الكتاب: التذهيب في أدلة متن الغاية والتقريب المشهور بـ متن أبي شجاع في الفقه الشافعي
المؤلف: مصطفى ديب البغا الميداني الدمشقي الشافعي
الموضوع: الفقه، أحاديث الأحكام
الناشر: دار ابن كثير دمشق - بيروت
الطبعة: الرابعة، ١٤٠٩ هـ - ١٩٨٩ م
عدد الصفحات: ٢٨٣
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع]
صفحة المؤلف: [مصطفى ديب البغا]
فهرس الموضوعات
كتاب الجنايات
القتل على ثلاثة أضرب:
١ - عمد محض
٢ - وخطأ
محض
٣ - وعمد خطأ:
فالعمد المحض هو: أن يعمد إلى ضربه بما
يقتل غالبا ويقصد قتله بذلك [١] فيجب القود عليه [٢] فإن عفا
(١) وهو
من أكبر الكبائر وأفظع الذنوب، قال الله تعالى: "وَمَنْ يقْتُلْ مُؤْمناً
مُتَعَمداً فَجَزَاؤهُ جَهنَّمُ خَالداً فِيهَا وَغَضِبَ الله عَلَيْهِ
وَلَعَنًهُ وَأعَد لَه عَذابا عَظِيماً" / النساءَ: ٩٣/.
وقال صلى
الله عليه وسلم: (اجْتَنِبُوا السَّبع المُوبُقَات) . أي المهلكات التي تدخل
فاعلها النار، وعد منها: (قتْل النفس الَتي حَرَّمَ اللهُ إلا بِالْحق) . رواه
مسلم (٨٩) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
وروى ابن ماجه بإسناد صحيح
(٢٦١٩) عن البراء بن عازب رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
(لَزَوَالُ الدنيا أهْوَنُ عَلى الله مِنْ قتْلِ مَؤْمِن بِغيرِ حَق) . وروى
الترمذي (١٣٩٥) وغيره مثلهَ عن ابن عمرو رضي الله عنهما.
والنصوص في
هذا كثيرة ومتوافرة.
(٢) أي القصاص وهو قتل القاتل، قال تعالى: "يَا
أيها الَّذين آمَنِوا كُتِبَ علَيْكُم الْقصَاصُ في الْقَتْلَى الحرُّ بالْحُر
وَالْعَبدُ بِالْعَبْد وَالأنْثى بالأنثى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أخِيهِ شَيْءٌ
فَاتباعٌ بِالْمَعْروفِ وَأداءٌ إلَيْهِ بِإحْسان ذَلِك تَخفِيفٌ مِنْ
رَبِّكمْ"
عنه وجبت دية مغلظة حالة في مال القاتل [١]
والخطأ
المحض أن يرمي إلى شيء فيصيب رجلا فيقتله
وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى
بَعْدَ ذَلكَ فَلَهُ عَذَابٌ أليمٌ "/ البقرة: ١٧٨/."
روى البخاري
(٤٢٢٨) وغيره، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: فالعفو أن يقبل في العمد الدية،
والاتباع بالمعروف: يتبع الطالبُ بمعروف، ويؤدي إليه المطلوب بإحسان. ولا فرق في
وجوب القصاص بين الرجال والنساء، لقوله تعالى: "وكتَبْنَا عَليهِم فِيهَا أن
النَّفْسَ بالنفسِْ" / المائدة: ٤٥/.
روى الطبراني، عن عمرو بن حزم
الأنصاري رضي الله عنه: أن رسول الله صلىَ الله عليه وسلم قال: (العَمْدُ قَودٌ)
.
(١) روى البخاري (١١٢) ومسلم (١٣٥٥) عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن
النبي صلى الله عليه وسلم قال: (مَنْ قُتلَ له قَتيلٌ فهُوَ بخِير النظَرَيْنِ:
إمَّا أنْ يَقْتُلَ وَإمَّا أنْ يَدِيَ) أي يأخذ الَدية.
وكونها مغلظة
سيأتي معناه ودليله في الفصل التالي.
وتجب حالة وفي مال القاتل
تشديداً عليه.
روى البيهقي (٨/ ١٠٤) عن ابن عباس رضي الله عنهما قال:
لا تَعْقِلُ العَاقِلَةُ عَمْداً وَلاَ صُلْحاً وَلاَ اعْتِرَافاً ولا ما جَنى
المَمْلُوكُ. وروي مثل هذا عن عمر رضي الله عنه.
[صلحاً: ما تصالح
عليه أولياء التقتيل مع الجاني. اعترافاً: دية جناية اعترف بها الجاني ولم تثبت
عليه بالبينة] .
وذكر مالك في الموطأ (٢/ ٨٦٥) عن ابن شهاب أنه قال:
مضت السنة: أن العاقلة لا تحمل شيئاً من دية العمد، إلا أن يشاؤوا ذلك.
والعاقلة:
قبيلة الرجل وأقاربه، ممن يستنصر بهم ويستنصرون به.
فلا قود عليه بل
تجب عليه دية مخففة على العاقلة مؤجلة في ثلاث سنين [١].
(١) قال
تعالى: "وَمَا كَانَ لِمَؤْمنٍ أنْ يَقْتلَ مُؤْمنا إلا خطأ وَمنْ قَتَلَ مؤمِناً
خطَأً فَتَحرِيرُ رَقَبةِ مُؤمِنَة وَدِيَةٌَ مسلَّمَة إلى أهْلِه إلا أنْ
يَصّدَقوا" / النساء: ٩٢ /.
وكَون الدية مخففة سيأتي معناه ودليله في
الفصل التالي.
وكونها على العاقلة، لما رواه البخاري (٦٥١٢) ومسلم
(١٦٨١) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: اقْتَتلتْ امرَأتَان مِنْ هَذَيْل، فرَمتْ
إحداهما الأخْرَى بحجَر فَقتلَتْهَا وَما فَي بطنِها، فَاختَصَمْوا إلى رسولِ
الله صلى الله عليه وسلم، فَقَضىَ أن ديَةَ جَنِينهَا غرة عَبْدٌ أوْ وَلِيًدة،
وَقضَى بِدِيةِ المرأةِ عَلى عًاقلَتِهَا.
[غرة: هي بياض في الوجه عبر
به عن عبد كامَل. وليدة: امرأة مملوكة] .
قالوا: هذا القتل شبه عمد،
وقضي فيه بالدية على العاقلة، فيقضى بها عليهم في الخطأ من باب أولى.
وروى
ابن ماجه (٢٦٣٣) عن الغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال: قضى رسول الله صلى الله
عليه وسلم بالديةِ على العاقِلةَِ.
وكونها في ثلاث سنين، لما رويَ عَن
عمر وعلي وابن عمر وابن عباس رضي الله عنهم، أنهم قضوا بذلك ولم ينكر عليهم، فكان
إجماعاً، وهم لا يقولون مثل هذا إلا بتوقيف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل
قال الشافعي رحمه الله تعالى: ولم أعلم مخالفاً أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
قضى بالدية على العاقلة في ثلاث سنين.
وقال الترمذي (١٣٨٦) : وقد أجمع
أهل العلم على أن الدية تؤخذ في ثلاث سنين. وانظر: نيل الأوطار: ٧/ ٩٠.
وعمد
الخطأ: أن يقصد ضربه بما لا يقتل غالبا فيموت فلا قود عليه بل تجب دية مغلظة على
العاقلة مؤجلة في ثلاث سنين [١].
وشرائط وجوب القصاص أربعة:
١
- أن يكون القاتل بالغا
٢ - عاقلا [٢]
٣ - وأن لا يكون
والداً للمقتول [٣]
٤ - وأن لا يكون المقتول أنقص من القاتل بكفر أو
رق [٤].
(١) روى ابن ماجه (٢٦٢٧) وأبو داود (٤٥٤٧) وغيرهما، عن عبد
الله ابن عمروَ رضي الله عنهما، عن النبي صلي الله عليه وسلم قال: قتِيلُ
الْخَطَإ شِبْهِ العمْد قَتِيل السوْطِ والعصا، مائَةٌ - في رواية:
فيه
مائة - منَ الإبِلَِ: أربعَونَ مِنهَا خَلِفَةً في بُطُونِهَا أولادُها) وانظر
حاشية ١ ص ١٩٣. وحا ١ ص ١٩٦.
وروى أبو داود (٤٥٦٥) أن النبي صلى الله
عليه وسلم قال: (عقْلُ شبه العمْدِ مُغَلَّظُ مِثْلُ عَقلِ الْعَمْد، ولاَ
يقْتَلُ صَاحِبهُ) .
واَلعقل الدية، والتغليظ كَونها ثلاثة أنواع كمَا
سيأتىِ، وانظر: حا ١ ص ١٩٣.
(٢) لأن القصاص عقوبة بدنية، َ والعقوبة
لا تجب إلا بالجناية، وفعل الصبي والمجنون لا يوصف بالجناية، لعدم صحة قصد التعدي
منهما، فليسا من أهل العقوبة، ولا قصاص عليهما في قتلهما وإن كان على صورة
العمد.
(٣) أي فلو كان القاتل عمدا والد المقتول فلا يقتل به، لما
رواه الدارقطني (٣/ ١٤١) من قوله صلى الله عليه وسلم: (لا يقاد للابن من أبيه)
.
ومثل الأب جميع الأصول، كالجد وإن علا.
(٤) لما رواه
البخاري (٦٥٠٧) عن علي رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم (لاَ
يقتَلُ مسْلِم بكَافِر) . ولقوله تعالى: في آية القصاص: "الحر بالحرِّ" وعن علي
رضي الله عنه قال: من السنة ألاً يقتلَ ِحُر بعبد ولخبر أبي داود (٤٥١٧) : (لاَ
يقتلٌ حُر بِعبدٍ) .
وتقتل الجماعة بالواحد [١].
وكل شخصين
جرى القصاص بينهما في النفس يجري بينهما في الأطراف [٢]
وشرائط وجوب
القصاص في الأطراف بعد الشرائط المذكورة اثنان:
١ - الاشتراك في الاسم
الخاص, اليمنى باليمنى, واليسرى باليسرى.
٢ - وأن لا يكون بأحد
الطرفين شلل [٣].
وكل عضو أخذ من مفصل ففيه القصاص [٤] ولا قصاص في
الجروح إلا في الموضحة [٥].
(١) روى مالك في الموطأ (٢/ ٨٧١) عن سعيد
بن المسيب أن عُمَرَ بن الْخطاب رضي الله عنه قَتَلَ نَفَراً - خمَسة أوْ سَبْعة
- برجل واحِد، قَتَلُوهُ غِيلَة، وقال: لَو ْتمالأ عَلَيْه أهْلُ صَنْعَاءَ
لَقتَلتهمْ جَمِيعاً. وروى مثل ذلك عن غيره من الصحَابة ولم ينكر عليهم، فكَان
إجماعاً [تمالأ: اتفق وتواطأ على قتله] .
(٢) والأعضاء، لقوله تعالى:
"وَكَتَبْنَا علَيْهِمْ فيها أن النَّفْسَ بِالَنَّفسِْ والْعينَ بِالْعيْنِ
والأنْفَ بِالأنفِ وَالأذُنَ بالأذُنِ والسِّن بِالسَن وَالجُروحَ قصَاص" /
المائدة: ٤٥/.
(٣) لأن من معنى القصاص التماثل، ولا تماثل بين اليمنى
واليسرى من حيث المنافع، ولا بين الأشل والسليم.
(٤) لإمكان تحقق
المماثلة، بخلاف ما أخذ من غيره.
(٥) أي الجرح الذي يشق اللحم ويصل
إلى العظم ويوضحه، لقوله تعالى: "وَالجُروحَ قِصَاص" . والقصاص من أصل معناه
المماثلة، كما علمت، ولا تتحقق في غير الموضحة من الجروح.
"فصل"
والدية على ضربين
١ - مغلظة
٢ - ومخففة
فالمغلظة
مائة من الإبل ثلاثون حقة وثلاثون جذعة وأربعون خلفة في بطونها أولادها [١]
والمخففة
مائة من الإبل عشرون حقة وعشرون جذعة, وعشرون بنت لبون, وعشرون ابن لبون, وعشرون
بنت مخاض [٢]
فإن عدمت الإبل انتقل إلى قيمتها وقيل ينتقل إلى ألف
دينار أو اثني عشر ألف درهم, وإن غلظت زيد عليها الثلث
(١) روى
الترمذي (١٣٨٧) عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال: (منْ قتلَ مؤمناً متَعَمداً دُفِع إلى أولياءِ المَقْتولِ: فإنْ شَاؤُوا
قَتلُوا، وَإنْ شاؤوا أخَذُوا الديَةَ، وهي: ثلاَثُونَ حقة، وثَلاَثونَ جَذَعة،
وَأرْبَعونَ خَلفَة، وَما صَالَحُوا عَليْهَِ فَهو لهم، وَذَلِكَ لَتَشْديدِ
العَقْلِ) . أي لتغليظ الدية، وتغليظها كونها مثلثة كما ذكر.
[حقة: ما
طعنت في الرابعة من الإبل. جذعة: ما طعنت في الخامسة من الإبل. خلفة: حامل.
صالحوا عليه: ضوا به واتفقوا عليه] .
وانظر حاشية: ١ ص ١٩٤.
(٢)
وهذا معنى كونها مخففة، أي من خمسة أسنان. واحتج لهذا بما رواه الدارقطني (٣/
١٧٢) ، عن ابن مسعود رضي الله عنه موقوفاً: أنه قال: في الخطَإ عِشْرُونَ
جَذعَةً، وعِشْرونَ حِقةً، وَعِشْرُونَ ْبنت لَبون، وعشْرُونَ ابنَ لَبُون،
وَعِشْرَونَ بِنْتَ مَخَاض.
ومثل هذا له حكم المرفوع إلى النبي صلى
الله عليه وسلم، لأنه من المقدرات، وهي ليست مما يقال بالرأي.
الثلث
[١].
وتغلظ دية الخطأ في ثلاثة مواضع:
١ - إذا قتل في
الحرم
٢ - أو في الأشهر الحرم
٣ - أو قتل ذا رحم محرم
[٢].
ودية المرأة على النصف من دية الرجل [٣]
ودية اليهودي
والنصراني ثلث دية المسلم [٤]
وأما المجوسي ففيه ثلثا
(١)
وهذا هو المذهب القديم، والجديد: هو الانتقال إلى قيمة الإبل مهما بلغت، وهذا هو
الصحيح المعتمد، لأن الأصل في الدية هو الإبل، فيرجع إلى قيمتها عند فقدها.
(٢)
(الحرم) المكي. (الأشهر الحرم) هي: ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب، ودليل
التغليظ في هذه المواضع: عمل الصحابة رضي الله عنهم. واشتهار ذلك عنهم. فقد روي
عن عمر رضي الله عنه قال: من قتل في الحرم، أو ذا رحم، أو في الأشهر الحرم، فعليه
دية وثلث. وروي مثل هذا عن عثمان وابن عباس رضي الله عنهما. رواها البيهقي. انظر:
تكملة المجموع: ١٧/ ٣٦٧ وما بعدها.
(٣) ودليله ما روي عن عمر وعثمان
وعلي وابن مسعود وغيرهم، رضي الله عنهم: أنهم قالوا: ديةُ المرأهَِ نصفُ ديِةِ
الرَّجلِ. ولا مخالف لهم من الصحابة، فصار إجماعاً. على أن هذا مما لا يقال
بالرأي، فيكونُ في حكم المرفوع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(تكملة
المجموع: ١٧/ ٣٧٨، نيل الأوطار: ٧/ ٧٠).
والحكمة فيَ هذا: أن الدية
منفعة مالية، والشرع قد اعتبر المنافع المالية بالنسبة للمرأة على النصف من
الرجل، كالميراث مثلا. وهذا عدل يتلاءم مع واقع كل من الرجل والمرأة
وطبيعتهما.
(٤) ودليله ما رواه الشافعي رحمه الله تعالى في الأم (٦/
٩٢) قال: فقضى عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان رضي الله عنهما في ديِةِ اليهودي
والنصراني بثلث ديةِ المسلمِ. وانظر سنن أبي داود (٤٥٤٢) .
عشر دية
المسلم [١]
وتكمل دية النفس في قطع اليدين والرجلين والأنف والأذنين
والعينين والجفون الأربعة واللسان والشفتين وذهاب الكلام وذهاب البصر وذهاب السمع
وذهاب الشم وذهاب العقل والذكر والأنثيين [٢].
(١) قال الشافعي رحمه
الله تعالى في الأم (٦/ ٩٢) : وقضى عمر في ديةِ المجوسّ بثَمَانِمَائَةِ درهم،
وذلك ثلثا عُشْرِ ديَةِ المسلم، لأنه كان يقول: تقُوَّمُ الدية في اثني عشر ألفَ
دِرْهَم وروي مثل ذلك عن عثمان وابن مسعود رضي الله عنهما، وانشر ذلك في الصحابة،
ولم ينكره منهم أحد، فكان إجماعاً.
(تكملة المجموع: ١٧/ ٣٧٩).
(٢)
البيضتين، روي النسائي (٨/ ٥٧) وغيره، عن عمرو بن حزم رضي الله عنه: أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم كتب إلى أهل اليمن كتاباً فيه الفرائض والسنن والديات، وبعث
به مع عمرو بن حزم .... وفيه.
(أنَ في النَّفْس الدَيَة مائة من
الإبِلِ، وفي الأنْفِ إذا أوعِب جَدْعُهُ الديةُ، وفي اللسَان الديَة، وفي
الشَّفتَيْنِ الديَة، وفي الْبيضَتَيْنِ الدية، وفي الذكَرَ الدية، وفي الصُّلبِ
الديَة، وفي الْعينين الدية، وفي الرجْلِ الواحِدةِ نِصْفُ الدية. وفي رواية:
(وفيْ اليَدِ الواحِدةِ نِصْفُ الديَةَ) ، وفي رواية عند البيهقي (٨/ ٨٥) : (في
الأذُن خمسون مِن الإبِلِ) . وعنده أيضاً (٨/ ٨٦) : (وفي السمع إذا ذهب اَلدية
تامة) .
[أوعب جدعه: قطع جميعه. الصلب: المراد القدرة على الجماع]
.
وقيس ما لم يذكر من الأعضاء على. ما ذكر، وكذلك المعاني والمنافع،
تقاس على ذهاب القدرة على الجماع، ودية الإصبع الواحدة، من اليد أو الرجل، عُشْرُ
الدية، لما جاء في
وفي الموضحة والسن خمس من الإبل [١] وفي كل عضو
حديث
عمرو بن حزم رضي الله عنه: (وفي كُل أصْبع من أصابع اليدِ والرجلَ عَشْر من
الإبِلَ)
ولا فرق بين إصبع وأخرى، لما رواه البخاري (٦٥٠٠) وغيره، عن
ابن عباس رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (هَذِهِ وهَذه سَواء)
يعني الخِنصَر والإبهام. وعند أبي داود (٤٥٥٩) : (الأصَاَبعُ سَواءٌ) .
ولوَ
أتلف أكثر من عضو في جناية واحدة وجبت ديات الجميع، ولو تجاوزت دية النفس، لما
رواه أحمد رحمه الله تعالى عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أنه قضى فيَ رجل ضرب
رجلاً، فذهب سمعُه وبصرُه ونكاحُه وعقله، بأربع ديات. [نكاحه: أي قدرته على
الجماع] .
(١) الموضحة هي الجرح الذي يصل إلى العظم ويوضحه أيَ يكشف
عنه اللحم. جاء في حديث عمرو بن حزم رضي الله عنه، السابق: (وفي السن خَمْسٌ مِن
الإبِلَ، وفي المُوَضَحة خَمسٌ من الإبِلَ) .
ولا فرق بين سن وأخرى،
لما رَواه أبو داود (٤٥٥٩) وغيره، عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى
الله عليه وسلم قال: (والأسنان سوَاء، الثنيةُ والضَرْسَ سَواءٌ) .
[الثنية:،
وهي إحَدى السنين اللتين في وسط الأسنان. سواء: مستوية في قدر ديتها] .
ومن
الجراح التي تجب فيها الدية: الجائفة، وهي التي تصل إلى الجوف، أي الباطن من
العنق أو الصدر أو البطن وغيرها وفيها ثلث الدية.
والمأمومة، وهي التي
تصل إلى أم الدماغ، وهي الجلدة التي تكون تحت العظم في الدماغ، وفيها ثلث الدية
أيضاً.
والمنقلة، وهي التي تنقل العظم عن موضعه بعد كسره، وفيها
عُشْرٌ
لا منفعة فيه حكومة [١].
ودية العبد قيمته ودية
الجنين الحر غرة: عبد أو أمة [٢] ودية الجنين الرقيق عشر قيمة أمه [٣].
"فصل"
وإذا اقترن بدعوى الدمِ لوثٌ [٤] يقع به في النفسِ صِدْقُ المُدَّعِي حَلَفَ
المُدَّعِي خمسين يمينا واستحق
ونصف العشر من الدية.
والأصل
في هذه الثلاثة: ما جاء في حديث عمرو بن حزم رضي الله عنه: (وفي المَأمومةِ ثُلثُ
الديَةِ، وفي الجائِفَةِ ثلُثُ الديةِ، وفي المنَقلَةِ خَمسَةَ عَشَر مِن
الإبِلِ) .
والهاشمة، وهي التي تهشم العظم وتكسره، وفيها عشر الدية.
لما رواه البيهقي (٨/ ٨٢) عن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: في الهاشمة عشر من
الإبل. تكملة المجموع: ١٧/ ٣٩٢، ٣٩٣.
(١) كاليد الشلاء والإصبع
الزائدة وحِلْمةِ الرجل، ونحو ذلك.
وكذلك كل جراحة أو كسر عظم ليس فيه
دية. مقدرة، فتجب حكومة، وهي: مقدار من الدية، يراه القاضي العدل متناسباً مع
الجناية، شريطة أن ينقص عن دية العضو المجني عليه.
(٢) انظر حديث أبي
هريرة رضي الله عنه ص ١٩٣ حاشية ١.
(٣) قياساً على جنين الحرة، لأن
الغر كانت تقدر بعشر دية المرأة.
(٤) دعوف الدم: أي دعوى القتل،
واللوث: قرينة حالية أو مقالية: مثال القرينة الحالية: أن يوجد قتيل في قرية أوِ
محلة بينه وبين أهلها عداوة، وليس فيها غيرهم.
ومثال المقالية: أن
يشهد عدل واحد، أو من لا تقبل شهادتهم في الجنايات كنسوة وصبيان: أن فلاناً قتل
فلاناً.
الدية وإن لم يكن هناك لوث فاليمين على المدَّعَى عليه [١]
وعلى
قاتل النفس المُحَرَّمَة [٢] كفارة عتق رقبة
(١) والأصل في هذا: ما
رواه البخاري (٥٧٩١) ومسلم (١٦٦٩) وغيرهما، عن سهل بن أبي حَثمة رضي الله عنه
قال: انْطَلَق عَبْدُ اللهِ ابنُ سهل ومحيِّصَة وبن مسعودٍ إلى خيبرَ، وهي يومئذ
صلْحُ، فتفرقا في النخل فأتى محيصة إلى عبد الله بن سهل وهو يتشَحَّطُ في دَمِهِ
قتيلا، فدفنه ثم قدم المدينة، فانْطلق عبدَ الرحمن بن سهَل وحيصةُ وحُوَيصَةُ -
عماه - ابنا مسعود إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فذهب عبد الرحمن يتكلمُ وكان
أصْغرَ القومِ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (كبِّرِ الْكُبر) - أي ليتول
الكلامَ الأكبر- فسكَتُّ فتكلما، قال: (أتَستَحقونَ قَتِيلكَم بأيمانِ خَمسينَ
منكم) قالوا: يا رسولَ الله، أمْرِّ لَمْ نَرَهُ قال: (فَتُبرِئُكُمْ يهود في
أيمان خمسينَ منهم) قالوا: يا رسولَ الله، قومٌ كفارُ، فؤدَاهم رسولُ الله صلًى
الله عليه وسلم من قبله.
[يتَشحط: يتخبط ويتمرغ. أتستحقون قتيلكم: أي
ديته. فتبرئكم يهود: تبرأ إليكم من دعواكم. فودَاهم: أعطاهم الدية. من قبله: من
عنده أو من بيت مال المسلمين] .
(٢) هي كل نفس مسلمة لم يهدر دمها.
ولا يهدر دم المسلم إلا بأحد أمور ثلاثة، بينها رسول الله صلى الله عليه وسلم
بقوله: (لا يَحل دَمُ امْرِىءِ مُسْلِم يَشْهَدُ أِن لاَ إلهَ إلا الله وأنْىَ
رسولُ الله إلا بإحدى ثلاثٍ: النفسْ بالنَّفْسِ، والثّيب الزاني، والمفَارِق
لِدَينِهِ التارِكُ للجماعة) . رواه البخاري (٦٤٨٤) ومسلم (١٦٧٦) .
[النفس
بالنفس: أي القاتل عمداً يقتل. الثيب: المتزوج، رجالاُ كان أم امرأة. المفارق
لدينه: المرتد عن الإسلاَم الجماعة: أي جماعة المسلمين وعامتهم] .
ومثل
المسلم الذمي والمستأمن. والكبير والصغير سواء وكذلك الجنين.
مؤمنة،
سليمة من العيوب المضرة، فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين [١].
(١)
لقوله تعالى في قتل الخطأ: "وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمناخَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَة
مُومِنَة وَديَة مُسَلَمَةٌ إلى أهْلِه إلا أنْ يَصَدقوا فَإنْ كَانَ منْ قَوْم
عَدوَُ لَكُمْ وَهُوَ مُؤمِن فًتَحْرِيرُ رَقَبة مُؤْمِنَة وَإنْ كَانَ مِن قَوْم
بيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مسلًمَةٌ إلى أهْله وتحرًيرُ رَقَبَةَ
مْؤمنة فمن لم يجدْ فَصيامُ شَهْرَيْن مُتَتَابعَين وِتوبة من الله وكان الله
عليما حكيماً" / النساء: ٩٢ /.
[فتحرير رقبة: عتق عبد أَو أمة.
يصدقوا: يعفوا. قوم بينكم وبينهم ميثاق: أي إن كان المقتول من قوم كافرين، ولكن
بينكم وبينهم عهد من ذمة أو أمان، وهو على دينهم أوكان مسلما] .
ووجبت
في شبه العمد لشبهه بالخطأ، وأما وجوبها في العمد فلما رواه آبو داود (٣٩٤٦)
وغيره، عن وائلة بن الأسقع رضي الله عنه قال: أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم
في صاحب لنا أوجب - يعني النار - بالقتل، فقال: (أعْتِقُوا عَنْهُ- وفي رواية:
فَليَعْتِقْ رَقبةً - يُعتِقِ الله بِكل، عُضْوٍ مِنْهُ عُضْواً منْهُ مِنَ
النارِ) .
قالوا: لا يستوجب النارَ إلاّ بالقتل العمد، فدل على
مشروعية الكفارة فيه. وقياساً على الخطأ من باب أولى.
كتاب الحدود
والزاني على ضربين
١ - محصن
٢ - وغير محصن
فالمحصن
حده الرجم [١].
(١) وسيأتي بيان الإحصان ص ٢٠٥.
روى
البخاري (٦٤٣٠) ومسلم (١٦٩١) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: أتى رجلٌ رسولَ الله
صلى الله عليه وسلم وهو في المسجد فناداه فقالَ: يا رسولَ اللهِ، إنَي زَنيْتُ،
فأعْرَضَ عنه، حتى ردََدَ عليه أرْبَع مراتٍ، فلمًّا شهِدَ على نَفْسِهَ أرْبع
شهَادَات، دعاه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (أبكَ جُنُونٌ) . قال: لا، قال:
(فَهلْ أحْصنْتَ) . قال: نعم، فقالَ النبي صلى الله عليه وسلم: (اذْهبوا بِهِ
فَارحمُوُهُ) . قال جابرٌ: فكنتُ فيمَن رَجَمَه، لفرجمناهُ بالمُصلّى، فلما أذْ
لقتْهُ الحجَارة هَرَبَ، فأدركناه بالحرَّة، فرجمناه.
[رجل: ما عز بن
مالك الأسلمي رضي الله عنه. أحصنت: تزوجت المصلى: مكان صلاة العيد والصلاة عن
الجنائز. أذلقته: أصابته بحدها وبلغت منه الجهد. بالحرة: موضع ذو حجارة سوداء،
والمدينة بين حرتين] .
وروى البخاري (٦٤٦٧) ومسلم (١٦٩٧) عن أبي هريرة
وزيد بن خالد الجهني رضي الله عنهما قالا: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم
فقال: أنْشُدكَ الله إلاَّ قضَيْتَ بيننا بكتابِ الله، فقال خَصْمُهُ، وكان
أفْقهَ منه، فقال: صدق، اقضِ بيننا بكتاب اللهَ، وَأذَنْ لي يا رسول الله فقال
النبي (قُل) . فقال: إن ابني كان عسِيفاً في أهلِ هذا، فزنى بامرأته، فافْتدَيتُ
منه بمائة شاة وخادم. وإني سألت رجالاً من أهل
وغير المحصن حده: مائة
جلدة, وتغريب عام [١] , إلى
العلم، فأخبروني أنَّ على ابني جلدَ مائة
وتغريب عام ت وأنَ على امرأة هذا الرجمَ، فقال: (وَالَّذِي نَفسْي بيدهِ،
لأقْضيَن بَينَكُمَا بِكِتَاب اللهِ، المائَةُ وَالخَادِمُ رَد عَلَيْكً، وَعَلى
ابنك جلدُ مَائَة وَتَغْريبُ عام، ويا أُنَيسُ اغدُ عَلى امْرَأةِ هذا فَسَلها،
فَإنِ اعترَفَتْ فارْجمها) فاعرفت فرجمها.
[أنشدك الله: أقسم عليك
بالله. أفقه منه: أكثر منه إدراكاً وفهماً.
عسيفا: أجيراً. في أهل
هذا: فيَ خدمة أهله. بكتاب الله: لأن ما يحكم به رسول الله صلى الله عليه وسلم في
حكم ما ثبت في القرآن، قال تعالى: "وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولَُ فخذُوه وَمَا
نَهَاكمْ عَنهُ فَانتهوا" / الحشر: ٧/.
أنيس: ابن الضحاك الأسلمي رضي
الله عنه] .
(١) قال الله تعالى: "الزانية والزَّاني فَاجْلُدُوا كل
وَاحِد منْهُمَا مائَةَ جلْدَة وَلاَ تَأخُذْكُمْ بِهِمَا رَأفَة في دين الله إن
كُنتُمْ تُؤْمِنونَ بالله وَالْيَوْم الآخِرِ وَليْشْهَدْ عَذَابًهُمَا طًائفَةٌ
مِنَ المؤْمنينَ" /النور: ٢/.
[فاجلدوا: من الجلد وهو ضرب الجلد.
جلدة: ضربة. رأفة: رقة ورحمة. في دين الله: في تنفيذ أحكامه وإقامة حدوده.
عذابهما: إقامة الحد عليهما. طائفة: فئة وجماعة لتحصل العبرة ويتحقق الزجر] .
والمراد
بالزانية والزاني في الآية غير المحصنين، لما علمت من أدلة وجوب رجم المحصنين.
ودل
على وجوب التغريب حديث البخاري ومسلم السابق حا ١ص ٢٠٣.
وما رواه
البخاري (٦٤٤٣) عن زيد بن خالد رضى الله عنه قال: سمعتُ النبي صلى الله عليه وسلم
يَأمُرُ فيمنْ زَنَى وَلَم يحصَنْ: جَلْدَ مائَة وتغْرِيبَ عَام.
قال
ابن شهابَ: وأخبرني عروة بن الزّبَيْرِ: أنَ عمرَ بنَ الخطّابِ
مسافة
القصر [١].
وشرائط الإحصان أربع:
١ - البلوغ
٢
- والعقل
٣ - والحرية
٤ - ووجود الوطء في نكاح صحيح
[٢].
والعبد والأمة حدهما نصف حد الحر [٣].
غَرت، ثم لَمْ
تَزَلْ تِلْكَ السنةَ.
وعند مسلم (١٦٩٠) من حديث عبادة بن الصامت رضي
الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (البكْرُ بِالْبكْرِ: جَلْدُ
مَائَة وَنَفي سَنَة) . والمعنى: إذا زنا البكَر بالبكَر فحد كَل منهما ...
والبكرً من لم يتزوج، رجلاً كان أم امرأة. والنفي هو ِالتغريب والإبعاد عن
الموطن
(١) فما فوقها، حسبما يراه الحاكم العدل، ولا يكفي أقلَ منها،
لأنه لا يعد سفراً، ولا يحصل به المقصود، وهو إيحاشه بالبعد عن الأهل والَوطن.
ولا
فرق في ذلك بين الذكر والأنثى، ويجب على الأنثى أن نصطحب معها محرماً، لحرمة
سفرها بدونه.
(٢) أي أن يكون الزاني قد سبق له أن تزوج وجامع زوجته،
وكان عقد زواجه صحيحاً، لاستيفائه الشروط والأركان المعتبرة فيه شرعاً، كتولي ولي
الزوجة للعقد، ووجود الشهود العدول، ونحو ذلك.
وكذلك الزانية، أن تكون
قد سبق لها أن تزوجت وجامعها زوجها، وكان عقد زواجها كما ذكرنا.
ولا
يشترط أن يكون الزواج مستمراً، بل لو حصل الفراق بعد هذا، ثم وقع الزنا، اعتبر
محصناً ورُجم. فإذا فقد واحد من هذه الأربع لم يعد الزاني محصناً، ولا يقام عليه
حد اَلرجم، بل يجلد ويضرب كالبكر، إن كان بالغاً عاقلاً، ويؤدب بما يزجره عن هذه
الفاحشة، إن كان صبياً أو مجنوناً.
(٣) لقوله تعالى: "فإنْ أتَيْنَ
بفَاحشة فَعَلَيْهِن نصف ما عَلى المحْصنمَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ" / النساء:
٢٥٠/.
وحكم اللواط وإتيان البهائم كحكم الزنا [١].
ومن وطئ
فيما دون الفرج عزر [٢] ولا يبلغ بالتعزير أدنى
[أتين: أي الإماء
المذكورات في صدر الآية بقوله تعالى: "فَممَّا ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات"
. والمراد بالمحصنات الحرائر] (انظر حاشية ١ص ١٥٨) .
والمعنى: إذا
وقعت الأمة بفاحشة الزنا عوقبت نصفْ عقوبة الحرة أي تجلد خمسين وتغرب نصف عام،
متزوجة كانت أم بكراً، ولا رجم عليها: لأنه لا ينصف. وقْيس بالأمة العبد، لأن
المعنى فيهما واحد.
(١) اللواط: هو إتيان الذكر في دبره، وكذلك إتيان
الأنثى الأجبنية، أي غير الزوجة، في دبرها.
وعقوبة الفاعل لهذا كعقوبة
الزنا، لأنه فاحشة، فيرجم إن كان محصناً، ويجلد ويضرب إن كان غير ذلك.
وأما
المفعول فيه فيقام عليه حد غير المحصن مطلقاً، ولو كان متزوجاً، لأن الزاني
المحصن هو من يطأ - أو يوطأ - وَطأْ سبق له نظيره على وجه مباح، ومن وطىءَ في
دبره لا يتصور فيه هذا: فلا يكون محصناً.
وأما من أتى بهيمة فإنه يعزر
ولا حد عليه، على القول الراجح والمعتمد في المذهب، لأن فعله مما لا يشتهى، بل
ينفر منه الطبع الصحيح، ولا تميل إليه النفس السليمة، فلا يحتاج إلى زجر، والحد
إنما شرع زجراً للنفوس عن مقاربة ما يشتهى طبعاً، على وجه غير مشروع.
ويستدل
لهذا بما رواه أبو داود (٤٤٦٥) والترمذي (١٤٥٥) عن ابن عباس رضي الله عنهما قال:
ليس على الذي يأتي البهيمة حد.
ومثل هذا لا يقال عن رأي، فيكون حكمه
حكم المرفوع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وإذا انتفى الحد فقد وجب التعزير،
لإرتكابه مصعية لا حد فيها ولا كفارة.
(٢) وطىء: باشر بفرجه جسد امرأة
أجنبية أو أجنبي، ومثل
الحدود [١].
"فصل" وإذا قذف غيره
بالزنا [٢] فعليه حد القذف بثمانية شرائط:
ثلاثة منها في القاذف,
وهو
١ - أن يكون بالغا
٢ - عاقلا [٣]
٣ - وأن
لا يكون والدا للمقذوف [٤]
وخمسة في المقذوف, وهو
١ - أن
يكون مسلما
٢ - بالغا
٣ - عاقلا
٤ - حرا
٥
- عفيفا [٥]
ذلك سائر مقدمات الجماع، كالقبلة ونحوها.
عزر:
أدب بما يراه الحاكم المسلم العدل، من ضرب ونفي وحبس وتوبيخ وغيره، لأنه فعل
معصية لاحد فيها ولا كفاره.
(١) وهو أربعون جلدة حد شَارب الخمر، فيجب
أن ينقص التعزير عنها. لما رواه البيهقي (٨/ ٣٢٧) عن النعمان بن بشير رضي الله
عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من بلغ حدا في غيْرِ حَد فَهُوَ
منَ المُعتدين) .
[في غير حد: أي في غير ما يستوجب حداً، والمراد أقل
الحدود كما علمت] .
(٢) اتهمه ورماد به، كأن قال: يا زاني، أو يا
زانية، أو نفى نسبه من أبيه المعروف به فهو قذف لأمه، ونحو ذلك.
(٣)
لأن الحد عقوبة، والصبي والمجنون ليسا أهلا لها.
(٤) لأن الوالد لا
يقتل بقتل ولده كما علمت. فلا يقام عليه حد بقذفه من باب أولى. ومثل الوالد جميع
الأصول، ذكوراً كانواً أم إناثاً.
(٥) أي لم يقم عليه حد زنا من قبل.
لقوله تعالى: "وَالذَين: يرمونَ المحْصَنَات ... فاجلدوهم" / النور: ٤/. فقد شرط
لَوجوب الحد أن يكون المرَمي بالزنا محصناً، وهذه شروط الإحصان.
ويحد
الحر ثمانين [١] والعبد أربعين.
ويسقط حد القذف بثلاثة أشياء:
١
- إقامة البينة [٢]
وقد دل على شرط الإسلام والحرية والعفة: قوله
تعالى: "إن الذينَ يرْمونَ المُحصنَاتِ الغَافلات المُؤْمِنَاتِ لعنوا في الدنْيا
والآخِرَةِ وَلهمْ عَذَاب عَظِيم" / النوَر: ٢٣/.
[المحصنات: الحرائر.
الغافلات: العفيفات. السليمات الصدور، النقيات القلوب. المؤمنات: المسلمات] .
وروى
الدارقطني في سننه (٣/ ١٤٧) عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم: (منْ أشْرَكَ بِاللهِ فَليسَ بمحْصَن) قال الدارقطنى: والصواب
موقوف من قول ابن عمر.
وأيضاً: وجب الحد على القاذف لاتهامه بالكذب،
ودفعاً للعار على المقذوف. ومن عرف بعدم العفة عن الزنا يغلب على الظن صدق من
قذفه به، كما أنه لا يلحقه عار بهذا الاتهام.
وكذلك الكافر ليس لديه
ما يردعه عن فعل الفاحشة.
أما اشتراط العقل والبلوغ، فلأن المجنون
والصبي لا يلحقهما العار، وحد القذف شرع دفعا للعار عن المتهم كما علمت.
وإذا
لم يثبت الحد لاختلال شروطه، عزر القاذف مما يراه القاضي مناسباً.
(١)
لقوله تعالى: "وَالَّذِين يرْمَونَ المحصنَاتِ ثم لَمْ يأتوا بأربَعة شهَدَاءَ
فَاجْلدوهُمْ ثَمانين جلدَةً وَلا َتقبلوا لَهمُْ شهَادَةَ أبَداً وَأولئِكَ هم
الْفَاسِقونَ" / النور ٤/.
: هذا في الأحرار، والعبد عقوبته عَلى
النصف من الحر كما علمت.
(٢) على صدق مدعاه ومارماه به من الزنِا.
لقوله تعالى: "ثم لم يأتوا بأربعة شهداء" فدل على أنه إذا أتي بالشهداء فلا حد
على القاذف ويثبت الزنا على القذوف.
٢ - أو عفو المقذوف [١]
٣
- أو اللعان في حق الزوجة [٢].
"فصل" ومن شرب خمرا أو شرابا مسكرا [٣]
يحد أربعين [٤] ويجوز أن يبلغ به ثمانين على وجه
(١) لأن حد القذف شرع
لدفع العار عن المقذوف، ولهذا فهو حق خالص للآدمي، فيسقط بالعفو عنه كما أنه لا
يستوفىَ إلا بإذنه ومطالبته، كالقصاص.
(٢) أي إذا قذف الزوج زوجته ولم
يستطع إقامة البينة، أقيم عليه حد القذف إلا أن يُلاعِن، فإذا لاعن سقط عنه الحد.
(انظر حا ٢، ٣ ص ١٧٧) .
(٣) مهما كان منشؤه أو اختلف اسمه، سواء حصل
الإسكار بقليل منه أو كثير. فقد سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البتعِ، وهو
شراب يصنع من العسل، والمِزْرِ وهو شراب يصنع من الشعير أو الذرة فقال صلى الله
عليه وسلم: (أْوَمسكر هُوَ؟ قال: نعم، قال: كُل مُسكرٍ حَرَامٌ، إن على الله عَزّ
وَجل عهدا، لمَنْ يَشْرَبُ المُسكر، أنْ يَسقيه منْ طينَة الخَبَالِ. قالوا:
يارسوًل لله، وما طينَةُ الخَبَال قال: عَرَقُ أهلِ النَار، أو عصَارةُ أهْل
النَّارِ) . (انظر مسلم: ٢٠٠١ - ٢٠٠٣) .
وروى أبو داود (٣٦٨٨) وغيره
عن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه: أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
(لَيشْرَبَن نَاسٌ منِْ أمتيَ الخَمر، يُسمونَهَا بِغَيْرِ اسْمِها) .
وروى
أبو داود (٣٦٨١) والترمذي (١٨٦٦) وغيرهما، عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: (ما أسكَرَ كَثيرُهُ فَقَليلُهُ حرَامٌ) .
(٤)
روى مسلم (١٧٠٦) عن أنس رضي الله عنه: أن النبي صلى الله
عليه وسلم
كان يضرب في الخمر، بالنعال، والجريد، أربعين.
[الجريد: أغصان النخيل
إذا جردت من الورق] .
التعزير [١].
ويجب عليه بأحد أمرين
بالبينة أو الإقرار [٢]، ولا
(١) إن رأى الإمام العدل مصلحة في ذلك،
لاسيما إذا انتشر شربها وفشا شرها، ليحصل الردع والزجر.
روى مسلم
(١٧٠٦) عن أنس رضي الله عنه: أن نبي الله صلى الله عليه وسلم جلد في الخمر
بالجَرِيد والنعَال، ثم جلد أبوْ بكر أربعين، فلما كان عمر - رضي الله عنه -
ودناَ الناسُ منَ الريف والقرى، قال: ما تَرَوْنَ في جَلدِ الخمرِ؟ فقال عبد
الرحمن بنُ عوف: أرى أنْ تَجعَلَها كأخَفَ الحُدُود قال: فجلد عمرُ ثمانين.
[دنَا
الناس من الريف والقرى: أي سكنوا مواقع الخصب، وكثرت لديهم الثمار والأعناب،
فاصطنعوا الخمر وشربوها، فزيد في العقوبة زجراً لهم. أخف الحدود: هو حد القذف،
وهو ثمانون جلدة كما علمت] .
ودل على أن الزيادة على الأربعين تعزير
وليست بحد: ما رواه مسلم (١٧٠٧) أن عثمانَ رضي الله عنه أمرَ بجلد الوليد بن
عُقْبَةَ بن أبي مُعَيْطٍ، فجلده عبدُ الله بن عمر رضي الله عَنهما، علي رضي الله
عنه يعُد، حتى بَلغَ أربعين، فقال: أمْسكْ، ثم قال: جَلَدَ النبي صلى الله عليه
وسلم، أربعين، وجلد أبو بكرَ أربعينَ، وعمرُ ثمانينَ، وكُلٌ سُنَّةٌ، وهذا أحَبّ
إلي. أي الاكتفاء بأربعين، لأنه الذي فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو
أحوط في باب العقوبة، من أن يزيد فيها عن المستحَق، فيكون ظلماً.
ولا
يقام عليه الحد حال سكره، لأنه لا يحصل به الزجر حينئذ.
(٢) أي يثبت
الحد على من شرب المسكر إذا شهد عليه رجلان بذلك.
أو أقر هو على نفسه.
جاء في حديث مسلم (١٢٠٧) : فشَهِدَ عَلَيْه رجُلان. والإقرار حجة تقوم مقام
البينة.
يحد بالقييء والاستنكاه [١].
"فصل" وتقطع يد
السارق بثلاثة شرائط [٢]:
١ - أن يكون بالغا
٢ - عاقلا
٣
- وأن يسرق نصابا قيمته ربع دينار [٣] من حرز مثله [٤] لا ملك له
(١)
هو شم رائحة المسكر من الفم، لاحتمال أن يكون شربه مكرها أو مضطراً أو مخطئاً،
ولأن رائحة الخمر قد تشاركها فيها غيرها. فهذه الأمور تورث شبهة في تعديهِ بشرب
المسكر، والحدود تسقط بالشبهات.
(٢) والأصل في هذا قوله تعالى:
"وَالسارِقُ والسارِقَةُ فَاقْطَعُوا أيدِيَهُمَا جزَاءً بما كَبسَا نَكَالاً
مِنَ اللهِ وَاللهُ عَزيزٌ حَكِيم" / المائدة: ٣٨/.
[السارق: هو من
أخذ مال غيره خفية من حرز مثله على سبيل التعدي، وسيأتي معنى الحرز بعد قليل.
نكالًا: عقوبة تردع غيره عن ارتكاب مثل جنايته، وتكون عبرة لمن يعتبر] .
(٣)
لما رواه البخاري (٦٤٠٧) ومسلم (١٦٨٤) واللفظ له. عن عائشة رضي الله عنها. عن
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لاَ تُقْطَع يَدُ السَارِقِ إلا في ربعُِ
ديِنَار فَصَاعِداً) . والدينار يساوي نصف ليرة انكليزية ذهبية تقريباً الآن.
(٤)
الحرز: هو المكان الذي يحفظ به المسروق ونحوه عادة، أو الحال الذى يمنع دخول يد
غير مالكه عليه. والعرف هو المرجع في تحديد الحرز وعدمه.
ودل على
اشتراط الحرز أحاديث، منها: ما رواه أبو داود (٤٣٩٠) وغيره، عن عبد الله بن عمرو
بن العاص رضي الله عنهما، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه سُئِلَ عن
ٍالثَّمَر المُعَلَّقٍ، فقال: (مَنْ أصَابَ بفيهِ منْ ذِي حَاجَة، غَيْر مُتَّخذ
خُبنَةَ، فلا شيء عليه.
ومن خرجَ بشيء منهُ فعلَيهِ غَرَامَةُ
مِثْلًيهِ وَالْعُقوبَةُ، ومن سرق
فيه [١] ولا شبهة في مال المسروق
منه [٢].
وتقطع يده اليمنى من مفصل الكوع [٣] فإن سرق ثانيا قطعت رجله
اليسرى [٤] فإن سرق ثالثا قطعت يده
منه شيئاً بَعْدَ أنْ يؤْوِيَهُ
الجَرِينُ، فبلغَ ثمنَ المجن، فعليه الْقطع) [خبنة: هي ما يحمله الرجل في ثوبه.
العقوبَة: وهي التعَزير هنا.
الجرين: البيدر وما في معناه مما تحفظ
فيه الثمار ونحوها. المجن: كل ما يتوقى به ويستتر من ضربة السلاَح، كالترس. وكانت
قيمته تقدر بربع دينار] .
(١) أي في المسروق، فلو كان للسارق ملك فيه،
كما لو سرق الشريك
من مال الشركة، فلا قطع عليه.
(٢) أي
ليس للسارق شبهة ملك في مال المسروق منه، فلو كان له فيه شبهة ملك، كما لو سرق
الوالد من ولده أو الولد من والده، فلا قطع، لشبهة الملك باستحقاق النفقة.
(٣)
الكوع: هو العظم الناتىء مما يلي الإبهام، في مفصل الكف مع الساعد. ودل على كون
اليد اليمنى: قراءة ابن مسعود رضي الله عنه: فَاقْطَعُوا أيَمَانَهُمَا. وهي في
حكم حديث الآحاد من حيث الاحتجاج بها على الأحكام. عند الطبراني: أن النبي صلى
الله عليه وسلم أتي بسارق فقطع يمينه. مغني المحتاج: ٤/ ١٧٧.
وكون
القطع من مفصل الكوع: لما جاء في حديث سرقة رداء صفوان ابن أمية رضي الله عنه،
عند الدارقطني (٣/ ٢٠٥) : ثم أمرَ بَقطْعِه مِنَ المِفصَلَ.
(٤) روى
الدارقطني (٣/ ١٠٣) عن علي رضي الله عنه قال: إذا سَرَقَ السارق قطِعت يدُهُ
اليُمْنى، فإنْ عادَ قطعَتْ رجلُهُ اليُسرى.
وتقطع من مفصل الساق مع
القدم، لفعل عمر رضي الله عنه، ولم ينكَر عليه أحد، فكان إجماعاً. نهاية: ٣/
٦٠.
اليسرى [١] فإن سرق رابعا قطعت رجله اليمنى [٢] فإن سرق بعد ذلك
عزر [٣] وقيل يقتل صبرا [٤].
(١) روى مالك في الموطأ (٢/ ٨٣٥)
والشافعي في مسنده (الأم: ٦/ ٢٥٥ هامش) : أن رجلا من أهل اليمن أقْطع اليد
والرجل، قَدمَ فنزل على أبي بكر الصَديق، فشكا إليه أنَ عَامِلَ اليَمَنِ قد
ظلمه، فكان يُصَلِّي منَ الليل، فيقول أبو بكَر: أبيكَ ما لَيْلك بِلَيلِ
سَارِق.
ثُم إنهُمْ فَقَدُوا عِقْداً لأسمَاءَ بنتِ عُمَيسْ، امرأة
أبي بكر الصديق فَجعلَ الرجُلُ يَطُوفُ معهم ويقول: اللهم عليك بمن بيَّتَ أهلَ
هذا البيتِ الصالِحِ. فوجدوا الحُليَّ عندَ صَائغٍ، زعمَِ أن الأقْطَع جاءه به،
فاعْتَرَف به الأقطع، أو شُهِدَ عليه به، فأمرَ به أبو بكر الصديقُ، فَقُطِعَتْ
يَدُهُ اليُسرَى، وقال أبو بكر: واللهِ لَدُعاؤه على نفسه أشَدٌ عندي عليه من
سرقته.
[ظلمه: بقطع يده: رجله بتهمة السرقة. بيت: أغار عليهم ليلاً
وأخذ مالهم] .
(٢) روى الشافعي بإسناده، عن أبي هريرة رضي الله عنه:
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في السارق: (إن سرق فاقطعوا يده، ثم إن سرق
فاقطعوا رجله، ثم إن سرق فاقطعوا يده، ثم إن سرق فاقطعوا رجله) .
مغني
المحتاج: ٤/ ١٧٨. وانظر الأم: ٦/ ١٣٨.
(٣) عوقب بما يراه الحاكم
رادعاً له من ضرب أو سجن أو نفي، لأن السرقة معصية، ولم يثبت فيها حد بعد المرة
الرابعة، فتعين التعزير.
(٤) لحديث ورد في هذا رواه أبو داود (٤٤١٠)
وغيره، وهو قول مرجوح وضعيف لضعف الحديث الوارد فيه، والإجماع على خلاف، وأن
الحديث - إن ثبت - فهو منسوخ. وفي بعض النسخ (يقتل صبراً) أي يحبس من أجل أن يقتل
ولو يوماً واحداً.
"فصل" وقطاع الطريق [١] على أربعة أقسام:
١
- إن قتلوا ولم يأخذوا المال قتلوا
٢ - فإن قتلوا وأخذوا المال قتلوا
وصلبوا [٢]
٣ - وإن أخذوا المال ولم يقتلوا قطعت أيديهم وأرجلهم من
خلاف [٣]
٤ - فإن أخافوا السبيل [٤] ولم يأخذوا مالا ولم يقتلوا حبسوا
وعزروا [٥].
(١) هم قوم يجتمعون، لهم منعة بأنفسهم، يحمي بعضهم بعضاً،
ويتناصرون على ما قصدوا إليه ويتعاضدون عليه، يترصدون الناس في مكامن الطرق، فإذا
رأوهم برزوا، قاصدين أموالهم، وربما أزهقوا نفوسهم.
(٢) علقوا على
خشبتين متصالبتين ونحوهما، بعد غسلهم وتكفينهم والصلاة عليهم إن كانوا مسلمين،
زيادة في التنكيل بهم وشهراً لحالهم، لفظاعة جريمتهم وكِبَرِ إثمهم، ولينزجر بهم
غيرهم. ويصلب ثلاثة أيام إن لم يتغير، فإن خيف تغيره أنزل قبلها.
(٣)
أي تقطع اليد اليمنى والرجل اليسرى، فإن عاد ثانية قطعت يده. اليسرى ورجله
اليمنى.
(٤) أدخلوا الرعب على الناس، لوقوفهم في طريقهم والتعرض
لهم.
(٥) يعزرون بالضرب ونحوه، مما يراه الحاكم رادعاً لهم وزجراً.
والأولى
أن يحبسوا في غير موضعهم، لأنه أكثر إيحاشاً لهم وأبلغ في زجرهم.
ويستمر
في حبسهم حتى تظهر توبتهم ويستقيم حالهم احتياطاً في أمن الناس.
والأصل
فيما سبق: قوله تعالى: "إنَّمَا جزاءُ الذِينَ يحَاربُون اللهَ وَرَسُولَهُ
ويَسْعوْنَ في الأرضِ فسَاداً أنْ يُقَتلُوا أو يصَلَبُوا أو تقَطَّع أيدِيهِمْ
وأرجُلُهُم منْ خِلاف أوْ يُنْفَوْا مِنَ الأرْضِ ذَلِكَ لهمْ خِزْي في الدنْيَا
ولَهم في الآخِرَة عذَابٌ عَظيمٌ" / المائدة: ٣٣/.
[يحاربون الله
ورسوله: يخالفون أمرهَما بالاعتداء عَلى خلق الله عز وجل.
يسعون في
الأرض فساداً: يعملون في الأرض بما يفسد الحياة من قتل
ومن تاب منهم
قبل القدرة عليه سقطت عنه الحدود [١] وأخذ بالحقوق [٢].
"فصل" ومن قصد
بأذى في نفسه أو ماله أو حريمه فقاتل عن ذلك وقتل فلا ضمان عليه [٣].
للأنفس
وسلب للأموال، إثارة للذعر والقلق. ينفوا: يطردوا منها وينحوا عنها، بالتغريب أو
الحبس. خزي: ذل وفضيحة وتأديب].
وفسرها ابن عباس رضي الله عنهما بما
ذكر، كما رواه الشافعي رحمه الله تعالى في مسنده (الأم: ٦/ ٢٥٥ هامش) .
(١)
أي سقطت عنه العقوبات الساقة؟ المختصة بقطاع الطريق، لقوله تعالى: "إلا الَذينَ
تَابُوا مِنْ قَبْلِ أنْ تَقْدِرُوا عَلَيهِم فَاعْلمُوا أن اللهَ غَفُور
رَحَيمٌ" / المائدة: ٣٤/.
(٢) أي طولبَ بالحقوق المرتبة على تصرفه كما
لو لم يكن قاطع طريق، من قصاص وضمان مال، ونحو ذلك.
(٣) أي لا يضمن ما
أتلفه ولا إثم عليه في تصرفه، فلو كان القاصد له إنسانا وقتله، فلا قصاص عليه ولا
دية، ولا كفارة، ولو كان حيوانا وقتله، لا يضمن قيمته، ركذلك لو أتلف له عضواً،
أو أحدث فيه عيباً. وإذا لم يستطع الدفع عن نفسه وقُتِلَ كان شهيداً. وهذا ما
يسمى في الفقه الإسلامى: دفع الصائل، أي المستطيل على غيره ظلماً بقصد النيل من
ماله أو نفسه أو عرضه.
والأصل في هذا: قوله تعالى: "فَمَنِ اعْتَدَى
عَلَيكُمْ فَاعتدُوا عَلَيْه. بمثلِ مَا اعْتَدَى عَلَيكُمْ" / البقرة: ١٩٤/. أي
فردوا اعتداءهَ بالمثلَ، فهي صرخة بمشروعية رد الاعتداء ودفعه عن النفس.
وما
رواه أبو داود (٤٧٧٢) والترمذي (١٤٢٠) وغيرهما، عن سعيد ابن زيد رضي الله عنه، عن
النبي صلى الله عليه وسلم، قال: (مَن قُتِلَ
وعلى راكب الدابة ضمان ما
أتلفته دابته [١].
دُونَ مَالِهِ فهوَ شهِيدٌ وَمنْ قُتِلَ دونَ
دِينِهِ فَهوَ شهِيدٌ، وَمَنْ قُتِلَ دُونَ دَمِهِ فَهُوَ شَهيد، ومَنْ قتِلَ
دُونَ أهْلِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ). والمراد بالأهل الزوجة وغيرها، كالبنتَ والأخت
والأم، وكل من يلحقه العار بسببهن.
ووجه الاستدلال بالحديث: أنه لما
جعل شهيداً حال قتله، دل على أن له أن يقاتل، كما أن شهيد المعركة له أن يقاتل،
وقد يلزم عن قتاله أن يقتل غيره، فدل على أنه مأذون له في القتل، وما كان مأذونا
فيه لايضمنَ، وإذا كان له أن يقتل فله فعل ما هو أقل من القتل من باب أولى، على
أنه ليس له أن يلجأ إلى الأشد إن كان الصائل يدفع بالأخف، فإن أمكن دفعه بالصياح
والاستغاثة فلا يلجأ إلى الضرب، وإن أمكن بالضرب لا يلجأ إلى القطع وهكذا.
والدفع
واجب إن كان الصيال على العرض أو النفس، لأن ترك المدافعة عن العرض إباحة له، ولا
يملك أحد إباحة عرضه لأحد في حال من الأحوال، وترك المدافعة عن النفس استسلام
للظالم، وهو لا يجوز، إلا إن كان الصائل مسلماً فله عدم المدافعة، وقد يستحب له
ذلك.
وأما إن كان الصيال على المال، فله دفعه وله تركه، لأنه يملك
إباحة ماله لغيره، فيحمل ترك دفعه على الإذن له فى أخذه.
والمدافعة عن
نفس غيره وماله وعرضه كالمدافعة عن نفسه وماله وعرضه، دل على ذلك: ما رواه أحمد
في مسنده (٣/ ٤٨٧) : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (مَنْ أذل عنْدَهُ
مُؤمن فَلَمْ يَنصُرْهُ، وَهُوَ قَادر عَلى أن يَنْصُرَهُ، أذًلَّهُ الله عَلى
رؤُوسِ الخَلاَئِق يَوْمَ الْقيَامَةِ) ..
(١) َ سواء أتلفته بيدها أم
برجلها، أم بفمها ونحو ذلك. لأن إتلافها ينسب إلى تقصيره.
"فصل"
ويقاتل أهل البغي [١] بثلاثة شرائط: أن
والأصل في هذا: ما رواه أبو
داود (٣٥٧٠) وغيره: أنه صلى الله عليه وسلم قَضىَ: عَلى أهْلِ الْحَوَائِطِ
حِفْظهَا بالنهَارِ، وَعَلى أهْلِ الموَاشي مَا أصَابَتْ مَاشِيَتُهُمْ
بالليَلِ.
[الحوائط: جمع حائط وهو البستان] .
وجه
الاستدلال: أن العادة جارية: أن يحفظ أصحاب البساتين زرعهم نهاراً وأن يتركوها
بلا رقيب ليلاً. وأن المواشىِ يرسلها أصحابها نهاراً ويخفظونها ليلاً: فقضى رسول
الله صلى الله عليه وسلم على وفق هذه العادة: فإذا قصر أصحاب الزرع ولم يحفظوا
زرعهم نهاراً، ودخلتها المواشي وأتلفت شيئاً منها، كان من ضمانهم. وإذا قصر أصحاب
المواشي، فتركوها تسرح ليلاً فدخلت الحوائط. وأتلفت الزرع كان ما أتلف من ضمان
أصحاب الموِاشي.
فدل قضاؤه صلى الله عليه وسلم: أن من كان مسؤولاً عن
شيء، فقصر في القيام بمسؤِليته، وحصل عن تقصيره أثر: كان من ضمانه.
ويقاس
على إتلاف الدابة إتلاف السيارات في أيامنا الحاضرة، فيضمن سائق السيارة كل ما
يحصل من إتلافات بسبب تقصيره، وبفعله ما يمكن التحرز عنه، ومن ذلك إثارته الغبار
الكثير والطين والمياه الملوثة بكثرة بسبب سرعته، فإذا ألحق ذلك ضرراً بالمارة أو
أهل السوق ضمن ما ينتج عنه.
(١) هم قوم من المسلمين، يخرجرن عن طاعة
الإمام الحق، الذي نصبه جماعة عامة المسلمين، فيمتنعون عن أداء ما وجب عليهم،
ويقاتلون جماعة المسلمين بتأويلهم لأحكام يخالفونهم فيها، ويدعون أن الحق معهم
والولاية لهم. وقتالهم واجب على أهل العدل مع إمامهم، إذا تحققت الشروط المذكورة.
والأصل في مشروعية قتالهم: قوله تعالى: "وَإنْ طائفتان منَ المؤَمنين اقتَتَلوا
فأصلحوا"
١ - يكونوا في منعة [١]
٢ - وأن يخرجوا عن قبضة
الإمام [٢]
بَينَهُمَا فَإنْ بَغَتْ إحْداهُمَا عَلى الأخْرَى
فَقَاتِلُوا الَّتي تَبْغِي حَتَّى تَفِيىءَ إلى أمْرِ اللهِ فَإنْ فَاءَتْ
فَأصْلِحُوا بَينَهمَا بِالْعَدْل وَأقْسِطُوا إنَ اللهَ يحِبُّ المُقْسِطِينَ "/
الحجرات: ٩ /."
[طائفتان: فئتان. بَغت: أبت الإصلاح وتعدت. تفيىء:
ترجع. أمر الله: حكم الله تعالى. أقسطوا: اعدلوا] .
ووجه الاستدلال
بها: أنه يجب قتال الفئة الباغية بطلب الإمام، إذا كان البغى من طائفة على طائفة،
فإذا كان البغي على الإمام نفسه، وجب القتال معه من باب أولى.
وما
رواه مسلم (١٨٥٢) وغيره، عن عرفجة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله
عليه وسلم يقول: (مَنْ أتَاكُمْ وَأمْرُكُمْ جمِيع عَلى رَجُل وَاحِد، يُريدُ أنْ
يَشُق. عَصَاكُم أو يُفَرَق جَمَاعتَكُمْ، فَاقْتُلُوهُ) . وفي رواية: (فَمَنْ
أرَادَ أنْ يُفَرقَ أمْرَ هَذِهِ الأمةَ، وَهِي جَمِيعٌ، فَاضرِبُوهُ بِالسيْفِ،
كَائِنا مَنْ كَانَ) .
[أمركم جميع: مجتمع، وهي جميع: مجتمعة. يشق
عصاكم: كناية عن إثارة الاختلاف وتنافر النفوس، حتى تفترق الأمة كما تفترق العصا
المشقوقة] .
(١) أي قوة يتمكنون بها من مقاومة الإمام وأهل العدل، بأن
تكون لهم فئة ينحازون إليها، أو حصن يلتجئون فيه، أو تغلبوا على بلد من بلاد
المسلمين لأن قتالهم لدفع شرهم، فإن لم تكن لهم قوة بهذا المعنى فلا يخاف شرهم
..
(٢) أي سلطانه، بانفرادهم ببلدة أو قرية، ولهم رئيس يطاع فيهم.
٣
- وأن يكون لهم تأويل سائغ [١]
ولا يقتل أسيرهم، ولا
(١)
شبهة محتملة، من كتاب أو سنة، يجيزون بسببها الخروج على الإمام الحق، أو منع الحق
المتوجه عليهم، ومن خرج من غير تأويل كان معانداً ولم يكن باغياً. كتأويل بعض من
خرجوا على علي رضي الله عنه: بأنه يعرف قتلة عثمان رضي الله عنه ولا يقتص منهم،
وهذا كفر لأنه تعطيل للحكم بما أنزل الله عز وجل. والله تعالى يقول: "وَمَنْ لَمْ
يَحكُمْ بمَا أنْزَلَ اللهُ فأولئِكَ هُمُ الكافرُونَ" / المائدة: ٤٤/.
وكتأويل
مانعي الزكاة لأبي بكر رضي الله عنه: بأنهم لا يدفعون الزكاة لا لمن كان دعاؤه
رحمة لهم: هو رسول الله صلى الله عليه وسلم. لأن الله تعالى يقول: "خذ من أموالهم
صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وَصَل عَلَيْهِمْ إن صلاَتَكَ سًكَنٌ لَهَمْ" التوبة:
١٠٣/.
[صدقة: هي الزكِاة. وغيرها. تطهرهم: تنظفهم وتنقيهم من آثار
الذنوب. وتزكيهم: تزيد أموالهم بركة ونماء وتستعمل التزكية بمعنى المبالغة في
التطهير. صل عليهم: اعطف عليهم بالدعاء. سكَن لهم: رحمة تسكن بها نفوسهم وتطمئن
قلوبهم] .
فإذا فقد شرط من الشروط الثلاثة لم يكونوا بغاة. ولم يجب
قتالهم.
وإنما يؤاخذون بأعمالهم وما ترتب عليها، ولا يعاملون معاملة
البغاة.
ويشترط أيضاً لجواز قتالهم: أن يرسل إليهم الإمام الحق رجلا
أميناً فطناً، ينصحهم ويدعوهم إلى الطاعة ويكشف لهم شبهتهم، إن أبدوا شبهة.
ويسألهم عما يكرهون من إمام أهل العدل، ويحذرهم من عاقبة إصرارهم على البغي.
وينذرهم بالقتال إن أصروا على ما هم عليه.
والْأصل في هذا: أن الله
تعالى أمر بالإصلاح قبل القتال إذ قال: "فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على
الأخرى فقاتلوا"
يغنم مالهم ولا يذفف على جريحهم [١].
التي
تبغي "."
وهذا ما فعله علي رضي الله عنه، حيث بعث ابن عباس رضي الله
عنهما إلى الخوارج فناظرهم، فرجع منهم أربعة آلاف وأصر الباقون، فقاتلهم رضي الله
عنه. (مسند أحمد: ١/ ٨٧) .
(١) مما يختلف به قتال البغاة عن قتال
الكفار: أنه إذا أخذ منهم أسرى لا يقتلون، كما أنهم لا يسترقون، بل يحبسون حتى
ينتهي بغيهم فيطلقون.
وإذا أخذت منهم أموال لا تقسم كما تقسم الغنائم،
بل تحفظ حتى إذا انتهى بغيهم ردت إليهم. وإذا وجد منهم جريح لا يذفف عليه، أي لا
يتمم قتله.
وإذا ولَى أحدهم هارباً فلا يتبع.
والأصل في
هذا: ما رواه البيهقي (٨/ ١٨٢) عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن مسعود: (يا ابْنَ مَسعود، أتَدْرِي مَا
حكمُ اللهِ فِيمَن بَغَى مِنْ هَذه الأمَّة؟ قال ابنُ مسعودٍ: اللهُ ورسولُهُ
أعْلَمُ؟ قال: فَإن حُكْم اللهِ فِيهِمْ أن لاَ يُتْبعً مدْبرُهُم، ولاَ يُقتَلَ
أسِيرُهمْ ولاَ يذفَف على جَرِيحِهم. وفي رواية: وَلاَ يُقْسم فَيْؤُهُمْ) . أي
ما يغنم منهم.
وروى ابن أبي شيبة بإسناد حسن: أن عليا رضي الله عنه
أمرَ منَادِيه يومَ الجَملِ فنادى: لا يُتبعُ مُدْبِر ولا يَذففُ عَلى جَرِيح،
وَلاَ يقْتَلُ أسير، وَمَنْ أغْلَقَ بَابَهُ فَهُوَ آمنٌ، وَمَنْ ألْقَى سِلاحَهُ
فهُوَ آمن. مغني المحتاج: ٤/ ١٢٧.
وروِي عنه: أنَه ألقى ما أصاب من
عسكر أهل النهْرَوَانِ في الرحْبَةِ، فمن عرف شيئاً أخذه، حتى كان آخره قدر حديد
لإنسان فأخذه.
[النهروان: بلدة كانت بقرب بغداد. الرحبة. الساحة
الواسعة بين دور القوم] .
"فصل" ومن ارتد عن الإسلام استتيب ثلاثا فإن
تاب وإلا قتل [١] ولم يغسل ولم يصل عليه ولم يدفن
(١) لما رواه
البخاري (٢٨٥٤) عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال النبى صلى الله عليه وسلم:
(مَنْ بَدلَ دِينَهُ فَاقتُلُوهُ) . ولقوله صلى الله عليه وسلم: (لاَ يحل دَمُ
امْرِىء مُسْلِم .. إلا بِإحْدَى ثَلاث ..
المُفَاِرقُ لِدِينِهِ
التَّارِكُ لِلْجَماعَةِ (انظر: حاشية ٢ ص ٢٠١) .
والاستتابة واجبة،
أي يطلب منه أن يتوب ويعود إلى الإسلام قبل أن يقتل، لما رواه الدارقطني (٣/ ١١٨)
عن جابر رضي الله عنه: أن امرأة يقالُ لها أم رومان ارتدت، فأمر النبي صلى الله
عليه وسلم أن يُعْرَضَ عليها الإسلام، فإنْ تابتْ وإلا قتلَتْ.
وقيل:
يمهل ثلاثة أيام، يكرر عليه الطلب فيها، لقول عمر رضي الله عنه في مرتد قتل ولم
يمهل: أفَلاَ حَبسَتمُوُه ثَلاَثا، وَأطعَمْتُمُوه. ُ
كُل يَوْم
رَغِيفاً، وَاسْتَتَبْتُمُوهُ لعَلَهُ يَتُوبُ ويُراجِعُ أمْرَ اللهِ؟ ثم قال
عمر: اللهُم إني لم أحضر، ولم آمرْ، ولمَ أرضَ إذ بَلَغَني الموطأ (٢/ ٧٣٧) .
والراجح
في المذهب أنه لا يمهل، لظاهر الأدلة السابقة. وقد روى البخاري (٦٥٢٥) ومسلم
(١٧٣٣) حديث تولية أبي موسى الأشعري رضي الله عنه على اليمن، وفيه:: ثم أتْبَعَهُ
مُعَاذَ بْنَ جَبَل، فلما قَدِمَ عليه أْلقى له وسادةً، قال: انْزِلْ، وإذا رجلٌ
عنده. مُوثَقٌ، قال: ما هذا؟ قال: كان يهودياً فأسلم ثم تَهوَدَ، قال: اجْلِسْ،
قال: لا أجلسُ حتَى يُقْتَلَ، قضاءُ الله ورسولِه، ثلاث مرات، فأمَرَ به
فقُتِل.
[قضاء الله: أي هذا قضاء الله. ثلاث مرات: أي كرر قوله
ثلاثاً] .
في مقابر المسلمين [١].
"فصل" وتارك الصلاة على
ضربين:
١ - أحدهما: أن يتركها غير معتقد لوجوبها فحكمه حكم المرتد
[٢].
٢ - والثاني: أن يتركها كسلا معتقدا لوجوبها
فيستتاب
فإن تاب وصلى وإلا قتل حدا [٣] وكان حكمه حكم
(١) لأنه خرجِ منهم، قال
تعالى: "وَمَنْ يَرتَددْ مِنكُمْ عَنْ دينه فَيَمت وَهُو كَافِر" / البقرة:
٢١٧/.
(٢) أى يستتاب، وتوبته أن يصلي معلناً اعتقاده بوجوب الصلاة،
فإن لم يتب قتل وكان كافراً، لا يغسل ولا يصلى عليه ولا يدفن في مقابر
المسلمين.
روى مسلم (٨٢) : غيره عن جابر رضي الله عنه قال: سمعت النبى
صلى الله عليه وسلم يقول: (إن بيْنَ الرجلِ: وبينَ الشًرْكِ وَالكفرِ تَرْكَ
الصَلاَةِ) . وهو محمول على الترك جحوداً وإنكاراً لفرضيتها.
(٣) أي
عقوبة على تركه فريضة يقاتل عليها. دل على ذلك: ما رواه البخاري (٢٥) ومسلم (٢٢)
عن ابن عمر رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أمرتُ أنْ
أقَاتل النَّاسَ حَتَى يشْهَدُوا أنْ لإَ إلَهَ إلاً اللهُ وَأن محُمَداً رَسَول
الله، وَيُقِيمُوا الصَّلاَةَ ويُؤتُوا الزكَاةَ. فَإذَا فَعَلوا ذَلِكَ
عَصَمُوا. مني دماءَهُمْ وَأموالَهُم إلا بحَق الإسْلاَمِ، وَحسَابُهُمْ عَلى
اللهِ) .
دل الحديث على أن من أقر بالشهادتين يقاتل إن لم يقم الصلاة،
ولكنه لا يكفر، بدليل ما رواه أبو داود (١٤٢٠) وغيره. عن عبادةَ بن الصاَمِتِ رضي
الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (خمس صلوات كتبهن الله
على العباد، فمن جاء بهن، ولم يضيع منهن شيئا استخفافا بحقهن. كان له عند الله
عهد أن
المسلمين [١].
يُدخلَهُ الجَنةَ، ومَنْ لَمْ يَأت
بِهن فَلَيسَ لَهُ عنْدَ الله عَهْد، إن شَاءَ عَذبَه وَإنْ شَاءَ أدْخَلَهَ
الجَنةَ).
فقد دل على أن تارك الصلاة لا يكفر، لأنه لو كفر لم يدخل في
قوله: (إن شاء أدخله الجنة) لأن الكافر لا يدخل الجنة قطعاً، فحمل على من تركها
كسلا، جمعاً بين الأدلة.
(١) فيغسل ويكفن ويصلى عليه، ويدفن في مقابر
المسلمين، لأنه منهم.
كتاب الجهاد [١]
وشرائط وجوب الجهاد سبع خصال:
١ - الإسلام
٢
- والبلوغ
٣ - والعقل
٤ - والحرية
٥ -
والذكورية
٦ - والصحة
٧ - والطاقة على القتال [٢].
(١)
الجهاد من فرائض الإسلام وشعائره العظمى، دل على مشروعيته: من كتاب الله تعالى
آيات كثيرة، منها: قوله تعالى: "كتبِ عَلَيْكمْ القِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكمْ
وَعَسىَ أنْ تكْرَهُوا شَيئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسىَ أنْ تحبوا شَيْئاً
وَهُوَ شَر لَكمْ والله يَعْلم أنتمْ لاَ تَعْلَمونَ" / البقرة: ٢١٦/.
ومن
السنة: جهاده المتواصل صلى الله عليه وسلم منذ أْذنَ له فيه، إلى أن لقي الله عز
وجِل. مع بيانه أحكامه وأهدافه الله، كقوله: (أُمِرْتُ أَن أقَاتلَ النَاسَ حَتى
يقولُوا لاَ إلَهَ إلاَ اللهُ) . البخاري (٢٧٨٦) ومسلم (٢١) .
وقد ورد
في فضل الجهاد والحث عليه، والتنفير من القعود عنه، والتحذير من تعطيله، ما لا
يحصى من النصوص القرآنية والأحاديث النبوية.
(٢) أي القدرة على القتال
بالبدن والمال دون مشقة شديدة، فخرج نحو الأعمى والأعرج وفاقد النفقة. والأصل في
هذه الشروط: قوله تعالى: "يا أيهَا الذين آمَنوا قاتلُوا الَّذينَ يَلُونَكمْ
مِنَ الكفارِ" / التوبة: ١٢٣/. فقد خَوطب بالأمر بَالقتال المؤمنون وهم المسلمون
فلا يتوجه على غيرهم. والجهاد أيضاً من أعظم العبادات وغير المسلم ليس
ومن
أسر من الكفار فعلى ضربين:
١ - ضرب يكون رقيقا بنفس السبي [١] وهم
الصبيان والنساء
٢ - وضرب لا يرق بنفس السبي وهم الرجال البالغون
والإمام
مخير فيهم بين أربعة أشياء
١ - القتل
٢ - والاسترقاق
٣
- والمن
٤ - والفدية بالمال أو بالرجال [٢]
يفعل من ذلك ما
فيه المصلحة [٣].
أهلا للعبادة، وهو أيضاً لإعلاء كلمة الله عز وجل،
والكافر لا يسعى إلى ذلك.
وقوله تعالى: "لَيْسَ عَلى الضُّعفاء ولاَ
عَلى المَرْضىَ وَلاَ عَلى الَذينَ لاَ يجدُونَ مَا يُنْفقونَ حَرَج َ" / التوبة
٩١ /.
[الضعفاءَ: الصبيان والمَجانين. حرج: إثم وذنب إذا لم يخوجوا
إلى الجهادَ ونفي الإثم والذنب بعدم الخروج دليل على الوجوب] روى البخاري (٢٥٢١)
ومسلم (١٨٦٨) واللفظ له، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: عَرَضني رسولُ الله صلى
الله عليه وسلم يومَ أحُد في القتال. وأنا ابنُ أربًعَ عشْرَةَ سنة، فلما
يجُزْني، وعرضني، يوم الخَنْدَق، وأنا ابنُ خمسَ عشرةَ سَنَة. فأجازَني. أي فأذن
لي بالخروج وَالاشتراك في القتال.
وروى البخاري (١٧٦٢) عن عائشة رضي
الله عنها قالت: قلت: يا رسول الله، ألا نَغْزو ونجاهِدُ مَعَكُمْ؟. قال: (لكُن
أحْسَن الجِهاد وَأجْمَلُهُ الحَج حج مَبرُورُ) . أي مقبول.
(١) هو
الأسر والأخذ من صفوف الأعداء أثناء القتال أو مطاردة العدو.
(٢) بأن
يأخذ منهم مالاً مقابل إطلاقهم، أو يستبدل أسرانا بأسراهم.
(٣) قال
تعالى: "فَإذَا لقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فًضرْبَ الرقابِ حَتَى إذَا
أثخنتموهُمْ فَشُدُوا الْوَثَاقَ فَإمَّا مَنّا بَعْدُ وَإمَا فِدَاء ً حَتى
تَضعً الْحَرْبُ أوْزارَهَا" / محمد: ٤/.
[أْثخنتموهم: أثقلتموهم
بالقتل والجراح. فشدوا الوثاق: فأسروهم
ومن أسلم قبل الأسر أحرز ماله
ودمه وصغار أولاده [١].
وشدوا رباطهم حتى لا يفلتوا منكم. مناً:،
تمنون منا. والمن هو الإنعام والمراد إطلاقهم من غير فدية. تضع الحرب أوزارها:
حتى تنتهي الحرب بوضع المقاتلين أسلحتهم وكفهم عن القتال، وأصل الوزر ما يحمله
الإنسان فأطلق على السلاح لأنه يحمل].
وروى البخاري (٣٨٠٤) ومسلم
(١٧٦٦) عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: حَارَبَتْ النضِيرُ وَقُرَيْظَةُ، فأجْلى
بني النضِيرِ وَأقَر قُرَيْظة وَمَن عَليْهِمْ، حَتَّى حارَبَتْ قريظةُ فقتلَ
رجالَهم، وَقَسمَ نِساءهم وأولادهم وأموالهم بَيْنَ المُسْلِمِينَ.
وقد
حكم بقتلهم سعد بن معاذ رضي الله عنه بتحكيم منه صلى الله عليه وسلم، بعد أن
نزلوا على حكمه.
انظر البخاري (٢٨٧٨) ومسلم (١٧٦٨) .
واسترقْ
صلى الله عليه وسلم أسرى هوازن، ثم تشفع فيهم لدى المسلمين بعد أن قسموا بينهم،
عندما جاء وفد هوازن مسلمين، وطلبوا منه صلى الله عليه وسلم أن يرد إليهم سبيهم
وأموالهم، فَمنوا عليهم. البخاري (٢٩٦٣) .
وروى مسلم (١٧٥٥) أن سرية
من المسلمين أتوا بأسارى فيهم امرأة من بني فَزَارة، فبعث بها رسول الله صلى الله
عليه وسلم إلى أهل مَكَّةَ، ففدى بها ناساً من المسلمين، كانوا أسِرُوا بمكة.
وروى أيضاً مسلم (١٧٦٣) أنّه صلى الله عليه وسلم أخذ الفِدَاءَ مِنْ أسرى غزوة
بَدْر.
(١) أحرز: حفظ وحمى، وذلك لما رواه البخاري (٢٥) ومسلم (٢٢) عن
ابن عمر رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أمِرْتُ أنْ
أقًاتِلَ الناسَ حَتَى يَشهَدُوا أن لاَ إلَهَ إلا اللهَ وَأن محمَدا رَسُولُ
الله، وَيُقِيمُوا الصَلاةَ وَيُؤتُوا الزكَاةَ، فَإذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عصمُوا
مِنَي دِمَاءَهُم وَأموالَهمْ. إلابِحَق الإسْلاَمِ. وَحِسَابُهُمْ عَلى اللهِ)
.
ويحكم للصبي بالإسلام عند وجود ثلاثة أسباب [١]:
١ - أن
يسلم أحد أبويه
٢ - أو يسبيه مسلم منفردا عن أبويه
٣ - أو
يوجد لقيطا في دار الإسلام [٢].
"فصل" ومن قتل قتيلا أعطى سلبه [٣]
وتقسم الغنيمة [٤] بعد ذلك على خمسة أخماس فيعطى أربعة أخماسها لمن شهد الوقعة
[٥] ويعطى للفارس ثلاثة
[عصموا: حفظوا ووقَوْا، وألحق صغار الأولاد
بما ذكر لأن الولد تبع لأبويه في الإسلام. بحق الإسلام: أي إذا فعلوا ما يستوجب
عقوبة مالية أو بدنية في الإسلام، فإنهم يؤاخذون بذلك قصاصاً. حسابهم على الله:
أي فيما يتعلق بسرائرهم وما يضمرون] .
(١) أي عند وجود أحد أسباب
ثلاثة.
(٢) تغليباً لجانب الإسلام وترجيحاً لمصحلة الصغير وما هو أنفع
له، فإن الإسلام صفة كمال وشرف وعلو. قال عليه الصلاة والسلام: (الإسْلاَمُ
يَعْلُو وَلاَ يُعْلَى) . رواه الدارقطني في سننه (كتاب النكاح) . ورواه البخاري
تعليقاً في الجنائز، باب: إذا أسلم الصي .. (العيني: ٨/ ١٦٩) .
(٣)
وهو ما يكون مع المقتول من سلاح وعتاد ولباس ومال.
روى البخاري (٢٩٧٣)
ومسلم (١٨٥١) عن أبي قتّادة رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
(مَن قَتَلَ قَتِيلا لَهُ عَلَيْهِ بَينَة فَلَهُ سلَبهُ) .
[بينة:
علامة أو شهود يشهدون له بقتله] .
(٤) الغنيمة: ما أخذ من أموال
الكفار عنوة والحرب قائمة، ولو عند المطاردة.
(٥) روى البيهقي (٩/ ٦٢)
أن رجُلا سأل النبي صلي الله عليه وسلم قال: ما تقول في الغنيمة؟ قال: (للهِ
خُمُسُهَا، وَأربَعَةُ أخْمَاس لِلجيش) .
أسهم وللراجل سهم [١]
ولا
يسهم إلا لمن استكملت فيه خمس شرائط:
١ - الإسلام
٢ -
والبلوغ
٣ - والعقل
٤ - والحرية
٥ -
والذكورية
فإن اختل شرط من ذلك رضخ له ولم يسهم له [٢].
ويقسم
له الخمس على خمسة أسهم
١ - سهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم يصرف
بعده للمصالح
٢ - وسهم لذوي القربى وهم بنو هاشم وبنو المطلب
٣
- وسهم لليتامى
٤ - وسهم للمساكين
٥ - وسهم لأبناء السبيل
[٣].
(١) روي البخاري (٢٧٠٨) عن ابن عمر رضي الله عنهما: أن رسولَ
الله صلى الله عليه وسلم جَعَلَ لِلفرَسِ سهمينِْ وَلِصَاحِبِهِ سَهْماً.
وفي
روايةَ عنه أيضاً. عند البخاري (٣٩٨٨) ومسلم (١٧٦٢) قال: قَسم ًرسولُ اللهِ صلى
الله عليه وسلم يومَ خيبرَ: للفرس سَهْمَيْنِ، وَللراجِل سَهماً.
[الراجل:
المقاتل على رجليه] .
(٢) لأنة ليس من أهل الجهاد المفروض عليهم حضوره
بل يعطيه أمير الجيش أو الإمام شيئاً من الغنيمة قبل قسمتها، ويجتهد في قدره حسب
ما قدم من نقفع، على أن لا يبلغ سهم الراجل. وهذا المراد من قوله: رضخ له، من
الرضخ، وهو في اللغة: العطاء القليل.
(٣) قال تعالى: "وَاعْلَملوا
أنمَا غَنمتُمْ منْ شَيْء فأن للهِ خُمُسَهُ ولِلرَّسول وَلِذِي القربى واليتَامى
وَالمَسَاكًين وِابْن السَّبِيلِ" / الأنفال َ: ٤١/.
[لله خمسه يحكم
فيه كيف يشاء. للرسول: قسمته وتوزيعه، وله فيه نصيب وهو خمسه. اليتامى: جمع يتيم،
وهو كل صغير لا أب له،
"فصل" ويقسم مال الفيء [١] على خمس فرق [٢]:
يصرف خمسة على من يصرف عليهم خمس الغنيمة [٣]،
فإذا بلغ لم يبق يتيما،
لقوله صلى الله عليه وسلم: (لايُتْمَ بَعْدَ احتلام) أبو داود (٢٨٧٣) ابن السبيل:
المسافر الذي فقد النفقة وهو بعيد عنً ماله].
وروى البخاري (٢٩٧١) عن
جبير بن مطعم رضي الله عنه قال: مشيت أنا وعثمان بن عفان إلى رسرل الله صلى الله
عليه وسلم فقلنا: يا رسولَ الله، أعطيتَ بني المطلب وتركتَنَا، ونحن وهم منك
بمَنْزِلَة وَاحِدَة؟ فقالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنَّمَا بَنُو
المطلِبِ وً بنُو هَاشِم شيء وَاحِدٌ) .
[بمنزلة واحدة: من حيث
القرابة، لأن الجميع بنو عبد مناف. شيء واحد: لأصهم ناصروه قبل إسلامهم وبعده] .
وانظر: حاشية ٣ التالية.
(١) وهو ما أخذ من الكفارمن غير قتال، أو بعد
انتهاء الحرب بالكلية.
(٢) أقسام.
(٣) قال تعالى: "ماَ
أفَاءَ الله عَلى رَسُوله مِنْ أهلِ الْقُرَى فَللهِ وَلِلرسُولِ وَلِذِي
الْقُرْبَى وَاليتامىَ وَالمَساكَينِ وَابنِ السَبِيلِ" / الحشر:٧ /.
وهذه
الآية مطلقة لم يذكر فيها التخميس. فحملت على أية الغنيمة المقيدة بالتخميس.
وقال
صلى الله عليه وسلم: (مَالي ممَا أفَاءَ اللهُ إلا الخمس، وَالخُمُسُ مَردُودٌ
فِيكُمْ) رواه البيهقيَ نهاية: ٣/ ٢٧٢).
أي يصرف في مصالحكم، وذلك بعد
وفاته صلى الله عليه وسلم، والمراد بالخمس خمس الخمس كما علمت. انظِر: حاشية ٣ ص
٢٢٨.
ويعطى أربعة أخماسه للمقاتلة [١] وفي مصالح المسلمين [٢].
(١)
وهم الجند المنقطعون لرصد العدو وحماية الثغور، والمتأهبون دائماً للجهاد.
(٢)
لأنها كانت تعطى له صلى الله عليه وسلم في حياته، وكان يصرفها فيما ذكر.
روى
البخاري (٢٧٤٨) ومسلم (١٧٥٧) عن عمر رضي الله عنه قال: كانتْ أمْوالُ بَني
النضِير، ممَا أفَاءَ اللهُ عَلى رسُوله صلى الله عليه وسلم مِمَّا لَم يُوجِفِ
المُسْلمُوَنَ علَيْه بخيْل وَلاً رِكَاب، فكانتْ لرسولِ اللهِ صلى الله عليه
وسَلم خَاصَّةً، وكانَ يُنْفِقُ عَلِى أهْلِهِ نفَقَة سنتِهِ، ثم يَجْعل مَا
بَقيَ في السلاحِ وَالْكُرَاع ِ، عُدة في سبيل الله.
[يوجف: من
الإيجاف وهو الإسراع في السير، والركاب الإبل، والمعنى: لم يبذلوا فيها سعيا لا
بالخيل ولا بالإبل. الكراع: الخيل التي تعد للجهاد. عدة: استعداداً للجهاد]
ومن
جملة المصارف النفقة على أسر من يموت من المجاهدين الذين سبق ذكرهم، ويسمون
المرتزقة، ولو في غير قتال، أو العلماء ونحوهم، ممن تحتاج الأمة إلى أعمالهم،
فيعطى ورثتهم الذين كانت تلزمهم نفقتهم في حياتهم ما يسد حاجتهم. قال في النهاية:
ومن مات من المرتزقة دفع إلى من كان تلزمه نفقته من أربعة أخماس الفيء كفايته، لا
ما كان يأخذه هو، فتطعى الزوجة وإن تعددت، والبنات حتى ينكحن أو يستغنين بكسب أو
غيره،
والذكور حتى يستقلوا بالكسب أو المقدرة على الغزو، لئلاَّ يشتغل
الناس بالكسب عن الجهاد إذا علموا ضياع عيِالهم بعدهم، ومن بلغ من الأبناء عاجزاً
فكمن لم يبلغ.
وقال: ويعطى لأولاد العالم من أموال المصالح إلى أن
يستقلوا وللزوجة حتى تنكح، ترغيبا في العلم. (٣/ ٧٤) .
"فصل" وشرائط
وجوب الجزية خمس خصال [١]:
١ - البلوغ
٢ - والعقل
٣
- والحرية
٤ - والذكورية [٢]
٥ - وأن يكون من أهل الكتاب
[٣].
(١) صفات، والجزية: اسم للمال الذي يلتزم أداءه غير المسلمين
بعقد مخصوص، مقابل حمايتهم وحقن دمائهم وإسكاننا لهم في ديارنا، وسميت جزية لأنها
أجزأت عن القتل، أي أغنت وكفت عنه.
والأصل في مشروعيتها: قوله تعالى:
"قَاتِلُوا الذينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلاَ بِالْيَوْم الآخِرِ وَلاَ
يُحَرمونَ مَا حَرّم اللهُ رَسُولُهُ وَلاَ يَدِينونَ دِينَ الحًق مِنَ الَّذِينَ
أتُوا الْكِتَابَ حَتى يُعْطُوا الْجِزْيَة عَن يَد وَهُم صَاغِرُونَ" / التوبة:
٢٩/.
[يدينون: يعتقدون. دين الحق: القائم على التوحيد وهو الإسلام.
أوتوا
الكتاب: أعطوا كتباً سماوية من قبل، وهم اليهود والنصارى. عن يد: طائعين غير
ممتنعين. صاغرون: عليهم علائم الذل والقهر، وقال الشافعي رحمه الله تعالى: الصغار
هو جريان أحكام المسلمين عليهم] .
وروى البخاري (٢٩٨٨) ومسلم (٢٩٦١)
عن عمرو بنِ عَوْف الأنصارِيّ رضي الله عنه: أن رسولَ اللهِ صلي الله عليه وسلم
بعث أبا عُبًيدَةَ بن الجَرَاحِ إلى الْبَحْرَيْنِ، يَأتي بجِزيَتِهَا.
(٢)
والأصل في هذه الشروط الأربعة الآية السابقة، فقد دلت على أن الجزية تؤخذ من
المكلفين أهل القتال، فخرج النساء لأنهن لسن من أهل القتال، وكذلك العبيد. وخرج
الصبيان والمجانين لأنهم غير مكلفين.
وروى البيهقي (٩/ ١٩٥) أن عمر
رضي الله عنه كَتبَ إلى عمَّالِهِ أنْ لا يَضْرِبوا الجِزْيَةَ عَلى النَسَاءِ
وَالصبْيانِ. وانظر حاشية ١.
(٣) للآية السابقة.
أو ممن له
شبهة كتاب [١]
وأقل الجزية دينار في كل حول [٢]
ويؤخذ من
المتوسط ديناران ومن الموسر أربعة دنانير [٣]
ويجوز أن يشترط عليهم
الضيافة فضلا عن مقدار الجزية [٤]
ويتضمن عقد الجزية أربعة أشياء:
١
- أن يؤدوا الجزية
٢ - وأن تجري عليهم أحكام الإسلام [٥]
٣
- وأن لا يذكروا دين
(١) كالجوس وهم عبدة النار. روى البخاري (٢٩٨٧) :
أن عمر رضي الله عنه لم يكَن ليأخذَ الجِزْيَةَ. منِ المجوس، حتى شهد عبد الرحمن
بن عوف، رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذها مِنْ مجوس هجر.
(٢)
لأنه صلى الله عليه وسلم لما وجه معاذاً رضي الله عنه إلى اليمن: أمره أن يأخذ من
كل حالم ديناراً أو عدله من المعافر. انظر ص ٩٤ حاشية ١.
(٣) اقتداءَ
بعمر رضي الله عنه، فقد وضعها على الغني ثمانية وأربعينَ درْهَماً، وعلى
المَُستوسط أربعة وعشرين درهماً، على الفقيرِ اثني عَشرَ درَهماً. رواه البيهقيَ
(٩/ ١٩٦) . وكان صرف الدينار باثني عشر درهماً.
ويساوي الآن فصف ليرة
انكليزية ذهبية تقريباً.
(٤) روى البيهقي (٩/ ١٩٥) أنه صلى الله عليه
وسلمٍ صالح أهل أيلة على ثلاثمائة دينار - وكانوا ثلاثمائة رجل - وعلى ضيافة من
مَر بهم من المسلمين.
(٥) فيما يعتقدون تحريمه كالزنا مثلا، فقد ثبت
عند البخاري (٦٤٣٣) ومسلم (١٦٩٩) : أنه صلى الله عليه وسلم رجم يهودياً ويهودية
زنيا.
وأما ما لا يعتقدون تحريمه فلا تجري عليهم فيه أحكَامنا، إلا إن
ترافعرا إلى قاضي المسلمين، فإنه يحكم بينهم بشرعنا.
الإسلام إلا بخير
[١]
٤ - وأن لا يفعلوا ما فيه ضرر على المسلمين [٢]
ويعرفون
بلبس الغيار وشد الزنار ويمنعون من ركوب الخيل [٣].
(١) فلو تعرضوا
للقرَآن، أو ذكروا الرسول صلى الله عليه وسلم بما لا يليق به، أو طعنوا في شرع
الله عز وجل عزروا، وإن كان شرط انتقاض العهد بذلك نقض.
(٢) كإيوائهم
جاسوساً أو يدلوا أهل الحرب على خلل في المسلمين فينتقض العهد بمثل هذا. أو
يظهروا خمرا أو خنزيرا، أو يعلنوا شرَكاً ونحوه فيمنعون من كل ذلك.
(٣)
الغيار: أن يخيط بموضع من ثوبه لا يعتاد الخياطة عليه بلون يخالفه.
والزنار:
خيط غليظ يشده الرجال في أوساطهم فوق الثياب.
والغرض: أن يتميزوا عن
المسلمين بلباس ونحوه ليعرفوا ويعاملوا بما يليق بهم، وأن لا بظهروا بمظهر
التعالي والعزة أمام المسلمين، وقد ضرب الله تعالى عليهم الذلة والمسكنة والصغار.
ونعوذ بالله تعالى من انقلاب الأحوال.