنة ١٢١٧ هـ (سبع عشرة ومائتين بعد الألف
من الهجرة النبوية)، فى جانب الكرخ من بغداد.
كان ﵀ شيخ العلماء فى العراق،
وآية من آيات الله العظام، ونادرة من نوادر الأيام. جمع كثيرًا من العلوم حتى
أصبح علاَّمة فى المنقول والمعقول، فهَّامة فى الفروع والأصول، مُحَدِّثًا لا
يُجارَى ومُفَسِّرًا لكتاب خالد النقشبندى، والشيخ على السويدى، وكان ﵀ غاية فى
الحرص على تزايد علمه، وتوفير نصيبه منه، وكان كثيرًا مما ينشد:
سهرى لتنقيح
العلوم ألذُّلى ... من وصل غانية وطيب عناق
اشتغل بالتدريس والتأليف وهو ابن
ثلاث عشرة سنة، ودرس فى عدة مدارس،
١ / ٢٥٠
وعندما
قُلِّد إفتاء الحنفية، شرع يُدَرِّس سائر العلوم فى داره الملاصقة لجامع الشيخ
عبد الله العاقولى فى الرصافة. وقد تتلمذ له وأخذ عنه خلق كثير من قاصى البلاد
ودانيها، وتخرَّج عليه جماعات من الفضلاء من بلاد مختلفة كثيرة، وكان ﵀ يُواسى
طلبته من ملبسه ومأكله، ويُسكنهم البيوت الرفيعة من منزله، حتى صار فى العراق
العَلَمُ المفرد، وانتهت إليه الرياسة لمزيد فضله الذى لا يُجحد، وكان نسيجٌ وحده
فى النثر وقوة التحرير، وغزارة الإملاء وجزالة التعبير، وقد أملى كثيرًا من الخطب
والرسائل، والفتاوى والمسائل، ولكن أكثر ذلك - على قرب العهد - دَرَسَ وَعَفت
آثاره، ولم تظفر الأيدى إلا بالقليل منه، وكان ذا حافظة عجيبة. وفكرة غريبة،
وكثيرًا ما كان يقول: «ما استودعتُ ذهنى شيئًا فخاننى، ولا دعوتُ فكرى لمعضلة إلا
وأجابنى». قُلِّد إفتاء الحنفية فى السنة الثامنة والأربعين بعد المائتين والألف
من الهجرة المحمدية، وقبل ذلك بأشهر، ولى أوقاف المدرسة المرجانية، إذا كانت
مشروطة لأعلم لأهل البلد، وتحقق لدى الوزير الخطير علىّ رضا باشا، أنه ليس فيها
مَن يدانيه من أحد. وفى شوَّال سنة ١٢٦٣ هـ (ثلاث وستين ومائتين بعد الألف) انفصل
من منصب الإفتاء، وبقى مشتغلًا بتفسير القرآن الكريم حتى أتمه، ثم سافر
القسطنطينية فى السنة السابعة والستين بعد المائتين والألف، فعرض تفسيره على
السلطان عبد المجيد خان، فنال إعجابه ورضاه، ثم رجع منها سنة ١٢٦٩ هـ (تسع وستين
ومائتين بعد الألف) .
وكان ﵀ عالمًا باختلاف المذاهب، مطلعًا على الملل
والنحل، سَلَفى الاعتقاد، شافعى المذهب، إلا أنه فى كثير من المسائل يُقلِّد
الإمام الأعظم أبا حنيفة النعمان رضى الله عنه، وكان فى آخر أمره يميل إلى
الاجتهاد. ولقد خَلَّف ﵀ للناس ثروة علمية كبيرة ونافعة، فمن ذلك تفسيره لكتاب
الله، وهو الذى نحن بصدده الآن، وحاشيته على القطر، كتب منها فى الشباب إلى موضع
الحال، وبعد وفاته أتمها ابنه السيد نعمان الألوسى، وشرح السلم فى المنطق، وقد
فُقِد، ومنها الأجوبة العراقية عن الأسئلة اللاهورية، والأجوبة العراقية على
الأسئلة الإيرانية، ودُرَّة الغواص فى أوهام الخواص، والنفحات القدسية فى المباحث
الإمامية، والفوائد السنية فى علم آداب البحث.
وقد توفى ﵀ فى يوم الجمعة
الخامس والعشرين من ذى القعدة سنة ١٢٧٠ هـ (سبعين ومائتين بعد الألف من الهجرة)،
ودُفن مع أهله فى مقبرة الشيخ معروف الكرخى فى الكرخ، فرضى الله عنه وأرضاه.
*
*
*
١ / ٢٥١
التعريف بهذا التفسير
وطريقة مؤلفه فيه:
ذكر مؤلف هذا التفسير فى مقدمته أنه منذ عهد الصغر، لم
يزل متطلبًا لاستكشاف سر كتاب الله المكتوم، مترقبًا لارتشاف رحيقه المختوم، وأنه
طالما فرق نومه لجمع شوارده، وفارق قومه لوصال خرائده، لا يرفل فى مطارف اللهو
كما يرفل أقرانه، ولا يهب نفائس الأوقات لخسائس الشهوات كما يفعل إخوانه، وبذلك
وفَّقه الله للوقوف على كثير من حقائقه، وحل وفير من دقائقه، وذكر أنه قبل أن
يكمل سنه العشرين، شرع يدفع كثيرًا من الإشكالات التى ترد على ظاهر النظم الكريم،
ويتجاهر بما لم يظفر به فى كتاب من دقائق التفسير، ويعلق على ما أغلق مما لم تعلق
به ظفر كل ذى ذهن خطير، وذكر أنه استفاد من علماء عصره، واقتطف من أزهارهم،
واقتبس من أنوارهم، وأودع علمهم صدره، وأفنى فى كتابة فوائدهم حبره ... ثم ذكر
أنه كثيرًا ما خطر له أن يحرر كتابًا يجمع فيه ما عنده من ذلك وأنه كان يتردد فى
ذلك، إلى أن رأى فى بعض ليالى الجمعة من شهر رجب سنة ١٢٥٢ هـ (اثنتين وخمسين
ومائتين بعد الألف من الهجرة)، أن الله جَلّ شأنه أمره بطى السماوات والأرض، ورتق
فتقهما على الطول والعرض، فرفع يدًا إلى السماء، وخفض الأخرى إلى مستقر الماء، ثم
انتبه من نومه وهو مستعظم لرؤيته، فجعل يفتش لها عن تعبير، فرأى فى بعض الكتب
أنها إشارة إلى تأليف تفسير، فشرع فيه فى الليلة السادسة عشرة من شهر شعبان من
السنة المذكورة، وكان عمره إذ ذاك أربعًا وثلاثين سنة، وذلك فى عهد السلطان محمود
خان بن السلطان عبد الحميد خان، وذكر فى خاتمته أنه انتهى منه ليلة الثلاثاء
لأربع خلون من شهر ربيع الآخر سنة ١٢٦٧ هـ (سبع وستين ومائتين بعد الألف)، ولما
انتهى منه جعل يفكر ما اسمه؟ وبماذا يدعوه؟ فلم يظهر له اسم تهتش له الضمائر،
وتبتش من سماعه الخواطر، فعرض الأمر على وزير الوزراء علىّ رضا باشا. فسمَّاه على
الفور: «روح المعانى، فى تفسير القرآن العظيم والسبع المثانى».
هذه هى قصة
تأليف هذا التفسير، كما ذكرها صاحبه عليه رضوان الله.
وقد ذكروا أن سلوكه فى
تفسيره هذا كان أمرًا عظيمًا، وسرًا من الأسرار غريبًا، فإن نهاره كان للإفتاء
والتدريس وأول ليلة لمنادمة مستفيد وجليس، فيكتب بأواخر الليل منه ورقات، فيعطيها
صباحًا للكُتَّاب الذين وظَّفهم فى داره فلا يكملونها تبييضًا إلا فى نحو عشر
ساعات.
* *
* مكانة هذا التفسير من التفاسير التى تقدمته:
ثم إن
هذا التفسير - والحق يقال - قد أفرغ فيه مؤلفه وسعه، وبذل مجهوده حتى أخرجه للناس
كتابًا جامعًا لآراء السَلَف رواية ودراية، مشتملًا على أقوال الخَلَف بكل
١
/ ٢٥٢
أمانة وعناية، فهو جامع لخلاصة كل ما سبقه من التفاسير،
فتراه ينقل لك عن تفسير ابن عطية، وتفسير أبى حيان، وتفسير الكشاف، وتفسير أبى
السعود، وتفسير البيضاوى، وتفسير الفخر الرازى، وغيرها من كتب التفسير المعتبرة،
وهو إذا نقل عن تفسير أبى السعود يقول - غالبًا -: قال شيخ الإسلام. وإذا نقل عن
تفسير البيضاوى يقول - غالبًا -: قال القاضى، وإذا نقل عن تفسير الفخر الرازى
يقول - غالبًا -: قال الإمام. وهو إذ ينقل عن هذه التفاسير ينصب نفسه حَكَمًا
عدلًا بينها، ويجعل من نفسه نقَّادًا مُدققًا، ثم يبدى رأيه حرًا فيما ينقل،
فتراه كثيرًا ما يعترض على ما ينقله عن أبى السعود، أو عن البيضاوى، أو عن أبى
حيان، أو عن غيرهم. كما تراه يتعقب الفخر الرازى فى كثير من المسائل، ويرد عليه
على الخصوص فى بعض المسائل الفقهية، انتصارًا منه لمذهب أبى حنيفة، ثم إنه إذا
استصوب رأيًا لبعض مَن ينقل عنهم، انتصر له ورجَّحَه على ما عداه.
* *
*
موقف الألوسى من المخالفين لأهل السُّنَّة:
والألوسى سَلَفى المذهب سُّنِّى
العقيدة، ولهذا نراه كثيرًا ما يُفَنِّد آراء المعتزلة والشيعة، وغيرهم من أصحاب
المذاهب المخالفة لمذهبه.
فمثلًا عند تفسيره لقوله تعالى فى الآية [١٥] من
سورة البقرة: ﴿الله يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ
يَعْمَهُونَ﴾ .. يقول بعد كلام طويل ما نصه: «... وإضافته - أى الطغيان - إليهم،
لأنه فعلهم الصادر منهم، بقدرهم المؤثرة بإذن الله تعالى فالاختصاص المشعرة به
الإضافة، إنما هو بهذا الاعتبار، لا باعتبار المحلية والاتصاف، فإنه معلوم لا
حاجة فيه إلى الإضافة، ولا باعتبار الإيجاد استقلالًا من غير توقف على إذن
الفعَّال لما يريد، فإنه اعتبار عليه غبار، بل غبار ليس له اعتبار، فلا تهولنك
جعجعة الزمخشرى وقعقعته».
وانظر إلى ما كتبه قبل ذلك عند تفسيره لقوله تعالى
فى الآية [٧] من السورة نفسها: ﴿خَتَمَ الله على قُلُوبِهمْ وعلى سَمْعِهِمْ وعلى
أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ﴾ تجده يطيل بما لا يتسع لذكره
المقام هنا، من بيان إسناد الختم إليه ﷿ على مذهب أهل السُّنَّة، ومن ذكر ما ذهب
إليه المعتزلة فى هذه الآية وما ردَّ به عليهم، وفنَّد به تأويلهم الذى يتفق مع
مذهبهم الاعتزالى.
ومثلًا عند تفسيره لقوله تعالى فى الآية [١١] من سورة
الجمعة: ﴿وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انفضوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ
قَآئِمًا قُلْ مَا عِندَ الله خَيْرٌ مِّنَ اللهو وَمِنَ التجارة والله خَيْرُ
الرازقين﴾ .. يقول ما نصه: "وطعن الشيعة لهذه الآية الصحابة رضى الله
١
/ ٢٥٣
تعالى عنهم، بأنهم آثروا دنياهم، على آخرتهم، حيث
انفضُّوا إلى اللَّهو والتجارة، ورغبوا عن الصلاة التى هو عماد الدين، وأفضل من
كثير من العبادات، لا سيما مع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وروى أن ذلك
قد وقع مرارًا منهم، وفيه أن كبار الصحابة كأبى بكر وعمر وسائر العشرة المبشرة لم
ينفضُّوا، والقصة كانت فى أوائل زمن الهجرة، ولم يكن أكثر القوم تام التحلى بحلية
آداب الشريعة بعد، وكان قد أصاب أهل المدينة جوع وغلاء سعر، فخاف أولئك
المنفضُّون اشتداد الأمر عليهم بشراء غيرهم ما يُقتات به لو لم ينفضُّوا، ولذا لم
يتوعدهم الله على ذلك بالنار أو نحوها، بل قصارى ما فعل سبحانه أنه عاتبهم ووعظهم
ونصحهم، ورواية أن ذلك وقع منهم مرارًا إن أريد بها رواية البيهقى فى شُعَب
الإيمان عن مقاتل بن حيان أنه قال: بلغنى - والله تعالى أعلم - أنهم فعلوا ذلك
ثلاث مرات، فمثل ذلك لا يُلتفت إليه ولا يُعَوِّل عند المحدِّثين عليه. وإن أريد
بها غيرها فليبين وليثبت صحته، وأنَّى بذلك؟ وبالجملة: الطعن بجميع الصحابة لهذه
القصة التى كانت من بعضهم فى أوائل أمرهم - وقد عقبها منهم عبادات لا تحصى - سفه
ظاهر وجهل وافر.
* الألوسى والمسائل الكونية:
ومما نلاحظه على الألوسى
فى تفسيره، أنه يستطرد إلى الكلام فى الأُمور الكونية. ويذكر كلام أهل الهيئة
وأهل الحكمة، ويقر منه ما يرتضيه، ويُفنَّد ما لا يرتضيه، وإن أردت مثالًا
جامعًا، فارجع إليه عند تفسيره لقوله تعالى فى الآيات [٣٨، ٣٩، ٤٠] من سورة يس:
﴿والشمس تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ العزيز العليم * والقمر
قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حتى عَادَ كالعرجون القديم * لاَ الشمس يَنبَغِي لَهَآ
أَن تدْرِكَ القمر وَلاَ الليل سَابِقُ النهار وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ﴾
..
وارجع إليه عند تفسيره لقوله تعالى فى الآية [١٢] من سورة الطلاق: ﴿الله
الذي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الأرض مِثْلَهُنَّ﴾ فسترى منه توسعًا فى
هذه الناحية.
* *
* كثرة استطراده للمسائل النحوية:
كذلك يستطرد
الألوسى إلى الكلام فى الصناعة النحوية، ويتوسع فى ذلك أحيانًا إلى حد يكاد يخرج
به عن وصف كونه مفسِّرًا، ولا أحيلك على نقطة بعينها، فإنه لا يكاد يخلو موضع من
الكتاب من ذلك.
* *
*
١ / ٢٥٤
موقفه
من المسائل الفقهية:
كذلك نجده إذا تكلم عن آيات الأحكام فإنه لا يمر عليها
إلا إذا استوفى مذاهب الفقهاء وأدلتهم مع عدم تعصب منه لمذهب بعينه.
فمثلًا
عند تفسيره لقوله تعالى فى الآية: [٢٣٦] من سورة البقرة: ﴿وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى
الموسع قَدَرُهُ وَعَلَى المقتر قَدَرُهُ مَتَاعًا بالمعروف حَقًّا عَلَى
المحسنين﴾ .. يقول ما نصه: وقال الإمام مالك: المحسنون: المتطوعون، وبذلك استدل
على استحباب المتعة وجعله قرينة صارفة للأمر إلى الندب، وعندنا: هى واجبة
للمطلَّقات فى الآية، مستحبَة لسائر المطلَّقات. وعند الشافعى رضى الله عنه فى
أحد قوليه: هو واجبة لكل زوجة مطلَّقة إذا كان الفراق من قِبَل الزوج إلا التى
سمى لها وطُلِّقت قبل الدخول، ولما لم يساعده مفهوم الآية ولم يعتبر العموم فى
قوله تعالى: ﴿وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بالمعروف﴾ لأنه يحمل المطلق على المقيد،
قال بالقياس، وجعله مقدَّمًا على المفهوم، لأنه من الحجج القطعية دونه، وأجيب عما
قاله مالك، بمنع قصر المحسن على المتطوع، بل هو أعم منه ومن القائم بالواجبات،
فلا ينافى الوجوب، فلا يكون صارفًا للأمر عنه مع ما انضم إليه من لفظ حقًا».
وإذا
أردت أن تتأكد من أن الألوسى غير متعصب لمذهب بعينه فارجع إلى البحث الذى أفاض
فيه عند تفسيره لقوله تعالى فى الآية [٢٢٨] من سورة البقرة: ﴿والمطلقات
يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قرواء﴾ ... الآية، تجده بعد أن يذكر
مذهب الشافعية، ومذهب الحنفية، وأدلة كل منهم، ومناقشاتهم يقول: «وبالجملة، كلام
الشافعية فى هذا المقام قوى، كما لا يخفى على مَن أحاط بأطراف كلامهم، واستقرأ ما
قالوه، تأمل ما دفعوا به من أدلة مخالفيهم».
* *
* موقفه من
الإسرائيليات:
ومما نلاحظ على الألوسى أنه شديد النقد للإسرائيليات والأخبار
المكذوبة التى حشا بها كثير من المفسِّرين تفاسيرهم وظنوها صحيحة، مع سخرية منه
أحيانًا.
فمثلًا عند تفسيره لقوله تعالى فى الآية [١٢] من سورة المائدة:
﴿وَلَقَدْ أَخَذَ الله مِيثَاقَ بني إِسْرَآئِيلَ وَبَعَثْنَا مِنهُمُ اثني
عَشَرَ نَقِيبًا﴾ .. نجده يقص علينا قصة عجيبة عن عوج بن عنق، يرويها عن البغوى،
ولكنه بعد الفراغ منها يقول ما نصه: "وأقول: قد
١ / ٢٥٥
شاع
أمر عوج عند العامة، ونقلوا فيه حكايات شنيعة، وفى فتاوى العلاَّمة ابن حجر، قال
الحافظ العماد ابن كثير: قصة عوج وجميع ما يحكون عنه، هذيان لا أصل له، وهو من
مختلقات أهل الكتاب، ولم يكن قط على عهد نوح ﵇، ولم يسلم من الكفار أحد. وقال ابن
القيم: من الأُمور التى يُعرف بها كون الحديث موضوعًا، أن يكون مما تقوم الشواهد
الصحيحة على بطلانه، كحديث عوج بن عنق. وليس العجب مِن جرأة مَن وضع هذا الحديث
وكذب على الله تعالى، إنما العجب ممن يُدخل هذا الحديث فى كتب العلم من التفسير
وغيره ولا يبيِّن أمره، ثم قال: ولا ريب أن هذا وأمثاله من صنع زنادقة أهل الكتاب
الذين قصدوا الاستهزاء والسخرية بالرسل الكرام عليهم الصلاة والسلام وأتباعهم..
ثم مضى الألوسى فى تفنيد هذه القصة بما حكاه عن غير مَن تقدّم من العلماء الذين
استنكروا هذه القصة الخرافية.
ومثلًا عند تفسيره لقوله تعالى فى الآية [٣٨]
من سورة هود: ﴿وَيَصْنَعُ الفلك وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأٌ مِّن قَوْمِهِ
سَخِرُواْ مِنْهُ﴾ .. نجده يروى أخبارًا كثيرة فى نوع الخشب الذى صُنعت منه
السفينة، وفى مقدار طولها وعرضها ارتفاعها، وفى المكان الذى صُنعت فيه.. ثم
يُعقِّب على كل ذلك بقوله: «وسفينة الأخبار فى تحقيق الحال فيما رأى لا تصلح
للركوب فيها، إذ هى غير سالمة عن عيب، فالحرى بحال مَن لا يميل إلى الفضول، أن
يؤمن بأنه ﵇ صنع الفُلْك حسبما قص الله تعالى فى كتاب، ولا يخوض فى مقدار طولها
وعرضها وارتفاعها، ومن أى خشب صنعها، وبكم مدة أتم عملها إلى غير ذلك مما لم
يشرحه الكتاب ولم تبينه السُّنَّة الصحيحة».
* *
* تعرضه للقراءات
والمناسبات وأسباب النزول:
ثم إن الألوسى يعرض لذكر القراءات ولكنه لا يتقيد
بالمتواتر منها، كما أنه يعنى بإظهار وجه المناسبات بين السور كما يعنى بذكر
المناسبات بين الآيات ويذكر أسباب النزول للآيات التى أنزلت على سبب، وهو كثير
الاستشهاد بأشعار العرب على ما يذهب إليه من المعانى اللغوية.
* *
*
الألوسى والتفسير الإشارى:
ولم يفت الألوسى أن يتكلم عن التفسير الإشارى بعد
أن يفرغ من الكلام عن كل ما يتعلق بظاهر الآيات، ومن هنا عَدَّ بعض العلماء
تفسيره هذا فى ضمن كتب
١ / ٢٥٦
التفسير
الإشارى، كما عَدَّ تفسير النيسابورى فى ضمنها كذلك، ولكنى رأيت أن أجعلهما فى
عِداد كتب التفسير بالرأى المحمود، نظرًا إلى أنه لم يكن مقصودهما الأهم هو
التفسير الإشارى، بل كان ذلك تابعًا - كما يبدو - لغيره من التفسير الظاهر، وهذه
- كما قلت من قبل - مسألة اعتبارية لا أكثر ولا أقل، وإنما أردت أن أُبيِّن جهتى
الاعتبار.
وجملة القول.. فروح المعانى للعلاَّمة الألوسى ليس إلا موسوعة
تفسيرية قيِّمة. جمعت جُلَّ ما قاله علماء التفسير الذين تقدَّموا عليه، مع النقد
الحر، والترجيح الذى يعتمد على قوة الذهن وصفاء القريحة، وهو وإن كان يستطرد إلى
نواح علمية مختلفة، مع توسع يكاد يخرجه عن مهمته كمفسِّر إلا أنه متزن فى كل ما
يتكلم فيه، مما يشهد له بغزارة العلم على اختلاف نواحيه، وشمول الإحاطة بكل ما
يتكلم فيه، فجزاه الله عن العلم وأهله خير الجزاء، إنه سميع مجيب.
وبعد ...
فهذه هى أهم كتب التفسير بالرأى الجائز، وهناك كتب أخرى تدخل فى هذا النوع من
التفسير، ولها أهميتها وقيمتها، كما أن لها شهرتها الواسعة بين أهل العلم الذين
يعنون بالتفسير، غير أنى أمسكت عنها هنا مخافة التطويل، ولعدم إمكان الحصول على
بعضها، وأحسب أن فى هذا القدر كفاية وغنى عن كتب أخرى كثيرة.
* * *
١
/ ٢٥٧
التفسير بالرأى المذموم.. أو تفسير الفرقة المبتدعة
* تمهيد فى بيان نشأة الفِرَق الإسلامية:
جرى التفسير منذ زمن
النبوة إلى زمن أتباع التابعين، على طريقة تكاد تكون واحدة، فخَلَف كل عصر يحمل
التفسير عمَّن سلف بطريق الرواية والسماع، وفى كل عصر من هذه العصور، تتجدد نظرات
تفسيرية، لم يكن لها وجود قبل ذلك، وهذا راجع إلى أن الناس كلما بعدوا عن عصر
النبوة ازدادت نواحى الغموض فى التفسير. فكان لا بد للتفسير من أن يتضخم كلما
مرَّت عليه السنون.
لم يكن هذا التضخم فى الحقيقة إلا محاولات عقلية، ونظرات
اجتهادية، قام بها أفراد ممن لهم عناية بهذه الناحية. غير أن هذه الناحية العقلية
فى التفسير لم تخرج عن قانون اللغة، ولم تتخط حدود الشريعة، بل ظلَّت محتفظة
بصبغتها العقلية والدينية، فلم تتجاوز دائرة الرأى المحمود إلى دائرة الرأى
المذموم الذى لا يتفق وقواعد الشرع.
ظلَّ الأمر على ذلك إلى أن قامت الفرق
المختلفة، وظهرت المذاهب الدينية المتنوعة، ووجِد من العلماء من يحاول نُصرة
مذهبه والدفاع عن عقيدته بكل وسيلة وحيلة. وكان القرآن هو هدفهم الأول الذى
يقصدون إليه جميعًا، كلٌ يبحث فى القرآن ليجد فيه ما يُقَوِّى رأيه ويُؤَيِّد
مذهبه، وكلٌ واجد ما يبحث عنه ولو بطريق إخضاع الآيات القرآنية لمذهبه، والميل
بها مع رأيه وهواه، وتأويل ما يصادمه منها تأويلًا يجعلها غير منافية لمذهبه ولا
متعارضة معه.
ومن هنا بدأ الخروج عن دائرة الرأى المحمود إلى دائرة الرأى
المذموم، واستفحل الأمر إلى حد جعل القوم يتسعون فى حماية عقائدهم، والترويج
لمذاهبهم، بما أخرجوه للناس من تفاسير حملوا فيها كلام الله على وفق أهوائهم،
ومقتضى نزعاتهم ونحلهم!!
ونحن نعلم بطريق الإجمال - وللتفصيل موضع غير هذا -
أن رسول الله ﷺ قال: «ستفترق أُمَّتى ثلاثًا وسبعين فِرْقة، كلها فى النار، إلا
واحدة، وهى ما أنا عليه وأصحابى» وقد حقق الله نبوءة رسوله، وصدَّق قوله فتصدعت
الوحدة الإسلامية إلى أحزاب مختلفة، وفرق متنافرة متناحرة، ولم يظهر هذا التفرق
بكل ما فيه من خطر على الإسلام والمسلمين إلا فى عصر الدولة العباسية، أما قبل
ذلك، فقد كان المسلمون يدًا واحدة، وكانت عقيدتهم واحدة كذلك، إذا استثنينا ما
كان بينهم من المنافقين الذين
١ / ٢٥٨
ينتسبون
إلى الإسلام ويضُمرون الكفر، وما كان بين علىّ ومعاوية من خلاف لم يكن له مثل هذا
الخطر. وإن كان النواة التى قام عليها التحزب، ونبت عنها التفرق والاختلاف.
بدأ
الخلاف بين المسلمين أول ما بدأ، فى أُمور اجتهادية لا تصل بأحد منهم إلى درجة
الابتداع والكفر، كاختلافهم عن قول النبى ﷺ: «إئتونى بقرطاس أكتب لكم كتابًا لا
تضلوا بعدى» حتى قال عمر: إن النبى قد غيبه الوجع، حسبنا كتاب الله، وكثر اللغط
فى ذلك حتى قال النبى ﷺ: «قوموا عنى، لا ينبغى عندى التنازع».
وكاختلافهم فى
موضع دفنه ﷺ أيُدفن بمكة، لأنها مولده وبها قِبْلته ومشاعر الحج؟ أم يُدفن
بالمدينة، لأنها موضع هجرته، وموطن أهل نُصرته؟ أم يُدفن ببيت المقدس، لأن بها
تربة الأنبياء ومشاهدهم؟
وكالخلاف الذى وقع بينهم فى سقيفة بنى ساعدة فى
تولية مَن يخلف رسول الله ﷺ بعد وفاته، وغير ذلك من الخلافات التى وقعت بينهم،
ولم يكن لها خطرها الذى ينجم عنه التفرق ووقوع الفتنة والبغضاء بين المسلمين.
ظل
الأمر على ذلك إلى زمن عثمان رضى الله عنه، وكان ما كان من خروج بعض المسلمين
عليه، ومحاصرتهم لداره، وقتلهم له، فعرى المسلمين من ذلك الوقت رجة فكرية عنيفة،
طاحت بالروية، وذهبت بكثير من الأفكار مذاهب شتَّى، فقام قوم يطالبون بدم عثمان،
ثم نشبت الحرب بين علىّ ومعاوية رضى الله عنهما من أجل الخلافة، وكان لكل منهم
شيعة وأنصار يشدون أزره، ويقوون عزمه، وتبع ذلك انشقاق جماعة علىّ كرَّم الله
وجهه، بعد مسألة التحكيم فى الخلاف الذى بينه وبين معاوية، فى السنة السابعة
والثلاثين من الهجرة، فظهرت من ذلك الوقت فرقة الشيعة، وفرقة الخوراج، وفرقة
المرجئة، وفرقة أخرى تنحاز لمعاوية، وتؤيد الأمويين على وجه العموم.
ثم أخذ
هذا الخلاف والتفرق، يتدرج شيئًا فشيئًا، ويترقى حينًا بعد حين، إلى أن ظهر فى
أيام المتأخرين من الصحابة خلاف القدرية، وكان أول مَن جهر بهذا المذهب ووضع
الحجر الأساسى لقيام هذه الفِرْقة، معبد الجهنى الذى أخذ عنه مذهبه غيلان الدمشقى
ومَن شاكله، وكان ينكر عليهم مذهبهم هذا مَن بقى من الصحابة كعبد الله بن عمر،
وابن عباس، وأنس، وأبى هريرة، وغيرهم.
ثم ظهر بعد هؤلاء - وفى زمن الحسن
البصرى بالبصرة - خلاف واصل ابن عطاء
١ / ٢٥٩
فى
القدر، وفى القول بالمنزلة بين المنزلتين، ومجادلته للحسن البصرى فى ذلك،
واعتزاله مجلسه، ومن ذلك الوقت ظهرت فرقة المعتزلة.
ثم كان من أصحاب
الديانات المختلفة كاليهودية، والنصرانية، والمجوسية، والصابئة.. إلى آخر مَن
تزيا بزى الإسلام وأبطن الكيد له، حنينًا إلى مِلَّتهم الأولى، كعبد الله بن سبأ
اليهودى، فأوضعوا خلال المسلمين يبغونهم الفتنة، ويرجون لهم الفُرْقة، فأفلحوا
فيما قصدوا إليه من تحزب المسلمين وتفرقهم.
وفى خلال ذلك غلا بعض الطوائف
التى ولدها الخلاف، فابتدعوا أقوالًا خرجت بهم عن دائرة الإسلام كالقائلين
بالحلول والتناسخ من السبئية، وكالباطنية الذين لا يُعدون من فرق الإسلام، وإنما
هم فى الحقيقة على دين المجوس.
لم يزل الخلاف يتشعب، والآراء تتفرق، حتى
تفرَّق أهل الإسلام وأرباب المقالات، إلى ثلاث وسبعين فِرقة كما قال صاحب
المواقف، وكما عَدَّهم وبينَّهم الإمام الكبير، أبو المظفر الإسفرايينى، فى كتابه
«التبصير فى الدين»، وليس هذا موضع ذكرها واستقصائها.
والذى اشتهر من هذه
الفِرَق خمس: أهل السُّنَّة، والمعتزلة، والمرجئة، والشيعة، والخوارج، وما وراء
ذلك من الفرق كالجبرية، والباطنية، والمشبهة، وغيرها، فمعظمها مشتق من هذه
الفِرَق الخمس الرئيسية.
نحن نعلم هذا التفرق الذى أصاب المسلمين فى وحدتهم
الدينية والسياسية، ونعلم أيضًا، أن الناس كانوا فى عصر النبى ﷺ وبعده يقرأون
القرآن أو يسمعونه فيغنون بتفهم روحه، فإن عنى علماؤهم بشئ وراء ذلك، فما يوضح
الآية من سبب للنزول، واستشهاد بأبيات من أشعار العرب تُفسِّر لفظًا عربيًا، أو
أسلوبًا غامضًا. ولكنَّا لا نعلم فى هذا العصر الأول، انحياز الصحابة إلى مذاهب
دينية وآراء فى الملل والنحل، فلما وقع هذا التفرق الذى أشرنا إليه وأجملنا مبدأه
وتطوره، رأينا كل فِرْقة من هذه الفِرَق تنظر إلى القرآن من خلال عقيدتها،
وتُفسِّره بما يتلاءم مع مذهبها، فالمعتزلى يطبق القرآن على مذهبه فى الاختيار،
والصفات، والتحسين والتقبيح العقليين.. ويُؤَوِّل ما لا يتفق ومذهبه، وكذلك يفعل
الشيعى، وكذلك يفعل كل صاحب مذهب حتى يسلم له مذهبه.
غير أننا لم نحط علمًا
بكل هذه النظرات المذهبية فى القرآن، ولم يقع تحت أيدينا من كتب التفسير المذهبية
إلا القليل النادر بالنسبة لما حُرمت منه المكتبة الإسلامية، على أن هذا القليل
ليس إلا لبعض الفِرق دون بعض، وهناك تفسيرات وتأويلات
١ /
٢٦٠
لبعض من آيات القرآن لبعض من الفرق، ولكنها متفرقة مشتتة
بين صحائف كتب التفسير خاصة وكتب العلم عامة. وهناك فِرق أخرى لم نظفر لها بتفسير
كامل ولا بشئ من التفسير، ولهذا أرى أن أتكلم عن التفسير المذهبى لا لكل الفِرَق،
بل للفِرق التى ألَّفت وخلَّفت لنا كتبًا فى التفسير، ووقعت تحت أيدينا، فاستطعنا
بعد القراءة فيها والنظر إليها أن نحكم عليها بما يتناسب مع المنهج الذى انتهجه
فيها مؤلفوها، والطريق الذى سلكوه فى شرحهم لكتاب الله تعالى.
وسبق لنا أن
تكلمنا عن التفسير بالرأى الجائز وأهم ما أُلَّف فيه من كتب، وذلك هو تفسير أهل
السُّنَّة والجماعة، وتلك هى أشهر تفاسيرهم التى خلَّفوها للناس، فلا نعود لذلك،
بل نشرع فى الكلام عن موقف غيرهم من الفِرَق، بالنسبة لكتاب الله تعالى، وعن أهم
ما خلَّفوه لنا من كتب فى التفسير، والله يتولانا ويُسدِّد خُطانا، إنه سميع
مجيب.
* * *
١ / ٢٦١
المعتزلة.. وموقفهم
من تفسير القرآن الكريم
* كلمة إجمالية عن المعتزلة وأصولهم المذهبية - نشأة
المعتزلة:
نشأت هذه الفِرْقة فى العصر الأموى، ولكنها شغلت الفكر الإسلامى
فى العصر العباسى ردحًا طويلًا من الزمان. وأصل هذه الفِرْقة هو واصل بن عطاء
الملَّقب بالغزَّال المولود سنة ٨٠ هـ (ثمانين)، والمتوفى سنة ١٣١ هـ (إحدى
وثلاثين ومائة)، فى خلافة هشام بن عبد الملك، وذلك أنه دخل على الحسن البصرى رجل
فقال: يا إمام الدين؛ ظهر فى زماننا جماعة يُكَفِّرون صاحب الكبيرة - يريد وعيدية
الخوارج - وجماعة أخرى يُرجِئون الكبائر، ويقولون: لا تضر مع الإيمان معصية، كما
لا تنفع مع الكفر طاعة، فكيف لنا أن نعتقد فى ذلك؟ فتفكَّر الحسن، وقبل أن يجيب
قال واصل: أنا لا أقول إن صاحب الكبيرة مؤمن مطلق، ولا كافر مطلق، ثم قام إلى
أسطوانة من أسطوانات المسجد، وأخذ يقرر على جماعة من أصحاب الحسن ما أجاب به، من
أن مرتكب الكبيرة ليس بمؤمن ولا كافر، ويثبت له المنزلة بين المنزلتين، قائلًا:
إن المؤمن اسم مدح، والفاسق لا يستحق المدح فلا يكون مؤمنًا، وليس بكافر أيضًا،
لإقراره بالشهادتين، ولوجود سائر أعمال الخير فيه، فإذا مات بلا توبة خُلِّدَ فى
النار، إذ ليس فى الآخرة إلا فريقان، فريق من الجنة، وفريق فى السعير، لكن
يُخَفَفُ عنه، وتكون دركته فوق دركات الكفار، فقال الحسن: اعتزل عنا واصل، فلذلك
سُمى هو وأصحابه معتزلة.
ويُلَقَّب المعتزلة بالقدرية تارة، وبالمُعَطِّلة
تارة أخرى، أما تلقيبهم بالقدرية، فلأنهم يسندون أفعال العباد إلى قدرتهم،
وينكرون القَدَر فيها. وأما تلقيبهم بالمُعَطِّلة فلأنهم يقولون بنفى صفات
المعانى فيقولون: الله عالِم بذاته، قادِر بذاته.. وهكذا.
فأنت ترى مما
تقدم، أن الاعتزال نشأ فى البصرة، ولكن سرعان ما انتشر فى العراق، واعتنقه من
خلفاء بنى أمية يزيد بن الوليد، ومروان بن محمد، وفى العصر العباسى، استفحل أمر
المعتزلة، واحتلت أفكارهم وعقائدهم من عقول الناس وجدل العلماء مكانًا عظيمًا،
وما لبث أن تكوَّنت للاعتزال مدرستان كبيرتان: مدرسة البصرة،
١
/ ٢٦٢
وعلى رأسها واصل بن عطاء. ومدرسة بغداد، وعلى رأسها بشر
بن المعتمر، وكان بين معتزلى البصرة ومعتزلى بغداد جدال وخلاف فى كثير من
المسائل.
ولا أطيل بذكر ما كان بين المدرستين من مسائل خلافية، فإن هذه
العُجَالة لا تتحمل الإطالة والتفصيل، ويكفى أن أُجمل القول فى ذكر أُصول
المعتزلة، وأن أشير إلى تعدد فرقهم، ومَن أراد التفصيل فليرجع إلى الكتب التى
أُلِّفت فى تاريخ الفِرَق، وهى كثيرة.
* *
* أصول المعتزلة:
أما
أصول المعتزلة فهى خمسة: التوحيد، والعدل، والوعد والوعيد، والمنزلة بين
المنزلتين، والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر. وهذه الأصول الخمسة يجمع الكل
عليها، ومَن لم يقل بها جميعًا فليس معتزليًا بالمعنى الصحيح. قال أبو الحسن
الخياط أحد زعماء المعتزلة فى القرن الثالث الهجرى: «وليس يستحق أحد منهم اسم
الاعتزال حتى يجمع القول بالأصول الخمسة: التوحيد، والعدل، والوعد، والوعيد،
والمنزلة بين المنزلتين، والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، فإذا كملت هذه الخصال
فهو معتزلى».
أما التوحيد: فهو لُبِّ مذهبهم، ورأس نحلتهم، وقد بنوا على هذا
الأصل: استحالة رؤية الله ﷾ يوم القيامة، وأن الصفات ليست شيئًا غير الذات، وأن
القرآن مخلوق لله تعالى.
وأما العدل: فقد بنوا عليه: أن الله تعالى لم يشأ
جميع الكائنات، ولا خلقها ولا هو قادر عليها، بل عندهم أن أفعال العباد لم يخلقها
الله تعالى، لا خيرها ولا شرها، ولم يرد إلا ما أمر به شرعًا، وما سوى ذلك فإنه
يكون بغير مشيئته.
وأما الوعد والوعيد: فمضمونه، أن الله يجازى مَن أحسن
بالإحسان، ومَن أساء بالسوء، لا يغفر لمرتكب الكبيرة ما لم يتب، ولا يقبل فى أهل
الكبائر شفاعة، ولا يُخرج أحدًا منهم من النار. وأوضح من هذا أنهم يقولون: إنه
يجب على الله أن يُثيب المطيع ويُعاقب مرتكب الكبيرة، فصاحب الكبيرة إذا مات ولم
يتب لا يجوز أن يعفو الله عنه، لأنه أوعد بالعقاب على الكبائر وأخبر به، فلو لم
يعاقب لزم الخلف فى وعيده. وهم يعنون بذلك أن الثواب على الطاعات، والعقاب على
المعاصى قانون حتمى التزم الله به، كما قالوا: إن مرتكب الكبيرة مُخَلَّدٌ فى
النار ولو صَدَّق بوحدانية الله وآمن برسله، لقوله تعالى فى الآية [٨١] من سورة
البقرة: ﴿بلى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خطيائته فأولائك أَصْحَابُ
النار هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ ..
١ / ٢٦٣
وأما
المنزلة بين المنزلتين: فقد سبق أن بيَّناها فى مناظرة واصل بن عطاء للحسن
البصرى.
وأما الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، فهو مبدأ مقرر عندهم، وواجب
على المسلمين لنشر الدعوة الإسلامية، وهداية الضالين وإرشاد الغاوين، ولكنهم
بالغوا فى هذا الأصل، وخالفوا ما عليه الجمهور، فقالوا: إن الأمر بالمعروف والنهى
عن المنكر يكون بالقلب إن كفى، وباللسان إن لم يكف القلب، وباليد إن لم يغنيا،
وبالسيف إن لم تكف اليد، لقوله تعالى فى الآية [٩] من سورة الحجرات: ﴿وَإِن
طَآئِفَتَانِ مِنَ المؤمنين اقتتلوا فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ
إِحْدَاهُمَا على الأخرى فَقَاتِلُواْ التي تَبْغِي حتى تفياء إلى أَمْرِ الله﴾
.. وهم فى ذلك لا يُفرِّقون بين صاحب السلطان وغيره، كما أنهم لم يُفرِّقوا بين
الأصول الدينية المُجْمعُ عليها وعقائدهم الاعتزالية.
وهناك مبادئ أخرى
للمعتزلة، لا يشتركون فيها، بل هى مبادئ خاصة لكل فِرْقة من فِرقهم المتعددة،
التى بلغت العشرين أو تزيد، ولا أطيل بذكر هذه الفِرَق وبيان خصائص كل فِرْقة،
وأحيلك على المواقف، أو التبصير فى الدين، أو الفَرْق بين الفِرَق للبغدادى، أو
المِلَل والنِحل للشهرستانى، أو الفِصَل لابن حزم، لتتعرف منها هذه الفِرَق
وخصائصها، إذ ليس هذا موضع التفصيل.
وبعد.. فقد عرفنا نشأة المعتزلة، وعرفنا
أصولهم التى أجمعوا عليها، وما علينا بعد ذلك إلا أن نتكلم عن موقفهم الذى وقفوه
من تفسير القرآن، ثم بعد ذلك نتكلم عن أهم من عرفناه من مفسِّرى المعتزلة. وعن
كتبهم التى ألَّفُوها فى التفسير، ونسأل الله التوفيق والسداد.
* *
موقف
المعتزلة من تفسير القرآن الكريم
* إقامة تفسيرهم على أصولهم الخمسة:
أقام
المعتزلة مذهبهم على الأصول الخمسة التى ذكرناها آنفًا، ومن المعلوم أن هذه
الأصول لا تتفق ومذهب أهل السُّنَّة والجماعة، الذين يعتبرون أهم خصومهم، لهذا
كان من الضرورى لهذه الفِرْقة - فِرْقة المعتزلة - فى سبيل مكافحة خصومها، أن
تُقيم
١ / ٢٦٤
مذهبها وتُدعِّم تعاليمها على
أُسس دينية من القرآن، وكان لا بد لها أيضًا أن ترد الحجج القرآنية لهؤلاء
الخصوم، وتضعف من قوتها، وسبيل ذلك كله هو النظر إلى القرآن أولًا من خلال
عقيدتهم، ثم إخضاعهم عبارات القرآن لآرائهم التى يقولون بها، وتفسيرهم لها
تفسيرًا يتفق مع نحلتهم وعقيدتهم.
ولا شك أن مثل هذا التفسير الذى يخضع
للعقيدة، يحتاج إلى مهارة كبيرة، واعتماد على العقل أكثر من الاعتماد على النقل،
حتى يستطيع المفسِّر الذى هذا حاله، أن يلوى العبارة إلى جانبه، ويصرف ما يعارضه
عن معارضته له وتصادمه معه.
والذى يقرأ تفسير المعتزلة، يجد أنهم بنوا
تفسيرهم على أُسسهم من التنزيه المطلق، والعدل وحرية الإرادة، وفعل الأصلح.. ونحو
ذلك، ووضعوا أسسًا للآيات التى ظاهرها التعارض فَحَكَّمُوا العقل، ليكون الفيصل
بين المتشابهات وقد كان مَن قبلهم يكتفون بمجرد النقل عن الصحابة أو التابعين،
فإذا جاءوا المتشابهات سكتوا وفوَّضوا العلم لله.
* *
* إنكار المعتزلة
لما يعارضهم من الأحاديث الصحيحة:
ثم إن هذا السلطان العقلى المطلق، قد
جَرَّ المعتزلة إلى إنكار ما صح من الأحاديث التى تناقض أسسهم وقواعدهم المذهبية،
كما أنه نقل التفسير الذى كان يعتمد أولًا وقبل كل شئ على الشعور الحى، والإحساس
الدقيق، والبساطة فى الفهم وعدم التكلف والتعمق، إلى مجموعة من القضايا العقلية،
والبراهين المنطقية، مما يشهد للمعتزلة - رغم اعتزالهم - بقوة العقل وجودة
التفكير.
ومع أن هذا السلطان العقلى المطلق، كان له الأثر الأكبر فى تفسير
المعتزلة للقرآن، حتى اضطرهم فى بعض الأحيان إلى رد ما يعارضهم من الأحاديث
الصحيحة، فإنَّا لا نستطيع أن نقول أن نقول إن المعتزلة كانوا يقصدون الخروج على
الحديث أو عدم الاعتراف بالتفسير المأثور، وذلك لأن حالهم بإزاء التفسير المأثور
وتصديقهم له، يظهر بأجلى وضوح من حكم النظام على استرسال المفسِّرين من
معاصريه.
وكان «النظام» معتبرًا فى مدرسة المعتزلة من الرؤوس الحرة الواسعة
الحرية وقد ذكر لنا تلميذه الجاحظ قوله الذى قاله فى شأن هؤلاء المفسِّرين، وهذا
نصه: قال الجاحظ: "كان أبو إسحاق يقول: لا تسترسلوا إلى كثير من المفسِّرين وإن
نصبوا أنفسهم للعامة وأجابوا فى كل مسألة، فإن كثيرًا منهم يقول بغير رواية على
غير أساس وكلما كان المفسِّر أغرب عندهم كان أحب إليهم، وليكن عندكم عِكرمة،
والكلبى، والسدىّ، والضحاك، ومقاتل بن سليمان، وأبو بكر الأصم فى سبيلٍ واحدة،
وكيف أثق بنفسيرهم وأسكن إلى صوابهم وقد قالوا فى قوله ﷿: ﴿وَأَنَّ المساجد
لِلَّهِ﴾:
١ / ٢٦٥
[الجن: ١٨] إن الله ﷿، لم
يعن بهذا الكلام مساجدنا التى نصلى فيها، بل إنما عنى الجباه، وكل ما سجد الناس
عليه من يد وجبهة وأنف وثفنة - وقالوا فى قوله تعالى: ﴿أَفَلاَ يَنظُرُونَ إِلَى
الإبل كَيْفَ خُلِقَتْ﴾: [الغاشية: ١٧] إنه ليس يعنى الجمال والنوق، وإنما يعنى
السحاب - وإذا سُئلوا عن قوله: ﴿وَطَلْحٍ مَّنضُودٍ﴾ [الواقعة: ٢٩] قالوا: الطلح
هو الموز - وجعلوا الدليل على أن شهر رمضان قد كان فرضًا على جميع الأُمم وأن
الناس غيَّروه قوله تعالى: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصيام كَمَا كُتِبَ عَلَى الذين
مِن قَبْلِكُمْ﴾ [البقرة: ١٨٣] .. وقالوا فى قوله تعالى: ﴿قَالَ رَبِّ لِمَ
حشرتني أعمى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا﴾ [طه: ١٢٥] .. قالوا: إنه حشره بلا حُجة -
وقالوا فى قوله تعالى: ﴿وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ﴾: [المطففين: ١] الويل واد فى
جهنم، ثم قعدوا يصفون ذلك الوادى. ومعنى الويل فى كلام العرب معروف، وكيف كان فى
الجاهلية قبل الإسلام، وهو من أشهر كلامهم - وسئلوا عن قوله تعالى: ﴿قُلْ أَعُوذُ
بِرَبِّ الفلق﴾ [الفلق: ١] .. قالوا: الفلق واد فى جهنم. ثم قعدوا يصفونه، وقال
آخرون: الفلق: المقطرة بلغة اليمن.. إلى آخر ما ذكره من تفسيراتهم الغريبة».
هذا..
وإن الزمخشرى - وهو أهم مَن عرفنا من مفسِّرى المعتزلة - نجده كثيرًا ما يذكر ما
جاء عن الرسول ﷺ أو عن السَلف من التفسير ويعتمد على ما يذكر من ذلك فى
تفسيره.
فمثلًا عند تفسيره لقوله تعالى فى الآيتين [٤١-٤٢] من سورة الأحزاب:
﴿ياأيها الذين آمَنُواْ اذكروا الله ذِكْرًا كَثِيرًا * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً
وَأَصِيلًا﴾ .. يقول ما نصه: ﴿اذكروا الله﴾ اثنوا عليه بضروب الثناء، من التقديس،
والتحميد، والتهليل، والتكبير، وما هو أهله، وأكثروا ذلك ﴿بُكْرَةً وَأَصِيلًا﴾
أى كافة الأوقات، قال رسول الله ﷺ: «ذكر الله على فم كل مسلم» - وروُى: «فى قلب
كل مسلم» وعن قتادة: «قولوا سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله
أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم» وعن مجاهد: «هذه كلمات يقولها
الطاهر والجُنُب والغفلان» أعنى: اذكروا وسبِّحوا موجهان إلى البُكرة والأصيل،
كقولك: صُمْ وصَلِّ يوم الجمعة".. إلخ.
* *
* ادعاؤهم أن كل محاولاتهم
فى التفسير مرادة لله:
ثم إن المعتزلة - بناء على رأيهم فى الاجتهاد، من أن
الحكم ما أدَّى إليه اجتهاد كل مجتهد، فإذا اجتهدوا فى حادثة فالحكم عند الله
تعالى فى حق كل واحد
١ / ٢٦٦
مجتهده - رفضوا
أن يكون للآية التى تحتمل أوجهًا تفسيرًا واحدًا لا خطأ فيه، وحكموا على جميع
محاولاتهم التى حاولوها فى حل المسائل الموجودة فى القرآن، بأنها مرادة لله
تعالى، وغاية ما قطعوا به هو عدم إمكان التفسير المخالف لمبادئهم وآرائهم.
وبدهى
أن هذا الذى ذهب إليه المعتزلة، يخالف مذهب أهل السُّنَّة من أن لكل آية من
القرآن معنى واحدًا مرادًا لله تعالى، وما عداه من المعانى المحتملة، فهى محاولات
واجتهادات، يُراد منها الوصول إلى مُراد الله بدون قطع، غاية الأمر أن المفسِّر
يقول باجتهاده، والمجتهد قد يُخطئ وقد يُصيب، وهو مأجور فى الحالتين وإن كان
الأجر على تفاوت.
* *
* المبدأ اللغوى فى التفسير وأهميته لدى
المعتزلة:
كذلك نجد المعتزلة قد حرصوا كل الحرص على الطريقة اللغوية التى
تعتبر عندهم المبدأ الأعلى لتفسير القرآن، وهذا المبدأ اللغوى، يظهر أثره واضحًا
فى تفسيرهم للعبارات القرآنية التى لا يليق ظاهرها عندهم بمقام الألوهية، أو
العبارات التى تحتوى على التشبه، أو العبارات التى تصادم بعض أصولهم، فنراهم
يحاولون أولًا إبطال المعنى الذى يرونه مشتبهًا فى اللفظ القرآنى، ثم يُثبتون
لهذا اللفظ معنى موجودًا فى اللغة يُزيل هذا الاشتباه ويتفق مع مذهبهم، ويستشهدون
على ما يذهبون إليه من المعانى التى يحملون ألفاظ القرآن عليهم بأدلة من اللغة
والشعر العربى القديم.
فمثلًا الآيات التى تدل على رؤية الله تعالى كقوله
سبحانه فى الآيتين [٢٢، ٢٣] من سورة القيامة: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ *
إلى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ﴾ . وقوله تعالى فى الآية [٢٣] من سورة المطففين: ﴿عَلَى
الأرآئك يَنظُرُونَ﴾ نجد المعتزلة ينظرون إليها بعين غير العين التى ينظر بها أهل
السُّنَّة، ويحاولون بكل ما يستطيعون أن يُطَبِّقوا مبدأهم اللغوى، حتى يتخلصوا
من الورطة التى أوقعهم فيها ظاهر اللفظ الكريم، فإذا بهم يقولون: إن النظر إلى
الله معناه الرجاء والتوقع للنعمة والكرامة، واستدلوا على ذلك بأن النظر إلى الشئ
فى العربية ليس مختصًا بالرؤية المادية، واستشهدوا على ذلك بقول الشاعر:
وإذ
نظرتُ إليك من ملك ... والبحر دونك زدتنى نعمًا
ومثلًا عندما يقرأ المعتزلى
قوله تعالى فى الآية [٣١] من سورة الفرقان: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ
نَبِيٍّ عَدُوًّا مِّنَ المجرمين﴾ يجد أن مذهبه الذى يقول بوجوب الصلاح
١
/ ٢٦٧
والأصلح على الله لا يتفق وهذا الظاهر من معنى الجعل،
ولكن سرعان ما يتخلص من هذه الضائقة العالِم المعتزلى الكبير أبو علىّ الجبائى
فيفسِّر: «جعل» بمعنى «بَيَّن» لا بمعنى خلق، ويستدل على ذلك بقول الشاعر:
جعلنا
لهم نهج الطريق فأصبحوا ... على ثبت من أمرهم حين يمموا
فيكون المعنى على
هذا: أن الله سبحانه بَيَّنَ لكل نبى عدوه حتى يأخذ حذره منه.
* *
*تصرف
المعتزلة فى القراءات المتواترة المنافية لمذهبهم:
وأحيانًا يحاول المعتزلة
تحويل النص القرآنى من أجل عقيدتهم إلى ما لا يتفق وما تواتر من القراءات عن رسول
الله ﷺ.
فمثلًا ينظر بعض المعتزلة إلى قوله تعالى فى الآية [١٦٤] من سورة
النساء: ﴿وَكَلَّمَ الله موسى تَكْلِيمًا﴾ .. فيرى أن مذهبه لا يتفق وهذا اللفظ
القرآنى حيث جاء المصدر مؤكدًا للفعل، رافعًا لاحتمال المجاز، فيبادر إلى تحويل
هذا النص إلى ما يتفق ومذهبه فيقرؤه هكذا: «وكلَّم الله موسى تكليمًا» بنصب لفظ
الجلالة على أنه مفعول، ورفع موسى على أنه فاعل. وبعض المعتزلة يُبقى اللفظ
القرآنى على وضعه المتواتر، ولكنه يحمله على معنى بعيد حتى لا يبقى مصادمًا
لمذهبه فيقول: إن «كلم» من الكَلْم بمعنى الجرح، فالمعنى: وجرح الله موسى بأظفار
المحن ومخالب الفتن، وهذا ليفر من ظاهر النظم الذى يصادم عقيدته ويخالف هواه.
هذا
الذى ذكرناه، تعرَّض له الزمخشرى فى كشافه، فرواه عمن قال به عندما تكلم عن هذه
الآية فقال: وعن إبراهيم ويحيى بن وثاب أنهما قرءا «وكلم اللهَ» بالنصب، ثم قال
منددًا بالرأى الثانى: «ومن بدع التفاسير أنه من الكَلْم، وأن معناه: وجرح الله
موسى بأظفار المحن ومخالب الفتن».
ومن الأمثلة التى يظهر فيها هذا التصرف من
أجل أغراضهم المذهبية، قوله تعالى فى الآية [٨٨] من سورة البقرة: ﴿وَقَالُواْ
قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَل لَّعَنَهُمُ الله بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَّا
يُؤْمِنُونَ﴾ .. فبعض المعتزلة أحس من هذه الآية أنها لا تتفق ومذهبه، لأنها
تُشعر بأن الله خلق قلوبهم على طبيعة وحالة لا تقبل معها الإسلام، فيكون هو الذى
منعهم عن الهدى وألجأهم إلى الضلال فقرأها هذا المعتزلى: «غُلُفٌ».. جمع غلاف
بمعنى الوعاء، أى قلوبنا أوعية حاوية للعلم، فهم مستغنون بما عندهم عما جاءهم به
محمد ﵊، وهذا الوجه يتمشى مع القراءة المعروفة: ﴿غُلْفٌ﴾ على أنه مخفف
١
/ ٢٦٨
«غلف»، وبطبيعة الحال يكون هذا القول من اليهود افتخارًا
منهم بأن قلوبهم أوعية للعلم، فلا حاجة لهم بما جاء به محمد ﵊، وليس اعتذارًا
منهم وتبريرًا لكفرهم بأن الله خلق قلوبهم فى أكنة مما يدعوهم إليه، ومغشاة
بأغطية تمنع وصول دعوة الرسول إليها.
وهذا الذى ذكرنا من قراءة «غلف» بدون
تخفيف تعرض لذكره الزمخشرى فقال: «وقيل غُلُف: تخفيف غُلْف، جمع غلاف أى قلوبنا
أوعية للعلم فنحن مستغنون بما عندنا عن غيره، وروُى عن أبى عمرو:»قلوبنا غُلُف«..
بضمتين».
كما ذكره أيضًا الإمام فخر الدين الرازى فى تفسيره لهذه الآية
فقال: «... وثانيها - أى ثانى الأوجه - روى الأصم عن بعضهم أن قلوبهم غُلُفْ
بالعلم، ومملوؤة بالحكمة، فلا حاجة معها بهم إلى شرع محمد ﵇».
وهكذا نجد
شيوخ المعتزلة، يحاولون التوفيق بين مذهبهم والقرآن، بكل ما يستطيعون من وسائل
التوفيق، تارة بتطبيق مبدئهم اللغوى على كثير من آيات القرآن الكريم، حتى يتمشى
النص القرآنى مع قواعد مذهبهم أو يتلخصوا من معارضته ومصادمته لهم على الأقل،
وتارة بتحويل النص القرآنى والتصرف فيه، بما يجعله فى جانبهم لا فى جانب
خصومهم.
* *
* نقد ابن قتيبة لهذا المسلك الاعتزالى فى التفسير:
غير
أن هذا المسلك قد أغضب العلاَّمة ابن قتيبة وأهاجه عليهم فانتقدهم انتقاضًا مرًا
لاذعًا فى كتابه «تأويل مختلف الحديث»، وإليك ما قاله بنصه لتقف على ما كان بين
الفريقين - فريق أهل السُّنَّة وفريق المعتزلة - من جدال ومحاورة، وليتبين لك
مقدار الميل بالعبارات القرآنية إلى ناحية المذهب والعقيدة من كبار شيوخ المذهب
الاعتزالى.
قال أبو محمد: "وفسَّروا - أى المعتزلة - القرآن بأعجب تفسير،
يريدون أن يردوه إلى مذهبهم، ويحملوا التأويل على نحلهم، فقال فريق منهم فى قوله
تعالى: ﴿وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السماوات والأرض﴾ [البقرة: ٢٥٥] أى علمه، وجاءوا على
ذلك بشاهد لا يُعرف، وهذا قول الشاعر:
ولا بكرْسئُ علم الله مخلوق
كأنه
عندهم: ولا يعلم علم الله مخلوق. والكرسى غير مهموز، وبكرسئ مهموز، يستوحشون أن
يجعلوا لله تعالى كرسيًا أو سريرًا، ويجعلون العرش شيئًا آخر، والعرب لا تعرف من
العرش إلا السرير وما عرش من السقف والآبار، يقول الله
١ /
٢٦٩
تعالى: ﴿وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى العرش﴾ .. أى السرير،
وأمية بن أبى الصلت يقول:
مَجِّدوا الله، وهو للمجد أهل ... ربنا فى السماء
أمسى كبيرا
بالبناء الأعلى الذى سبق النا ... س وسوَّى فوق السماء سريرا
شَرْ
جَعًا ما يناله العيـ ... ـن ترى دونه الملائك صورا
وقال فريق منهم فى قوله
تعالى: ﴿وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا﴾ [يوسف: ١٠٠]: إنها هَمَّتْ
بالفاحشة، وهمَّ هو بالفرار منها أو الضرب لها، والله تعالى يقول: ﴿لولا أَن
رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ﴾ [يوسف: ٢٤] أفتراه أراد الفرار منها أو الضرب لها،
فلما رأى البرهان أقام عندها؟ وليس يجوز فى اللغة أن تقول: هممتُ بفلان وهَمَّ
بى، وأنت تريد اختلاف الهمَّين حتى تكون أنت تهم بإهانته ويهم هو بإكرامك، وإنما
يجوز هذا الكلام إذا اتفق الهمَّان.
وقال فريق منهم فى قوله تعالى:
﴿وعصىءَادَمُ رَبَّهُ فغوى﴾ [طه: ١٢١]: إنه أتخم من أكل الشجرة، فذهبوا إلى قول
العرب: غَوِىَ الفصيل يَغْوىَ غَوىً، إذا أكثر من شرب اللبن حتى يبشم. وذلك غَوَى
يَغْوِى غَيًّا، وهو من البشم: غَوِىَ يَغْوَى غَوىً.
وقال فريق منهم فى
قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الجن والإنس﴾
[الأعراف: ١٧٩]: أى ألقينا فيها، يذهب إلى قول الناس: ذرته الريح. ولا يجوز أن
يكون ذرأنا من ذرته الريح، لأن ذرأنا مهموز، وذرته الريح تذروه غير مهموز. ولا
يجوز أيضًا أن نجعله من أذرته الدابة عن ظهرها أى ألقته، لأن ذلك من «ذرأت» تقدير
فعلت بالهمز، وهذا من «أذريت» تقدير أفعلت بلا همز، واحتج بقول المثقب العبدى:
تقول
إذا ذرأت لها وضينى ... أهذا دينه أبدًا ودينى؟
وهذا تصحيف، لأنه قال: تقول
إذا درأت، أى دفعت، بالدال غير معجمة.
وقالوا فى قوله ﷿: ﴿وَذَا النون إِذ
ذَّهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ﴾ [الأنبياء: ٨٧]: إنه
ذهب مغاضبًا لقومه، استيحاشًا من أن يجعلوه مغاضبًا لربه مع عصمة الله، فجعلوه
مغاضبًا لقومه حين آمنوا، ففروا إلى مثل ما استقبحوا، وكيف يجوز أن يغضب نبى الله
ﷺ على قومه حين آمنوا وبذلك بُعِثَ وبه أُمرِ؟، وما الفرق بينه وبين عدو الله إن
كان يغضب من إيمان مائة ألف أو يزيدون ولم يخرج مغاضبًا لربه
١
/ ٢٧٠
ولا لقومه؟ - وهذا مبين فى كتابى المؤلف فى مشكل القرآن،
ولم يكن قصدى فى هذا الكتاب الإخبار عن هذه الحروف وأشباهها، وإنما كان القصد به
الإخبار عن جهلهم وجرأتهم على الله بصرف الكتاب إلى ما يستحسنون، وحمل التأويل
على ما ينتحلون.
وقالوا فى قوله تعالى: ﴿واتخذ الله إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا﴾
[النساء: ١٢٥]: أى فقيرًا إلى رحمته، وجعلوه من الخَلة بفتح الخاء، استيحاشًا أن
يكون الله تعالى خليلًا لأحد من خلقه، واحتجوا بقول زهير:
وإن أتاه خليل يوم
مسغبة ... يقول لا غائب مالى ولا حرم
أى إن أتاه فقير، فأية فضيلة فى هذا
القول لإبراهيم ﷺ؟ أما تعلمون أن الناس جميعًا فقراء إلى الله تعالى، وهل إبراهيم
خليل الله إلا كما قيل، وموسى كليم الله، وعيسى روح الله؟
وقالوا فى قوله
تعالى: ﴿وَقَالَتِ اليهود يَدُ الله مَغْلُولَةٌ﴾ [المائدة: ٦٤]: إن اليد ههنا
النعمة، لقول العرب: لى عند فلان يد، أى نعمة ومعروف. وليس يجوز أن تكون اليد
ههنا النعمة، لأنه قال: ﴿غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ﴾ [المائدة: ٦٤] معارضة عما قالوه
فيها، ثم قال: ﴿بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ﴾ [المائدة: ٦٤] ... ولا يجوز أن يكون
أراد غُلَّت نعمهم بل نعمتاه مبسوطتان، لأن النعم لا تُغَّل، ولأن المعروف لا
يُكَنَّى عنه باليدين كما يُكَنَّى عنه باليد، إلا أن يريد جنسين من المعروف
فيقول: لى عنده يدان. ونعم الله تعالى أكثر من أن يُحاط بها».
* *
*
تذرع المعتزلة بالفروض المجازية إذا بدا ظاهر القرآن غريبًا:
هذا.. وإن
المعتزلة فى كثير من الأحيان، يعتمدون فى طريقتهم التفسيرية على الفروض المجازية،
فمثلًا إذا مروا بآية من الآيات التى تبدو فى ظاهرها غريبة مستبعدة، كقوله تعالى
فى الآية [١٧٢] من سورة الأعراف: ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بنيءَادَمَ مِن
ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ﴾ ... الآية، وقوله تعالى فى الآية [٧٢] من سورة
الأحزاب: ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الأمانة عَلَى السماوات والأرض والجبال فَأبَيْنَ أَن
يَحْمِلْنَهَا﴾ ... الآية، نجدهم يحملون الكلام على التمثيل أو التخييل، ولا
يقولون بالظاهر ولا يحوِّمون عليه، اللَّهم إلا للرد على مَن يقول به ويُجَوِّز
حصوله.. نعم إن القرآن يمثل القمة العالية فى كمال الأسلوب وبراعة النظم، وهو فى
نفسه يقبل ما يقوله المعتزلة من المجازات والاستعارات، ولكن ما الذى يمنع من
إرادة الحقيقة؟ وأى صارف يصرف اللفظ عن الظاهر إلى غيره من التمثيل أو التخييل
بعد ما تقرر من أن اللفظ إذا أمكن حمله على الظاهر وجب ح
١ /
٢٧١
مله عليه وقبح صرفه إلى غير ما يتبادر منه؟؟.. اللَّهم لا
شئ يمنع من إرادة المعنى الظاهر إلا استبعاد ذلك على قدرة الله تعالى، ولسنا فى
شك من صلاحية القدرة لمثل ما جاء فى الآيات التى أشرنا إليها، غاية الأمر، أن
كيفية أخذ الله ذُرِّية بنى آدم من ظهورهم، ومخاطبته لتلك الذُرِّية، وكيفية عرض
الأمانة على ما ذكر من السماوات والأرض والجبال وإبائها عن حملها، أمر لا نستطيع
أن نخوض فيه، بل يجب علينا أن نفوِّض علمه وحقيقته إلى الله سبحانه.
وسيأتى
الكلام عن هذه الناحية بالذات بما هو أوسع من هذا، عند الكلام على الكشاف
للزمخشرى، فإنه صاحب اليد الطولى فى هذه الناحية، وخير من أفاض فيها وأجاد.
*
*
* تفسيرهم للقرآن على ضوء ما أنكروه من الحقائق الدينية:
وكذلك نجد
المعتزلة قد وقفوا تجاه بعض الحقائق الدينية الثابتة عند جمهور أهل السُّنَّة
موقف المعارضة والكفاح، فأهل السُّنَّة يقولون بحقيقة السحر، ويعترفون بما له من
تأثير فى المسحور، ويقولون بوجود الجن، ويعترفون بما لهم من قوة التأثير فى
الإنسان حتى ينشأ عن ذلك المس والصَرَع، ويقولون بكرامات الأولياء.. وما إلى ذلك،
ولكن المعتزلة الذين ربطوا التفسير بما شرطوه من جعل العقل مقياسًا للحقائق
الدينية وقفوا ضد هذا كله وجعلوه من قبيل الخرافات، والتصورات المخالفة لطبيعة
الأشياء، وكان من وراء ذلك أن تمرد المعتزلة - فى حرية مطلقة من كل قيد - على
الاعتقاد بالسحر والسَحَرة، وما يدور حول ذلك، وبلغ بهم الأمر أن أنكروا أو
تأوَّلوا ما صح من الأحاديث التى تُصَرِّح بأن الرسول ﷺ قد سُحِر، ولم يقفوا
طويلًا أمام ما يعارضهم من سورة الفلق، بل تخلَّصوا بتأويلات ثلاث ذكرها الزمخشرى
فى كشافه (الجزء الثانى ص ٥٦٨) .
كذلك تمرد بعض أعلام المعتزلة كالنظام على
الاعتقاد بوجود الجن، وثار بعضهم كالزمخشرى ضد مَن يقول بأن الجن لها قوة التأثير
فى الإنسان مع الاعتراف منه بوجودها فى نفسها، فأوَّلوا ما يصادمهم من الآيات
القرآنية، وأنكروا أو تأوَّلوا ما صح من الأحاديث النبوية، كالحديث الصحيح الذى
أخرجه البخارى، وفيه: «أن شيطانًا من الجن عرض للنبى ﷺ وهو فى الصلاة يريد أن
يشغله عنها فأمكنه الله منه»،
١ / ٢٧٢
وكالحديث
الصحيح الثابت عن رسول الله ﷺ وهو: «ما من مولود يولد إلا والشيطان يمسه حين
يُولد فيستهل صارخًا من مس الشيطان إياه إلا مريم وابنها».
كذلك تمرَّد
المعتزلة على الاعتقاد بكرامات الأولياء، واعتمدوا فى تمردهم هذا على قول الله
تعالى فى الآيتين [٢٦، ٢٧] من سورة الجن: ﴿عَالِمُ الغيب فَلاَ يُظْهِرُ على
غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلاَّ مَنِ ارتضى مِن رَّسُولٍ﴾ .. ونرى الزمخشرى يستنتج من
هذه الآية: «أنه تعالى لا يطلع على الغيب إلا المرتضى، الذى هو مصطفى للنبوة
خاصة، لا كل مرتضى، وفى هذا إبطال الكرامات، لأن الذين تضاف إليهم وإن كانوا
أولياء مرتضين، فليسوا برسل، وقد خصّ الله الرسل من بين المرتضين بالاطلاع على
الغيب، وإبطال الكهانة والتنجيم، لأن أصحابهما أبعد شئ من الارتضاء وأدخله فى
السخط».
وبعد.. فإن المعتزلة لم يقفوا هذا الموقف الذى لا يتفق مع معتقدات
أهل السُّنَّة، ولم يعطوا العقل هذا السلطان الواسع فى التفسير، إلا من أجل أن
يبعدوا - كما يزعمون - كل الأساطير الخرافية عن محيط الحقائق الدينية، وليربطوا
بين القرآن وبين عقيدتهم التى قامت على التوحيد الخالص من كل شائبة.
ولكن هل
وقف أهل السُّنَّة حيال هذه المحاولات الاعتزالية فى فهم نصوص القرآن الكريم موقف
التسليم لها والرضا بها؟ أو أغضبهم هذا التصرف من خصومهم المعتزلة؟. الحق أن هذا
التصرف من المعتزلة أثار عليهم خصومهم أهل السُّنَّة واستعداهم عليهم فرموهم
بالعبارات اللاذعة، واتهموهم بتحريك النصوص عن مواضعها تمشيًا مع الهوى وميلًا مع
العقيدة. وقد مرَّ بك آنفًا مقالة ابن قتيبة، وفيها يُشدِّد عليهم النكير من أجل
مسلكهم اللغوى فى التفسير.
* *
* حكم الإمام أبى الحسن الأشعرى على
تفسير المعتزلة:
وهذا هو الإمام أبو الحسن الأشعرى، يحكم على تفسير المعتزلة
بأنه زيغ وضلال، وذلك حيث يقول فى مقدمة تفسيره المسمى بالمختزن والذى لم يقع
لنا: "أما بعد، فإن أهل الزيغ والتضليل تأوَّلوا القرآن على آرائهم، وفسَّروه على
أهوائهم، تفسيرًا لم يُنزل الله به سلطانًا، ولا أوضح به برهانًا، ولا رووه عن
رسول رب العالمين، ولا عن أهل بيته الطيبين، ولا عن السَلَف المتقدمين، من
الصحابة والتابعين، افتراءً على الله، قد ضَلُّوا وما كانوا مهتدين.
وإنما
أخذوا تفسيرهم عن أبى الهذيل بياع العلف ومتبعيه، وعن إبراهيم نظَّام الخرز
ومقلديه، وعن الفوطى وناصريه، وعن المنسوب إلى قرية جُبى ومنتحليه، وعن الأشج
١
/ ٢٧٣
جعفر بن حرب ومجتبييه، وعن جعفر بن مبشر القصبى
ومتعصبيه، وعن الإسكافى الجاهل ومعظميه، وعن الفروى المنسوب إلى مدينة بلخ وذويه،
فإنهم قادة الضلال، من المعتزلة الجهال، الذين قلدوهم فى دينهم، وجعلوهم معولهم
الذى عليه يُعوِّلون، وركنهم الذى إليه يستندون.
ورأيت الجبائى ألَّف فى
تفسير القرآن كتابًا أوَّله خلاف ما أنزل الله ﷿، وعلى لغة أهل قريته المعروفة
بجُبى، وليس من أهل اللسان الذى نزل به القرآن، وما روى فى كتاب حرفًا عن أحد من
المفسِّرين. وإنما اعتمد على ما وسوس به صدره وشيطانه، ولولا أنه استغوى بكتابه
كثيرًا من العوام، واستنزل به عن الحق كثيرًا من الطغام، لم يكن لتشاغلى به
وجه».
* *
* حكم ابن تيمية على تفسير المعتزلة:
كذلك حكم ابن
تيمية على تفسيرهم فقال: «إن مثل هؤلاء اعتقدوا رأيًا ثم حملوا ألفاظ القرآن
عليه، وليس لهم سَلَف من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، ولا من أئمة المسلمين، لا
فى رأيهم ولا فى تفسيرهم، وما من تفسير من تفاسيرهم الباطلة إلا وبطلانه يظهر من
وجوه كثيرة، وذلك من جهتين: تارة من العلم بفساد قولهم، وتارة من العلم بفساد ما
فسَّروا به القرآن إما دليلًا على قولهم، أو جوابًا على المعارض لهم، ومِن هؤلاء
مَن يكون حسن العبارة فصيحًا ويدس البدع فى كلامه وأكثر الناس لا يعلمون، كصاحب
الكشاف، ونحوه، حتى إنه يروج على خلق كثير ممن لا يعتقد الباطل من تفاسيرهم
الباطلة ما شاء الله، وقد رأيت من العلماء المفسِّرين وغيرهم مَن يذكر فى كتابه
وكلامه من تفسيرهم ما يوافق أصولهم التى يعلم أو يعتقد فسادها ولا يهتدى
لذلك».
* *
* حكم ابن القيم على تفسير المعتزلة:
كذلك نجد
العلاَّمة ابن القيم يحكم على التفسير المعتزلة حكمًا قاسيًا فيقول: «إنه زُبالة
الأذهان، ونخالة الأفكار، وعفار الآراء، ووساوس الصدور، فملأوا به الأوراق
سوادًا، والقلوب شكوكًا، والعالَم فسادًا، وكل مَن له مسكة من عقل يعلم أن فساد
العالَم إنما نشأ من تقديم الرأى على الوحى، والهوى على العقل».
* * *
١
/ ٢٧٤
أهم كتب التفسير الاعتزالى
صَنَّف كثير من شيوخ
المعتزلة تفاسير للقرآن الكريم على أصول مذهبهم، ولم تكن هذه التفاسير أكثر حظًا
من غيرها من كتب التفسير المختلفة، حيث امتدت إلى كثير منها يد الزمان، فضاعت
بتقادم العهد عليها، وحُرمت المكتبة الإسلامية العامة من معظم هذا التراث العلمى
الذى لو بقى إلى يومنا هذا لألقى لنا ضوءًا واضحًا على مدى التفكير التفسيرى،
لشيوخ هذا المذهب الاعتزالى، ولكشف لنا عن حقيقة ما يُنسب لبعض شيوخهم من تفسيرات
واسعة النطاق، نسمع بها من علمائنا المتقدمين، ونقف منها موقف الحائر بين الشك
واليقين، لما يُذكر عنها من الاستفاضة والتضخم إلى حد يكاد يكون متخيلًا أو
مبالغًا فيه.
نتصفح طبقات المفسِّرين للسيوطى، وطبقات المفسِّرين لتلميذه
الداودى، وغيرهما من الكتب التى لها عناية بهذا الشأن، فنجد أن من أشهر من صَنَّف
فى التفسير من المعتزلة: أبو بكر، عبد الرحمن بن كيسان الأصم المتوفى سنة ٢٤٠ هـ
(أربعين ومائتين من الهجرة) . أقدم شيوخ المعتزلة، وشيخ إبراهيم ابن إسماعيل بن
علية الذى كان يناظر الشافعى، فقد ذكر ابن النديم فى الفهرست: أنه ألَّف تفسيرًا
للقرآن الكريم. ولكنا لا نعلم عن هذا التفسير خبرًا، حيث إنه فُقِد بمرور الزمن
وتقادم العهد عليه.
ومحمد بن عبد الوهاب بن سلام (أبو على الجبائى) المتوفى
سنة ٣٠٣ هـ (ثلاث وثلاثمائة من الهجرة)، وأحد شيوخ المعتزلة الذين كانت لهم شهرة
واسعة فى الفلسفة والكلام، فقد ذكر السيوطى فى طبقات المفسِّرين: أنه ألَّف فى
التفسير، وذكر ذلك ابن النديم فى الفهرست أيضًا. ولكنَّا لا نعلم شيئًا عن هذا
التفسير أكثر مما ذكرناه آنفًا عن أبى الحسن الأشعرى.
وأبو القاسم، عبد الله
بن أحمد البلخى الحنفى، المعروف بالكعبى المعتزلى، المتوفى سنة ٣١٩ هـ (تسع عشرة
وثلاثمائة من الهجرة)، فقد ذكر صاحب كشف الظنون: أنه ألَّف تفسيرًا كبيرًا يقع فى
اثنى عشر مجلدًا، وقال: إنه لم يُسبَق إليه ولكن لم يقع لنا هذا التفسير
كغيره.
وأبو هاشم عبد السلام بن أبى علىّ الجبائى المتوفى سنة ٣٢١ هـ (إحدى
وعشرين وثلاثمائة من الهجرة)، ذكر السيوطى فى طبقات المفسِّرين: أنه ألَّف
تفسيرًا، وقال إنه رأى جزءًا منه، ولكنَّا لم نظفر به أيضًا.
١
/ ٢٧٥
وأبو مسلم، محمد بن بحر الأصفهانى المتوفى سنة ٣٢٢ هـ
(اثنتين وعشرين وثلاثمائة من الهجرة)، صنَّف تفسيرًا اسمه «جامع التأويل لمحكم
التنزيل» يقع فى أربعة عشر مجلدًا، وقيل: فى عشرين مجلدًا، وقد أشار إلى هذا
التفسير ابن النديم فى الفهرست، والسيوطى فى بُغية الوعاة فى طبقات النحاة. وهذا
التفسير - فيما يبدو - هو الذى يعتمد عليه الفخر الرازى فيما ينقله فى تفسيره من
أقوال منسوبة لأبى مسلم، وقد أخذ بعض المؤلفين ما جاء فى تفسير الفخر الرازى
منسوبًا لأبى مسلم، وجمعه فى كتاب مستقل سماه تفسير أبى مسلم الأصفهانى، وقد
اطلعتُ على جزء منه صغير الحجم بمكتبة الجامعة المصرية (جامعة القاهرة) .
وأبو
الحسن علىّ بن عيسى الرمانى المتوفى سنة ٣٨٤ هـ (أربع وثمانين وثلاثمائة من
الهجرة)، وأحد شيوخ المعتزلة المتشيعين صنَّف تفسيرًا للقرآن الكريم، قال السيوطى
فى طبقات المفسِّرين إنه رآه. وذكر صاحب كشف الظنون: أنه اختصره عبد الملك بن
علىّ المؤذن الهروى المتوفى سنة ٤٨٩ هـ (تسع وثمانين وأربعمائة من الهجرة)
ولكنَّا لم نظفر به ولا بمختصره.
وعبيد الله بن محمد بن جرو الأسدى أبو
القاسم النحوى العروضى المعتزلى المتوفى سنة ٣٨٧ هـ (سبع وثمانين وثلاثمائة من
الهجرة)، قال السيوطى فى طبقات المفسِّرين: إنه صنَّف تفسيرًا للقرآن الكريم،
وذكر فى ﴿بسم الله الرحمن الرَّحِيمِ﴾ مائة وعشرين وجهًا ولكنَّا لم نظفر به
أيضًا.
والقاضى عبد الجبار بن أحمد الهمدانى، المتوفى سنة ٤١٥ هـ (خمس عشرة
وأربعمائة من الهجرة)، ألَّف كتابه «تنزيه القرآن عن المطاعن» وهو بين أيدينا،
ومتداوَل بين أهل العلم، ولكنه غير شامل لجميع آيات القرآن الكريم.
والشريف
المرتضى، العالِم الشيعى العلوى المتوفى سنة ٤٣٦ هـ (ست وثلاثين وأربعمائة من
الهجرة)، كتب بحوثًا فيَّاضة فى بعض آيات القرآن الكريم التى تصادم مذهب
المعتزلة، ووفق بين ظاهر النظم الكريم والعقيدة الاعتزالية، ونجد هذه البحوث
التفسيرية ضمن ما دوَّنه فى أماليه التى سماها: غُرر الفوائد ودُرر القلائد.
وعبد
السلام بن محمد بن يوسف القزوينى شيخ المعتزلة المتوفى سنة ٤٨٣ هـ (ثلاث وثمانين
وأربعمائة من الهجرة)، فسَّر القرآن تفسيرًا واسعًا، فقد جاء فى طبقات
المفسِّرين، للسيوطى: "أنه جمع التفسير الكبير الذى لم يرد فى التفاسير
١
/ ٢٧٦
أكبر منه ولا أجمع للفوائد، لولا أنه موجه بكلام
المعتزلة وبَثَّ فيه معتقده وهو فى ثلاثمائة مجلد، منها سبع مجلدات فى الفاتحة».
ونقل عن ابن النجار أنه قال فى شأن القزوينى هذا: «إنه كان طويل اللسان، ولم يكن
محققًا إلا فى التفسير، فإنه لهج بالتفاسير حتى جمع كتابًا بلغ خمسمائة مجلد حشى
فيه العجائب، حتى رأيت منه مجلدًا فى آية واحدة، وهى قوله تعالى: ﴿واتبعوا مَا
تَتْلُواْ الشياطين﴾ ... الآية».
وأبو القاسم محمود بن عمر الزمخشرى المتوفى
سنة ٥٣٨ هـ (ثمان وثلاثين وخمسمائة من الهجرة)، فسَّر القرآن الكريم تفسيرًا
عظيمًا جدًا لولا ما فيه من نزعات الاعتزال، وهو أشمل ما وصل إلينا من تفاسير
المعتزلة.
هؤلاء هم أشهر مَن عرفناهم من مفسِّرى المعتزلة. وهذه هى تفاسيرهم
التى نسمع عنها، ولم يصل إلينا منها إلا هذه المصنَّفات الثلاثة: تنزيه القرآن عن
المطاعن للقاضى عبد الجبار، وأمالى الشريف المرتضى، والكشاف للزمخشرى. لهذا نرى
أن نتكلم عن هذه الكتب الثلاثة، وعن المسلك الذى سلكه فيها أصحابها، بما يلقى لنا
ضوءًا على المنحى الذى نحاه المعتزلة فى تفسيرهم لكتاب الله تعالى، وتأويلهم
لنصوصه، حتى تشهد لهم، أو لا تتعارض معهم على الأقل.
* * *
١
/ ٢٧٧
١ - تنزيه القرآن عن المطاعن (للقاضى عبد الجبار)
*
التعريف بمؤلف هذا التفسير:
مؤلف هذا التفسير هو قاضى القضاة، أبو الحسن عبد
الجبار بن أحمد ابن عبد الجبار بن أحمد بن الخليل الهمدانى الأسدباذى الشافعى،
شيخ المعتزلة. سمع من أبى الحسن بن سلمة بن القطان، وعبد الله بن جعفر ابن فارس،
وغيرهما. عاش دهرًا طويلًا وفاق أقرانه، وسار ذكره، وعظم صيته، ورحلت إليه
الطلبة، وأخذ عنه كثير من العلماء، منهم: أبو القاسم علىّ بن الحسن التنوخى،
والحسن بن على الصيمرى الفقيه، وأبو محمد عبد السلام القزوينى المفسِّر
المعتزلى.
استدعاه الصاحب إلى الرَّى بعد سنة ٣٦٠ هـ (ستين وثلاثمائة من
الهجرة)، فولى قضاءها، وبقى بها مواظبًا على التدريس إلى آخر حياته، وكان الصاحب
يقول فيه: هو أعلم أهل الأرض.
وقد خلَّف القاضى عبد الجبار مصنَّفات فى
أنواع مختلفة من العلوم، منها: كتاب الخلاف والوفاق، وكتاب المبسوط، وكتاب
المحيط، وكلها فى علم الكلام. وألَّف فى أصول الفقه: النهاية، والعمدة، وشرحه.
وألَّف فى المواعظ كتابًا سماه نصيحة المتفقهة. وقال ابن كثير فى طبقاته: إن من
أجَّل مصنفاته وأعظمها، كتاب دلائل النبوة، فى مجلدين، أبان فيه عن علم وبصيرة
جيدة، وبالجملة فقد طبق الأرض بكتبه، وبعد صيته، وعظم قدره، حتى انتهت إليه
الرياسة فى المعتزلة، وصار شيخها وعالمها غير مدافع، وكانت وفاته فى ذى العقدة
٤١٥ هـ (خمس عشرة وأربعمائة من الهجرة) .
* *
* التعريف بكتاب تنزيه
القرآن عن المطاعن وطريقة مؤلفه فيه:
ذكر مؤلف هذا الكتاب فى مقدمته (ص٣،
٤): أنه لا يُنتفع بكتاب الله إلا بعد الوقوف على معانى ما فيه، وبعد الفصل بين
مُحكمه ومتشابهه، وذكر أن كثيرًا من الناس قد ضلَّ بأن تمسك بالمتشابه حتى اعتقد
أن قوله تعالى: ﴿سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض﴾ [الحشر: ١،
والصف: ١] حقيقة فى الحجر والمدر والطير والنعم، وربما رأوا فى ذلك تسبيح كل شئ
من ذلك، ومَن اعتقد ذلك لم ينتفع بما يقرؤه، قال تعالى: ﴿أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ
القرآن﴾ [محمد: ٢٤] . وكذلك وصفه تعالى بأنه: ﴿يَِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ
وَيُبَشِّرُ المؤمنين﴾ [الإسراء: ٩] .. ثم قال: وقد أملينا فى ذلك كتابًا يفصل
بين
١ / ٢٧٨
المحكم والمتشابه، عرضنا فيه سور
القرآن على ترتيبها، وبيَّنا معانى ما تشابه من آياتها، مع بيان وجه خطأ فريق من
الناس فى تأويلها، ليكون النفع به أعظم، ونسأل الله التوفيق للصواب إن شاء
الله.
فالكتاب لم يقصد فيه مؤلفه أن يعرض لشرح كتاب الله آية آية، بل كان كل
همه - كما نأخذ من عبارته السابقة، وكما يظهر لنا من مسلكه فى الكتاب نفسه -
موجهًا إلى الفصل بين مُحكم الكتاب ومتشابهه، وإلى بيان معانى هذه الآيات
المتشابهة، ثم إلى بيان خطأ فريق من الناس، فى تأويلها، وهو يقصد بهذا الفريق -
فى الغالب - جماعة أهل السُّنَّة الذين لا يرون رأيه فى القرآن، ولا ينظرون إليه
نظرته الاعتزالية.
نقرأ هذا الكتاب، فنجد أن مؤلفه قد ابتدأه بسورة الفاتحة،
واختتمه بسورة الناس، ولكنه لا يستقصى جميع السورة، ولا يعرض لكل آياتها بالشرح
كما قلنا، بل نجده يبنى كتابه على مسائل، كل مسألة تتضمن إشكالًا وجوابًا، وهذا
الإشكال تارة يرد على ظاهر النظم الكريم من ناحية الصناعة العربية، وتارة يرد
عليه من ناحية أنه لا يتفق مع عقيدته الاعتزالية.
* *
* بعض مواقفه من
مشكلات الصناعة العربية:
أما المسائل التى أوردها مشتملة على مشكلات الصناعة
العربية وأجوبتها، فهو لا تخرج عما عرض له عامة المفسِّرين فى تفاسيرهم، وهذا
الجانب يشمل جزءًا غير قليل من الكتاب، وإليك بعض هذه المسائل:
فمثلًا فى
سورة الحمد يقول فى (ص ٤، ٥) ما نصه: «مسألة - قالوا: الحمد لله: خبر، فإن كان
حمد نفسه فلا فائدة لنا فيه. وإن أمرنا بذلك، فكان يجب أن يقول: قولوا الحمد لله.
وجوابنا عن ذلك: أن المراد به الأمر بالشكر والتعليم لكى نشكره، لكنه وإن حذف
الأمر فقد دل عليه بقوله: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ .. لأنه لا
يليق بالله تعالى، وإنما يليق بالعباد، فإذا كان معناه قولوا: ﴿إِيَّاكَ
نَعْبُدُ﴾ فكذلك قوله: ﴿الحمد للَّهِ﴾ .. وهكذا كقوله: ﴿وَالمَلاَئِكَةُ
يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِّن كُلِّ بَابٍ * سَلاَمٌ عَلَيْكُم﴾ [الرعد: ٢٣-٢٤] ..
ومثله كثير من القرآن».
ومثلًا فى سورة البقرة يقول فى (ص٦) ما نصه: «مسألة»
- ومتى قيل: ولماذا قال تعالى: ﴿ذَلِكَ الكتاب﴾ [البقرة: ٢] ولم يقل: هذا الكتاب؟
فجوابنا: أنه جَلَّ وعَزَّ وعد رسوله إنزال كتاب عليه لا يمحوه الماء، فلما أنزل
ذلك قال: ﴿ذَلِكَ الكتاب﴾ . والمراد: ما وعدتك، ولو قال: «هذا الكتاب» لم يفد هذه
الفائدة«.
ويقول بعد ذلك مباشرة فى (ص ٧، ٦) ما نصه:»مسألة" - قالوا: ما
معنى: ﴿لاَ
١ / ٢٧٩
رَيْبَ فِيهِ﴾ [البقرة:
٢] وقد علمتم أن خلقًا يشكُّونَ فى ذلك فكيف يصح ذلك؟. وإن أراد: لا ريب فيه عندى
وعند مَن يعلم، فلا فائدة فى ذلك. فجوابنا: أن المراد أنه حق يجب أن لا يُرتاب
فيه، وهذا كما يبين المرء الشئ لخصمه فيحسن منه بعد البيان أن يقول: هذا كالشمس
واضح، وهذا لا يشك فيه أحد، وهذا كما يقال عند إظهار الشهادتين: إن ذلك حق وصدق،
وإن كان فى الناس مَن يُكَذِّب بذلك».
ومثلًا فى سورة هود يقول فى (ص ١٦٤)
ما نصه: «مسألة - وربما قيل فى قوله تعالى: ﴿أَفَمَن كَانَ على بَيِّنَةٍ مِّن
رَّبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ﴾ [هود: ١٧]: ما الفائدة فى هذا الابتداء
ولا خبر له؟ وجوابنا: أن الخبر قد يُحذف إذا كان كالمعلوم، والمراد: أفمن كان
بهذا الوصف كمن هو يكفر ولا يسلك طريق العبادة وما توجبه البيِّنة».
ومثلًا
فى سورة الفرقان يقول فى (ص ٣٥٤) ما نصه: «مسألة - وربما قيل فى قوله تعالى:
﴿قُلْ أذلك خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الخلد﴾ [الفرقان: ١٥] كيف يصح ذلك ولا خير فى
النار أصلًا؟ وجوابنا: أن المراد: أيهما أولى بأن يكون خيرًا؟ وقد يقول الحكيم
لغيره من العصاة: إن التمسك بالطاعة خير لك من المعصية، والمراد ما قد ذكرنا».
هذه
أمثلة من الإشكالات التى أوردها القاضى عبد الجبار على ظاهر النظم من ناحية
الصناعة، وهذه هى الأجوبة التى أجاب بها عن هذه الإشكالات.
* *
* بعض
مواقفه من المشكلات العقيدية الاعتزالية:
وأما المسائل التى أوردها مشتملة
على إشكالات ترد على ظاهر النظم من ناحية أنه لا يتفق وعقيدته، وعلى أجوبة هذه
الإشكالات، فهى كثيرة جدًا، وهى تشغل الجزء الأكبر من هذا المؤلَّف، وإليك بعضه
هذه المسائل:
* الهداية والضلال:
فمثلًا يقول فى سورة البقرة (ص ٩، ١٠)
ما نصه: "مسألة - قالوا: فقد قال تعالى: ﴿خَتَمَ الله على قُلُوبِهمْ وعلى
سَمْعِهِمْ وعلى أَبْصَارِهِمْ غشَاوَةٌ﴾ [البقرة: ٧] .. وهذا يدل على أنه قد
منعم من الإيمان، ومذهبكم بخلافه، وكيف تأويل الآية؟. وجوابنا: أن للعلماء فى ذلك
جوابين، أحداهما: أنه شَبَّه حالهم بحال الممنوع الذى على بصره غشاوة من حيث أزاح
كل عللهم فلم يقبلوا، كما قد تعيَّن للواحد الحق فتوضحه فإذا لم يقبل صحَّ أن
تقول: إنه حمار قد طبع الله على قلبه، وربما تقول: إنه ميت، وقد قال تعالى
للرسول: ﴿إِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ الموتى﴾ [النمل: ٨] وكانوا أحياء، فلما لم يقبلوا
شبَّههم بالموتى، وهو كقول الشاعر:
١ / ٢٨٠
لقد
أسمعتَ لو ناديتَ حيًا ... ولكن لا حياة لمن تنادى
ويبيِّن ذلك أنه تعالى
ذَمَّهم، ولو كان هو المانع لهم لما ذَمَّهم، وأنه ذكر فى جملة ذلك الغشاوة على
سمعهم وبصرهم، وذلك لو كان ثابتًا لم يؤثر فى كونهم عقلاء مُكلَّفين.
والجواب
الثانى: أن الختم علامة يفعلها تعالى فى قلوبهم، لتعرف الملائكة كفرهم وأنهم لا
يؤمنون فتجتمع على ذَمَّهم، ويكون ذلك لطفًا لهم، ولطفًا لمن يعرف ذلك من الكفار
أو يظنه، فيكون أقرب إلى أن يقلع عن الكفر. وهذا جواب الحسن ﵀، ولهذا قال تعالى:
﴿غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ﴾ [البقرة: ٧]».
ومثلًا فى سورة الأعراف
يقول فى (ص ١٤٠) ما نصه: «مسألة - وربما قيل فى قوله تعالى: ﴿مَن يَهْدِ الله
فَهُوَ المهتدي وَمَن يُضْلِلْ فأولائك هُمُ الخاسرون﴾ [الأعراف: ١٧٨] أليس ذلك
يدل على أنه يخلق الهدى والضلال؟ وجوابنا: أن المراد: منَ يهد الله إلى الجنة
والثواب فهو المهتدى فى الدنيا. ومَن يُضلل عن الثواب إلى العقاب فأُولئك هم
الخاسرون فى الدنيا، وسبيل ذلك أن يكون بعثًا من الله تعالى على الطاعة. وكذلك
قوله تعالى: ﴿مَن يُضْلِلِ الله فَلاَ هَادِيَ لَهُ﴾ [الأعراف: ١٨٦] المراد: مَن
يُضلله عن الثواب فى الآخرة فلا هادى له إليه، وإن كنا قد أزحنا العِلَّة
وسهَّلنا السبيل إلى الطاعة».
ومثلًا فى سورة الحج يقول فى (ص ٢٤٠، ٢٤١) ما
نصه: "مسألة - وربما
١ / ٢٨١
قيل فى قوله
تعالى: ﴿وَأَنَّ الله يَهْدِي مَن يُرِيدُ﴾ [الحج: ١٦]: إن ذلك يدل على أنه يهدى
قومًا دون قوم بخلاف قولكم: إن الهدى عام. وجوابنا: أن المراد: يكلف مَن يريد،
لأن فى الناس مَن لا يبلغه حد التكليف. أو يحتمل أن يريد الهداية إلى الثواب،
لأنها خاصة فى المطيعين دون العصاة، ورغَّبَ تعالى المؤمن فى تحمل المشاق واحتمال
ما يناله من المبطلين بقوله تعالى: ﴿إِنَّ الذين آمَنُواْ والذين هَادُواْ
والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا إِنَّ الله يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ
القيامة﴾ [الحج: ١٧] .. فبيِّن حُسن عاقبة المؤمن عند الفصل، ليكون فى الدنيا وإن
لحقه الذل صابرًا. وعلى هذا الوجه قال ﷺ: «الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر».
فأنت
ترى من هذا كله: أنه يفر من القول بأن الله تعالى هو الذى يصرف العبد عن طريق
الهدى إلى طريق الضلال أو العكس، تمشيًا مع مذهبه وعقيدته..
*
* مس
الشيطان:
كذلك نراه يُفسِّر الآيات التى تدل على أن الشيطان له قدرة على أن
يؤثر فى الإنسان بما يوافق مذهبه، فيقول فى سورة البقرة (ص ٥٠) ما نصه: «مسألة -
وربما قيل: إن قوله: ﴿الذين يَأْكُلُونَ الربا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا
يَقُومُ الذي يَتَخَبَّطُهُ الشيطان مِنَ المس﴾ [البقرة: ٢٧٥] كيف يصح ذلك وعندكم
أن الشيطان لا يقدر على مثل ذلك؟. وجوابنا: أن مس الشيطان إنما هو بالوسوسة كما
قال تعالى فى قصة أيوب: ﴿مَسَّنِيَ الشيطان بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ﴾ [ص: ٤١]، كما
يقال فيمن يفكر فى شئ يغمه: قد مسَّه التعب، وبيَّن ذلك قوله فى صفة الشيطان:
﴿وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فاستجبتم
لِي﴾ [إبراهيم: ٢٢] .. ولو كان يقدر على أن يخبط لصرفً هِمَّته إلى العلماء
والزُهَّاد وأهل العقول، لا إلى مَن يعتريه الضعف. وإذا وسوس ضعف قلب مَن يخصه
بالوسوسة فتغلب عليه المرة فيتخبط، كما يتفق ذلك فى كثير من الإنس إذا فعلوا ذلك
لغيرهم».
ويقول فى سورة الناس (ص ٣٨٥، ٣٨٦): «مسألة - وربما قيل فى قوله
تعالى: ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الناس *مَلِكِ الناس *إلاه الناس *مِن شَرِّ
الوسواس الخناس﴾ [الناس: ١-٤]: أليس ذلك يدل على أن الشيطان يؤثر فى الإنسان حتى
أُمِرنا بأن نتعوَّذ من شره، وأنتم تقولون: إنه لا يقدر على شئ من ذلك؟. وجوابنا:
أنه تعالى بيَّن أن هذا الوسواس من الجِنَّة والناس، ومعلوم أن من يوسوس من الناس
لا يخبط ولا يُحدِث فيمن يوسوس له تغيير عقل وجسم، فكذلك حال الشيطان، ومع ذلك
فلا بد فى وسوستهم من أن يكون ضرر يصح أن يُتعوَّذ بالله تعالى منه، وهذا يدل إذا
تأمله المرء على قولنا بأن العبد مختار لفعله، وذلك لأنه تعالى لو كان يخلق كل
هذه الأمور فيه لم يكن لهذا التعوُّذ معنى، لأنه إن أراد خلق ما يضره فيه، وخلق
المعاصى فيه، فهذا التعوُّذ وجوده كعدمه، وإنما ينفع متى كان العبد مختارًا، فإذا
أتى بهذا التعوُّذ كان أقرب إلى أن لا يناله من قِبَلِ الجِنَّة والناس ما كان
يناله لولا ذلك».
*
* رؤية الله:
ولما كان المعتزلة لا يجوزِّون
وقوع رؤية الله فى الآخرة، فإن صاحبنا قد تخلَّص من كل آية تُجوَّز وقوع
الرؤية.
فمثلًا فى سورة يونس يقول فى (ص ١٥٩) ما نصه: «مسألة - وربما قيل فى
قوله تعالى: ﴿لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الحسنى وَزِيَادَةٌ﴾ [يونس: ٢٦]: أليس
المراد بها الرؤية على ما روى فى الخبر؟. وجوابنا: أن المراد بالزيادة التفضل فى
الثواب، فتكون الزيادة من جنس المزيد عليه، وهذا مروى، وهو الظاهر، فلا معنى
لتعلقهم بذلك، وكيف يصح ذلك وعندهم أن الرؤية أعظم من كل الثواب فكيف تُجعل زيادة
على الحسنى؟ ولذلك قال بعده: ﴿وَلاَ يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلاَ ذِلَّةٌ﴾
[يونس: ٢٦] فبيَّن أن الزيادة هى من هذا الجنس فى الجنَّة».
١
/ ٢٨٢
وفى سورة القيامة يقول فى (ص ٣٥٨، ٣٥٩) ما نصه: «مسألة -
وربما قيل فى قوله تعالى: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ * إلى رَبِّهَا
نَاظِرَةٌ﴾ [القيامة: ٢٢-٢٣]: إنه أقوى دليل على أن الله تعالى يُرَى فى الآخرة.
وجوابنا: أن مَن تعلَّق بذلك إن كان ممن يقول بأن الله تعالى جسم، فإنَّا لا
ننازعه فى أنه يُرَى. بل فى أنه يُصافَح، ويُعانَق، ويُلمَس، تعالى الله عن ذلك،
وإنما نكلمه فى أنه ليس بجسم. وإن كان ممن ينفى التشبيه عن الله فلا بد من أن
يعترف بأن النظر إلى الله تعالى لا يصح، لأن النظر هو تقليب العين الصحيحة نحو
الشئ طلبًا لرؤيته، وذلك لا يصح إلا فى الأجسام. فيجب أن يُتأوَّل على ما يصح
النظر إليه وهو الثواب، كقوله تعالى: ﴿وَسْئَلِ القرية﴾ [يوسف: ٨٢]، فإنَّا
تأوَّلناه على أهل القرية لصحة المسألة منهم. وبيَّن ذلك أن الله ذكر ذلك ترغيبًا
فى الثواب كما ذكر قوله: ﴿وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ * تَظُنُّ أَن يُفْعَلَ
بِهَا فَاقِرَةٌ﴾ [القيامة: ٢٤-٢٥] زجرًا عن العقاب، فيجب حمله على ما
ذكرناه».
*
* أفعال العباد:
كذلك يتأثر القاضى عبد الجبار بعقيدته
الاعتزالية القائلة بأن الله تعالى لا يخلق أفعال العباد، فيقول فى سورة الأنفال
(ص ١٤٤) ما نصه: «مسألة - وربما قيل فى قوله تعالى: ﴿فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ ولاكن
الله قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ ولاكن الله رمى﴾ [الأنفال: ١٧]،
كيف يصح ذلك مع القول بأن الله تعالى لا يخلق أفعال العباد؟ وجوابنا: أنه ﷺ كان
يرمى يوم بدر، والله تعالى بلغ برميته المقاتل، فلذلك أضافه تعالى إلى نفسه كما
أضاف الرمية أولًا إليه بقوله: ﴿إِذْ رَمَيْتَ﴾، والكلام متفق بحمد الله.
ويقول
فى سورة الصافات (ص ٢٩٨، ٢٩٩) ما نصه:»مسألة- وربما قيل فى قوله تعالى:
﴿أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ * والله خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ﴾ [الصافات:
٩٥-٩٦]: أليس فى ذلك تصريح بخلق أعمال العباد؟ وجوابنا: أن المراد: واللهُ خلقكم
وما تعملون من الأصنام، فالأصنام من خلق الله، وإنما عملهم نحتها وتسويتها، ولم
يكن الكلام فى ذلك، فإنه ﷺ أنكر عبادتهم، فقال: أتعبدون ما تنحتون؟ وذلك الذى
تنحتون الله خلقه. ولا يصح لما أورده عليهم معنى إلا على هذا الوجه، وذلك فى
اللغة ظاهر، لأنه يقال فى النجار: عمل السرير - وإن كان عمله قد تقضى - وعمل
الباب، ونظير ذلك قوله تعالى فى عصا موسى: ﴿فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا
يَأْفِكُونَ﴾ [الشعراء: ٤٥]: المراد ما وقع إفكهم فيه، فعلى هذا الوجه نتأوَّل
هذه الآية، معنى قوله من بعد: ﴿وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إلى رَبِّي سَيَهْدِينِ *
رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصالحين﴾ [الصافات: ٩٩-١٠٠]".
*
* المنزلة بين
المنزلتين:
ولما كان القاضى عبد الجبار يقول - كغيره من المعتزلة - بالمنزلة
بين المنزلتين، فإنَّا نراه
١ / ٢٨٣
يتأثر
بهذه العقيدة، ففى سورة الأنفال فى قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا المؤمنون الذين إِذَا
ذُكِرَ الله وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ
زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وعلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الذين يُقِيمُونَ الصلاة
وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * أولاائك هُمُ المؤمنون حَقًّا﴾ [الأنفال:
٢-٤] .. نجده فى (ص ١٤٣) يقول ما نصه: «وكل ذلك يدل على أن الإيمان قول وعمل،
ويدخل فيه كل هذه الطاعات، وأن المؤمن لا يكون مؤمنًا إلا أن يقوم بحق العبادات،
ومتى وقعت منه كبيرة خرج عن أن يكون مؤمنًا».
وفى سورة الإنسان يقول فى (ص
٣٥٩، ٣٦٠) ما نصه: «مسألة - وربما قيل فى قوله تعالى: ﴿إِنَّا هَدَيْنَاهُ السبيل
إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا﴾ [الإنسان: ٣]: أما يدل ذلك على أنه ليس من
المكلَّفين إلا كافر ومؤمن؟ وجوابنا: أن الشاكر قد يكون شاكرًا وإن لم يكن مؤمنًا
برًَّا تقيًا، لأن الفاسق بغضب أو غيره قد يكون شاكرًا فلا يدل على ما قالوا، بل
فى الآية دلالة على ما نقول من أن الكافر والمؤمن هما سواء فى أن الله تعالى قد
هداهما، لا كما قالت المجبِّرة: إنه تعالى إنما هدى المؤمنين. والمراد به أنه
دلَّ الجميع وأزال عِلَّتهم، فمَن عصى فمِن جهة نفسه أُتِىَ».
* *
*
تذرعه بالمجاز والتشبيه فيما يُستبعد ظاهره:
كذلك نرد القاضى عبد الجبار يقف
أمام الآيات التى تبدو فى ظاهرها غريبة مستبعَدة، موقف النفور من جواز إرادة
المعنى الحقيقى، والتخلص من هذا الظاهر المستغرَب بحمل الكلام على المجاز
والتشبيه.
فمثلًا يقول فى سورة الأعراف (ص ١٤٠) ما نصه: «مسألة - وربما قيل
فى قوله تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بنيءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ
ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ على أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ
بلى﴾ [الأعراف: ١٧٢]: وفى الخبر أن جميع بنى آدم أخذ عليهم المواثيق من ظهر آدم
ﷺ، كيف يصح ذلك؟ وجوابنا: أن القوم مخطئون فى الرواية، فمن المحال أن يأخذ عليهم
المواثيق وهم كالذَّر لا حياة لهم ولا عقل، فالمراد أنه أخذ الميثاق من العقلاء،
بأن أودع فى عقلهم ما ألزمهم، إذ فائدة الميثاق أن يكون مُنَبِّهًا، وأن يُذَكِّر
المرء بالدنيا والآخرة، وذلك لا يصح إلا فى العقلاء، وظاهر الآية بخلاف قولهم،
لأنه تعالى أخذ من ظهور بنى آدم، لها من آدم، والمراد أنه خرج من ظهورهم ذُرِّية
أكمل عقولهم، فأخذ الميثاق عليهم، وأشهدهم على أنفسهم بما أودعه عقلهم».
ومثلًا
فى سورة الرعد يقول فى (ص ١٨١) ما نصه: "مسألة - ومتى قيل: فما معنى قوله تعالى:
﴿وَيُسَبِّحُ الرعد بِحَمْدِهِ﴾ [الرعد: ١٣]، وكيف يصلح التسبيح من الرعد؟.
وجوابنا: أن المراد دلالة الرعد وتلك الأصوات الهائلة على قدرته وعلى تنزيهه،
وذلك بقوله تعالى: ﴿سَبَّحَ للَّهِ مَا فِي السماوات والأرض﴾ [الحديد: ١] ..
لدلالة الكل على أنه
١ / ٢٨٤
منزَّه عما لا
يليقَ، ولذلك قال: ﴿والملائكة مِنْ خِيفَتِهِ﴾ [الرعد: ١٣] ففصل بين الأمرين.
وقوله بعد: ﴿وَللَّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السماوات والأرض طَوْعًا وَكَرْهًا﴾
[الرعد: ١٥]؛ معناه: يخضع، فالمكلَّف العارف بالله يخضع طوعًا، وغيره يخضع كرهًا،
لأنَّا نعلم أن نفس السجود لا يقع من كل أحد».
وقد رأينا كيف حمل القاضى
حملته الشعواء فى مقدمة كتابه على مَن يحمل مثل هذه الآية على حقيقتها، وكيف حكم
عليه بأنه ضال لا ينتفع بما يقرأ من كتاب الله.
... وهكذا نجد القاضى عبد
الجبار يتأثر تأثرًا عظيمًا بمذهبه الاعتزالى، فلا يكاد يمر بآية تعارض مذهبه إلا
صرفها عن ظاهرها، ومال بها إلى ناحية مذهبه.. وعلى الجملة فالكتاب - رغم ما فيه
من هذه النزعات الاعتزالية - قد كشف لنا عن كثير من الشبهات التى ترد على ظاهر
النظم الكريم، وأوضح لنا عن كثير من جمال التركيب القرآنى الذى ينطوى على البلاغة
والإعجاز، مما يشهد لمؤلفه بقوة وغزارة العلم. وهو مطبوع فى مجلد واحد كبير
ومتداوَل بين أهل العلم.
* * *
٢ - أمالى الشريف المرتضى أو «غُرَر
الفوائد ودُرَر القلائد»
* التعريف بمؤلف هذا الكتاب:
مؤلف هذا الكتاب،
هو أبو القاسم، علىّ بن الطاهر أبى أحمد الحسين ابن موسى بن محمد بن إبراهيم بن
موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علىّ زين العابدين بن الحسين بن
علىّ بن أبى طالب رضى الله عنهم، وهو أخو الشريف
١ / ٢٨٥
الرضىّ،
وشيخ الشيعة ورئيسهم بالعراق، وكان مع تشيعه معتزليًا مبالغًا فى اعتزاله، وقد
تبحَّر ﵀ فى فنون العلم، وعُرِف بالإمامة فى الكلام والأدب، والشعر، وأخذ عن
الشيخ المفيد، وروى الحديث عن سهل الديباجى الكذَّاب، وله تصانيف كثيرة على مذهب
الشيعة ومقالة فى أصول الدين، وله ديوان شعر كبير، وله كتاب «الأمالى» الذى
سمَّاه «غُرَر الفوائد ودُرَر القلائد»، وجمع فيه بين التفسير الاعتزالى،
والحديث، والأدب، وهو ما نحن بصدد الكلام عنه الآن، واختلف الناس فى كتاب «نهج
البلاغة» المنسوب إلى الإمام علىّ بن أبى طالب، هل هو جمعه؟ أو جمع أخيه الشريف
الرضىّ؟. وبالجملة فقد كان الشريف المرتضى إمام أئمة العراق، يفزع إليه علماؤها،
ويأخذ عنه عظماؤها. وكانت ولادته سنة ٣٥٥ هـ (خمس وخمسين وثلاثمائة من الهجرة)،
وتوفى سنة ٤٣٦ هـ (ست وثلاثين وأربعمائة) ببغداد، ودُفن فى داره عَشية يوم وفاته،
فرضى الله عنه وأرضاه.
* *
* التعريف بهذا الكتاب وطريقة مؤلِّفه التى
سلكها فى التفسير:
كتاب غُرَر الفوائد ودُرَر القلائد، كتاب يشتمل على
محاضرات أو أمالى، أملاها الشريف المرتضى فى ثمانين مجلسًا، تشتمل على بحوث فى
التفسير والحديث، والأدب، وهو كتاب ممتع، يدل على فضل كثير، وتوسع فى الاطلاع على
العلوم، وهو لا يحيط بتفسير القرآن كله، بل ببعض من آياته التى يدور أغلبها حول
العقيدة، وعلى ضوء ما فسَّره من الآيات نستطيع أن نلقى نظرة فاحصة على تفسير
المعتزلة للقرآن فى ذلك العصر، كما نستطيع أن نقف على مبلغ جهود الشريف المرتضى
للتوفيق بين آرائه الاعتزالية وآيات القرآن التى تتصادم معها.
ونحن إذ نتكلم
عن أمالى الشريف المرتضى لا نتكلم عنها إلا من ناحية ما فيها من التفسير، أما
الناحية الحديثية والأدبية فلا تعنينا فى هذا البحث، وإن كان لها قيمتها ومكانتها
العلمية بين رجال الدين والأدب.
نتصفح كتاب الأمالى، ونجيل النظر بين ما فيه
من بحوث فى التفسير، فنجد السيد الشريف يسعى بكل جهوده إلى الوصول إلى مبادئه
الاعتزالية عن طريق التفسير، مستعينًا فى ذلك بنبوغه الأدبى، ومعرفته بفنون اللغة
وأساليبها، حتى إننا لنراه يقف من الآيات التى تعارضه موقفًا يلتزم فيه مخالفة
ظاهر القرآن، ويُفَضِّل فيه التفسير الملتوية لبعض الألفاظ على ما يتبادر منها
إرضاء لعقيدته، وتمشيًا مع مذهبه.
وإليك بعض الأمثلة من تفسيره للآيات التى
تدور حول العقيدة، لتقف على حقيقة الأمر، ولتلمس مقدار هذا التعصب المذهبى عند
هذا الشريف العلوى:
١ / ٢٨٦
* رؤية الله:
يقول
فى المجلس الثالث (جـ١ ص٢٨-٢٩):»مسألة - اعلم بأن أصحابنا قد اعتمدوا فى إبطال ما
ظنَّه أصحاب الرؤية فى قوله تعالى: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ * إلى
رَبِّهَا نَاظِرَةٌ﴾ على وجوه معروفة، لأنهم بيَّنوا أن النظر ليس يفيد الرؤية،
ولا الرؤية من أحد محتملاته، ودلُّوا على أن النظر ينقسم إلى أقسام كثيرة: منها
تقليب الحدقة الصحيحة فى جهة المرئى طلبًا للرؤية، ومنها النظر الذى هو الانتظار،
ومنها النظر الذى هو التعطف والمرحمة، ومنها النظر الذى هو الفكر والتأمل.
وقالوا: إذ لم يكن فى أقسام النظر الرؤية، لم يكن للقوم بظاهرها تعلق، واحتجنا
جميعًا إلى طلب تأويل الآية من جهة غير الرؤية. وتأوَّلها بعضهم على الانتظار
للثواب، وإن كان المُنّتَظَر فى الحقيقة محذوفًا، والمُنْتَظَر منه مذكورًا على
عادة للعرب معروفة. وسلَّم بعضهم أن النظر يكون الرؤية بالبصر. وحمل الآية على
رؤية أهل الجنَّة لنِعَم الله تعالى عليهم، على سبيل حذف المرئى فى الحقيقة. وهذا
كلام مشروح فى مواضعه، وقد بيَّنا ما يرد عليه، وما يُجاب به عن الشبهة المعترضة
فى مواضع كثيرة.
وههنا وجه غريب فى الآية، حُكى عن بعض المتأخرين، لا يفتقر
معتمده إلى العدول عن الظاهر، أو إلى تقدير محذوف، ولا يحتاج إلى منازعتهم فى أن
النظر يحتمل الرؤية أو لا يحتملها، بل يصح الاعتماد عليه، سواء أكان النظر
المذكور فى الآية هو الانتظار بالقلب أو الرؤية بالعين، وهو أن يُحمِل قوله
تعالى: ﴿إلى رَبِّهَا﴾، إلى أنه أراد نعمة ربها، لأن الآلاء النِعَم، وفى واحدها
أربع لغات، ألَى مثل قفَى، وألِى مثل رمِى، وإِلى مثل معىِ، وإِلى مثل حِنى. قال
أعشى بكر بن وائل:
أبيضُ لا يرهب الهزال ولا ... يقطع رَحْمًا ولا يخون
إلِى
أراد أنه لا خون نعمة. وأراد تعالى: ﴿إلى رَبِّهَا﴾، فأسقط التنوين
للإضافة؛ فإن قيل: فأى فرق بين هذه الوجه وبين تأويل مَن حمل الآية على أنه أراد
به: إلى ثواب ربها ناظرة، بمعنى: رائية لنعمه وثوابه؟ قلنا: ذلك الوجه يفتقر إلى
محذوف، لأنه إذا جعل «إلى» حرفًا، ولم يعلقها بالرب تعالى، فلا بد من تقدير
محذوف، وفى الجواب الذى ذكرناه لا يُفتقر إلى تقدير محذوف، لأن «إلى» فيه اسم
يتعلق به الرؤية، ولا يحتاج إلى تقدير غيره. والله أعلم بالصواب«.
*
*
الإرادة وحرية الأفعال:
وفى المجلس الرابع (جـ١ ص٣٠-٣٣) يقول ما نصه:»تأويل
آية - إن قال قائل: ما تأويل قوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تُؤْمِنَ
إِلاَّ بِإِذْنِ الله وَيَجْعَلُ الرجس عَلَى الذين
١ / ٢٨٧
لاَ
يَعْقِلُونَ﴾ [يونس: ١٠٠] .. فظاهر هذا الكلام يدل على أن الإيمان إنما كان لهم
فعله بإذنه وأمره، وليس هذا مذهبكم. وإن حُمِل الإذن هنا على الإرادة، اقتضى أن
مَن لم يقع منه الإيمان لم يرده الله منه، وهذا أيضًا بخلاف قولكم. ثم جعل الرجس
- الذى هو العذاب - على الذين لا يعقلون، ومَن كان فاقدًا لعقله لا يكون
مكلَّفًا. فكيف يستحق العذاب. وهو بالضد من الخبر المروى عن النبى ﷺ أنه قال:
«أكثر أهل الجنة البُله»؟.. الجواب: يقال له: فى قوله تعالى: ﴿إِلاَّ بِإِذْنِ
الله﴾ وجوه: منها أن يكون الإذن: الأمر، ويكون معنى الكلام أن الإيمان لا يقع إلا
بعد أن يأذن الله فيه ويأمر به، ولا يكون معناه ما ظنه السائل من أنه لا يكون
للفاعل فعله إلا بإذنه، ويجرى هذا مجرى قوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ
تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله﴾ [آل عمران: ١٤٥] .. ومعلوم أن معنى قوله: «ليس
لها» - فى هذه الآية. هو ما ذكرناه، وإن كان الأشبه فى هذه الآية التى ذُكِر فيها
الموت أن يكون المراد بالإذن: العلم، ومنها أن يكون الإذن هو: التوفيق والتيسير
والتسهيل. ولا شبهة فى أن الله يُوفِّق لفعل الإيمان ويلطف فيه، ويُسهِّل السبيل
إليه.. ومنها أن يكون الإذن: العلم، من قولهم: أذنتُ لكذا وكذا، إذا سمعته
وعلمتَه. وأذنتُ فلانًا بكذا، إذا أعلمته، فتكون فائدة الآية: الإخبار عن علمه
تعالى بسائر الكائنات، فإنه ممن لا تخفى عليه الخفيات. وقد أنكر بعض مَن لا بصيرة
له أن يكون الإذْن - بكسر الألف وتسكين الذال - عبارة عن العلم، وزعم أن الذى هو
العلم: الأُذن - بالتحريك - واستشهد بقول الشاعر:
إنَّ هَمَّى فى سماع
وأُذن
وليس الأمر على ما توهَّم هذا المتوهم، لأن الأذن هو المصدر، والإذن
هو اسم الفعل، فيجرى مجرى الحذَر، والحذَر فى أنه مصدر، والحذْر - بالتسكين -
الاسم. على أنه لو لم يكن مسموعًا إلا الأذن بالتحريك لجاز التسكين مثل: مثَل
ومثْل، وشَبه وشِبْه، ونظائر ذلك كثيرة.. ومنها أن يكون الإذن: العلم، ومعناه
إعلام الله المكلَّفين بفضل الإيمان وما يدعو إلى فعله، ويكون معنى الآية: وما
كان لنفس أن تؤمن إلا بإعلام الله لها بما يبعثها على الإيمان وما يدعوها إلى
فعله.. فأما ظن السائل دخول الإرادة فى محتمل اللفظ فباطل، لأن الإذن لا يحتمل
الإرادة فى اللُّغة، ولو احتملها أيضًا لم يجب ما توهمه، لأنه إذا قال: إن
الإيمان لا يقع إلا وأنا مريد له، لم ينف أن يكون مريدًا لما لم يقع، ولس فى صريح
الكلام ولا دلالته شئ من ذلك". ثم انتقل من هذا إلى كشف الشبهة عن معنى قوله:
﴿وَيَجْعَلُ الرجس عَلَى الذين لاَ يَعْقِلُونَ﴾ مما لا يتصل بعقيدته
الاعتزالية.
١ / ٢٨٨
وفى المجلس (٤١ جـ ٣ ص
٢-٤) يقول ما نصه:»تأويل آية - إن سأل سائل عن قوله تعالى: ﴿فَأيْنَ تَذْهَبُونَ
* إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ﴾ [التكوير: ٢٦-٢٧] ... إلى آخر الأية
فقال: ما تأويل هذه الآية؟ أو ليس ظاهرها يقتضى أنَّا لا نشاء شيئًا إلا والله
تعالى شاءه، ولم يخصّ إيمان من كفر، ولا طاعة من معصية..؟ الجواب: الوجه المذكور
فى هذه الآية أن الكلام متعلق بما تقدمه من ذكر الاستقامة، لأنه تعالى قال:
﴿لِمَن شَآءَ مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ﴾ ثم قال: ﴿وَمَا تَشَآءُونَ إِلاَّ أَن
يَشَآءَ الله رَبُّ العالمين﴾: أى ما تشاءون الاستقامة إلا والله تعالى مريد لها،
ونحن لا ننكر أن يريد الله تعالى الطاعات، وإنما أنكرنا إرادته المعاصى وليس لهم
أن يقولوا: تقدم ذكر الاستقامة لا يوجب قصر الكلام عليها ولا يمنع من عمومه، كما
أن السبب لا يوجب قصر ما يخرج من الكلام عليه حتى لا يتعداه، وذلك أن الذى ذكروه
إنما يجب فيما يستقل بنفسه من الكلام دون ما لا يستقْل.. وقوله تعالى: ﴿وَمَا
تَشَآءُونَ إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله﴾ لا ذكر للمراد فيه، فهو غير مستقل بنفسه،
وإذا علق بما تقدم من ذكر الاستقامة استقل. على أنه لو كان للآية ظاهر يقتضى ما
ظنُّوه - وليس لها ذلك - لوجب الانصراف عنه بالأدلة الثابتة على أنه تعالى لا
يريد المعاصى ولا القبائح. على أن مخالفينا فى هذه المسألة لا يمكنهم حمل الآية
على العموم، لأن العباد قد يشاءون عندهم ما لا يشاؤه الله تعالى بأن يريدوا الشئ
ويعزموا عليه فلا يقع لمانع، ممتنعًا كان أو غيره. وكذلك قد يريد النبى ﵊ من
الكفار والإيمان، وقد تعبدنا بأن نريد من المقدم على القبيح تركه، وإن كان تعالى
عندهم لا يريد ذلك إذا كان المعلوم أنه لا يقع، فلا بد لهم من تخصيص الآية، فإذا
جاز لهم ذلك بالشبهة، جاز لنا مثله بالحُجَّة، وتجرى هذه الآية مجرى قوله تعالى:
﴿إِنَّ هاذه تَذْكِرَةٌ فَمَن شَآءَ اتخذ إلى رَبِّهِ سَبِيلًا* وَمَا تَشَآءُونَ
إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله﴾ [الإنسان: ٢٩-٣٠] .. وقوله تعالى: ﴿وَمَا يَذْكُرُونَ
إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله﴾ [المدثر: ٥٦] فى تعلق الكلام بما قبله..
فإن
قالوا: فالآية تدل على صحة مذهبنا من وجه وبطلان مذهبكم من وجه آخر، وهو أنه ﷿
قال: ﴿وَمَا تَشَآءُونَ إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله﴾ . وذلك يقتضى أنه يشاء
الاستقامة فى حال مشيئتنا لها لأن «أن» الخفيفة إذا دخلت على الفعل المضارع اقتضت
الاستقبال، وهذا يوجب أنه يشاء أفعال العباد فى كل حال، ويبطل ما تذهبون إليه من
أنه إنما يريد الطاعات فى حال الأمر، قلنا: ليس فى ظاهر الآية أنَّا لا نشاء إلا
ما شاءه الله تعالى فى حال مشيئتنا كما ظننتم، وإنما يقتضى حصول مشيئته لما
نشاءوه من الاستقامة من غير ذكر لتقدم ولا
١ / ٢٨٩
تأخر،
ويجرى ذلك مجرى قول القائل: ما يدخل زيد هذه الدار إلا أن يدخلها عمرو، ونحن نعلم
أنه غير واجب بهذا الكلام أن يكون دخولهما فى حالة واحدة، بل لا يمتنع أن يتقدم
دخول عمرو، ويتلوه دخول زيد. و«أن» الخفيفة وإن كانت للاستقبال - على ما ذكر -
فلم يبطل على تأويلنا معنى الاستقبال فيها، لأن تقدير الكلام: وما تشاءون الطاعات
إلا بعد أن يشاء الله تعالى. ومشيئته تعالى قد كانت لها حال الاستقبال. وقد ذهب
أبو على الجبائى إلى أنه لا يمتنع أن يريد تعالى الطاعات حالًا بعد حال، وإن كان
قد أرادها فى حال الأمر، كما يصح أن يأمر بها أمرًا بعد أمر، قال: لأنه قد يصح أن
يتعلق بإرادته ذلك منا بعد الأمر وفى حال الفعل مصلحة. ويعلم تعالى أنَّا نكون
متى علمنا ذلك كنا إلى فعل الطاعات أقرب، وعلى هذا المذهب لا يُعترض بما ذكروه..
والجواب الأول واضح إذا لم نذهب إلى مذهب أبى علىّ فى هذا الباب. على أن اقتضاء
الآية للاستقبال من أوضح دليل على فساد قولهم، لأن الكلام إذا اقتضى حدوث المشيئة
وأبطل استقبالها بطل قول من قال منهم: إنه مريد بنفسه، أو مريد بإرادة قديمة،
وصحَّ ما نقوله من أن إرادته مُحْدَثة مُجَدَّدة. ويمكن فى تأويل الآية وجه آخر
مع حملنا إياها على العموم من غير أن نخصها بما تقدَّم ذكره من الاستقامة، ويكون
المعنى: وما تشاءون شيئًا من فعالكم إلا أن يشاء الله تمكينكم من مشيئتكم،
وإقداركم عليها، والتخلية بينكم وبينها. وتكون الفائدة فى ذلك الإخبار عن
الافتقار إلى الله تعالى، وأنه لا قدرة على ما لم
يُقَدِّره الله تعالى ﷿.
وليس يجب عليه أن يستبعد هذا الوجه، لأن ما تتعلق به المشيئة فى الآية محذوف غير
مذكور، وليس لهم أن يُعلِّقوا قوله تعالى: ﴿إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله﴾ بالأفعال،
دون تعلقه بالقُدرة، لأن كل واحد من الأمرين غير مذكور، وكل هذا واضح بحمد
الله.
فأنت ترى من هذه المُثُل وغيرها لو رجعت إليها فى مكانها أن الشريف
المرتضى تأثر فى تأويله للآيات القرآنية بعقيدته الاعتزالية ودافع بكل ما يستطيع
عن مذهبه، ورَدَّ كل شُبهة تَرِد عليه بما يدل على قوة ذهنه وسعة اطلاعه.
*
*
* رفضه لبعض ظواهر القرآن:
كذلك نجد الشريف المرتضى - كغيره من
المعتزلة - يرفض بشدة المعانى القرآنية الظاهرة، التى تبدو فى أول أمرها
مُسْتبعدَة مُسْتغرَبة، والتى يجوِّزها أهل السُّنَّة ويرونها أولى بأن يُحمل
اللفظ عليها من غيرها، ويتخلص من ذلك إما بحمل اللفظ على معنى حقيقى آخر لا غرابة
فيه، وإما بحمله على التمثيل أو التخييل، ونجد لذلك مثلًا جليًا واضحًا فى المجلس
الثالث (جـ١ ص٢٠، ٢٢) حيث يقول ما نصه: قال الله تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ
مِن بنيءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ على أَنفُسِهِمْ
أَلَسْتُ
١ / ٢٩٠
بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بلى
شَهِدْنَآ أَن تَقُولُواْ يَوْمَ القيامة إِنَّا كُنَّا عَنْ هاذا غَافِلِينَ *
أَوْ تقولوا إِنَّمَآ أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن
بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ المبطلون﴾ [الأعراف: ١٧٢-١٧٣] ..
وقد
ظنّ بعض مَن لا بصيرة له ولا فطنة عنده، أن تأويل هذه الآية: أن الله استخرج من
ظهر آدم جميع ذُرِّيته وهم فى خلق الذَّر، فقررهم بمعرفته، وأشهدهم على أنفسهم.
وهذا التأويل مع أن العقل يبطله ويحيله، مما يشهد ظاهر القرآن بخلافه، لأن الله
تعالى قال: ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بنيءَادَمَ﴾، ولم يقل: من ظهره. وقال:
﴿ذُرِّيَّتَهُمْ﴾، ولم يقل: ذُرِّيته. ثم أخبر تعالى بأنه فعل ذلك لئلا يقول إنهم
كانوا عن هذا غافلين. أو يعتذروا بشرك آبائهم، وأنهم نشئوا على دينهم وسُنَّتهم،
وهذا يقتضى أن الآية لم تتناول ولد آدم لصلبه، وأنها تناولت من كان له آباء
مشركون، وهذا يدل على اختصاصها ببعض ولد آدم، فهذه شهادة الظاهر ببطلان تأويله.
فأما شهادة العقل؛ فمن حيث لا تخلو هذه الذُرِّية التى استُخْرِجت من ظهر آدم
فخوطبت وقُرِرت من أن تكون كاملة العقول مستوفية لشروط التكليف، أو لا تكون كاملة
العقول مستوفية لشروط التكليف، فإن كانت بالصفة الأولى وجب أن يذكر هؤلاء بعد
خلقهم وإنشائهم وإكمال عقولهم ما كانوا عليه فى تلك الحال، وما قُرِروا به
واستُشْهِدوا عليه، لأن العاقل لا ينسى ما يجرى هذا المجرى وإن بَعُدَ العهد وطال
الزمان، ولهذا لا يجوز أن يتصرف أحدنا فى بلد من البلدان وهو عاقل كامل، فينسى مع
بُعْد العهد جميع تصرفه المتقدم وسائر أحواله، وليس أيضًا لتخلل الموت بين
الحالتين تأثير، لأنه لو كان تخلل الموت يزيل الذِكْر، لكان تخلل النوم، والسُكر،
والجنون، والإغماء من أحوال العقلاء يزيل ذِكْرهم لما مضى من أحوالهم، لأن سائر
ما عددناه مما ينفى العلوم يجرى مجرى الموت فى هذا. وليس لهم أن يقولوا: إذا جاز
فى العاقل الكامل أن ينسى ما كان عليه فى حال الطفولية جاز ما ذكرناه، وذلك إنما
أوجبنا ذكرالعقلاء لما ادَّعوه إذا كملت عقولهم، من حيث يجرى عليهم وهم كاملو
العقول، ولو كانوا بصفة الأطفال فى تلك الحال لم نوجب عليهم ما أوجبناه. على أن
تجويز النسيان عليهم ينقض الغرض فى الآية، وذلك أن الله تعالى أخبرنا بأنه إنما
قررهم وأشهدهم، لئلا يدَّعوا يوم القيامة الغفلة وسقوط الحُجَّة عنهم، فإذا جاز
نسيانهم له، عاد الأمر إلى سقوط
الحُجَّة وزوالها، وإن كانوا على الصفة
الثانية من فقد العقل وشرائط التكليف، قبح خطابهم، وتقريرهم، وإشهادهم، وصار ذلك
عبثًا قبيحًا. فإن قيل: قد أبطلتم قول مخالفيكم، فما تأويلها الصحيح عندكم؟.
قلنا: فى الآية وجهان، أحدهما: أن يكون تعالى إنما عَنِىَ بها جماعة من ذُرِّية
بنى آدم، خلقهم، وبلَّغهم، وأكمل
١ / ٢٩١
عقولهم،
وقرَّرهم على ألسن رسله ﵈ بمعرفته، وما يجب من طاعته، فأُمِروا بذلك، وأشهدهم على
أنفسهم لئلا يقولوا يوم القيامة: إنَّا كنا عن هذا غافلين، أو يعتذروا بشرك
آبائهم. وإنما أُتِىَ مَن اشتبه عليه تأويل الآية من حيث ظن أن اسم الذُرِّية لا
يقع إلى على مَن لم يكن عاقلًا كاملًا، وليس الأمر كما ظن، لأنه سمى جميع البَشر
بأنهم ذُرِّية آدم وإن دخل فيهم العقلاء الكاملون، وقد قال تعالى: ﴿رَبَّنَا
وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ التي وَعَدْتَّهُمْ وَمَن صَلَحَ مِنْ آبَآئِهِمْ
وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ﴾ [غافر: ٨] ولفظ «الصالح» لا يُطلق إلا على
مَن كان كاملًا عاقلًا، فإن استبعدوا تأويلنا وحملنا الآية على البالغين
المكلَّفين فهذا جوابهم.
والجواب الثانى: أنه تعالى لما خلقهم وركبَّهم
تركيبًا يدل على معرفته، ويشهد بقدرته ووجوب عبادته، فأراهم العِبر، والآيات،
والدلائل، فى أنفسهم وفى غيرهم، كان بمنزلة المُشْهِد لهم على أنفسهم وكانوا فى
مشاهدة ذلك ومعرفته، وظهوره فيهم على الوجه الذى أراده الله تعالى وتعذَّر
امتناعهم منه وانفكاكهم من دلالته، بمنزلة المُقِّر المعترف وإن لم يكن هناك
إشهاد ولا اعتراف على الحقيقة، ويجرى ذلك مجرى قوله تعالى: ﴿ثُمَّ استوى إِلَى
السمآء وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائتيا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا
قَالَتَآ أَتَيْنَا طَآئِعِينَ﴾ [فصلت: ١١]، وإن لم يكن منه تعالى قول على
الحقيقة، ولا منهما جواب. ومثله قوله تعالى: ﴿شَاهِدِينَ على أَنْفُسِهِمْ
بِالْكُفْرِ﴾ [التوبة: ١٧]، ونحن نعلم أن الكفار لم يعترفوا بالكفر بألسنتهم،
وإنما ذلك لَمَّا ظهر منهم ظهورًا لا يتمكنون من دفعه، كانوا بمنزلة المعترفين
به، ومثل هذا قولهم: جوارحى تشهد بنعمتك، وحالى معترفة بإحسانك، وما رُوى عن بعض
الحكماء من قوله: سل الأرض مَن شق أنهارِك؟ وغرس أشجارك؟ وجنى ثمارِك؟ فإن لم
تجبك جؤارًا، أجابتك اعتبارًا، وهذا باب كبير، وله نظائر كثيرة فى النظم والنثر،
يُغنى عن ذكر جميعها القدر الذى ذكرناه منها.
* *
الطريقة اللُّغوية فى
تفسيره للقرآن:
ثم إننا نجد الشريف المرتضى، قد ولع بالطريقة اللُّغوية فى
تفسيره للآيات القرآنية، وحرص كل الحرص على تطبيق هذا المبدأ اللُّغوى، الذى
يُعتبر الأصل المهم من قواعد التفسير عند المعتزلة، وكثيرًا ما نراه يُظهر مهارة
فائقة فى استعماله لهذه الطريقة عندما يساوره الشك فى ظاهر اللفظ الذى يتعلق
بالعقيدة، فنراه يفسِّره تفسيرًا مقبولًا لديه، يقوم على أساس من الأسس
اللُّغوية. والحق أن الشريف المرتضى قد ظهر تفوقه العلمى الصحيح، عند تطبيقه لهذا
المبدأ، وذلك راجع إلى تمكنه العظيم من اللُّغة والشعر القديم، ولهذا نجده لا
يُعتبر من التفاسير اللُّغوية إلا ما كان له شاهد من اللُّغة أو
١
/ ٢٩٢
الشعر العربى القديم. أما التفسير المطلق، الذى لا يعتمد
على شاهد من ذلك، فإنه يرفضه ولا يرضاه. وإليك بعض الأمثلة التى تصوِّر لك عناية
المرتضى بهذا المبدأ اللُّغوى.
ففى المجلس (٢٣ جـ ٢ ص ٦-٩) يقول ما نصه: إن
سأل سائل عن قوله تعالى: ﴿تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي
نَفْسِكَ﴾ [المائدة: ١١٦]، ما المراد بالنفس فى هذه الآية وهل المعنى فيها
كالمعنى فى قوله: ﴿وَيُحَذِّرُكُمُ الله نَفْسَهُ﴾ [آل عمران: ٢٨، ٣٠] أو يخالفه؟
أو يطابق معنى الآيتين؟ والمراد بالنفس فيهما ما رواه أبو هريرة عن النبى ﷺ أنه
قال: «يقول الله ﷿: إذا أحبَّ العبدُ لقائى أحببتُ لقاؤه، وإذا ذكرنى فى نفسه
ذكرته فى نفسى، وإذا ذكرنى فى مَلإٍ ذكرته فى مَلإٍ خير منه، وإذا تقرَّب إلىّ
ذراعًا تقرَّبتُ إليه باعًا» أو لا يطابقه؟.. الجواب: قلنا: إن النفس فى اللغة
لها معان مختلفة. ووجوه فى التصرف متباينة؛ فالنفس نفس الإنسان وغيره من الحيوان،
وهى التى إذا فقدها خرج عن كونه حيًا، ومنه قوله تعالى: ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ
الموت﴾ [آل عمران: ١٨٥] .. والنفس: ذات الشئ الذى يُخبر عنه، كقولهم: فعلً ذلك
فلان نفسه، إذا تولى فعله، والنفس: الأنفة، من قولهم: ليس لفلان نفس، أى لا أنفة
له، والنفس: الإرادة، من قولهم: نفس فلان فى كذا، أى إرادته. قال الشاعر:
فنفساى
نفس قالت إئت ابن بجدل ... تجد فرجًا من كل غم تهابها
ونفس تقول اجهد نجاك
فلا تكن ... كخاصبة لم يغن شيئًا خضابها
ومنه: أن رجلًا قال للحسن البصرى:
يا أبا سعيد؛ لم أحجج قط، فنفس تقول لى: حج، ونفس تقول لى: تزوج، فقال الحسن: أما
النفس فواحدة، ولكن لك هم يقول: حج، وهم يقول: تزوج، وأمره بالحج. وقال الممزق
العبدى، ويروى لمعقر بن حمار البارقى:
ألا مَن لعين قد نآها حميمها ...
وأرَّقنى بعد المنام همومها
فباتت لها نفسان، شتَّى همومها ... فنفس تعزيها،
ونفس تلومها
وقال نمر من تولب العكلى:
أما خليلى، فإنى لستُ معجله ...
حتى يؤامر نفسيه كما زعما
نفس له من نفوس القوم صالحة ... تعطى الجزيل، ونفس
ترضع الغنما
أراد أنه بين نفسين: نفس تأمره بالجود، وأخرى تأمره بالبخل،
وكَنَّى برضاع الغنم عن البخل، لأن البخيل يرضع اللبن من الشاة ولا يحلبها، لئلا
يسمع الضيف صوت الشخب فيهتدى إليه، ومنه قيل: لئيم راضع، وقال كثير:
فأصبحتُ
ذا نفسين: نفس مريضة ... من الناس، ما ينفك هم يعودها
١ /
٢٩٣
ونفس ترجى وصلها بعد صرمها ... تجمل كى يزداد غيظًا
حسودها
والنفس: العين التى تصيب الإنسان يقال: أصابت فلانًا نفس: أى عين،
وروُى أن رسول الله ﷺ كان يرقى فيقول: «بسم الله أرقيك، واللهُ يشفيك، من كل داء
يؤذيك، وداء هو فيك، من كل عين عائن، ونفس نافس، وحسد حاسد».
وقال ابن
الأعرابى: النفوس: التى تصيب الناس بالنفس، وذكر رجلًا فقال: كان واللهِ حسودًا
نفوسًا كذوبًا، وقال عبد الله بن قيس الرقيات، وهو قرشى:
يتقى أهلها النفوس
عليها ... فعلى نحرها الرقى والتميم
وقال مضرس الفقعسى:
وإذا نموا
صعدًا فليس عليهم ... منا الخيال ولا نفوس الحُسَّدِ
وقال ابن هرمة، يمدح
عبد الواحد بن سليمان بن عبد الملك:
فاسلم، سلمتَ من المكاره والردى ...
وعثارها، ووُقيتَ نفس الحُسَّدِ
والنفس أيضًا من الدباغ بمقدار الدبغة،
تقول: أعطنى نفسًا من دباغ، أى قدر ما أدبغ به مرة. والنفس: الغيب، يقول القائل:
إنى لا أعلم نفس فلان: أى غيبه. وعلى هذا تأويل قوله تعالى: ﴿تَعْلَمُ مَا فِي
نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ﴾ [المائدة: ١١٦]: أى تعلم غيبى وما
عندى، ولا أعلم غيبك. وقيل: إن النفس أيضًا: العقوبة، من قولهم: أحذرك نفسى: أى
عقوبتى وبعض المفسِّرين يحمل قوله تعالى: ﴿وَيُحَذِّرُكُمُ الله نَفْسَهُ﴾ [آل
عمران: ٢٨، ٣٠] على هذا المعنى كأنه: يحذركم عقوبته، وروى ذلك عن ابن عباس والحسن
وآخرين، قالوا: معنى الآية: يحذركم الله إياه. وقد رُوى عن الحسن ومجاهد فى قوله
تعالى: ﴿تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ﴾ ما ذكرناه من
التأويل بعينه.
فإن قيل: ما وجه تسميته «الغيب» بأنه نفس؟ قلنا: لا يمتنع أن
يكون الوجه فى ذلك: أن نفس الإنسان لما كانت خفية الموضع، نزل ما يكتمه ويجتهد فى
ستره منزلتها، وسمى باسمها فقيل فيه: إنه نفسه، مبالغة فى وصفه بالكتمان والخفاء.
وإنما حَسُن أن يقول تعالى مخبرًا عن نبيه ﵊: ﴿وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ﴾
من حيث تقدم قوله تعالى: ﴿تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي﴾ ليزدوج الكلام، ولهذا لا
يحسن ابتداءً: أنا لا أعلم ما فى نفس الله تعالى وإن حَسُنَ على الوجه الأول،
ولهذا نظائر فى الاستعمال مشهورة مذكورة. فأما الخبر الذى يرويه السائل فتأويله
ظاهر، وهو خارج على مذهب العرب فى مثل هذا الباب المعروف، ومعناه: أن مَن ذكرنى
فى نفسه جاريته على ذكره لى، وإذا تقرَّب إلىّ شِبْرًا جازيته على تقربه إلىّ..
وكذلك الخبر إلى آخره، فسمى المجازاة على الشئ باسمه اتساعًا، كما قال تعالى:
﴿وَجَزَآءُ
١ / ٢٩٤
سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ
مِّثْلُهَا﴾ [الشورى: ٤٠]، ﴿وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ الله﴾ [الأنفال: ٣٠]، ﴿الله
يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ﴾ [البقرة: ١٥] .. وكما قال الشاعر:
ألا لا يجهلن أحد
علينا ... فنجهل فوق جهل الجاهلينا
ونظائر هذا كثير فى كلام العرب. ولما
أراد تعالى المبالغة فى وصف ما يفعله به من الثواب والمجازاة على تقربه بالكثرة
والزيادة، كَنَّى عن ذلك بذكر المسافة المتضاعفة فقال: باعًا وذراعًا، إشارة إلى
المعنى من أبلغ الوجوه وأحسنها.
وقال فى المجلس (٤٥ جـ٣ ص ٤٦-٥٠) ما نصه: إن
سأل سائل عن معنى قوله تعالى: ﴿كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ﴾ [القصص:
٨٨]، وقوله تعالى: ﴿إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ الله﴾ [الإنسان: ٩]، وقوله
تعالى: ﴿ويبقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الجلال والإكرام﴾ [الرحمن: ٢٧] .. وما شاكل ذلك
من آى القرآن المتضمنة لذكر الوجه.. الجواب: قلنا: الوجه ينقسم فى اللغة العربية
إلى أقسام: فالوجه المركَّب فيه العينان من كل حيوان. والوجه أيضًا: أول الشئ
وصدره. ومن ذلك قوله تعالى: ﴿وَقَالَتْ طَّآئِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الكتاب آمِنُواْ
بالذي أُنْزِلَ عَلَى الذين آمَنُواْ وَجْهَ النهار واكفروا آخِرَهُ﴾ [آل عمران:
٧٢]: أى أول النهار، ومنه قول الربيع ابن زياد:
مَن كان مسرورًا بمقتل مالك
... فليأت نسوتنا بوجه نهار
أى غداة كل يوم، وقال قوم: وجه نهار: اسم موضع.
والوجه: القصد بالفعل، من ذلك قوله تعالى: ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ
أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله﴾ [النساء: ١٢٥] .. وقال الفرزدق:
وأسلمتُ وجهى حين
شدَّت ركائبى ... إلى آل مروان بناة المكارم
أى جعلتُ قصدى وإرادتى لهم.
وأنشد الفرَّاء:
أستغفر الله ذنبًا لستُ محصيه ... رَبُّ العباد إليه الوجِه
والعمل
أى القصد، ومنه قولهم فى الصلاة: وَجهَّتُ وجهى للذى فَطَرَ السماوات
والأرض: أى قصدتُ قصدى بصلاتى وعملى، وكذلك قوله تعالى: ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ
لِلدِّينَ القيم﴾ [الروم: ٤٣] ..
والوجه: الاحتيال فى الأمر، من قولهم: كيف
الوجه لهذا الأمر، وما الوجه فيه، أى الحيلة. والوجه: الذهاب والجهة والناحية.
قال حمزة ابن بيض الحنفى:
أى الوجوه انتجعت؟ قلت لهم ... لأى وجه إلا إلى
الحكم
متى يقل صاحبًا سرادقه ... هذا ابن بيض الباب يبتسم
والوجه:
القدر والمنزلة، ومنه قولهم: لفلان وجه عريض، وفلان أوجه مِن فلان، أى أعظم قدرًا
وجاهًا، ويقال: أوجهه السلطان، إذا جعل له جاهًا. قال امرؤ القيس:
١
/ ٢٩٥
ونامت قيصر فى ملكه ... فأوجهنى وركبت البريدا
يقال:
حمل فلانًا على البريد إذا هيَّأ له فى كل مرحلة مركبًا ليركبه، فإذا وصل إلى
المرحلة الأخرى نزل عن المعيى وركب المرفَّه.. وهكذا إلى أن يصل إلى مقصده.
والوجه:
الرئيس المنظور إليه، يقال: فلان وجه القوم، وهو وجه عشيرته. ووجه الشئ: نفسه
وذاته، قال أحمد بن جندل:
ونحن حفزنا الحوفزان بطعنة ... فأفلت منها وجهه
عتد بها
أراد أفلته ونجَّاه، ومن ذلك قولهم: إنما أفعل ذلك لوجهك، ويدل
أيضًا على أن الوجه يُعَبَّرُ به عن الذات، قوله تعالى: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ
نَّاضِرَةٌ * إلى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ *وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ * تَظُنُّ
أَن يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ﴾ [القيامة: ٢٢-٢٥]، وقوله تعالى: ﴿وُجُوهٌ
يَوْمَئِذٍ نَّاعِمَةٌ * لِّسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ﴾ [الغاشية: ٨-٩]، لأن جميع ما
أضيف إلى الوجوه فى ظاهر الآى من النظر والظن والرضا لا يصح إضافته على الحقيقة
إليها، وإنما يضاف إلى الجملة، فمعنى قوله تعالى: ﴿كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ
وَجْهَهُ﴾، أى كل شئ هالك إلا إياه. فكذلك قوله تعالى: ﴿كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا
فَانٍ * ويبقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الجلال والإكرام﴾ [الرحمن: ٢٦-٢٧]؛ لما كان
المراد بالوجه نفسه لم يقل: «ذى» كما قال: ﴿تَبَارَكَ اسم رَبِّكَ ذِي الجلال
والإكرام﴾ [الرحمن: ٧٨] لما كان اسمه غيره.. ويمكن فى قوله تعالى: ﴿كُلُّ شَيْءٍ
هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ﴾ [القصص: ٨٨]، وجه آخر - وقد روى عن بعض المتقدمين - وهو
أن يكون المراد بالوجه ما يُقصد به إلى الله تعالى، ويُوجَّه به إليه، نحو
القُربة إليه جَلَّت عظمته، فيقول: لا تشرك بالله ولا تدع إلَهًا غيره، فإنَّ كل
فعل يُتقرب به إلى غيره، ويُقصد به سواه فهو هالك باطل، وكيف يسوغ للمشبهة أن
يحملوا هذه الآية والتى قبلها على الظاهر؟ أوَ ليس ذلك يُوجب أنه تعالى يفنى
ويبقى وجهه، وهذا كفر وجهل من قائله.. فأما قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ
لِوَجْهِ الله﴾ [الإنسان: ٩]، وقوله: ﴿إِلاَّ ابتغآء وَجْهِ رَبِّهِ الأعلى﴾
[الليل: ٢٠]، وقوله: ﴿وَمَآ آتَيْتُمْ مِّن زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ الله﴾
[الروم: ٣٩]، فمحمول على أن هذه الأفعال مفعولة له، ومقصود بها ثوابه والقُربة
إليه، والزلفى عنده. فأما قوله تعالى: ﴿فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ
الله﴾ [البقرة: ١١٥]، فيُحتمل أن يُراد به فثَمَّ الله، لا على معنى الحلول، ولكن
على معنى التدبير والعلم. ويحتمل أيضًا أن يُراد به: فَثَمَّ رضا الله وثوابه
والقُربة إليه. ويُحتمل أن يكون المراد بالوجه: الجهة، ويكون
الإضافة
١
/ ٢٩٦
بمعنى: الملك، والخلق، والإنشاء، والإحداث، لأنه ﷿ قال:
﴿وَللَّهِ المشرق والمغرب فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ الله﴾ [البقرة:
١١٥]: أى أن الجهات كلها لله، وتحت ملكه، وكل هذا واضح بَيِّنٌ بحمد الله.
ونراه
يقول فى المجلس (٣٩ جـ٢ ص ٥٣-٥٦) ما نصه: إن سأل سائل عن قوله تعالى: ﴿أولائك
لَهُمْ نَصِيبٌ مِّمَّا كَسَبُواْ والله سَرِيعُ الحساب﴾ [البقرة: ٢٠٢] فقال:
أىُّ تَمدُّح فى سرعة الحساب وليس بظاهر وجه المدح فيه؟ الجواب: قلنا: فى ذلك
وجوه:
أولها: أن يكون المعنى أنه سريع الحساب للعباد على أعمالهم، وأن وقت
الجزاء قريب وإن تأخر، ويجرى مجرى قوله تعالى: ﴿وَمَآ أَمْرُ الساعة إِلاَّ
كَلَمْحِ البصر أَوْ هُوَ أَقْرَبُ﴾ [النحل: ٧٧]، وإنما جاز أن يُعبَّر عن
المجازاة أو الجزاء بالحساب، لأن ما يُجازَى به العبد هو كفؤ لفعله وبمقداره، فهو
حساب له إذا كان مماثلًا مكافئًا. ومما يشهد بأن فى الحساب معنى المكافأة قوله
تعالى: ﴿جَزَآءً مِّن رَّبِّكَ عَطَآءً حِسَابًا﴾ [النبأ: ٣٦]: أى عطاءً كافيًا.
ويقال: أحسبنى الطعام يحسبنى إحسابًا: إذا كفانى. قال الشاعر:
وإذ لا ترى فى
الناس حُسنًا يفوتها ... وفى الناس حُسنًا لو تأملت محسب
معناه: كاف.
وثانيها:
أن يكون المراد أنه ﷿ يُحاسِب الخلق جميعًا فى أوقات يسيرة. ويقال: إن مقدار ذلك
حلب شاة، لأنه تعالى لا يشغله محاسبة بعضهم عن محاسبة غيره، بل يكلمهم جميعًا،
ويحاسبهم كلهم على أعمالهم فى وقت واحد، وهذا أحد ما يدل على أنه تعالى ليس بجسم،
وأنه لا يحتاج فى فعل الكلام إلى آلة، لأنه لو كان بهذه الصفات - تعالى عنها -
لما جاز أن يخاطب اثنين فى وقت واحد بمخاطبتين مختلفتين، ولكان خطاب بعض الناس
يشغله عن خطاب غيره ولكانت مدة محاسبته للخلق على أعمالهم طويلة غير قصيرة، كما
أن جميع ذلك واجب فى المُحدِّثين الذين يفتقرون فى الكلام إلى الآلات.
وثالثها:
ما ذكره بعضهم من أن المراد بالآية أنه سريع العلم بكل محسوب، وأنه لما كانت عادة
بنى الدنيا أن يستعملوا الحساب والإحصاء فى أكثر أمورهم، أعلمهم الله أنه يعلم ما
يحسبون بغير حساب، وإنما سمى العلم حسابًا، لأن الحساب إنما يُراد به العلم، وهذا
جواب ضعيف، لأن العلم بالحساب أو المحسوب لا يُسمى حسابًا، ولو سُمى بذلك لما جاز
أيضًا أن يقال: إنه سريع العلم بكذا، لأن علمه بالأشياء مما لا يتجدد فيوصف
بالسرعة.
ورابعها: أن الله تعالى سريع القبول لدعاء عباده والإجابة لهم،
وذلك أنه يُسئل فى
١ / ٢٩٧
وقت واحد سؤالات
مختلفة من أمور الدنيا والآخر، فيجزى كل عبد بمقدار استحقاقه ومصلحته، فيوصل إليه
عند دعائه ومسألته ما يستوجبه بحد ومقدار، فلو كان الأمر على ما يتعارفه الناس
لطال العدد واتصل الحساب، فأعلمنا تعالى أنه سريع الحساب، أى سريع القبول للدعاء
بغير إحصاء، وبحث عن المقدار الذى يستحقه الداعى. كما يبحث المخلوقون للحساب
والإحصاء. وهذا جواب مبنى أيضًا على دعوى أن قبول الدعاء يُسمى حسابًا، ولم يُعهد
ذلك فى لغة، ولا عُرف ولا شرع. وقد كان يجب على مَن أجاب بهذا الجواب، أن يستشهد
على ذلك بما يكون حُجَّة فيه، وإلا فلا طائل فيما ذكره. ويمكن فى الآية وجه آخر:
وهو أن يكون المراد بالحساب محاسبة الخلق على أعمالهم يوم القيامة، ومواقفهم
عليها، وتكون الفائدة، فى الإخبار بسرعته: الإخبار عن قرب الساعة، كما قال تعالى:
﴿سَرِيعُ العقاب﴾ [الأنعام: ١٦٥]، وليس لأحد أن يقول: فهذا هو الجواب الأول الذى
حكيتموه وذلك أن بينهما فرقًا، لأن الأول مبنى على أن الحساب فى الآية هو الجزاء
والمكافأة على الأعمال، وفى هذا الجواب لم يخرج الحساب عن بابه، وعن معنى
المحاسبة المعروفة، والمقابلة بالأعمال وترجيحها، وذلك غير الجزاء الذى يفضى
الحساب إليه. وقد طعن بعضهم فى الجواب الثانى معترضًا على أبى علىّ الجبائى فى
اعتماده إياه، بأن قال: مخرج الكلام فى الآية على وجه الوعيد، وليس فى خفة الحساب
وسرعة زمانه ما يقتضى زجرًا، ولا هو مما يُتوعد بمثله فيجب أن يكون المراد
الإخبار عن قرب أمر الآخرة، والمجازاة على الأعمال. وهذا الجواب ليس أبو علىّ
المبتدئ به، بل قد حُكى عن الحسن البصرى، واعتمده أيضًا قطرب بن المستنير النحوى،
وذكره الفضل بن سلمة، وليس الطعن الذى حكيناه عن هذا الطاعن بمبطل له، لأنه اعتمد
على أن مخرج الآية مخرج الوعيد، وليس كذلك، لأنه تعالى قال: ﴿فَمِنَ الناس مَن
يَقُولُ رَبَّنَآ آتِنَا فِي الدنيا وَمَا لَهُ فِي الآخرة مِنْ خَلاَقٍ *
وِمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ رَبَّنَآ آتِنَا فِي الدنيا حَسَنَةً وَفِي الآخرة
حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ
النار * أولائك لَهُمْ نَصِيبٌ مِّمَّا كَسَبُواْ
والله سَرِيعُ الحساب﴾ [البقرة: ٢٠٠-٢٠٢]، فالأشبه بالظاهر أن يكون وعدًا
بالثواب، وراجعًا إلى الذين يقولون: ربنا آتنا فى الدنيا حسنة وفى الآخرة حسنة
وقنا عذاب النار، أو يكون راجعًا إلى الجميع، فيكون المعنى: أن للجميع نصيبًا مما
كسبوا، فلا يكون وعيدًا خالصًا: بل إما أن يكون وعدًا خالصًا، أو وعدا ووعيدًا.
على أنه لو كان وعيدًا خالصًا على ما ذكر الطاعن لكان لقوله تعالى: ﴿والله
سَرِيعُ الحساب﴾ على تأويل مَن أراد قصر الزمان وسرعة الموافقة وجه وتعلق بالوعد
والوعيد، لأن الكلام على كل حال متضمن لوقوع المحاسبة على أعمال العباد، والإحاطة
بخيرها وشرها وإن وصف الحساب مع ذلك بالسرعة، وفى هذا ترغيب
١
/ ٢٩٨
وترهيب لا محالة، لأن مَن علم بأنه يُحاسَب بأعماله،
ويُوقَف على جميلها وقبيحها انزجر عن القبيح، وعمل ورغب فى فعل الجواب، فهذا ينصر
الجواب، وإن كنا لا ندفع أن فى حمل الجواب على قرب المجازاة، وقرب المحاسبة على
الأعمال ترغيبًا فى الطاعات، وزجرًا على المقبحات، فالتأويل الأول أشبه بالظاهر
ونسق الآية، إلا أن التأويل الآخر غير مدفوع أيضًا ولا مردود.
فأنت ترى فى
المثالين الأوَّلين كيف تخلَّص من ظاهر اللفظ الذى يمس عقيدته بمهارته اللُّغوية
وتوسعه فى المعرفة بأشعار العرب، كما ترى فى المثال الثالث كيف لم يقبل قول مَن
قال: إن معنى «سريع الحساب» سريع العلم، أو سريع القبول للدعاء، لأن القولين لم
يستندا - كما قال - إلى أصل لُّغوى، أو عُرْفى، أو شرعى.
* *
* دفعه
لموهم الاختلاف والتناقض:
هذا.. وإن الشريف المرتضى لا يقتصر فى أماليه على
هذا النوع المذهبى من التفسير، بل نجده يعرض لبعض الإشكالات التى ترد على ظاهر
النظم الكريم مما يوهم الاختلاف والتناقض، ثم يجيب عنها بدقة بالغة، ترجع إلى
مهارته فى اللُّغة وإحاطته بفنونها.
فمثلًا فى المجلس الثالث (جـ١ ص ١٨-٢٠)
يقول ما نصه: «تأويل آية - إن سأل سائل فقال:»ما تقولون فى قوله ﵎ حكاية عن موسى:
﴿فألقى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ﴾ [الشعراء: ٣٢]، وقال تعالى فى
موضع آخر: ﴿وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَآنٌّ
ولى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ﴾ [القصص: ٣١]، والثعبان: الحية العظيمة الخِلْقة،
والجان: الصغير من الحيَّات، فكيف اختلف الوصفان والقصة واحدة؟ وكيف يجوز أن تكون
العصا فى حال واحدة بصفة ما عَظُم خَلْقه من الحيَّات وبصفة ما صَغُر منها؟ وبأى
شئ تزيلون التناقض عن هذا الكلام؟ الجواب: أول ما نقول: إنَّ الذى ظنَّه السائل
من كون الآيتين خبرًا عن قصة واحدة باطل، بل الحالتان مختلفتان، فالحال التى أخبر
أن العصا فيها بصفة الجان، كانت فى ابتداء النبوة وقبل مسير موسى إلى فرعون.
والحال التى صار العصا عليها ثعبانًا، كانت عند لقائه فرعون وإبلاغه الرسالة،
والتلاوة تدل على ذلك، وإذا اختلفت القصتان فلا مسألة، على أنَّ قومًا من
المفسِّرين قد تعاطوا الجواب على هذا السؤال، إما لظنهم أن القصة واحدة، أو
لاعتقادهم أن العصا الواحدة لا يجوز أن تنقلب فى حالتين، تارة إلى صفة الجان،
وتارة إلى صفة الثعبان.
أو على سبيل الاستظهار فى الحُجَّة، وأنَّ الحال لو
كانت واحدة على سبيل ما ظن لم يكن بين الآيتين تناقض. وهذا الوجه أحسن ما تكلَّف
به الجواب لأجله، لأن
١ / ٢٩٩
الأوَّلين لا
يكونان إلا عن غلط أو عن غفلة. وذكروا وجهين تزول بكل منهما الشُبهة من
تأويلها.
أحدهما: أنه تعالى إنما شبَّهها بالثعبان فى إحدى الحالتين لِعظَم
خلقها، وكِبَر جسمها، وهول منظرها. وشبَّهها فى الآية الأخرى بالجان لسرعة
حركتها، ونشاطها، وخفتها، فاجتمع لها مع أنها فى جسم الثعبان وكبر خلقه، نشاط
الجان وسرعة حركته، وهذا أبهر فى باب الإعجاز وأبلغ فى خرق العادة، ولا تناقض بين
الآيتين. وليس يجب إذا شبَّهها بالثِعبان أن يكون لها جميع صفات الثعبان، وإذا
شبَّهها بالجان أن يكون لها جميع صفاته، وقد قال الله تعالى: ﴿وَيُطَافُ
عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِّن فِضَّةٍ وَأَكْوابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَاْ*
قَوَارِيرَاْ مِن فِضَّةٍ..﴾ [الإنسان: ١٥-١٦]، ولم يرد تعالى أن الفضة قوارير
على الحقيقة، وإنما وصفها بذلك لأنه اجتمع لها صفاء القوارير وشفوفها ورقتها، مع
أنها من فضة، وقد تُشَبِّه العرب الشئ بغيره فى بعض وجوهه، فيُشبِّهون المرأة
بالظبية، وبالبقرة، ونحن نعلم أن فى الظباء والبقر من الصفات ما لا يُستحسن أن
يكون فى النساء، وإنما وقع التشبيه فى صفة دون صفة، ومن وجه دون وجه.
والجواب
الثانى: أنه تعالى لم يرد بذكر الجان فى الآية الأخرى الحية، وإنما أراد أحد
الجن، فكأنه تعالى أخبر بأن العصا صارت ثعبانًا فى الخِلْقة وعِظَم الجسم، وكانت
مع ذلك كأحد الجن فى هول المنظر وإفزاعها لمن شاهدها، ولهذا قال تعالى: ﴿فَلَمَّا
رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَآنٌّ ولى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ﴾ .. ويمكن أن
يكون فى الآية تأويل آخر استخرجناه، إن لم يزد على الوجهين الأوَّلين لم ينقص
عنهما، والوجه فى تكلفنا له، ما بيَّناه من الاستظهار فى الحُجَّة، وأن التناقض
الذى توهم زائل على كل وجه، وهو أن العصا لما انقلبت حيَّة صارت أولًا بصفة الجان
وعلى صورته، ثم صارت بصفة الثعبان، ولم تصر كذلك ضربة واحدة، فتتفق الآيتان على
هذا التأويل ولا يختلف حكمهما، وتكون الآية الأولى تتضمن ذكر الثعبان إخبارًا عن
غاية حال العصا، وتكون الآية الثانية تتضمن ذكر الحال التى ولَّى موسى منها
هاربًا، وهى حال انقلاب العصا إلى خِلْقة الجان، وإن كانت بعد تلك الحال انتهت
إلى صورة الثعبان. فإن قيل على هذا الوجه: كيف يصح ما ذكرتموه مع قوله تعالى:
﴿فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ﴾، وهذا يقتضى أنها صارت ثعبانًا بعد الإلقاء
بلا فصل؟ قلنا: ليس تفيد الآية ما ظن، وإنما فائدة قوله تعالى: ﴿فَإِذَا هِيَ﴾
الإخبار عن قُرب الحال التى صارت فيها بتلك الصفة، وأنه لم يطل الزمان فى مصيرها
كذلك، ويجرى هذا مجرى قوله تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَرَ الإنسان أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن
نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ﴾ [يس: ٧٧]، مع تباعد ما بين كونه نطفة
وكونه
١ / ٣٠٠
خصيمًا مبينًا، وقولهم: ركب
فلان من منزله فإذا هو فى ضيعته، وسقط من أعلى الحائط فإذا هو فى الأرض، ونحن
نعلم أن بين خروجه من منزله وبلوغه ضيعته زمانًا، وأنه لم يصل إليها إلا على
تدريج، وكذلك الهابط من الحائط، وإنما فائدة الكلام الإخبار عن تقارب الزمان وأنه
لم يطل ولم يمتد».
* *
* ليس فى الأمالى أثر للتشيع، وإنما فيه عزو
أُصول المعتزلة إلى الأئمة من آل البيت:
هذا.. وإنَّا لا نكاد نجد أثرًا
ظاهرًا للتشيع فيما فسَّره الشريف المرتضى من الآيات فى آماليه، رغم أنه من شيوخ
الشيعة وعلمائهم، غير أنَّا نجد منه محاولة جَدِّية، يريد من ورائها أن يثبت أن
أصول المعتزلة مأخوذة من كلام أمير المؤمنين علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه، ومن
كلام غيره من أئمة الشيعة وغيرهم، وذلك حيث يقول فى المجلس العاشر (جـ١ ص١٠٣،
١٠٤) ما نصه: «اعلم أن أصول التوحيد والعدل مأخوذة من كلام أمير المؤمنين علىّ ﵇
وخطبه وأنها تتضمن من ذلك ما لا مزيد عليه ولا غاية وراءه، ومَن تأمل المأثور فى
ذلك من كلامه علم أن جميع ما أسهب المتكلمون من بعد فى تصنيفه وجمعه إنما هو
تفصيل لتلك الجمل وشرح لتلك الأصول، ورُوى عن الأئمة من أبنائه ﵈ ما لا يكاد
يُحاط به كثرة، ومَن أحب الوقوف عليه وطلبه من مظانه أصاب منه الكثير الغزير الذى
فى بعضه شفاء للصدور السقيمة، ونتاج للعقول العقيمة، ونحن نُقدِّم على ما نريد
ذكره شيئًا مما يُروى عنهم فى هذا الباب».. ثم ساق أشياء كثيرة منها ما نصه:
"وروى صفوان بن يحيى قال: دخل أبو قرة المحدِّث على أبى الحسن الرضا ﵇، فسأله عن
أشياء من الحلال والحرام، والأحكام والفرائض، حتى بلغ سؤاله إلى التوحيد، فقال
أبو قرة: إنَّا رُوينا: أن الله قَسَّم الكلام والرؤية، فقسم لموسى ﵇ الكلام،
ولمحمد ﷺ الرؤية، فقال الرضا ﵇: فمَن المبلِّغ عن الله إلى الثَقَلين - الجن
والإنس -: أنه ﴿لاَّ تُدْرِكُهُ الأبصار﴾ [الأنعام: ١٠٣]، ﴿وَلاَ يُحِيطُونَ بِهِ
عِلْمًا﴾ [طه: ١١٠]، و﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ [الشورى: ١١] .. أليس محمد
نبيًا صادقًا؟ قال: بلَى. قال: وكيف يجئ رجل إلى الخلق جميعًا فيخبرهم أنه جاء من
عند الله يدعوهم إليه بأمره ويقول: ﴿لاَّ تُدْرِكُهُ الأبصار﴾، ﴿وَلاَ يُحِيطُونَ
بِهِ عِلْمًا﴾ و﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ .. ثم يقول: سأراه بعينى، وأُحيط به
علمًا، ألا تستحيون؟ ما قدرت الزنادقة أن ترميه بهذا، أن يكون يأتى عن الله بشئ،
ثم يأتى بخلافه من وجه آخر. قال أبو قرة: فإنه يقول: ﴿وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً
أخرى *
عِندَ سِدْرَةِ المنتهى﴾ [النجم: ١٣-١٤] .. قال ﵇: ما قبل هذه الآية
يدل على ما رأى حيث يقول: ﴿مَا كَذَبَ الفؤاد مَا رأى﴾
١ /
٣٠١
[النجم: ١١] .. يقول: ما كذب فؤاد محمد ما رأت عيناه، ثم
أخبر بما رأى فقال: ﴿لَقَدْ رأى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الكبرى﴾ [النجم: ١٨]، وآيات
الله غير الله، وقد قال الله تعالى: ﴿وَلاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا﴾ فإذا رأته
الأبصار فقد أحاط به العلم، فقال أبو قرة: فأُكذِّب بالرؤية؟ فقال الرضا ﵇: إن
القرآن كذَّبها وما أجمع عليه المسلمون أنه لا يُحاط به علمًا، ولا تدركه
الأبصار، وليس كمثله شئ».
.. ثم قال بعد قليل: «وروُى أن شيخًا حضر صفين مع
أمير المؤمنين ﵇ فقال: أخْبِرنا يا أمير المؤمنين عن مسيرنا إلى الشام، أكان
بقضاء من الله تعالى وقدر؟ قال له: نعم يا أخا أهل الشام، والذى فلق الحبة وبرأ
النسمة، ما وطئنا موطئًا، ولا هبطنا واديًا، ولا علونا تلعة، إلا بقضاء من الله
وقدر، فقال الشامى: عند الله أحتسب عناى يا أمير المؤمنين، وما أظن أن لى أجرًا
فى سعيى إذا كان الله قضاء علىّ وقدَّره، فقال له ﵇: إنَّ الله قد أعظم لكم الأجر
على مسيركم وأنتم سائرون، وعلى مقامكم وأنتم مقيمون، ولم تكونوا فى شئ من حالاتكم
مُكْرَهين، وإلا إليها مضطرين، ولا عليها مُجبْرَين، فقال الشامى: كيف ذاك
والقضاء والقَدَر ساقانا. وعنهما كان مسيرنا وانصرافنا؟ فقال ﵇: ويحك يا أخا أهل
الشام! لعلك ظننت قضاءً لازمًا، وقَدَرًا حاكمًا، لو كان ذلك كذلك لبطل الثواب
والعقاب، وسقط الوعد والوعيد، والأمر من الله والنهى، ولما كان المحسن أولى بثواب
الإحسان من المسئ، والمسئ أولى بعقوبة الذنب من المحسن، تلك مقالة عبدة الأوثان،
وحزب الشيطان، وخصماء الرحمن، وشهداء الزور، وقدرية هذه الأُمة ومجوسها. إن الله
أمر عباده تخييرًا، ونهاهم تحذيرًا، وكلَّف يسيرًا، وأعطى على القليل كثيرًا. ولم
يُطَع مكرهًا، ولم يُعص مغلوبًا، ولم يُكِلف عسيرًا، ولم يُرسل الأنبياء لعبًا،
ولم يُنزل الكتب لعباده عبثًا، ولا خلق السماوات والأرض وما بينهما باطلًا
﴿ذَلِكَ ظَنُّ الذين كَفَرُواْ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنَ النار﴾ [ص:
٢٧] .. قال الشامى فما القضاء والقَدر الذى كان مسيرنا بهما وعنهما؟ قال: الأمر
من الله بذلك والحكم. ثم تلا: ﴿وَكَانَ أَمْرُ الله قَدَرًا مَّقْدُورًا﴾
[الأحزاب: ٣٨] .. فقام الشامى: فرحًا مسرورًا لما سمع هذا المقال، وقال: فرَّجت
عنى، فرَّج الله عنك يا أمير المؤمنين، وجعل يقول:
أنت الإمام الذى نرجو
بطاعته ... يوم الحساب من الرحمن غفرانًا
أوضحتَ من أمرنا ما كان ملتبسًا
... جزاك ربك بالإحسان إحسانًا»
وهكذا يذكر الشريف المرتضى من الأخبار عن
أهل البيت وعن غيرهم ما يستدل به على أن أصول المعتزلة مستمدة من كلامهم، والله
يعلم مقدار ما عليه هذه الأخبار من الصحة، وأنا لا أكاد أصدقها بالنسبة لعلىّ
(رضى الله عنه) . فقد روى أبو القاسم
١ / ٣٠٢
بن
حبيب فى تفسيره بإسناده: أن علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه سأله سائل عن القَدَر
فقال: دقي لا تمش فيه، فقال: يا أمير المؤمنين أخبِرنى عن القَدَر، فقال: بحر
عميق لا تَخُضْ فيه، فقال: يا أمير المؤمنين أخبِرنى عن القَدَر، فقال: سر خفى
لله لا تُفشِه، فقال: يا أمير المؤمنين أخبِرنى عن القَدَر، فقال علىّ (رضى الله
عنه): يا سائل؛ إن الله خلقك كما شاء أو كما شئت؟ فقال: كما شاء، قال: إن الله
تعالى يبعثك يوم القيامة كما شئت أو كما شاء؟ فقال: كما شاء. فقال: يا سائل؛ لك
مشيئة مع الله أو فوق مشيئته أو دون مشيئته؟ فإن قلت: مع مشيئته، ادعيت الشركة
معه. وإن قلت: دون مشيئته، استغنيتَ عن مشيئته. وإن قلت: فوق مشيئته، كانت مشيئتك
غالبة فى مشيئته. ثم قال: ألست تسأل الله العافية؟ فقال: نعم، فقال: فعن ماذا
تسأله العافية؟ أمن بلاء هو ابتلاك به؟ أو من بلاء غيره ابتلاك به؟ قال: من بلاء
ابتلانى به. فقال: ألست تقول: لا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم؟ قال: بلى،
قال: تعرف تفسيرها؟ فقال: يا أمير المؤمنين، علِّمنى مما علَّمك الله، فقال:
تفسيره: أن العبد لا قدرة له على طاعة الله ولا على معصيته إلا بالله ﷿، يا سائل؛
إن الله يسقم ويداوى، منه الداء. ومنه الدواء، اعقل عن الله، فقال السائل عقلت،
فقال له: الآن صرتَ مسلمًا، قوموا إلى أخيكم المسلم وخذوا بيده، ثم قال علىّ: لو
وجدتُ رجلًا من أهل القَدَر لأخذت بعنقه، ولا أزال أضربه حتى أكسر عنقه، فإنهم
يهود هذه الأُمة.
وبعد ... فهذه هى أمالى الشريف المرتضى، وهى وإن كانت لا
تصوِّر لنا تفسيرًا متناولًا للقرآن كله إلا أنها يمكن أن تكشف لنا عن مبلغ تأثر
صاحبها بعقيدته الاعتزالية فى بحوثه التفسيرية التى عالجها، كما تكشف لنا عن مبلغ
ما كان لفنه الأدبى من الأثر الظاهر فى التفسير.
* * *
١
/ ٣٠٣
٣ - الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل فى وجوه
التأويل (للزمخشرى)
* التعريف بمؤلف هذا التفسير:
مؤلف هذا التفسير، هو
أبو القاسم: محمود بن عمر بن محمد بن عمر الخوارزمى، الإمام الحنفى المعتزلى،
الملقب بجار الله، ولد فى رجب سنة ٤٦٧ هـ (سبع وستين وأربعمائة من الهجرة) بزمخشر
- قرية من قرى خوارزم وقدم بغداد، ولقى الكبار وأخذ عنهم، دخل خراسان مرارًا
عديدة. وما دخل بلدًا إلا واجتمع عليه أهلها وتتلمذوا له، وما ناظر أحدًا إلا
وسَلَّم له واعترف به. ولقد عظم صيته وطار ذكره حتى صار إمام عصره من غير
مدافعة.
ليس عجبًا أن يحظى الزمخشرى بكل هذا وهو الإمام الكبير فى التفسير
والحديث والنحو، واللغة والأدب، وصاحب التصانيف البديعة فى شتَّى العلوم. ومن
أجَّل مصنفاته: كتابه فى تفسير القرآن العزيز الذى لم يُصنَّف قبله مثله، وهو ما
نحن بصدده الآن، والمحاجاة فى المسائل النحوية، والمفرد والمركب فى العربية،
والفائق فى تفسير الحديث، وأساس البلاغة فى اللغة، والمفصَّل فى النحو، ورؤوس
المسائل فى الفقه.. وغير هذا كثير من مؤلفاته.
قال صاحب وفيات الأعيان:»كان
الزمخشرى معتزلى الاعتقاد، متظاهرًا باعتزاله، حتى نُقِل عنه: أنه كان إذا قصد
صاحبًا له واستأذن عليه فى الدخول يقول لمن يأخذ له الإذن: قل له أبو القاسم
المعتزلى بالباب، وأول ما صنَّف كتاب الكشاف، كتب استتفتاح الخطبة: «الحمد لله
الذى خلق القرآن» فيقال إنه قيل له: متى تركته على هذه الهيئة هجره الناس سولا
يرغب أحد فيه، فغيَّره بقوله: «الحمد لله الذى جعل القرآن» و«جعل» عندهم بمعنى
«خلق»، والبحث فى ذلك يطول. ورأيت فى كثير من النسخ: «الحمد لله الذى أنزل
القرآن» وهذا إصلاح الناس لا إصلاح المُصنِّف«.
يقول الفيروزآبادى - وصاحب
القاموس - فيما علَّقه على خطبة الكشاف:»قال بعض الطلبة - وأثبته بعض المعتنين
بالكشاف فى تعليق له عليه - أنه كان فى الأصل كتب: «خلق» مكان: «أنزل» وأخيرًا
غيَّره المصنف أو غيَّره حذرًا عن الشناعة
١ / ٣٠٤
الواضحة
وهذا قول ساقط جدًا وقد عرضته على أستاذى فأنكره غاية الإنكار، وأشار إلى أن هذا
القول بمعزل عن الصواب لوجهين: أحدهما أن الزمخشرى لم يكن أهلًا لأن تفوته
اللطائف المذكورة فى «أنزل» وفى «نزل» فى مفتتح كلامه ووضع كلمة خالية من ذلك.
والثانى: أنه لم يكن يأنف من انتمائه إلى الاعتزال، وإنما كان يفتخر بذلك، وأيضًا
أتى عقيبه بما هو صريح فى المعنى ولم يبال بأنه قبيح، وقد رأيت النسخة التى بخط
يده بمدينة السلام، مختبئة فى تربة الإمام أبى حنيفة، خالية عن أثر كشط
وإصلاح«.
وكانت وفاة الزمخشرى ﵀ ليلة عرفة سنة ٥٣٨ هـ (ثمان وثلاثين
وخمسمائة من الهجرة) بجرجانية خوارزم بعد رجوعه من مكة، ورثاه بعضهم، بأبيات من
جملتها:
فأرض مكة نَدَّى الدمع مقلتها ... حزنًا لفُرقة جار الله محمود
*
التعريف بهذا التفسير وطريقة مؤلفه فيه - قصة تأليف الكشاف:
قبل الخوض فى
التعريف بالكشاف للزمخشرى، أرى أن أسوق لك قصة تأليفه وما كان من الزمخشرى من
التردد بين الإقدام عليه والإحجام عنه أولًا.. ثم العزم المصمم منه على تأليفه
حتى أخرجه للناس كتابًا جامعًا نافعًا.
أسوق هذه القصة نقلًا عن الزمخشرى فى
مقدمة كشافه، فقد أوضح ما كان منه أول الأمر، وكشف عن السبب الذى دعاه إلى تأليف
كتابه فى التفسير فقال:
»ولقد رأيت إخواننا فى الدين من أفاضل الفئة الناجية
العدلية، الجامعين بين علم العربية والأصول الدينية، كلما رجعوا إلىَّ فى تفسير
آية فأبرزت لهم بعض الحقائق من الحُجُب، أفاضوا فى الاستحسان والتعجب، واستطيروا
شوقًا إلى مُصَنَّف يضم أطرافًا من ذلك، حتى اجتمعوا إلىَّ مقترحين أن أُملى
عليهم الكشف عن حقائق التنزيل، وعيون الأقاويل، فى وجوه التأويل، فاستعفيت، فأبوا
إلا المراجعة والاستشفاع بعظماء الدين، وعلماء العدل والتوحيد. والذى حدانى إلى
الاستعفاء - على علمى أنهم طلبوا ما الإجابة إليه علىَّ واجبة، لأن الخوض فيه
كفرض العَيْن - ما أرى عليه الزمان من رثاثة أحواله، وركاكة رجاله، وتقاصر همهم
عن أدنى عدد هذا العلم، فضلًا أن تترقى إلى الكلام المؤسس على علمى البيان
والمعانى، فأمليت عليهم مسألة فى الفواتح، وطائفة من الكلام فى حقائق سورة
البقرة، وكان كلامًا مبسوطًا كثير السؤال والجواب،
١ / ٣٠٥
طويل
الذيول والأذناب، وإنما حاولت به التنبيه على غزارة نكت هذا العلم، وأن يكون لهم
منارًا ينتحونه، ومثالًا يحتذونه، فلما صمم العزم على معاودة جوار الله، والإناخة
بحرم الله، فتوجهت تلقاء مكة، وجدت فى مجتازى بكل بلد مَن فيه مسكة من أهلها -
وقليل ما هم - عطشى الأكباد إلى العثور على ذلك المملَى، متطلعين إلى إيناسه،
حراصًا على اقتباسه، فهزَّ ما رأيت من عِطفى، وحرَّك الساكن من نشاطى، فلما حططت
الرَحْل بمكة إذا أنا بالشعبة السنية من الدرجة الحسنية: الأمير الشريف، الإمام
شرف آل رسول الله، أبى الحسن، بن حمزة بن وهاس - أدام الله مجده - وهو النكتة
والشامة فى بنى الحسن، مع كثرة محاسنهم، وجموم مناقبهم، أعطش الناس كبدًا،
وألهبهم حشىً، وأوفاهم رغبة، حتى ذكر أنه كان يُحدِّث نفسه فى مدة غيبتى عن
الحجاز مع تزاحم ما هو فيه من المشادة، بقطع الفيافى وطى المهامه، والإفادة علينا
بخوارزم، ليتوصل إلى إصابة هذا الغرض، فقلت: قد ضاقت على المستعفى الحيل، وعيّت
به العلل. ورأيتنى قد أخذت منى السن، وتقعقع الشن، وناهزت العشر التى سمتها العرب
دقاقة الرقاب، فأخذت فى طريقة أخصر من الأولى، مع ضمان التكثير من الفوائد،
والفحص عن السرائر،
ووفَّق الله وسدَّد، ففُرِغ منه فى مقدار مدة خلافة أبى
بكر الصِدِّيق رضى الله عنه وكان يُقَدَّر تمامه فى أكثر من ثلاثين سنة. وما هى
إلا آية من آيات هذا البيت المحرَّم، وبركة أُفيضت علىّ من بركات هذا الحرم
المعظَّم. أسأل الله أن يجعل ما تعبت فيه سببًا ينجينى، ونورًا لى على الصراط
يسعى بين يدى ويمينى، ونِعْم المسئول».
هذه قصة تأليف الكشاف كما يرويها
الزمخشرى نفسه.
* *
* قيمة الكشاف العلمية:
وأما قيمة هذا
التفسير. فهو - بصرف النظر عما فيه من الاعتزال - تفسير لم يُسبق مؤلفه إليه، لما
أبان فيه من وجوه الإعجاز فى غير ما آية من القرآن، ولما ظهر فيه من جمال النظم
القرآنى وبلاغته، وليس كالزمخشرى مَن يستطيع أن يكشف لنا عن جمال القرآن وسحر
بلاغته، لما برع فيه من المعرفة بكثير من العلوم. لا سيما ما برز فيه من الإلمام
بلغة العرب. والمعرفة بأشعارهم. وما امتاز به من الإحاطة بعلوم البلاغة،
١
/ ٣٠٦
والبيان والإعراب، والأدب، ولقد أضفى هذا النبوغ العلمى
والأدبى على تفسير الكشاف ثوبًا جميلًا، لفت إليه أنظار العلماء وعلَّق به قلوب
المفسِّرين.
هذا.. وقد أحس الزمخشرى إحساسًا قويًا بضرورة الإلمام بعلمى
المعانى والبيان قبل كل شئ، لمن يريد أن يُفسِّر كتاب الله ﷿، وجهر بذلك فى مقدمة
الكشاف فقال: «.. ثم إن أملأ العلوم بما يغمر القرائح، وأنهضها بما يُبهر الألباب
القوارح، من غرائب نكت يلطف مسلكها، ومستودعات أسرار يدق سبكها، علم التفسير،
الذى لا يتم لتعاطيه وإجالة النظر فيه كل ذى علم - كما ذكر الجاحظ فى كتاب نظم
القرآن - فالفقيه وإن برز على الأقران فى علم الفتاوى والأحكام، والمتكلم وإن
بَزَّ أهل الدنيا فى صناعة الكلام، وحافظ القصص والأخبار وإن كان من ابن
القِرِّية أحفظ، والواعظ وإن كان من الحسن البصرى أوعظ، والنحوى وإن كان أنحى من
سيبويه، واللُّغوى وإن علك اللغات بقوة لحييه، لا يتصدى منهم أحد لسلوك تلك
الطرائق، ولا يغوص على شئ من تلك الحقائق، إلا رجل قد برع فى علمين مختصين
بالقرآن، وهما: علم المعانى، وعلم البيان، وتمهل فى ارتيادهما آونة، وتعب فى
التنقير عنهما أزمنة، وبعثته على تتبع مظانهما همة فى معرفة لطائف حُجَّة الله،
وحرص على استيضاح معجزة رسول الله بعد أن يكون آخذًا من سائر العلوم بحظ، جامعًا
بين أمرين: تحقيق وحفظ، كثير المطالعات، طويل المراجعات، قد رَجَعَ زمانًا
ورُجِعَ إليه، ورَدَّ ورُدَّ عليه، فارسًا فى علم الإعراب، مقدَّمًا فى حملة
الكتاب، وكان مع ذلك مسترسل الطبيعة منقادها، مشتعل القريحة وقَّادها، يقظان
النفس، درًا كاللمحة وإن لطف شأنها، منتبهًا على الرمزة وإن خفى مكانها، لا
كزًَّا جاسيًا، ولا غليظًا جافيًا، متصرفًا ذا دراية بأساليب النظم والنثر،
مرتاضًا غير ريض بتلقيح بنات الفكر، قد علم كيف يُرتَّب الكلام ويُؤلَّف، وكيف
يُنظَّم ويُرصَّف، طالما دفع إلى مضايقه. ووقع فى مداحضه ومزالقه».
وفى
الحقيقة أن الزمخشرى قد جمع كل هذه الوسائل التى لا بد منها للمفسِّر، فأخرج
للناس هذا الكتاب العظيم فى تفسير القرآن "الكشاف عن حقائقه، المخلص من مضايقه،
المطلع على غوامضه، المثبت فى مداحضه، المُلخِّص لنكته ولطائف نظمه، المُنَقِّر
عن فِقَره وجواهر علمه، المكتنز بالفوائد المفتنَّة التى لا تُوجد إلا فيه،
المحيط بما لا يكتنه من بدع ألفاظه ومعانيه، مع الإيجاز الحاذف للفضول، وتجنب
المستكرَه
١ / ٣٠٧
المملول، ولو لم يكن فى
مضمونه إلا إيراد كل شئ على قانونه، لكفى به ضالة ينشدها محققة الأخبار، وجوهرة
يتمنى العثور عليها غاصة البحار».
ولما علم الزمخشرى أن كتابه قد تحلَّى
بهذه الأوصاف قال متحدثًا بنعمة الله:
إن التفاسير فى الدنيا بلا عدد ...
وليس فيها لعَمْرى مثل كشافى
إن كنتَ تبغى الهدى فالزم قراءته ... فالجهل
كالداء والكشاف كالشافى
وإذا كان الزمخشرى قد اعتزَّ بكشافه، وبلغ إعجابه به
إلى حد جعله يقول فيه ما قال من تقريظ له، وإطراء عليه، فإنَّا نعذره فى ذلك ولا
نلومه عليه، فالكتاب واحدٌ فى بابه، وعَلَمٌ شامخ فى نظر علماء التفسير وطُلابه،
ولقد اعترف له خصومه بالبرعة وحسن الصناعة، وإن أخذوا عليه بعض المآخذ التى يرجع
أغلبها إلى ما فيه من ناحية الاعتزال، وإليك مقالات بعض العلماء فى الكشاف:
*
مقالة ابن بشكوال فى الكشاف:
وإنَّا لنجد فى مقدمة تفسير أبى حيان، مقارنة
للحافظ أبى القاسم بن بشكوال، بين تفسير ابن عطية وتفسير الزمخشرى، ووصفًا رقيقًا
وتحليلًا عميقًا لكتاب الكشاف يقول فيها:
«وكتاب ابن عطية أنقل وأجمع وأخلص.
وكتاب الزمخشرى ألخص وأغوص، إلا أن الزمخشرى قائل بالطفرة، ومقتصر من الذؤابة على
الوفرة، فربما سنح له آبى المقادة فأعجزه اعتياصه، ولم يمكنه لتأنيه اقتناصه،
فتركه عقلًا لمن يصطاده، وغفلًا لمن يرتاده. وربما ناقض هذا المنزع، فثنى العنان
إلى الواضح والسهل اللائح، وأجال فيه كلامًا، ورمى نحو غرضه سهامًا. هذا مع ما فى
كتابه من نصرة مذهبه، وتقحم مرتكبه، وتجشم حمل كتاب الله ﷿ عليه، ونسبة ذلك إليه،
فمغتفر إساءته لإحسانه، ومصفوح عن سقطه فى بعض، لإصابته فى أكثر تبيانه».
*
*
مقالة الشيخ حيدر الهروى:
كذلك نجد للشيخ حيدر الهروى - أحد الذين عَلَّقوا
على الكشاف - وصفًا دقيقًا لكتاب الكشاف وهذا نصه:
" ... وبعد، فإن كتاب
الكشاف، كتاب عَلىُّ القدر رفيع الشأن، لم يُرَ مثله فى تصانيف الأوَّلين، ولم
يرد شبيهه فى تآليف الآخرين. اتفقت على متانة تراكيبه الرشيقة كلمة المهرة
المتقنين، واجتمعن على محاسن أساليبه الأنيقة ألسنة الكلمة المفلقين. ما قصَّرَ
فى قوانين التفسير وتهذيب براهينه. وتمهيد قواعده وتشييد معاقده.
١
/ ٣٠٨
وكل كتاب بعده فى التفسير، ولو فُرِض أنه لا يخلو عن
النقير والقطمير، إذا قيس به لا تكون له تلك الطلاوة، ولا يُوجد فيه شئ من تلك
الحلاوة، على أن مؤلفه يَقتفى أثره، ويَسأل خبره. وقلَّما غيَّر تركيبًا من
تراكيبه إلا وقع فى الخطأ والخطل، وسقط من مزالق الخبط والزلل، ومع ذلك كله إذا
فتشت عن حقيقة الخبر، فلا عين منه ولا أثر، ولذلك قد تداولته أيدى النظار، فاشتهر
فى الأقطار، كالشمس فى وسط النهار، إلا أنه لإخطائه سلوك الطرق الأدبية، وإغفاله
عن إجمال أرباب الكمال. أصابته عين الكلالة. فالتزم فى كتابه أُمورًا أذهبت رونقه
وماءه، وأبطلت منظره ورواءه، فتكدرت مشارعه الصافية، وتضيَّقت موارده الضافية،
وتزلزلت رتبه العالية.
منها: أنه كلما شرع فى تفسير آية من الآى القرآنية
مضمونها لا يساعد هواه، ومدلولها لا يطاوع مشتهاه، صرفها عن ظاهرها بتكلفات
باردة، وتعسفات جامدة، وصرف الآية - بلا نكتة بلاغية لغير الضرورة - عن الظاهر،
وفيه تحريف لكلام الله ﷾، وليته يكتفى بقدر الضرورة، بل يبالغ فى الإطناب
والتكثير، لئلا يوهم بالعجز والتقصي، فتراه مشحونًا بالاعتزالات الظاهرة التى
تتبادر إلى الأفهام، والخفية التى لا تتسارق إليها الأوهام، بل لا يهتدى إلى
حبائله إلا ورَّاد بعد وراَّد من الأذكياء الحذَّاق، ولا ينتبه لمكائده إلا واحد
من فضلاء الآفاق. وهذه آفة عظيمة ومصيبة جسيمة.
ومنها: أنه يطعن فى أولياء
الله المرتضين من عباده، ويغفل عن هذا الصنيع لفرط عناده. ونِعْمَ ما قال الرازى
فى تفسير قوله تعالى: ﴿يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ﴾ [المائدة: ٥٤] .. خاض صاحب
الكشاف فى هذا المقام فى الطعن فى أولياء الله تعالى، وكتب فيها ما لا يليق بعاقل
أن يكتب مثله فى كتب الفحش، فهب أنه اجترأ على الطعن فى أولياء الله تعالى، فكيف
اجتراؤه على كتبه ذلك الكلام الفاحش فى تفسير كلام الله المجيد.
ومنها: أنه
أورد فيه أبياتًا كثيرة، وأمثالًا غزيرة بنى على الهزل والفكاهة أساسها. وأورد
على المزاح البارد نبراسها. وهذا أمر من الشرع والعقل بعيد، لا سيما عند أهل
العدل والتوحيد.
ومنها: أنه يذكر أهل السُّنَّة والجماعة - وهم الفرقة
الناجية - بعبارات فاحشة، فتارة يُعَبِّر عنهم بالمُجَبِّرة، وتارة ينسبهم على
سبيل التعريض إلى الكفر والإلحاد. وهذه وظيفة السفهاء الشطار، لا طريقة العلماء
الأبرار».
*
* مقالة أبى حيان:
ونجد أبا حيان صاحب البحر المحيط
عند تفسيره لقوله تعالى فى الآية [٤٩] من
١ / ٣٠٩
سورة
النمل: ﴿قَالُواْ تَقَاسَمُواْ بالله لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ
لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا
لَصَادِقُونَ﴾ .. يتعقب الزمخشرى فى تفسيره لقوله تعالى: ﴿وَإِنَّا لَصَادِقُونَ﴾
.. ثم يصفه بقوله: «وهذا الرجل وإن كان أُوتِىَ من علم القرآن أوفر حظ، وجمع بين
اختراع المعنى وبراعة اللفظ، ففى كتابه فى التفسير أشياء منتقدة، وكنت قريبًا من
تسطير هذه الأحرف قد نظمت قصيدًا فى شغل الإنسان بكتاب الله، واستطردت إلى مدح
كتاب الزمخشرى، فذكرت أشياء من محاسنه، ثم نبهت على ما فيه مما يجب تجنبه، ورأيت
إثبات ذلك هنا لينتفع بذلك مَن يقف على كتابى هذا، ويتنبه على ما تضمنه من
القبائح، فقلت بعد ذكر ما مدحته به:
ولكنه فيه مجال لناقد ... وزلات سوء قد
أخذن المخانقا
فيثبت موضوع الأحاديث جاهلًا ... ويعزو إلى المعصوم ما ليس
لائقا
ويشم أعلام الأئمة ضلة ... ولا سيما إن أولجوه المضايقا
ويُسهب
فى المعنى الوجيز دلالة ... بتكثير ألفاظ تسمى الشقاشقا
يُقوِّل فيها الله
ما ليس قائلا ... وكان محبًا فى الخطابة وامقا
ويخطئ فى تركيبه لكلامه ...
فليس لما قد ركَّبوه موافقا
وينسب إبداء المعانى لنفسه ... ليُوهم أغمارًا
وإن كان سارقا
ويخطئ فى فهم القرآن لأنه ... يُجَوِّز إعرابًا أبى أن
يطابقا
وكم بين مَن يؤتى البيان سليقة ... وآخر عاناه فما هو لاحقا
ويحتال
للألفاظ حتى يديرها ... لمذهب سوء فيه أصبح مارقا
فيا خسره شيخ تخرَّق صيته
... مغارب تخريق الصبا ومشارقا
لئن لم تداركه من الله رحمة ... لسوف يُرى
للكافرين مرافقا»
وأحسب أن القارئ لا يفوته أن يدرك ما فى الوصف من قسوة على
الزمخشرى، وما فيه من اتهامه بقِلَّة بضاعته فى البيان والعربية، مع أنه سلطان
هذه الطريقة فى التفسير غير مدافع.
*
* مقالة ابن خلدون:
وهذا هو
العلاَّمة ابن خلدون، نجده عندما تكلم عن القسم الثانى من التفسير وهو ما يرجع
إلى اللسان، من معرفة اللغة والإعراب والبلاغة فى تأدية المعنى بحسب المقاصد
والأساليب. يقول: "ومن أحسن ما اشتمل عليه هذا الفن من التفاسير كتاب الكشاف
للزمخشرى من أهل خوارزم العراق، إلا أن مؤلِّفه من أهل الاعتزال فى
١
/ ٣١٠
العقائد، فيأتى بالحِجَاج على مذاهبهم الفاسدة حيث تعرَض
له فى آى القرآن من طرق البلاغة، فصار بذلك للمحققين من أهل السُّنَّة انحراف
عنه، وتحذير للجمهور من مكامته، مع إقرارهم برسوخ قدمه فيما يتعلق باللسان
والبلاغة، وإذا كان الناظر فيه واقفًا مع ذلك على المذاهب السُّنِّية، محسنًا
للحجاج عنها، فلا جَرَم أنه مأمون من غوائله، فلتغتنم مطالعته لغرابة فنونه فى
اللسان. ولقد وصل إلينا فى هذه العصور تأليف لبعض العراقيين، وهو شرف الدين
الطيبى من أهل توريز، من عراق العجم، شرح فيه كتاب الزمخشرى هذا، وتَنَبَّع
ألفاظه، وتَعَرَّض لمذاهبه فى الاعتزال بأدلة تُزيفها، وتُبيِّن أن البلاغة إنما
تقع فى الآية على ما يراه أهل السُّنَّة، لا على ما يراه المعتزلة، فأحسن فى ذلك
ما شاء، مع إمتاعه فى سائر فنون البلاغة، وفوق كل ذى علم عليم».
*
*مقالة
التاج السبكى:
وأخيرًا.. فهذا هو العلاَّمة تاج الدين السبكى يقول فى كتابه
«معيد النِعَم ومبيد النِقَم»: «واعلم أن الكشاف كتاب عظيم فى بابه، ومصنِّفه
إمام فى فنه، إلا أنه رجل مبتدع متاجر ببدعته، يضع من قدر النبوة كثيرًا، ويسئ
أدبه على أهل السُّنَّة والجماعة، والواجب كشط ما فى الكشاف من ذلك كله، ولقد كان
الشيخ الإمام - يعنى والده تقى الدين السبكى - يقرأه فإذا انتهى إلى كلامه فى
قوله تعالى فى سورة التكوير الآية [١٩]: ﴿إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ﴾ أعرض
عنه صفحًا، وكتب ورقة حسبة سماها»سبب الانكفاف، عن إقراء الكشاف«وقال فيها: قد
رأيت كلامه على قوله تعالى: ﴿عَفَا الله عَنكَ﴾، وكلامه فى سورة التحريم وغير ذلك
من الأماكن التى أساء أدبه فيها على خير خلق الله تعالى، سيدنا رسول الله ﷺ،
فأعرضتُ عن إقراء كتابه حياءً من النبى ﷺ، مع ما فى كتابه من الفوائد والنكت
البديعة».
هذه هى شهادات بعض العلماء فى تفسير الكشاف بما له وما عليه.
ومهما يكن
١ / ٣١١
من شئ، فالكل مجمع عن أن
الزمخشرى هو سلطان الطريقة اللُّغوية فى تفسير القرآن، وبها أمكنه أن يكشف عن وجه
الإعجاز فيه، ومن أجلها طار كتابه فى أقصى المشرق والمغرب، واشتهر فى الآفاق،
واستمد كل مَن جاء بعده من المفسِّرين من بحره الزاخر، وارتشف من معينه الفيَّاض،
واعتنى الأئمة المحققون بالكتابة عليه: فمن مميِّز لما جاء فيه من الاعتزال، ومن
مناقش لما أتى فيه من وجوه الإعراب، ومن محش وضَّحَ ونَقَّحَ واستشكل وأجاب، ومن
مخرج لأحاديثه عَزَا وأسْنَدَ وصَحَّحَ وأنقد، ومن مختصر لَخَّصَ وأوجز.
ولا
أطيل بذكر الكتب التى عَنِىَ فيها أصحابها بهذه النواحى، ويكفى أن أقول: إن من
أهم الحواشى على تفسير الكشاف، حاشية العلامة شرف الدين الحسن بن محمد الطيبى،
المتوفى سنة ٧٤٣ هـ (ثلاث وأربعين وسبعمائة من الهجرة)، وهى تقع فى ست مجلدات
كبارًا، وهى التى أشار إليها ابن خلدون فى مقالته السابقة. وقد سمَّاها صاحبها
«فتوح الغيب، فى الكف عن قناع الريب» ومَن يريد الوقوف على كل ما كُتِب على
الكشاف ليرجع إلى كشف الظنون (جـ٢ ص١٧٣-١٧٧) وسيراها كثيرة، كثرة يضيق المقام عن
ذكرها.
هذا.. وإن حظوة الكشاف بهذا التقدير والإعجاب حتى من خصومه، وظفره
بهذه الشهرة الواسعة التى أغرت العلماء بالكتابة عليه بمثل هذه الكثرة الوافرة
الزاخرة من المؤلفات، لدليل قاطع على أنه تفسير فى أعلى القمة.
وليس عجيبًا
أن يكون الكشاف كذلك وهو أول كتاب فى التفسير كشف لنا على سر بلاغة القرآن، وأبان
لنا عن وجوه إعجازه، وأوضح لنا عن دقة المعنى الذى يُفهم من التركيب اللفظى. كل
هذا فى قالب أدبى رائع، وصوغ إنشائى بديع، لا يتفق لغير الزمخشرى، إمام اللُّغة
وسلطان المفسِّرين. وإذا كان الزمخشرى قد تأثر فى تفسيره بعقيدته الاعتزالية فمال
بالألفاظ القرآنية إلى المعانى التى تشهد لمذهبه، أو تأوَّلها بحيث لا يتنافى معه
على الأقل، فإنه فى محاولاته هذه قد برهن بحق على براعته وقوة ذهنه، وصوَّر لنا
مقدار ما كان من التأثر بين التفسير وهوى العقيدة، وما كان لنا بعد هذا كله أن
نغض الطرف عن هذا التفسير، تأثرًا بمذهبنا السُّنِّى، وكراهة لمذهب المعتزلة،
وبخاصة بعد ما هو ثابت وواقع من ثناء كثير من علماء أهل السُّنَّة عليه - فيما
عدا ناحيته الاعتزالية - واعتماد معظم مفسِّريهم عليه وأخذهم منه.
فالكشاف -
والحق يقال - قد بلغ فى نجاحه مبلغًا عظيمًا، ليس فقط لأنه لا يمكن الاستغناء عنه
فى بيان الأقوال الكثيرة لقدماء المعتزلة، بل لأنه استطاع أيضًا أن يكون
١
/ ٣١٢
معتَرفًا به من الأصدقاء والخصوم على السواء ككتاب أساسى
للتفسير، وأن يأخذ طابعًا شعبيًا يغرى الكل ويتسع للجميع.
وكما اعتبرنا
تفسير الطبرى ممثلًا للقمة العالية فى التفسير بالمأثور فأطنبنا فى وصفه وأطلنا
الكلام عليه، فهنا كذلك سنعتبر الكشاف للزمخشرى القمة العالية للتفسير الاعتزالى،
لأنه الكتاب الوحيد من تفاسير المعتزلة الذى وصل إلينا متناولًا للقرآن كله.
وشاملًا للأفكار الاعتزالية التى تتصل بالقرآن الكريم باعتباره أصل العقيدة
ومعتمد ما يتشعب عنها من آراء وأفكار، ولهذا أرانى مضطرًا إلى الإطناب والإفاضة
فى كلامى عن هذا التفسير، ودراستى له من جميع نواحيه بمقدار ما يفتح الله.
*
*
* اهتمام الزمخشرى بالناحية البلاغية للقرآن:
عندما يلقى الإنسان
نظرة فاحصة على العمل التفسيرى الذى قام به العلاَّمة الزمخشرى فى كشَّافه، يظهر
له من أول وهلة، أن المبدأ الغالب عليه فى جهوده التفسيرية، كان فى تبيين ما فى
القرآن من الثروة البلاغية التى كان لها كبير الأثر فى عجز العرب عن معارضته
والإتيان بأقصر سورة من مثله. والذى يقرأ ما أورده الزمخشرى عند تفسيره لكثير من
الآيات من ضروب الاستعارات، والمجازات، والأشكال البلاغية الأخرى، يرى أن
الزمخشرى كان يحرص كل الحرص على أن يُبرز فى حلة بديعة جمال أسلوبه وكمال نظمه،
وإنَّا لنكاد نقطع - إذا استعرضنا كتب التفسير وتأملنا مبلغ عنايتها باستخراج ما
يحتويه القرآن من ثروة بلاغية فى المعانى والبيان - بأنه لا يوجد تفسير أوسع
مجالًا فى جهوده فى هذا الصدد من تفسير الزمخشرى.
ولقد كانت لعناية الزمخشرى
بهذه الناحية فى تفسيره من الأثر بين المفسِّرين وبين مواطنيه من المشارقة ما هو
واضح بيِّنٌ.
أما أثره بين المفسِّرين، فإنَّ كل مَن جاء بعده منهم - حتى من
أهل السُّنَّة - استفادوا من تفسيره فوائد كثيرة كانوا لا يلتفتون إليها لولاه،
فأوردوا فى تفسيرهم ما ساقه الزمخشرى فى كشَّافه من ضروب الاستعارات، والمجازات،
والأشكال البلاغية الأخرى، واعتمدوا ما نبَّه عليه الزمخشرى من نكات بلاغية، تكشف
عما دَقَّ من براعة نظم القرآن وحسن أُسلوبه.
وليس عجيبًا أن يعتمد خصوم
الزمخشرى كغيرهم على كتاب الكشاف، وينظروا إليه كمرجع مهم من مراجع التفسير فى
هذه الناحية، بعد ما قدَّروا هذ الناحية البلاغية فى تفسير القرآن، وبعد ما علموا
أن الزمخشرى هو سلطان هذه الطريقة غير مدافَع.
وأما أثره بين مواطنيه من
المشارقة، فإنهم أخذوا عنه هذا الفن البلاغى وبرعوا فيه،
١ /
٣١٣
حتى سبقوا مَن عداهم من المغاربة، وقد بيَّن ابن خلدون فى
مقدمته - عند الكلام عن علم البيان - ما لتفسير الزمخشرى من الأثر فى براعة
المشارقة فى هذا الفن فقال:
«.. وبالجملة، فالمشارقة على هذا الفن أقوم من
المغاربة، وسببه - والله - أعلم - أنه كمالى فى العلوم اللسانية، والصنائع
الكمالية توجد فى العمران والمشرق أوفر عمرانًا من المغرب كما ذكرنا. أو نقول:
لعناية العجم - وهم معظم أهل المشرق - بتفسير الزمخشرى وهو كله مبنى على هذا الفن
وهو أصله».
ثم إنَّا نستعرض هذه الروح البلاغية التى تسود فى تفسير الزمخشرى
فنشهدها واضحة من أول الأمر عندما تكلم عن قوله تعالى فى الآية [٢] من سورة
البقرة: ﴿هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ﴾ .. فبعد أن ذكر كل الاحتمالات التى تجوز فى محل
هذه الجملة من الإعراب، نَبَّهَ على أن الواجب على مُفَسِّر كلام الله تعالى أن
يلتفت للمعانى ويحافظ عليها، ويجعل الألفاظ تبعًا لها، فقال ما نصه: ".. والذى هو
أرسخ عرقًا فى البلاغة أن يُضرب عن هذه الحال صفحًا وأن يقال: إن قوله: ﴿آلم﴾
جملة برأسها أو طائفة من حروف المعجم مستقلة بنفسها. ﴿ذَلِكَ الكتاب﴾ جملة ثانية
و﴿لاَ رَيْبَ فِيهِ﴾ ثالثة و﴿هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ﴾ رابعة، وقد أصيب بترتيبها
مفصل البلاغة، وموجب حسن النظم، حيث جئ بها متناسقة هكذا من غير حرف نسق، وذلك
حسن لمجيئها متآخية آخذًا بعضها بعنق بعض، فالثانية متحدة بالأولى معتنقة لها..
وهلم جرًّا إلى الثالثة والرابعة. بيان ذلك: أنه نَبَّه أولًا على أنه الكلام
المُتَحدَّى به. ثم أشير إليه بأنه الكتاب المبعوث بغاية الكمال، فكان تقريرًا
لجهة التحدى وشدًا من أعضاده، ثم نفى عنه أنه يتشبث به طرف من الريب، فكان شهادة
وتسجيلًا بكماله، لأنه لا كمال أكمل مما للحق واليقين، ولا نقص أنقص مما للباطل
والشبهة. وقيل لبعض العلماء: فيم لذَّتك؟ فقال: فى حُجَّة تتبختر اتضاحًا، وفى
شبهة تتضاءل افتضاحًا. ثم أخبر عنه بأنه ﴿هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ﴾، فقرر بذلك كونه
يقينًا لا يُحَوَّم الشك حوله، وحقًا لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه،
ثم لم تخل كل واحدة من الأربع بعد أن رتُبت هذا الترتيب الأنيق، ونُظِمَت هذا
النظم السوى، من نكتة ذات جزالة، ففى الأولى: الحذف، والرمز إلى الغرض بألطف وجه
وأرشقه، وفى الثانية: ما فى التعريف من الفخامة، وفى الثالثة: ما فى تقديم الريب
على الظرف. وفى الرابعة: الحذف، وضح المصدر الذى هو ﴿هُدًى﴾ موضع الوصف الذى هو
﴿هَاد﴾، وإيراده
١ / ٣١٤
منكرًا، والإيجاز فى
ذكر ﴿لِّلْمُتَّقِينَ﴾ . زادنا الله اطلاعًا على أسرار كلامه، وتيينًا لنكت
تنزيله، وتوفيقًا للعمل بما فيه».
* *
* تذرعه بالمعانى اللغوية لنُصرة
مذهبه الاعتزالى:
كذلك نرى الزمخشرى - كغيره من المعتزلة - إذا مَرَّ بلفظ
يشتبه عليه ظاهره ولا يتفق مع مذهبه، يُحاول بكل جهوده أن يُبطل هذا المعنى
الظاهر، وأن يُثبت للفظ معنى آخر موجودًا فى اللغة.
فمثلًا يراه عندما
تَعَرَّضَ لتفسير قوله تعالى فى الآيتين [٢٢، ٢٣] من سورة القيامة: ﴿وُجُوهٌ
يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ * إلى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ﴾ .. يتخلص من المعنى الظاهر
لكلمة «ناظرة»، لأنه لا يتفق مع مذهبه الذى لا يقول برؤية الله تعالى، ونراه يثبت
له معنى آخر هو التوقع والرجاء، ويستشهد على ذلك بالشعر العربى فيقول ما نصه:
﴿إلى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ﴾: تنظر إلى ربها خاصة لا تنظر إلى غيره، وهذا معنى تقديم
المفعول، ألا ترى إلى قوله: ﴿إلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ المستقر﴾ [القيامة: ١٢] ..
﴿إلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ المساق﴾ [القيامة: ٣٠] .. ﴿إِلَى الله تَصِيرُ الأمور﴾
[الشورى: ٥٣] .. ﴿إلى الله المصير﴾ [آل عمران: ٢٨، النور: ٤٢، فاطر: ١٨] ..
﴿وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ [البقرة: ٢٤٥] .. ﴿عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ
أُنِيبُ﴾ [الشورى: ١] كيف دَلَّ فيها التقديم على معنى الاختصاص، ومعلوم أنهم
ينظرون إلى أشياء لا يحيط بها الحصر، ولا تدخل تحت العدد، وفى محشر يجتمع فيه
الخلائق كلهم، فإن المؤمنين نظَّارة ذلك اليوم، لأنهم الآمنون الذين لا خوف عليهم
ولا هم يحزنون، فاختصاصه بنظرهم إليه لو كان منظورًا إليه محال، فوجب حمله على
معنى يصح معه الاختصاص. والذى يصح معه أن يكون من قول الناس: أنا إلى فلان ناظر
ما يصنع بى، تريد معنى التوقع والرجاء، ومنه قول القائل:
وإذا نظرتُ إليك من
ملك ... والبحر دونك زدتنى نعمًا
وسمعت سروية مستجدية بمكة وقت الظهر، حين
يغلق الناس أبوابهم ويأوون إلى مقائلهم، تقول: عُيينتى نويظرة إلى الله
وإليكم«والمعنى: أنهم لا يتوقون النعمة والكرامة إلا من ربهم، كما كانوا فى
الدنيا لا يخشون ولا يرجون إلا إياه».
* *
* اعتماده على الفروض
المجازية، وتذرعه بالتمثيل والتخييل فيما يُستبعد ظاهره:
كذلك نرى الزمخشرى
يعتمد فى تفسيره على الفروض المجازية فى الكلام الذى يبدو فى حقيقته بعيدًا
وغريبًا.
١ / ٣١٥
فمثلًا عند قوله تعالى فى
الآية [٧٢] من سورة الأحزاب: ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الأمانة عَلَى السماوات والأرض
والجبال﴾ .. الآية، يقول ما نصه:»وهو يريد بالأمانة الطاعة، فعظَّم أمرها،
وفَخَّم شأنها. وفيه وجهان:
أحدهما: أن هذه الأجرام العظام من السماوات
والأرض والجبال، قد انقادت لأمر الله عَزَّ وعلا انقياد مثلها، وهو ما يتأتى من
الجمادات، وأطاعت له الطاعة التى تصح منها وتليق بها، حيث لم تمتنع على مشيئته
وإرادته إيجادًا، وتكوينًا، وتسوية على هيئات مختلفة وأشكال متنوعة، كما قال:
﴿قَالَتَآ أَتَيْنَا طَآئِعِينَ﴾ [فصلت: ١١] .. وأما الإنسان، فلم تكن حاله فيما
يصح منه من الطاعات ويليق به من الانقياد لأوامر الله ونواهيه - وهو حيوان عاقل
صالح للتكليف - مثل حال تلك الجمادات فيما يصح منها ويليق بها من الانقياد وعدم
الامتناع، والمراد بالأمانة: الطاعة، لأنها لازمة الوجود، كما أن الأمانة لازمة
الأداء. وعرضها على الجمادات وإباؤها وإشفاقها مجاز. وأما حمل الأمانة، فمن قولك:
فلان حامل للأمانة ومحتمل لها، تريد أنه لا يؤديها إلى صاحبها حتى تزول عن ذمته
ويخرج عن عهدتها، لأن الأمانة كأنها راكبة للمؤتمن عليها وهو حاملها، ألا تراهم
يقولون: ركبته الديون، ولى عليه حق.. فإذا أدَّاها لم تكن راكبة له ولا هو حاملًا
لها. ونحوه قولهم: لا يملك مولى لمولى نصرًا، يريدون أنه يبذل النصرة له ويسامحه
بها ولا يمسكها الخاذل، ومنه قول القائل:
أخوك الذى لا تملك الحس نفسه ...
وترفض عند المحفظات الكتائف
أى لا يمسك الرقة والعطف إمساك المالك الضنين ما
فى يده، بل يبذل ذلك ويسمح به. ومنه قولهم: ابغض حق أخيك، لأنه إذا أحبه لم يخرجه
إلى أخيه ولم يؤدِّه، وإذا أبغضه أخرجه وأدَّاه. فمعنى: ﴿فَأبَيْنَ أَن
يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإنسان﴾ [الأحزاب: ٧٢]: فأبين
إلا أن يؤدينها وأبى الإنسان إلا أن يكون محتملًا لها لا يؤدِّيها. ثم وصفه
بالظلم لكونه تاركًا لأداء الأمانة، وبالجهل لإخطائه ما يسعده مع تمكنه منه وهو
أداؤه.
والثانى: أنَّ ما كُلِّفه الإنسان بلغ من عظمه وثقل محمله، أنه عُرض
على أعظم ما خلق الله من الأجرام وأقواه وأشده أن يتحمله ويستقل به، فأبى حمله
والاستقلال به، وأشفق منه، وحمله الإنسان على ضعفه ورخاوة قوته ﴿إِنَّهُ كَانَ
ظَلُومًا جَهُولًا﴾ [الأحزاب: ٧٢] حيث حمل الأمانة ثم لم يف بها، وضمنها ثم خاس
بضمانه فيها: ونحو هذا الكلام كثير فى لسان العرب، وما جاء القرآن إلا على طرقهم
وأساليبهم. ومن ذلك قولهم: «لو قيل للشحم أين تذهب؟ لقال: أسوى العوج» وكم لهم
من
١ / ٣١٦
أمثال على ألسنة البهائم
والجمادات، وتصور مقاولة الشحم محال ولكن الغرض أن السمن فى الحيوان مما يحسن
قبيحه، كما أن العجف مما يقبح حسنه، فصوَّر أثر السمن فيه تصويرًا هو أوقع فى نفس
السامع، وهى به آنس، وله أقبل وعلى حقيقته أوقف، وكذلك تصوير عظم الأمانة، وصعوبة
أمرها، وثقل محملها، والوفاء بها.
وهنا تقوم أمام الزمخشرى صعوبات ومشاكل
يصوِّرها لنا فى سؤاله: «فإن قلت: قد عُلِمَ وجه التمثيل فى قولهم للذى لا يثبت
على رأى واحد: أراك تُقَدِّم رِجْلًا وتُؤَخِّر أخرى، لأنه مُثِّلَت حاله فى
تميله وترجحه بين الرأيين، وتركه المضى على أحدهما، بحال مَن يتردد فى ذهابه فلا
يجمع رجليه للمضى فى وجهة، وكل واحد من الممثل والممثَّل به شئ مستقيم داخل تحت
الصحة والمعرفة، وليس كذلك ما فى هذه الآية، فإن عرض الأمانة على الجماد وإباءه
وإشفاقه محال فى نفسه غير مستقيم، فكيف صحّ بناء التمثيل على المحال؟ وما مثال
هذا إلا أن تُشبِّه شيئًا والمشبَّه به غير معقول».
ولكن الزمخشرى لا يقف
طويلًا أمام هذه الصعوبات، بل نراه يتخلص منها بكل دقة وبراعة حيث يقول: «قلت
الممثَّل به فى الآية، وفى قولهم: لو قيل للشحم أين تذهب، وفى نظائره، مفروض،
والمفروضات تتخيل فى الذهن كما المحققات مثلت حال التكليف فى صعوبته وثقل محمله،
بحاله المفروضة لو عُرِضت على السماوات والأرض والجبال لأبين أن يحملنها وأشفقن
منها».
ثم إن هذه الطريقة التى يعتمد عليها الزمخشرى فى تفسيره - أعنى طريقة
الفروض المجازية، وحمل الكلام الذى يبدو غريبًا فى ظاهره على أنه من قبيل
التعبيرات التمثيلية أو التخييلية - قد أثارت حفيظة خصمه السُّنِّى ابن المنير
الإسكندرى عليه، فاتهمه بأشنع التهم فى كثير من المواضع التى تحمل هذا الطابع،
ونسبه فيها إلى قِلَّة الأدب وعدم الذوق.
فمثلًا عندما يعرض الزمخشرى لقوله
تعالى فى الآية [٢١] من سورة الحشر: ﴿لَوْ أَنزَلْنَا هاذا القرآن على جَبَلٍ
لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ الله وَتِلْكَ الأمثال
نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾ .. نراه يقول: «هذا تمثيل
وتخييل كما مَرَّ فى قوله تعالى: ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الأمانة﴾ وقد دلَّ عليه قوله:
﴿وَتِلْكَ الأمثال نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ﴾ .. والغرض توبيخ الإنسان على قسوة قلبه
وقِلَّة تخشعه، عند تلاوة القرآن وتدبر قوارعه وزواجره».
ولكن هذا قد أغضب
ابن المنير على الزمخشرى فقال معقبًا عليه: "وهذا مما تقدَّم
١
/ ٣١٧
إنكارى عليه فيه، أفلا كان يتأدب بأدب الآية، حيث سمَّى
الله هذا مَثَلًا، ولم يقل: تلك الخيالات نضربها للناس؟. ألهمنا الله حُسْن الأدب
معه. والله الموفق».
ولكن الزمخشرى ولع بهذه الطريقة، فمشى عليها من أول
تفسيرهُ إلى آخره، ولم يقبل المعانى الظاهرة التى يُجوِّزها أهل السُّنَّة، بل
ويرونها أقرب إلى الصواب من غيرها، وهو فى كل ما يذكر من المعانى لا يعدم مثلًا
عربيًا سائرًا، أو بيتًا من الشعر القديم يشهد لما يقوله، كما أنه لا ينفك عن
التنديد بأهل السُّنَّة الذين يقبلون هذه المعانى الظاهرة ويقولون بها، وكثيرًا
ما ينسبهم من أجل ذلك إلى أنهم من أهل الأوهام والخرافات. وإليك بعض الأمثلة لتقف
على مقدار تمسكه بهذه الطريقة:
ففى سورة البقرة عند قوله تعالى فى الآية
[٢٥٥]: ﴿وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السماوات والأرض﴾ .. يذكر الزمخشرى أربع أوجه فى معنى
الكرسى، يقول فى الوجه الأول منها: إن كرسيُّه لم يضق عن السَّمَاوات والأرض
لبسطته وسِعَته، وما هو إلا تصوير لعظمته وتخييل فقط، ولا كرسى ثمة، ولا قعود،
ولا قاعد، كقوله: ﴿وَمَا قَدَرُواْ الله حَقَّ قَدْرِهِ والأرض جَمِيعًا
قَبْضَتُهُ يَوْمَ القيامة والسماوات مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ﴾ [الزمر: ٦٧] . من
غير تصور قبضة وطى ويمين، وإنما هو تخييل لعظمة شأنه، وتمثيل حسن، ألا ترى إلى
قوله: ﴿وَمَا قَدَرُواْ الله حَقَّ قَدْرِهِ﴾ ..
وبطبيعة الحال لم يرتض ابن
المنير هذا الكلام فتعقبه بقوله: «قوله فى الوجه الأول: إن ذلك تخييل للعظمة، سوء
أدب فى الإطلاق، وبُعْدٌ فى الإصرار. فإن التخييل إنما يُستعمل فى الأباطيل وما
ليست له حقيقة صدق، فإن يكن معنى ما قاله صحيحًا، فقد أخطأ فى التعبير عنه بعبارة
موهمة، لا مدخل لها فى الأدب الشرعى. وسيأتى له أمثالها مما يوجب الأدب أن
يُجتنب».
وفى سورة الأعراف عند قوله تعالى فى الآيتين [١٧٢، ١٧٣]: ﴿وَإِذْ
أَخَذَ رَبُّكَ مِن بنيءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ
على أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بلى شَهِدْنَآ أَن تَقُولُواْ
يَوْمَ القيامة إِنَّا كُنَّا عَنْ هاذا غَافِلِينَ * أَوْ تقولوا إِنَّمَآ
أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ
أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ المبطلون﴾ يقول ما نصه: وقوله: ﴿أَلَسْتُ
بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بلى شَهِدْنَآ﴾ من باب التمثيل ومعنى ذلك: أنه نصب لهم
الأدلة على ربوبيته ووحدانيته، وشهدت بها عقولهم وبصائرهم التى ركَّبها فيهم،
وجعلها مميزة بين
١ / ٣١٨
الضلالة والهدى،
فكأنه أشهدهم على أنفسهم وقررهم. وقال لهم: ﴿أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ﴾؟ وكأنهم
قالوا: بَلَى أنت ربنا، شهدنا على أنفسنا، وأقررنا بوحدانيتك. وباب التمثيل واسع
فى كلام الله تعالى ورسوله ﵇ وفى كلام العرب، ونظيره قوله تعالى ﴿إِنَّمَا
قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَآ أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ [النحل:
٤٠]، ﴿فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائتيا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَآ أَتَيْنَا
طَآئِعِينَ﴾ [فصلت: ١١] .. وقوله:
إذا قالت الأنساع للبطن الحق ... قالت له
ريح الصبا قرقار
ومعلوم أنه لا قول، وإنما هو تميل وتصوير للمعنى».
ولكن
ابن المنير السُّىِّ لم يرض هذا من الزمخشرى بطبيعة الحال، ولذا تعقبه بقوله:
«إطلاق التمثيل أحسن، وقد ورد الشرع به، وأما إطلاقه التخييل على كلام الله تعالى
فمردود ولم يرد به سمع. وقد كثر إنكارنا عليه لهذه اللفظة، ثم إن القاعدة مستقرة
على أن الظاهر ما لم يخالف المعقول يجب إقراره على ما هو عليه، فكذلك أقره
الأكثرون على ظاهره وحقيقته ولم يجعلوه مثالًا. وأما كيفية الإخراج والمخاطبة
فالله أعلم بذلك».
ويتصل بهذه الآية السابقة قوله تعالى فى الآية [٨] من
سورة الحديد: ﴿وَمَا لَكُمْ لاَ تُؤْمِنُونَ بالله والرسول يَدْعُوكُمْ
لِتُؤْمِنُواْ بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ﴾
.. فالزمخشرى يميل فى تفسير الميثاق هنا إلى المعنى الذى حمل عليه أخذ العهد فى
آية الأعراف، فيقول: «والمعنى: وأى عذر لكم فى ترك الإيمان والرسول يدعوكم إليه،
وينبهكم عليه، ويتلو عليكم الكتاب الناطق بالبراهين والحجج، وقبل ذلك قد أخذ الله
ميثاقكم بالإيمان، حيث رَكَّبَ فيكم العقول، ونصب لكم الأدلة، ومكَّنكم من النظر
وأزاح عللكم، فإذا لم تبق لكم عِلَّة بعد أدلة العقول وتنبيه الرسول، فمالكم لا
تؤمنون».
ولكن ابن المنير السُّنِّى، يريد أن يحمل أخذ الميثاق الذى فى سورة
الحديد، على المعنى الذى ارتضاه للفظ «العهد» فى سورة الأعراف، ولهذا نراه يرد
على الزمخشرى ويشدِّد عليه النكير فيقول: "ومما عليه أن يحمل أخذ الميثاق على ما
بينَّه الله فى آية غير هذه، إذ يقول تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن
بنيءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ على أَنفُسِهِمْ
أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بلى﴾ [الأعراف: ١٧٢] ولقد يريبنى منه إنكاره لكثير
من مثل هذه الظواهر، والعدول بها عن حقائقها مع إمكانها عقلًا، ووقوعها بالسمع
١
/ ٣١٩
قطعًا، إلى ما يتوهمه من تمثيل يسميه تخييلًا. فالقاعدة
التى تعتمد عليها كى لا يضرك ما يومئ إليه: أن كل ما جوَّزه العقل وورد بوقوعه
السمع، وجب حمله على ظاهره. والله الموفق».
ومسألة التمثيل والتخيل يستعملها
الزمخشرى بحرية أوسع فيما ورد من الأحاديث التى يبدو ظاهرها مستغربًا، وأسوق إليك
مثالًا أتى به الزمخشرى عند تفسيره لقوله تعالى فى الآية [٣٦] من سورة آل عمران:
﴿وِإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشيطان الرجيم﴾ .. قال ﵀: «وما
يروون من الحديث:»ما من مولود إلا والشيطان يمسه حين يولد فيستهل صارخًا من مس
الشيطان إياه إلا مريم وابنها«فالله أعلم بصحته، فإن صح فمعناه أن كل مولود يطمع
الشيطان فى إغوائه إلا مريم وابنها، فإنهما كانا معصومَيْن، وكذلك كل منَ كان فى
صفتهما، كقوله تعالى: ﴿... لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلاَّ عِبَادَكَ
مِنْهُمُ المخلصين﴾ [ص: ٨٢-٨٣] .. واستهلاله صارخًا من مسه، تخييل وتصوير لطمعه
فيه، كأنه يمسه ويضرب بيده عليه، ويقول: هذا ممن أغويه. ونحوه من التخييل قول ابن
الرومى:
لما تؤذن الدنيا به من صروفها ... يكون بكاء الطفل ساعة يولد
وأما
حقيقة المس والنخس كما يتوهم أهل الحشو فكلا، ولو سُلِّطَ إبليس على الناس بنخسهم
لامتلأت الدنيا صراخًا وعياطًا مما يبلونا به من نخسه».
وبالضرورة لم يرتض
ابن المنير هذا الصنيع من خصمه المعتزلى، فنراه يتورَّك عليه بقوله: «أما الحديث
فمذكور فى الصحاح متفَق على صحته، فلا محيص له إذن عن تعطيل كلامه ﵇ بتعميله ما
لا يحتمله، جنوحًا إلى اعتزال منتزع، فى فلسفة منتزعة، فى إلحاد. ظلمات بعضها فوق
بعض،. وقد قدمت عند قوله تعالى: ﴿لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الذي
يَتَخَبَّطُهُ الشيطان مِنَ المس﴾ [البقرة: ٢٧٥] ما فيه الكفاية. وما أرى الشيطان
إلا طعن فى خواصر القدرية حتى بقرها، وذكر فى قلوبهم حتى حمل الزمخشرى وأمثاله أن
يقول فى كتاب الله تعالى وكلام رسوله ﵇ بما يتخيل، كما قال فى هذا الحديث. ثم
تنظيره بتخييل ابن الرومى فى شعره جرأة وسوء أدب. ولو كان معنى ما قاله صحيحًا
لكانت هذه العبارة واجبًا أن تُجتنب. ولو كان الصراخ غير واقع من المولود لأمكن
على بُعْدٍ أن يكون تمثيلًا، أما وهو واقع مُشاهدَ فلا وجه لحمله على التخييل إلا
الاعتقاد الضئيل، وارتكاب الهوى الوبيل».
١ / ٣٢٠
*
*
* مبدأ الزمخشرى فى التفسير عندما يصادم النص القرآنى مذهبه:
والمبدأ
الذى يسير عليه الزمخشرى فى تفسيره ويعتمد عليه عندما تصادمه آية تخالف مذهبه
وعقيدته، هو حمل الآيات المتشابهة على الآيات المحكمة، وهذا المبدأ قد وجده
المزمخشرى فى قوله تعالى فى الآية [٧] من سورة آل عمران: ﴿هُوَ الذي أَنزَلَ
عَلَيْكَ الكتاب مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الكتاب وَأُخَرُ
مُتَشَابِهَاتٌ﴾ .. فـ «المحكمات» هى التى أحكمت عباراتها، بأن حُفظت من الاحتمال
والاشتباه. و«المتشابهات» هى المتشبهات المحتملات. و«أم الكتاب» هى أصله الذى
يُحمل عليه المتشابه، ويُرَد إليه، ويُفسَّر به.
علىَ هذا التفسير جرى
الزمخشرى فى كشَّافه عندما تَعرَّض لهذه الآية، وهو تفسير لا غبار عليه، كما أن
هذا المبدأ - أعنى مبدأ حمل الآيات المتشابهات على الآيات المحكمات - مبدأ سليم
يقول به غير الزمخشرى أيضًا من علماء أهل السُّنَّة، ولكن الذى لا نُسَلِّمه
للزمخشرى هو تطبيقه لهذا المبدأ على الآيات التى تصادمه، فإذا مَرَّ بآية تُعارِض
مذهبه، وآية أخرى فى موضوعها تشهد له بظاهرها، نراه يَدَّعى الاشتباه فى الأولى
والإحكام فى الثانية، ثم يحمل الأولى على الثانية وبهذا يُرضى هواه المذهبى،
وعقيدته الاعتزالية.
وقد مَثَّل الزمخشرى لحملِ المتشابه على المحكم ورده
إليه بقوله تعالى فى الآية [١٠٣] من سورة الأنعام: ﴿لاَّ تُدْرِكُهُ الأبصار
وَهُوَ يُدْرِكُ الأبصار﴾ . وقوله فى الآيتين [٢٢، ٢٣] من سورة القيامة: ﴿وُجُوهٌ
يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ * إلى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ﴾ .. فهو يرى أن الآية الأولى
محكمة، والآية الثانية متشابهة، وعليه فتجب أن تكون الآية الثانية متفقة مع الآية
الأولى، ولا سبيل إلى ذلك إلا بحملها عليها، وردها إليها.
ومَثَّل أيضًا
بقوله تعالى فى الآية [٢٨] من سورة الأعراف: ﴿وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً
قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَآ آبَاءَنَا والله أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ الله
لاَ يَأْمُرُ بالفحشآء أَتَقُولُونَ عَلَى الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ﴾، وقوله فى
الآية [١٦] من سورة الإسراء: ﴿وَإِذَآ أَرَدْنَآ أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً
أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا القول
فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا﴾ .. فهو يرى أن الآية الأولى محكمة، والآية الثانية
متشابهة، فلا بد من حمل الثانية على الأولى ليتفق المعنى ويتحدد المراد.
ثم
لا ينتهى الزمخشرى من تطبيقه لهذا المبدأ حتى يتساءل عن السبب الذى من أجله لم
يكن القرآن كله محكمًا، وعن السر الذى من أجله جعل الله فى القرآن آيات
١
/ ٣٢١
محتملات متشابهات؟. ولكن الزمخشرى يجيب بنفسه على ما
تساءل عنه فيقول: «لو كان كله محكمًا لتعلَّق الناس به لسهولة مأخذه، ولأعرضوا
عما يحتاجون فيه إلى الفحص والتأمل من النظر والاستدلال، ولو فعلوا ذلك لعطلوا
الطريق الذى لا يُتوصل إلى معرفة الله وتوحيده إلا به، ولما فيه المتشابه من
الابتلاء والتمييز بين الثابت على الحق والمتزلزل فيه، ولما فى تقادح العلماء
وإتعابهم القرائح فى استخراج معانيه ورده إلى المحكم من الفوائد الجليلة، والعلوم
الجمَّة، ونيل الدرجات عند الله، ولأن المؤمن المعتقد أن لا مناقضة فى كلام الله
ولا اختلاف، وإذا رأى فيه ما يتناقض فى ظاهره، وأهمه طلب ما يُوفِق بينه ويجريه
على سنن واحد، ففكَّر وراجع نفسه وغيره، ففتح الله عليه، وتبين مطابقة المتشابه
المحكم، ازداد طمأنينة إلى معتقدة وقوة فى إيقانه».
وهذا الجواب فى منتهى
القوة والسداد، وابن المنير السُّنَّى يمر على كل هذا الكلام فلا يرى فيه أدنى
ناحية من نواحى الاعتزال، لكنه يغضب على الزمخشرى فقط من أجل أنه عدَّ قوله
تعالى: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ * إلى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ﴾ [القيامة:
٢٢-٢٣] من قبيل المتشابه الذى يجب حمله على آية الأنعام: ﴿لاَّ تُدْرِكُهُ
الأبصار وَهُوَ يُدْرِكُ الأبصار﴾ [الأنعام: ١٠٣]، فيقول معقبًا عليه: قال محمود:
«المحكمات التى أُحكمت عباراتها.. إلخ» قال أحمد: هذا كما قدمته عنه من تكلفه
لتنزيل الآى على وفق ما يتعقده، وأعوذ بالله من جعل القرآن تبعًا للرأى، وذلك أن
معتقده إحالة رؤية الله تعالى، بناء على زعم القدرية من أن الرؤية تستلزم الجسمية
والجهة، فإذا ورد عليهم النص القاطع الدال على وقوع الرؤية كقوله: ﴿إلى رَبِّهَا
نَاظِرَةٌ﴾ مالوا إلى جعله من المتشابه حتى يردوه بزعمهم إلى الآية التى يَدَّعون
أن ظاهرها يوافق رأيهم، ولآية قوله تعالى: ﴿لاَّ تُدْرِكُهُ الأبصار﴾ ثم جمع ابن
المنير بين الآيتين بما يتفق مع مذهبه السُّنِّى.. ثم قال: وأما الآيتان الأخريان
اللتان إحداهما قوله تعالى: ﴿إِنَّ الله لاَ يَأْمُرُ بالفحشآء﴾، والأخرى التى هى
قوله تعالى: ﴿أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا﴾، فلا ينازع الزمخشرى فى
تمثيل المحكم والمتشابه بهما".
* *
* انتصار الزمخشرى لعقائد
المعتزلة:
هذا.. وإن الزمخشرى لينتصر لمذهبه الاعتزالى، ويؤيده بكل ما يملك
من قوة الحُجَّة وسلطان الدليل، وإنَّا لنلمس هذا التعصب الظاهر فى كثير مما
أسلفنا من النصوص، وفى غيرها مما نسوقه لك من الأمثلة. وهو يحرص كل الحرص على أن
يأخذ من الآيات القرآنية ما يشهد لمذهبه، وعلى أن يتأوَّل ما كان منها معارضًا
له.
* انتصاره لرأى المعتزلة فى أصحاب الكبائر:
فمثلًا عند تفسيره
لقوله تعالى فى الآية [٩٣] من سورة النساء: ﴿وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا
١
/ ٣٢٢
مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا
وَغَضِبَ الله عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا﴾ .. نجده
يجعل هذه الآية أهمية كبيرة فى نُصْرة مذهبه، ويتيه بها على خصومه من أهل
السُّنَّة، ويُنَدِّد بهم حيث يقولون بجواز مغفرة الذنب وإن لم يتب منه صاحبه،
وبأن صاحب الكبيرة لا يخلد فى النار، فيقول مستغلًا لهذه الفرصة المواتية
للاستهزاء من خصومه السُّنِّين:»هذه الآية فيها من التهديد والإيعاد، والإبراق
والإرعاد، أمر عظيم وخَطْبٌ غليظ، ومن ثَمَّ رُوِى عن ابن عباس ما رُوِى من أن
توبة قاتل المؤمن عمدًا غير مقبولة، وعن سفيان: كان أهل العلم إذا سُئِلوا،
قالوا: لا توبة له، وذلك محمول منهم على الاقتداء بسُنَّة الله فى التغليظ
والتشديد، وإلا فكل ذنب ممحو بالتوبة، وناهيك بمحو الشرك دليلًا، وفى الحديث:
«لزوال الدنيا أهون على الله من قتل امرئ مسلم». وفيه: «لو أن رجلا قُتِلَ
بالمشرق وآخر رَضِىَ بالمغرب لأُشِرَك فى دمه» وفيه: «إن هذا الإنسان بنيان الله،
ملعون مَن هدم بنيانه». وفيه: «مَن أعان على قتل مؤمن بشطر كلمة جاء يوم القيامة
مكتوب بين عينيه: آيس من رحمة الله». والعجب من قوم يقرأون هذه الآية ويرون ما
فيها ويسمعون هذه الأحاديث العظيمة وقول ابن عباس بمنع التوبة، ثم لا تدعهم
أشعبيتهم وطماعيتهم الفارغة، واتباعهم هواهم، وما يُخَيِّل إليهم مُناهم، أن
يطمعوا فى العفو عن قاتل المؤمن بغير توبة: ﴿أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القرآن أَمْ
على قُلُوبٍ أَقْفَالُهَآ﴾ [محمد: ٢٤] .. ثم ذكر الله ﷾ التوبة فى قتل الخطأ -
لما عسًى يقع من نوع تفريط فيما يجب من الاحتياط والتحفظ - فيه حسم للأطماع وأى
حسم، ولكن لا حياة لمن تنادى، فإن قلت: هل فيها دليل على خلود مَن لم يتب من أهل
الكبائر؟ قلت: ما أبين الدليل، وهو تناوله قوله: ﴿وَمَن يَقْتُلْ﴾ أىُّ قاتل كان،
من مسلم أو كافر، تائب أو غير تائب، إلا أن التائب أخرجه الدليل، فمَن ادَّعى
إخراج المسلم غير التائب فليأت بدليل مثله«.
وفى سورة الأنعام عند تفسيره
لقوله تعالى فى الآية [١٥٨]: ﴿يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لاَ يَنفَعُ
نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ في
إِيمَانِهَا خَيْرًا﴾ .. نجد الزمخشرى يمسك بهذه الآية، ويستدل بها على صحة
عقيدته فى أن الكافر والعاصى سواء فى الخلود فى النار فيقول:»والمعنى أن أشراط
الساعة إذا جاءت - وهى آيات ملجئة مضطرة - ذهب أوان التكليف عندها، فلم ينفع
الإيمان حينئذ نفسًا غير مقدَّمة إيمانها من قبل ظهور الآيات، أو مقدِّمة الإيمان
غير كاسبة فى إيمانها خيرًا، فلم يُفَرِّق - كما ترى - بين النفس الكافرة إذا
آمنت فى غير وقت الإيمان، وبين النفس التى آمنت فى وقته ولم تكسب خيرًا، ليعلم أن
قوله: ﴿الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات﴾ جمع
١ / ٣٢٣
بين
قرينتين لا ينبغى أن تنفك إحداهما عن الأخرى، حتى يفوز صاحبهما ويسعد، وإلا
فالشقوة والهلاك».
* *
* انتصاره لمذهب المعتزلة فى الحُسْن والقُبْح
العقليين:
ولما كان الزمخشرى يقول بمبدأ المعتزلة فى التحسين والتقبيح
العقليين، كان لابد له أن يتخلص من ظاهر هذين النصين المنافيين لمذهبه، وهما:
قوله تعالى فى الآية [١٦٥] من سورة النساء: ﴿رُّسُلًا مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ
لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى الله حُجَّةٌ بَعْدَ الرسل﴾، وقوله فى الآية
[١٥] من سورة الإسراء: ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حتى نَبْعَثَ رَسُولًا﴾ ..
فنراه فى الآية الأولى يستشعر معارضة ظاهر الآية لهذا المبدأ فيسأل هذا السؤال:
«كيف يكون للناس على الله حُجَّة قِبَل الرسل وهم محجوجون بما نصبه الله من
الأدلة التى النظر فيها موصل إلى المعرفة، والرسل فى أنفسهم لم يتوصلوا إلى
المعرفة إلا بالنظر فى تلك الأدلة، ولا عُرِفَ أنهم رسل الله إلا بالنظر
فيها»؟
ثم يجيب هو عن هذا السؤال فيقول: «قلت: الرسل منُبِّهون عن الغفلة،
وباعثون على النظر، كما ترى علماء أهل العدل والتوحيد، مع تبليغ ما حملوه من
تفصيل أُمور الدين، وبيان أحوال التكليف. وتعليم الشرائع، فكان إرسالهم إزاحة
للعِلَّة، وتتميمًا لإلزام الحُجَّة لئلا يقولوا: لولا أرسلتَ إلينا رسولًا
فيوقظنا من سِنَة الغفلة، وينبهنا لما وجب الانتباه له».
وعندما تكلم عن
الآية الثانية نراه يستشعر مثل ما استشعر فى الآية الأولى، ويسأل ويجيب بمثل ما
سأل عنه وأجاب به فى الآية الأولى فيقول: «فإن قلت: الحُجَّة لازمة لهم قبل بعثة
الرسل، لأن معهم أدلة العقل التى بها يُعرف الله، وقد أغفلوا النظر وهم متمكنون
منه، واستيجابهم العذاب لإغفالهم النظر فيما معهم، وكفرهم لذلك، لا لإغفال
الشرائع التى لا سبيل إليها إلا بالتوقيف والعمل بها لا يصح إلا بعد الإيمان.
قلت: بعثة الرسل من جملة التنبيه على النظر والإيقاظ من رقدة الغفلة، لئلا
يقولوا: كنا غافلين فلولا بعثتَ إلينا رسولًا ينبهنا على النظر فى أدلة
العقل».
* *
* انتصار لمعتقد المعتزلة فى السحر:
ثم إن الزمخشرى -
كغيره من المعتزلة - لا يقول بالسحر ولا يعتقد فى السَحَرة، ولهذا نجده عندما
يفسِّر سورة الفلق التى تشهد لأهل السُّنَّة ولا تشهد له، لا تخونه مهارته، ولا
تعوزه الحيلة التى يخرج بها فى تفسيره من هذه الورطة الصريحة، كما نجده يشدِّد
النكير ويغرق فى الاستهزاء والسخرية بأهل السُّنَّة القائلين بحقيقة السحر، وذلك
حيث يقول: "النفَّاثات: النساء أو النفوس، أو الجماعات السواحر، اللاتى يعقدن
عُقَدًا فى الخيوط، وينفثن عليها ويرقين. والنفث: النفخ من
١ /
٣٢٤
ريق. ولا تأثير لذلك، اللَّهم إلا إذا كان ثَمَّ إطعام شئ
ضار، أو سقيه، أو إشمامه، أو مباشرة المسحور به على بعض الوجوه، ولكن الله ﷿، قد
يفعل عند ذلك فعلًا على سبيل الامتحان الذى يتميز به الثبت على الحق، من الحشوية
والجهلة من العوام، فينسبه الحشو والرعاع إليهن وإلى نفثهن، والثابتون بالقول
الثابت لا يلتفتون إلى ذلك ولا يعبأون به. فإن قلت: فما معنى الاستعاذة من
شرِّهن؟ قلت: فيها ثلاثة أوجه:
أحدها: أن يُستعاذ من عملهن الذى هو صنعة
السحر ومن إثمهن فى ذلك.
والثانى: أن يُستعاذ من فتنتهن الناس بسحرهن وما
يخدعنهم به من باطلهن.
والثالث: أن يُستعاذ مما يصيب الله به من الشر عند
نفثهن.
ويجوز أن يُراد بهن النساء الكيَّادات من قوله: ﴿إِنَّ كَيْدَكُنَّ
عَظِيمٌ﴾ [يوسف: ٢٨] تشبيهًا لكيدهن بالسحر والنفث فى العُقَد، أو اللاتى يفتنَّ
الرجال بتعرضهن لهم وعرضهن محاسنهن، كأنهن يسحرنهم بذلك».
وفى الحق أن هذه
محاولة عقلية عنيفة من الزمخشرى يريد من ورائها أن يحوِّل الحقائق التى ورد
بوقوعها الكتاب والسُّنَّة. إلى ما يتناسب مع هواه وعقيدته. ولقد دهش ابن المنير
من هذه المحاولة وحكم على الزمخشرى بأنه: «استفزَّه الهوى حتى أنكر ما عُرِف، وما
به إلا أن يتبع اعتزاله، ويغطى بكفه وجه الغزالة».
* *
* انتصاره لمذهب
المعتزلة فى حرية الإرادة وخلق الأفعال:
ولقد تأثر الزمخشرى برأيه الاعتزالى
فى حرية الإرادة وخلق الأفعال، ولكنه وجد ما يصادمه من الآيات الصريحة فى أن
أفعال العباد كلها مخلوقة لله تعالى، فأراد أن يتفادى هذا التصادم ويعمل على
الخروج من هذه الورطة الكبرى، فساعده على ما أراد هذا المعنى الذى تمسك به
المعتزلة ونفعهم فى كثير من المواضع. وهو «اللُّطف» من الله، فباللُّطف منه تعالى
يسهل عمل الخير على الإنسان، وبسلبه يصعب عليه عمل الخير.
هذا «اللُّطف» وما
يتصل به من «التوفيق» ساعد الزمخشرى على الخروج من الضائقة التى صادفته عندما
تناول بالتفسير تلك الآيات القرآنية الصريحة فى أن الله يخلق أفعال العباد خيرها
وشرها، والتى يعتبرها أهل السُّنَّة سلاحًا قويًا لهم ضد هذه النظرية
الاعتزالية.
ففى سورة آل عمران عند قوله تعالى فى الآية [٨]: ﴿رَبَّنَا لاَ
تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا﴾ .. نجد الزمخشرى يستشعر من هذه الآية
أن قلوب العباد بيد الله يقلبها كيف
١ / ٣٢٥
يشاء،
فمَن أراد الله هدايته هداه، ومَن أراد ضلاله أضله، ولكنه يفر من هذا الظاهر
فيقول: ﴿لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا﴾ لا تبلنا ببلايا تزيغ فيها قلوبنا ﴿بَعْدَ إِذْ
هَدَيْتَنَا﴾ وأرشدتنا لدينك. أو لا تمنعنا ألطافك بعد إذ لطفتَ بنا».
وفى
سورة المائدة عند قوله تعالى فى الآية [٤١]: ﴿وَمَن يُرِدِ الله فِتْنَتَهُ فَلَن
تَمْلِكَ لَهُ مِنَ الله شَيْئًا أولائك الذين لَمْ يُرِدِ الله أَن يُطَهِّرَ
قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدنيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخرة عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ ..
نجد الزمخشرى لا يجزع من هذا الظاهر الذى يتشبث به أهل السُّنَّة ويتيهون به على
خصومهم، بل نراه يفسِّرها حسب هواه ووفق مبدئه فيقول: ﴿وَمَن يُرِدِ الله
فِتْنَتَهُ﴾ تركه مفتونًا وخذلانًا.. ﴿فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ الله شَيْئًا﴾
فلن نستطيع له من لطف الله وتوفيقه شيئًا، أولئك الذين لم يُرد الله أن يمنحهم من
ألطافه ما يُطَهِّر به قلوبهم، لأنهم ليسوا من أهلها، لعلمه أنهم لا تنفع فيهم
ولا تنجع: ﴿إِنَّ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ الله لاَ يَهْدِيهِمُ الله﴾
[النحل: ١٠٤] .. ﴿كَيْفَ يَهْدِي الله قَوْمًا كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ﴾
[آل عمران: ٨٦] .
وهكذا نجد الزمخشرى بواسطة هذه التأويلات يُخْضِع لمبدئه
الاعتزالى فى الجبر والاختيار مثل هذه المواضع القرآنية التى لم تكن طيَّعة له.
ولكن ابن المنير السكندرى لم ترقه هذه التأويلات، ولم يُسَلِّم بها لخصمه، فأخذ
يناقشه فى معنى اللُّطف مناقشة حادة ساخرة، فعندما تكلم الزمخشرى عن قوله تعالى
فى الآية [٢٧٢] من سورة البقرة: ﴿لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ ولاكن الله يَهْدِي
مَن يَشَآءُ﴾ وتذرع بلفظ «اللُّطف» تعقبه ابن المنير فقال: «المعتقَد الصحيح، أن
الله هو الذى يخلق الهدى لمن يشاء هداه، وذلك هو اللُّطف، لا كما يزعم الزمخشرى
أن الهدى ليس خلقا لله إنما العبد يخلقه لنفسه، وإن أطلق الله تعالى إضافة الهدى
إليه كما فى الآية فهو مؤوَّل - على زعم الزمخشرى - بلطف الله الحامل للعبد على
أن يخلق هداه. إن هذا إلا اختلاق. وهذه النزعة من توابع معتقدهم السئ فى خلق
الأفعال، وليس علينا هداهم، ولكن الله يهدى من يشاء، وهو المسئول ألا يزيغ قلوبنا
بعد إذ هدانا».
وعندما تكلَّم الزمخشرى عن قوله تعالى فى الآية [٣٩] من سورة
الأنعام: ﴿مَن يَشَإِ الله يُضْلِلْهُ وَمَن يَشَأْ يَجْعَلْهُ على صِرَاطٍ
مُّسْتَقِيمٍ﴾، وقال: ﴿مَن يَشَإِ الله يُضْلِلْهُ﴾ .. أى يخذله ويخله وضلاله لم
يلطف به، لأنه ليس من أهل اللُّطف. ﴿وَمَن يَشَأْ يَجْعَلْهُ على صِرَاطٍ
مُّسْتَقِيمٍ﴾ أى يلطف به، لأن اللُّطف يجدى عليه. عندما قال ذلك تعقبه ابن
المنير فقال: "وهذا من تحريفاته للهداية والضلالة اتباعًا لمعتقده الفاسد فى
أن
١ / ٣٢٦
الله تعالى لا يخلق الهدى ولا
الضلال، وأنهما من جملة مخلوقات العباد. وكم تخرق عليه هذه العقيدة فيروم أن
يرقعها، وقد اتسع الخرق على الراقع».
وعندما تكلم الزمخشرى عن قوله تعالى فى
الآية [٤٣] من سورة الأعراف: ﴿وَقَالُواْ الحمد للَّهِ الذي هَدَانَا لهاذا وَمَا
كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لولا أَنْ هَدَانَا الله﴾ وتأوَّل الهداية هنا بمعنى اللُّطف
والتوفيق كعادته. تعقبه ابن المنير وردّ عليه ردًا فى غاية التهكم والسخرية فقال:
«وهذه الآية - يعنى قوله تعالى: ﴿وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لولا أَنْ هَدَانَا
الله﴾ - تكفح وجوه القدرية بالرد، فإنها شاهدة شهادة تامة مؤكدة باللام على أن
المهتدى مَنْ خلق الله له الهدى، وأن غير ذلك محال أن يكون، فلا يهتدى إلا مَن
هدى الله ولو لم يهده لم يهتد، وأما القدرية فيزعمون أن كل مهتد خلق لنفسه الهدى
فهو إذن مهتد وإن لم يهده الله، إذ هدى الله للعبد خلق الهدى له، وفى زعمهم أن
الله تعالى لم يخلق لأحد من المهتدين الهدى ولا يتوقف ذلك على خلقه. تعالى الله
عما يقولون. ولما فطن الزمخشرى لذلك جرى على عادته فى تحريف الهدى من الله تعالى
إلى اللُّطف الذى بسببه يخلق العبد الاهتداء لنفسه. فأنصِف من نفسك، واعرِض قول
القائل: المهتدى مَن اهتدى بنفسه من غير أن يهديه الله - أى يخلق له الهدى - على
قوله تعالى حكاية عن قول الموَحِّدين فى دار الحق: ﴿وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ
لولا أَنْ هَدَانَا الله﴾ .. وانظر تباين هذين القولين - أعنى قول المعتزلى فى
الدنيا وقول الموَحِّد فى الآخرة فى مقعد صدق - واختر لنفسك أى الفريقين تقتدى
به. وما أراك - والخطاب لكل عاقل - تعدل بهذا القول المحكى عن أولياء الله فى دار
الإسلام منوهًا به فى الكتاب العزيز، قول قدرى ضال تذبذب مع هواه وتعصبه فى دار
الغرور والزوال. نسأل الله حُسْن المآب والمآل».
* *
* خصومة العقيدة
بين الزمخشرى وأهل السُّنَّة:
ومن أجل هذا الخلاف العقيدى بين الزمخشرى وأهل
السُّنَّة، نجد الخصومة بينهم حادة عنيفة، كل يتهم خصمه بالزيغ والضلال، ويرميه
بأوصاف يسلكه بها فى قرن واحد مع الكفرة الفجرة، وتلك - على ما أعتقد - مبالغة
مُسِفَّة فى الخصومة - ما كان ينبغى لأحد الخصمين أن يخوض فيها على هذا الوجه.
وبخاصة بعد ما عُرِف من أن كليهما يهدف إلى تنزيه الله عما لا يليق بكماله. وإليك
بعض الحملات التى وجهها كل من الخصمين إلى الآخر، لتلمس بنفسك مبلغ هذه الخصومة
وتحكم عليها:
* ح
١ / ٣٢٧
ملة الزمخشرى
على أهل السُّنَّة:
هذا.. وإن المتتبع لما فى الكشَّاف من الجدل المذهبى،
ليجد أن الزمخشرى قد مزجه فى الغالب بشئ من المبالغة فى السخرية والاستهزاء بأهل
السُّنَّة، فهو لا يكاد يدع فرصة تمر بدون أن يُحقِّرهم ويرميهم بالأوصاف
المقذعة، فتارة يسميهم المجبرة، وأخرى يسميهم الحشوية، وثالثة يسميهم المشبهة،
وأحيانًا يسميهم القدرية، تلك التسمية التى أطلقها أهل السُّنَّة على منكرى
القَدَر، فرماهم بها الزمخشرى لأنهم يؤمنون بالقَدَر، كما جعل حديث الرسول الذى
حكم فيه على القدرية أنهم مجوس هذه الأُمة مُنصَّبًا عليهم، وذلك حيث قال عند
تفسيره لقوله تعالى فى الآية [١٧] من سورة فصلت: ﴿وَأَمَّا ثَمُودُ
فَهَدَيْنَاهُمْ فاستحبوا العمى عَلَى الهدى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ العذاب
الهون بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ﴾: «ولو لم يكن فى القرآن حُجَّة على القدرية
الذين هم مجوس هذه الأمة بشهادة نبيها ﷺ وكفى به شاهدًا - إلا هذه الآية لكفى بها
حُجَّة».
كما سمَّاهم بهذا الاسم ورماهم بأنهم يحيون لياليهم فى تحمل فاحشة
ينسبونها إلى الله تعالى، حيث قال عند تفسيره لقوله تعالى فى الآيتين [٩، ١٠] من
سورة الشمس: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا﴾: «وأما
قول مَن زعم أن الضمير فى»زَكّى«و»دَسَّى«لله تعالى، وأن تأنيث الراجع
إلى»مَنْ«لأنه فى معنى النفس، فمن تعكس القدرية الذين يوركون على الله قَدَرًا هو
برئ منه ومتعال عنه، ويحيون لياليهم فى تمحل الفاحشة ينسبونها إليه».
والظاهرة
العجيبة فى خصومة الزمخشرى، أنه يحرص كل الحرص على أن يُحوِّل الآيات القرآنية
التى وردت فى حق الكفار إلى ناحية مخالفيه فى العقيدة من أهل السُّنَّة، ففى سورة
آل عمران حيث يقول الله تعالى فى الآية [١٠٥]: ﴿وَلاَ تَكُونُواْ كالذين
تَفَرَّقُواْ واختلفوا مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ البينات﴾ .. نجد الزمخشرى بعد ما
يعترف بأن الآية واردة فى حق اليهود والنصارى، يُجَوِّز أن تكون واردة فى حق
مبتدعى هذه الأُمة، وينص على أنهم المشبهة، والمجبرة، والحشوية، وأشباههم.
وفى
سورة يونس حيث يقول الله تعالى فى الآية [٣٩]: ﴿بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ
يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ﴾ .. يقول: "بل سارعوا إلى
التكذيب وفاجأوه فى بديهة السماع قبل أن يفقهوه ويعلموا كُنْهَ أمره، وقبل أن
يتدبروه ويقفوا على تأويله
١ / ٣٢٨
ومعانيه،
وذلك لفرط نفورهم عما يخالف دينهم. وشرادهم عن مفارقة دين آبائهم، كالناشئ على
التقليد من الحشوية، إذا أحس بكلمة لا توافق ما نشأ عليه وألفه - وإن كان أضوأ من
الشمس فى ظهور الصحة وبيان الاستقامة - أنكرها فى أول وهلة، واشمأز منها قبل أن
يحسن إدراكها بحاسة سمعه من غير فكر فى صحة أو فساد، لأنه لم يُشعر قلبه إلا صحة
مذهبه وفساد ما عداه من المذاهب».
ولقد أظهر الزمخشرى تعصبًا قويًا
للمعتزلة، إلى حد جعله يُخرج خصومه السُّنِّيين من دين الله وهو الإسلام، وذلك
حيث يقول عند تفسيره لقوله تعالى فى الآية [١٨] من سورة آل عمران: ﴿شَهِدَ الله
أَنَّهُ لاَ إلاه إِلاَّ هُوَ والملائكة وَأُوْلُواْ العلم﴾ .. الآية: «فإن قلت:
ما المراد بـ»أُولى العلم«الذين عظَّمهم هذا التعظيم، حيث جمعهم معهْ ومع
الملائكة فى الشهادة على وحدانيته وعدله؟ قلت: هم الذين يُثبتون وحدانيته وعدله
بالحجج والبراهين القاطعة، وهم علماء العدل والتوحيد - يريد أهل مذهبه - فإن قلت:
ما فائدة هذا التوكيد؟ - يعنى فى قوله: ﴿إِنَّ الدِّينَ عِندَ الله الإسلام﴾ [آل
عمران: ١٩] .. قلت: فائدته أن قوله: ﴿لاَ إلاه إِلاَّ هُوَ﴾ توحيد. وقوله:
﴿قَآئِمًَا بالقسط﴾ تعديل، فإذا أردفه قوله: ﴿إِنَّ الدِّينَ عِندَ الله الإسلام﴾
فقد آذن أن الإسلام هو العدل والتوحيد، وهو الدين عند الله، وما عداه فليس عنده
فى شئ من الدين. وفيه أن مَن ذهب إلى تشبيه أو ما يؤدى إليه كإجازة الرؤية، أو
ذهب إلى الجبر الذى هو محض الجَوْر، لم يكن على دين الله الذى هو الإسلام. وهذا
بيِّنٌ جَلِىٌ كما ترى».
هذه بعض الأمثلة التى يتجلى فيها تعصب الزمخشرى
لمذهبه الاعتزالى، وانتصاره له. ويتضح منها مبلغ إيغاله فى الخصومة، ومقدار حملته
على أهل السُّنَّة، وهناك غيرها كثير مما أثار عليه خصومه من السُّنِّيين،
فتعقبوه بالمناقشة والتفنيد، وردوا بشكل حاسم على ما أورده فى كشّافه من
استنتاجات اعتقادية. من آى القرآن الكريم، وقالوا: إنها جافة وقائمة على الرأى
الطليق.
ومع ذلك لم يجحدوا ما كان للزمخشرى من أثر محمود فى التفسير، فنراهم
- على ما بينهم وبينه من خصومه، ورغم ما سيمر بك من حملاتهم عليه - يُقَدِّرون
إلى حد بعيد ما كان له من مجهود خاص فى عمله التفسيرى الذى يرجع إلى الناحية
البلاغية واللُّغوية، كما نراهم فى الغالب يسطون على كتابه ويأخذون منه ما يعجبون
به ويرون أنه عزيز المنال إلا على الزمخشرى.
*
١ / ٣٢٩
*
حملة ابن القيم على الزمخشرى:
فهذا هو العلاَّمة ابن القيم، كثيرًا ما يثور
على الزمخشرى من أجل تفسيره الاعتزالى.
فمثلًا نراه يذكر ما فَسَّرَ به
الزمخشرى قوله تعالى فى الآية [١٧٦] من سورة الأعراف: ﴿وَلَوْ شِئْنَا
لَرَفَعْنَاهُ بِهَا ولاكنه أَخْلَدَ إِلَى الأرض واتبع هَوَاهُ﴾ .. ثم يقول:
«فهذا منه شنشنة نعرفها من قَدَرى نافٍ للمشيئة العامة، مبعد للنجعة فى جعل
الكلام الله معتزليًا قدريًا».
*
* حملة ابن المنير على الزمخشرى:
ومن
الذين خصصوا جهودهم للكشَّاف بعد قرون من ظهوره، قاضى الإسكندرية، أحمد بن محمد
بن منصور المنير المالكى، فقد كتب عليه حاشية خاصة سماها «الانتصاف» ناقش فيها
الزمخشرى وجادله فى بعض ما جاء فى كشَّافه من أعاريب وغيرها، ولكنه ركز مجهوده
العظيم فى بيان ما تضمنه من الاعتزال، وإبطال ما فيه من تأويلات تتناسب مع مذهب
الزمخشرى وتتفق مع هواه.
ويظهر أن القاضى المالكى كان يميل بوجه عام إلى
الجدال والنقاش، فقد قيل: إنه كان بصدد أن يرد على كتب الإمام الغزالى، تلك الكتب
التى لم تكن مقبولة عند المالكية، ولم يصرفه عن قصده إلا أُمه التى لم يطب خاطرها
بهذه الحرب التى يثيرها ابنها ضد الموتى كما أثارها ضد الأحياء، ولكنه مع ذلك فعل
هذا مع الزمخشرى، واعتقد أنه بعمله هذا قد ثار لأهل السُّنَّة من أهل البدعة، وقد
صرَّح بذلك حيث توجَّه باللوم للزمخشرى على تفسيره لقوله تعالى فى الآيتين [٢٣،
٢٤] ُ من سورة آل عمران: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين أُوتُواْ نَصِيبًا مِّنَ
الكتاب يُدْعَوْنَ إلى كِتَابِ الله لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يتولى فَرِيقٌ
مِّنْهُمْ وَهُمْ مُّعْرِضُونَ * ذلك بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النار
إِلاَّ أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَّا كَانُواْ
يَفْتَرُونَ﴾ ..
فقال: «فانظر إليه كيف أشحن قلبه بغضًا لأهل السُّنَّة
وشقاقًا، وكيف ملأ الأرض من هذه النزعات نفاقًاَ، فالحمد لله الذى أهَّل عبده
الفقير إلى التورك عليه، لأن آخذ من أهل البدعة بثأر أهل السُّنَّة، فأصمى
أفئدتهم من قواطع البراهين بمقومات الأسِّنة».
كما اعتقد أنه أدَّى للمسلمين
وللإسلام خدمة عظيمة، كافية لأن تقوم له عذرًا أمام الله وأمام الناس عن تخلفه عن
الخروج للغزو والجهاد فى سبيل الله وذلك حيث يقول بعد تعقيبه على الزمخشرى فى
تفسيره لقوله تعالى فى الآية [١٢٢] من سورة
١ / ٣٣٠
التوبة:
﴿وَمَا كَانَ المؤمنون لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ
فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدين وَلِيُنذِرُواْ
قَوْمَهُمْ إِذَا رجعوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ﴾ .. قال أحمد: ولا
أجد فى تأخرى عن حضور الغزاة عذرًا إلا صرف الهمة لتحرير هذا المُصنَّف، فإنى
تفقهَّتُ فى أصل الدين وقواعد العقائد مؤيدًا بآيات الكتاب العزيز، مع ما اشتمل
عليه من صيانة حوزتها من مكايد أهل البدع والأهواء، وأنا مع ذلك أرجو من الله
حُسْن التوجه. بلَّغنا الله الخير، ووفَّقنا لما يرضيه، وجعل أعمالنا خالصة لوجهه
الكريم».
وابن المنير - مع شدة خصومته للزمخشرى - لا ينسى ما له من أثر طيب
فى التفسير - فكثيرًا ما يُبدى إعجابه به، لتنويهه بأساليب القرآن العجيبة التى
تنادى بأنه ليس من كلام البَشر.. وكثيرًا ما يعترف - بتقدير كبير وفى عدالة
واعتدال - بتحليلاته اللُّغوية، ونكاته البلاغية.
فمثلًا عندما تعقَّب
تفسيره لقوله تعالى فى الآية [٩١] من سورة الأنعام: ﴿وَمَا قَدَرُواْ الله حَقَّ
قَدْرِهِ إِذْ قَالُواْ مَآ أَنزَلَ الله على بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ قُلْ مَنْ
أَنزَلَ الكتاب الذي جَآءَ بِهِ موسى نُورًا وَهُدًى لِّلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ
قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُمْ مَّا لَمْ تعلموا
أَنتُمْ وَلاَ آبَاؤُكُمْ قُلِ الله ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ﴾
.. نجده يقول: «وهذا أيضًا من دقة نظره فى الكتاب العزيز والعمق فى آثار معانده،
وإبراز محاسنه».
وفى سورة يونس عند قوله تعالى فى الآية [١١]: ﴿وَلَوْ
يُعَجِّلُ الله لِلنَّاسِ الشر استعجالهم بالخير﴾ .. الآية، نجده يثنى على تفسيره
لها فيقول: «وهذا أيضًا من تنبيهات الزمخشرى الحسنة التى تقوم على دقة نظره».
وفى
سورة هود عند قوله تعالى فى الآية [٩١]: ﴿قَالُواْ ياشعيب مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا
مِّمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلاَ رَهْطُكَ
لَرَجَمْنَاكَ وَمَآ أَنتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ﴾ .. أثنى على تفسيره لقوله:
﴿وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا﴾ .. فقال: «وهذا من محاسن نكته الدالة على
أنه كان مليًا بالحذاقة فى علم البيان».
وعندما بيَّن الزمخشرى سر التعبير
بقوله تعالى فى الآية [٥١] من سورة النحل: ﴿وَقَالَ الله لاَ تَتَّخِذُواْ إلاهين
اثنين﴾ .. قال ابن المنير معترفًا بدقة الزمخشرى وبراعته: «وهذا الفصل من حسناته
التى لا يُدافع عنها».
ومع كل هذا الاعتراف، فإن ابن المنير يلاحظ على
الزمخشرى - أحيانًا - أنه سئ
١ / ٣٣١
النية
فيما يقول: فمن ذلك أن الزمخشرى لما تكلم عن قوله تعالى فى الآية [٣٣] من سورة
الرعد: ﴿وَجَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَآءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا
لاَ يَعْلَمُ فِي الأرض أَم بِظَاهِرٍ مِّنَ القول﴾ .. وختم تفسيره للآية بقوله:
«وهذا الاحتجاج وأساليبه العجيبة التى ورد عليها، مناد على نفسه بلسان طلق ذلق:
أنه ليس من كلام البشر لمن عرف وأنصف من نفسه. فتبارك الله أحسن الخالقين» لما
قال الزمخشرى هذه المقالة، لم يتركها ابن المنير تمر بدون أن يُنبِّه على ما فيها
فقال: «هذه الخاتمة كلمة حق أراد بها باطلًا، لأنه يُعَرِّض فيها بخلق القرآن،
فتنبه لها. وما أسرع المُطالع لهذا الفصل أن يمر على لسانه وقلبه ويستحسنه، وهو
غافل عما تحته، لولا هذا التنبيه والإيقاظ».
وفى الوقت نفسه لم يترك ابن
المنير فرصة تمر بدون أن يكيل للزمخشرى بمثل كيله من الإقذاع فى القول والسخرية
به وبأمثاله من المعتزلة، فنراه يرد هجمات الزمخشرى التى يشنها على أهل السُّنَّة
بعبارات شديدة يوجهها إلى الزمخشرى وأصحابه، مع تحقيره له ولهم، واستبشاعه
لتفسيره وتفسيرهم.
فمثلًا فى سورة آل عمران عندما تكلم الزمخشرى عن قوله
تعالى فى الآية [١٨]: ﴿شَهِدَ الله أَنَّهُ لاَ إلاه إِلاَّ هُوَ﴾ .. الآية،
ونوَّه بأنه وأصحابه أهل العدل والتوحيد، وأنهم أُولوا العلم المرادون بالآية،
وصرَّح - أو كاد - بخروج أهل السُّنَّة من مِلَّة الإسلام. عندما تكلم الزمخشرى
بهذا كله، عقَّب عليه ابن المنير بتهكمه اللاذع، وسخريته الفاضحة فقال: "وهذا
تعريض بخروج أهل السُّنَّة من رِبقة الإسلام، بل تصريح، وما ينقم منهم إلا أن
صدَّقوا وعد الله عباده المكرمين على لسان نبيهم الكريم ﷺ بأنهم يرون ربهم كالقمر
ليلة البدر لا يُضامون فى رؤيته، ولأنهم وحَّدوا الله حق توحيده، فشهدوا أنْ لا
إله إلا هو، ولا خالق لهم ولأفعالهم إلا هو، واقتصروا على أن نسبوا لأنفسهم قدرة
تقارن فعلهم، لا خلق لها ولا تأثير غير التمييز بين أفعالهم الاختيارية
والاضطرارية. وتلك هى المُعَبَّرُ عنه شرعًا بالكسب فى مثل قوله تعالى: ﴿فَبِمَا
كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ﴾ [الشورى: ٣٠] .
هذا إيمان القوم وتوحيدهم، لا كقوم
يغيرون فى وجه النصوص، فيجحدون الرؤية التى يظهر أن جحدهم لها سبب فى حرمانهم
إياها، ويجعلون أنفسهم الخسيسة شريكة لله فى مخلوقاته، فيزعمون أنهم يخلقون
لأنفسهم بما شاءوا من أفعال على خلاف مشيئة ربهم، محادة ومعاندة لله فى مُلكه، ثم
بعد ذلك يتسترون بتسمية
١ / ٣٣٢
أنفسهم: أهل
العدل والتوحيد، والله أعلم بمن اتقى، وَلَجَبْرٌ خيرٌ من إشراك، إن كان أهل
السُّنَّة مجبرة فأنا أول المجبِّرين.
ولو نظرت أيها الزمخشرى بين الإنصاف
إلى جهالة القدرية وضلالها لانبعثتَ إلى حدائق السُّنَّة وظلالها، ولخرجتَ من
مزالق البدع ومزَّالها - ولكن كره الله انبعاثهم - ولعلمتَ أى الفريقين أحق
بالأمن، وأولى بالدخول فى أُولى العلم المقرونين فى التوحيد بالملائكة المشرفين
بعطفهم على اسم الله ﷿».
وفى سورة المائدة عند قوله تعالى فى الآية [٤١]:
﴿وَمَن يُرِدِ الله فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ الله شَيْئًا أولائك
الذين لَمْ يُرِدِ الله أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ﴾ .. الآية، نراه يُمعن فى
السخرية من المعتزلة، ويغرق فى النكير على تفسير الزمخشرى لهذه الآية. وذلك حيث
يقول: «كم يتلجلج والحق أبلج. هذه الآية - كما تراها - منطبقة على عقيدة أهل
السُّنَّة فى أن الله تعالى أراد الفتنة من المفتونين، ولم يرد أن يُطَهِّر
قلوبهم من دنس الفتنة ووضر الكفر، لا كما تزعم المعتزلة من أنه تعالى ما أراد
الفتنة من أحد، وأراد من كل أحد الإيمان وطهارة القلب، وأن الواقع من الفتن على
خلاف إرادته، وأن غير الواقع من طهارة قلوب الكفار مراد، ولكن لم يقع، فحسبهم هذه
الآية وأمثالها - لو أراد الله أن يطهر قلوبهم من وضر البدع: ﴿أَفَلاَ
يَتَدَبَّرُونَ القرآن أَمْ على قُلُوبٍ أَقْفَالُهَآ﴾ [محمد: ٢٤] .
وما
أبشع صرف الزمخشرى هذه الآية عن ظاهرها بقوله: لم يرد الله أن يمنحهم ألطافه،
لعلمه أن ألطافه لا تنجع فيهم ولا تنفع، فلطف مَن ينفع؟ وإرادة مَن تنجع؟ وليس
وراء الله للمرء مطمع».
ولقد يتطرف ابن المنير فيرمى خصومه من المعتزلة
بالشرك، ففى سورة يونس عند تفسير الزمخشرى لقوله تعالى فى الآية [٣١]: ﴿قُلْ مَن
يَرْزُقُكُم مِّنَ السمآء والأرض﴾ ... الآية، نرى ابن المنير يقول: وهذه الآية
كافحة لوجوه القدرية، الزاعمين أن الأرزاق منقسمة، فمنها ما رزقه الله للعبد وهو
الحلال، ومنها ما رزقه العبد لنفسه وهو الحرام، وهذه الآية ناعية عليهم هذا الشرك
الخفى لو سمعوا: ﴿أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصم وَلَوْ كَانُواْ لاَ يَعْقِلُونَ﴾
[يونس: ٤٢] ..
وإنَّا لنرى ابن المنير يعتمد فى حملاته الساخرة القاسية التى
يحملها على الزمخشرى، على ما يعتمد عليه الزمخشرى فى حملاته على أهل السُّنَّة،
أو على
١ / ٣٣٣
الأصح، يأخذ من كلام الزمخشرى
نفسه ما يبرر به موقفه الذى وقفه منه للرد على اعتزالاته، فحيث يقول الزمخشرى فى
تفسير قوله تعالى فى الآية [٧٣] من سورة التوبة: ﴿ياأيها النبي جَاهِدِ الكفار
والمنافقين واغلظ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ المصير﴾:
«﴿جَاهِدِ الكفار﴾ بالسيف ﴿والمنافقين﴾ بالحُجَّة ﴿واغلظ عَلَيْهِمْ﴾ فى الجهادين
جميعًا ولا تحابهم. وكل مَن وُقِفَ منه على فساد فى العقيدة فهذا الحكم ثابت فيه،
يُجاهَد بالحُجَّة، وتُستعمل معه الغلظة ما أمكن»، عندما يقول الزمخشرى هذا،
ويرمى من ورائه إلى أن الآية شاملة لخصومه من أهل السُّنَّة، نرى ابن المنير
يستغل هذا الكلام لنفسه ويقلبه على خصمه المعتزلى فيقول: «الحمد لله الذى أنطقه
بالحُجَّة لنا فى إغلاظ عليه أحيانًا».
وقد تبدو على ابن المنير علائم
البِشْر، وتأخذه نشوة الفرح والسرور، عندما يرى أن الزمخشرى قد ابتعد عن متطرفى
المعتزلة، وخالفهم فى بعض آرائهم، وأخذ برأى أهل السُّنَّة ومثل هذا نراه واضحًا
عندما فسَّر الزمخشرى قوله تعالى فى الآية [١٨٥] من سورة آل عمران: ﴿كُلُّ نَفْسٍ
ذَآئِقَةُ الموت وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ القيامة فَمَن
زُحْزِحَ عَنِ النار وَأُدْخِلَ الجنة فَقَدْ فَازَ وَما الحياة الدنيا إِلاَّ
مَتَاعُ الغرور﴾ .. حيث قال فى تفسير هذه الآية: «فإن قلت: كيف اتصل به - أى
بقوله: ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الموت﴾ - ﴿وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ﴾
.. قلت: اتصاله به على أن كلكم تموتون، ولا بد لكم من الموت، ولا تُوَفَّون
أجوركم على طاعاتكم ومعاصيكم عقب موتكم، وإنما تُوَفَّونها يوم قيامكم من القبور.
فإن قلت: فهذا يوهم نفى ما يُروى أن القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر
النار. قلت: كلمة التوفية تُزيل هذا الوهم، لأن المعنى أن توفية الأجور وتكميلها
يكون ذلك اليوم، وما يكون قبل ذلك فبعض الأجور».
وهنا نرى ابن المنير يعترف
بأن الزمخشرى قد أحسن فى مخالفته لأصحابه من المعتزلة، وموافقته لأهل السُّنَّة،
فيقول: «هذا - كما ترى - صريح فى اعتقاده حصول بعضها قبل يوم القيامة، وهو المراد
بما يكون فى القبر من نعيم وعذاب، ولقد أحسن الزمخشرى فى مخالفة أصحابه فى هذه
العقيدة، فإنهم يجحدون عذاب القبر، وها هو قد اعترف به».
* * *
* موقف
الزمخشرى من المسائل الفقهية:
هذا.. وإن الزمخشرى ﵀ يتعرض إلى حد ما، وبدون
توسع إلى المسائل الفقهية التى تتعلق ببعض الآيات القرآنية، وهو معتدل لا يتعصب
لمذهبه الحنفى.
١ / ٣٣٤
ففى سورة البقرة عند
قوله تعالى فى الآية [٢٢٢]: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ المحيض قُلْ هُوَ أَذًى
فاعتزلوا النسآء فِي المحيض وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حتى يَطْهُرْنَ فَإِذَا
تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ الله إِنَّ الله يُحِبُّ
التوابين وَيُحِبُّ المتطهرين﴾ .. يقول:»... وبين الفقهاء خلاف فى الاعتزال، فأبو
حنيفة وأبو يوسف يوجبان اعتزال ما اشتمل عليه الإزار. ومحمد بن الحسن لا يوجب إلا
اعتزال الفَرْج، وروى محمد حديث عائشة رضى الله عنها: أن عبد الله بن عمر سألها:
هل يباشر الرجل امرأته وهى حائض؟ فقال: تشد إزارها على سفلتها، ثم ليباشرها إن
شاء، وما روى زيد بن أسلم: أن رجلًا سأل النبى ﷺ: ما يحل لى من امرأتى وهى حائض؟
قال: «لتشد عليها إزارها، ثم شأنك بأعلاها»، ثم قال: وهذا قول أبى حنيفة، وقد جاء
ما هو أرخص من هذا عن عائشة رضى الله عنها أنها قالت: «يجتنب شعار الدم وله ما
سوى ذلك». وقرئ «يطَّهرن» بالتشديد، أى يتطهرن، بدليل قوله: ﴿فَإِذَا
تَطَهَّرْنَ﴾ .. وقرأ عبد الله: «حتى يتطَّهرْن» و«يَطْهرن» بالتخفيف، والتطهر
الاغتسال، والطُهر انقطاع دم الحيض. وكلتا القراءتين مما يجب العمل به، فذهب أبو
حنيفة إلى أن له أن يقربها فى أكثر الحيض بعد انقطاع الدم وإن لم تغتسل وفى أقل
الحيض لا يقربها حتى تغتسل أو يمضى عليها وقت صلاة. وذهب الشافعى إلى أنه لا
يقربها حتى تَطْهر وتَطَّهر فتجمع بين الأمرين، وهو قول واضح، ويعضده قوله:
﴿فَإِذَا تَطَهَّرْنَ﴾«.
وعندما فَسَّر قوله تعالى فى الآية [٢٣٧] من سورة
البقرة: ﴿إِلاَّ أَن يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَاْ الذي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النكاح﴾
.. قال:»والذى بيده عقدة النكاح الولى، يعنى إلا أن تعفو المطلقَّات عن أزواجهن
فلا يطالبنهم بنصف المهر، وتقول المرأة: ما رآنى، ولا خدمته، ولا استمتع بى، فكيف
آخذ منه شيئًا. أو يعفو الولى الذى يلى عقد نكاحهن، وهو مذهب الشافعى. وقيل هو
الزوج وعفوه أن يسوق إليها المهر كاملًا، وهو مذهب أبى حنيفة، والأول ظاهر
الصحة«.
وفى سورة الطلاق عند قوله تعالى فى الآية [١]: ﴿ياأيها النبي إِذَا
طَلَّقْتُمُ النسآء فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُواْ العدة﴾ .. يقول
ما نصه:»فطلقوهن مستقبلات لعدتهن، كقولك: أتيته لليلة بقيت من المحرَّم، أى
مستقبلًا لها. وفى قراءة رسول الله ﷺ: «فى قبل عِدَّتهم»، وإذا طُلِّقت المرأة فى
الطُهْر المتقدم للقُرْءِ الأول من أقرائها فقد طُلِّقت مستقبلة لعِدَّتها.
والمراد
أن يُطَّلقَن فى طُهر لم يُجامَعْنَ فيه، ثم يُخلين حتى تنقضى عدتهن، وهذا أحسن
الطلاق، وأدخله فى السُّنَّة، وأبعده من الندم، ويدل عليه ما روى عن إبراهيم
١
/ ٣٣٥
النخعى: أن أصحاب رسول الله ﷺ كانوا يستحبون ألاَّ
يُطَلِّقوا أزواجهم للسُّنَّة إلا واحدة، ثم لا يُطَلِّقوا غير ذلك حتى تنقضى
العِدَّة، وكان أحسن عندهم من أن يُطلِّق الرجل ثلاثًا فى ثلاثة أطهار. وقال مالك
بن أنس رضى الله عنه: لا أعرف طلاق السُّنَّة إلا واحدة، وكان يكره الثلاث مجموعة
كانت أو متفرقة.
وأما أبو حنيفة وأصحابه فإنما كرهوا ما زاد على الواحدة فى
طُهر واحد، فأما مُفرَّقًا فى الأطهار فلا، لما روى عن رسول الله ﷺ أنه قال لابن
عمر حيث طلَّق امرأته وهى حائض: «ما هكذا أمرك الله، إنما السُّنَّة أن تستقبل
الطُهر استقبالًا، وتُطلِّقها لكل قُرء تطليقه». وروى أنه قال لعمر: «مر ابنك
فليراجعها، ثم ليدعها حتى تحيض ثم تطهر، ثم ليُطلِّقها إن شاء، فتلك العِدَّة
التى أمر الله أن تُطَّلَق لها النساء».
وعند الشافعى رضى الله عنه لا بأس
بإرسال الثلاث، وقال: لا أعرف فى عدد الطلاق سُنَّة ولا بدعة، وهو مباح.
فمالك
يراعى فى طلاق السُّنَّة الواحدة والوقت. وأبو حنيفة يراعى التفريق والوقت.
والشافعى يراعى الوقت وحده«.
* *
* موقف الزمخشرى من الإسرائيليات:
ثم
إن الزمخشرى مُقِلٌ من ذكر الروايات الإسرائيلية، وما يذكره من ذلك إما أن
يُصَدِّره بلفظ»روى«، المُشعر بضعف الرواية وبُعدها عن الصحة، وأما أن يُفَوِّض
علمه إلى الله سبحانه، وهذا فى الغالب يكون عند ذكره للروايات التى لا يلزم من
التصديق بها مساس بالدين، وإما أن يُنَبِّه على درجة الرواية ومبلغها من الصحة أو
الضعف ولو بطريق الإجمال، وهذا فى الغالب يكون عند الروايات التى لها مساس بالدين
وتَعلُّق به.
فمثلًا عند تفسيره لقوله تعالى فى الآية [٣٥] من سورة النمل:
﴿وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ﴾ .. الآية، نجده يذكر هذه الرواية
فيقول:»روى أنها بعثت خمسمائة غلام عليهم ثياب الجوارى، وحليهم الأساور والأطواق
والقرطة، راكبى خيل مغشَّاة بالديباج محلاَّة اللُّجُم والسروج بالذهب المرصَّع
بالجواهر، وخمسمائة جارية على رماك فى زِىِّ الغلمان، وألف لَبِنة من ذهب وفضة،
وتاجًا مكَّلَلًا بالدُّرِ والياقوت المرتفع والمسك والعنبر، وحُقًا فيه دُرَّة
عذراء وجزعة معوجة الثقب، وبعثت رجلين من أشراف قومها: المنذر ابن عمرو، وآخر ذا
رأى وعقل، وقالت: إن كان نبيًا مَيَّز بين الغلمان والجوارى، وثقب الدُرَّة ثقبًا
مستويًا، وسلك فى الخرزة خيطا. ثم قالت للمنذر:
١ / ٣٣٦
إن
نظر إليك نظر غضبان فهو ملك، فلا يهولنك، وإن رأيته بَشًَّا لطيفًا فهو نبى.
فأقبل الهدهد فأخبر سليمان، فأمر الجن فضربوا لَبِنَ الذهب والفضة، وفرشوه فى
ميدان بين يديه طوله سبعة فراسخ، وجعلوا حول الميدان حائطًا شُرَفَهُ من الذهب
والفضة، وأمر بأحسن الدواب فى البر والبحر فربطوها عن يمين الميدان ويساره على
اللَّبِن، وأمر بأولاد الجن - وهم خلق كثير - فأُقيموا على اليمين واليسار، ثم
قعد على سريره والكراسى من جانبيه، واصطفت الشياطين صفوفًا فراسخ، والإنس صفوفًا
فراسخ، والوحش والسباع والهوام والطيور كذلك، فلما دنا القوم ونظروا بُهتوا،
ورأوا الدواب تروث على اللَّبِن فتقاصرت إليهم نفوسهم ورموا بما معهم، ولما وقفوا
بين يديه نظر إليهم بوجه طلق وقال: ما وراءكم؟ وقال: أين الحُقّ؟ وأخبره جبريْل ﵇
بما فيه، فقال لهم: إن فيه كذا وكذا، ثم أمر الأرضة فأخذت شعرة ونفذت فيها فجُعِل
رزقها فى الشجرة، وأخذت دودة بيضاء الخيط بفيها ونفذت فيها فجُعِل رزقها فى
الفواكه، ودعا بالماء فكانت الجارية تأخذ الماء بيدها فتجعله فى الأخرى ثم تضرب
به وجهها، والغلام كما يأخذه يضرب به وجهه، ثم رَدَّ الهدية وقال للمنذر: ارجع
إليهم، فقالت: هو نبى وما لنا به طاقة، فشخصت إليه فى اثنى عشر ألف قَيْلٍ تحت كل
قَيْلٍ ألوف».
وفى سورة القصص عند تفسيره لقوله تعالى فى الآية [٣٨]:
﴿وَقَالَ فِرْعَوْنُ ياأيها الملأ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِّنْ إلاه غَيْرِي
فَأَوْقِدْ لِي ياهامان عَلَى الطين فاجعل لِّي صَرْحًا﴾ .. الآية، قال: «روى أنه
لما أمر ببناء الصرح، جمع هامان العمال حتى اجتمع خمسون ألف بنَّاء سوى الأتباع
والأُجراء، وأمر بطبخ الآجر والجص ونجر الخشب وضرب المسامير، فشيَّده حتى بلغ ما
لم يبلغه بنيان أحد من الخلق، فكان البانى لا يقدر أن يقوم على رأسه يبنى، فبعث
الله تعالى جبريل ﵇ عند غروب الشمس فضربه بجناحه فقطَّعه ثلاث قطع، وقعت قطعة على
عسكر فرعون فقتلت ألف ألف رجل، ووقعت قطعة فى البحر، وقطعة فى المغرب ولم يبق أحد
من عُمَّاله إلا قد هلك. ويروى فى هذه القصة أن فرعون ارتقى فوقه فرمى بنُشابه
إلى السماء، فأراد الله أن يفتنهم، فرُدت إليه ملطوخة بالدم، فقال: قد قتلتُ إلَه
موسى، فعندها بعث الله جبريل ﵇ لهدمه، والله أعلم بصحته».
فالقصة الأولى
صَدَّرها الزمخشرى بلفظ: «روى» المشعر بضعفها. والقصة الثانية صَدَّرها أيضًا
بهذا اللفظ وعَقَّبَ عليها بقوله: «والله أعلم بصحته» مما يَدُل على أنه متشكك فى
صحة هذه الرواية. وكِلتا القصتين على فرض صحتهما لا مطعن فيهما
١
/ ٣٣٧
ولا مغمز من ورائها يحلق الدين، ولهذا اكتفى الزمخشرى
بما ذكر فى حكمه عليهما.
وفى سورة»ص«عند تفسيره لقوله تعالى: ﴿وَهَلْ
أَتَاكَ نَبَأُ الخصم إِذْ تَسَوَّرُواْ المحراب﴾ .. الآيات [٢١] وما بعدها إلى
آخر القصة نراه يقول:»كان أهل زمان داود ﵇ يسأل بعضهم بعضًا أن ينزل له عن امرأته
فيتزوجها إذا أعجبته، وكانت لهم عادة فى المواساة بذلك قد اعتادوها - وقد روينا
أن الأنصار كانوا يُواسون المهاجرين بمثل ذلك - فاتفق أن عين داود وقعت على امرأة
رجل يقال له «أوريا» فأحبها، فسأله النزول له عنها، فاستحيا أن يرده، ففعل،
فتزوجها - وهى أم سليمان - فقيل له: إنك مع عظيم منزلتك، وارتفاع مرتبتك وكبر
شأنك، وكثرة نسائك، لم يكن ينبغى لك أن تسأل رجلًا ليس له إلا امرأَة واحدة
النزول عنها، بل كان الواجب عليك مغالبة هواك، وقهر نفسك، والصبر على ما امتُحنتَ
به. وقيل: خطبها «أوريا» ثم خطبها داود فآثره أهلها، فكان ذنبه أن خطب على خِطبة
أخيه المؤمن مع كثرة نسائه.
وأما ما يُذكر أن داود ﵇، تمنَّى منزلة آبائه
إبراهيم وإسحاق ويعقوب، فقال: يا رب، إن آبائى قد ذهبوا بالخير كله، فأوحى إليه
أنهم ابتلوا ببلايا فصبروا عليها، قد ابتُلِىَ إبراهيم بنمروذ وذبح ولده، وإسحاق
بذبحه وذهاب بصره، ويعقوب بالحزن على يوسف، فسأل الابتلاء، فأوحى الله إليه: إنك
لمبتلىً فى يوم كذا وكذا فاحترس، فلما حان ذلك اليوم، دخل محرابه، وأغلق بابه،
وجعل يُصلِّى ويقرأ الزبور، فجاء الشيطان فى صورة حمامة من ذهب، فمدَّ يده
ليأخذها لابن له صغير فطارت، فامتد إليها فطارت، فوقعت فى كوّة فتتبعها، فأبصر
امرأة جميلة قد نفضت شعرها فغطى بدنها، وهى امرأة أوريا، وهو من غزاة البلقاء،
فكتب إلى أيوب بن صوريا - وهو صاحب بعث البلقاء - أن ابعث أوريا وقَدِّمه على
التابوت - وكان من يتقدم لا يحل له أن يرجع حتى يفتح الله على يده أو يستشهد -
ففتح الله على يده وسلم، فأمر برده مرة أخرى وثالثة حتى قُتِل، فأتاه خبر قتله
فلم يحزن كما يحزن على الشهداء، وتزوج امرأته. فهذا ونحوه، مما لا يصح أن
يُحَدَّث به عن بعض المتسمين بالصلاح من أفناء المسلمين، فضلًا عن بعض أعلام
الأنبياء. وعن سعيد بن المسيب والحارث الأعور: أن علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه
قال: مَن حَدَّثكم بحديث داود على ما يرويه القُصَّاص، جلدته مائة وستين جَلْدة،
وهو حد الفرية على الأنبياء. وروى أنه حُدِّث بذلك عمر بن عبد العزيز وعنده رجل
من أهل الحق فكذَّب المحدِّث به وقال: إن كانت القصة على ما فى كتاب الله فما
ينبغى أن يُلتمس خلافها، وأعظم بأن يقال غير ذلك، وإن كان كما ذكرت وكفَّ الله
عنها سترًا على نبيه، فما ينبغى إظهارها عليه،
١ / ٣٣٨
فقال
عمر: لسماعى هذا الكلام أحبُّ إلىّ مما طلعت عليه الشمس. والذى يدل عليه المثل
الذى ضربه الله لقصته ﵇ ليس إلا طلبه إلى زوج المرأة أن ينزل عنها فحسب«.
فأنت
ترى أن الزمخشرى يرتضى قصة النزول عن الزوجة، وقصة الخطبة على الخطبة، ولا يرى فى
ذلك إخلالًا بعصمة داود، ولا مساسًا بمقام النبوة، ويمثل قصة النزول بما كان من
تنازل الأنصار للمهاجرين عن أزواجهم فى مبدأ الهجرة، ويروى أن الآية تدل على ذلك،
ولكنه يستنكر القصة الأخيرة، ويذكر فى الأخبار ما يؤكد استبعادها، وذلك لأنه يرى
فيها - لو صحَّت - إخلالًا بمقام النبوة، وهدمًا لعصمة نبى الله داود ﵇.
كذلك
نرى الزمخشرى فى السورة نفسها عند تفسيره لقوله تعالى فى الآية [٣٤]: ﴿وَلَقَدْ
فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا على كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ﴾ ..
يقول»قيل: فُتِن سليمان بعد ما مُلِّك عشرين سنة، ومَلَك بعد الفتنة عشرين سنة.
وكانت من فتنته: أنه وُلِد له ابن فقالت الشياطين: إن عاش لم ننفك من السخرة،
فسبيلنا أن نقتله أو نخبله، فعلم. فكان يغذوه فى السحاب، فما راعه إلا أن أُلقى
على كرسيه ميتًا، فتنبه على خطئه فى أن لم يتوكل فيه على ربه، فاستغفر ربه وتاب
إليه. وروى عن النبى ﷺ: «قال سليمان: لأطوفنَّ الليلة على سبعين امرأة، كل واحدة
تأتى بفارس يجاهد فى سبيل الله - ولم يقل إن شاء الله - فطاف عليهنَّ فلم يحمل
إلا امرأة واحدة، جاءت بشق رجل، والذى نفسى بيده لو قال: إن شاء الله لجاهدوا فى
سبيل الله فرسانًا أجمعون». فذلك قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ﴾ .
وهذا ونحوه مما لا بأس به.
وأما ما يروى من حديث الخاتم والشيطان وعبادة
الوثن فى بيت سليمان فالله أعلم بصحته. حكوا أن سليمان بلغه خبر صيدون، وهى مدنية
فى بعض الجزائر، وأن بها مَلِكًا عظيم الشأن لا يُقوى عليه لتحصنه بالبحر، فخرج
إليه تحمله الريح حتى أناخ بجنوده من الجن والإنس فقتل ملكها، وأصاب بنتًا له
اسمها «جرادة». ومن أحسن الناس وجهًا، فاصطفاها لنفسه. وأسلمت، وأحبها. وكانت لا
يرقأ دمعها على أبيها، فأمر الشياطين فمثَّلوا لها صورة أبيها فكستها مثل كسوته،
وكانت تغدو إليها وتروح مع ولائدها، يسجدن له كعادتهنّ فى مُلكه، فأخبر آصف
سليمان بذلك، فكسر الصورة، وعاقب المرأة، ثم خرج وحده إلى فَلاةٍ وفُرش له الرماد
فجلس عليه تائبًا إلى الله متضرعًا. وكانت له أم ولد يقال لها «أمينة» إذا دخل
للطهارة أو لإصابة امرأة وضع
١ / ٣٣٩
خاتمه
عندها - وكان مُلكه فى خاتمه - فوضعه عندها يومًا، وأتاها الشيطان صاحب البحر -
وهو الذى دَلَّ سليمان على الماس حين أمر ببناء بيت المقدس، واسمه «صخر» - على
صورة سليمان فقال: يا أمينة، خاتمى، فتختَّم به وجلس على كرسى سليمان، وعكفت عليه
الطير والجن والإنس وغيَّر سليمان من هيئته، فأتى أمينة لطلب الخاتم فأنكرته
وطردته، فعرف أن الخطيئة قد أدركته. فكان يدور على البيوت يتكفف، فإذا قال أنا
سليمان، حثوا عليه التراب وسبُّوه، ثم عمد إلى السمَّاكين ينقل لهم السمك فيعطونه
كل يوم سمكتين فمكث على ذلك أربعين صباحًا عدد ما عُبِد الوثن فى بيته، فأنكر آصف
وعظماء بنى إسرائيل حكم الشيطان. وسأل آصف نساء سليمان، فقلن: ما يدع امرأة منا
فى دمها ولا يغتسل من جنابة. وقيل: بل نفذ حكمه فى كل شئ إلا فيهن. ثم طار
الشيطان وقذف الخاتم. فتختَّم به ووقع ساجدًا، ورجع إليه مُلكه، وجاب صخرة لـ
«صخر» فجعله فيها، وسدَّ عليه بأخرى، ثم أوثقها بالحديد والرصاص وقذفه فى البحر.
وقيل: لما افتتن كان يسقط الخاتم من يده لا يتماسك فيها، فقال له آصف: إنك لمفتون
بذنبك. والخاتم لا يقر فى يدك، فتُبْ إلى الله ﷿. ولقد أبى العلماء المتقنون
قبوله، وقالوا: هذا من أباطيل اليهود، والشياطين لا يتمكون من فعل هذه الأفاعيل،
وتسليط الله إياهم على
عباده حتى يقعوا فى تغيير الأحكام، وعلى نساء
الأنبياء حتى يفجروا بهن قبيح. وأما اتخاذ التماثيل فيجوز أن تختلف فيه الشرائع،
ألا ترى إلى قوله: ﴿مِن مَّحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ﴾ [سبأ: ١٣] .. وأما السجود
للصورة فلا يُظَن بنبى الله أن يأذن فيه، وإذا كان بغير علمه فلا عليه".
وجَلِىُّ
أن الزمخشرى قد صرَّح بجواز الروايتين (الأولى والثانية) ورأى أنه لا بأس من وقوع
إحداهما، ولكنه فَنَّدَ الرواية الأخيرة - رواية صخر المارد - وبَيَّنَ أنها
تُذْهِب بعصمة الأنبياء، ولا تتفق وقواعد الشريعة.
... وهكذا لم يقع
الزمخشرى فيما وقع فيه غيره من المفسِّرين من الاغترار بالقَصص الإسرائيلى
والأخبار المختلفة المصنوعة، وهذه محمدة أخرى لهذا المفسِّر الكبير تُحمَد له
ويُشكَر عليها.
وبعد.. فهذه الكتب الثلاثة: تنزيه القرآن عن المطاعن، وأمالى
الشريف المرتضى، وكشَّاف الزمخشرى، هى كل ما وصل إلى أيدينا من تراث المعتزلة
ومؤلفاتهم فى التفسير، وهى وإن كانت قليلة بالنسبة لما لم تنله أيدينا من تفاسير
المعتزلة، يمكن أن تكون تعويضًا مقبولًا إلى حد كبير عن التفاسير التى طوتها يد
النسيان، وأدرجتها
١ / ٣٤٠
فى غضون الزمن
السحيق. وهى بعد ذلك تُعتبر أثرًا خالدًا ومهمًا، لا فى تاريخ التفسير الاعتزالى
فقط، بل فيه، وفى تاريخ الأدب العربى كذلك، لما تشتمل عليه من بحوث أدبية قيمة،
تلقى لنا ضوءًا على ما كان بين الأدب والتفسير من تأثر كل منهما بالآخر وتأثيره
فيه. والله أعلم.
* * *
١ / ٣٤١