المؤلف: الذهبي، محمد حسين
حالة الفهرسة: غير مفهرس
الناشر: مكتبة وهبة
سنة النشر: 2000
عدد المجلدات: 3
رقم الطبعة: 7
تاريخ إضافته: 15 / 10 / 2008
فهرس الموضوعات
- الباب الأول: المرحلة الأولى للتفسير.. أو التفسير فى عهد النبى صلى الله عليه وسلم وأصحابه
- فهم النبى صلى الله عليه وسلم والصحابة للقرآن
- المفسرون من الصحابة
- قيمة التفسير المأثور عن الصحابة
- مميزات التفسير فى هذه المرحلة
- الباب الثانى: المرحلة الثانية للتفسير أو التفسير فى عصر التابعين
- ابتداء هذه المرحلة
- مصادر التفسير فى هذا العصر
- مدارس التفسير التى قامت فيه
- قيمة التفسير المأثور عن التابعين
- مميزات التفسير فى هذه المرحلة
- الخلاف بين السلف فى التفسير
- العودة الي كتاب التفسير والمفسرون
الباب الأول: المرحلة الأولى للتفسير.. أو التفسير فى عهد النبى ﷺ وأصحابه
فهم النبى ﷺ والصحابة للقرآن
١ / ٢٧
*تمهيد:
نزل
القرآن الكريم على نبى أُمِّى، وقوم أُمِّيين، ليس لهم إلا ألسنتهم وقلوبهم،
وكانت لهم فنون من القول يذهبون فيها مذاهبهم ويتواردون عليها، وكانت هذه الفنون
لا تكاد تتجاوز ضروبًا من الوصف، وأنواعًا من الحِكَم، وطائفة من الأخبار
والأنساب، وقليلًا مما يجرى هذا المجرى، وكان كلامهم مشتملًا على الحقيقة
والمجاز، والتصريح والكناية. والإيجاز والإطناب.
وجربًا على سُّنَّة الله
تعالى فى إرسال الرسل، نزل القرآن بلغة العرب
١ / ٢٨
وعلى
أساليبهم فى كلامه: ﴿وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ
لِيُبَيِّنَ لَهُمْ﴾ .. [إبراهيم: ٤] فألفاظ القرآن عربية، إلا ألفَاظًا قليلةً،
اختلفت فيها أنظار العلماء، فمن قائل: إنها عُرِّبت وأُخِذت من لغات أخرى، ولكن
العرب هضمتها وأجرت عليها قوانينها فصارت عربية بالاستعمال. ومن قائل: إنها عربية
بحتة، غاية الأمر أنها مما تواردت عليه اللغات، وعلى كِلا القولين فهذه الألفاظ
لا تُخرِج القرآن عن كونه عربيًا.
استعمل القرآن فى أسلوبه الحقيقة والمجاز،
والتصريح والكناية، والإيجاز والأطناب، وعلى نمط العرب فى كلامهم. غير أن القرآن
يعلو على غيره من الكلام العربى، بمعانيه الرائعة التى افتنَّ بها فى غير
مذاهبهم، ونزع منها إلى غير فنونهم، تحقيقًا لإعجازه، ولكونه من لدن حكيم
عليم.
* * *
*فهم النبى ﷺ والصحابة للقرآن:
وكان طبيعيًا أن يفهم النبى ﷺ جملة وتفصيلًا، إذ تكفل الله تعالى له
بالحفظ والبيان: ﴿إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ
فاتبع قُرْآنَهُ *ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ﴾ [القيامة: ١٧-١٩]، كما كان
طبيعيًا أن يفهم أصحاب النبى ﷺ القرآن فى جملته، أى بالنسبة لظاهره وأحكامه، أما
فهمه تفصيلًا، ومعرفة دقائق باطنه، بحيث لا يغيب عنهم شاردة ولا واردة، فهذا غير
ميسور لهم بمجرد معرفتهم للغة القرآن، بل لا بد لهم من البحث والنظر والرجوع إلى
النبى ﷺ فيما يشكل عليهم فهمه، وذلك لأن القرآن فيه المجمل، والمشكل، والمتشابه،
وغير ذلك مما لا بد فى معرفته من أمور أُخرى يُرجعَ إليها.
ولا أظن الحق مع
ابن خلدون حيث يقول فى مقدمته: «إن القرآن نزل بلغة العرب، وعلى أساليب بلاغتهم،
فكانوا كلهم يفهمونه ويعلمون معانيه فى مفرداته وتراكيبه»، نعم لا أظن الحق معه
فى ذلك، لأن نزول القرآن بلغة العرب لا يقتضى أن العرب كلهم كانوا يفهمونه فى
مفرداته وتراكيبه، وأقرب دليل على هذا ما نشاهده اليوم من الكتب المؤلَفة على
اختلاف لغاتها، وعجز كثير من أبناء هذه اللغات عن فهم كثير مما جاء فيها بلغتهم،
إذ الفهم لا يتوقف على معرفة اللغة وحدها، بل لا بد لمن يفتش عن المعانى ويبحث
عنها من أن تكون له موهبة عقلية خاصة، تتناسب مع درجة الكتاب وقوة تأليفه.
*
* *
*تفاوت الصحابة فى فهم القرآن:
ولو أننا رجعنا إلى عهد الصحابة
لوجدنا أنهم لم يكونوا فى درجة واحدة بالنسبة لفهم معانى القرآن، بل تفاوتت
مراتبهم، وأشكل على بعضهم ما ظهر لبعض آخر منهم، وهذا يرجع إلى تفاوتهم فى القوة
العقلية، وتفاوتهم فى معرفة ما أحاط بالقرآن من ظروف وملابسات، وأكثر من هذا،
أنهم كانوا لا يتساوون فى معرفة المعانى التى وُضعت لها المفردات، فمن مفردات
القرآن ما خفى معناه على بعض الصحابة، ولا ضَيْر فى هذا، فإن اللغة لا يحيط بها
إلا معصوم، ولم يدَّع أحد أن كل فرد من أُمَّة يعرف جميع ألفاظ لغتها.
ومما
يشهد لهذا الذى ذهبنا إليه، ما أخرجه أبو عبيدة فى الفضائل عن أنس: «أن عمر بن
الخطاب قرأ على المنبر: ﴿وَفَاكِهَةً وَأَبًّا﴾ .. [عبس: ٣١] فقال: هذه الفاكهة
قد عرفناها، فما الأبّ؟. ثم رجعَ إلى نفسه فقال: إن هذا لهو التكلف يا عمر». وما
روى من أن عمر كان على المنبر فقرأ: ﴿أَوْ يَأْخُذَهُمْ على تَخَوُّفٍ﴾ ..
[النحل: ٤٧] ثم سأل عن معنى التخوف، فقال له رجل من هذيل: التخوُّف عندنا التنقص،
ثم أنشده:
تَخَوَّفَ الرَّحُلُ منها تامِكًا قَرِدًا ... كما تَخَوَّفَ
عُودَ النبعةِ السَّفِنُ
وما أخرجه أبو عبيدة من طريق مجاهد عن ابن عباس
قال: «كنت لا أدرى ما ﴿فَاطِرِ السماوات﴾ حتى أتانى أعرابيان يتخاصمان فى بئر،
فقال أحدهما: أنا فطرتها، والآخر يقول: أنا ابتدأتها».
فإذا كان عمر بن
الخطاب يخفى عليه معنى «الأَبّ» ومعنى «التَخَوُّف» ويسأل عنهما غيره، وابن عباس
- وهو ترجمان القرآن - لا يظهر له معنى «فاطر» إلا بعد
١ /
٢٩
سماعها من غيره، فكيف شأن غيرهما من الصحابة؟ لا شك أن
كثيرًا منهم كانوا يكتفون بالمعنى الإجمالى للآية، فيكفيهم - مثلًا - أن يعلموا
من قوله تعالى: ﴿وَفَاكِهَةً وَأَبًّا﴾ أنه تعداد للنِعمَ التى أنعم الله بها
عليهم، ولا يلزمون أنفسهم بتفهم معنى الآية تفصيلًا ما دام المراد واضحًا
جليًا.
وماذا يقول ابن خلدون فيما رواه البخارى، من أن عدى بن حاتم لم يفهم
معنى قوله تعالى: ﴿وَكُلُواْ واشربوا حتى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الخيط الأبيض مِنَ
الخيط الأسود مِنَ الفجر﴾ .. [البقرة: ١٨٧] وبلغ من أمره أن أخذ عقالًا أبيض
وعقالًا أسود، فلما كان بعض الليل، نظر إليهما فلم يستبينا، فلما أصبح أخبر
الرسول بشأنه، فعرَّض بقلة فهمه، وأفهمه المراد.
الحق أن الصحابة - رضوان
الله عليهم أجمعين - كانوا يتفاوتون فى القدرة على فهم القرآن وبيان معانيه
المرادة منه، وذلك راجع - كما تقدَّم - إلى اختلافهم فى أدوات الفهم، فقد كانوا
يتفاوتون فى العلم بلغتهم، فمنهم من كان واسع الاطلاع فيها ملِّمًا بغريبها،
ومنهم دون ذلك، ومنهم مَن كان يلازم النبى ﷺ فيعرف من أسباب النزول ما لا يعرفه
غيره، أضف إلى هذا وذاك أن الصحابة لم يكونوا فى درجتهم العلمية ومواهبهم العقلية
سواء، بل كانوا مختلفين فى ذلك اختلافًا عظيمًا.
قال مسروق: «جالست أصحاب
محمد ﷺ فوجدتهم كالإخاذ - يعنى الغدير - فالإخاذ يروى الرجل، والإخاذ يروى
الرجلين، والإخاذ يروى العشرة، والإخاذ يروى المائة، والإخاذ لو نزل به أهل الأرض
لأصدرهم».
هذا.. وقد قال ابن قتيبة - وهو ممن تقدَّم على ابن خلدون بقرون -:
«إن العرب لا تستوى فى المعرفة بجميع ما فى القرآن من الغريب والمتشابه، بل إن
بعضها يفضل فى ذلك على بعض». ويظهر أن ابن خلدون قد شعر بذلك فصرَّح به فيما
أورده بعد عبارته السابقة بقليل حيث قال: «وكان النبى ﷺ يُبيِّن المجمل، ويُميِّز
الناسخ من المنسوخ، ويُعرِّفه أصحابه فعرفوه وعرفوا سبب نزول الآيات ومقتضى الحال
منها منقولا عنه».. وهذا تصريح منه بأن العرب كان لا يكفيهم فى معرفة معانى
القرآن معرفتهم بلغته، بل كانوا فى كثير من الأحيان بحاجة إلى توقيف من الرسول
ﷺ.
١ / ٣٠
* * *
مصادر التفسير فى هذا
العصر
كان الصحابة فى هذا العصر يعتمدون فى تفسيرهم للقرآن الكريم على أربعة
مصادر:
الأول: القرآن الكريم.
الثانى: النبى ﷺ.
الثالث: الاجتهاد
وقوة الاستنباط.
الرابع: أهل الكتاب اليهود والنصارى.
ونوضح كل مصدر من
من هذه المصادر الأربعة فنقول:
*المصدر الأول - القرآن الكريم:
الناظر
فى القرآن الكريم يجد أنه قد اشتمل على الإيجاز والإطناب، وعلى الإجمال والتبيين،
وعلى الإطلاق والتقييد، وعلى العموم والخصوص. وما أُوجِزَ فى مكان قد يُبْسطَ فى
مكان آخر، وما أُجْمِلَ فى موضع قد يُبيَّن فى موضع آخر، وما جاء مطلقًا فى ناحية
قد يلحقه التقييد فى ناحية أخرى، وما كان عامًا فى آية قد يدخله التخصيص فى آية
أُخرى.
ولهذا كان لا بد لمن يعترض لتفسير كتاب الله تعالى أن ينظر فى القرآن
أولًا، فيجمع ما تكرر منه فى موضوع واحد، ويقابل الآيات بعضها ببعض، ليستعين بما
جاء مسهبًَا على معرفة ما جاء موجَزًا، وبما جاء مُبيَّنًا على فهم ما جاء
مُجمْلًا، وليحمل المُطْلَق على المقيَّد، والعام على الخاص، وبهذا يكون قد فسرَّ
القرآن بالقرآن، وفهم مراد الله بما جاء عن الله، وهذه مرحلة لا يجوز لأحد مهما
كان أن يعرض عنها، ويتخطاها إلى مرحلة أخرى، لأن صاحب الكلام أدرى بمعانى كلامه،
وأعرف به من غيره.
وعلى هذا، فمن تفسير القرآن بالقرآن: أن يُشرح ما جاء
موجَزًا فى القرآن بما جاء فى موضع آخر مُسْهَبًا، وذلك كقصة آدم وإبليس، جاءت
مختصرة فى بعض المواضع، وجاءت مُسْهَبة مطوَّلة فى موضع آخر، وكقصة موسى وفرعون،
جاءت مُوجَزة فى بعض المواضع، وجاءت مُسْهبَة مُفصَّلة فى موضع آخر.
ومن
تفسير القرآن بالقرآن: أن يُحمل المجمَل على المبيَّن لِيُفسَّر به، وأمثلة ذلك
كثيرة فى القرآن، فمن ذلك تفسير قوله تعالى فى سورة غافر الآية [٢٨]: ﴿وَإِن يَكُ
صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الذي يَعِدُكُمْ﴾ بأنه العذاب الأدنى المُعجَّل فى
الدنيا، لقوله تعالى فى آخر هذه السورة آية [٧٧]: ﴿فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ
الذي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ﴾ .. ومنه تفسير
قوله تعالى فى سورة النساء آية [٢٧]: ﴿وَيُرِيدُ الذين يَتَّبِعُونَ الشهوات أَن
تَمِيلُواْ مَيْلًا عَظِيمًا﴾ بأهل الكتاب لقوله تعالى فى السورة نفسها آية [٤٤]:
﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين أُوتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الكتاب يَشْتَرُونَ الضلالة
وَيُرِيدُونَ أَن تَضِلُّواْ السبيل﴾ .. ومنه قوله تعالى فى سورة البقرة آية
[٣٧]: ﴿فتلقىءَادَمُ
١ / ٣١
مِن رَّبِّهِ
كَلِمَاتٍ﴾ فسَّرتها الآية [٢٣] من سورة الأعراف: ﴿قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَآ
أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ
الخاسرين﴾ .. ومنه قوله تعالى فى سورة الأنعام آية [١٠٣]: ﴿لاَّ تُدْرِكُهُ
الأبصار﴾ فسَّرتها آية: ﴿إلى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ﴾ الآية [٢٣] من سورة القيامة.
ومنه قوله تعالى فى سورة المائدة آية [١]: ﴿أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأنعام
إِلاَّ مَا يتلى عَلَيْكُمْ﴾ .. فسرتها آية ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الميتة﴾ الآية
[٣] من السورة نفسها.
ومن تفسير القرآن بالقرآن حمل المُطْلق على المُقيَّد،
والعام على الخاص، فمن الأول: ما نقله الغزالى عن أكثر الشافعية من حمل المُطْلَق
على المُقيَّد فى صورة اختلاف الحكمين عند اتحاد السبب، ومثَّلَ له بأية الوضوء
والتيمم، فإن الأيدى مُقيَّدة فى الوضوء بالغاية فى قوله تعالى فى سورة المائدة
آية [٦]: ﴿فاغسلوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى المرافق﴾ .. ومطلقة فى
التيمم فى قوله تعالى فى الآية نفسها: ﴿فامسحوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ
مِّنْهُ﴾ .. فقيدت فى التيمم بالمرافق أيضًا، ومن أمثلته أيضًا عند بعض العلماء:
آية الظَهَار مع آية القتل، ففى كفَّارة الظَهَار يقول الله تعالى فى سورة
المجادلة آية [٣]: ﴿فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ﴾ .. وفى كفَّارة القتل، يقول فى سورة
النساء آية [٩٢]: ﴿فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ﴾ .. فيحُمل المطلق فى الآية
الأولى على المُقيَّد فى الآية الثانية، بمجرد ورود اللفظ المقيد من غير حاجة إلى
جامع عند هذا البعض من العلماء.
ومن الثانى: نفى الخُلَّة والشفاعة على جهة
العموم فى قوله تعالى: ﴿ياأيها الذين آمنوا أَنْفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاكُم مِّن
قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ شَفَاعَةٌ
والكافرون هُمُ الظالمون﴾ .. وقد استثنى الله المتقين من نفى الخلة فى قوله:
﴿الأخلاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ المتقين﴾ .. واستثنى ما
أذن فيه من الشفاعة بقوله: ﴿وَكَمْ مِّن مَّلَكٍ فِي السماوات لاَ تُغْنِي
شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلاَّ مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ الله لِمَن يَشَآءُ ويرضى﴾
.. ومثل قوله تعالى: ﴿مَن يَعْمَلْ سواءا يُجْزَ بِهِ﴾ .. فإن ما فيها من عموم
خصُصِّ بمثل قوله: ﴿وَمَآ أَصَابَكُمْ مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ
أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ﴾ ..
ومن تفسير القرآن بالقرآن: الجمع
بين ما يُتوهم أنه مختلف، كخلق آدم من تراب فى بعض الآيات، ومن طين فى غيرها، ومن
حمأ مسنون، ومن صلصال، فإن هذا ذكر للأطوار التى مَرَّ بها آدم من مبدأ خلقه إلى
نفخ الروح فيه.
ومن تفسير القرآن بالقرآن: حمل بعض القراءات على غيرها، فبعض
القراءات تختلف مع غيرها فى اللفظ وتتفق فى المعنى، فقراءة ابن مسعود رضى الله
عنه: "أو
١ / ٣٢
يكون لك بيت من ذهب» تفسِّر
لفظ الزخرف فى القراءة المشهورة: ﴿أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ﴾ ..
وبعض القراءات تختلف مع غيرها فى اللفظ والمعنى، وإحدى القراءتين تُعيِّن المراد
من القراءة الأخرى، فمثلًا قوله تعالى: ﴿ياأيها الذين آمنوا إِذَا نُودِيَ
لِلصَّلاَةِ مِن يَوْمِ الجمعة فاسعوا إلى ذِكْرِ الله﴾ .. وفسَّرتها القراءة
الأخرى: «فامضوا إلى ذكر الله»، لأنَ السعَى عبارة عن المشى السريع، وهو وإن كان
ظاهر اللفظ إلا أن المراد منه مجرد الذهاب.
وبعض القراءات تختلف بالزيادة
والنقصان، وتكون الزيادة فى إحدى القراءتين مفسِّرة للمجمل فى القراءة التى لا
زيادة فيها، فمن ذلك: القراءة المنسوبة لابن عباس: «ليس عليكم جُناحٌ أن تبتغوا
فضلًا من ربكم فى مواسم الحج».. فسَّرت القراءة الأخرى التى لا زيادة فيها،
وأزالت الشك من قلوب بعض الناس الذين كانوا يتحرَّجون من الصفق فى أسواق الحج..
والقراءة المنسوبة لسعد بن أبى وقاص: «وإن كان رجل يورث كلالة أو امرأة وله أخ أو
أخت من أم فلكل واحد منهما السُدُس».. فسَّرت القراءة الأخرى التى لا تعرض فيها
لنوع الأخوة.
وهنا تختلف أنظار العلماء فى مثل هذه القراءات فقال بعض
المتأخرين: إنها من أوجه القرآن، وقال غيرهم: إنها ليست قرآنًا، بل هى من قبيل
التفسير، وهذا هو الصواب: لأن الصحابة كانوا يفسِّرون القرآن ويرون جواز إثبات
التفسير بجانب القرآن فظنها بعض الناس - لتطاول الزمن عليها - من أوجه القراءات
التى صحَّت عن رسول الله ﷺ ورواها عنه أصحابه.
ومما يؤيد أن القراءات مرجع
مهم من مراجع تفسير القرآن بالقرآن، ما روى عن مجاهد أنه قال: «لو كنتُ قرأتُ
قراءة ابن مسعود قبل أن أسأل ابن عباس ما احتجتُ أن أسأله عن كثير مما سألته
عنه».
هذا هو تفسير القرآن بالقرآن، وهو ما كان يرجع إليه الصحابة فى تعرف
بعض معانى القرآن، وليس هذا عملًا آليًا لا يقوم على شيء من النظر، وإنما هو عمل
يقوم على كثير من التدبر والتعقل، إذ ليس حمل المجمل على المبين، أو المطلق على
المقيد، أو العام على الخاص، أو إحدى القراءتين على الأخرى بالأمر الهين الذى
يدخل تحت مقدور كل إنسان، وإنما هو أمر يعرفه أهل العلم والنظر خاصة.
ومن
أجل هذا نستطيع أن نوافق الأستاذ جولدزيهر على ما قاله فى كتابه «المذاهب
الإسلامية فى تفسير القرآن» من أن: "المرحلة الأولى لتفسير القرآن والنواة التى
بدأ
١ / ٣٣
بها، تتركز فى القرآن نفسه وفى
نصوصه نفسها. وبعبارة أوضح: فى قراءته، ففى هذه الأشكال المختلفة، نستطيع أن نرى
أول محاولة للتفسير«.. نعم نستطيع أن نوافقه على أن المرحلة الأولى للتفسير تتركز
فى القرآن نفسه على معنى رد متشابهه إلى محكمه، وحمل مجمله على مبينه، وعامه على
خاصه، ومطلقه على مقيده.. إلخ، كما تتركز فى بعض قراءاته المتواترة. وما كان من
قراءات غير متواترة فلا يُعوَّلُ عليها باعتبارها قرآنًا، وإن عُوِّل على بعض منه
باعتبارها تفسيرًا للنص القرآنى، نعم.. نستطيع أن نوافقه على هذا إن أراده، ولكن
لا نستطيع أن نوافقه على ما يرمى إليه من إلحاد فى آيات الله، وما يهدف إليه من
اتهام المسلمين بالتساهل فى قبول القراءات، وذلك حيث يقول فى صحفة (١، ٢) من
الكتاب نفسه:»وقد تسامح المسلمون فى هذه القراءات واعترفوا بها جميعًا على قدم
المساواة بالرغم مما قد يفرض من أن الله تعالى قد أوحى بكلامه كلمة كلمة وحرفًا
حرفًا، وأن مثله من الكلام المحفوظ فى اللوح والذى تنزَّل به المَلَك على الرسول
المختار يجب أن يكون على شكل واحد وبلفظ واحد«اهـ.
كما لا نستطيع أن نوافقه
على ما نسبه إلى الصحابة، من أنهم هم الذين أحدثوا هذه القراءات جميعًا، ونفى
كونها من كلام الله، وعلَّل ما ذهب إليه بعلل واهية لا تقوم إلا على أوهام تخيلها
فظنها حقائق، وذلك حيث يقول فى صفحة (٦) بعد أن ساق هذه الآية: ﴿إِنَّآ
أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * لِّتُؤْمِنُواْ بالله
وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا﴾
.. [الفتح: ٨-٩] قال:»قرأ بعضهم بدلًا من «وتعزروه» بالراء: «وتعززوه» بالزاى، من
العزة والتشريف، وإنى أرى فى الانتقال من تلك القراءة إلى هذه القراءة - وإن كنت
لا أجزم بذلك - أن شيئًا من التفكير فى تصور أن الله قد ينتظر مساعدة من الإنسان
قد دعا إلى ذلك، حقًا إنه قد جاءت فى القرآن آيات بهذا المعنى - سورة الحج [٤٠]
ومحمد [٧] والحشر [٨] وغيرها - بَيْد أن اللفظ المستعمل فى هذه الآيات - وهو
«نصر» - يقوم على أساس أخلاقى تهذيبى، وليس كالتعبير بلفظ «عزَّر» وهى الكلمة
المتفقة مع اللفظ العبرى «عزار»، والتعبير بـ «عزَّر» تعبير حاد يقوم على أساس من
المساعدة المادية" اهـ.
فهذا الكاتب دفعه إلى رأيه الذى رآه ولم يقطع به كما
هى عادته، جهله بأساليب العرب وأفانينها فى البلاغة، فالعرب لا يفهمون من قوله
تعالى: ﴿وَتُعَزِّرُوهُ﴾ - بالراء - معنى النصرة المادية، بل أول ما تصل هذه
الكلمة إلى أسماعهم يعلمون أن الله يريد منهم نصر دينه ونصر رسوله، وكثير من مثل
هذه العبارات وارد فى القرآن، وما
١ / ٣٤
ذكره
من التفرقة بين لفظ: «نصر» ولفظ: «عزَّر» من أن الأول يقوم على أساس أخلاقى
تهذيبى، والثانى يقوم على أساس من المساعدة المادية، لا يقوم على أساس من الفقه
اللغوى.
ويقول الكاتب فى صفحة (١٩، ٢٠) من الكتاب نفسه: «وأحب أن أهتم هنا
ببعض ما ذكرته من هذه القراءات، لما فيه من طابع خاص ذى مبادئ جوهرية، فبعض هذه
الاختلافات ترجع أسبابها إلى الخوف من أن تُنسب إلى الله ورسوله عبارات قد يلاحظ
فيها بعض أصحاب وجوه النظر الخاصة بما يمس الذات الإلهية العالية إلى الرسول، أو
مما يرى أنه غير لائق بالمقام. وهنا تغيرت القراءات من هذه الناحية بسبب هذه
الأفكار التنزيهية».. ثم ضرب لذلك أمثلة فقال: «ففى سورة آل عمران آية [١٨]:
﴿شَهِدَ الله أَنَّهُ لاَ إلاه إِلاَّ هُوَ والملائكة وَأُوْلُواْ العلم﴾ .. فقد
فهم أن هناك ما يصطدم بشهادة الله نفسه على قدم المساواة مع الملائكة وأُولى
العلم فقرأ بعضهم:»شهداء الله«وبهذا يكون الكلام ملتئمًا مع الآية
المتقدمة:»الصابرين والصادقين والقانتين والمنفقين والمستغفرين بالأسحار، شهداء
الله: أنه لا إله إلا هو والملائكة وأُولوا العلم«اهـ.
والمتأمل أدنى تأمل
أن هذا الوهم الذى ادَّعى حصوله من القراءة الأولى لا يمكن أن يدور بخلد عاقل،
ولم نر أحدًا من العلماء خطر له هذا الإيهام، فشهادة الله مع الملائكة لا غبار
عليها، ولا تفيد مساواته لمن ذُكِروا معه.
ويقول فى صفحة (٢١، ٢٢): وفى سورة
العنكبوت آيتى [٢-٣]: ﴿أَحَسِبَ الناس أَن يتركوا أَن يقولوا آمَنَّا وَهُمْ لاَ
يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الذين مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ الله
الذين صَدَقُواْ وَلَيَعْلَمَنَّ الكاذبين﴾ .. فقوله تعالى: ﴿فَلَيَعْلَمَنَّ﴾ قد
يوحى إلى النفس أن الله قد علم ذلك أولًا عند الفتنة كأنه لم يكن يعلم بذلك فى
الأزل، ويظهر أن مثل هذا الظن قد أدَّى إلى قراءة على والزهرى:»فَليُعْلِمَنَّ«من
الإعلام، بمعنى: فليُعَرِّفَنَّ اللهُ الناس أخلاق هؤلاء وهؤلاء، أو بمعنى
ليَسِمَنَّهم بعلامة يُعرفون بها، من بياض الوجوه وسوادها، وكحل العيون وزرقتها.
وزرقة العيون عند العرب علامة على القبح والغدر، وأحيانًا على الحسد» اهـ.
وللرد
على هذا نقول: إن الله تعالى لا يعلم الشيء موجودًا إلا بعد وجوده، فتعلق علمه
بالحادث باعتبار أنه حدث حادث، وهذا لا ينافى كونه عالمًا من الأزل بالشئ قبل
وقوعه، فالكاتب ظن أن العلم المترتب على الفتنة هو العلم الأزلى، ونسى علم
الانكشاف والظهور، فبنى على هذا أن مَن قرأ: «فليُعلِمن» من الإعلام، قرأ بها
فرارًا مما تفيده القراءة الأولى، وهذا قول باطل، ولا يخفى على صحابة رسول الله ﷺ
أن
١ / ٣٥
فتنة الله لمن يشاء من عباده، يراد
منها أن يُظهر للناس فى الخارج ما اشتمل عليه علمه من الأزل، فكيف يُعقل أنهم
عدلوا عن قراءة»فليَعلَمن«من العلم إلى قراءة»فليُعلِمن«من الإعلام لمجرد هذا
الوهم الباطل؟.. اللَّهم إن الكاتب لا يريد إلا أن يوقع فى أذهان الناس أن القرآن
كان عُرْضة للتبديل والتحريف من أصحاب رسول الله ﷺ.
وقد ساق الكاتب أمثلة
كثيرة فى كتابه، كلها من هذا القبيل ولهذا الغرض بدون أن يُفرِّق بين قراءة
متواترة وقراءة شاذة، ولو أنه علم ما اشترطه المسلمون لصحة القراءة وقبولها من
تواترها عن صاحب الرسالة. أو صحة السند وموافقة العربية وموافقة الرسم العثمانى،
لما صار إلى هذا الرأى الباطل، ولما نسب إلى الصحابة رضوان الله عليهم مثل هذا
التحريف والتبديل فى كتاب ضمن الله حفظه فقال: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكر
وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ [الحجر: ٩] .
* * *
*المصدر الثانى -
النبى ﷺ:
المصدر الثانى الذى كان يرجع إليه الصحابة فى تفسيرهم لكتاب الله
تعالى هو رسول الله ﷺ، فكان الواحد منهم إذا أشكلت عليه آية من كتاب الله، رجع
إلى رسول الله ﷺ فى تفسيرها، فيبين له ما خفى عليه، لأن وظيفته البيان، كما أخبر
الله عنه بذلك فى كتابه حيث قال:»﴿وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذكر لِتُبَيِّنَ
لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾ [النحل: ٤٤] ..
وكما نَبَّهَ على ذلك رَسول الله ﷺ فيما رواه أبو داود بسنده إلى الرسول ﷺ أنه
قال: «ألا وإنى أُوتيتُ الكتابَ ومثله معه. ألا يوشك رجل شبعان على أريكته يقول:
عليكم بهذا القرآن فما وجدتم فيه من حلال فأحِلُّوه، وما وجدتم فيه من حرام
فحَرَّموه» ... الحديث.
والذى يرجع إلى كتب السُّنَّة يجد أنها قد أفردت
للتفسير بابًا من الأبواب التى اشتملت عليها، ذكرت فيه كثيرًا من التفسير المأثور
عن رسول الله ﷺ، فمن ذلك:
ما أخرجه أحمد والترمذى وغيرهما عن عدى بن حبان
قال: قال رسول الله ﷺ: «إن المغضوب عليهم هم اليهود، وإن الضَّالين هم
النصارى».
وما رواه الترمذى وابن حبان فى صحيحه عن ابن مسعود قال: قال رسول
الله ﷺ: «الصلاة الوسطى صلاة العصر».
وما رواه أحمد والشيخان وغيرهما عن ابن
مسعود قال: "لما نزلت هذه الآية: ﴿الذين آمَنُواْ وَلَمْ يلبسوا إِيمَانَهُمْ
بِظُلْمٍ﴾ [الأنعام: ٨٢] . شق ذلك على الناس فقالوا:
١ / ٣٦
يا
رسول الله؛ وأينا لا يظلم نفسه؟ قال: «إنه ليس الذى تعنون، ألم تسمعوا ما قال
العبد الصالح: إن الشرك لظلم عظيم؟ إنما هو الشرك».
وما أخرجه مسلم وغيره عن
عقبة بن عامر قال: سمعتُ رسول الله ﷺ يقول وهو على المنبر: ﴿وَأَعِدُّواْ لَهُمْ
مَّا استطعتم مِّن قُوَّةٍ﴾ [الأنفال: ٦٠] .. ألا وإن القوة الرمى«.
وما
أخرجه الترمذى عن علىّ قال:»سألتُ رسول الله ﷺ عن يوم الحج الأكبر فقال: «يوم
النحر».
وما أخرجه الترمذى وابن جرير عن أُبَىّ بن كعب أنه سمع رسول الله ﷺ
يقول: ﴿وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التقوى﴾ [الفتح: ٢٦] .. قال: «لا إله إلا
الله».
وما أخرجه أحمد والشيخان وغيرهما عن عائشة قالت: قال رسول الله ﷺ:
«مَن نوقش الحساب عُذَّب» قلت: أليس يقول الله: ﴿فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا
يَسِيرًا﴾ [الانشقاق: ٨]؟ قال: «ليس ذلك بالحساب.. ولكن ذلك العرض».
وما
أخرجه أحمد ومسلم عن أنس قال: قال رسول الله ﷺ: «الكوثر نهر أعطانيه ربى فى
الجنة».
وغير هذا كثير مما صح عن رسول الله ﷺ.
* *
*الوضع على
رسول الله ﷺ فى التفسير:
غير أن القُصَّاص والوُضَّاع زادوا فى هذا النوع من
التفسير كثيرًا، ونسبوا إلى رسول الله ﷺ ما لم يقله، وليس أدل على هذا مما أخرجه
الحاكم عن أنس أنه قال: سُئِل رسول الله ﷺ عن قوله تعالى: ﴿والقناطير المقنطرة﴾
[آل عمران: ١٤] فقال: «القنطار ألف أوقية»، وما أخرجه أحمد وابن ماجه عن أبى
هريرة: قال رسول الله ﷺ: «القنطار اثنا عشر ألف أوقية».
فمثل هذا التناقض فى
مقدار وزن القنطار، لا يمكن أن يصدر عن رسول الله ﷺ، ولهذا رد العلماء كثيرًا مما
ورد من التفسير منسوبًا إلى رسول الله ﷺ، وقد نُقِل عن الإمام أحمد أنه قال:
«ثلاثة ليس لها أصل: التفسير، والملاحم، والمغازى» ومراده من قوله هذا - كما
نُقِل عن المحققين من أتباعه - أن الغالب أنه ليس لها أسانيد صحاح متصلة لا كما
استظهره الأستاذ أحمد أمين حيث يقول: "وظاهر هذه الجملة أن
١ /
٣٧
الأحاديث التى وردت فى التفسير لا أصل لها وليست بصحيحة،
والظاهر - كما قال بعضهم - أنه يريد الأحاديث المرفوعة إلى النبى ﷺ فى التفسير.
أما الأحاديث المنقولة عن الصحابة فلا وجه لإنكارها، وقد اعترف هو نفسه
ببعضها».
وحيث يقول: «إن بعض العلماء أنكر هذا الباب بتاتًا، أعنى أنه أنكر
صحة ورود ما يروونه من هذا الباب، فقد روى عن الإمام أحمد أنه قال:»ثلاثة ليس لها
أصل: التفسير، والملاحم، والمغازى«.
نعم.. ليس الأمر كما استظهره صاحب»ضحى
الإسلام«و»فجر الإسلام، لأنه مما لا شك فيه أن النبى ﷺ صحَّت عنه أحاديث فى
التفسير، والإمام أحمد نفسه معترف بها، فكيف يُعقل أن الإمام أحمد يريد من عبارته
السابقة نفى الصحة عن جميع الأحاديث المرفوعة إلى النبى ﷺ فى التفسير؟ - وظنى أن
الأستاذ أراد بالبعض المذكور، المحققين من أصحاب الإمام أحمد، غاية الأمر أنه حمل
كلامهم على غير ما أردوا فوقع فى هذا الخطأ، والعجب أنه نقل عن «الإتقان» فى هامش
فجر الإسلام (صفحة ٢٤٥) ما استظهرناه من كلام المحققين من أتباع الإمام أحمد.
واعترف
فى فجر الإسلام (صفحة ٢٤٥)، وضحى الإسلام (الجزء الثانى صفحة ١٣٨): بأنه قد صح عن
رسول الله ﷺ تفسيرات لبعض ما أُشكل من القرآن، وإن كان قد اضطرب فى كلامه فجعل ما
ورد من التفسير عن رسول الله ﷺ بالغًا حد الكثرة، حيث قال فى فجر الإسلام (صفحة
٢٤٥): «وهذا النوع كثير: وردت منه أبواب فى كتب الصحاح الستة، وزاد فيه القُصَّاص
والوُضَّاع كثيرًا»، ثم عاد فى ضحى الإسلام (جزء ٢ صفحة ١٣٨) فجعل ما ورد عن
الرسول من التفسير بالغًا حد القِلَّة حيث قال: «وما روى عن الرسول ﷺ فى ذلك
قليل، حتى روى عن عائشة أنها قالت: لم يكن النبى ﷺ يفسِّر شيئًا من القرآن إلا
آيات تُعَد، علَّمهنَّ إياه جبريل»، وفاته أن الحديث مطعون فيه، فذكره دليلًا عن
مُدَّعاه ولم يُعقِّب عليه، مع أنه أحال على الطبرى فى نقل الحديث، والطبرى وضَّح
عِلَّته، وتأوَّله على فرض الصحة كما سنوضح ذلك فيما بعد إن شاء الله تعالى.
*
*
*هل تناول النبى ﷺ القرآن كله بالبيان؟
قد يقول قائل: إن الله تعالى
يقول فى سورة النحل [آية: ٤٤]: ﴿وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذكر لِتُبَيِّنَ
لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾ .. فهل بَيَّنَ
رسول الله ﷺ لأصحابه القرآن كله، أفرادًا وتركيبًا، وما يتبع ذلك من بيان
الأحكام؟ أو أنه بيَّن لهم
١ / ٣٨
بعضه وسكت
عن بعضه الآخر؟، ثم على أى وجه كان هذا البيان من الرسول ﷺ لأصحابه؟. وللجواب عن
هذا نقول:
*المقدار الذى بيَّنه رسول الله ﷺ من القرآن لأصحابه:
اختلف
العلماء فى المقدار الذى بيَّنه النبى ﷺ من القرآن لأصحابه: فمنهم مَن ذهب إلى
القول بأن رسول الله ﷺ بيَّن لأصحابه كل معانى القرآن كما بيَّن لهم ألفاظه، وعلى
رأس هؤلاء ابن تيمية.
ومنهم مَن ذهب إلى القول بأن رسول الله ﷺ لم يُبيِّن
لأصحابه من معانى القرآن إلا القليل، وعلى رأس هؤلاء: الخُوَيِّى والسيوطى، وقد
استدل كل فريق على ما ذهب إليه بأدلة نوردها ليتضح لنا الحق ويظهر الصواب.
*
*
*أدلة مَن قال النبى ﷺ بيَّن كل معانى القرآن:
أولا: قوله تعالى:
﴿وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذكر لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ
وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾ ..
والبيان فى الآية يتناول بيان معانى
القرآن، كما يتناول بيان ألفاظه، وقد بيَّن الرسول ألفاظه كلها، فلا بد أن يكون
قد بيَّن كل معانيه أيضًا، وإلا كان مقصِّرًا فى البيان الذى كُلِّفَ به من
الله.
ثانيًا: ما روى عن أبى عبد الرحمن السلمى أنه قال: «حدَّثن الذين
كانوا يُقرئوننا القرآن، كعثمان بن عفان، وعبد الله بن مسعود، وغيرهما: أنهم
كانوا إذا تعلَّموا من النبى ﷺ عشر آيات لم يتجاوزوها حتى يتعلموا ما فيها من
العلم والعمل، قالوا: فتعلَّمنا القرآن والعلم والعمل جميعًا»، ولهذا كانوا يبقون
مدة طويلة فى حفظ السورة، وقد ذكر الإمام مالك فى الموطأ: أن ابن عمر أقام على
حفظ «البقرة» ثمان سنوات، والذى حمل الصحابة على هذا، ما جاء فى كتاب الله تعالى
من قوله: ﴿كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ ليدبروا آيَاتِهِ﴾ [ص: ٢٩] ..
وتدبر الكلام بدون فهم معانيَه لا يمكن، وقوله: ﴿إِنَّآ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا
عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ [يوسف: ٢] .. وعقل الكلام متضمن لفهمه، ومن
المعلوم أن كل كلام يُقصَد منه فهم معانيه دون مجرد ألفاظه، والقرآن أولى بذلك من
غيره.
١ / ٣٩
فهذه الآثار تدل على أن الصحابة
تعلَّموا من رسول الله ﷺ معانى القرآن كلها، كما تعلَّموا ألفاظه.
ثالثًا:
قالوا إن العادة تمنع أن يقرأ قوم كتابًا فى فن من العلم كالطب أو الحساب ولا
يستشرحوه، فكيف بكتاب الله الذى فيه عصمتهم، وبه نجاتهم وسعادتهم فى الدنيا
والآخرة؟
رابعًا: ما أخرجه الإمام أحمد وابن ماجه عن عمر رضى الله عنه أنه
قال: «من آخر ما نزل آية الربا، وإن رسول الله ﷺ قُبض قبل أن يُفسِّرها»، وهذا
يدل بالفحوى على أنه كان يُفسِّر لهم كل ما نزل، وأنه إنما لم يُفسِّر هذه الآية،
لسرعة موته بعد نزولها، وإلا لم يكن للتخصيص بها وجه.
*
*أدلة مَن قال
بأن النبى ﷺ لم يبيِّن لأصحابه إلا القليل من معانى القرآن:
استدل أصحاب هذا
الرأى بما يأتى:
أولًا: ما أخرجه البزَّار عن عائشة قالت: «ما كان رسول الله
ﷺ يُفسِّر شيئًا من القرآن إلا آيًا بعدد، علَّمه إياهنَ جبريل».
ثانيًا:
قالوا: إن بيان النبى ﷺ لكل معانى القرآن متعذر، ولا يمكن ذلك إلا فى آى قلائل،
والعلم بالمراد يُستنبط بأمارات ودلائل، ولم يأمر الله نبيه بالتنصيص على المراد
فى جميع آياته لأجل أن يتفكر عباده فى كتابه.
ثالثًا: قالوا: لو كان رسول
الله ﷺ بيَّن لأصحابه كل معانى القرآن لما كان لتخصيصه ابن عباس بالدعاء بقوله:
«اللَّهم فقهه فى الدين وعلِّمه التأويل» فائدة، لأنه يلزم من بيان رسول الله ﷺ
لأصحابه كل معانى القرآن استواؤهم فى معرفة تأويله، فكيف يخصص ابن عباس بهذا
الدعاء؟.
* *
*مغالاة الفريقين:
ومَن يتأمل فيما تقدَّم من أدلة
الفريقين يتضح له أنهما على طرفى نقيض. ورأيى أن كل فريق منهم مبالغ فى رأيه. وما
استدل إليه كل فريق من الأدلة يمكن مناقشته بما يجعله لا ينهض حُجَّة على
المدَّعى.
*مناقشة أدلة الفريق الأول:
فاستدلال ابن تيمية ومَن معه على
رأيهم بقوله تعالى: ﴿لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ
١ /
٤٠
إِلَيْهِمْ﴾ استدلال غير صحيح، لأن الرسول - بمقتضى كونه
مأمورًا بالبيان - كان يبُيِّن لهم ما أشكل عليهم فهمه من القرآن، لا كل معانيه،
ما أشكل منها وما لم يشكل.
وأما استدلالهم بما روى عن عثمان وابن مسعود
وغيرهما من أنهم كانوا إذا تعلَّموا من النبى ﷺ عشر آيات من القرآن لم يجاوزوها
حتى يتعلَّموا ما فيها، فهو استدلال لا ينتج المدعى، لأن غاية ما يفيده، أنهم
كانوا لا يجاوزون ما تعلَّموه من القرآن حتى يفهموا المراد منه، وهو أعم من أن
يفهموه من النبى ﷺ أو من غيره من إخوانهم الصحابة، أو من تلقاء أنفسهم، حسبما
يفتح الله به عليهم من النظر والاجتهاد.
وأما الدليل الثالث، فكل ما يدل
عليه: هو أن الصحابة كانوا يفهمون القرآن ويعرفون معانيه، شأن أى كتاب يقرؤه قوم،
ولكن لا يلزم منه أن يكونوا قد رجعوا إلى النبى فى كل لفظ منه.
وأما الدليل
الرابع، فلا يدل أيضًا، لأن وفاة النبى ﵊ قبل أن يُبيِّن لهم آية الربا لا تدل
على أنه كان يُبيِّن لهم كل معانى القرآن، فلعل هذه الآية كانت مما أشكل على
الصحابة، فكان لا بد من الرجوع فيها إلى النبى ﵇، شأن غيرها من مشكلات القرآن.
*
*مناقشة
أدلة الفريق الثانى:
وأما استدلال أصحاب الرأى الثانى بحديث عائشة، فهو
استدلال باطل، لأن الحديث منكر غريب، لأنه من رواية محمد بن جعفر الزبيرى، وهو
مطعون فيه، قال البخارى: «لا يُتابَع فى حديثه»، وقال الحافظ أبو الفتح الأزدى:
«منكر الحديث»، وقال فيه ابن جرير الطبرى: «إنه ممن لا يُعرف فى أهل الآثار»،
وعلى فرض صحة الحديث فهو محمول - كما قال أبو حيان - على مغيبات القرآن، وتفسيره
لمجمله، ونحوه مما لا سبيل إليه إلا بتوقيف من الله. وفى معناه ما قاله ابن جرير
وما قاله ابن عطية.
وأما الدليل الثانى، فلا يدل أيضًا على ندرة ما جاء عن
النبى ﵊ فى التفسير، إذ أن دعوة إمكان التفسير بالنسبة لآيات قلائل، وتعذره
بالنسبة للكل غير مُسلَّمة، وأما ما قيل من أن النبى ﷺ لم يؤمر بالتنصيص على
المراد فى جميع الآيات لأجل أن يتفكر الناس فى آيات القرآن فليس بشىء، إذ أن
النبى ﵊ مأمور بالبيان، وقد يشكل الكثير على أصحابه فيلزمه البيان، ولو فُرِض -
أن القرآن أشكل كله على الصحابة ما كان للنبى ﵊ أن يمتنع
١ /
٤١
عن بيان كل آية منه، بمقتضى أمر الله له فى الآية:
﴿وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذكر لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ﴾
.
وأما الدليل الثالث، فول سلَّمنا أنه يدل على أن النبى ﷺ لم يُفسِّر كل
معانى القرآن. فلا نُسلِّم أنه يدل على أنه فسَّر النادر منه كما هو المدّعى.
*
*
*اختيارنا فى المسألة:
والرأى الذى تميل إليه النفس - بعد أن اتضح
لنا مغالاة كل فريق فى دعواه وعدم صلاحية الأدلة لإثبات المُدَّعى - هو أن نتوسط
بين الرأيين فنقول: إن الرسول ﷺ بيَّن الكثير من معانى القرآن لأصحابه، كما تشهد
بذلك كتب الصحاح، ولم يُبيِّن كل معانى القرآن، لأن من القرآن ما استأثر الله
تعالى بعلمه، ومنه ما يعلمه العلماء، ومنه ما تعلمه العرب من لغاتها، ومنه ما لا
يعُذر أحد فى جهالته كما صرّح بذلك ابن عباس فيما رواه عنه ابن جرير، قال:
«التفسير على أربعة أوجه: وجه تعرفه العرب من كلامها، وتفسير لا يُعذر أحد
بجهالته، وتفسير تعرفه العلماء، وتفسير لا يعلمه إلا الله».
وبدهى أن رسول
الله ﷺ لم يفسِّر لهم ما يرجع فهمه إلى معرفة كلام العرب، لأن القرآن نزل بلغتهم،
ولم يفسِّر لهم ما تتبادر الأفهام إلى معرفته وهو الذى لا يُعرفه أحد بجهله، لأنه
لا يخفى على أحد، ولم يفسِّر لهم ما استأثر الله بعلمه كقيام الساعة، وحقيقة
الروح، وغير ذلك من كل ما يجرى مجرى الغيوب التى لم يُطلع الله عليها نبيه، وإنما
فسَّر لهم رسول الله ﷺ بعض المغيبات التى أخفاها الله عنهم وأطلعه عليها وأمره
ببيانها لهم، وفسَّر لهم أيضًا كثيرًا مما يندرج تحت القسم الثالث، وهو ما يعلمه
العلماء يرجع إلى اجتهادهم، كبيان المجمل، وتخصيص العام، وتوضيح المشكل، وما إلى
ذلك من كل ما خفى معناه والتبس المراد به.
هذا.. وإنَّ مما يؤيد أن النبى ﵊
لم يُفسِّر كل معانى القرآن، أن الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين، وقع بينهم
الاختلاف فى تأويل بعض الآيات، ولو كان عندهم فيه نص عن رسول الله ﷺ ما وقع هذا
الاختلاف، أو لارتفع بعد الوقوف على النص.
بقى بعد هذا أن نجيب عن الشق
الثانى من السؤال، وهو: على أى وجه كان بيان رسول الله ﷺ للقرآن؟ فنقول:
إنَّ
الناظر فى القرآن الكريم والسُّنَّة النبوية الشريفة يجد فيهما ما يدل على أن
رسول الله ﷺ وظيفته البيان لكتاب الله، أو بعبارة أخرى، ما يدل على أن مركز
السُّنَّة النبوية من القرآن، مركز المبيِّن من المبيَّن.
١ /
٤٢
فمن القرآن، قوله تعالى: ﴿وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذكر
لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ﴾ .
ومن السُّنَّة، ما رواه
أبو داود عن المقدام بن معد يكرب، عن رسول الله ﷺ أنه قال: «ألا وإنى أوتيتُ
الكتاب ومثله معه، ألا يوشك رجل شبعان على أريكته يقول: عليكم بهذا القرآن، فما
وجدتم فيه من حلال فأحِلُّوه، وما وجدتم فيه من حرام فَحرِّموه، إلا لا يحل لكم
الحمار الأهلى، ولا كل ذى ناب من السباع، ولا لقطة معاهد، إلا أن يستغنى عنها
صاحبها، ومَن نزل بقوم فعليهم أن يقروه، فإن لم يقروه فله أن يعقبهم بمثل
قِراه».
فقوله: «أوتيتُ الكتاب ومثله معه» معناه أنه أوتى الكتاب وحيًا
يُتلَى، وأُوتى من البيان مثله، أى أُذِنَ له أن يبُيِّن ما فى الكتاب. فيعم
ويخص، ويزيد عليه ويُشرِّع ما فى الكتاب، فيكون فى وجوب العمل به ولزوم قبوله
كالظاهر المتلو من القرآن. ويحتمل وجهًا آخر: وهو أنه أُوتى من الوحى الباطن عن
المتلو، مثل ما أعطى من الظاهر المتلو، كما قال تعالى فى سورة النجم آيتى [٣، ٤]:
﴿وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهوى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يوحى﴾ ..
وأما قوله:
«يوشك رجل شبعان..» إلخ، فالمقصود منه التحذير من مخالفة السُّنَّة التى سنَّها
الرسول وليس لها ذكر فى القرآن، كما هو مذهب الخوارج والروافض الذين تعلَّقوا
بظاهر القرآن وتركوا السنن التى ضمنت بيان الكتاب فتحيَّروا وضلُّوا، وروى
الأوزاعى عن حسان بن عطية قال: «كان الوحى ينزل على رسول الله ﷺ، ويحضره جبريل
بالسُّنَّة التى تفسِّر ذلك»، وروى الاوزاعى عن مكحول قال: «القرآن أحوج إلى
السُّنَّة من السُّنَّة إلى القرآن».
* *
*أوجه بيان السُّنَّة
للكتاب:
وإذ قد اتضح لنا من الآية والحديث والآثار مقدار ارتباط السُّنَّة
بالكتاب، ارتباط المبيِّن فلنبُيِّن بعد ذلك أوجه هذا البيان فنقول:
الوجه
الأول: بيان المجمل فى القرآن، وتوضيح المشكل، وتخصيص العام، وتقييد المطلق، فمن
الأول: بيانه ﵊ لمواقيت الصلوات الخمس، وعدد ركعاتها، وكيفيتها، وبيانه لمقادير
الزكاة، وأوقاتها، وأنواعها، وبيانه لمناسك الحج. ولذا قال: «خذوا عنى مناسككم»،
وقال: «صلُّوا كما رأيتمونى أُصلِّى».
وقد روى ابن المبارك عن عمران بن حصين
أنه قال لرجل: "إنك أحمق، أتجد
١ / ٤٣
الظُهر
فى كتاب الله أربعًا لا يُجهَر فيها بالقراءة؟ ثم عدَّد عليه الصلاة، والزكاة،
ونحو ذلك، ثم قال: أتجد هذا فى كتاب الله تعالى مُفسَّرًا؟ إن كتاب الله تعالى
أبهم هذا، وإن السُّنَّة تُفسِّر هذا».
ومن الثانى: تفسيره ﷺ للخيط الأبيض
والخيط الأسود فى قوله تعالى: ﴿حتى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الخيط الأبيض مِنَ الخيط
الأسود مِنَ الفجر﴾ [البقرة: ١٨٧] بأنه بياض النهار وسواد الليل.
ومن
الثالث: تخصيصه ﷺ الظلم فى قوله تعالى: ﴿الذين آمَنُواْ وَلَمْ يلبسوا
إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ﴾ [الأنعام: ٨٢] بالشرك، فإن بعض الصحابة فهم أَن الظلم
مراد منه العموم، حتى قال: وأينا لم يظلم نفسه؟ فقال النبى ﷺ: «ليس بذلك، إنما هو
الشرك».
ومن الرابع: تقييده اليد فى قوله تعالى: ﴿فاقطعوا أَيْدِيَهُمَا﴾
[المائدة: ٣٨] باليمين.
الوجه الثانى: بيان معنى لفظ أو متعلقه، كبيان:
﴿المغضوب عَلَيْهِم﴾ باليهود، و﴿الضآلين﴾ بالنصارى. وكبيان قوله تعالى: ﴿وَلَهُمْ
فِيهَآ أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ﴾ [البقرة: ٢٥] بأنها مُطهَّرة من الحيض والبزاق
والنخامة، وكبيان قوله تعالى: ﴿وادخلوا الباب سُجَّدًا وَقُولُواْ حِطَّةٌ
نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ المحسنين * فَبَدَّلَ الذين ظَلَمُواْ
قَوْلًا غَيْرَ الذي قِيلَ لَهُمْ﴾ [البقرة: ٥٨-٥٩] بأنهم دخلوا يزحفون على
أستاههم وقالوا: حبة فى شعيرة.
الوجه الثالث: بيان أحكام زائدة على ما جاء
فى القرآن الكريم، كتحريم نكاح المرأة على عمتها وخالتها، وصدقة الفطر، ورجم
الزانى المحصن، وميراث الجدة، والحكم بشاهد ويمين، وغير هذا كثير يوجد فى كتب
الفروع.
الوجه الرابع: بيان النسخ: كأن يُبيِّن رسول الله ﷺ أن آية كذا
نُسِخَت بكذا، أو أن حكم كذا نُسِخ بكذا، فقوله ﵊: «لا وصية لوارث» بيان منه أن
آية الوصية للوالدين والأقربين منسوخ حكمها وإن بقيت تلاوتها. وحديث: «البكر
بالبكر جلد مائة وتغريب عام» بيان منه أيضًا لنسخ حكم الآية [١٥] من سورة النساء:
﴿واللاتي يَأْتِينَ الفاحشة مِن نِّسَآئِكُمْ فاستشهدوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعةً
مِّنْكُمْ﴾ .. وغير هذا كثير.
الوجه الخامس: بيان التأكيد، وذلك بأن تأتى
السُّنَّة موافقة لما جاء به
١ / ٤٤
الكتاب،
ويكون القصد من ذلك تأكيد الحكم وتقويته. وذلك كقوله ﵊: «لا يحل مال امرئ مسلم
إلا بطيب نفس منه» فإنه يوافق قوله تعالى: ﴿لاَ تأكلوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ
بالباطل﴾ [النساء: ٢٩] .. وقوله ﵊: «اتقوا الله فى النساء فإنهن عوان فى أيديكم،
أخذتموهم بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله،» فإنه موافق لقوله تعالى:
﴿وَعَاشِرُوهُنَّ بالمعروف﴾ [النساء: ١٩] .
* * *
*المصدر الثالث من
مصادر التفسير فى عصر الصحابة - الاجتهاد وقوة الاستنباط:
كان الصحابة رضوان
الله عليهم أجمعين، إذا لم يجدوا التفسير فى كتاب الله، ولم يتيسر لهم أخذه عن
رسول الله ﷺ رجعوا فى ذلك إلى اجتهادهم وإعمال رأيهم، وهذا بالنسبة لما يحتاج إلى
نظر واجتهاد، أما ما يمكن فهمه بمجرد معرفة اللغة العربية فكانوا لا يحتاجون فى
فهمه إلى إعمال النظر، ضرورة أنهم من خُلَّصِ العرب، يعرفون كلام العرب ومناحيهم
فى القول، ويعرفون الألفاظ العربية ومعانيها بالوقوف على ما ورد من ذلك فى الشعر
الجاهلى الذى هو ديوان العرب، كما يقول عمر رضى الله عنه.
*أدوات الاجتهاد
فى التفسير عند الصحابة:
وكثير من الصحابة كان يُفسِّر بعض آى القرآن بهذا
الطريق، أعنى طريق الرأى والاجتهاد، مستعينًا على ذلك بما يأتى:
أولًا:
معرفة أوضاع اللغة وأسرارها.
ثانيًا: معرفة عادات العرب.
ثالثًا: معرفة
أحوال اليهود والنصارى فى جزيرة العرب وقت نزول القرآن.
رابعًا: قوة الفهم
وسعة الإدراك.
فمعرفة أوضاع اللغة العربية وأسرارها، تعين على فهم الآيات
التى لا يتوقف فهمها على غير لغة العرب. ومعرفة عادات العرب تعين على فهم كثير من
الآيات التى لها صلة بعاداتهم، فمثلًا قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا النسياء زِيَادَةٌ
فِي الكفر﴾ [التوبة: ٣٧] .. وقوله: ﴿وَلَيْسَ البر بِأَن تَأْتُواْ البيوت مِن
ظُهُورِهَا﴾ [البقرة: ١٨٩] . لا يمكن فهم المراد منه، إلا لمن عرف عادات العرب فى
الجاهلية وقت نزول القرآن.
ومعرفة أحوال اليهود والنصارى فى جزيرة العرب وقت
نزول القرآن، تعين على فهم الآيات التى فيها الإشارة إلى أعمالهم والرد عليهم.
ومعرفة
أسباب النزول، وما أحاط بالقرآن من ظروف وملابسات، تعين على فهم كثير من الآيات
القرآنية، ولهذا قال الواحدى: «لا يمكن معرفة تفسير الآية دون الوقوف على قصتها
وبيان نزولها». وقال ابن دقيق العيد: «بيان سبب النزول طريق قوى فى فهم معانى
القرآن» وقال ابن تيمية: «معرفة سبب النزول يعين على فهم الآية. فإن العلم بالسبب
يورث العلم بالمسبب».
وأما قوة الفهم وسعة الإدراك، فهذا فضل الله يؤتيه مَن
يشاء من عباده. وكثير من آيات القرآن يدق معناه، ويخفى المراد منه، ولا يظهر إلا
لمن أوتى حظًا من الفهم ونور البصيرة، ولقد كان ابن عباس صاحب النصيب الأكبر
والحظ الأوفر من ذلك، وهذا ببركة دعاء رسول الله ﷺ له بذلك حيث قال: «اللَّهم
فَقِّهه فى الدين وعَلِّمه التأويل».
وقد روى البخارى فى صحيحه بسنده إلى
أبى جحيفة رضى الله عنه أنه قال: «قلت لعلىّ رضى الله عنه: هل عندكم شئ من الوحى
إلا ما فى كتاب الله؟ قال: لا، والذى فلق الحبة وبرأ النسمة ما أعلمه إلا فهمًا
يُعطيه الله رجلًا فى القرآن، وما فى هذه الصحيفة، قلت: وما فى هذه الصحيفة؟ قال:
العقل، وفكاك الأسير، وألاَّ يُقتل مسلم بكافر».
هذه هى أدوات الفهم
والاستنباط التى استعان بها الصحابة على فهم
١ / ٤٥
كثير
من آيات القرآن، وهذا هو مبلغ أثرها فى الكشف عن غوامضه وأسراره.
* *
*تفاوت
الصحابة فى فهم معانى القرآن:
غير أن الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين،
كانوا متفاوتين فى معرفتهم بهذه الأدوات، فلم يكونوا جميعًا فى مرتبة واحدة،
السبب الذى من أجله اختلفوا فى فهم بعض معانى القرآن، وإن كان اختلافًا يسيرًا
بالنسبة لاختلاف التابعين ومَن يليهم. ومن أمثلة هذا الاختلاف: ما روى من أن عمر
استعمل قدامة بن مظعون على البحرين فقدم الجارود على عمر فقال: إن قدامة شرب
فسكر، فقال عمر: مَن يشهد على ما تقول؟ قال الجارود: أبو هريرة يشهد على ما أقول،
فقال عمر: يا قدامة إنى جَالِدُك، قال: واللهِ لو شربت كما يقول ما كان لك أن
تجلدنى، قال عمر: ولِمَ؟ قال: لأن الله يقول: ﴿لَيْسَ عَلَى الذين آمَنُواْ
وَعَمِلُواْ الصالحات جُنَاحٌ فِيمَا طعموا إِذَا مَا اتقوا وَآمَنُواْ
وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَواْ وَآمَنُواْ ثُمَّ اتَّقَواْ
وَّأَحْسَنُواْ﴾ [المائدة: ٩٣] فأنا من الذين آمنوا وعملوا الصالحات، ثم اتقوا
وآمنوا، ثم اتقو وأحسنوا، شهدتُ مع رسول الله ﷺ بدرًا، وأُحُدًا، والخندق،
والمشاهد. فقال عمر: ألا تردون عليه قوله؟ فقال
١ / ٤٦
ابن
عباس: إن هذه الآيات أُنزلت عذرًا للماضين وحُجَّة على الباقين، لأن الله يقول:
﴿ياأيها الذين آمَنُواْ إِنَّمَا الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رِجْسٌ مِّنْ
عَمَلِ الشيطان﴾ [المائدة: ٩٠] .. قال عمر: صدقت..
وما روى من أن الصحابة
فرحوا حينما نزل قوله تعالى: ﴿اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ﴾ [المائدة: ٣]
لظنهم أنها مجرد إخبار وبُشرى بكمال الدين، ولكن عمر بكى وقال: ما بعد الكمال إلا
النقص، مستشعرًا نعى النبى ﷺ، وقد كان مصيبًا فى ذلك، إذ لم يعش النبى ﷺ بعدها
إلا أحدًا وثمانين يومًا كما روى».
وما رواه البخارى من طريق سعيد بن جبير
عن ابن عباس قال: «كان عمر يُدخلنى مع أشياخ بدر، فكأن بعضهم وَجَدَ فى نفسه
وقال: لِمَ يُدخل هذا معنا وإنَّ لنا أبناء مثله؟ فقال عمر: إنه من أعلمكم،
فدعاهم ذات يوم فأدخلنى معهم فما رأيت أنه دعانى فيهم إلا ليريهم، فقال: ما
تقولون فى قوله تعالى: ﴿إِذَا جَآءَ نَصْرُ الله والفتح﴾ [النصر: ١]؟ فقال بعضهم:
أُمرنا أن نحمد الله ونستغفره إذا نصرنا وفتح علينا، وسكت بعضهم ولم يقل شيئًا،
فقال لى: أكذلك تقول يابن عباس؟ فقلت: لا، فقال: ما تقول؟ قلت: هو أجل رسول الله
ﷺ أعلمه الله له، قال: ﴿إِذَا جَآءَ نَصْرُ الله والفتح﴾ فذلك علامة أجلك،
﴿فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ واستغفره إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا﴾ [النصر: ٣] ..
فقال عمر: لا أعلم منها إلا مَا تقول».
* * *
*المصدر الرابع من مصادر
التفسير فى هذا العصر - أهل الكتاب من اليهود والنصارى:
المصدر الرابع
للتفسير فى عهد الصحابة هم أهل الكتاب من اليهود والنصارى.
وذلك أن القرآن
الكريم يتفق مع التوراة فى بعض المسائل، وبالأخص فى قصص الأنبياء، وما يتعلق
بالأمم الغابرة، وكذلك يشتمل القرآن على مواضع وردت فى الإنجيل كقصة ميلاد عيسى
ابن مريم، ومعجزاته ﵇.
غير أن القرآن الكريم اتخذ منهجًا يخالف منهج التوراة
والإنجيل، فلم يتعرض لتفاصيل جزئيات المسائل، ولم يستوف القصة من جميع نواحيها،
بل اقتصر من ذلك على موضع العبرة فقط.
ولما كانت العقول دائمًا تميل إلى
الاستيفاء والاستقصاء، جعل بعض الصحابة - رضى الله عنهم أجمعين - يرجعون فى
استيفاء هذه القصص التى لم يتعرض لها
١ / ٤٧
القرآن
من جميع نواحيها إلى مَن دخل فى دينهم مِن أهل الكتاب، كعبد الله بن سلام، وكعب
الأحبار، وغيرهم من علماء اليهود والنصارى.
وهذا بالضرورة كان بالنسبة إلى
ما ليس عندهم فيه شئ عن رسول الله ﷺ، لأنه لو ثبت شئ فى ذلك عن رسول الله ما
كانوا يعدلون عنه إلى غيره مهما كان المأخوذ عنه.
* *
* أهمية هذا
المصدر بالنسبة للمصادر السابقة:
غير أن رجوع بعض الصحابة إلى أهل الكتاب،
لم يكن له من الأهمية فى التفسير ما للمصادر الثلاثة السابقة، وإنما كان مصدرًا
ضيِّقًا محدودًا، وذلك أن التوراة والإنجيل وقع فيهما كثير من التحريف والتبديل،
وكان طبيعيًا أن يحافظ الصحابة على عقيدتهم، ويصونوا القرآن عن أن يخضع فى فهم
معانيه لشئ مما جاء ذكره فى هذه الكتب التى لعبت فيها أيدى المحرِّفين، فكانوا لا
يأخذون عن أهل الكتاب إلا ما يتفق وعقيدتهم ولا يتعارض مع القرآن. أما ما اتضح
لهم كذبه مما يعارض القرآن ويتنافى مع العقيدة فكانوا يرفضونه ولا يصدِّقونه،
ووراء هذا وذاك ما هو مسكوت عنه، لا هو من قبيل الأول، ولا هو من قبيل الثانى،
وهذا النوع كانوا يسمعونه من أهل الكتاب ويتوقفون فيه، فلا يحكمون عليه بصدق ولا
بكذب، امتثالًا لقول الرسول ﷺ: «لا تُصدِّقوا أهل الكتاب ولا تُكذِّبوهم، وقولوا:
آمنا بالله وما أُنزل إلينا ...» الآية.
وسنوفق بمشيئة الله تعالى بين هذا
الحديث وحديث: «بلِّغوا عنى ولو آية، وحدِّثوا عن بنى إسرائيل ولا حَرَج ...»
ونذكر مدى تأثير اليهودية والنصرانية على التفسير فى أدواره المختلفة من لدن عصر
الصحابة إلى عصر التدوين، وذلك عند الكلام عن التفسير المأثور إن شاء الله
تعالى.
* * *
١ / ٤٨
المفسرون من الصحابة
اشتهر بالتفسير من الصحابة عدد قليل، قالوا فى القرآن بما سمعوه من
رسول الله ﷺ مباشرة أو بالواسطة، وبما شاهدوه من أسباب النزول، وبما فتح الله به
عليهم من طريق الرأى والاجتهاد.
* أشهر المفسِّرين من الصحابة:
وقد
عَدَّ السيوطى ﵀ فى «الإتقان» مَن اشتهر بالتفسير من الصحابة وسمَّاهم، وهم:
الخلفاء الأربعة، وابن مسعود، وابن عباس، وأُبَىّ بن كعب، وزيد بن ثابت، وأبو
موسى الأشعرى، وعبد الله بن الزبير، رضى الله عنهم أجمعين.
وهناك مَن تكلم
فى التفسير من الصحابة غير هؤلاء: كأنس بن مالك، وأبى هريرة، وعبد الله بن عمر،
وجابر بن عبد الله، وعبد الله بن عمرو ابن العاص، وعائشة، وغير أن ما نُقِل عنهم
فى التفسير قليل جدًا، ولم يكن لهم من الشهرة بالقول فى القرآن ما كان للعشرة
المذكورين أولًا، كما أن العشرة الذين اشتهروا بالتفسير، تفاوتوا قِلَّة وكثرة،
فأبو بكر وعمر وعثمان لم يَرد عنهم فى التفسير إلا النزر اليسير، ويرجع السبب فى
ذلك إلى تقدم وفاتهم، واشتغالهم بمهام الخلافة والفتوحات، أضف إلى ذلك وجودهم فى
وسط أغلب أهله علماء بكتاب الله، واقفون على أسراره، عارفون بمعانيه وأحكامه،
مكتملة فيهم خصائص العروبة، مما جعل الحاجة إلى الرجوع إليهم فى التفسير غير
كبيرة.
أما علىّ بن أبي طالب رضى الله عنه، فهو أكثر الخلفاء الراشدين رواية
عنه فى التفسير، والسبب فى ذلك راجع إلى تفرغه عن مهام الخلافة مدة طويلة، دامت
إلى نهاية خلافة عثمان رضى الله عنه، وتأخر وفاته إلى زمن كثرت فيه حاجة الناس
إلى مَن يُفسِّر لهم ما خفى عنهم من معانى القرآن، وذلك ناشئ من اتساع رقعة
الإسلام، ودخول كثير من الأعاجم فى دين الله، مما كاد يذهب بخصائص اللغة
العربية.
وكذلك كثرت الرواية فى التفسير عن عبد الله بن عباس، وعبد الله بن
مسعود، وأُبَىّ بن كعب، لحاجة الناس إليهم، ولصفات عامة مكَّنت لهم ولعلىّ بن أبى
طالب أيضًا فى التفسير، هذه الصفات هى: قوتهم فى اللغة العربية، وإحاطتهم
بمناحيها وأساليبها، وعدم تحرجهم من الاجتهاد وتقرير ما وصلوا إليه باجتهادهم،
ومخالطتهم للنبى ﷺ مخالطة مكَّنتهم من معرفة الحوادث التى نزلت فيها آيات القرآن،
نستثنى
١ / ٤٩
من ذلك ابن عباس، فإنه لم
يلازم النبى ﵊ فى شبابه. لوفاة النبى ﵊ وهو فى سن الثالثة عشرة أو قريب منها،
لكنه استعاض عن ذلك بملازمة كبار الصحابة، يأخذ عنهم ويروى لهم.
أما باقى
العشرة وهم: زيد بن ثابت، وأبو موسى الأشعرى، وعبد الله ابن الزبير، فهم وإن
اشتهروا بالتفسير إلا أنهم قلَّت عنهم الرواية ولم يصلوا فى التفسير إلى ما وصل
إليه هؤلاء الأربعة المكثرون.
لهذا نرى الإمساك عن الكلام فى شأن أبى بكر،
وعمر، وعثمان، وزيد ابن ثابت، وأبى موسى الأشعرى، وعبد الله بن الزبير، ونتكلم عن
علىّ، وابن عباس، وابن مسعود، وأُبَىّ بن كعب، نظرًا لكثرة الرواية عنهم فى
التفسير، كثرة غذَّت مدارس الأمصار على اختلافهم وكثرتها.
ولو أنَّا رتبنا
هؤلاء الأربعة حسب كثرة ما روى عنهم لكان أولهم عبد الله بن عباس، ثم عبد الله بن
مسعود، ثم علىّ بن أبي طالب، ثم أُبَىّ بن كعب وسنتكلم عن كل واحد من هؤلاء
الأربعة، بما يتناسب مع مشربه فى التفسير ومنحاه الذى نحاه فيه.
١- عبد الله
بن عباس
*ترجمته:
هو عبد الله بن عباس بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد
مناف القرشى الهاشمى، ابن عم رسول الله ﷺ، وأمه لُبابه الكبرى بنت الحارث بن
حَزَن الهلالية. ولُِدَ والنبى ﵊ وأهل بيته بالشِعْب بمكة. فأُتِىَ به النبى ﵊
فحنكه بريقه، وذلك قبل الهجرة بثلاث سنين، ولازم النبى ﵊ فى صغره، لقرابته منه،
ولأن خالته ميمونة كانت من أزواج رسول الله ﷺ، وتُوفى رسول الله ﷺ وله من العمر
ثلاث عشرة سنة، وقيل: خمس عشرة، فلازم كبار الصحابة وأخذ عنهم ما فاته من حديث
رسول الله ﷺ، وكانت وفاته سنة ثمان وستين على الأرجح، وله من العمر سبعون سنة.
مات بالطائف ودُفن بها، وتولى وضعه فى قبره محمد ابن الحنفية، وقال بعد أن سوَّى
عليه التراب: مات واللهِ اليوم حَبْرُ هذه الأُمَّة.
* *
*مبلغه من
العلم:
كان ابن عباس يُلقَّب بالحَبْر والبحر لكثرة علمه، وكان على درجة
عظيمة من الاجتهاد والمعرفة بمعنى كتاب الله، ولذا انتهت إليه الرياسة فى الفتوى
والتفسير، وكان عمر رضى الله عنه يُجلسه فى مجلسه مع كبار الصحابة ويُدنيه منه،
وكان يقول
١ / ٥٠
له: إنك لأصبح فتياننا
وجهًا، وأحسنهم خُلُقًا، وأفقههم فى كتاب الله. وقال فى شأنه: ذاكم فتى الكهول،
إنَّ له لسانًا سئولًا، وقلبًا عقولًا. وكان لفرط أدبه إذا سأله عمر مع الصحابة
عن شئ يقول لا أتكلم حتى يتكلموا. وكان عمر رضى الله عنه يعتد برأى ابن عباس مع
حداثة سنه، يدلنا على ذلك ما رواه ابن الأثير فى كتابه «أُسد الغابة» عن عبيد
الله بن عتبة قال: «إن عمر كان إذا جاءته الأقضية المعضلة قال لابن عباس: إنها قد
طرأت علينا أقضية وعضل، فأنت لها ولأمثالها، فكان يأخذ بقوله، وما كان يدعو لذلك
أحدًا سواه» قال عبيد الله: وعمر هو عمر فى حذقه واجتهاده لله وللمسلمين، وما
رواه البخارى من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: «كان عمر يُدخلنى مع أشياخ
بدر، فكأن بعضهم وَجَدَ فى نفسه وقال: لِمَ يُدخل هذا معنا وإنَّ لنا أبناء مثله؟
فقال عمر: إنه من أعلمكم، فدعاهم ذات يوم فأدخلنى معهم، فما رأيت أنه دعانى يومئذ
إلا ليريهم، فقال: ما تقولون فى قوله: ﴿إِذَا جَآءَ نَصْرُ الله والفتح﴾؟ فقال
بعضهم: أُمرنا أن نحمد الله ونستغفره إذا نصرنا وفتح علينا، وسكت بعضهم ولم يقل
شيئًا، فقال لى: أكذلك تقول يابن عباس؟ فقلت: لا، فقال: ما تقول؟ قلت: هو أَجَلُ
رسول الله ﷺ أعلمه الله له، قال: ﴿إِذَا جَآءَ نَصْرُ الله والفتح﴾ فذلك علامة
أجلك، ﴿فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ واستغفره إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا﴾ .. فقال
عمر: لا أعلم منها إلا ما تقول».
وهذا يدل على قوة فهمه وجودة فكره. وقال
فيه ابن مسعود رضى الله عنه: «نِعْمَ ترجمان القرآن ابن عباس». وقال فيه عطاء:
«ما رأيت أكرم من مجلس ابن عباس، أصحاب الفقه عنده، وأصحاب القرآن عنده، وأصحاب
الشِعر عنده، يصدرهم كلهم من واد واسع». وقال عبيد الله بن عبد الله بن عتبة:
«كان ابن عباس قد فات الناس بخصال: بعلم ما سبقه، وفقه فيما احتيج إليه من رأيه،
وحلم، ونسب، وتأويل، وما رأيتُ أحدًا كان أعلم بما سبقه من حديث رسول الله ﷺ منه،
ولا بقضاء أبى بكر وعمر وعثمان منه، ولا أفقه فى رأى منه، ولا أثقب رأيًا فيما
احتيج إليه منه، ولقد كان يجلس يومًا ولا يذكر فيه إلا الفقه، ويومًا التأويل،
ويومًا المغازى، ويومًا الشعر، ويومًا أيام العرب، ولا رأيت عالمًا قط جلس إليه
إلا خضع له، وما رأيت سائلًا قط سأله إلا وجد عنده علمًا». وقيل لطاووس: لزمتَ
هذا الغلام - يعنى ابن عباس - وتركتَ الأكابر من أصحاب رسول الله، قال: إنى رأيت
سبعين رجلًا من أصحاب رسول الله ﷺ إذا تدارءوا فى أمرٍ صاروا إلى قول ابن عباس«.
وروى الأعمش عن أبى وائل قال:»استخلف علىّ عبد الله بن عباس على الموسم فقرأ فى
خطبته سورة البقرة - وفى رواية: سورة النور - ففسرها تفسيرًا لو سمعته الروم
والترك والديلم لأسلموا«وكان علىّ بن أبى طالب يُثنى على تفسير ابن عباس
ويقول:»كأنما ينظر إلى الغيب من سِتر رقيق".
وبالجملة.. فقد كانت حياة ابن
عباس حياة علمية، يتعلم ويعُلِّم، ولم يشتغل
١ / ٥١
بالإمارة
إلا قليلًا لَّما استعمله علىّ على البصرة، والحق: أن ابن عباس قد ظهر فيه النبوغ
العربى بأكمل معانيه. علمًا، وفصاحة، وسعة اطلاع فى نواح علمية مختلفة، ولا سيما
فهمه لكتاب الله تعالى. وخير ما يُقال فيه ما قاله ابن عمر رضى الله عنهما: «ابن
عباس أعلم أُمَّة محمد بما نزل على محمد».
* *
*أسباب نبوغه:
ونستطيع
أن نُرجِع هذه الشهرة العلمية، وهذا النبوغ الواسع الفيَّاض، إلى أسباب نجملها
فيما يلي:
أولًا: دعاء النبى ﷺ له بقوله: «اللَّهم علِّمه الكتاب والحكمة»،
وفى رواية أخرى: «اللَّهم فقِّهه فى الدين، وعلِّمه التأويل»، والذى يرجع إلى كتب
التفسير بالمأثور، يرى أثر هذه الدعوة النبوية، يتجلى واضحًا فيما صح عن ابن عباس
رضى الله عنه.
ثانيًا: نشأته فى بيت النبوة، وملازمته لرسول الله ﷺ من عهد
التمييز، فكان يسمع منه الشئ الكثير، ويشهد كثيرًا من الحوادث والظروف التى نزلت
فيها آيات القرآن.
ثالثًا: ملازمته لأكابر الصحابة بعد وفاة النبى ﷺ، يأخذ
عنهم ويروى لهم، ويعرف منهم مواطن نزول القرآن، وتواريخ التشريع، وأسباب النزول،
وبهذا استعاض عما فاته من العلم بموت رسول الله ﷺ، وتحدَّث بهذا ابن عباس عن نفسه
فقال: «وجدتُ عامة حديث رسول الله ﷺ عند الأنصار، فإن كنتُ لآتى الرجلَ فأجده
نائمًا، لو شئتُ أن يُوقَظ لى لأُوقظ، فأجلس على بابه تسفى على وجهى الريح حتى
يستيقظ متى ما استيقظ، وأسأله عما أريد، ثم أنصرف».
رابعًا: حفظه للغة
العربية، ومعرفته لغريبها، وآدابها، وخصائصها، وأساليبها، وكثيرًا ما كان يستشهد
للمعنى الذى يفهمه من لفظ القرآن بالبيت والأكثر من الشعر العربى.
خامسًا:
بلوغه مرتبة الاجتهاد، وعدم تحرجه منه، وشجاعته فى بيان ما يعتقد أنه الحق، دون
أن يأبه لملامة لائم ونقد ناقد، ما دام يثق بأن الحق فى جانبه، وكثيرًا ما انتقد
عليه ابن عمر جرأته على تفسير القرآن، ولكن لم ترق إليه همة نقده، بل ما لبث أن
رجع إلى قوله، واعترف بمبلغ علمه، فقد روى أن رجلًا أتى ابن عمر يسأله عن معنى
قوله تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَرَ الذين كفروا أَنَّ السماوات والأرض كَانَتَا رَتْقًا
فَفَتَقْنَاهُمَا﴾ [الأنبياء: ٣٠] .. فقال: اذهب إلى ابن عباس ثم تعال أخبرنى،
فذهب
١ / ٥٢
فسأله فقال: كانت السموات رتقًا
لا تمطر، وكانت الأرض رتقًا لا تنبت، ففتق هذه بالمطر، وهذه بالنبات، فرجع الرجل
إلى ابن عمر فأخبره فقال: قد كنتُ أقول: ما يعجبنى جرأة ابن عباس على تفسير
القرآن، فالآن قد علمتُ أنه أوتِىَ علمًا.
هذه هى أهم الأسباب التى ترجع
إليها شهرة ابن عباس فى التفسير، يضاف إلى ذلك كونه من أهل بيت النبوة، منبع
الهداية، ومصدر النور، وما وهبه الله من قريحة وقَّادة، وعقل راجح، ورأى صائب،
وإيمان راسخ، ودين متين.
* *
*قيمة ابن عباس فى تفسير القرآن:
تتبين
قيمة ابن عباس فى التفسير، من قول تلميذه مجاهد: «إنه إذا فسَّرَ الشئ رأيتَ عليه
النور»، ومن قول علىّ رضى الله عنه يُثنى عليه فى تفسيره: «كأنما ينظر إلى الغيب
من سِتر رقيق»، ومن قول ابن عمر: «ابن عباس أعلم أُمَّة محمد بما نزل على محمد»،
ومن رجوع بعض الصحابة وكثير من التابعين إليه فى فهم ما أشكل عليهم من كتاب الله،
فكثيرًا ما توجَّه إليه معاصروه ليزيل شكوكهم، ويكشف لهم عما عَزَّ عليهم فهمه من
كتاب الله تعالى. ففى قصة موسى مع شعيب أشكل على بعض أهل العلم، أى الأجلين قضى
موسى؟ هل كان ثمان سنين؟ أو أنه أتم عشرًا؟ ولما لم يقف على رأى يمم شطر ابن
عباس، الذى هو بحق ترجمان القرآن، ليسأله عما أشكل عليه، وفى هذا يروى الطبرى فى
تفسيره، عن سعيد بن جبير قال: «قال يهودى بالكوفة - وأنا أتجهز للحج - إنى أراك
رجلًا تتبع العلم، فأخبرنى أى الأجلين قضى موسى؟ قلت: لا أعلم، وأنا الآن قادم
على حَبْر العرب - يعنى ابن عباس - فسائله عن ذلك، فلما قدمتُ مكة سألتُ ابن عباس
عن ذلك وأخبرته بقول اليهودى، فقال ابن عباس: قضى أكثرهما وأطيبهما، إنَّ النبى
إذا وعد لم يُخلف، وقال سعيد: فقدمتُ العراق فلقيتُ اليهودى فأخبرته فقال: صدق
وما أُنزِلَ على موسى، هذا واللهِ العالِم.
وهذا عمر رضى الله عنه يسأل
الصحابة عن معنى آية من كتاب الله، فلما لم يجد عندهم جوابًا مرضيًا رجع إلى ابن
عباس فسأله عنها، وكان يثق بتفسيره، وفى هذا يروى الطبرى:»أن عمر سأل الناس عن
هذه الآية - يعنى: ﴿أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ
وَأَعْنَابٍ﴾ [البقرة: ٢٦٦] ... الآية، فما وجد أحدًا يشفيه، حتى قال ابن عباس
وهو خلفه: يا أمير المؤمنين؛ إنى أجد فى نفسى منها شيئًا، فتلفت إليه فقال: تحوَل
ههنا، لِمَ تُحقِّر نفسك؟ قال: هذا مَثَلٌ ضربه الله ﷿ فقال: أيودَ أحدكم أن يعمل
عمره بعمل أهل الخير وأهل السعادة، حتى إذا كان أحوج ما يكون إلى أن يختمه
١
/ ٥٣
بخير حين فنى عمره واقترب أجله، ختم ذلك بعمل من عمل أهل
الشقاء، فأفسده كله، فحرقه أحوج ما كان إليه».
وسؤال عمر له مع الصحابة عن
تفسير قوله تعالى: ﴿إِذَا جَآءَ نَصْرُ الله والفتح﴾ وجوابه بالجواب المشهور عنه،
يدل على أن ابن عباس كان يستخرج خفى المعانى التى يشير إليها القرآن، ولا يدركها
إلا مَن نفحه الله بنفحة مِن روحه، وكثيرًا ما ظهر ابن عباس فى المسائل المعقدة
فى التفسير بمظهر الرجل المُلْهَم الذى ينظر إلى الغيب من ستر رقيق، كما وصفه
علىّ رضى الله عنه، الأمر الذى جعل الصحابة يُقدِّرون ابن عباس ويثقون بتفسيره،
ولقد وجد هذا التقدير صداه فى عصر التابعين، فكانت هناك مدرسة يتلقى تلاميذها
التفسير عن ابن عباس. استقرت هذه المدرسة بمكة، ثم غذَّت بعلمها الأمصار
المختلفة، وما زال تفسير ابن عباس يلقى من المسلمين إعجابًا وتقديرًا، إلى درجة
أنه إذا صح النقل عن ابن عباس لا يكادون يعدلون عن قوله إلى قول آخر. وقد صرَّح
الزركشي بأن قول ابن عباس مُقدَّمٌ على قول غيره من الصحابة عند تعارض ما جاء
عنهم فى التفسير.
*رجوع ابن عباس إلى أهل الكتاب:
كان ابن عباس كغيره
من الصحابة الذين اشتهروا بالتفسير، يرجعون فى فهم معانى القرآن إلى ما سمعوه من
رسول الله ﷺ، وإلى ما يفتح الله به عليهم من طريق النظر والاجتهاد، مع الاستعانة
فى ذلك بمعرفة أسباب النزول والظروف والملابسات التى نزل فيها القرآن. وكان رضى
الله عنه يرجع إلى أهل الكتاب ويأخذ عنهم، بحكم اتفاق القرآن مع التوراة والإنجيل
فى كثير من المواضع التى أُجمْلِت فى القرآن وفُصِّلت فى التوراة أو الإنجيل،
ولكن كما قلنا فيما سبق: إن الرجوع إلى أهل الكتاب كان فى دائرة محدودة ضيِّقة،
تتفق مع القرآن وتشهد له، أما ما عدا ذلك مما يتنافى مع القرآن، ولا يتفق مع
الشريعة الإسلامية، فكان ابن عباس لا يقبله ولا يأخذ به.
*اتهام الأستاذ
جولدزيهر والأستاذ أحمد أمين لابن عباس وغيره من الصحابة بالتوسع فى الأخذ عن أهل
الكتاب:
وإنَّا لنجد فى كتاب «المذاهب الإسلامية فى تفسير القرآن» مبلغ
اتهام مؤلفه «جولدزيهر» لابن عباس بتوسعه فى الأخذ عن أهل الكتاب، مخالفًا ما ورد
من النهى عن ذلك فى حديث رسول الله ﷺ: «لا تُصدِّقوا أهل الكتاب ولا تُكذِّبوهم»
ونرى أن نذكر عبارة المؤلف بنصها، ليتضح مبلغ اتهامه لابن عباس، ثم نرد عليه بعد
ذلك.
١ / ٥٤
قال:»وكثيرًا ما يُذكر أنه فيما
يتعلق بتفسير القرآن، كان - أى ابن عباس - يرجع إلى رجل يسمى أبا الجلد غيلان بن
فروة الأزدى، الذى أثنى الناس عليه بأنه كان يقرأ الكتب، وعن ميمونة ابنته أنها
قال: كان أبى يقرأ القرآن فى كل سبعة أيام، ويختم التوراة فى ستة، يقرؤها نظرًا،
فإذا كان يوم ختمها، حشد لذلك ناس، وكان يقول: كان يُقال تنزل عند ختمها الرحمة،
وهذا الخبر المبالغ فيه من ابنته يمكن أن يبين لنا مكان الأب فى الاستفادة من
التوراة.
«ومن بين المراجع العلمية المفضِّلة عند ابن عباس، نجد أيضًا كعب
الأحبار اليهودى، وعبد الله بن سلام، وأهل الكتاب على العموم، ممن حذر الناس
منهم، كما أن ابن عباس نفسه فى أقواله حذَّر من الرجوع إليهم، ولقد كان إسلام
هؤلاء عند الناس فوق التهمة والكذب، ورفُِعوا إلى درجة أهل العلم الموثوق بهم..
ولم تكن التعاليم الكثيرة التى أمكَن أن يستقيها ابن عباس، والتى اعتبرها من تلك
الأمور التى يُرجع فيها إلى أهل هذا الدين الآخر، مقصورة على المسائل الإنجيلية
والإسرائيلية، فقد كان يسأل كعبًا عن التفسير الصحيح لأُم القرآن للمرجان مثلًا،
وقد رأى الناس فى هؤلاء اليهود أن عندهم أحسن الفهم - على العموم - فى القرآن وفى
كلام الرسول ﷺ وما فيهما من المعانى الدينية، ورجعوا إليهم سائلين عن هذه المسائل
بالرغم من التحذير الشديد - من كل جهة - من سؤالهم» اهـ.
هذه هى عبارة
الأستاذ «جولدزيهر» فى كتابه، ومنها يتضح لنا مبلغ تجنيه على الصحابة وعلى ابن
عباس على الأخص.
وقد تابعه الأستاذ أحمد أمين على هذا الرأى، حيث يقول فى
«فجر الإسلام»: «وقد دخل بعض هؤلاء اليهود فى الإسلام، فتسرَّب منهم إلى المسلمين
كثير من هذه الأخبار، ودخلت فى تفسير القرآن يستكملون بها الشرح، ولم يتحرج حتى
كبار الصحابة مثل ابن عباس عن أخذ قولهم. روُى أن النبى ﷺ قال:»إذا حدَّثكم أهل
الكتاب فلا تُصدِّقوهم ولا تُكذبِّوهم«ولكن العمل كان على غير ذلك، وأنهم كانوا
يُصدِّقونهم وينقلون عنهم».
فالأستاذ «جولدزيهر»، والأستاذ أحمد أمين، يريان
أن الصحابة - وبخاصة ابن عباس - لم يأبهوا لنهى الرسول ﷺ، فصدِّقوا أهل الكتاب
وأخذوا عنهم الكثير فى التفسير، وأن اللون اليهودى قد صبغ مدارس التفسير القديمة،
وبالأخص مدرسة ابن عباس، بسبب اتصالهم بمن دخل فى الإسلام من أهل الكتاب.
*
*
١ / ٥٥
*رد هذا الاتهام:
والحق أن هذا
غلو فى الرأى، وبُعْدٌ عن الصواب، فابن عباس - كما قلت آنفًا - وغيره من الصحابة،
كانوا يسألون علماء اليهود الذين اعتنقوا الإسلام، ولكن لم يكن سؤالهم عن شئ يمس
العقيدة. أو يتصل بأُصول الدين أو فروعه، وإنما كانوا يسألون أهل الكتاب عن بعض
القصص والأخبار الماضية، ولم يكونوا يقبلون كل ما يُروى لهم على أنه صواب لا
يتطرق إليه شك، بل كانوا يُحكِّمون دينهم وعقلهم، فما اتفق مع الدين والعقل
صدَّقوه، وما خالف ذلك نبذوه، وما سكت عنه القرآن واحتمل الصدق والكذب توقَّفوا
فيه. وبهذا المسلك يكون الصحابة - رضوان الله عليهم - قد جمعوا بين قوله ﵊:
«حدِّثوا عن بنى إسرائيل ولا حرَجَ»، وقوله: «لا تُصدِّقوا أهل الكتاب ولا
تُكذِّبوهم» فإن الأول محمول على ما وقع فيهم من الحوادث والأخبار، لما فيها من
العظة والاعتبار، بدليل قوله بعد ذلك: «فإن فيهم أعاجيب». والثانى محمول على ما
إذا كان الُمخْبَر به من قِبَلهم محتملًا، ولم يقم دليل على صدقه ولا على كذبه،
لأنه ربما كان صدقًا فى نفس الأمر فيكون فى التكذيب به حَرَج، وربما كان كذبًا فى
نفس الأمر فيكون فى التصديق به حَرَج، ولم يرد النهى عن تكذيبهم فيما ورد شرعنا
بخلافه، ولا عن تصديقهم فيما ورد شرعنا بوفاقه، كما أفاده ابن حجر ونبَّه عليه
الشافعى رضى الله عنه - وسيأتى مزيد للكلام عن هذين الحديثين عند الكلام عن
الإسرائيليات فى التفسير.
ثم كيف يستبيح ابن عباس رضى الله عنه لنفسه أن
يُحدِّث عن بنى إسرائيل بمثل هذا التوسع الذى يجعله مخالفًا لأمر رسول الله ﷺ وقد
كان ابن عباس نفسه من أشد الناس نكيرًا على ذلك، فقد روى البخارى فى صحيحه عنه
أنه قال: «يا معشر المسلمين؛ تسألون أهل الكتاب وكتابكم الذى أُنزِلَ على نبيه ﷺ
أحدث الأخبار بالله، تقرأونه لم يشب، وقد حدَّثكم الله أن أهل الكتاب بدَّلوا ما
كتب الله، وغيَّروا بأيديهم الكتاب فقالوا: ﴿هاذا مِنْ عِنْدِ الله لِيَشْتَرُواْ
بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا﴾ [البقرة: ٧٩] .. أفلا ينهاكم ما جاءكم من العلَم عنِ
مسَاءَلتهم، وَلاَ واللهِ مَا رأين رجلًا منهم قط يسألكم عن الذى أُنزِلَ
عليكم».
* *
*رجوع ابن عباس إلى الشعر القديم:
كان ابن عباس رضى
الله عنه يرجع فى فهم معانى الألفاظ الغريبة التى وردت فى القرآن إلى الشعر
الجاهلى، وكان غيره من الصحابة يسلك هذا الطريق فى فهم غريب القرآن، ويحض على
الرجوع إلى الشعر العربى القديم، ليُستعان به على فهم معانى
١
/ ٥٦
الألفاظ القرآنية الغريبة، فهذا عمر بن الخطاب رضى الله
عنه يسأل أصحابه عن معنى قوله تعالى فى الآية [٤٧] من سورة النحل: ﴿أَوْ
يَأْخُذَهُمْ على تَخَوُّفٍ﴾ فيقوم له شيخ من هذيل فيقول له: هذه لغتنا،
التخوُّف: التنقص، فيقول له عمر: هل تعرف العرب ذلك فى أشعارها؟ فيقول له: نعم،
ويروى قول الشاعر:
تَخَوَّفَ الرَّحل منها تامِكًا قَرِدًا ... كما
تَخَوَّفَ عُودَ النبعةِ السَّفِنُ
فيقول عمر رضى الله عنه لأصحابه: «عليكم
بديوانكم لا تضلُّوا، قالوا: وما ديواننا؟ قال: شعر الجاهلية، فإن فيه تفسير
كتابكم، ومعانى كلامكم».
غير أن ابن عباس، امتاز بهذه الناحية واشتهر بها
أكثر من غيره، فكثيرًا ما كان يُسئل عن القرآن فينشد فيه الشعر، وقد رُوى عنه
الشئ الكثير من ذلك، وأوعب ما رُوى عنه مسائل نافع بن الأزرق وأجوبته عنها، وقد
بلغت مائتى مسألة، أخرج بعضها ابن الأنبارى فى كتاب «الوقف والابتداء»، وأخرج
الطبرانى بعضها الآخر فى معجمه الكبير، وقد ذكر السيوطى فى «الإتقان» بسنده مبدأ
هذا الحوار الذى كان بين نافع وابن عباس، وسرد مسائل ابن الأزرق وأجوبة ابن عباس
عنها، فقال: "بيَّنا عبد الله بن عباس جالس بفناء الكعبة قد اكتنفه الناس يسألونه
عن تفسير القرآن، فقال نافع بن الأزرق لنجدة بن عويمر: بنا إلى هذا الذى يجترئ
على تفسير القرآن بما لا علم له به، فقاما إليه فقالا: إنَّا نريد أن نسألك عن
أشياء من كتاب الله فتفسرها لنا، وتأتينا بمصادقة من كلام العرب، فإنَّ الله
تعالى إنما أنزل القرآن بلسان عربى مبين، فقال ابن عباس: سلانى عما بدا لكما،
فقال نافع: أخبرنى عن قول الله تعالى: ﴿عَنِ اليمين وَعَنِ الشمال عِزِينَ﴾
[المعارج: ٣٧]؟ قال: العزون: حلق الرفاق، قال: هل تَعرف العرب ذلك؟. قال: نعم،
أما سمعت عبيد بن الأبرص وهو يقول:
فجاءوا يهرعون إليه حتى ... يكونوا حول
منبره عزينا؟
قال: أخبرنى عن قوله: ﴿وابتغوا إِلَيهِ الوسيلة﴾ [المائدة:
٣٥]؟ قال: الوسيلة: الحاجة، قال: وهل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم، أما سمعت عنترة
وهو يقول:
إن الرجال لهم إليكِ وسيلة ... إن يأخذوكِ تكحلى وتخضبى
إلى
آخر المسائل وأجوبتها، وهى تدل على قوة ابن عباس فى معرفته بلغة العرب، وإلمامه
بغريبها، إلى حد لم يصل إليه غيره، مما جعله - بحق - إمام التفسير
١
/ ٥٧
فى عهد الصحابة، ومرجع المفسِّرين فى الأعصر التالية
للعصر الذى وُجِد فيه، وزعيم هذه الناحية من التفسير على الخصوص، حتى لقد قيل فى
شأنه: «إنه هو الذى أبدع الطريقة اللغوية لتفسير القرآن».
هذا وقد بيَّن لنا
ابن عباس رضى الله عنه، مبلغ الحاجة إلى هذه الناحية فى التفسير، وحضَّ عليها مَن
أراد أن يتعرف غريب القرآن، فقد روى أبو بكر الأنبارى عنه أنه قال: «الشعر ديوان
العرب، فإذا خفى علينا الحرف من القرآن الذى أنزله الله بلغة العرب، رجعنا إلى
ديوانها فالتمسنا ذلك منه».
وروى ابن الأنبارى عنه أيضًا أنه قال: «إذا
سألتمونى عن غريب القرآن فالتمسوه فى الشعر، فإن الشعر ديوان العرب».
فابن
عباس رضى الله عنه كان يرى رأى عمر فى ضرورة الرجوع إلى الشعر الجاهلى، للاستعانة
به على فهم غريب القرآن، بل وكان أكثر الصحابة إلمامًا بهذه الناحية وتطبيقًا
لها.
وقد استمرت هذه الطريقة إلى عهد التابعين ومَن يليهم، إلى أن حدثت
خصومة بين متورعى الفقهاء وأهل اللغة، فأنكروا عليهم هذه الطريقة، وقالوا: إن
فعلتم ذلك جعلتم الشعر أصلًا للقرآن، وقالوا: كيف يجوز أن يُحتج بالشعر على
القرآن، وهو مذموم فى القرآن والحديث.
والحق أن هذه الخصومة التى جَدَّت فى
الأجيال المتأخرة لم تقم على أساس، فالأمر ليس كما يزعمه أصحاب هذا الرأى، من جعل
الشعر أصلًا للقرآن، بل هو فى الواقع، بيان للحرف الغريب من القرآن بالشعر، لأن
الله تعالى يقول: ﴿إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا﴾ [الزخرف: ٣]، وقال:
﴿بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ﴾ [الشعراء: ١٩٥] .. ولهذا لم يتحرج المفسرِّون إلى
يومنا هذا من الرجوع إلى الشَعِّر الجاهلى للاستشهاد به على المعنى الذى يذهبون
إليه فى فهم كلام الله تعالى.
* *
*الرواية عن ابن عباس ومبلغها من
الصحة:
روُِى عن ابن عباس رضى الله عنه فى التفسير ما لا يُحصَى كثرة،
وتعددت الروايات عنه، واختلفت طرقها، فلا تكاد تجد آية من كتاب الله تعالى إلا
ولابن عباس رضى الله عنه فيها قول أو أقوال، الأمر الذى جعل نُقَّاد الأثر ورواة
الحديث يقفون إزاء هذه الروايات التى جاوزت الحد وقفة المرتاب، فتتبعوا سلسلة
الرواة فعدَّلوا العُدول،
١ / ٥٨
وجرَّحوا
الضُعفاء، وكشفوا للناس عن مقدار هذه الروايات قوة وضعفًا. وأرى أن أسوق هنا أشهر
الروايات عن ابن عباس، ثم أُبيِّن مبلغها من الصحة أو الضعف، لنعلم إلى أى حد وصل
الوضع والاختلاق على ابن عباس رضى الله عنه. وهذه هى أشهر الطرق:
أولها:
طريق معاوية بن صالح، عن علىّ بن أبى طلحة، عن ابن عباس، وهذه هى أجود الطرق عنه،
وفيها قال الإمام أحمد رضى الله عنه: «إن بمصر صحيفة فى التفسير رواها علىّ بن
أبى طلحة، لو رحل رجل فيها إلى مصر قاصدًا ما كان كثيرًا». وقال الحافظ ابن حجر:
«وهذه النسخة كانت عند أبى صالح كاتب الليث، رواها عن معاوية بن صالح، عن علىّ
ابن أبي طلحة، عن ابن عباس، وهى عند البخارى عن أبى صالح، وقد اعتمد عليها فى
صحيحه فيما يُعلِّقه عن ابن عباس».
وكثيرًا ما اعتمد على هذه الطريق ابن
جرير الطبرى، وابن أبى حاتم، وابن المنذر بوسائط بينهم وبين أبى صالح. ومسلم صاحب
الصحيح وأصحاب السنن جميعًا يحتجون بعلىّ بن أبى طلحة.
* *
*طعن بعض
النُقَّاد على هذه الطريق:
ولقد حاول بعض النُقَّاد أن يُقلل من قدر هذه
الطريق فقال: «إن ابن أبى طلحة لم يسمع من ابن عباس التفسير، وإنما أخذه عن مجاهد
أو سعيد ابن جبير» وعلى هذا فهى طريق منقطعة لا يُركَن إليها، ولا يُعوَّل
عليها.
وقد استغل هذا القول الأستاذ «جولدزيهر» فى كتابه «المذاهب الإسلامية
فى تفسير القرآن» فقال: «صرَّح النقدة المسلمون بأن ذلك الرجل - علىّ بن أبى طلحة
- لم يسمع التفسير الذى تضمنه كتابه مباشرة من ابن عباس، وهكذا فإنه حتى فى صحة
القسم الخاص بالتفسير الأكثر تصديقًا، يحكم النقدة المسلمون بهذا الحكم فيما
يتعلق بصحة نسبته لابن عباس على أنه هو المصدر الأول له» اهـ.
* *
*تفنيد
هذا الطعن:
ويظهر لنا أن الأستاذ «جولدزيهر»، جهل أو تجاهل ما رَدَّ به
النقاد المعتبرون على هذا الظن الذى لا قيمة له، فقد فنَّد ابن حجر هذا النقد
بقوله: «بعد أن عرفت الواسطة وهو ثقة فلا ضير فى ذلك».
وقال صاحب إيثار
الحق: "وقال الذهبى فى الميزان: وقد روى - يعنى علىّ بن أبى طلحة عن ابن عباس
تفسيرًا كثيرًا ممتعًا، والصحيح عندهم أن روايته عن مجاهد عن
١
/ ٥٩
ابن عباس، وإن كان يرسلها عن ابن عباس فمجاهد ثقة يُقبل».
وجملة القول: فهذه أصح الطرق فى التفسير عن ابن عباس، وكفى بتوثيق البخارى لها
واعتماده عليها شاهدًا على صحتها.
ثانيها: طريق قيس بن مسلم الكوفى، عن عطاء
بن السائب عن سعيد ابن جبير، عن ابن عباس. وهذه الطريق صحيحة على شرط الشيخين،
وكثيرًا ما يُخَرِّج منها الفريابى والحاكم فى مستدركه.
ثالثها: طريق ابن
إسحاق صاحب السير، عن محمد بن أبى محمد مولى آل زيد بن ثابت، عن عكرمة، أو سعيد
بن جبير عن ابن عباس، وهى طريق جيدة وإسنادها حسن وقد أخرج منها ابن جرير وابن
أبى حاتم كثيرًا، وأخرج الطبرانى منها فى معجمه الكبير.
رابعها: طريق
إسماعيل بن عبد الرحمن السدى الكبير، تارة عن أبى مالك، وتارة عن أبى صالح عن ابن
عباس. وإسماعيل السدى مُختلَف فيه، وحديثه عند مسلم وأهل السنن الأربعة، وهو
تابعى شيعى. وقال السيوطى: «روى عن السدى الأئمة مثل الثورى وشعبة، لكن التفسير
الذى جمعه رواه أسباط بن نصر، وأسباط لم يتفقوا عليه، غير أن أمثل التفاسير تفسير
السدى» وابن جرير يُورد فى تفسيره كثيرًا من تفسير السدى عن أبى مالك عن أبى صالح
عن ابن عباس، ولم يُخَرِّج منه ابن أبى حاتم شيئًا، لأنه التزم أن يُخَرِّج أصح
ما ورد.
خامسها: طريق عبد الملك بن جريج، عن ابن عباس، وهى تحتاج إلى دقة فى
البحث، ليُعرف الصحيح منها والسقيم، فإن ابن جريج لم يقصد الصحة فيما جمع، وإنما
روى ما ذُكِرَ فى كل آية من الصحيح والسقيم، فلم يتميز فى روايته الصحيح من غيره،
وقد روى عن ابن جرير هذا جماعة كثيرة، منهم بكر من سهل الدمياطى، عن عبد الغنى بن
سعيد، عن موسى بن محمد، عن ابن جريج عن ابن عباس، ورواية بكر بن سهل أطول
الروايات عن ابن جريج وفيها نظر. ومنهم محمد بن ثور، عن ابن جريج، عن ابن عباس،
روى ثلاثة أجزاء كبار. ومنهم الحجاج بن محمد عن ابن جريج، روى جزءًا وهو صحيح
متفق عليه.
سادسها: طريق الضحاك بن مزاحم الهلالى عن ابن عباس، وهى غير
مرضية، لأنه وإن وَثَّقه نفر فطريقه إلى ابن عباس منقطعة، لأنه روى عنه ولم يلقه،
فإن انضم إلى ذلك رواية بشر بن عمارة، عن أبى روق، عن الضحَّاك، فضعيفة لضعف بشر،
وقد أخرج من هذه النسخة كثيرًا ابن جرير وابن أبى حاتم. وإن كان من رواية جويبر
عن
١ / ٦٠
الضحاك فأشد ضعفًا، لأن جويبر شديد
الضعف متروك، ولم يُخَرِّج ابن جرير ولا ابن أبى حاتم من هذه الطريق شيئًا، إنما
خرَّجها ابن مردويه، وأبو الشيخ بن حبان.
سابعها: طريق عطية العوفى، عن ابن
عباس، وهى غير مرضية، لأن عطية ضعيف ليس بواهٍ، وربما حَسَّن له الترمذى. وهذه
الطريق قد أخرج منها ابن جرير، وابن أبى حاتم كثيرًا.
ثامنها: طريق مقاتل بن
سليمان الأزدى الخراسانى، وهو المفسِّر الذى يُنسب إلى الشافعى أنه قال فيه: «إن
الناس عيال عليه فى التفسير» ومع ذلك فقد ضَعَّفوه، وقالوا: إنه يروى عن مجاهد
وعن الضحاك ولم يسمع منهما. وقد كذَّبه غير واحد، ولم يُوثِّقه أحد، واشتُهِر عنه
التجسيم والتشبيه، وتكلم عنه السيوطى. فقال: «إن الكلبى يُفَضَّل عليه، لما فى
مقاتل من المذاهب الردية» وقد سُئل وكيع عن تفسير مقاتل فقال: «لا تنظروا فيه،
فقال السائل: ما أصنع به؟ قال: ادفنه» - يعنى التفسير - وقال أحمد بن حنبل: لا
يعجبنى أن أروى عن مقاتل بن سليمان شيئًا. وبالجملة فإن مَن استحسن تفسير مقاتل
كان يُضَعِّفه ويقول: «ما أحسن تفسيره لو كان ثقة».
تاسعها: طريق محمد بن
السائب الكلبى عن أبى صالح عن ابن عباس، وهذه أو هى الطرق. والكلبى مشهور
بالتفسير، وليس لأحد تفسير أطول منه ولا أشيع كما قال عدى فى الكامل، ومع ذلك فإن
وُجِدَ مَن قال: رضوه فى التفسير، فقد وُجِد مَن قال: أجمعوا على ترك حديثه، وليس
بثقة، ولا يُكتب حديثه، واتهمه جماعة بالوضع. وممن يروى عن الكلبى، محمد بن مروان
السدى الصغير، وقد قالوا فيه: إنه يضع الحديث، وذاهب الحديث متروك، ولهذا قال
السيوطى فى الإتقان: «فإن انضم إلى ذلك - أى طريق الكلبى - رواية محمد بن مروان
السدى الصغير، فهى سلسلة الكذب»، وقال السيوطى أيضًا فى كتابه الدر المنثور (جـ ٦
ص ٤٢٣): «الكلبى: اتهموه بالكذب وقد مرض فقال لأصحابه فى مرضه: كل شىء حدثتكم عن
أبى صالح كذب.. ومع ضعف الكلبى فقد روى عنه تفسيره مثله أو أشد ضعفًا، وهو محمد
بن مروان السدى الصغير» وكثيرًا ما يخرج من هذه الطريق الثعلبى والواحدى.
١
/ ٦١
هذه هى أشهر الطرق عن ابن عباس، صحيحها وسقيمها، وقد
عرفتَ قيمة كل طريق منها، ومَن اعتمد عليها فيما جُمِع من التفسير عن ابن عباس
رضى الله عنه.
* *
*التفسير المنسوب إلى ابن عباس وقيمته:
هذا..
وقد نُسب إلى ابن عباس رضى الله عنه جزء كبير فى التفسير، وطُبع فى مصر مرارًا
باسم «تنوير المقياس من تفسير ابن عباس» جمعه أبو طاهر محمد بن يعقوب الفيروز
آبادى الشافعى، صاحب القاموس المحيط، وقد اطلعتُ على هذا التفسير، فوجدتُ جامعه
يسوق عند الكلام عن البسملة الرواية عن ابن عباس بهذا السند: «أخبرنا عبد الله
الثقة بن المأمون الهروى، قال: أخبرنا أبى، قال: أخبرنا أبو عبد الله محمود بن
محمد الرازى، قال: أخبرنا عمار بن عبد المجيد الهروى، قال: أخبرنا على بن إسحاق
السمرقندى، عن محمد بن مروان، عن الكلبى، عن أبى صالح، عن ابن عباس».
وعند
تفسير أول سورة البقرة، وجدته يسوق الكلام بإسناده إلى عبد الله ابن المبارك،
قال: حدثنا علىّ بن إسحاق السمرقندى عن محمد بن مروان، عن الكلبى، عن أبى صالح،
عن ابن عباس.
وفى مبدأ كل سورة يقول: وبإسناده عن ابن عباس.
... وهكذا
يظهر لنا جليًا، أن جميع ما روى عن ابن عباس فى هذا الكتاب يدور على محمد بن
مروان السدى الصغير، عن محمد بن السائب الكلبى، عن أبى صالح، عن ابن عباس، وقد
عرفنا مبلغ رواية السدى الصغير عن الكلبى فيما تقدم. وحسبنا فى التعقيب على هذا
ما روى من طريق ابن عبد الحكم قال: «سمعت الشافعى يقول: لم يثبت عن ابن عباس فى
التفسير إلا شبيه بمائة حديث» وهذا الخبر - إن صح عن الشافعى - يدلنا على مقدار
ما كان عليه الوضَّاعون من الجرأة على اختلاق هذه الكثرة من التفسير المنسوبة إلى
ابن عباس، وليس أدل على ذلك، من أنك تلمس التناقض ظاهرًا بين أقوال فى التفسير
نسبت إلى ابن عباس ورويت عنه. وسيأتى - عند الكلام عن الوضع فى التفسير - أن هذا
التفسير المنسوب إلى ابن عباس لم يفقد شيئًا من قيمته العلمية فى الغالب، وإنما
الشئ الذى لا قيمة له فيه، هو نسبته إلى ابن عباس.
* *
*أسباب الوضع
على ابن عباس:
ويبدو أن السر فى كثرة الوضع على ابن عباس، هو أنه كان من بيت
النبوة والوضع عليه يُكسب الموضوع ثقة وقوة أكثر مما لو وُضِع على غيره، أضف إلى
ذلك أن
١ / ٦٢
ابن عباس كان من نسله الخلفاء
العباسيون، وكان من الناس مَن يتزلف إليهم، ويتقرَّب منهم بما يرويه لهم عن جدهم
... وسنعرض إلى أسباب الوضع فى التفسير، وإلى القيمة العلمية للتفسير الموضوع
بصرف النظر عن وضعه، عند الكلام على منشأ الضعف فى رواية التفسير المأثور إن شاء
الله تعالى.
* * *
٢- عبد الله بن مسعود
* ترجمته:
هو عبد
الله بن مسعود بن غافل، يصل نسبه إلى مُضَر، ويُكنَّى بأبى عبد الرحمن الهذلى،
وأُمه أُم عبد بنت عبدود، من هذيل، وكان يُنسب إليها أحيانًا فيقال ابن أم عبد.
كان ﵀ خفيف اللحم، قصيرًا، شديد الأُدْمة، أسلم قديمًا. روى الأعمش، عن القاسم بن
عبد الرحمن، عن أبيه قال: قال عبد الله - يعنى ابن مسعود -: «لقد رأيتنى سادس ستة
ما على ظهر الأرض مسلم غيرنا» وهو أول مَن جهر بالقرآن بمكة وأسمعه قريشًا بعد
رسول الله ﷺ، وأُوذى فى الله من أجل ذلك، ولما أسلم عبد الله ابن مسعود أخذه رسول
الله ﷺ إليه فكان يخدمه فى أكثر شئونه، وهو صاحب طهوره وسواكه ونعله، يلبسه إياه
إذا قام، ويخلعه ويحمله فى ذراعه إذا جلس، ويمشى أمامه إذا سار، ويستره إذا
اغتسل، ويوقظه إذا نام، ويلج عليه داره بلا حجاب، حتى لقد ظنه أبو موسى الأشعرى
رضى الله عنه من أهل بيت رسول الله ﷺ، ففى البخارى ومسلم عن أبى موسى الأشعرى رضى
الله عنه قال: «قدمت أنا وأخى من اليمن فمكثنا حينًا لا نرى ابن مسعود وأُمه إلا
من أهل بيت رسول الله ﷺ، لما نرى من كثرة دخوله ودخول أُمه على رسول الله ﷺ
ولزومه له». وهاجر إلى الحبشة، ثم إلى المدينة، وصلى إلى القِبْلتين، وشهد بدرًا،
وأُحُدًا، والخندق، وبيعة الرضوان، وسائر المشاهد مع رسول الله ﷺ، وشهد اليرموك
بعد وفاة رسول الله ﷺ. وهو الذى أجهز على أبى جهل يوم بدر، وقد شهد له رسول الله
ﷺ بالجنة وشهد له بالفضل وعلو المنزلة، يدل على ذلك ما أخرجه الإمام أحمد فى
مسنده عن علىّ قال: قال رسول ﷺ: «لو كنتُ مؤمِّرًا أحدًا دون مشورة المؤمنين
لأمِّرْتُ ابن أُم عبد». وقد ولى بيت المال بالكوفة لعمر وعثمان، وقدم المدينة فى
آخر عمره، ومات بها سنة اثنتين وثلاثين، ودفُن بالبقيع ليلًا، تنفيذًا لوصيته
بذلك، وكان عمره يوم وفاته، بضعًا وستين سنة.
* *
*مبلغه من العلم:
كان
ابن مسعود من أحفظ الصحابة لكتابة الله، وكان رسول الله ﷺ يحب أن يسمع منه
القرآن، وقد أخبر هو بنفسه عن ذلك فقال: «قال لى رسول الله ﷺ:»اقرأ علىّ سورة
النساء«، قال: قلت: أقرأ عليك وعليك أُنزل؟ قال:»إنى أحب أن
١
/ ٦٣
أسمعه من غيرى«، فقرأتُ عليه حتى بلغت: ﴿فَكَيْفَ إِذَا
جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ على هاؤلاء شَهِيدًا﴾
[النساء: ٤١] فاضت عيناه ﷺ». وكان رسول الله ﷺ يقول: «من سَرَّه أن يقرأ القرآن
رطبًا كما أُنزِل، فليقرأه على قراءة ابن أُم عبد». وكان ابن مسعود يعرف ذلك من
نفسه ويعتنى به، حتى إنه كره لزيد بن ثابت نسخ المصاحف فى عهد عثمان، وكان يرى
أنه أولى منه بذلك، وقد قال فى هذا: «يا معشر المسلمين، أُعزل عن نسخ المصاحف
ويتولاه رجل والله لقد أسلمتُ وإنه لفى صلب رجل كافر»؟ - يريد زيد بن ثابت -. وعن
مسروق أنه قال: «انتهى علم أصحاب رسول الله ﷺ إلى ستة: عمر، وعلىّ، وعبد الله بن
مسعود، وأُبَىّ بن كعب، وأبى الدرداء، وزيد بن ثابت، ثم انتهى علم هؤلاء الستة
إلى رجلين: علىّ، وعبد الله»، وقيل لحذيفة: أَخْبِرنا برجل قريب السمت والدل
والهَدْى من رسول الله ﷺ نأخذ عنه، فقال: «لا نعلم أحدًا أقرب سمتًا ولا هَدْيًا
برسول الله ﷺ من ابن أُم عبد، ولقد علم المحفوظون من أصحاب محمد ﷺ، أن ابن أُم
عبد أقربهم إلى الله وسيلة». ولما سيَّره عمر رضى الله عنه إلى الكوفة كتب إلى
أهلها: «إنى قد بعثتُ عمار بن ياسر أميرًا، وعبد الله بن مسعود معلِّمًا ووزيرًا،
وهما من النجباء من أصحاب رسول الله ﷺ من أهل بدر فاقتدوا بهما، وأطيعوا واسمعوا
قولهما، وقد آثرتكم بعبد الله على نفسى».
وقد أقام رضى الله عنه بالكوفة
يأخذ عنه أهلها الحديث والتفسير والفقه، وهو معلمهم وقاضيهم، ومؤسس طريقتهم فى
الاعتداد بالرأى حيث لا يوجد النص، ولما قدم علىُّ الكوفة، حضر عنده قوم وذكروا
له بعض قول عبد الله وقالوا: يا أمير المؤمنين؛ ما رأينا رجلًا أحسن خُلُقًا، ولا
أرفق تعليمًا، ولا أحسن مجالسة، ولا أشد ورعًا من ابن مسعود، قال علىّ: «أنشدكم
الله أهو الصدق من قلوبكم»؟ قالوا: نعم، قال: «اللَّهم اشهد أنى أقول مثل ما
قالوا وأفضل».
ومن هذا كله يتبين لنا مكانة ابن مسعود رضى الله عنه فى
العلم، ومنزلته بين إخوانه من الصحابة، فالكل يشهد له ويُقدِّمه على غيره، وذلك
فضل الله يؤتيه مَن يشاء من عباده.
* *
* قيمة ابن مسعود فى
التفسير:
روى ابن جرير وغيره عن ابن مسعود أنه قال: «كان الرجل منا إذا
تعلَّم عشر آيات لم يجاوزهن حتى يعرف معانيهن والعمل بهن»، ومن هذا الأثر يتضح
لنا مقدار
١ / ٦٤
حرص ابن مسعود على تفهم
كتاب الله تعالى والوقوف على معانيه، وعن مسروق قال: «قال عبد الله - يعنى ابن
مسعود -: والذى لا إله غيره ما نزلت آية من كتاب الله إلا وأنا أعلم فيم نزلت
وأين نزلت، ولو أعلم مكان أحد أعلم بكتاب الله منى تناله المطايا لأتيته»، وهذا
الأثر يدل على إحاطة ابن مسعود بمعانى كتاب الله، وأسباب نزول الآيات، وحرصه على
تعرف ما عند غيره من العلم بكتاب الله تعالى ولو لقى عنتًا ومشقة، وقال مسروق:
كان عبد الله يقرأ علينا السورة ثم يحدِّثنا فيها ويفسِّرها عامة النهار، وروى
أبو نعيم فى الحلية عن أبى البحترى قال: قالوا لعلىِّ: أخبرنا عن ابن مسعود، قال:
علم القرآن والسُّنَّة ثم انتهى، وكفى بذلك علمًا، وقال عقبة بن عامر: ما أدرى
أحدًا أعلم منه بما نزل على محمد ابن عبد الله، فقال أبو موسى: إن تقل ذلك، فإنه
كان يسمع حين لا نسمع، ويدخل حين لا ندخل. وصح عن ابن مسعود أنه قال: أخذت من
فَىِّ رسول الله ﷺ سبعين سورة، وقال أبو وائل: لما حرق عثمان المصاحف بلغ ذلك عبد
الله فقال: لقد علم أصحاب محمد أنى أعلمهم بكتاب الله وما أنا بخيرهم، ولو أنى
أعلم أن أحدًا أعلم بكتاب الله منى تبلغه الإبل لأتيته، قال أبو وائل: فقمت إلى
الحلق أسمع ما يقولون، فما سمعت أحدًا من أصحاب محمد ينكر ذلك عليه ... وغير هذا
كثير من الآثار التى تشهد لمنزلة ابن مسعود العالية فى التفسير، وإذا كان ابن
مسعود يعلم هذا من نفسه ويتحدث به، فإن أصحاب رسول الله ﷺ لم ينكروا عليه ذلك، بل
وتحدَّثوا بمكانته فى العلم، ومقدار فهمه لكتاب الله، وعلَّل ذلك أبو موسى
الأشعرى رضى الله عنه، بأنه كان يسمع حين لا يتيسر لهم السماع، ويدخل حين لا
يُؤذن لهم بالدخول، الأمر الذى جعله أوفر حظًا فى الأخذ عن الرسول ﷺ، وأعظم
نصيبًا من الاغتراف من منهل النبوة الفيَّاض، ولئن صح عن أبى الدرداء أنه قال بعد
موت ابن مسعود: ما ترك بعده مثله، لهى شهادة منه على
مقدار علمه، وسمو
مكانته بين أصحاب رسول الله ﷺ، وبالجملة فابن مسعود كما قيل: أعلم الصحابة بكتاب
الله تعالى، وأعرفهم بمحكمه ومتشابهه وحلاله وحرامه، وقصصه وأمثاله، وأسباب
نزوله، قرأ القرآن فأحلّ حلاله وحرَّم حرامه، فقيه فى الدين، عالِم بالسُّنَّة،
بصير بكتاب الله. * *
*الرواية عن ابن مسعود ومبلغها من الصحة:
ابن
مسعود أكثر مَن رُوِى عنه فى التفسير من الصحابة بعد ابن عباس رضى الله عنه، قال
السيوطى فى الإتقان: وأما ابن مسعود فقد رُوِى عنه أكثر مما رُوِى عن علىّ، وقد
حمل علم ابن مسعود فى التفسير أهل الكوفة نظرًا لوجوده بينهم،
١
/ ٦٥
يجلس إليهم فيأخذون عنه ويروون له، فمن رواته مسروق بن
الأجدع الهمدانى، وعلقمة بن قيس النخعى، والأسود بن يزيد، وغيرهم من علماء الكوفة
الذين تتلمذوا له ورووا عنه. وسيأتى الكلام على هؤلاء جميعًا - إن شاء الله تعالى
- عند الكلام عن التفسير فى عصر التابعين، وقد وردت أسانيد كثيرة تنتهى إلى ابن
مسعود، نجدها مبثوثة فى كتب التفسير بالمأثور وكتب الحديث، ومن هذه الروايات ما
يمكن الاعتماد عليه والثقة به، ومنها ما يعتريه الضعف فى رجاله، أو الانقطاع فى
إسناده، وقد تتبع العلماء النُقَّاد هذه الروايات، كما تتَّبعوا غيرها بالنقد
تجريحًا وتعديلًا وهذه هى أشهر الطرق عن ابن مسعود:
أولًا: طريق الأعمش، عن
أبى الضحى، عن مسروق، عن ابن مسعود. وهذه الطريق من أصح الطرق وأسلمها، وقد اعتمد
عليها البخارى فى صحيحه.
ثانيًا: طريق مجاهد، عن أبى معمر، عن ابن مسعود،
وهذه أيضًا طريق صحيحة لا يعتريها الضعف. وقد اعتمد عليها البخارى فى صحيحه
أيضًا.
ثالثًا: طريق الأعمش، عن أبى وائل، عن ابن مسعود. وهذه أيضًا طريق
صحيحة يُخَرِّج البخارى منها، وكفى بتخريج البخارى شاهدًا على صحته وصحة ما
سبق.
رابعًا: طريق السدى الكبير، عن مرة الهمدانى، عن ابن مسعود. وهذه
الطريق يُخَرِّج منها الحاكم فى مستدركه، ويصحح ما يُخَرِّجه. وابن جرير يُخَرِّج
منها فى تفسيره كثيرًا، وقد علمت فيما مضى قيمة السدى الكبير فى باب الرواية.
خامسًا:
طريق أبى روق، عن الضحاك، عن ابن مسعود، وابن جرير يُخَرِّج منها فى تفسيره
أيضًا. وهذه الطريق غير مرضية، لأن الضحاك لم يلق ابن مسعود فهى طريق منقطعة.
*
* *
٣- علىّ بن أبى طالب
* ترجمته:
هو أبو الحسن، علىّ بن أبى
طالب بن عبد المطلب، القرشى الهاشمى، ابن عم رسول الله ﷺ، وصهره على ابنته فاطمة،
وذُرِّيته ﷺ منها. أُمه فاطمة بنت أسد بن هاشم. وهو أول هاشمى وُلِد من هاشميين،
ورابع الخلفاء الراشدين، وأول خليفة من بنى هاشم، وهو أول مَن أسلم من الأحداث
وصدَّق برسول الله ﷺ. هاجر إلى المدينة. وموقفه من الهجرة مشهور، قيل: ونزل فيه
قوله تعالى: ﴿وَمِنَ الناس مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابتغآء مَرْضَاتِ الله﴾ [البقرة:
٢٠٧] .. وقد شهد علىّ المشاهد كلها إلا تبوك، فإن رسول الله ﷺ خلَفه على أهله،
وله فى الجميع بلاء عظيم ومواقف مشهورة، وقد أعطاه الرسول ﷺ اللواء فى مواطن
كثيرة، وقال يوم خيبر: «لأعطيَّن الراية رجلًا يفتح الله على يديه، يُحب الله
ورسوله، ويُحبه الله ورسوله»، ثم أعطاها لعلىّ رضى الله
١ /
٦٦
عنه، وآخاه رسول الله ﷺ لَّما آخى بين أصحابه وقال له: «أنت
أخى فى الدنيا والآخرة» وهو أحد العشرة المبشَّرين بالجنة، اجتمع فيه من الفضائل
ما لم يحظ به غيره، فمن ورع فى الدين، إلى زهد فى الدنيا، إلى قرابة وصهر برسول
الله ﷺ، إلى علم جم وفضل غزير، وقد توفى ﵀ فى رمضان سنة أربعين من الهجرة،
مقتولًا بيد عبد الرحمن بن ملجم الخارجى، وعمره ثلاث وستون سنة، وقيل غير ذلك.
*
*
* مبلغه من العلم:
كان رضى الله عنه بحرًا فى العلم، وكان قوى
الحُجَّة، سليم الاستنباط، أُوتِىَ الحظ الأوفر من الفصاحة والخطابة والشعر، وكان
ذا عقل قضائى ناضج، وبصيرة نافذة إلى بواطن الأُمور، وكثيرًا ما كان يرجع إليه
الصحابة فى فهم ما خفى واستجلاء ما أشكل، وقد ولاه رسول الله ﷺ قضاء اليمن، ودعا
له بقوله: «اللهم ثبِّت لسانه واهد قلبه»، فكان مُوفَّقًا ومُسدَّدًا، فيصلًا فى
المعضلات، حتى ضُرِب به المثل فقيل: «قضية ولا أبا حسن لها»، ولا عجب، فقد تربى
فى بيت النبوة، وتغذَّى بلبان معارفها، وعَمَّته مشكاة أنوارها. روى علقمة عن ابن
مسعود قال: كنا نتحدث أن أقضى أهل المدينة علىّ بن أبى طالب. وقيل لعطاء: أكان فى
أصحاب محمد أعلم من علىّ؟ قال: لا، والله لا أعلمه، وروى سعيد بن جبير عن ابن
عباس قال: «إذا ثبت لنا الشء عن علىّ لم نعدل عنه إلى غيره».
والذى يرجع إلى
أقضية علىّ رضى الله عنه وخطبه ووصاياه، يرى أنه قد وُهِبَ عقلًا ناضجًا، وبصيرة
نافذة، وحظًا وافرًا من العلم وقوة البيان.
* *
* مكانته من
التفسير:
جمع علىّ رضى الله عنه إلى مهارته فى القضاء والفتوى، علمه بكتاب
الله، وفهمه لأسراره وخفى معانيه، فكان أعلم الصحابة بمواقع التنزيل ومعرفة
التأويل، وقد رُوِى عن ابن عباس أنه قال: «ما أخذت من تفسير القرآن فعن علىّ بن
أبى طالب».
وأخرج أبو نعيم فى الحلية عن علىّ رضى الله عنه أنه قال: «واللهِ
ما نزلت آية إلا وقد علمتُ فيم نزلت، وأين نزلت، وإن ربى وهبَ لى قلبًا عقولًا،
ولسانًا سئولًا».
وعن أبى الطفيل قال: "شهدتُ عليًا يخطب وهو يقول: سلونى،
فوالله لا تسألونى عن شئ إلا أخبرتكم، وسلونى عن كتاب الله، فواللهِ ما من آية
إلا وأنا
١ / ٦٧
أعلم أبليل نزلت أم بنهار،
أم فى سهل، أم فى جبل».
وأخرج أبو نعيم فى الحلية عن ابن مسعود قال: «إن
القرآن أُنزل على سبعة أحرف، ما منها حرف، إلا وله ظهر وبطن، وإن علىّ بن أبى
طالب عنده منه الظاهر والباطن»
وغير هذا كثير من الآثار التى تشهد له بأنه
كان صدر المفسرين والمؤيَّد فيهم.
* *
*الرواية عن علىّ ومبلغها من
الصحة:
كثرت الرواية فى التفسير عن علىّ رضى الله عنه، كثرة جاوزت الحد،
الأمر الذى لفت أنظار العلماء النُقَّاد، وجعلهم يتتبعون الرواية عنه بالبحث
والتحقيق، ليميزوا ما صح من غيره.
وما صح عن علىّ فى التفسير قليل بالنسبة
لما وُضِع عليه، ويرجع ذلك إلى غُلاة الشيعة، الذين أسرفوا فى حبه فاختلقوا عليه
ما هو برئ منه، إما ترويجًا لمذهبهم وتدعيمًا له، وإما لظنهم الفاسد أن الإغراق
فى نسبة الأقوال العلمية إليه يُعلى من قدره، ويرفع من شأنه العلمى. وأظن أن ما
نُسب إلى علىّ من قوله: «لو شئتُ أن أُوْقِرَ سبعين بعيرًا من تفسير أم القرآن
لفعلت» لا أصل له، اللَّهم إلا فى أوهام الشيعة، الذين يغالون فى حبه، ويتجاوزون
الحد فى مدحه. ثم هناك ناحية أخرى أغرت الوُضَّاع بالكذب عليه، تلك الناحية هى
نسبته إلى بيت النبوة، ولا شك أن هذه الناحية، تُكسب الموضوع قبولًا، وتعطيه
رواجًا وذيوعًا على ألسن الناس، والحق أن كثرة الوضع على علىّ رضى الله عنه أفسدت
الكثير من علمه، ومن أجل ذلك لم يعتمد أصحاب الصحيح فيما يروونه عنه إلا على ما
كان من طريق الأثبات من أهل بيته، أو من أصحاب ابن مسعود، كعبيدة السلمانى
وشُريح، وغيرهما. وهذه أهم الطرق عن علىّ فى التفسير:
أولًا: طريق هشام، عن
محمد بن سيرين، عن عبيدة السلمانى، عن علىّ. طريق صحيحة، يُخَرِّج منها البخارى
وغيره.
ثانيًا: طريق ابن أبى الحسين، عن أبى الطفيل، عن علىّ. وهذه طريق
صحيحة، يُخرِّج منها ابن عيينة فى تفسيره.
ثالثًا: طريق الزهرى، عن علىّ زين
العابدين، عن أبيه الحسين، عن أبيه علىّ. وهذه طريق صحيحة جدًا. حتى عدَّها بعضهم
أصح الأسانيد مطلقًا، ولكن لم تشتهر هذه الطريق اشتهار الطريقتين السابقتين نظرًا
لما ألصقه الضعفاء، والكذَّابون بزين العابدين من الروايات الباطلة.
* *
*
١ / ٦٨
٤- أُبَىّ بن كعب
* ترجمته:
هو
أبو المنذر، أو أبو الطفيل، أُبَىّ بن كعب بن قيس، الأنصارى الخزرجى، شهد العقبة
وبدرًا، وهو أول مَن كتب لرسول الله ﷺ مقدمه المدينة، وقد أثنى عليه عمر رضى الله
عنه فقال: «أُبَىّ سيد المسلمين» وقد أُخْتُلِفُ فى وفاته على أقوال كثيرة،
والأكثر على أنه مات فى خلافة عمر بن الخطاب رضى الله عنه.
* *
*مبلغه
من العلم:
كان أُبَىّ بن كعب سيد القُرَّاء، وأحد كُتَّاب الوحى لرسول الله
ﷺ، وقد قال فيه ﷺ: «واقرؤهم أُبَىّ بن كعب»، وليس أدل على جودة حفظه لكتاب الله
تعالى من قراءة النبى ﷺ، فقد أخرج الترمذى بسنده إلى أنس بن مالك رضى الله عنه
أنه قال: «إن النبى ﷺ قال لأُبَىّ بن كعب: إن الله أمرنى أن أقرأ عليك: ﴿لَمْ
يَكُنِ الذين كَفَرُواْ﴾ قال: آلله سمانى لك؟ قال: نعم، فجعل أُبَىّ يبكى».
وفى
رواية أنه قيل لأَبَىّ: وفرحتَ بذلك؟ قال: وما يمنعنى وهو يقول: ﴿قُلْ بِفَضْلِ
الله وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا
يَجْمَعُونَ﴾ [يونس: ٥٨] . وروى الشعبى عن مسروق قال: «كان أصحاب القضاء من أصحاب
رسول الله ﷺ ستة: عمر، وعلىّ، وعبد الله، وأُبَىّ، وزيد، وأبو موسى».
* *
*
مكانته فى التفسير:
كان أُبَىّ بن كعب من أعلم الصحابة بكتاب الله تعالى،
ولعل من أهم عوامل معرفته بمعانى كتاب الله، هو أنه كان حَبْرًا من أحبار اليهود،
العارفين بأسرار الكتب القديمة وما ورد فيها، وكونه من كُتَّاب الوحى لرسول الله
ﷺ وهذا بالضرورة يجعله على مبلغ عظيم من العلم بأسباب النزول ومواضعه، ومُقَدَّم
القرآن ومُؤخره، وناسخه ومنسوخه، ثم لا يُعقل بعد ذلك أن تمر عليه آية من القرآن
يشكل معناها عليه دون أن يسأل عنها رسول الله ﷺ، لهاذ كله عُدّ أُبَىّ بن كعب من
المكثرين فى التفسير، الذين يُعتدَّ بما صح عنهم، ويُعوَّل على تفسيرهم.
*
*
* الرواية عنه فى التفسير ومبلغها من الصحة:
كثرت الرواية عن أُبَىّ
بن كعب فى التفسير وتعدَّدت طرقها، وتتبع العلماء هذه الطرق بالنقد، فعدَّلوا
وجرَّحوا، لأنه كغيره من الصحابة لم يسلم من الوضع عليه - وهذه هى أشهر الطرق
عنه:
١ / ٦٩
أولًا: طريق أبى جعفر الرازى، عن
الربيع بن أنس، عن أبى العالية، عن أُبَىّ رضى الله عنه. وهذه طريق صحيحة، وقد
ورد عن أُبَىّ، نسخة كبيرة فى التفسير، يرويها أبو جعفر الرازى بهذا الإسناد إلى
أُبَىّ، وقد خَرَّج ابن جرير وأبى حاتم منها كثيرًا، وأخرج الحاكم منها أيضًا فى
مستدركه، والإمام أحمد من مسنده.
ثانيًا: طريق وكيع عن سفيان، عن عبد الله
بن محمد بن عقيل، عن الطفيل بن أُبَىّ بن كعب، عن أبيه، وهذه يُخَرِّج منها
الإمام أحمد فى مسنده، وهى على شرط الحسن، لأن عبد الله بن محمد بن عقيل وإن كان
صدوقًا تكلم فيه من جهة حفظه، قال الترمذى فى سننه: «عبد الله بن محمد بن عقيل،
هو صدوق وقد تكلم فيه بعض أهل العلم من قِبَل حفظه، وسمعت محمد بن إسماعيل يقول:
كان أحمد بن حنبل، وإسحاق بن إبراهيم، والحميدى، يحتجون بحديث عبد الله بن محمد
بن عقيل قال محمد - يعنى البخارى -: وهو مقارب الحديث، ونص الحافظ الهيثمى فى
مجمع الزوائد على أن حديثه حسن».
* * *
١ / ٧٠
قيمة التفسير المأثور عن الصحابة
أطلق الحاكم فى المستدرك: أن تفسير الصحابى الذى شهد الوحى، له حكم
المرفوع، فكأنه رواه عن النبى ﷺ، وعزا هذا القول للشيخين حيث يقول فى
المستدرك:»ليعلم طالب الحديث، أن تفسير الصحابى الذى شهد الوحى والتنزيل - عند
الشيخين - حديث مسند«ولكن قيَّد ابن الصلاح، والنووى، وغيرهما، هذا الإطلاق، بما
يرجع إلى أسباب النزول، وما لا مجال للرأى فيه، قال ابن الصلاح فى مقدمته ص
(٢٤):»ما قيل من أن تفسير الصحابى حديث مسند، فإنما ذلك فى تفسير يتعلق بسبب نزول
آية يخبر به الصحابى، أو نحو ذلك مما لا يمكن أن يؤخذ إلا عن النبى ﷺ ولا مدخل
للرأى فيه، كقول جابر رضى الله عنه: كانت اليهود تقول: مَن أتى امرأته من دُبُرها
فى قُبُلها جاء الولد أحول، فأنزل الله ﷿: ﴿نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ﴾ [البقرة:
٢٢٣] ... الآية، فأما سائر تفاسير الصحابة التى لا تشتمل على إضافة شئ إلى الرسول
ﷺ فمعدودة فى الموقوفات«.
ولكنّا نجد الحاكم نفسه قد صرَّح فى»معرفة علوم
الحديث«بما ذهب إليه ابن الصلاح وغيره حيث قال: ومن الموقوفات ما حدثناه أحمد بن
كامل بسنده عن أبى هريرة فى قوله: ﴿لَوَّاحَةٌ لِّلْبَشَرِ﴾ [المدثر: ٢٩] .. قال:
تلقاهم جهنم يوم القيامة فتلفحهم لفحة فلا تترك لحمًا على عظم، قال: فهذا وأشباهه
يُعدَ فى تفسير الصحابة من الموقوفات، فأما ما نقول: إن تفسير الصحابة مسند،
فإنما نقوله فى غير هذا النوع..» ثم أورد حديث جابر فى قصة اليهود وقال: «وفهذا
وأشباهه مسند ليس بموقوف، فإن الصحابى الذى شهد الوحى والتنزيل فأخبر عن آية من
القرآن أنها نزلت فى كذا فإنه حديث مسند».
فالحاكم قيَّد فى «معرفة علوم
الحديث» ما أطلق فى «المستدرك»، فاعتمد الناس ما قيَّد، وتركوا ما أطلق، وعلَّل
السيوطى فى «التدريب» إطلاق الحاكم بأنه كان حريصًا على جمع الصحيح فى «المستدرك»
حتى أورد فيه ما ليس من شرط المرفوع، ثم اعترض بعد ذلك على الحاكم، حيث عَدَّ
الحديث المذكور عن أبى هريرة من الموقوف،
١ / ٧١
وليس
كذلك؛ لأنه يتعلق بذكر الآخرة، وهذا لا مدخل للرأى فيه، فهو من قبيل المرفوع.
وبعد
هذا كله نخلص بهذه النتائج.
أولا: تفسير الصحابى له حكم المرفوع، إذا كان
مما يرجع إلى أسباب النزول، وكل ما ليس للرأى فيه مجال، أما ما يكون للرأى فيه
مجال، فهو موقوف عليه ما دام لم يسنده إلى رسول الله ﷺ.
ثانيًا: ما حُكِمَ
عليه بأنه من قبيل المرفوع لا يجوز رده اتفاقًا، بل يأخذه المفسر ولا يعدل عنه
إلى غيره بأية حال.
ثالثًا: ما حُكِمَ عليه بالوقف، تختلف فيه أنظار
العلماء:
فذهب فريق: إلى أن الموقوف على الصحابى من التفسير لا يجب الأخذ به
لأنه لَمَّا لم يرفعه، عُلِم أنه اجتهد فيه، والمجتهد يُخطئ ويُصيب، والصحابة فى
اجتهادهم كسائر المجتهدين.
وذهب فريق آخر إلى أنه يجب الأخذ به والرجوع
إليه، لظن سماعهم له من رسول الله ﷺ، ولأنهم إن فسَّروا برأيهم فرأيهم أصوب،
لأنهم أدرى الناس بكتاب الله، إذ هم أهل اللسان، ولبركة الصحابة والتخلق بأخلاق
النبوة، ولِمَا شاهدوه من القرائن والأحوال التى اختُصوا بها، ولِمَا لهم من
الفهم التام والعلم الصحيح، لا سيما علماؤهم وكبراؤهم كالأئمة الأربعة، وعبد الله
بن مسعود، وابن عباس وغيرهم.
قال الزركشى فى «البرهان»: «اعلم أن القرآن
قسمان: قسم ورد تفسيره بالنقل، وقسم لم يرد. والأول: إما أن يرد عن النبى ﷺ، أو
الصحابة، أو رؤوس التابعين، فالأول يُبحث فيه عن صحة السند، والثانى يُنظر فى
تفسير الصحابى، فإن فسَّره من حيث اللغة فهم أهل اللسان فلا شك فى اعتماده، أو
بما شاهدوه من الأسباب والقرائن فلا شك فيه».
وقال الحافظ ابن كثير فى مقدمة
تفسيره: «... وحينئذ إذا لم نجد التفسير فى القرآن ولا فى السُّنَّة، رجعنا فى
ذلك إلى أقوال الصحابة، فإنهم أدرى بذلك، لِمَا شاهدوه من القرائن والأحوال التى
اختُصوا بها، ولِمَا لهم من الفهم التامَ، والعلم الصحيح، والعمل الصالح، لا سيما
علماؤهم وكبراؤهم، كالأئمة الأربعة، والخلفاء الراشدين، والأئمة المهتدين
المهديين، وعبد الله بن مسعود رضى الله عنهم».
وهذا الرأى الأخير هو الذى
تميل إليه النفس، ويطمئن إليه القلب لِمَا ذُكر.
* * *
١
/ ٧٢
مميزات التفسير فى هذه المرحلة
يمتاز التفسير فى هذه المرحلة بالمميزات الآتية:
أولًا: لم يُفَسَّر
القرآن جميعه، وإنما فُسِّر بعض منه، وهو ما غمض فهمه وهذا الغموض كان يزداد كلما
بَعُد الناس عن عصر النبى ﷺ والصحابة، فكان التفسير يتزايد تبعًا لتزايد هذا
الغموض، إلى أن تم تفسير آيات القرآن جميعها.
ثانيًا: قِلَّة الاختلاف بينهم
فى فهم معانيه، وسنعرض لهذا الموضوع بتوسع فيما بعد إن شاء الله تعالى.
ثالثًا:
كانوا كثيرًا ما يكتفون بالمعنى الإجمالى، ولا يُلزمون أنفسهم بتفهم معانيه
تفصيلًا، فيكفى أن يفهموا من مثل قوله تعالى: ﴿وَفَاكِهَةً وَأَبًّا﴾ [عبس: ٣١]
.. أنه تعداد لِنعمَ الله تعالى على عباده.
رابعًا: الاقتصار على توضيح
المعنى اللُّغوى الذى فهموه بأخصر لفظ، مثل قولهم: ﴿غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ﴾
[المائدة: ٣] .. أى غير متعرض لمعصية، فإن زادوا على ذلك فمما عرفوه من أسباب
النزول.
خامسًا: ندرة الاستنباط العلمى للأحكام الفقهية من الآيات القرآنية
وعوم وجود الانتصار للمذاهب الدينية بما جاء فى كتاب الله، نظرًا لاتحادهم فى
العقيدة، ولأن الاختلاف المذهبى لم يقم إلا بعد عصر الصحابة رضى الله عنهم.
سادسًا:
لم يُدَّون شيء من التفسير فى هذا العصر، لأن التدوين لم يكن إلا فى القرن
الثانى. نعم أثبت بعض الصحابة بعض التفسير فى مصاحفهم فظنها بعض المتأخرين من
وجوه القرآن التى نزل بها من عند الله تعالى.
سابعًا: اتخذ التفسير فى هذه
المرحلة شكل الحديث، بل كان جزءًا منه وفرعًا من فروعه، ولم يتخذ التفسير له
شكلًا منظمًا، بل كانت هذه التفسيرات تُروى منثورة لآيات متفرقة، كما كان الشأن
فى رواية الحديث، فحديث صلاة بجانب حديث جهاد، بجانب حديث ميراث، بجانب حديث فى
تفسير آية ... وهكذا.
وليس المعترض أن يعترض علينا بتفسير ابن عباس، فإنه لا
تصح نسبته إليه، بل جمعه الفيروزآبادى ونسبة إليه، معتمدًا فى ذلك على رواية
واهية، هي رواية محمد بن مروان السدى، عن الكلبى، عن أبى صالح، عن ابن عباس وهذه
هي سلسلة الكذب كما قيل.
* * *
١ / ٧٣
الباب الثانى: المرحلة الثانية للتفسير أو التفسير فى عصر التابعين
١ / ٧٥
ابتداء هذه المرحلة
تنتهى المرحلة الأولى للتفسير بانصرام عهد الصحابة، وتبدأ المرحلة
الثانية للتفسير من عصر التابعين الذين تتلمذوا للصحابة فتلقوا غالب معلوماتهم
عنه.
وكما اشتهر بعض أعلام الصحابة بالتفسير والرجوع إليهم فى استجلاء بعض
ما خفى من كتاب الله، اشتهر أيضًا بالتفسير أعلام من التابعين، تكلَّموا فى
التفسير، ووضَّحوا لمعاصريهم خفى معانيه.
* *
مصادر التفسير فى هذا العصر
وقد اعتمد هؤلاء المفسِّرون فى فهمهم لكتاب الله تعالى على ما جاء
فى الكتاب نفسه، وعلى ما رووه عن الصحابة عن رسول الله ﷺ، وعلى ما رووه عن
الصحابة من تفسيرهم أنفسهم، وعلى ما أخذوه من أهل الكتاب مما جاء فى كتبهم، وعلى
ما يفتح الله به عليهم من طريق الاجتهاد والنظر فى كتاب الله تعالى.
وقد روت
لنا كتب التفسير كثيرًا من أقوال هؤلاء التابعين فى التفسير، قالوها بطريق الرأى
والاجتهاد، ولم يصل إلى علمهم شئ فيها عن رسول الله ﷺ، أو عن أحد من الصحابة.
وقد
قلنا فيما سبق: إن ما نُقِل عن الرسول ﷺ وعن الصحابة من التفسير لم يتناول جميع
آيات القرآن، وإنما فسَّروا ما غمض فهمه على معاصريهم، ثم تزايد هذا الغموض - على
تدرج - كلما بَعُد الناس عن عصر النبى ﷺ والصحابة، فاحتاج المشتغلون بالتفسير من
التابعين إلى أن يكملوا بعض هذا النقص، فزادوا فى التفسير بمقدار ما زاد من غموض،
ثم جاء مَن بعدهم فأتموا تفسير القرآن تباعًا، معتمدين على ما عرفوه من لغة العرب
ومناحيهم فى القول، وعلى ما صح لديهم من الأحداث التى حدثت فى عصر نزول القرآن
... وغير هذا من أدوات الفهم ووسائل البحث.
* *
مدارس التفسير التى قامت فيه
* مدارس التفسير فى عصر التابعين:
فتح الله على المسلمين
كثيرًا من بلاد العالَم فى حياة رسول الله ﷺ، وفى عهود الخلفاء من بعده، ولم
يستقروا جميعًا فى بلد واحد من بلاد المسلمين، بل نأى الكثير منهم عن المدينة
مشرق النور الإسلامى ثم استقر بهم النوى، موزَّعين على جميع البلاد التى دخلها
الإسلام، وكان منهم الولاة، ومنهم الوزراء، ومنهم القضاة، ومنهم المعلِّمون،
ومنهم غير ذلك.
١ / ٧٦
وقد حمل هؤلاء معهم
إلى هذه البلاد التى رحلوا إليها، ما وعوه من العلم، وما حفظوه عن رسول الله ﷺ،
فجلس إليهم كثير من التابعين يأخذون العلم عنهم، وينقلونه لمن بعدهم، فقامت فى
هذه الأمصار المختلفة مدارس علمية، أساتذتها الصحابة، وتلاميذها التابعون.
واشتهر
بعض هذه المدارس بالتفسير، وتتلمذ فيها كثير من التابعين لمشاهير المفسِّرين من
الصحابة، فقامت مدرسة للتفسير بمكة، وأخرى بالمدينة، وثالثة بالعراق، وهذه
المدارس الثلاث، هى أشهر مدارس التفسير فى الأمصار فى هذا العهد.
قال ابن
تيمية: «وأما التفسير فأعلم الناس به أهل مكة، لأنهم أصحاب ابن عباس كمجاهد،
وعطاء بن أبى رباح، وعكرمة مولى ابن عباس، وغيرهم من أصحاب ابن عباس، كطاووس،
وأبى الشعثاء، وسعيد بن جبير، وأمثالهم. وكذلك أهل الكوفة من أصحاب ابن مسعود،
ومن ذلك ما تميزَّوا به عن غيرهم، وعلماء أهل المدينة فى التفسير، مثل زيد بن
أسلم، الذى أخذ عنه مالك التفسير، وأخذ عنه أيضًا ابنه عبد الرحمن، وعبد الله بن
وهب».
وأرى أن أتكلم عن كل مدرسة من هذه المدارس الثلاث، وعن أشهر
المفسِّرين من التابعين الذين أخذوا التفسير عن أساتذة هذه المدارس من الصحابة،
فأقول وبالله التوفيق:
أولًا: مدرسة التفسير بمكة
* قيامها على ابن
عباس:
قامت مدرسة التفسير بمكة على عبد الله بن عباس رضى الله عنهما، فكان
يجلس لأصحابه من التابعين، يُفسِّر لهم كتاب الله تعالى، ويوضح لهم ما أشكل من
معانيه، وكان تلاميذه يعون عنه ما يقول، ويروون لمن بعدهم ما سمعوه منه.
*
*
* أشهر رجالها:
وقد اشتهر من تلاميذ ابن عباس بمكة: سعيد بن جبير،
ومجاهد، وعكرمة مولى ابن عباس، وطاووس بن كيسان اليمانى، وعطاء بن أبى رباح.
وهؤلاء
كلهم كانوا من الموالى، وهم يختلفون فى الرواية عن ابن عباس قِلَّة وكثرة، كما
اختلف العلاء فى مقدار الثقة بهم والركون إليهم.
ونسوق الحديث عن كل واحد
منهم، ليتضح لنا مكانته فى التفسير، ومقدار الاعتماد عليه فيه:
١
/ ٧٧
١- سعيد بن جبير
* ترجمته:
هو أبو محمد - أو
أبو عبد الله - سعيد بن جبير بن هشام الأسدى الوالبى، مولاهم. كان حبشى الأصل،
أسود اللون، أبيض الخصال. سمع جماعة من أئمة الصحابة. وروى عن ابن عباس، وابن
مسعود، وغيرهما.
* مكانته فى التفسير:
كان ﵀ من كبار التابعين
ومتقدميهم فى التفسير والحديث والفقه، أخذ القراءة عن ابن عباس عرضًا، وسمع منه
التفسير، وأكثر روايته عنه وقد جمع سعيد القراءات الثابتة عن الصحابة وكان يقرأ
بها، يدلنا على ذلك ما جاء عن إسماعيل بن عبد الملك أنه قال: «كان سعيد بن جبير
يؤمنا فى شهر رمضان فيقرأ ليلة بقراءة عبد الله بن مسعود، وليلة بقراءة زيد بن
ثابت، وليلة بقراءة غيره، وهكذا أبدًا»، ولا شك أن جمعه لهذه القراءات كان يعطيه
القدرة على التوسع فى معرفة معانى القرآن وأسراره، ولكن يظهر لنا أنه كان يتورع
من القول فى التفسير برأيه، يدلنا على ذلك ما رواه ابن خلكان: من أن رجلًا سأل
سعيدًا أن يكتب له تفسير القرآن فغضب وقال: لأن يسقط شقِّى أحب إلىَّ من ذلك.
ولقد جمع سعيد علم أصحابه من التابعين، وأَلمَّ بما عندهم من النواحى التى برزوا
فيها، فقد قال خصيف: «كان من أعلم التابعين بالطلاق سعيد بن المسيب. وبالحج عطاء،
وبالحلال والحرام طاوووس، وبالتفسير أبو الحجاج مجاهد بن جبر، وأجمعهم لذلك كله
سعيد بن جبير».
لهذا كله نجد أستاذه ابن عباس يثق بعلمه، ويحيل عليه مَن
يستفتيه، وكان يقول لأهل الكوفة إذا أتوه ليسألوه عن شئ: أليس فيكم ابن أم
الدهماء؟ - يعنى سعيد بن جبير - ويروى عمرو بن ميمون عن أبيه أنه قال: لقد مات
سعيد بن جبير وما على ظهر الأرض أحد إلا وهو محتاج إلى علمه. ويرى بعض العلماء
أنه مُقدَّم على مجاهد وطاووس فى العلم، وكان قتادة يرى أنه أعلم التابعين
بالتفسير.
هذا وقد وَثَّقَ علماء الجرح والتعديل سعيد بن جبير، فقال أبو
القاسم الطبرى: هو ثقة، حُجَّة، إمام على المسلمين. وذكره ابن حبان فى الثقات
وقال: كان عبدًا فاضلًا ورعًا. وهو مُجْمَع عليه من أصحاب الكتب الستة.
وقد
قُتل فى شعبان سنة ٩٥ هـ (خمس وتسعين من الهجرة)، وهو ابن تسع
١
/ ٧٨
وأربعين سنة، قال أبو الشيخ: قتله الحجاج صبرًا. وله
مناظرة قبل قتله مع الحجاج، تدل على قوة يقينه، وثبات إيمانه، وثقته بالله، فرضى
الله عنه وأرضاه.
* * *
٢- مجاهد بن جبر
* ترجمته:
هو مجاهد
بن جبر، المكى، المقرئ، المفسِّر، أبو الحجاج المخزومى، مولى السائب بن أبى
السائب. كان أحد الأعلام الأثبات. ولد سنة ٢١ هـ (إحدى وعشرين من الهجرة) فى
خلافة عمر بن الخطاب. وكانت وفاته بمكة وهو ساجد، سنة ١٠٤ هـ (أربع ومائة) على
الأشهر، وعمره ثلاث وثمانون سنة.
* *
* مكانته فى التفسير:
كان
مجاهد ﵀ أقل أصحاب ابن عباس رواية عنه فى التفسير، وكان أوثقهم، لهذا اعتمد على
تفسيره الشافعى والبخارى وغيرهما، ونجد البخارى رضى الله عنه فى كتاب التفسير من
الجامع الصحيح، ينقل لنا كثيرًا من التفسير عن مجاهد، وهذه أكبر شهادة من البخارى
على ثقته وعدالته، واعتراف منه بمبلغ فهمه لكتاب الله تعالى، وقد روى الفضل ابن
ميمون أنه سمع مجاهدًا يقول: عرضت القرآن على ابن عباس ثلاثين مرة. وروى عنه
أيضًا أنه قال: عرضت القرآن على ابن عباس ثلاث عرضات، أقف عند كل آية، أساله فيم
نزلت، وكيف كانت؟ ولا تعارض بين هاتين الروايتين، لأن الإخبار بالقليل لا ينافى
الإخبار بالكثير، ولعله عرض القرآن على ابن عباس ثلاثين مرة لتمام الضبط، ودقة
التجويد، وحُسْن الأداء، وعرضه بعد ذلك ثلاث مرات طلبًا لتفسيره، ومعرفة ما دق من
أسراره، وخفى من معانيه. كما تُشعر بذلك ألفاظ الرواية. وعن ابن أبى مليكة قال:
رأيت مجاهدًا سأل ابن عباس عن تفسير القرآن ومعه ألواحه، فقال ابن عباس: اكتب،
حتى سأله عن التفسير كله. وروى عبد السلام بن حرب عن مصعب قال: كان أعلمهم
بالتفسير مجاهد، وبالحج عطاء. وقال قتادة: أعلم مَن بقى بالتفسير مجاهد. وقال ابن
سعد: كان ثقة، فقيهًا، عالمًا، كثير الحديث. وقال ابن حبان: كان فقيهًا، ورعًا،
عابدًا، متقنًا. وأخرج ابن جرير فى تفسيره عن أبى بكر الحنفى قال: سمعت سفيان
الثورى يقول: إذا جاءك التفسير عن مجاهد فحسبك به. وكان ﵀ جيد الحفظ، وقد حدَّث
بهذا عن نفسه
١ / ٧٩
فقال: قال لى ابن عمر:
وددتُ أن نافعًا يحفظ حفظك. وقال الذهبى فى الميزان، فى آخر ترجمة مجاهد: أجمعت
الأُمة على إمامة مجاهد والاحتجاج به. وقد أخرج له أصحاب الكتب الستة.
كل
هذه شهادات من العلماء النُقَّاد تشهد بعلو مكانته فى التفسير.
ولكن مع هذا
كله، كان بعض العلماء لا يأخذ بتفسيره، فقد روى الذهبى فى ميزانه: أن أبا بكر بن
عياش قال: قلت للأعمش: ما بال تفسير مجاهد مخالف؟ أو ما بالهم يَتَّقون تفسير
مجاهد؟ - كما هى رواية ابن سعد - قال: كانوا يرون أنه يسأل أهل الكتاب.
هذا
هو كل ما أُخِذ على تفسيره ولكن لم نر أحدًا طعن عليه فى صدقه وعدالته. وجملة
القوَل فإن مجاهدًا ثقة بلا مدافعة، وإن صح أنه كان يسأل أهل الكتاب فما أظن أنه
تخطى حدود ما يجوز له من ذلك، لا سيما وهو تلميذ حَبْر الأُمة ابن عباس. الذى
شدَد النكير على مَن يأخذ عن أهل الكتاب ويُصَدِّقهم فيما يقولونه مما يدخل تحت
حدود النهى الوارد عن رسول الله ﷺ.
* *
* مجاهد والتفسير العقلى:
وكان
مجاهد - رضى الله عنه - يعطى عقله حرية واسعة فى فهم بعض نصوص القرآن التى يبدو
ظاهرها بعيدًا، فإذا ما مَرَّ بنص قرآنى من هذا القبيل، وجدناه ينزله بكل صراحة
ووضوح على التشبيه والتمثيل، وتلك الخطة كانت فيما بعد مبدءًا معترفًا به ومقررًا
لدى المعتزلة فى تفسير القرآن بالنسبة لمثل هذه النصوص.
وإذا نحن رجعنا إلى
تفسير ابن جرير وقرأنا بعض ما جاء فيه عن مجاهد نجده يطبق هذا المبدأ عمليًا فى
مواضع كثيرة.
فمثلًا عند تفسيره لقوله تعالى فى الآية [٦٥] من سورة البقرة:
﴿وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الذين اعتدوا مِنْكُمْ فِي السبت فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ
قِرَدَةً خَاسِئِينَ﴾ نجده يقولَ - كما يروى عنه ابن جرير -: «مُسِخَت قلوبهم ولم
يُمسَخوا قردة، وإنما هو مَثَلٌ ضربه الله لهم كمثل الحمار يحمل أسفارًا». ولكن
نجد ابن جرير لا يرتضى هذا التفسير من مجاهد فيقول معقبًا عليه: وهذا القول الذى
قاله مجاهد قول لظاهر ما دلَّ عليه كتاب الله مخالف.. ثم يمضى فى تفنيد هذا القول
بأدلة واضحة قوية.
وكذلك نجد ابن جرير ينقل عن مجاهد أنه فسَّر قوله تعالى
فى الآيتين [٢٢، ٢٣] من سورة القيامة: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ * إلى
رَبِّهَا نَاظِرَةٌ﴾ .. بقوله: "تنتظر الثواب
١ / ٨٠
من
ربها، لا يراه من خلَقه شئ» وهذا التفسير عن مجاهد كان فيما بعد متكئًا قويًا
للمعتزلة فيما ذهبوا إليه فى مسألة رؤية الله تعالى.
ولعل مثل هذا المسلك من
مجاهد، هو الذى جعل بعض المتورعين الذين كانوا يتحرجون من القول فى القرآن برأيهم
يتقون تفسيره، ويلومونه على قوله فى القرآن بمثل هذه الحرية الواسعة فى الرأى،
فقد روى عن ابن مجاهد أنه قال: قال رجل لأبى: أنت الذى تفسِّر القرآن برأيك؟ فبكى
أبى ثم قال: إنى إذن لجرئ، لقد حملت التفسير عن بضعة عشر رجلًا من أصحاب النبى ﷺ
ورضى عنهم.
ومهما يكن من شئ، فمجاهد رضى الله عنه إمام فى التفسير غير
مدافع، وليس فى إعطائه لنفسه مثل هذه الحرية ما يغض من قيمته. أو يقلل من
مكانته.
* * *
٣- عِكرمة
*ترجمته:
هو أبو عبد الله عِكرمة
البربرى المدنى مولى ابن عباس (أصله من البربر بالمغرب) روى عن مولاه، وعلىّ بن
أبى طالب، وأبى هريرة، وغيرهم.
* *
* اختلاف العلماء فى توثيقه:
وقد
اختلف العلماء فى توثيقه، فكان منهم مَن لا يثق به ولا يروى له، وكان منهم من
يُوثَقِّه ويروى له.
* *
*مطاعن مَن لا يُوَثِّقونه:
وإنَّا لنجد
العلماء الذين لم يثقوا بعكرمة، يصفونه بالجرأة على العلم ويقولون: إنه كان
يَدَّعى معرفة كل شئ من القرآن، ويزيدون على ذلك فيتهمونه بالكذب على مولاه ابن
عباس، وبعده هذا كله، يتهمونه بأنه كان يرى رأى الخوارج، ويزعم أن مولاه كان
كذلك، وقد نقل ابن حجر فى «تهذيب التهذيب» كل هذه التهم ونسبها لقائليها، فمن
ذلك: ما رواه شعبة عن عمرو بن مرة قال: سأل رجل ابن المسيب عن آية من القرآن،
فقال: لا تسألنى عن القرآن، وسل مَن يزعم أنه لا يخفى عليه منه شئ - يعنى عِكرمة.
وحكى إبراهيم بن ميسرة أن طاووسًا قال: لو أن مولى ابن عباس اتقى الله وكف من
حديثه لشُدَّت إليه المطايا، وروى أبو خلف الجزار عن يحيى البكَّاء قال: سمعت ابن
عمر يقول لنافع: اتق الله.. ويحك يا نافع، ولا تكذب علىّ كما كذب
١
/ ٨١
عِكرمة على ابن عباس. ورُوى أن سعيد بن المسيب قال مثل
ذلك لمولاه، وروى ابن سعد: أن علىّ بن عبد الله كان يُوِثْقُه على باب الكنيف
ويقول: إن هذا يكذب على أبى.
ثم بعد ذلك كله يُصوِّرون للناس مبلغ كراهة
معاصريه له فيقولون: إنه مات هو وكثير عزة فى يوم واحد، فلم يشهد جنازته أحد، أما
كثير فقد شيَّعه خلق كثير..
* *
* تفنيد هذه المطاعن ودفاع عِكرمة عن
نفسه:
هذا الذى تقدَّم هو بعض الروايات التى رواها مَن لا يثق بعدالة
عِكرمة، وكلها تهم باطلة لا تقوم على أساس، فعِكرمة مولى ابن عباس، كان يلازمه
ويخالطه، فلا يضيره كثرة الرواية عنه لأن هذا أمر طبيعى، ولا يمكن أن يُعَد
افتراءً على العلم وافتياتًا على الرواية، لأن كثرة الرواية ليست من المطاعن التى
تُوجَّه إلى الراوى وتُذْهِب بعدالته، فهذا أبو هريرة قال الناس عنه فى عصره،
أكثرَ أبو هريرة، فبيَّن لهم سبب إكثاره من الرواية عن رسول الله ﷺ، وهو أنه كان
يلازم النبى على ملء بطنه، ولا شئ يشغله كما شغل غيره من الصحابة بالصفق فى
الأسواق، فهل ذهبت عدالة أبى هريرة وفقدنا الثقة به لكثرة روايته؟ اللَّهم لا.
ثم
إن هذا الاتهام لم يخف على عِكرمة، بل كان يبلغه عن متهميه فيود لو أنه ووُجِهَ
به ليُفَنِّده، فقد روى حَماد بن زيد عن أيوب أنه قال: قال عِكرمة: رأيت هؤلاء
الذين يكذبوننى، يكذبوننى من خلفى، أفلا يُكذبوننى فى وجهى؟ فإذا كذبَّونى فى
وجهى فقد والله كَذَّبونى.. ثم نراه يستشهد ببعض أصحابه على صدقه فيما يروى عن
مولاه، فعن عثمان بن حكيم قال: كنت جالسًا مع أبى أُمامة سهل بن حنيف، إذ جاء
عكرمة فقال: يا أبا أمامة، أُذكِّركَ الله، هل سمعت ابن عباس يقول: ما حدَّثكم
عكرمة عنى فصدِّقوه فإنه لم يكذب علىَّ؟ فقال أبو أمامة: نعم.
هذا هو رد
عِكرمة على متهميه بالكذب وتفنيده لما نُسب إليه من الافتراء على مولاه.
وأما
ما رواه ابن سعد: من أن علىّ بن عبد الله بن عباس كان يُوْثِقه على باب الكنيف
ويقول: إن هذا يكذب على أبى، فإنه مردود بما رواه ابن حجر فى تهذيب التهذيب: من
أن ابن عباس مات وعِكرمة على الرق، فباعه ولده علىّ بن عبد الله بن عباس، من خالد
بن يزيد بن معاوية، بأربعة آلاف دينار، فأتى عِكرمة مولاه عليًا فقال له: ما خير
لك، بعتَ علم أبيك بأربعة آلاف؟ فاستقاله فأقاله فأعتقه».
ثم نجد بعد هذا أن
ما روى عن ابن عمر لا يصح، لأنه من رواية يحيى البكَّاء، ويحيى البكَّاء متروك
الحديث، ومن المحال أن يُجرَّح العَدْل بكلام المجروح.
١ /
٨٢
وأما ما قيل من أنه توفى هو وكثير الشاعر فى يوم واحد فلم
يشهد أحد جنازته، بخلاف كثير فقد شيَّعه الكثير من الناس، فلسنا نعلم نصيب هذا
القول من الصحة، ولعل ذلك على فرض صحته - كما يقول ابن حجر - كان بسبب تطلب
الأمير له وتغيبه عنه حتى مات. وليس صحيحًا ما قيل من أن هذا يرجع إلى تحقير
المولى إزاء تشريف الحر.
ويحقق ابن حجر بعد هذا: أن ما نُقل من أنهم شهدوا
جنازة كثير وتركوا عكرمة، لم يثبت، لأن ناقله لم يُسَم.
وأما ما رُمى به من
الميل للخوراج، فافتراء عليه، ولا يكاد يتفق مع سلوكه فى حياته، قال ابن حجر:
«فأما البدعة، فإن ثبتت عليه فلا تضر حديثه، لأنه لم يكن داعية، مع أنها لم تثبت
عليه».
* *
* شهادات الموَثِّقين له:
ولو أننا تتبعنا أقوال
المنصفين، الذين عرفوا حقيقة هذا التابعى الجليل، لوجدناه رجلًا ثبتًا، لا يُتهم
فى عدالته، وكل ما قيل فى شأنه من التهم لا يُراد به إلا أن يفقد الناس ثقتهم به
وركونهم إليه. وإليك ما قاله بعض علماء الجرح والتعديل لتقف على عدالة الرجل وصدق
روايته..
قال المرزوى: قلت لأحمد: يُحتج بحديث عِكرمة؟ فقال. نعم يُحتج به.
وقال ابن معين: إذا رأيت إنسانًا فى عِكرمة، وفى حماد بن سلمة، فاتهمه على
الإسلام. وقال العجلى فيه: مكى تابعى ثقة، برئ مما يرميه به الناس من الحرورية.
وقال البخارى: ليس أحد من أصحابنا إلا وهو يحتج بعكِرمة. وقد وَثَّقه النسائى
وأخرج له فى كتابه السنن، كما أخرج له البخارى، ومسلم، وأبو داود، وغيرهم، وكان
مسلم بن الحجاج من أسوئهم رأيًا فيه، ثم عدله بعد ما جَرَّحه. وقال المروزى: أجمع
عامة أهل العلم بالحديث على الاحتجاج بحديث عِكرمة، واتفق على ذلك رؤساء أهل
الحديث من أهل عصرنا، منهم أحمد بن حنبل، وابن راهويه، ويحيى ابن معين، وأبو ثور،
ولقد سألت إسحاق بن راهويه عن الاحتجاج بحديثه فقال: عِكرمة عندنا إمام الدنيا -
تَعَجَّبَ من سؤالى إياه!
وبعد ... فهل هناك من يُقَدَّم على البخارى ومسلم
وجميع مَن ذكرت من علماء الرواية فى باب التعديل والتجريح؟، وإذا كان هؤلاء هم
أعلم الناس بالرجال، فهل تقبل تجريح من عداهم ونترك توثيقهم؟
١
/ ٨٣
الحق أن عِكرمة تابعى موثوق بعدالته ودينه، وكل ما رُمِىَ
به كذب واختلاق!!
* *
* مبلغه من العلم ومكانته فى التفسير:
هذا
وإن عِكرمة رضى الله عنه، كان على مبلغ عظيم من العلم، وعلى مكانة عالية من
التفسير خاصة، وقد شهد له العلماء بذلك، فقال ابن حبان: كان من علماء زمانه
بالفقه والقرآن. وقال: عمرو بن دينار: دفع إلىّ جابر ابن زيد مسائل أسأل عنها
عِكرمة وجعل يقول: هذا عِكرمة مولى ابن عباس، هذا البحر فسلوه. وكان الشعبى يقول:
ما بقى أحد أعلم بكتاب الله من عكرمة. وقال حبيب بن أبى ثابت: اجتمع عندى خمسة:
طاووس، ومجاهد، وسعيد بن جبير، وعِكرمة، وعطاء، فأقبل مجاهد وسعيد بن جبير يلقيان
على عِكرمة التفسير، فلم يسألاه عن آية إلا فسَّرها لهما، فلما نفد ما عندهما جعل
يقول: أُنزلت آية كذا فى كذا، وأُنزلت آية كذا فى كذا. وقال يحيى بن أيوب المصرى:
سألنى ابن جريج: هل كتبتم عن عِكرمة؟ فقلت: لا، قال: فاتكم ثلثا العلم.
هذا
بعض ما قيل فى عكرمة، مما يشهد لمكانته فى العلم عامة، وفى التفسير خاصة، ولا
عجب، فإن ملازمته لمولاه ابن عباس، ومبالغه مولاه فى تعليمه إلى درجة أنه ان يضع
فى رجله الكبل، ويعلمه القرآن والسنن، جعلته ينهل من معينه الفيَّاض، ويأخذ عنه
علمه الغزير، بل نجد أكثر من هذا فيما يرويه ابن حجر فى تهذيب التهذيب، من أن
عكرمة بيَّن لابن عباس بعض ما أشكل عليه من القرآن، قال: روى داود بن أبى هند عن
عكرمة قال: قرأ ابن عباس هذه الآية: ﴿لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا الله مُهْلِكُهُمْ
أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا﴾ [الأعراف: ١٦٤] ..، قال ابن عباس: لم أدر
أنجا القوم أم هلكوا؟ قال: فمَا زلت أُبيِّن له حتى عرف أنهم نجوا فكسانى
حُلَّة»، وهذا الخبر يدل على مبلغ ثقة ابن عباس بمولاه وتلميذه، وعلى مقدار
إعجابه بعلمه، وتقديره لفهمه.
وجملة القول: فإن عكرمة أمين فى روايته،
مُقدَّم فى علمه، مبرز فى فهمه لكتاب الله ... وكيف لا يكون كذلك وهو وارث علم
ابن عباس؟
توفى ﵀ سنة ١٠٤ هـ (أربع ومائة من الهجرة)، فرضى الله عنه
وأرضاه.
* * *
١ / ٨٤
٤- طاووس بن كيسان
اليمانى
* ترجمته ومكانته فى التفسير:
هو أبو عبد الرحمن طاووس بن
كيسان، اليمانى الحميرى الجندى مولى بحير بن ريسان، وقيل مولى همدان. وروى عن
العبادلة الأربعة وغيرهم، ورُوِى عنه أنه قال: جالست خمسين من الصحابة. وكان ﵀
عالمًا متقنًا، خبيرًا بمعانى كتاب الله تعالى، ويرجع ذلك إلى مجالسته لكثير من
الصحابة يأخذ عنهم ويروى لهم، ولكن نجده يجلس إلى ابن عباس أكثر من جلوسه لغيره
من الصحابة، ويأخذ عنه فى التفسير أكثر مما يأخذ عن غيره منهم، ولهذا عددناه من
تلاميذ ابن عباس، وذكرناه فى رجال مدرسته بمكة.
ولقد كان طاووس على جانب
عظيم من الورع والأمانة، حتى شهد له بذلك أستاذه ابن عباس فقال فيه: إنى لأظن
طاووسًا من أهل الجنة، وقال فيه عمرو بن دينار: ما رأيت أحدًا مثل طاووس. وقد
أخرج له أصحاب الكتب الستة. وقال ابن معين: إنه ثقة. وقال ابن حيان: كان من
عُبَّاد أهل اليمن ومن سادات التابعين، وكان مستجاب الدعوة، وحج أربعين حجة. وقال
الذهبى: كان طاووس شيخ أهل اليمن، وكان كثير الحج فاتفق موته بمكة سنة ١٠٦ (ست
ومائة من الهجرة) .
* * *
٥- عطاء بن أبى رباح
* ترجمته:
هو
أبو محمد عطاء بن أبى رباح، المكى القرشى مولاهم، ولد سنة سبع وعشرين (٢٧هـ)،
وتوفى سنة أربع عشرة ومائة من الهجرة (١١٤هـ) على أرجح الأقوال. كان ﵀ أسود،
أعور، أفطس، أشل، أعرج، ثم عمى بعد ذلك.
روى عن ابن عباس، وابن عمر، وابن
عمرو بن العاص، وغيرهم. وحدًَّث عن نفسه: أنه أدرك مائتين من الصحابة، وكان ثقة،
فقيها، عالمًا، كثير الحديث. وانتهت إليه فتوى أهل مكة، وكان ابن عباس يقول لأهل
مكة إذا جلسوا إليه: تجتمعون إلىَّ يا أهل مكة وعندكم عطاء؟. وقال فيه أبو حنيفة:
ما رأيت فيمن لقيت أفضل من عطاء، ولا لقيت فيمن لقيت أكذب من جابر الجعفى. وقال
الأوزاعى: مات عطاء يوم مات وهو أرضى أهل الأرض عند الناس. وقال سلمة بن كهيل: ما
رأيت أحدًا يريد بهذا العلم وجه الله إلا ثلاثة: عطاء، ومجاهد، وطاووس. وقال ابن
حبان: كان من سادات التابعين فقهًا، وعلمًا، وورعًا، وفضلًا. وهو عند أصحاب الكتب
الستة.
* *
*
١ / ٨٥
مكانته فى
التفسير:
كل ما تقدم من أقوال العلماء فى عطاء يشهد لمكانته العلمية على وجه
العموم ويدل على مبلغ ثقته وصدقه، وليس أدل على ذلك من شهادة أستاذه ابن عباس له
بذلك، ونجد شهرة عطاء على غيره من أصحاب ابن عباس، تتجلى فى معرفته بمناسك الحج،
ولهذا قال قتادة: كان أعلم التابعين أربعة: كان عطاء بن أبى رباح أعلمهم
بالمناسك، وكان سعيد بن جبير أعلمهم بالتفسير. وكان عكرِمة أعلمهم بالسير، وكان
الحسن أعلمهم بالحلال والحرام. وإذا نحن تتبعنا الرواة عن ابن عباس نجد أن عطاء
بن أبى رباح لم يُكثر من الرواية عنه كما أكثر غيره، ونجد مجاهدًا وسعيد بن جبير
يسبقانه من ناحية العلم بتفسير كتاب الله، ولكن هذا لا يقلل من قيمته بين علماء
التفسير، ولعل إقلاله فى التفسير يرجع إلى تحرجه من القول بالرأى، فقد قال عبد
العزيز بن رفيع: سئل عطاء عن مسألة فقال: لا أدرى، فقيل له: ألا تقول فيها برأيك؟
قال: إنى أستحى من الله يُدَانَ فى الأرض برأيى.
* * *
ثانيًا: مدرسة
التفسير بالمدينة
*قيامها على أُبَىّ بن كعب:
كان بالمدينة كثير من
الصحابة، أقاموا بها ولم يتحوَّلوا عنها كما تحوَّل كثير منهم إلى غيرها من بلاد
المسلمين، فجلسوا لأتباعهم يعلمونهم كتاب الله تعالى وسُنَّة رسوله ﷺ، فقامت
بالمدينة مدرسة للتفسير، تتلمذ فيها كثير من التابعين لمشاهير المفسِّرين من
الصحابة. ونستطيع أن نقول: إن قيام هذه المدرسة كان على أُبَى بن كعب، الذي
يُعتبر بحق أشهر مَن تتلمذ له مفسِّرو التابعين بالمدينة، وذلك لشهرته أكثر من
غيره فى التفسير، وكثرة ما نُقل لنا عنه فى ذلك.
* *
* أشهر رجالها:
وقد
وُجِد بالمدينة فى هذا الوقت كثير من التابعين المعروفين بالتفسير، اشتهر من
بينهم ثلاثة، هم: زيد بن أسلم، وأبو العالية، ومحمد بن كعب القرظى. وهؤلاء منهم
مَن أخذ عن أُبَىّ مباشرة، ومنهم مَن أخذ عنه بالواسطة.
وأرى أن أسوق نبذة
عن تاريخ كل واحد من هؤلاء الثلاثة، بما يتناسب مع جانبه العلمى فى التفسير
فأقول:
١- أبو العالية
* ترجمته ومكانته فى التفسير:
هو أبو
العالية رفيع بن مهران الرياحى مولاهم، أدرك الجاهلية، وأسلم بعد وفاة النبى ﷺ
بسنتين. روى عن علىّ، وابن مسعود، وابن عباس. وابن عمر، وأُبَىّ
١
/ ٨٦
بن كعب، وغيرهم، وهو من ثقات التابعين المشهورين
بالتفسير. قال فيه ابن معين، وأبو زرعة، وأبو حاتم: ثقة. وقال اللالكائى: مجمع
على ثقته. وقال فيه العجلى: تابعى ثقة. من كبار التابعين. وقد أجمع عليه أصحاب
الكتب الستة. وكان يحفظ القرآن ويتقنه، وروى قتادة عنه أنه قال: قرأت القرآن بعد
وفاة نبيكم بعشر سنين. وروى معمر عن هشام عن حفصة عنه أنه قال: قرأت القرآن على
عهد عمر ثلاث مرات. وقال فيه ابن أبى داود: ليس أحد بعد الصحابة أعلم بالقراءة من
أبى العالية.
وتُروى عن أُبَىّ بن كعب نسخة كبيرة فى التفسير، يرويها أبو
جعفر الرازى، عن الربيع بن أنس، عن أبى العالية، عن أُبَىّ. وقلنا فيما تقدم: إن
هذا الإسناد صحيح، وقلنا أيضًا: إن ابن جرير وابن أبى حاتم أخرجا من هذه النسخة
كثيرًا، كما أخرج منها الحاكم فى مستدركه، والإمام أحمد فى مسنده. وكانت وفاته
سنة ٩٠ هـ (تسعين من الهجرة) على أرجح الأقوال فى ذلك.
* * *
٢- محمد
بن كعب القرظى
* ترجمته ومكانته فى التفسير:
هو أبو حمزة - أو أبو عبد
الله - محمد بن كعب بن سليم بن أسد القرظى المدنى، من حلفاء الأوس. روى عن علىّ،
وابن مسعود، وابن عباس، وغيرهم. وروى عن أُبَىّ بن كعب بالواسطة. وقد اشتهر
بالثقة، والعدالة، والورع، وكثرة الحديث، وتأويل القرآن. قال ابن سعد: كان ثقة،
عالمًا، كثير الحديث، ورعًا. وقال العجلى: مدنى وتابعى، ثقة، رجل صالح. عالم
بالقرآن. وهو عند أصحاب الكتب الستة. وقال ابن عون: ما رأيت أحدًا أعلم بتأويل
القرآن من القرظى. وقال ابن حبان: كان من أفاضل أهل المدينة علمًا وفقهًا، وكان
يقص فى المسجد فسقط عليه وعلى أصحابه سقف فمات هو وجماعة معه تحت الهدم، سنة ١١٨
هـ (ثمانى عشرة ومائة من الهجرة)، وقيل غير ذلك، وهو ابن ثمان وسبعين سنة.
*
* *
٣- زيد بن أسلم
* ترجمته ومكانته فى التفسير:
هو أبو أسامة -
أو أبو عبد الله - زيد بن أسلم، العدوى المدنى الفقيه المفسِّر، مولى عمر بن
الخطاب رضى الله عنه. كان من كبار التابعين الذين عُرفوا بالقول فى التفسير
والثقة فيما يروونه، قال فيه الإمام أحمد، وأبو زرعة، وأبو حاتم، والنسائى:
ثقة.
١ / ٨٧
ويكفينا شهادة هؤلاء الأربعة
الأعلام دليلًا قويًا على ثقته وعدالته، كما أنه عند أصحاب الكتب الستة.
ولقد
كان زيد بن أسلم معروفًا بين معاصريه بغزارة العلم، فكان منهم مَن يجلس إليه،
ويأخذ عنه، ويرى أنه ينفعه أكثر من غيره، يدلنا على هذا ما رواه البخارى فى
تاريخه أن علىّ بن الحسين كان يجلس إلى زيد بن أسلم ويتخطى مجلس قومه، فقال له
نافع بن جبير بن مطعم: تتخطى مجالس قومك إلى عبد عمر بن الخطاب؟ فقال علىّ: إنما
يجلس الرجل إلى مَن ينفعه فى دينه.
وقد عُرف زيد بأنه كان يُفسِّر القرآن
برأيه ولا يتحرج من ذلك، فقد روى حماد بن زيد، عن عبيد الله بن عمر أنه قال فيه:
لا أعلم به بأسًا، إلا أنه يُفسِّر برأيه القرآن ويُكثر منه، وهذه شهادة من عبيد
الله بن عمر أن زيدًا ثقة لا يؤخذ عليه شئ إلا أنه كان يُكثر من القول بالرأى،
وهذا لا يُعَد مغمزًا من عبيد الله فى ثقته وعدالته، كما لا نستطيع أن نُعِد هذا
طعنًا منه فى علمه، فلعل عبيد الله كان ممن يتورعون عن القول فى القرآن برأيهم
كغيره من الصحابة والتابعين، وكان زيد يرى جواز تفسير القرآن بالرأى فلا يتحرج
منه كما لا يتحرج من ذلك كثير من الصحابة والتابعين، ولا نجد فى العلماء مَن نسب
زيد بن أسلم إلى مذهب من المذاهب المبتدعة حتى نقول إنه كان يُفسِّر القرآن برأيه
مطابقًا لمذهبه البدعى، ولو كان شئ من ذلك لما سكت عبيد الله عن بيانه، ولما حكم
عليه حكمه هذا، الذى يدل على ثقته وعدالته، وإن دَلَّ على اختلافهما فى جواز
التفسير بالرأى.
وأشهر مَن أخذ التفسير عن زيد بن أسلم من علماء المدينة:
ابنه عبد الرحمن بن زيد، ومالك بن أنس إمام دار الهجرة.
وكانت وفاته سنة ١٣٦
هـ (ست وثلاثين ومائة من الهجرة) وقيل غير ذلك.
ثالثًا: مدرسة التفسير
بالعراق
* قيامها على ابن مسعود:
قامت مدرسة التفسير بالعراق على عبد
الله بن مسعود رضى الله عنه، وكان هناك غيره من الصحابة أخذ عنهم أهل العراق
التفسير، غير أن عبد الله ابن مسعود كان يعتبر الأستاذ الأول لهذه المدرسة، نظرًا
لشهرته فى التفسير وكثرة المروى عنه فى ذلك، ولأن عمر رضى الله عنه لما وَلَّى
عمار بن ياسر على الكوفة، سيَّر معه عبد الله بن مسعود مُعلِّمًا ووزيرًا، فكونه
مُعلِّم أهل الكوفة بأمر أمير المؤمنين عمر، جعل الكوفيين يجلسون إليه، ويأخذون
عنه أكثر مما يأخذون عن غيره من الصحابة.
١ / ٨٨
ويمتاز
أهل العراق بأنهم أهل الرأى. وهذه ظاهرة نجدها بكثرة فى مسائل الخلاف، ويقول
العلماء: إن ابن مسعود هو الذى وضع الأساس لهذه الطريقة فى الاستدلال، ثم توارثها
عنه علماء العراق، ومن الطبيعى أن تؤثر هذه الطريقة فى مدرسة التفسير، فيكثر
تفسير بالرأى والاجتهاد، لأن استنباط مسائل الخلاف الشرعية، نتيجة من نتائج إعمال
الرأى فى فهم نصوص القرآن والسُّنَّة.
* *
* أشهر رجالها:
وقد
عُرِف بالتفسير من أهل العراق كثير من التابعين، اشتهر من بينهم علقمة بن قيس،
ومسروق، والأسود بن يزيد، ومُرَّة الهمدانى، وعامر الشعبى، والحسن البصرى، وقتادة
بن دعامة السدوسى، ونتكلم عن كل واحد من هؤلاء على الترتيب:
١- علقمة بن
قيس
* ترجمته ومكانته فى التفسير:
هو علقمة بن قيس، بن عبد الله، بن
مالك، النخعى الكوفى، ولد فى حياة رسول الله ﷺ. روى عن عمر، وعثمان، وعلىّ، وابن
مسعود، وغيرهم. وهو من أشهر رواة عبد الله بن مسعود، وأعرفهم به، وأعلمهم بعلمه.
قال عثمان بن سعيد: قلت لابن معين: علقمة أحب إليك أم عبيدة؟ فلم يخير، قال
عثمان: كلاهما ثقة، وعلقمة أعلم بعبد الله. وقال أبو المثنى: إذا رأيت علقمة فلا
يضرك أن لا ترى عبد الله، أشبه الناس به سَمْنًا وهَدْيًا. وقال داود بن أبى هند:
قلت لشعبة: أخبرنى عن أصحاب عبد الله، قال: كان علقمة أنظر القوم به. وروى عبد
الرحمن بن يزيد قال: قال عبد الله: ما أقرأ شيئًا ولا أعلمه إلا علقمة يقرؤه
ويعلمه. وقال إبراهيم النخعى: كان أصحاب عبد الله الذين يقرئون الناس ويعلمونهم
السُّنَّة ويصدر الناس عن رأيهم ستة: علقمة، والأسود ... وذكر الباقين. وكان ﵀
ثقة مأمونًا، على جانب عظيم من الورع والصلاح. قال فيه الإمام أحمد: ثقة من أهل
الخير. وهو عند أصحاب الكتب الستة. وقال مرة الهمدانى: كان علقمة من الربانيين،
قال أبو نعيم: مات سنة ٦١ هـ (إحدى وستين، أو اثنتين وستين من الهجرة)، وعمره
تسعون سنة.
* * *
٢- مسروق
* ترجمته ومكانته فى التفسير:
هو
أبو عائشة، مسروق بن الأجدع بن مالك بن أُمية الهمدانى الكوفى العابد. سأله عمر
يومًا عن اسمه فقال له: اسمى مسروق بن الأجدع، فقال عمر: الأجدع شيطان،
١
/ ٨٩
أنت مسروق بن عبد الرحمن، روى عن الخلفاء الأربعة، وابن
مسعود، وأُبَىّ بن كعب، وغيرهم، وكان أعلم أصحاب ابن مسعود، يمتاز بورعه وعلمه
وعدالته، وكان شريح القاضى يستشيره فى معضلات المسائل. وقال مالك بن مغول: سمعت
أبا السفر غير مرة قال: ما ولدت همدانية مثل مسروق. وقال الشعبى: ما رأيت أطلب
للعلم منه. وقال علىّ بن المدينى: ما أقَّدِمُ على مسروق من أصحاب عبد الله
أحدًا. وهذه الشهادة من ابن المدينى، يبدوَ أنها قائمة على ما امتاز به مسروق من
غزارة العلم الذى استفاده من جلوسه لكثير من الصحابة ولابن مسعود على الأخص،
الأمر الذى جعله يجمع بين علم هؤلاء جميعًا، ولقد حدَّث مسروق - رضى الله عنه -
أنه جالس أصحاب محمد ﷺ فوجدهم كالإخاذ، فالإخاذ يروى الرجل، والإخاذ يروى
الرجلين، والإخاذ يروى العشرة، والإخاذ يروى المائة، والإخاذ لو نزل به أهل الأرض
لأصدرهم.
ثم إن هذا التتلمذ لأصحاب رسول الله ﷺ ولابن مسعود الذى اشتهر
بتفسير القرآن، جعل من مسروق إمامًا فى التفسير، وعالمًا خبيرًا بمعانى كتاب الله
تعالى. وقد حدَّث مسروق بما يدل على أنه استفاد الكثير من التفسير عن أستاذه ابن
مسعود فقال: كان عبد الله - يعنى ابن مسعود - يقرأ علينا السورة ثم يُحدِّثنا
فيها ويُفسِّرها عامة النهار.
أما ثقته وعدالته، فأمر اعترف به علماء الجرح
والتعديل، فقال ابن معين: ثقة، لا يُسئل عن مثله. وقال ابن سعد: كان ثقة، وله
أحاديث صالحة. وذكره ابن حبان فى الثقات، وقد أخرج له الستة. هذا وقد روى شعبة عن
أبى إسحاق أنه قال: حج مسروق فلم ينم إلا ساجدًا. وكانت وفاته سنة ٦٣ هـ (ثلاث
وستين من الهجرة) على الأشهر.
* * *
٣- الأسود بن يزيد
* ترجمته
ومكانته فى التفسير:
هو أبو عبد الرحمن، الأسود بن يزيد بن قيس، النخعى، كان
من كبار التابعين، ومن رواة عبد الله بن مسعود. روى عن أبى بكر، وعمر، وعلىّ،
وحذيفة، وبلال، وغيرهم. وكان ﵀ ثقة، صالحًا، على جانب عظيم من الفهم لكتاب الله
تعالى. قال فيه الإمام أحمد: ثقة من أهل الخير. وقال فيه يحيى بن معين: ثقة. وقال
ابن سعد: ثقة وله أحاديث صالحة. وهو عند أصحاب الكتب الستة، وقال الحكم: كان
الأسود يصوم الدهر، وذهبت إحدى عينيه من الصوم. وذكره إبراهيم النخعى فيمن
١
/ ٩٠
كان يُفتى من أصحاب ابن مسعود. وقال ابن حبان فى الثقات:
كان فقيهًا زاهدًا. توفى بالكوفى سنة ٧٤ هـ (أربع وسبعين، أو خمس وسبعين من
الهجرة) على الخلاف فى ذلك.
* * *
٤- مُرَّة الهمدانى
* ترجمته
ومكانته فى التفسير:
هو أبو إسماعيل، مُرَّة بن شراحيل الهمدانى، الكوفى،
العابد المعروف بمُرَّة الطيب، ومُرَّة الخير. لُقَّبَ بذلك لعبادته، وشدة ورعه،
وكثرة صلاحه. روى عن أبى بكر، وعمر، وعلىّ، وابن مسعود، وغيرهم. وروى عنه الشعبى،
وغيره من أصحابه. وثَقَّهُ ابن معين، والعجلى. وهو عند أصحاب الكتب الستة. قال
فيه الحارث الغنوى: سجد مرة الهمدانى حتى أكل التراب وجهه، وكان يصلى كل يوم
ستمائة ركعة، وتوفى سنة ٧٦ هـ (ست وسبعين من الهجرة) .
* * *
٥-
عامرالشعبى
* ترجمته ومكانته فى التفسير:
هو أبو عمرو، عامر بن شراحيل
الشعبى، الحميرى، الكوفى، التابعى الجليل، قاضى الكوفة. روى عن عمر، وعلىّ، وابن
مسعود، ولم يسمع منهم. وروى عن أبى هريرة، وعائشة، وابن عباس، وأبى موسى الأشعرى،
وغيرهم. قال الشعبى: أدركت خمسمائة من الصحابة. وقال العجلى: سمع من ثمانية
وأربعين من الصحابة.
وقال عبد الملك بن عمير: مر ابن عمر على الشعبى وهو
يُحَدِّثْ بالمغازى فقال: لقد شهدت القوم، فلهو أحفظ وأعلم بها. وقال مكحول: ما
رأيت أفقه منه. وقال ابن عيينة: كان الناس تقول بعد الصحابة: ابن عباس فى زمانه،
والشعبى فى زمانه، والثورى فى زمانه. وقال ابن شبرمة: سمعت الشعبى يقول: ما كتبتُ
سوداء فى بيضاء، ولا حدَّثنى رجل بحديث إلا حفظته، ولا حدَّثنى رجل بحديث فأحببت
أن يعيده علىّ. وقال ابن معين، وأبو زرعة، وغير واحد: الشعبى ثقة. وقال ابن حبان
فى الثقات: كان فقيهًا شاعرًا. وهو عند أصحاب الكتب الستة. وقال أبو جعفر الطبرى
فى طبقات الفقهاء: كان ذا أدب وفقه وعلم. وحكى ابن أبى خيثمة فى تاريخه عن أبى
حصين قال: ما رأيت أعلم من الشعبى، فقال أبو بكر بن عياش: ولا شريح؟ فقال: تريدنى
أكذب؟ ما رأيت أعلم من الشعبى. وقال أبو إسحاق الحبال: كان واحد زمانه
١
/ ٩١
فى فنون العلم. وعن سليمان بن أبى مجلز قال: ما رأيت
أحدًا أفقه من الشعبى، لا سعيد بن المسيب، ولا طاووس، ولا عطاء، ولا الحسن، ولا
ابن سيرين. وعن أبى بكر الهذلى قال: قال لى ابن سيرين: الزم الشعبى، فلقد رأيته
يُستفتَى والصحابة متوافرون. وقال ابن سيرين: قدمت الكوفة وللشعبى حلقة، وأصحاب
رسول الله ﷺ يومئذ كثير. وقال عاصم: ما رأيت أحدًا أعلم بحديث أهل الكوفة والبصرة
والحجاز من الشعبى.
كل هذه الشهادات من العلماء، تدل على مبلغ علم الشعبى
وعظيم حظه منه على اختلاف فنونه، فمن حديث، إلى تفسير، إلى فقه، إلى شعر، إلى قوة
حفظ، وكثرة أخذ عن الصحابة وعلماء الأمصار المختلفة. وإذا كان الشعبى يُفتِى مع
وجود الصحابة ووفرتهم، ويجلس له كثير من أهل العلم يأخذون عنه، فتلك لعمرى أكبر
دلالة على عظيم مكانته العلمية، وعلو منزلته بين أتباعه ومعاصريه.
وإذا كان
الشعبى قد رُزِق حظًا وافرًا من العلم، ونال إعجاب معاصريه، فإنه مع ذلك لم يكن
جريئًا على كتاب الله حتى يقول فيه برأيه، بل كان يتحرج من ذلك، ويتوقف عن إجابة
سائليه إذا لم يكن عنده شئ عن السَلَف، فقد قال ابن عطية: «كان جُلَّة من
السلَفَ، كسعيد بن المسيب، وعامر الشعبى، يعظمون تفسير القرآن. ويتوقفون عنه.
تورعًا واحتياطًا لأنفسهم، مع إدراكهم وتقدمهم».
وأخرج الطبرى عن الشعبى أنه
قال: «واللهِ ما من آية إلا سألت عنها ولكنها الرواية عن الله».
وأخرج عنه
أيضًا أنه قال: «ثلاث لا أقول فيهن حتى أموت: القرآن، والروح، والرأى» ومع هذا
التوقف فإنَّا نرى الشعبى رجلًا نقَّادًاَ لرجال التفسير فى عصره. وكثيرًا ما كان
يُصرِّح بالطعن على مَن لا يعجبه مسلكه فى التفسير من معاصريه فقد ذكر أبو حيان:
«أن الشعبى كان لا يعجبه تفسير السدى، ويطعن عليه وعلى أبى صالح، لأنه كان يراهما
مقصرين فى النظر».
وروى ابن جرير: أن الشعبى كان يمر بأبى صالح باذان فيأخذ
بأذنه فيعركها ويقول: تُفسِّر القرآن وأنت لا تقرأ القرآن. وروى ابن جرير أيضًا
عن صالح بن مسلم قال: مَرَّ الشعبى على السدى وهو يفسِّر فقال: لأن يُضرب على
إستك بالطبل خير لك من مجلسك هذا.
١ / ٩٢
هذا
وإن الخلاف فى مولد الشعبى وفى وفاته كثير، وأشهر الأقوال فى ذلك أنه ولد فى سنة
٢٠ هـ (عشرين)، وتوفى سنة ١٠٩ هـ (تسع ومائة من الهجرة) .
* * *
٦-
الحسن البصرى
* ترجمته ومكانته فى التفسير:
هو أبو سعيد، الحسن بن أبى
الحسن يسار البصرى مولى الأنصار، وأُمه خيرة مولاة أُم سلمة. قال ابن سعد: ولد
لسنتين بقيتا من خلافة عمر ونشأ بوادى القرى، وكان فصيحًا ورعًا وزاهدًا، لا
يُسبق فى وعظه، ولا يُدانَى فى مبلغ تأثيره على قلوب سامعيه. روى عن علىّ، وابن
عمر، وأنس، وخلق كثير من الصحابة والتابعين.
هذا.. وإن الحسن البصرى ليجمع
إلى صلاحه وورعه وبراعته فى الوعظ، غزارة العلم بكتاب الله تعالى، وسُّنَّة رسوله
ﷺ، وأحكام الحلال والحرام، وقد شهد له بالعلم خلق كثير، فقال أنس بن مالك: سلوا
الحسن، فإنه حفظ ونسينا. وقال سليمان التيمى: الحسن شيخ أهل البصرة. وقال مطر
الوراق: كان جابر بن زيد رجل أهل البصرة، فلما ظهر الحسن جاء رجل كأنما كان فى
الآخرة، فهو يخبر عما رأى وعاين. وروى أبو عوانة عن قتادة أنه قال: ما جالست
فقيهًا قط إلا رأيت فضل الحسن عليه. وقال بكر المزنى: مَن سرَّه أن ينظر إلى أعلم
عالم أدركناه فى زمانه، فلينظر إلى الحسن، فما أدركنا الذى هو أعلم منه. وقال
الحجاج بن أرطأة: سألت عطاء بن أبى رباح فقال لى: عليك بذلك - يعنى الحسن - ذلك
إمام ضخم يُقتدَى به. وكان إذا ذُكِر عند أبى جعفر الباقر قال: ذلك الذى يشبه
كلامه كلام الأنبياء. وقال ابن سعد: كان الحسن جامعًا، عالمًا، رفيعًا، فقيهًا،
ثقة، مأمونًا، عابدًا، ناسكًا، كثير العلم فصيحا، جميلًا وسيمًا. وقال حماد بن
سلمة عن حميد: قرأت القرآن على الحسن ففسَّره على الإثبات - يعنى إثبات القَدَر -
وكان يقول: من كذَّب بالقَدَر فقد كفر. وحديثه عند أصحاب الكتب الستة. توفى رحمه
الله تعالى سن ١١٠ هـ (عشر ومائة من الهجرة) وهو ابن ثمان وثمانين سنة.
* *
*
٧- قتادة
* ترجمته ومكانته فى التفسير:
هو أبو الخطاب، قتادة بن
دعامه السدوسى الأكمه، عربى الأصل. كان يسكن البصرة. روى عن أنس، وأبى الطفيل،
وابن سيرين، وعكرمة، وعطاء بن أبى رباح، وغيرهم. وكان قوى الحافظة، واسع الاطلاع
فى الشعر العربى، بصيرًا بأيام العرب،
١ / ٩٣
عليمًا
بأنسابهم، متضلعًا فى اللغة العربية، ومن هنا جاءت شهرته فى التفسير. ولقد يشهد
لقوة حفظه ما رواه سلام بن مسكين قال: حدثنى عمرو بن عبد الله، قال: قدم قتادة
على سعيد بن المسيب فجعل يسأله أيامًا وأكثر، فقال له سعيد: أكل ما سألتنى عنه
تحفظه؟ قال: نعم، سألتك عن كذا فقلتَ فيه كذا، وسألتك عن كذا فقلتَ فيه كذا، وقال
فيه الحسن كذا، حتى رد عليه حديثًا كثيرًا، قال: فقال سعيد: ما كنتُ أظن أن الله
خلق مثلك. وقد شهد له ابن سيرين بقوة الحافظة أيضًا، فقال: قتادة هو أحفظ
الناس.
وكان قتادة على مبلغ عظيم من العلم فوق ما اشتُهِر به من معرفته
لتفسير كتاب الله. حتى قدَّمه بعضهم على كثير من أقرانه، وجعل بعضهم من النادر
تقدم غيره عليه. وقال فيه سعيد بن المسيب: ما أتانى عراقى أحسن من قتادة. وقال
معمر للزهرى: قتادة أعلم عندك أم مكحول؟ قال: بل قتادة. وقال أبو حاتم: سمعت أحمد
بن حنبل وذُكِر قتادة، فأطنب فى ذكره، فجعل ينشر من علمه وفقهه ومعرفته بالاختلاف
والتفسير، ووصفه بالحفظ والفقه، وقال: قلَّما تجد مَن تقدَّمه، أما المثل فلعل.
وقال معمر: سألت أبا عمرو بن العلاء عن قوله تعالى: ﴿وَمَا كُنَّا لَهُ
مُقْرِنِينَ﴾ [الزخرف: ١٣] فلم يجبنى، فقلت: سمعت قتادة يقول: مطيقين، فسكت، فقلت
له: ما تقول يا أبا عمرو؟ فقال: حسبك قتادة، ولولا كلامه فى القَدَر - وقد قال
رسول الله ﷺ: «إذا ذُكِرَ القَدَر فأمسكوا» - ما عدلت به أحدًا من أهل دهره".
وهذا
يدل على أن أبا عمرو كان يثق بعلم قتادة وبتفسيره للقرآن، لولا ما يَنسب إليه من
الخوض فى القضاء والقَدَر، وكثيرًا ما تحرَّج بعض الرواة من الرواية عنه لذلك،
ونجد أصحاب الصحاح يُخَرِّجون له، ويحتجون بروايته، ويكفينا هذا فى تعديله
وتوثيقه: قال أبو حاتم: أثبت أصحاب أنس: الزهرى، ثم قتادة. وقال ابن سعد: كان ثقة
مأمونًا حُجَّة فى الحديث، وكان يقول بشئ من القَدَر. وقال ابن حبان فى الثقات:
كان من علماء الناس بالقرآن والفقه، ومن حُفَّاظ أهل زمانه.
وكانت وفاته سنة
١١٧ هـ (سبع عشرة ومائة من الهجرة)، وعمره إذ ذاك ست وخمسون سنة على المشهور.
*
*
وبعد ... فهؤلاء هم مشاهير المفسِّرين من التابعين، وغالب أقوالهم فى
التفسير تلقوها عن الصحابة، وبعض منها رجعوا فيه إلى أهل الكتاب، وما وراء ذلك
فمحض اجتهاد لهم، ولا شك أنهم كانوا على مبلغ عظيم من العلم ودقة الفهم، لقرب
١
/ ٩٤
عهدهم من عهد النبوة، واتصال ما بين العهدين بعهد
الصحابة، ولعدم فساد سليقتهم العربية، الفساد الذى شاع فيما بعد، حتى بلغ إلى
درجة الهجنة والمزيج اللُّغوى.
ثم حمل أتباع التابعين هذا التراث العلمى
الذى خَلَّفَهُ التابعون، وزادوا عليه بمقدار ما زاد من الغموض وما جَدَّ من
اختلاف فى الرأى، وعن هؤلاء أخذ مَن جاء بعدهم ... وهكذا. تناقل الخَلَفُ عِلم
السَلَف، وحمل علماء كل جيل علم مَن سبقهم وزادوا عليه، سُّنَّة الله فى تدرج
العلوم، تبدأ ضيقة الدائرة، محدودة المسائل، ثم لا تلبث أن تتسع وتتضخم إلى أن
تبلغ النهاية وتصل إلى الكمال.
* * *
١ / ٩٥
قيمة التفسير المأثور عن التابعين
اختلف العلماء فى الرجوع إلى تفسير التابعين والأخذ بأقوالهم إذا لم
يُؤثَر فى ذلك شيء عن الرسول ﷺ، أو عن الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين.
فنُقِل
عن الإمام أحمد رضى الله عنه روايتان فى ذلك: رواية بالقبول، ورواية بعدم القبول،
وذهب بعض العلماء: إلى أنه لا يُؤخذ بتفسير التابعى، واختاره ابن عقيل، وحكى عن
شعبة. واستدل أصحاب هذا الرأى على ما ذهبوا إليه: بأن التابعين ليس لهم سماع من
الرسول ﷺ، فلا يمكن الحمل عليه كما قيل فى تفسير الصحابى: إنه محمول على سماعه من
النبى ﷺ. وبأنهم لم يشاهدوا القرائن والأحوال التى نزل عليها القرآن، فيجوز عليهم
الخطأ فى فهم المراد وظن ما ليس بدليل دليلًا، ومع ذلك فعدالة التابعين غير منصوص
عليها كما نُصَّ على عدالة الصحابة. نُقِل عن أبى حنيفة أنه قال: «ما جاء عن رسول
الله ﷺ فعلى الرأس والعين، وما جاء عن الصحابة تخيرنا، وما جاء عن التابعين فهم
رجال ونحن رجال».
وقد ذهب أكثر المفسِّرين: إلى أنه يؤخذ بقول التابعى فى
التفسير، لأن التابعين تلقوا غالب تفسيراتهم عن الصحابة، فمجاهد مثلاُ يقول:
عرضتُ المصحف على ابن عباس ثلاث عرضات من فاتحته إلى خاتمته، أُوقفه عند كل آية
منه وأسأله عنها. وقتادة يقول: ما فى القرآن آية إلا وقد سمعتُ فيها شيئًا. ولذا
حكى أكثر المفسِّرين أقوال التابعين فى كتبهم ونقلوها عنهم مع اعتمادهم لها.
والذى
تميل إليه النفس: هو أن قول التابعى فى التفسير لا يجب الأخذ به إلا إذا كان مما
لا مجال للرأى فيه، فإنه يؤخذ به حينئذ عند عدم الريبة، فإن ارتبنا فيه، بأن كان
يأخذ من أهل الكتاب، فلنا أن نترك قوله ولا نعتمد عليه، أما إذا أجمع التابعون
على رأى فإنه يجب علينا أن نأخذ به ولا نتعداه إلى غيره.
قال ابن تيمية: قال
شعبة بن الحجاج وغيره: أقوال التابعين ليست حُجَّة، فكيف تكون حُجَّة فى التفسير؟
بمعنى أنها لا تكون حُجَّة على غيرهم ممن خالفهم، وهذا صحيح، أما إذا أجمعوا على
الشئ فلا يُرتاب فى كونه حُجَّة فإن اختلفوا فلا يكون قول بعضهم حُجَّة على بعض
ولا على مَن بعدهم، ويُرجع فى ذلك إلى لغة القرآن، أو السُّنَّة، أو عموم لغة
العرب، أو أقوال الصحابة فى ذلك.
* * *
١ / ٩٦
مميزات التفسير فى هذه المرحلة
يمتاز التفسير فى هذه المرحلة بالمميزات الآتية:
أولًا: دخل فى
التفسير كثير من الإسرائيليات والنصرانيات، وذلك كثرة مَن دخل من أهل الكتاب فى
الإسلام، وكان لا يزال عالقًا بأذهانهم من الأخبار ما لا يتصل بالأحكام الشرعية،
كأخبار بدء الخليقة، وأسرار الوجود، وبدء الكائنات. وكثير من القصص. وكانت النفوس
ميَّالة لسماع التفاصيل عما يشير إليه القرآن من أحداث يهودية أو نصرانية، فتساهل
التابعون فزجوا فى التفسير بكثير من الإسرائيليات والنصرانيات بدون تحرٍّ ونقد.
وأكثر من رُوى عنه فى ذلك من مسلمى أهل الكتاب: عبد الله بن سلام، وكعب الأحبار،
ووهب بن منبه، وعبد الملك بن عبد العزيز بن جريج. ولا شك أن الرجوع إلى هذه
الإسرائيليات فى التفسير أمر مأخوذ على التابعين كما هو مأخوذ على مَن جاء
بعدهم.
وسنأتى بعرض لهذه الناحية عرضًا موسعًا عند الكلام عن أسباب الضعف فى
رواية التفسير المأثور إن شاء الله تعالى.
ثانيًا: ظل التفسير محتفظًا بطابع
التلقى والرواية، إلا أنه لم يكن تلقيًا ورواية بالمعنى الشامل كما هو الشأن فى
عصر النبى ﷺ وأصحابه، بل كان تلقيًا ورواية يغلب عليهما طابع الاختصاص، فأهل كل
مصر يعنون - بوجه خاص - بالتلقى والرواية عن إمام مصرهم، فالمكيون عن ابن عباس،
والمدنيون عن أُبَىّ، والعراقيون عن ابن مسعود ... وهكذا.
ثالثًا: ظهرت فى
هذا العصر نواة الخلاف المذهبى، فظهرت بعض تفسيرات تحمل فى طيَّاتها هذه المذاهب،
فنجد مثلًا قتادة بن دعامة السدوسى يُنسب إلى الخوض فى القضاء والقَدَر ويتُهم
بأنه قدرى، ولا شك أن هذا أثَّرَ على تفسيره، ولهذا كان يتحرج بعض الناس من
الرواية عنه. ونجد الحسن البصرى قد فسَّر القرآن على إثبات القَدَر، ويُكَفِّر
مَن يُكذِّب به كما ذكرنا ذلك فى ترجمته.
رابعًا: كثرة الخلاف بين التابعين
فى التفسير عما كان بين الصحابة رضوان الله عليهم، وإن كان اختلافًا قليلًا
بالنسبة لما وقع بعد ذلك من متأخرى المفسِّرين.
* * *
١ /
٩٧
الخلاف بين السَلَف فى التفسير
قلنا إن الصحابة - رضوان الله عليهم أجمعين - كانوا يفسِّرون القرآن
بمقتضى لغتهم العربية، وما يعلمونه من الأسباب التى نزل عليها القرآن، وبما أحاط
بنزوله من ظروف وملابسات، وكانوا يرجعون فى فهم ما أشكل عليهم إلى رسول الله
ﷺ.
وقلنا إن المفسِّرين من التابعين كانوا يجلسون لبعض الصحابة يتلقون عنهم
ويروون لهم، فأخذوا عنهم كثيرًا من التفسير، وقالوا فيه أيضًا برأيهم واجتهادهم
وكانت لغتهم العربية لم تصل إلى درجة الضعف التى وصلت إليها فيما بعد.
قلنا
هذا فيما سبق. ونزيد عليه أن ما دُوِّن من العلوم الأدبية، والعلوم العقلية،
والعلوم الكونية، ومذاهب الخلاف الفقهية والكلامية، لم يكن قد ظهر شئ منها فى عصر
الصحابة والتابعين، وإن كان قد وُجِدت النواة التى نمت فيما بعد وتفرَّعت عنها كل
هذه الفروع المختلفة. كان هذا هو الشأن على عهد الصحابة والتابعين، فكان طبيعيًا
أن تضيق دائرة الخلاف فى التفسير فى هاتين المرحلتين من مراحله، ولا تتسع هذا
الاتساع العظيم الذى وصلت إليه فيما بعد.
كان الخلاف بين الصحابة فى التفسير
قليلًا جدًا، وكذا بين التابعين وإن كان أكثر منه بين الصحابة، وكان اختلافهم فى
الأحكام أكثر من اختلافهم فى التفسير.
وإذا نحن تتبعنا ما نُقل لنا من أقوال
السَلَف فى التفسير، وجمعنا ما هو مبثوث فى كتب التفسير بالمأثور لخرجنا بادى
الرأى بكثير من الأقوال المختلفة فى المسألة الواحدة، فقول لصحابى يخالف قول
صحابى آخر، وقول لتابعى يخالف قول تابعى آخر، بل كثيرًا ما نجد قولين مختلفين فى
المسألة الواحدة، وكلاهما منسوب لقائل واحد، فهل معنى هذا أن الخلاف فى التفسير
قد اتسعت دائرته على عهد الصحابة والتابعين، وهل معنى هذا أن الصحابى أو التابعى
يناقض نفسه فى المسألة الواحدة؟.. لا، فدائرة الخلاف لم تتسع، ولم يناقض الصحابى
أو التابعى نفسه. وذلك لأن غالب ما صح عنهم من الخلاف فى التفسير يرجع إلى اختلاف
عبارة مثلًا، أو اختلاف تنوع، لا إلى اختلاف تباين وتضاد كما ظنه بعض الناس فحكاه
على أنه أقوال متباينة لا يرجع بعضها إلى بعض.
ونستطيع بعد البحث والنظر فى
هذه الأقوال التى اختلفت ولم تتباين، أن نُرجع هذا الخلاف إلى عدة أُمور، نذكرها
ليتبين لنا أنه لا تنافى ولا تباين بين هذه الأقوال التى تبدو متعارضة عن
السَلَف، وهى ما يأتى:
١ / ٩٨
أولًا: أن
يُعبِّر كل واحد من المفسِّرين عن المراد بعبارة غير عبارة صاحبه تدل على معنى فى
المسمى غير المعنى الآخر مع اتحاد المسمى، وذلك مثل أسماء الله الحسنى، وأسماء
رسوله ﷺ، وأسماء القرآن، فإن أسماء الله كلها على مسمى واحد، فلا يكون دعاؤه باسم
من أسمائه الحسنى مضادًا لدعائه باسم آخر منها، بل الأمر كما قال الله تعالى:
﴿قُلِ ادعوا الله أَوِ ادعوا الرحمان أَيًّا مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الأسمآء
الحسنى﴾ [الإسراء: ١١٠] ..
وإذا نحن نظرنا إلى كل اسم من أسمائه لوجدناه يدل
على ذات الله تعالى وعلى صفة من صفاته تضمنها هذا الاسم فـ «العليم» يدل على
الذات والعلم، و«القدير» يدل على الذات والقدرة.. وهكذا.
ثم إن كل اسم من
هذه الأسماء يدل على الصفة التى فى الاسم الآخر بطريق اللزوم، وكذلك الشأن فى
أسماء النبى ﷺ مثل: محمد وأحمد وحامد، وأسماء القرآن مثل: القرآن والفرقان،
والهدى، والشفاء، وأمثال ذلك.
فإن كان مقصود السائل تعيين المسمى عبَّر عنه
بأى اسم كان إذا كان يعرف مسماه. فمثلًا قوله تعالى: ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَن
ذِكْرِي﴾ [طه: ١٢٤] .. وإذا قيل: ما ذكره؟ يقال: ذِكْره قرآنه، أو كتابه، أو
كلامه، أو هُدَاه، ونحو ذلك. وهذا على القول المشهور من أن المصدر مضاف للفاعل،
كما يدل عليه سياق الآية وسباقها.
وإن كان مقصود السائل معرفة ما فى الاسم
من الصفة المختصة به فلا بد فى ذلك من قدر زائد على تعيين المسمى، مثل أن يسأل عن
القدوس، السلام، المؤمن، المهيمن، وقد علم أنه الله ولكن يريد أن يعرف معنى كونه
قدوسًا. وسلامًا، ومؤمنًا، ومهيمنًا، ونحو ذلك.
والسَلَف كثيرًا ما
يُعبِّرون عن المسمى بعبارة تدل على عينه وإن كان فيها من الصفة ما ليس فى الاسم
الآخر، كمن يقول: القدوس: هو الله، أو الرحمن، أو الغفور، ومراده أن المسمى واحد،
لا أن هذه الصفة هى هذه. ومعلوم أن هذا اختلاف لا يمكن أن يقال إنه اختلاف تباين
وتضاد كما ظنه بعض الناس.
ومثال ذلك تفسيرهم للصراط المستقيم، فقال بعضهم:
هو اتباع القرآن، لقوله ﷺ فى حديث علىّ عند الترمذى: «ضرب الله مثلًا صراطًا
مستقيمًا، وعلى جنبتى الصراط سوران، وفى السورين أبواب مفتحة، وعلى الأبواب ستور
مرخاة، وداع يدعو من فوق الصراط، وداع يدعو على رأس الصراط، قال: فالصراط
المستقيم هو الإسلام، والسوران حدود الله، والأبواب المفتحة محارم الله، والداعى
على رأس الصراط كتاب الله، والداعى فوق الصراط واعظ الله فى قلب كل مؤمن».
ومنه
مَن قال: هو اتباع السُّنَّة والجماعة، ومنه مَن قال: هو طريق
١
/ ٩٩
العبودية، ومنه مَن قال: هو طاعة الله ورسوله ﷺ، وقيل غير
ذلك فهذه كلها أقوال لا منافاة بينها ولا تباين، بل كلها متفقة فى الحقيقة، لأن
دين الإسلام هو اتباع القرآن، وهو طاعة الله ورسوله، وهو طريق العبودية لله،
فالذات واحدة، وكلُّ أشار إليها ووصفها بصفة من صفاتها.
ثانيًا: أن يذكر كل
منهم من الاسم العام بعض أنواعه على سبيل التمثيل وتنبيه المستمع على النوع، لا
على سبيل الحد المطابق للمحدود فى عمومه وخصوصه.
مثال ذلك ما نقل فى قوله
تعالى: ﴿ثُمَّ أَوْرَثْنَا الكتاب الذين اصطفينا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ
ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بالخيرات
بِإِذُنِ الله﴾ [فاطر: ٣٢] فبعضهم فَسَّر السابق بمن يصلَى فى أول الوقَت،
والمقتصد بمن يصَلَى فى أثنائه، والظالم بمن يصلى بعد فواته. وبعضهم فسَّر السابق
بمن يؤدى الزكاة المفروضة مع الصدقة، والمقتصد بمن يؤديها وحدها، والظالم بمانع
الزكاة، فكل من المفسِّرين ذكر فردًا من أفراد العام على سبيل التمثيل لا الحصر،
لتعريف المستمع أن الآية تتناول المذكور، ولتنبيهه به على نظيره، فإن التعريف
بالمثال قد يكون أسهل من التعريف بالحد المطابق. والعقل السليم يتفطن للنوع بذكر
مثاله. وهذا الاختلاف فى ذكر المثال لا يؤدى إلى التباين والتناقض بين الأقوال،
إذ من المعلوم أن الظالم لنفسه يتناول المُضيِّع للواجبات والمنتهك للحُرُمات،
والمقتصد يتناول فاعل الواجبات وتارك المحرَّمات. والسابق يتناول مَن تقرَّب
بالحسنات مع الواجبات.
ومن هذا القبيل أن يقول أحدهم: نزلت هذه الآية فى
كذا، ويقول الآخر: نزلت فى كذا، كل يذكر غير ما يذكره صاحبه، لأن كلًا منهم يذكر
بعض ما يتناوله اللفظ، وهذا لا تنافى فيه ما دام اللفظ يتناول قول كل منهما.
أما
إذا قال أحدهم: سبب نزول هذه الآية كذا، وقال الآخر: سبب نزول هذه الآية كذا، وكل
ذكر غير ما ذكره الآخر، فيمكن أن يقال: إن الآية نزلت عقب تلك الأساب، أو تكون
نزلت مرتين: مرة لهذا السبب، ومرة لهذا السبب.
ثالثًا: أن يكون اللفظ
محتملًا للأمرين أو الأمور، وذلك إما لكونه مشتركًا فى اللغة، كلفظ «قَسوَرَة»،
الذى يراد به الرامى ويراد به الأسد، ولفظ «عَسْعَسَ»، الذى يراد به إقبال الليل
ويراد به إدباره. وإما لكونه متواطئًا فى الأصل لكن المراد به أحد النوعين، أو
أحد الشخصين، كالضمائر فى قوله تعالى: ﴿ثُمَّ دَنَا فتدلى * فَكَانَ قَابَ
قَوْسَيْنِ أَوْ أدنى﴾ [النجم: ٨-٩] .. وكلفظ: ﴿والفجر * وَلَيالٍ عَشْرٍ *
والشفع والوتر﴾ [الفجر: ١-٣] .. وما ماثل ذلك، فمثل هذا قد يجوز أن يراد به كل
المعانى التى قالها السَلَف، وذلك إما لكون الآية نزلت مرتين، فأريد بها هذا تارة
وهذا تارة. وإما لكون اللفظ المشترك يجوز أن يراد به معنياه أو معانيه، وهذا يقول
به أكثر الفقهاء من
١ / ١٠٠
المالكية،
والشافعية، والحنابلة، وكثير من أهل الكلام. وإما لكون اللفظ متواطئًا، فيكون
عامًا إذا لم يكن هناك موجب لتخصيصه.
رابعًا: أن يُعبِّروا عن المعانى
بألفاظ متقاربة لا مترادفة، فإن الترادف قليل فى اللغة، ونادر أو معدوم فى
القرآن، وقَلَّ أن يُعبَّر عن لفظ واحد بلفظ واحد يؤدى جميع معناه، وإنما يُعبَّر
عنه بلفظ فيه تقريب لمعناه، فمثلًا إذا قال قائل: ﴿يَوْمَ تَمُورُ السمآء
مَوْرًا﴾ [الطور: ٩] .. المور: الحركة فذلك تقريب للمعنى، لأن المور حركة خفيفة
سريعة. كذلك إذا قال: ﴿وَقَضَيْنَآ إلى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الكتاب﴾ [الإسراء:
٤] .. أي أعلمنا، لأن القضاء إليهم فى الآية أخص من الإعلام، فإن فيه إنزالًا
وإيحاءً إليهم.
فإذا قال أحدهم فى قوله تعالى: ﴿وَذَكِّرْ بِهِ أَن تُبْسَلَ
نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ﴾ [الأنعام: ٧٠] إن معنى تبسل: تحبس، وقال الآخر: ترتهن،
ونحو ذلك، لم يكن من اختلاف التضاد، لأن هذا تقريب للمعنى كما قلنا.
خامسًا:
أن يكون فى الآية الواحدة قراءتان أو قراءات، فيفسِّر كل منهم على حسب قراءة
مخصوصة فيظن ذلك اختلافًا، وليس باختلاف، مثال ذلك: ما أخرجه ابن جرير عن ابن
عباس وغيره من طرق فى قوله تعالى: ﴿.. لَقَالُواْ إِنَّمَا سُكِّرَتْ
أَبْصَارُنَا﴾ [الحجر: ١٥] . إن معنى سُكِّرت: سُدَّت، ومن طريق أخرى عنه: أن
سُكِّرت بمعنى أُخذت وسُحرت، ثم أخرج عن قتادة أنه قال: مَن قرأ «سُكِّرت» مشددة،
فإنما يعنى سُدَّت، ومَن قرأ «سكَرت» مخففة. فإنه يعنى سُحرت. ومن ذلك أيضًا قوله
تعالى: ﴿سَرَابِيلُهُم مِّن قَطِرَانٍ﴾ [إبراهيم: ٥٠] أخرج ابن جرير عن الحسن:
أنه الذى تهنأ به الإبل، وأخرج من طرق عنه وعن غيره: أنه النحاس المذاب، وليسا
بقولين، وإنما الثانى تفسير لقراءة مَن قرأ: «من قطرٍ آن» بتنوين قطر، وهو النحاس
المذاب، وآن: شديد الحرارة. وأمثلة هذا النوع كثيرة. وقد خُرِّج على هذا الاختلاف
الوارد عن ابن عباس وغيره فى تفسير قوله تعالى. ﴿أَوْ لاَمَسْتُمُ﴾ [النساء: ٤٣،
المائدة: ٦] .. هل هو الجِماع، أو الجس باليد؟ فالأول تفسير لقراءة: «لامستم»،
والثانى لقراءة: «لمستم» ولا اختلاف.
هذه هى الأوجه بواسطتها نستطيع أن نجمع
بين أقوال السَلَف التى تبدو متعارضة. أما ما جاء عنهم من اختلاف فى التفسير
ويتعذر الجمع بينه بواحد من الأمور السابقة - وهذا أمر نادر، أو اختلاف مخفف كما
يقول ابن تيمية - فطريقنا فيه: أن ننظر فيمن نُقِل عنه الاختلاف، فإن كان عن شخص
واحد واختلفت الروايتان صحة وضعفًا، قُدِّم الصحيح وتُرِك ما عداه، وإن استوينا
فى الصحة وعرفنا
١ / ١٠١
أن أحد القولين
متأخر عن الآخر، قُدِّم المتأخر وتُرِك ما عداه. وإن لم نعرف تقدم أحدهما على
الآخر رددنا الأمر إلى ما ثبت فيه السمع. فإن لم نجد سمعًا وكان للاستدلال طريق
إلى تقوية أحدهما، رجَّحنا ما قوَّاه الاستدلال وتركنا ما عداه. وإن تعارضت
الأدلة فعلينا أن نؤمن بمراد الله تعالى ولا نتهجم على تعيين أحد القولين، ويكون
الأمر حينئذ فى منزلة المجمل قبل تفصيله، والمتشابه قبل تبيينه.
وإن كان
الاختلاف عن شخصين أو أشخاص، واختلفت الروايتان أو الروايات صحة وضعفًا، قُدِّم
الصحيح وتُرِك ما عداه. وإن استوت الروايتان أو الروايات فى الصحة، رددنا الأمر
إلى ما ثبت فيه السمع. فإن لم نجد سمعًا وكان للاستدلال طريق إلى تقوية أحدهما
رجَّحنا ما قوَّاه الاستدلال وتركنا ما عداه. وإن تعارضت الأدلة فعلينا أن نؤمن
بمراد الله تعالى، ولا نتهجم على تعيين أحد القولين أو الأقوال. ويكون الأمر
حينئذ فى منزلة المجمل قبل تفصيله، والمتشابه قبل تبيينه.
ويرى الزركشى: أن
الاختلاف إن كان بين الصحابة وتعذر الجمع، قُدِّم قول ابن عباس على قول غيره،
وعلَّل ذلك فقال:»لأن النبى ﷺ بَشَّره حيث قال: «اللَّهم عَلِّمه التأويل».
*
* *
١ / ١٠٢