المؤلف: نور الدين محمد عتر الحلبي
الموضوع: التفسير وعلوم القرأن
الناشر: مطبعة الصباح - دمشق
الطبعة: الأولى، ١٤١٤ هـ - ١٩٩٣ م
عدد الصفحات: ٢٩٠
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع]
صفحة المؤلف: [نور الدين عتر]
فهرس الموضوعات
- الفصل العاشر التفسير الفقهي
- تعريف التفسير الفقهي ونشأته
- أشهر ما ألف في التفسير الفقهي
- ١ - أحكام القرآن لأبي بكر الرازي (الجصاص)
- مؤلف الكتاب
- طريقة المؤلف فيه
- ٢ - الجامع لأحكام القرآن لأبي عبد الله القرطبي
- مؤلف الكتاب
- طريقة هذا التفسير
- الفصل الحادي عشر التفسير في العصر الحديث
- الفصل الحادي عشر التفسير في العصر الحديث
- وأهم أنواع التفسير المعاصرة ما يلي
- الأول: التفسير المنهجي
- الثاني: التفسير الأدبي الاجتماعي
- الثالث: التفسير العلمي
- الرابع: التفسير العام
- الخامس: التفسير الموضوعي
- الفصل الثاني عشر ترجمة القرآن الكريم وحكمها
- القسم الأول: الترجمة الحرفية
- القسم الثاني: الترجمة التفسيرية
- حكم الترجمة التفسيرية
- شروط الترجمة التفسيرية
- الفصل الثالث عشر المحكم والمتشابه
- الاحكام لغة
- وأما المتشابه: فهو في أصل اللغة
- المحكم والمتشابه اصطلاحا
- هل يمكن تفسير المتشابه
- التحقيق في المسألة
- كيف نفسر المتشابهات
- متشابه الصفات
- المذهب الأول: مذهب السلف
- المذهب الثاني: مذهب الخلف
- لماذا ورد المحكم والمتشابه
- الفصل الرابع عشر الناسخ والمنسوخ
- تعريف النسخ
- المعنى الأول
- المعنى الثاني
- أقسام النسخ
- أ - نسخ الحكم مع بقاء التلاوة
- ب - نسخ القرآن بالقرآن
- ج - د - نسخ القرآن بالسنة أو العكس.
- هـ - نسخ التلاوة مع بقاء الحكم
- و - نسخ الحكم والتلاوة معا
- حكمة وقوع النسخ
- التأليف في الناسخ والمنسوخ
- الفصل الخامس عشر الأحرف السبعة
- تعريف الأحرف السبعة
- تعريف الحرف لغة
- تعريف الأحرف السبعة اصطلاحا
- بيان الأحرف السبعة في الحديث النبوي
- دلالة هذه الأحاديث على أصول الموضوع
- الأحرف السبعة والقراءات السبع
- ما هي حقيقة الأحرف السبعة
- المذهب الأول
- المذهب الثاني
- أين الأحرف الستة
- الفصل السادس عشر القراءات والقراء
- تعريف القراءة
- ضابط القراءة المقبولة
- الشرط الأول: موافقة العربية ولو بوجه
- الشرط الثاني: موافقة خط أحد المصاحف ولو احتمالا
- الشرط الثالث: صحة السند
- أنواع القراءات حسب أسانيدها
- الأول: المتواتر
- الثاني: المشهور
- الثالث: الآحاد
- الرابع: الشاذ
- الخامس: الموضوع
- السادس: ما يشبه المدرج من أنواع الحديث
- القراءات المتواترة وقراؤها
- شبهات بعض المستشرقين حول القراءات
- القراءات الشاذة
- الفصل السابع عشر فواتح السور
- الافتاح بحروف التهجي
- الفصل الثامن عشر جمع القرآن الكريم حفظا في الصدور والسطور
- جمع القرآن في الصدور
- حفظ النبي صلى الله عليه وسلم للقرآن
- حفظ الصحابة للقرآن الكريم
- جمع القرآن الكريم تدوينا في السطور
- جمع القرآن تدوينا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم
- جمع القرآن على عهد أبي بكر الصديق رضي الله عنه
- جمع القرآن بنسخ المصاحف على عهد عثمان رضي الله عنه
- شروط الكتابة في المصاحف العثمانية
- نشر عثمان المصاحف في الأمصار
- فضيلة عمل عثمان
- حفظ الله تعالى القرآن العظيم من التحريف والتبديل فيه والزيادة والنقصان أبد الآبدين
- الفصل التاسع عشر رسم القرآن الكريم
- أحكام تختص بالمصحف
- الفصل العشرون إعجاز القرآن الكريم
- المعجزة في اصطلاح علماء التوحيد هي
- الفرق بين المعجزة والكرامة والسحر
- تنوع المعجزة وحكمته: وتنقسم المعجزات إلى قسمين
- القسم الأول: المعجزات الحسية
- القسم الثاني: المعجزات العقلية
- مصدر علمنا بإعجاز القرآن
- القدر المعجز من القرآن
- خصائص إعجاز القرآن
- شهادة العالم بإعجاز القرآن
- شهادة العرب بأحوالهم وأفعالهم
- شهادة بلغاء العرب بإعجاز القرآن بأقوالهم
- بلغاء كبار سمعوا القرآن فآمنوا
- شهادة بلغاء من النصارى بإعجاز القرآن
- منشأ إعجاز القرآن
- رأي الإعجاز بالصرفة
- أوجه إعجاز القرآن الكريم
- عرض الإعجاز عند المتقدمين
- ووجه إعجاز القرآن الكريم عشرة
- عرض الإعجاز عند المعاصرين
- نتائج مستفيدين من هذه الدراسات
- القسم الأول من أوجه إعجاز القرآن: أسلوب القرآن الكريم
- الوجه الأول: خاصية تأليف القرآن الصوتي في شكله وجوهره
- أما خاصية تأليف القرآن الصوتي في شكله
- وأما جوهر تأليف القرآن الصوتي
- الوجه الثاني: القصد في اللفظ والوفاء بالمعنى
- الوجه الثالث: خطاب العامة وخطاب الخاصة
- الوجه الرابع: إقناع العقل وإمتاع العاطفة
- الوجه الخامس: تآلف الألفاظ والمعاني
- القسم الثاني من أوجه إعجاز القرآن: الإعجاز بالمضمون
- الوجه الأول: الإخبار عن الغيب
- أولا: الإخبار عن غيب المستقبل
- ثانيا: الإخبار عن غيب الحاضر
- ثالثا: أخبار الغيب الماضي
- الوجه الثاني: الإعجاز التشريعي
- الوجه الثالث: اتساق نظريات القرآن وأحكامه
- الوجه الرابع: تأثير القرآن وفاعليته في الأفئدة
- العودة الي كتاب التفسير والمفسرون
الفصل العاشر التفسير الفقهي
تعريف التفسير الفقهي ونشأته
التفسير الفقهي هو التفسير الذي يعنى فيه بدراسة آيات الأحكام وبيان كيفية استنباط الأحكام منها.
وهذا التفسير بهذه الصفة يتميز بمزيد من دقة الفهم، وعمق الاستنباط، ويسمح بإعمال الذهن في المناقشة والموازنة بين الآراء أكثر من غيره، مما يجعل له أهمية أكبر. ويلزم بالاعتناء به أكثر.
ويرجع ابتداء هذا التفسير إلى عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فقد فسّر للصحابة كثيرا من آيات القرآن وبيّن لهم أحكامه بأنواع البيانات.
ثم جاء الصحابة وراحوا يعالجون ما يجد لهم من الأمور، وكانوا يبحثون أولا في كتاب الله تعالى ثم في سنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم يجتهدون، فكان من المتوقع أن تختلف اجتهاداتهم في فهم بعض الآيات واستنباط الأحكام منها.
ومن أمثلة ذلك اختلافهم في عدة المطلقة هل تحسب بالحيض أو بالأطهار؟ فذهب عمر بن الخطاب وعلي وابن مسعود إلى أنها الحيض، وذهب عبد الله بن عمر وزيد بن ثابت والسيدة عائشة إلى أنها الأطهار.
والسبب في ذلك أن القروء في قوله تعالى وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ تحتمل في لغة العرب أن تفسر بالحيض، وبالأطهار.
فالتمس كل فريق قرينة رجح بها ما ذهب إليه [١].
وكان الصحابة رضي الله عنهم متجردين لطلب الحق لا يحيدون عنه، وربما تناظروا فإن اقتنع الواحد برأي الآخر أخذ به، وإلا عذر كل واحد أخاه في اجتهاده ووسع له فيه.
وهكذا استمر الحال في اجتهاد أئمة التابعين ومن بعدهم كالأئمة الأربعة وأمثالهم، لكن ازدادت الوقائع المستجدّة فازدادت المسائل التي تستنبط من القرآن الكريم وتوسعت الدراسات التفسيرية لآيات الأحكام.
ولما ظهرت مذاهب فقهاء الأمصار ببنيانها الضخم المؤصل على الأصول الاجتهادية ودوّنت ثم ذاعت في الناس تأثر بكل مذهب منها طوائف من العلماء، كما حصل من قبل أن تأثر بفقهاء الصحابة طوائف من الصحابة والتابعين، لكن العصور المتأخرة شهدت توسعا في المناقشات يؤيد كل فريق مذهبه الذي اعتقد أنه الحق، وربما جرّ ذلك إلى تشديد النقد على المذهب المخالف مما يخالف منهج البحث العلمي، لا سيما في القرن الرابع وما بعده حين انتشرت المناظرات الكلامية.
أشهر ما ألف في التفسير الفقهي
وهكذا ظهرت التفاسير الفقهية للقرآن وكثرت وكان أكثرها يقتصر على تفسير آيات الأحكام، وفسّر بعضها القرآن كله.
ونعرف القارئ بأشهر تفسيرين فقهيين وهما: (أحكام القرآن) للرازي الجصّاص و (الجامع لأحكام القرآن) للقرطبي.
١ - أحكام القرآن لأبي بكر الرازي (الجصّاص) :
مؤلف الكتاب
هو الإمام العلّامة المفتي المجتهد الحافظ عالم العراق أبو بكر أحمد بن
(١) انظر الجامع لأحكام القرآن للقرطبي ج ٣ ص ١١٢، وغيره.
علي الرازي المشهور بالجصّاص نسبة إلى العمل بالجصّ، ولد سنة ٣٠٥ وتوفي سنة ٣٧٠. أخذ الفقه عن أبي سهل الزجاج وأبي الحسن الكرخي وعن غيرهما من فقهاء عصره، وأخذ الحديث وتوسع فيه ورحل إلى الآفاق، فأخذ عن ابن قانع والطبراني وجماعة من الأئمة الحفّاظ.
استقر له التدريس ببغداد وانتهت إليه الرحلة، وكان على طريق شيخه الكرخي وبه انتفع، وكان الجصاص زاهدا ورعا متعبدا، عرض عليه منصب قضاء القضاة فامتنع منه، وعظم الانتفاع به وانتهت إليه رئاسة الحنفية وتخرّج به أصحاب المذهب، وكان له فضل كبير في إظهار حجج الحنفية وأدلتهم.
ويحتج في كتبه بالأحاديث المتصلة بأسانيده.
له كتب كثيرة، منها: أصول الفقه، وشرح مختصر الطحاوي، وأهمها كتاب (أحكام القرآن) [١].
طريقة المؤلف فيه
هذا التفسير هو أول تفسير فقهي مطبوع، وأهم كتب التفسير الفقهي، لما فيه من عمق الاستنباط وفنون الاستدلالات، وقد شمل آيات الأحكام كلها على ترتيبها في المصحف، لكنه مع ذلك مبوّب على مثال ترتيب كتب الفقه، يضع لكل آية أو آيات عنوانا يدل على مضمون المسائل التي تستنبط منها أو تتفرع عليها، فكان بذلك أسبق من العصريين في اتباع هذه الطريقة.
ومن مزايا هذا التفسير أنه لا يقتصر على ذكر الأحكام التي تستنبط من الآيات، بل يستطرد إلى تفريع مسائل تتفرع منها، ويذكر فيها خلافيات بين الأئمة والأدلة بتوسع كثير.
ويعتني الإمام الجصاص في كل مسائل كتابه بتأييد مذهب الحنفية، بأن
(١) الفوائد البهية في تراجم الحنفية للكنوي ص ٢٧ - ٢٨ وسير أعلام النبلاء للذهبي ج ١٦ ص ٣٤٠ - ٣٤١.
يبين وجه استدلالهم بالآية، أو يدفع استدلال المخالفين بآية احتجوا بها على الحنفية.
ومن الأمثلة تفسيره لقوله تعالى: وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ فقد فسّر آتُوا بمعنى أعطوا والْيَتامى بما بعد البلوغ، مجازا باعتبار ما كان، وفائدة المجاز الإشارة إلى الإسراع بدفع ما لهم إليهم حتى كأنّ اسم اليتم لم يزل عنهم، لأنه لا يسمى يتيما بعد البلوغ. وهذا ظاهر لا تكلف فيه.
ثم فرّع على هذا التفسير وجوب دفع مال اليتيم إليه إذا بلغ خمسا وعشرين سنة أخذا من قوله تعالى: وَابْتَلُوا الْيَتامى حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ، لأن الآية الأولى لم تشترط إيناس الرشد لإيتاء المال إلى اليتيم، فجعلها فيما إذا بلغ خمسا وعشرين سنة، والثانية اشترطته فجعلها فيما دون ذلك، لانعقاد الإجماع على أن لا يدفع له المال قبل الخامسة والعشرين، يعني ولا إجماع بعد ذلك فاستعمل الآية فيه، وهو مذهب الحنفية [١].
وهو استدلال بعيد كتفسير للآية، وإن كان يمكن أن يقال: إن هذا السن مظنّة بلوغ الرّشد، فيعامل معاملة تحققه، دفعا لطمع الأوصياء في مال اليتيم.
وربما شدد الجصاص الهجوم على مخالفي الحنفية من الأئمة، وكانت أجواء المنافسات والمناظرات تهيّأ لذلك خصوصا في بغداد مما ينبهنا إلى أن لا نتأثر في عصرنا بمثل هذه المؤثرات، وقد كثرت ولا حول ولا قوة إلا بالله.
ومن أمثلة ذلك قوله تعالى: فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ذلِكَ أَدْنى أَلَّا تَعُولُوا.
(١) أحكام القرآن للجصاص ج ٢ ص ٥٤ - ٥٩.
فسر جمهور المفسرين أَلَّا تَعُولُوا أن لا تميلوا إلى إحدى الزوجات.
وفسرها الشافعي بألا تكثر عيالكم، فشنّع الجصاص تبعا للمبرد على الشافعي هذا التفسير بأنه يخالف اللغة، لأنه لو كان هذا هو المراد لقال «ألّا تعيلوا»، وشدّد في التشنيع
مما لا ينبغي أن يصدر عن مثله [١].
والحاصل أن هذا التفسير- على ما انتقدناه به- فإنه تفسير جليل وعميق، ومفيد جدا لطالب العلم في تعميق ملكة التفقه في كتاب الله تعالى.
٢ - الجامع لأحكام القرآن لأبي عبد الله القرطبي
مؤلف الكتاب
هو الإمام أبو عبد الله محمد بن أحمد بن أبي بكر بن فرح الأنصاري الخزرجي الأندلسي القرطبي، نشأ في قرطبة ثم رحل منها إلى المشرق واستقر بمنية ابن خصيب شمالي أسيوط، وتوفي فيها سنة ٦٧١ هـ.
كان من عباد الله الصالحين، والعلماء العارفين. الزاهدين في الدنيا، المشغولين بالآخرة، أوقاته معمورة ما بين توجه وعبادة وتصنيف. وبلغ من زهده أنه اطّرح التكلف وصار يمشي بثوب واحد وعلى رأسه طاقية.
أخرج كتبا كثيرة انتفع الناس بها، منها كتابه التفسير الذي نتكلم عنه، والتذكار في أفضل الأذكار، والتذكرة بأحوال الموتى وأمور الآخرة، وهي مطبوعة، وله كتب غير ذلك مفيدة [٢].
طريقة هذا التفسير
اسم هذا التفسير هو (الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمّن من السنّة وآي الفرقان) ، واشتهر بتفسير القرطبي، وهو من أجل كتب التفسير وأعظمها
(١) وتابعه على ذلك أبو بكر ابن العربي أيضا في كتابه «أحكام القرآن» ج ١ ص ١٣١.
وقد انتقده القرطبي في تفسيره ببيان واسع ج ٢ ص ٣٢٢.
(٢) نفح الطيب للمقري ج ١ ص ٤٢٨ ومقدمة تفسير القرطبي.
نفعا. بيّن مؤلفه في مقدمته طريقته فيه وتتخلص بما يلي:
العناية بالرواية وتخريج الأحاديث، وبيان جوانب اللغة والإعراب، وذكر القراءات، وبيان الناسخ والمنسوخ وإسقاط القصص والتواريخ، والتعويض عنها بالأحكام المستنبطة، وذكر أدلة الأئمة، ثم الإدلاء برأيه بغاية الهدوء والموضوعية.
ويمتاز هذا التفسير بمزايا هامة، منها: وضوح عبارته وسهولته، ومنها حسن ترتيبه، فهو يقسم الأفكار ويجعل كل فكرة مسألة، ويصدر تفسير الآية بهذه العبارة: قوله تعالى كذا ... فيه سبع عشرة مسألة مثلا، المسألة الأولى .. وهكذا .. ما يساعد القارئ على ترتيب أفكاره وحسن الفهم.
ومنها اعتناؤه بعلوم اللغة في دلالة الكلمة واشتقاقها ووجوه الإعراب وفائدتها في المعنى. ومنها أنه عني بالاستنباط من كل القرآن فاستنبط أحكاما من آيات ليست مما يورده أصحاب تفسير أحكام القرآن.
ومن أمثلة طريقته في الجانب الفقهي الذي نتكلم عنه هنا:
قوله تعالى في آية الوضوء: فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ: قال رحمه الله [١]:
«ولا بد في غسل الوجه من نقل الماء إليه وإمرار اليد عليه، وهذه حقيقة الغسل عندنا وقد بيّناه في النساء. وقال غيرنا: إنما عليه إجراء الماء وليس عليه دلك بيده. ولا شك أنه إذا انغمس الرجل في الماء وغمس وجهه أو يده ولم يدلّك يقال: غسل وجهه ويده. ومعلوم أنه لا يعتبر في ذلك غير حصول الإسم فإذا حصل كفى».
فقد رجح مذهب غير المالكية أنه لا يجب الدلك في الغسل، واستدل بأن الغمس في الماء يسمى غسلا، وبالتالي فإن المطلوب حصول ما يسمى غسلا، وهو معنى قوله: «لا يعتبر في ذلك غير حصول الإسم» أي لا يجب إلا
(١) الجامع لأحكام القرآن ج ٦ ص ٨٣. وانظر تفسيره آية النساء ج ٥ ص ٢٠٩.
حصول ما يسمى في اللغة غسلا، فإذا حصل- أي ما يسمى غسلا- كفى لأداء الواجب. وهو إنصاف واضح واعتماد دقيق على أصول فن التفسير وتطبيقها.
ولاعتناء القرطبي بالاستنباط نجده يلتفت لفوائد لا يذكرها غيره، ومن ذلك قوله تعالى فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً ... قال القرطبي في الآية [١] «دليل على أنه- أي المهر- في مقابلة البضع، لأن ما يقابل المنفعة يسمى أجرا. وقد اختلف العلماء في المعقود عليه في النكاح ما هو؟ بدن المرأة أو منفعة البضع أو الحلّ- أي حلّ الاستمتاع- ثلاثة أقوال، والظاهر المجموع، فإن العقد يقتضي كل ذلك».
ومن غاية إنصاف القرطبي وسموّه رفضه النيل من أئمة الإسلام وإن وقع ذلك من بعض أعلام مذهبه، مما يعطي أهل العلم درسا في ذلك [٢].
وهكذا جاء تفسير «الجامع لأحكام القرآن» جامعا كاسمه لفنون اللغة والعلوم التي يحتاج إليها المفسر مسبوكة بأسلوب واضح وترتيب جميل وتقسيم ميسر، مما جعل هذا التفسير من أجلّ كتب التفسير وأعظمها نفعا وأكثرها تداولا في هذا العصر.
(١) ج ٥ ص ١٢٩. لكن قوله «إن المهر في مقابلة البضع ... » غير مسلّم، لأن الاستمتاع مشترك بين الزوجين، وسمي المهر أجرا لتأكيد لزومه وإلا فهو عطية مبتدأه للمرأة، قال تعالى: وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً أي عطية مبتدأة ليست في مقابل شيء.
(٢) انظر ما سبق ص ١٠٧ تعليقا.
الفصل الحادي عشر التفسير في العصر الحديث
في مطالع القرن الرابع عشر الهجري المنصرم وفي ظل الاحتلال الأجنبي لكثير من البلاد الإسلامية أو أكثرها احتدم الصراع الفكري في البلاد الإسلامية وأثيرت شبهات وإشكالات حول مفاهيم القرآن الأساسية والعلوم التي اشتمل عليها، وكانت النزعة المادية الصرفة الملحدة متسلطة على المفكرين في أوربة مما جعل جملة هذه العوامل وغيرها يثير الجدل والشبهات، التي أثارت رجال العلم والفكر المسلمين للاضطلاع بمهمتهم تجاه هذا الواجب.
وكان من الطبيعي أن تتجه أنظار الجميع إلى القرآن: توجه المنحرفون إلحادا وتشكيكا، وتوجه العلماء إظهارا للحق وهداية القرآن، وتفسيرا صحيحا لآياته ولإعجازه [١].
لكن في ظل الانبهار والدهشة لتفوق الأجنبي جاءت بحوث عدد من العلماء والمفكرين الإسلاميين متأثرة بمناهج الأجانب ومفاهيمهم المادية البحتة، وظهر أثر ذلك واضحا في تفاسير عدد منهم مما يتعارض مع الأدلة ومناهج التفسير.
ومن ذلك إنكار بعضهم المعجزات الحسية وتأويل الآيات الواردة فيها تأويلا بعيدا متكلفا، مثل تأويل الإسراء على أنه كان بالمنام أو بالروح فقط،
(١) كما هو صريح مقصد الشيخ محمد عبده في «تفسير القرآن الحكيم» المشهور بتفسير المنار.
مصادما صريح الآية والأحاديث المتواترة.
كذلك إنكار خلق آدم وتأويل قصته، حتى فسّر بعضهم قوله تعالى:
خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ أن المراد خلق العرب من إسماعيل عليه السلام [١]، جاهلا أو متجاهلا إجماع المفسّرين، وأن العرب ليسوا كلهم من إسماعيل .. ؟!
ومن ذلك تأويل الملائكة بالخاصة في المخلوق «وهو- كما قال الشيخ محمد عبده- أن هذا النمو في النبات لم يكن إلا بروح خاص نفخه الله في البذرة فكانت به هذه الحياة المخصوصة، وكذلك يقال في الحيوان والإنسان».
وفسّر الناس كلامه ذلك بأنه أراد قوى الطبيعة، وانتشر في أوساط كثيرة آنذاك، وهو خطأ في العلم وفي الفهم أيضا، ولا ينسجم مع الإيمان بالوحي والنبوات [٢].
وراح بعضهم يفسر الآيات القرآنية على أي شيء يسمعه من المكتشفات العلمية دون تثبت من صحة الاكتشاف فضلا عن فهم حقيقته وطبيعته، ودون تقيد بأصول علم التفسير التي لا يجوز الإخلال بها، حتى ظهر تفسير ضخم للقرآن كله هو: «الجواهر في تفسير القرآن»، للشيخ طنطاوي جوهري يعجّ بالطامات في أمور العلم والجموح العجيب في تفسير القرآن، حتى نجده يفسر الآيات التي تذكر إحياء الموتى في سورة البقرة فيجعلها أصلا في علم تحضير الأرواح وأنه استخرج منها بزعمه، حتى يقول: «والمسلمون يؤمنون بها، حتى ظهر علم الأرواح بأمريكا أولا، ثم بسائر أوربة ثانيا ... » [٣]؟!!
(١) انظر ذلك في تفسير المراغي. في مطلع سورة النساء؟!
(٢) انظر كلام الشيخ محمد عبده مطولا بتمامه في تفسيره ج ١ ص ٢٦٧ - ٢٦٨. لكنه نفى أن يكون هذا هو مراده ص ٢٧٠ - ٢٧٣ وبيّن أن مراده هو «أنها قوى أو أرواح منبثة فيما حولك وما بين يديك وما خلفك وأن الله ذكرها لك بما يعرفها سلفك .. ؟!».
لكن يظل هذا التأويل غير مقبول، لمخالفته أوصاف الملائكة وأعمالهم الواردة في الكتاب والسنّة.
(٣) تفسير الجواهر ج ١ ص ٧١ وما بعده.
وفي الحروف المقطعة أول سورة آل عمران الم يعقد بحثا طويلا عنوانه «الأسرار الكيميائية في الحروف الهجائية .. » أتى فيه بما يبعد عن العلم وعن فطرة العقل كذلك [١].
ولا نزال نوافى بمثل تكلفاته هذه في عصرنا هذا!!.
نحن نقدر حرص الكاتبين على إظهار إعجاز القرآن والنهوض بالمسلمين في مدارج الرقي لكنهم أخطئوا الطريق، فليس الطريق إلى ذلك بمخالفة العلم في درسه ولا القرآن في أصول بحثه.
وقد ظهرت ردود ومناقشات حول هذه القضايا كلها، لكن لم يظهر تفسير كامل ملتزم بمنهج التفسير في ذلك الوقت، يتضمن التفسير الصحيح في هذه الآيات الكثيرة.
حتى إذا كان الربع الأخير من القرن الرابع عشر نشطت الدراسات القرآنية نشاطا عظيما، وظهرت دراسات تفسيرية لبعض السور أو الجوانب، كما ظهرت تفاسير متنوعة، ذات مناهج مبتكرة متعددة، فيها تجديد في عرض معاني كتاب الله، يعتمد أصول التفسير، ويعوّل على المصادر القديمة، ويلائم حاجة القارئ المعاصر في ضوء استقرار الحقائق العلمية، وانجلاء الغبار عن أخطاء السابقين، وإن كان بعضهم تأثر بأخطاء السابقين لكن الجملة يعتمد عليها.
وأهم أنواع التفسير المعاصرة ما يلي
الأول: التفسير المنهجي [٢]:
ومن أشهر كتبه المتداولة: «التفسير الواضح» للدكتور الشيخ محمد محمود حجازي.
(١) المرجع السابق ج ٢ ص ١٠ - ١١.
(٢) هكذا اخترنا تسميته، لما بينا من طريقته، وهي طريقة عامة في هذا العصر. أما التفسير التحليلي فيتميز بمزيد الدقة والعمق.
وطريقة هذا التفسير أنه يتبع أصول التفسير وخطواته عند العلماء، لكنه ينظم هذه الخطوات في فقرات منفصلة هكذا: أسباب النزول، مناسبة الآية لما قبلها، المفردات اللغوية، الإعراب وأثره في المعنى، البلاغة، المعنى العام، ثم ما يستنبط من النص من الفوائد، مع مراعاة سلاسة الأسلوب ووضوحه، ومزج فيه التفسير بالمعاني العلمية والتوجيهات الاجتماعية والاستنباطات.
لكن المؤلف كثيرا ما يخالف ما عليه الجمهور، دون أن يظهر مبرّر لعمله ذلك [١].
وعلى كل فالكتاب هام وسهل لعامة القراء، ومفيد، يلائم بث روح النهوض في المسلم، وإيقاظ وعيه للعلوم والثقافات.
الثاني: التفسير الأدبي الاجتماعي:
وهو تفسير يبرز إعجاز القرآن ويعتمد في عرض معانيه على الأسلوب الأدبي الجذّاب ليصل إلى القارئ بما يريد من التأثير والتوجيه.
وقد لفت هذا التفسير الوحيد إليه الأنظار، لأنه استطاع أن يملك ناصية البيان الأدبي في عرض المعاني، وناصية الذوق الأدبي في فهم أسرار إعجاز القرآن، ثم في المنطلق المعاصر الذي عني به وهو إبراز إعجاز القرآن في فن التصوير حتى استطاع أن ينال الاعتراف به والإعجاب، إذ سبق وبادر لإثبات إعجاز القرآن وفق مقياس أدبي فنّي حديث: هو فن التصوير، وأن يقدم تفسيرا
(١) مثل تفسيره النَّازِعاتِ ... بالكواكب، خلافا للجمهور، وخلافا لظاهر قوله تعالى فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً.
ومثل تفسيره الْعِشارُ عُطِّلَتْ السحاب. وتعطيلها منعها من حمل الماء، وقيل: «هي النياق أتى على حملها عشرة أشهر ... ». فعبر بقيل عن التفسير الذي هو ظاهر اللغة ورأي أكثر الناس، ولم يبين سبب اختياره؟! مع أنه لا إشكال على المعنى الظاهر، لأنه يشير إلى اشتغال الناس بداهية القيامة عن أنفس أموالهم، وكانت العشار أعزّ أموال العرب عليهم.
كاملا للقرآن يبرز فيه مصداق هذه النظرية [١].
الثالث: التفسير العلمي:
هو التفسير الذي يجتهد في استخراج مختلف العلوم والآراء الفلسفية من القرآن الكريم [٢].
وقد أخذ هذا النوع من التفسير اهتماما عظيما لدى المثقفين في الآونة الأخيرة، وذلك لما كشف عنه تقدم العلم من إعجاز القرآن، وتصديقه الحقائق العلمية، على حين قضى تقدم العلم بالبطلان على التراث الديني لدى الأمم الأخرى. وزاد ذلك الاهتمام ضعف ملكة الدارسين الأدبية، فضلا عن أن القسم الأعظم من المسلمين ليسوا من العرب.
لكن وقع من بعض الكاتبين غلو وجنوح في هذا التفسير مما سبق أن حذرنا منه، وأوضحناه بالأمثلة. وأتينا في بحث الكون في القرآن على تفاصيل وشروط يجب أن تتبع في هذا التفسير.
ومما يذكر من المؤلفات في هذا الباب: دراسة الكتب المقدسة في ضوء المعارف الحديثة. للدكتور موريس بوكاي [٣]. وآيات الله في الآفاق.
للأستاذ الشيخ محمد وفا أميري.
الرابع: التفسير العام:
هو تفسير يعرض مقاصد الآيات ومعانيها، دون دخول في تفاصيل المفردات وجزئيات المعنى.
وقد احتل هذا التفسير مكانة كبيرة في الأوساط العامة، وأصبح عمدة في الخطب والمقالات، والأحاديث والبحوث الإسلامية الثقافية.
(١) انظر ما سيأتي في الفصل الخاص بالتصوير في القرآن.
(٢) بتصرف عن التفسير والمفسرون ج ٣ ص ١٤٠.
(٣) على تحفظ من آرائه في الحديث النبوي تعرضنا لها في كتابنا: «السنّة المطهرة والتحديات» فارجع إليه.
لكن كثر دخول من ليس من أهل التفسير فيه، وكثر الخطأ فيه، حتى ربما أدخل كثيرون في تفسير الآية أشياء لا علاقة لها بالآية، فضلا عما هو أشد من ذلك.
والذي يجب أن يتنبّه له كلّ باحث أو محاضر أو خطيب أو داعية أن يعلم أنه مطالب بمراعاة أصول التفسير وقواعده، ليكون ما يعرضه على الناس من التفسير العام حصيلة دراسة مبنية على المنهج السليم، فيحوز أجر المبلّغين لكتاب الله وعلومه، وينجو من الوعيد الشديد الذي عرفناه فيمن تكلم في القرآن برأيه.
ولعل أهم ما صنّف كتفسير في هذا النوع: تفسير القرآن الكريم، لفضيلة أستاذنا الشيخ محمود شلتوت رحمه الله شيخ الأزهر الأسبق، وشمل فيه الأجزاء العشر الأولى فقط.
الخامس: التفسير الموضوعي:
وهو تفسير يدرس القضايا بحسب دلالة الآيات القرآنية في القرآن كله.
أو بحسب مقصد سورة منه [١].
وقد عني المعاصرون بالتفسير الموضوعي، لملاءمته حاجة العصر ودراسة القضايا الحديثة. ومن الكتب الهامة المفيدة فيه كتابا «هدي القرآن إلى الحجة والبرهان» و «هدي القرآن إلى معرفة العوالم والتفكر في الأكوان» كلاهما لفضيلة أستاذنا الشيخ عبد الله سراج الدين. وكتاب «نبوة محمد صلى الله عليه وسلم في القرآن» للدكتور حسن ضياء الدين عتر.
وهكذا جاءت جهود المعاصرين بأساليب مبتكرة في التفسير، تلبي حاجة العصر، وتبرز إعجاز القرآن في أسلوبه ومضمونه وفي هدايته، وخصوصا تلك التي التزمت منهج التفسير الذي قرره العلماء.
(١) قارن تعريفنا هذا بالتعاريف الواردة في كتاب «مباحث في التفسير الموضوعي» للدكتور مصطفى مسلم ص ١٦. وانظر الكتاب كله لفائدته.
الفصل الثاني عشر ترجمة القرآن الكريم وحكمها
هذا موضوع حاق، والحاجة لبحثه ضرورية. فقد انتفع بفهم معاني القرآن أقوام فآمنوا، وازداد آخرون إيمانا، وضلّ قوم بسوء ما فسّر لهم القرآن بغير لغته، وصدهم ذلك التحريف لمعانيه عن الإيمان.
ونرى لزاما علينا لبحث الموضوع بحثا علميا منهجيا أن نقسم الترجمة إلى قسمين:
القسم الأول: الترجمة الحرفية.
القسم الثاني: الترجمة التفسيرية.
القسم الأول: الترجمة الحرفية
الترجمة الحرفية: هي أن يترجم نظم القرآن بلغة أخرى، ترجمة تحاكيه حذوا بحذو، بحيث تحلّ مفردات الترجمة محل مفرداته، وأسلوبها محل أسلوبه.
وهذه الترجمة مستحيلة في حق القرآن العظيم وذلك لسببين أساسيين:
أولهما: كونه معجزة للبشر لا يقدرون على الإتيان بسورة مثله، ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا.
الثاني: إنه هداية تؤخذ منه الأحكام، وتستنبط الفوائد والتوجيهات، وهذا الاستنباط لا يؤخذ فقط من المعاني الأصلية التي يسهل فهمها والتعبير
عنها بلغات أخرى، بل إن كثيرا من الاستنباطات إنما يستفاد من المعاني الثانوية، مثل إشارة النص، ودلالة النص، إلى آخر ما هنالك، ومن غير الممكن أن يحافظ في الترجمة على المعاني الثانوية هذه، لأنها لازمة للقرآن لا تنتقل إلى اللغات الأخرى.
القسم الثاني: الترجمة التفسيرية
الترجمة التفسيرية أو المعنوية: هي شرح الكلام بلغة أخرى على قدر طاقة الإنسان. فهي في الواقع تفسير لمعاني القرآن لكنه مكتوب بلغة غير لغة القرآن. بأن نفهم المعنى المراد من النص قدر طاقتنا ثم نعبر عنه باللغة المترجم إليها على وفق الغرض الذي سيق له.
وهذه ولا شك ممكنة، لا يماري فيها أحد.
ويمكن أن نتبين الفرق بين الترجمة الحرفية والترجمة المعنوية التفسيرية بالتطبيق العلمي على مثال هو هذه الآية: وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً [١].
لو أراد المترجم أن يترجم هذه الآية الكريمة ترجمة حرفية، لقال بلغة أخرى: «لا تربط يدك إلى عنقك ولا تمدها غاية المد .. ». وهذا تعبير بعيد عن المقصود الحقيقي للآية، يثير استنكار القارئ غير العربي، لأنه مثير للاستغراب، ولا يفهم منه المعنى الذي قصده القرآن وما فيه من التشبيه البليغ.
أما إذا أراد ترجمتها ترجمة تفسيرية فإنه يبين نهي القرآن عن الضدين:
التقتير والتبذير، وقد عرضهما القرآن مصوّرين صورة شنيعة ينفر منها الإنسان، فإن الكلام الذي فسّر به معنى الآية باللغة الأخرى يكون مفهوما للقارئ الأعجمي، ومقبولا عنده ومؤثرا فيه. وشتان ما بين العملين، وما أبعد ما بينهما.
(١) سورة الإسراء، الآية ٢٩.
وهذه شهادة منصفة من رجل متمكن من اللغة العربية ولغته الفرنسية، هو المستشرق الفرنسي الدكتور ماردريس، فقد كلفته وزارة الخارجية والمعارف الفرنسيتان بترجمة ٦٢ سورة من السور الطوال، فحاول جهده، وقال في مقدمة ترجمته هذه [١]:
«أما أسلوب القرآن فهو أسلوب الخالق جلّ وعلا، فإن الأسلوب الذي ينطوي على كنه الكائن الذي صدر عنه هذا الأسلوب لا يكون إلا إلهيا ..
لذلك كان من الجهد الضائع غير المثمر أن يحاول الإنسان أداء تأثير هذا النثر البديع الذي لم يسمع بمثله بلغة أخرى، وخاصة الفرنسية القاسية الضيقة التي لا تتسع للتعبير عن الشعور .. زد على ذلك أن اللغة الفرنسية ومثلها جميع اللغات العصرية ليست لغة دينية، وما استعملت قط للتعبير عن الألوهية» [٢].
حكم الترجمة التفسيرية
إن تفسير القرآن الكريم علم جليل، وهو من العلوم التي فرض الله على الأمة تعلمها وتعليمها، والترجمة التفسيرية هي تفسير للقرآن الكريم بلغة أخرى غير اللغة العربية، فكانت هذه الترجمة فرضا مما فرضه الله تعالى على الأمة، بل هي الآن أكثر فرضية لما يترتب عليها من الواجبات المحتمة، مثل تبليغ معاني القرآن على وجه صحيح إلى المسلمين غير العرب، وكذلك إلى غير المسلمين أيضا، ومثل المحافظة على العقيدة الإسلامية من التحريف الخاطئ أو المعتمد الذي كثر فيما يسمى ترجمات القرآن، مما يشوّش عقيدة قارئها المسلم، ويصد غير المسلم عن دين الله تعالى، وكذلك الدفاع عن القرآن بكشف أضاليل المبشرين والمستشرقين الذين تعالت أصوات الشكايات من دسهم وتزييفهم.
(١) الصادرة سنة ١٩٢٦. كما في المعجزة الخالدة ص ١٨٦ - ١٨٧ عن الوحي المحمدي ص ٢١ - ٢٢.
(٢) هذا هو حال اللغة العربية قبل نزول القرآن، كما يلاحظ من دراسة الأدب الجاهلي، لكن إعجاز القرآن هو الذي جعلها لغة دين وإيمان بأقصى تفاصيل إيمانية وإلهية لا توجد في دين آخر، كما جعلها لغة العلوم والمعارف.
شروط الترجمة التفسيرية
ولتكون الترجمة التفسيرية ترجمة صحيحة ومؤدية للغرض المطلوب، وبعيدة عن أي ضرر فقد اشترط العلماء المعاصرون في إعدادها وطبعها الشروط التالية:
١ - أن تكون مستوفية شروط التفسير التي سبقت. وذلك يوجب على المترجم استحضار معنى الأصل من تفسير عربي مستوف لتلك الشروط. أما إذا استقل برأيه ولم يكن أهلا لذلك، أو اعتمد على تفسير غير مستوف للشروط فلا تكون هذه الترجمة صحيحة ولا جائزة. وينطبق عليها الوعيد الشديد والإثم الأكيد فيمن قال في القرآن برأيه المجرد.
٢ - أن يكون المترجم بعيدا عن الميل إلى أي عقيدة زائغة تخالف عقيدة القرآن، وهذا شرط في الأصل التفسيري أيضا كما هو معلوم.
٣ - أن يكون المترجم عالما باللغتين: المترجم منها والمترجم إليها معرفة خبرة بأسرارهما، وعلم دقيق بوجوه وضع اللغة، وطرق الأساليب، واختلاف الدلالة بحسب الأسلوب في كل من اللغتين.
٤ - أن يراعى في طباعة الترجمة التفسيرية اشتمال الطبعة على القرآن أولا، ثم تفسيره العربي ثانيا، ثم يتبع ذلك بترجمته التفسيرية، حتى لا يتوهم متوهم أن هذه ترجمة حرفية للقرآن.
والجدير بالذكر أن بعض البلاد الإسلامية طبعت المصاحف محاطة بتفسير باللغة المحلية في هامش المصحف، كما فعل الإيرانيون والباكستانيون، وليت هذا التفسير يكتبه أولا فريق من العلماء أهل الاختصاص إذن لكان العمل أسلم وأجدى [١].
(١) انظر التوسع في الموضوع: في منهج الفرقان في علوم القرآن لمحمد علي سلامة ج ٢ ص ٧١ - ٩٠ ومناهل العرفان ج ٢ ص ٦ - ٢٥ وديباجة ابن قتيبة لكتابه تأويل مشكل القرآن، والتفسير والمفسرون ج ١ ص ٢٣ - ٣٠ والمعجزة الكبرى ص ٦١١ - ٦١٩ وغيرها.
الفصل الثالث عشر المحكم والمتشابه
الاحكام لغة
الإتقان البالغ، ومنه البناء المحكم الذي أتقن فلا يتطرق إليه الخلل أو الفساد.
وأما المتشابه: فهو في أصل اللغة:
من الشبه وهو التماثل بين شيئين أو أشياء. ولما كان التماثل بين الأشياء يؤدي إلى الشك والحيرة، ويوقع في الالتباس توسعوا في اللفظ، وأطلقوا «متشابه» و «مشتبه» على كل ما غمض ودقّ.
وكما توسعوا في المتشابه توسعوا في «المشكل» فصار كما قال ابن قتيبة «يقال لكل ما غمض وإن لم يكن غموضه من هذه الجهة مشكل».
ويمكن أن نلحق بهذين النوعين نوعا ثالثا هو المبهم، وهو مأخوذ من الإبهام، والمراد به ما أغفل ولم يعيّن فيه الفرد أو الشخص مع فهم المعنى، مثل: «رجل»، «امرأة».
وبناء على الإطلاق اللغوي للمحكم والمتشابه وهو إطلاق شامل واسع فإن بوسعنا أن نفهم استعمال القرآن هذين اللفظين بإطلاقات متعددة ولمعان متنوعة، وصف فيها القرآن بالإحكام ووصف بالتشابه:
لقد جاء وصف القرآن كله بالإحكام في أكثر من موضع من القرآن، كما وصف بالحكمة أيضا:
قال تعالى في أول سورة هود: الر. كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ.
فوصف الله تعالى القرآن بأنه كِتابٌ عظيم الشأن جليل القدر، وعبر بالإحكام في قوله: أُحْكِمَتْ عن الإتقان للإشارة إلى أنه متكامل العظمة من الناحية الإيجابية بإتقانه البالغ، نظما ومعنى ومن الناحية السلبية فلا يتطرق إليه دخل ولا خلل لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ.
كذلك وصف القرآن كله بأنه متشابه، في قوله تعالى في سورة الزمر [١]:
اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ. ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ.
فقد جاء مدح القرآن هنا بأنه متشابه أي يشبه بعضه بعضا في الحسن والإعجاز، ويصدق بعضه بعضا مَثانِيَ يردد فيه القول، أو يذكر الشيء وضده، كذكر المؤمنين ثم الكافرين، وكصفة الجنة ثم صفة النار، وهكذا ...
المحكم والمتشابه اصطلاحا
وليس موضوع هذا البحث تفصيل أوجه الإحكام والتشابه اللذين وردا فيما سبق، وإنما موضوع البحث وصف القرآن حسبما ورد النص فيه صراحة في سورة آل عمران في هذه الآية من مطلعها:
هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ، وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ.
(١) الآية ٢٣.
فقد دلّت الآية على أنّ من القرآن ما هو محكم، ومنه ما هو متشابه، فما هو المراد بهما هاهنا؟
لقد تعددت الآراء في تعريف المحكم والمتشابه المذكورين في هذه الآية وكان السبب في ذلك اختلاف الوجهة التي ينظر منها صاحب كل رأي.
ولعلنا إذا نظرنا إلى سياق الآية نخلص إلى ترجيح رأي الإمام الطيبي.
المحكم: هو الواضح المعنى الذي لا يتطرق إليه إشكال.
والمتشابه: هو الذي طرأ عليه خفاء في المعنى المراد منه [١].
فإن سياق الآية يؤيد هذا، لأنه تعالى جعل المحكم مقابلا للمتشابه، فينبغي أن يفسّر بما يقابله، وأشار إلى أن المتشابه يحتاج إلى تأويل، الأمّ فيه أي المرجع والأصل الذي يجب التعويل عليه هو المحكم.
هل يمكن تفسير المتشابه
وبالنظر لغموض المتشابه وخطورة البحث فيه لكونه بحثا في كلام الله تعالى اختلفت الآراء فيه، هل هو مما يمكن الاطلاع على علمه، أو لا يمكن الاطلاع على علمه، ولا يعلمه إلّا الله.
وقد أرجعوا السبب في هذا الاختلاف إلى الاختلاف في آية آل عمران السابقة وقوله تعالى فيها: وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا ....
فذهب بعض أهل العلم إلى أن الراسخين في العلم يعلمون المتشابه، وفسروا الآية على أن قوله وَالرَّاسِخُونَ معطوف على قوله إِلَّا اللَّهُ وقوله يَقُولُونَ في محل نصب حال، ولا يقف هؤلاء على لفظ الجلالة اللَّهُ، بل على قوله رَبِّنا. والمعنى أن الله هو الذي يعلم تأويله وكذا الراسخون في العلم حال كونهم قائلين آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا، وتكون الآية دالة
(١) انظر رأي الطيبي في الإتقان ج ٢ ص ٤.
على أن الراسخين في العلم أي الثابتين المتمكنين فيه يعلمون تأويله.
وذهب كثير من أئمة العلماء المتقدمين والمتأخرين إلى أن المتشابه لا يطلع على علمه إلا الله تعالى، واستدلوا بالآية نفسها كذلك وقالوا: إن قوله تعالى: إِلَّا اللَّهُ نهاية الكلام السابق والوقوف في القراءة عليه، وقوله:
وَالرَّاسِخُونَ مبتدأ، وجملة يَقُولُونَ في محلّ رفع خبر، والمعنى وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ ثم استأنف ويقول الراسخون في العلم آمنا به كل من عند ربنا، أي كل من المحكم والمتشابه من عند ربنا تبارك وتعالى، لا نفرق بينهما في الإيمان والخضوع، وكل واحد منهما يصدق الآخر، وليس شيء من عند الله بمختلف ولا بمتناقض.
وقد وردت آثار تشهد لهذا الرأي، منها ما أخرجه عبد الرزاق والحاكم في المستدرك عن ابن عباس أنه كان يقرأ: وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ، وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ ... [١].
فهذا خبر بإسناد صحيح إلى ترجمان القرآن يدل على أنه يفسر الآية هكذا، وهو دليل على أن الواو في قوله: وَالرَّاسِخُونَ للاستئناف.
ويؤيد ذلك أن الآية دلت على ذمّ متبعي المتشابه، وعلى مدح الذين فوّضوا العلم إلى الله وسلّموا إليه، كما مدح المؤمنين في مواضع كثيرة بأنهم يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ.
التحقيق في المسألة
ونحن إذا أمعنا النظر في الموضوع من أصله، وبحثنا منطلقات الفريقين نجد أنهما متقاربان، وأن الخلاف ليس جوهريا، وإنما هو خلاف فرعي ناشئ عن اختلافهم في حقيقة المتشابه.
وذلك أن الذين قالوا لا يعلم المتشابه إلا الله أدخلوا في المتشابه قضايا من الغيب مثل قيام الساعة، وخروج الدجال، وحقائق العوالم الأخرى. بل
(١) الإتقان ج ٢ ص ٣ وانظر الطبري ج ٦ ص ٢٠٢ وابن كثير ج ٢ ص ٨.
إن منهم من قصر المتشابه على هذه القضايا ونحوها من مبهمات القرآن.
وهذه أمور قد استأثر الله بعلمها، لا خلاف في ذلك بينهم إطلاقا.
وأما الذين قالوا إن الراسخين في العلم يعلمون المتشابه فلم يدخلوا فيه هذه القضايا، فبقي الموضوع في إطار ما يمكن بحثه لهذه النخبة من أئمة العلم والدين.
وثمة أمر آخر له أثره في اختلاف الآراء، هو تحديد حقيقة التأويل، أو بعبارة أخرى المدى الذي يبلغه التأويل، وفي هذا يقول الإمام المفسر ابن كثير [١]:
«ومن العلماء من فصّل في هذا المقام فقال: التأويل يطلق ويراد به في القرآن معنيان:
أحدهما: التأويل بمعنى حقيقة الشيء وما يؤول أمره إليه ... ومنه قوله تعالى: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ. يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ .. أي حقيقة ما أخبروا به من أمر المعاد، فإن أريد بالتأويل هذا فالوقف على الجلالة إِلَّا اللَّهُ، لأن حقائق الأمور وكنهها لا يعلمه على الجلية إلا الله عز وجل ..
وأما إن أريد بالتأويل المعنى الآخر وهو التفسير والتعبير والبيان عن الشيء، كقوله: نَبِّئْنا بِتَأْوِيلِهِ أي بتفسيره، فإن أريد به هذا المعنى فالوقف على وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ.
لأنهم يعلمون ويفهمون ما خوطبوا به بهذا الاعتبار، وإن لم يحيطوا علما بحقائق الأشياء على كنه ما هي عليه ... ».
كيف نفسر المتشابهات
لما كانت المتشابهات تقع في القرآن الكريم في موضوعات متعددة فإنها
(١) في تفسيره ج ٢ ص ٨ باختصار وتصرف يسير.
تنقسم إلى أكثر من قسم نكتفي منها هنا بأهم ما يجب على دارس القرآن، وهو متشابه الصفات:
متشابه الصفات
المراد من «متشابه الصفات» الآيات المشكلة الواردة في شأن الله تعالى، مما قد يوهم من لم يتمعن الكلام تشبيها لله تعالى بخلقه، كقوله تعالى الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى، وقوله يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ، وغير ذلك، وتسمى أيضا «آيات الصفات».
وقد اختلفت الآراء في هذه المسألة بما يمكن حصر المقبول منه في هذين المذهبين المشهوري:
المذهب الأول: مذهب السلف:
وهو تفويض علم حقيقة معاني هذه المتشابهات إلى الله وحده، مع اعتقاد تنزيهه تعالى عن ظواهرها المستحيلة في حقه تعالى.
واستدلوا لمذهبهم بأدلة من النقل والعقل:
أما أدلة النقل فمنها حديث عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في الآية السابقة: فإذا رأيت الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله فاحذرهم متفق عليه [١].
وعن أبي مالك الأشعري أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا أخاف على أمتي إلا ثلاث خلال: أن يكثر عليهم المال فيتحاسدوا فيقتتلوا، وأن يفتح لهم الكتاب فيأخذه المؤمن يبتغي تأويله وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ أخرجه الطبراني [٢].
وكذلك سار الصحابة والتابعون حيث تركوا الاشتغال بتأويل المتشابه وفوضوا علم حقيقته إلى الله تعالى، مع اعتقاد تنزيهه عن التعطيل والتشبيه والتجسيم.
(١) البخاري في التفسير ج ٦ ص ٣٤ ومسلم في العلم ج ٨ ص ٥٦.
(٢) الإتقان ج ٢ ص ٣.
وأما دلالة العقل فلأن تعيين المراد من هذه المتشابهات إنما يكون بتأويل نتبع فيه قواعد اللغة وأسلوب العرب، وهي لا تفيد العلم اليقيني القاطع، بل قد تحتمل أكثر من وجه، وصفات الله تعالى من العقائد لا بد فيها من اليقين، لذلك نتوقف، ونفوض إلى الله تعالى.
ومن هنا قالوا: الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى المراد معنى يليق بجلاله تعالى لا يشبه صفاتنا، الله أعلم بحقيقته، وكذلك يقولون في غير ذلك.
المذهب الثاني: مذهب الخلف:
وهو تأويل هذه الآيات بما يناسب استعمالات اللغة مما يليق بكمال الله تعالى وتقدسه.
فيفسرون: الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى بأن المراد: استولى مثلا ويَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ بمعنى القدرة، وهكذا ...
ودليلهم أنه لما استحال أن يكون المعنى الظاهري مرادا، كان دليلا على أن المراد هو معنى مجازي، فنفسره وفق ما يفسر به كلام العرب، لأن القرآن عربي كما صرح القرآن بذلك في مواضع كثيرة فيجب الاعتماد على منهج فهم كلام العرب.
وبالنظر في حقيقة الأمر نجد بين المذهبين اتفاقا في جوهر المسألة وأساسها، وهو:
١ - الاعتماد فيها على الآيات المحكمات، التي سماها الله تعالى أُمُّ الْكِتابِ أي الأصل والمرجع وهي قاطعة في تنزيه الله عن مشابهة الخلق.
٢ - صرف هذه النصوص عن ظواهر ألفاظها اللغوية المستحيلة، واعتقاد أن هذه الظواهر الموهمة للتشبيه غير مرادة قطعا، فالفريقان إذن متفقان في جوهر القضية، غاية الأمر أن السلف اكتفوا بالإجمال، وهو اعتقاد التنزيه عن هذه الظواهر، لكن دون تعيين التأويل المراد، أما الخلف فقد خطوا خطوة
ثانية وهي تفسير تلك النصوص حسبما يتبادر منها وفق استعمالات كلام العرب.
وقد تاه أقوام في فهم مذهب السلف، وأتوا في تعريفهم به بعبارة موهمة فقالوا:
إن المراد من هذه الآيات المتشابهة في الصفات هو معناها الحقيقي على وجه يليق به تعالى.
وهذا تعبير منتقد من حيث اللفظ والمعنى:
أما انتقاده من حيث اللفظ فلأن السلف لم يأتوا بكلمة «حقيقة»، وهذا باب دقيق يجب التقيد فيه بالعبارات المنقولة تماما، فكيف نقحم على كلامهم ما لم يقولوا؟! وأما انتقاده من حيث المعنى: فلأن قولهم «المراد معناها حقيقة» يوهم تشبيه الله تعالى بخلقه، وقولهم «على وجه يليق به» ينافي ذلك، فصارت العبارة متناقضة موهمة، حتى وجدنا كثيرا ممن نظر في كلام أصحاب هذا الرأي أو اعتقده يتجه فهمه إلى التشبيه من حيث لا يشعر.
وإنّ من نظر في سياق تلك الآيات الواردة من متشابه الصفات وتمعن في الغرض الذي سيقت له علم بعدها عن إرادة المعنى الظاهري، واستحالة تفسيرها به.
تأمل قوله تعالى: قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ. وقوله تعالى: تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، وقوله: بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ. وقوله تعالى: وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ، تعلم أن هذه الآيات وردت في مقام بيان قدرته تعالى، ووردت فيها اليد مفردة ومثناة وجمعا، مما يدل على استحالة إرادة المعنى الظاهري.
وحسبنا في هذا كلام الإمام الحافظ السلفي ابن كثير، قال في تفسير
قوله تعالى: قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ [١]: «أي الأمور كلها تحت تصريفه، وهو المعطي المانع، يمنّ على من يشاء بالإيمان والعلم والتصرف التام ... ».
وقال في تفسير آية: يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ [٢]: «أي هو حاضر معهم، يسمع أقوالهم، ويرى مكانهم، ويعلم ضمائرهم وظواهرهم، فهو تعالى المبايع بواسطة رسوله صلى الله عليه وسلم».
وقال في آية بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ [٣]: «أي بل هو الواسع الفضل، الجزيل العطاء، الذي ما من شيء إلا عنده خزائنه».
وهكذا الشأن في قوله: الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى: ما ورد هذا التعبير إلا في مناسبة بيان عظمة سلطانه تعالى، وأنه هو وحده المتصرف في الأكوان بقهره وجبروته كالأمثلة التالية:
إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ [الأعراف: ٢٤] .
الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى. لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَما تَحْتَ الثَّرى [طه: ٥ - ٦] .
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ ما لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ [السجدة: ٤] .
قال الإمام ابن كثير في آية الأعراف [٤] ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ:
«وإنما يسلك في هذا المقام مذهب السلف الصالح: مالك والأوزاعي والثوري والليث بن سعد والشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه
(١) سورة آل عمران، الآية ٧٣ وتفسير ابن كثير ج ٢ ص ٤٩.
(٢) سورة الفتح، الآية ١٠ وتفسير ابن كثير ج ٧ ص ٣١٢.
(٣) سورة المائدة، الآية ٦٤ وتفسير ابن كثير ج ٣ ص ١٣٨.
(٤) تفسير ابن كثير ج ٣ ص ٤٢٢ وكذا قال في تفسير آية (٢) من الرعد ج ٤ ص ٣٥٢.
«يمرّر كما جاء من غير تكييف ولا تشبيه ولا تعطيل ولا تمثيل، تعالى الله علوا كبيرا».
وغيرهم من أئمة المسلمين قديما وحديثا، وهو إمرارها كما جاءت من غير تكييف ولا تشبيه ولا تعطيل. والظاهر المتبادر إلى الأذهان المشبّهين منفيّ عن الله، فإن الله لا يشبهه شيء من خلقه: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ.
وهكذا سائر الآيات يفسرها السلف رضي الله عنهم على هذه الطريقة [١].
وقد اتفقوا على وجوب تأويل الآيات الواردة في متشابه الصفات في بعض الأحوال مثل:
١ - أن يكون للمتشابه تأويل واحد يفهم منه فهما قريبا، فيجب القول به إجماعا، وذلك كقوله سبحانه: وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ، فهذه الآية ليس لها إلا تأويل واحد، هو الكينونة مع الخلق بالإحاطة بهم علما وسمعا وبصرا وقدرة وإرادة.
قال الحافظ ابن كثير في تفسيرها: «أي رقيب عليكم، شهيد على أعمالكم حيث أنتم، وأين كنتم من بر أو بحر، في ليل أو نهار، في البيوت أو القفار الجميع في علمه على السواء ... » [٢].
٢ - أنه إذا توقف الدفاع عن الإسلام على التأويل لهذه المتشابهات وجب تأويلها بما يدفع شبهات المشتبهين ويرد طعن الطاعنين [٣].
ونقول أيضا: إنه إذا خيف من ترك التأويل سوء فهم الناس ووقوعهم في الزيغ وجب التأويل والأخذ بمذهب الخلف، وما أكثر ما يحتاج إليه في هذا الزمن الذي قل فيه العلم وكثر الجهل، وشاعت في أوساط المتعلمين أساليب التفكير العامّيّة، وطرق التصور السطحية.
(١) انظرها في مواضعها من تفسير ابن كثير.
(٢) ج ٨ ص ٣٤.
(٣) انظر هاتين المسألتين في مناهل العرفان ج ٢ ص ١٨٢.
لماذا ورد المحكم والمتشابه
لقد أشار القرآن الكريم إلى بعض الحكم والأسرار الكامنة في ورود المحكم والمتشابه في القرآن الكريم في هذه العبارة: مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ، فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ ....
فتضمن هذا النص حكما علمية وعملية توسع العلماء في بحثها، نورد نبذا منها فيما يلي:
أولا: أن الله سبحانه احتج على العرب بالقرآن، إذ كان فخرهم ورياستهم بالبلاغة وحسن البيان، والإيجاز والإطناب، والمجاز والكناية، والإشارة والتلويح، وهكذا فاشتمل القرآن كذلك على هذه الفنون.
ثانيا: أنزله الله سبحانه اختبارا ليقف المؤمن عنده، ويرده إلى عالمه فيعظم به ثوابه، ويرتاب به المنافق فيستحق العقوبة، ولم يضرهم جهلها ولو افتقروا إلى علمه لم يطوه عنهم، كما اختبر قوم طالوت بالماء فقال: إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ، فكما جاز ترك الأغراض في هذا وأن لا يقال ما العلة في هذا، فكذلك يؤمر بالمتشابه، ولا يقال: لم لم يكشف معانيها ولم يوضحها.
ثالثا: أنزل المتشابه لتشغل به قلوب المؤمنين، وتتعب فيه جوارحهم وتنعدم في البحث عنه أوقاتهم، ومدد أعمارهم، فيحوزوا من الثواب حسبما كابدوا من المشقة، والأثرة له على غيره مما يعمل لربه، كما تعبدهم بالصلوات، والصيام، والحج من المنازل إلى بلد لم يكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس، وغيرها من الشرائع.
وهكذا كانت المتشابهات ميدان سباق تنقدح فيه الأفكار والعلوم لما ذكرنا من الحكم في ورودها في القرآن [١].
(١) أخذناها عن مقدمة كتاب المباني باختصار وتصرف ص ١٧٧ - ١٨٢ وانظر مشكل القرآن للإمام ابن قتيبة ص ٦٣ وما بعد، ومناهل العرفان ج ٢ ص ١٧٨ - ١٨١.
الفصل الرابع عشر الناسخ والمنسوخ
تعريف النسخ
النسخ في اللغة يطلق بمعنيين:
المعنى الأول
الإبطال والإزالة، كقولهم نسخت الشمس الظل:
أزالته.
المعنى الثاني
النقل، ومنه نسخت الكتاب أي نقلته من كتاب آخر.
والمراد بالنسخ بالاصطلاح الشرعي: رفع الشارع حكما منه متقدما بحكم منه متأخر [١].
وهذا العلم هام لدارس القرآن الكريم، وقد قال الأئمة: «لا يجوز لأحد أن يفسر كتاب الله إلا بعد أن يعرف منه الناسخ والمنسوخ» [٢].
وقد قال علي بن أبي طالب لقاض: «أتعرف الناسخ من المنسوخ؟
قال: لا، قال: هلكت وأهلكت» [٣].
(١) انظر تعريف النسخ والتوسع في شرحه في الاعتبار للحازمي ص ٧ - ٩.
(٢) الإتقان ج ٢ ص ٢٠.
(٣) المرجع السابق.
أقسام النسخ
وقد قسموا النسخ عدة تقسيمات، أهمها بالنسبة لدراستنا هنا هذه الأقسام:
أ- نسخ الحكم مع بقاء التلاوة
، وهو أكثر الأقسام وقوعا، مثل نسخ آية العدة: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْراجٍ، فكانت العدة للمتوفى عنها زوجها حولا، ثم نسخت بأربعة أشهر وعشرا: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً.
ب- نسخ القرآن بالقرآن
كما سبق ذكره.
ج- د- نسخ القرآن بالسنّة أو العكس.
مثل نسخ استقبال بيت المقدس بالتوجه إلى القبلة فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ، فهذا نسخ للسنّة بالقرآن.
هـ- نسخ التلاوة مع بقاء الحكم
كما ورد عن عمر رضي الله عنه أنه نزلت آية في رجم الزاني المتزوج، وقد نسخت التلاوة وبقي الحكم.
ونسخ الحكم والتلاوة معا
مثل حديث السيدة عائشة: كان فيما نزل من القرآن عشر رضعات معلومات يحرّمن، ثم نسخ بخمس رضعات معلومات يحرّمن، والجملة الأولى منسوخة التلاوة والحكم، أما الجملة الثانية فهي من منسوخ التلاوة فقط وحكمها باق عند الشافعية، ولم يعمل المالكية والحنفية بهذه الرواية من أصلها. ومما يؤيدهم في ذلك أن الرواية غير متواترة، ولا تثبت قرآنية شيء إلا بالتواتر، كما لا ينسخ القرآن إلا بالتواتر، وهذا الاعتراض يرد على ادعاء قرآنية آية الرجم.
حكمة وقوع النسخ
يحتل النسخ مكانة هامة في تاريخ الأديان، لما كان يتحقق به من نقل الإنسان إلى الدين الذي يأتي به كل نبي بعد النبوات التي قبله، حتى جاءت
شريعة الإسلام أكمل الشرائع وخاتمة الشرائع جميعا، فكان من حكمته سبحانه أن نسخ بها الشرائع والأديان السابقة كلها.
وتفصيل هذا وشرحه: «أن النوع الإنساني تقلب كما يتقلب الطفل في أدوار مختلفة، ولكل دور من هذه الأدوار حال تناسبه غير الحال التي تناسب دورا غيره، فالبشر أول عهدهم بالوجود كانوا كالوليد أول عهده بالوجود سذاجة وبساطة، وضعفا وجهالة، ثم أخذوا يتحولون من هذا العهد رويدا رويدا، ومروا في هذا التحول أو مرت عليهم أعراض متباينة، من ضآلة العقل، وعماية الجهل، وطيش الشباب، وغشم القوة على تفاوت في هذا بينهم، اقتضى وجود شرائع مختلفة لهم تبعا لهذا التفاوت.
حتى إذا بلغ العالم أوان نضجه واستوائه وربطت مدنيته بين أقطاره وشعوبه جاء هذا الدين الحنيف ختاما للأديان، ومتمما للشرائع، وجامعا لعناصر الحيوية ومصالح الإنسانية ومرونة القواعد، جمعا وفّق بين مطالب الروح والجسد، وآخى بين العلم والدين، ونظم علاقة الإنسان بالله وبالعالم كله من أفراد وأسر وجماعات وأمم وشعوب وحيوان ونبات وجماد مما جعله بحق دينا عاما خالدا إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها» [١].
لذلك لم يقع خلاف بين الأمم حول النسخ ولا أنكرته ملة من الملل قط، إنما خالف في ذلك اليهود، فأنكروا جواز النسخ عقلا، وبناء على ذلك جحدوا النبوات بعد موسى عليه السلام، وتذرعوا بذلك الزعم لإنكارهم نبوة عيسى ونبوة سيدنا محمد عليهما الصلاة والسلام.
وأثاروا الشبهة فزعموا أن النسخ محال على الله تعالى، لأنه يدل على البداء، أي ظهور رأي بعد أن لم يكن، وكذا استصواب شيء علم بعد أن لم يعلم، والبداء مستحيل في حق الله تعالى، لأنه واجب له تعالى لذاته وصف العلم المحيط بكل شيء من الأزل إلى الأبد.
والجواب عن هذا من وجوه:
(١) مناهل العرفان ج ٢ ص ٩٠ - ٩١.
١ - قال الإمام الغزالي [١] يرد هذه الشبهة محتكما إلى فهم معنى النسخ فقال: وهو عبارة عن الخطاب الدال على ارتفاع الحكم الثابت المشروط استمراره بعدم لحوق خطاب يرفعه، وليس من المحال أن يقول السيد لعبده:
«قم»، ولا يبين له مدة القيام، وهو يعلم أن القيام مقتضى منه إلى وقت بقاء مصلحته في القيام، ويعلم مدة مصلحته ولكن لا ينبه عليها، ويفهم العبد أنه مأمور بالقيام مطلقا وأن الواجب الاستمرار عليه أبدا إلا أن يخاطبه السيد بالقعود، فإذا خاطبه بالقعود قعد ولم يتوهم بالسيد أنه بدا له أو ظهرت له مصلحة كان لا يعرفها والآن قد عرفها، بل يجوز أن يكون قد عرف مدة مصلحة القيام وعرف أن الصلاح في أن لا ينبه العبد عليها ويطلق الأمر له إطلاقا حتى يستمر على الامتثال، ثم إذا تغيرت مصلحته أمره بالقعود.
٢ - إن القرآن الكريم رد على خرافة هؤلاء في شأن النسخ في قوله تعالى في سورة البقرة: ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.
فبين أن مسألة النسخ ناشئة عن مداواة وعلاج مشاكل الناس، لدفع المفاسد عنهم وجلب المصالح لهم، لذلك قال: نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها، ثم عقّب فقال: أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ.
٣ - الاستدلال بوقوع النسخ بين شرائع الأنبياء من لدن آدم إلى موسى عليه السلام، واليهود يعترفون بذلك وبنبوة هؤلاء الأنبياء الذين نسخت شرائعهم أحكاما من شرائع أنبياء قبلهم، فلماذا يجحدون بنبوة عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام متذرعين بزعم استحالة النسخ ...
وقد ذكر العلماء من النسخ الذي وقع في الشرائع السابقة أمثلة: منها أنه أحلّ لآدم تزويج بناته من بنيه من بطن آخر ثم حرم ذلك. وأباح الله تعالى لنوح بعد خروجه من السفينة أكل جميع الحيوانات ثم نسخ حل بعضها. وكان نكاح الأختين مباحا لإسرائيل وبنيه، وقد حرم ذلك في شريعة التوراة وما بعدها،
(١) في كتاب الاقتصاد في الاعتقاد أول القطب الرابع ص ٩٩.
فإن كانوا صادقين في إيمانهم بالتوراة فواجب أن يقروا بالنسخ، ويؤمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم، وإلا فإنهم يكونون مكذبين للتوراة نفسها.
التأليف في الناسخ والمنسوخ
هذا ولأهمية هذا العلم فقد عني به العلماء في تفاسيرهم، وفي كتب أحكام القرآن، فبينوا ما وقع من النسخ في بعض الآيات، بل أفرده بالتصنيف في كتب خاصة خلائق لا يحصون كما قال السيوطي [١]، منهم أبو عبيد القاسم بن سلّام، وأبو داود السجستاني، وأبو جعفر النحاس وابن الأنباري وابن العربي، ومكي ابن أبي طالب وآخرون».
إلا أنا ننبه إلى أنه وقع توسع كثير من بعض العلماء في النسخ، فقالوا بنسخ آيات كثيرة لا دليل على نسخها، وكثير من ذلك من باب التخصيص لا النسخ.
ومن أمثلة ذلك: قوله تعالى: وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ. ادّعي في هذه الآية وأمثالها أنها نسخت بآية فرض الزكاة. وليس ذلك بسديد لأن الآية عامة في النفقات الواجبة
والمندوبة والمباحة، وهي بهذا لا تعارض آية فرض الزكاة، فمن أين يأتي النسخ؟!!.
ومن أشهر الأمثلة وأهمها ادعاء أن آية السيف أي وجوب الجهاد قد نسخت: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ ونحوها من الآيات كما نجده في تفسير الجلالين.
وليس ذلك مقبولا، لأن آية الجهاد والشدة في حال علاقات الحرب، والآيات الأخرى تأمر بالإحسان ومكارم الأخلاق في حال السلم فكل من الآيات خاص بوقته المناسب له، وليس ذلك من النسخ.
وغير ذلك مما يوجب التنبه والتحقق في هذا الأمر الخطير.
(١) الإتقان ج ٢ ص ٢٠.
الفصل الخامس عشر الأحرف السبعة
يجد الدارس لهذا الموضوع في دراسته هنا تطبيقا لأصل عظيم من الأصول التي جاءت بها الشريعة، وهو مراعاة اليسر على الناس ورفع العسر والمشقة عنهم، وموضع اليسر هنا هو أن يسهل على العرب أخذ كتاب الله تعالى، والاهتداء بهداه.
تعريف الأحرف السبعة
تعريف الحرف لغة
الحرف في أصل كلام العرب معناه الطرف والجانب، وحرف السفينة والجبل جانبهما، ومنه قوله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ، وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ [١].
أي أن من الناس من لا يدخل في الدين دخول متمكن، فإن أصابه خير أي خصب وكثر ماله أو ماشيته اطمأن به، ورضي بدينه، وإن أصابته فتنة اختبار بجدب وقلة مال انقلب على وجهه أي رجع عن دينه إلى الكفر وعبادة الأوثان [٢].
تعريف الأحرف السبعة اصطلاحا
الأحرف السبعة سبعة أوجه فصيحة من اللغات والقراءات أنزل عليها القرآن الكريم.
(١) سورة الحج، الآية ١١.
(٢) من تفسير الزجاج وقال بنحوه ابن قتيبة في كتابه «تأويل مشكل القرآن» ص ٢٧ - ٢٨.
بيان الأحرف السبعة في الحديث النبوي
ولما أن سبيل درس هذا الموضوع هو النقل الثابت الصحيح من الذي لا ينطق عن الهوى، ولا مجال للرأي والاجتهاد فيه إلا لحسن الفهم، والترجيح بين الآراء، وبتعرف الصواب من الخطأ، فإنا نقدم نخبة من الأحاديث الثابتة تلقي لنا الضوء على هذا الموضع فيما يلي:
عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال:
«سمعت هشام بن حكيم يقرأ سورة الفرقان في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستمعت لقراءته فإذا هو يقرأ على حروف كثيرة لم يقرئنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فكدت أساوره في الصلاة فتصبّرت حتى سلّم، فلبّبته بردائه، فقلت:
من أقرأك هذه السورة التي سمعتك تقرأ، قال: أقرأنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فقلت له كذبت، أقرأنيها على غير ما قرأت، فانطلقت به أقوده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت إني سمعت هذا يقرأ سورة الفرقان على حروف لم تقرئنيها، فقال أرسله، اقرأ يا هشام، فقرأ القراءة التي سمعته فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كذلك أنزلت»، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اقرأ يا عمر»، فقرأت التي أقرأني، فقال: «كذلك أنزلت، إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف، فاقرءوا ما تيسر منه».
متفق عليه [١] عن أبيّ بن كعب رضي الله عنه قال:
«كنت في المسجد فدخل رجل يصلي فقرأ قراءة أنكرتها عليه، ثم دخل آخر فقرأ قراءة سوى قراءة صاحبه فلما قضينا الصلاة دخلنا جميعا على رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقلت: إن هذا قرأ قراءة أنكرتها عليه.
(١) البخاري ج ١ ص ١٨٤ ومسلم ج ٢ ص ٢٠٢ مختصرا.
ودخل آخر فقرأ سوى قراءة صاحبه. فأمرهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرءا، فحسّن النبيّ صلى الله عليه وسلم شأنهما. فسقط في نفسي من التكذيب ولا إذ كنت في
الجاهلية. فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قد غشيني ضرب في صدري ففضت عرقا، وكأني أنظر إلى الله عز وجل فرقا.
فقال لي: يا أبيّ أرسل إليّ أن أقرأ القرآن على حرف. فرددت إليه أن هوّن على أمتي. فرد إليّ الثانية اقرأه على حرفين. فرددت إليه أن هوّن على أمتي، فردّ إليّ الثالثة: اقرأه على سبعة أحرف، فلك بكل ردة رددتها مسألة تسألنيها، فقلت: اللهم اغفر لأمتي، اللهم اغفر لأمتي، وأخرت الثالثة ليوم يرغب إليّ الخلق كلهم حتى إبراهيم صلى الله عليه وسلم».
أخرجه مسلم [١] وعن أبيّ بن كعب رضي الله عنه أيضا:
«أن النبي صلى الله عليه وسلم كان عند أضاة بني غفار، قال: فأتاه جبريل عليه السلام فقال: إن الله يأمرك أن تقرأ أمتك القرآن على حرف، فقال: أسأل الله معافاته ومغفرته وإن أمتي لا تطيق ذلك، ثم أتاه الثانية فقال:
إن الله يأمرك أن تقرأ أمتك القرآن على حرفين فقال: أسأل الله معافاته ومغفرته وإن أمتي لا تطيق ذلك، ثم جاءه الثالثة فقال: إن الله يأمرك أن تقرأ أمتك القرآن على ثلاثة أحرف فقال: أسأل الله معافاته ومغفرته وإن أمتي لا تطيق ذلك. ثم جاءه الرابعة فقال: إن الله يأمرك أن تقرأ أمتك القرآن على سبعة أحرف فأيما حرف قرءوا عليه فقد أصابوا».
أخرجه مسلم [٢]
(١) صحيح مسلم في صلاة المسافرين (باب بيان أن القرآن أنزل على سبعة أحرف) ج ٢ ص ٢٠٣ وانظر سنن أبي داود في الصلاة ج ٢ ص ٧٦ والنسائي في مفاتيح الصلاة (باب جامع ما جاء في القرآن) ج ٢ ص ١٥٣ وتفسير الطبري رقم ٣٣، ٣٨، ٨٩.
(٢) صحيح مسلم في صلاة المسافرين ج ٢ ص ٢٠٣ - ٢٠٤، وأبو داود في الصلاة ج ٢ ص ٧٦. والنسائي في مفاتيح الصلاة ج ٢ ص ١٥٢ - ١٥٣ وتفسير الطبري الأحاديث ٣٤ و ٣٥ و ٣٦ و ٣٧ و ٤٦.
عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
«أقرأني جبريل على حرف، فلم أزل أستزيده، ويزيدني حتى انتهى إلى سبعة أحرف».
متفق عليه [١] ولمسلم عن ابن شهاب قال:
«بلغني أن تلك السبعة الأحرف إنما هي في الأمر الذي يكون واحدا، لا يختلف في حلال ولا حرام».
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه في قصة اختلافه مع بعض الصحابة في القراءة وأنه راجع النبي صلى الله عليه وسلم وعنده عليّ بن أبي طالب فقال علي رضي الله عنه: «إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمركم أن تقرءوا كما علّمتم». أخرجه الحاكم في المستدرك وأحمد والطبري وابن حبّان [٢].
دلالة هذه الأحاديث على أصول الموضوع
دلت هذه الأحاديث على جملة قواعد هامة نوضحها فيما يلي:
١ - ثبوت التوسعة في إنزال القرآن على سبعة أحرف ثبوتا قاطعا، نظرا لصحة أسانيد الأحاديث الواردة في القضية صحة حازمة، بل إن الحديث بلغ درجة التواتر الذي يفيد اليقين، لكثرة أسانيده ورواته من الصحابة فمن بعدهم.
٢ - إن القراءة بأي حرف من هذه الأحرف يلزم فيها اتباع التلقي عن النبي صلى الله عليه وسلم.
(١) البخاري في فضائل القرآن ج ٦ ص ١٨٤ وفي بدء الخلق (باب ذكر الملائكة) ج ٤ ص ١١٣ ومسلم في صلاة المسافرين ج ٢ ص ٢٠٢ والمسند ج ١ ص ٢٦٣ - ٢٦٤ و ٢٩٩ و ٣١٣ وتفسير الطبري حديث رقم ١٩.
(٢) المستدرك في كتاب التفسير ج ٢ ص ٢٢٤ والمسند ج ١ ص ١٥٠ وتفسير الطبري حديث رقم (١٣) .
وأول ما يدل على ذلك هذا التعبير أُنْزِلَ الذي تواترت به الأحاديث فإنه يدل على أنه نزل به الوحي.
ويدل على ذلك أيضا دلائل كثيرة في نصوص الأحاديث، مما يدل على أن المعيار في قبول الحرف أو رده ليس هو عدم ألفته من السامع، ولا كونه لهجة غير مألوفة له، إنما الأساس في الموضوع كله هو السماع والتلقي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أو عدم التلقي عنه.
ومما يدل على بطلان تفويض القراءة للقارئ بما يختاره من تلقاء نفسه أن ذلك يؤدي إلى ذهاب إعجاز القرآن وتعريضه لأن يبدّل، وذلك خلاف قوله تعالى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ.
ثم إن التغيير والتبديل بمرادف أو بغير مرادف مرفوض بقوله تعالى في سورة يونس: قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ، قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ. فإذا كان هذا ليس من حق النبي نفسه صلى الله عليه وسلم، فكيف يسوّغ ذلك في حق أحد من الناس؟ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث السابق «هكذا أنزلت».
٣ - تثبت عبارات الأحاديث المفصلة الواردة في الأحرف السبعة أصلا هاما يجب أن لا يغيب عن بال الباحث في تفسير الأحرف السبعة، وهو أنها وجوه في أداء الألفاظ فقط، أي كيفيات في القراءة، وجه الدلالة على ذلك أن الخلاف بين الصحابة في القراءة إنما وقع حول قراءة الألفاظ، ولم يكن اختلاف في تفسير المعاني، أنظر إلى قول عمر بن الخطاب: «فإذا هو يقرأ على حروف كثيرة لم يقرئنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم»، وهكذا سائر العبارات تشير إلى أن القضية كانت تدور حول كيفية قراءة الألفاظ، لا تفسير المعاني.
الأحرف السبعة والقراءات السبع
دلتنا النصوص التي درسناها ومحصنا دلالاتها على أن المراد بالأحرف
السبعة سبع لغات نزل بها القرآن، ونود أن ننبه بأن الأحرف السبعة ليست هي القراءات السبع المشهورة، التي يظن كثير من عامة الناس أنها الأحرف السبعة. وهو خطأ عظيم ناشئ عن الخلط وعدم التمييز بين الأحرف السبعة والقراءات.
وهذه القراءات السبع إنما عرفت واشتهرت في القرن الرابع، على يد الإمام المقرئ ابن مجاهد الذي اجتهد في تأليف كتاب في القراءات، فاتفق له أن جاءت هذه السبعة موافقة لعدد الأحرف، فلو كانت الأحرف السبعة هي القراءات السبع لكان معنى ذلك أن يكون فهم أحاديث الأحرف السبعة بل العمل بها أيضا متوقفا حتى يأتي ابن مجاهد ويخرجها للناس ...
وقد كثر تنبيه العلماء في مختلف العصور على التفريق بين القراءات السبع والأحرف السبعة، والتحذير من الخلط بينها [١].
ما هي حقيقة الأحرف السبعة
إذا بحثنا بعد هذا عن حقيقة الأحرف السبعة بدقة نجد أمامنا مذاهب تجتهد في تفسير المراد بهذه الأحرف، وتحاول تبيين الاختلاف في كيفية أداء ألفاظ القرآن على الأوجه السبعة التي نزل بها القرآن، ولعل هذا الخلاف أن يكون مستغربا مع اتفاق أصحاب هذا المنهج على أن المراد بالأحرف السبعة سبعة أوجه في قراءة القرآن، وقد هدانا البحث إلى معرفة سبب هذا الاختلاف، وهو اختلاف الطريقة التي توصل إلى تحديد هذه الأحرف:
ذهب بعض العلماء إلى استخراج الأحرف السبعة باستقراء أوجه الخلاف الواردة في قراءات القرآن كلها صحيحها وسقيمها، ثم تصنيف هذه الأوجه سبعة أصناف، بينما عمد آخرون إلى التماس الأحرف السبعة في لغات العرب. فتكوّن بذلك مذهبان رئيسيان، نذكر نموذجا عن كل منهما فيما يلي:
(١) انظر كلماتهم في النشر ج ١ ص ٣٦ و ٣٩ و ٤٠ و ٤٦ وفتح الباري ج ٩ ص ٢٥.
المذهب الأول
مذهب استقراء أوجه الخلاف في لغات العرب، وفي القراءات كلها ثم تصنيفها وقد تعرض هذا المذهب للتنقيح على يد أنصاره الذين تتابعوا عليه، ونكتفي هنا بأهم تنقيح وتصنيف لها فيما نرى، وهو تصنيف الإمام الرازي نسوقه فيما يلي:
قال أبو الفضل عبد الرحمن الرازي:
«فمن التأويلات التي يحتملها الخبر ولم يتقدم على نظامه تأويل هو أن كل حرف من الأحرف السبعة المنزلة جنس ذو نوع من الاختلاف».
- أحدها: اختلاف أوزان الأسماء من الواحد والتثنية والجموع والتذكير والمبالغة وغيرها. ومن أمثلته: وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ، وقرئ لأمانتهم بالإفراد.
- والثاني: اختلاف تصريف الأفعال وما يسند إليه، نحو الماضي والمستقبل والأمر، وأن يسند إلى المذكر والمؤنث والمتكلم والمخاطب والفاعل والمفعول به.
ومن أمثلته: فَقالُوا رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا بصيغة الدعاء، وقرئ:
ربنا بعد فعلا ماضيا.
- الثالث: وجوه الإعراب: ومن أمثلته: وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ قرئ بفتح الراء وضمّها، ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ برفع الْمَجِيدُ وجره.
- الرابع: الزيادة والنقص: مثل: وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى قرئ والذكر والأنثى.
- الخامس: التقديم والتأخير: مثل: فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ، قرئ:
فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ، ومثل: وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ، وقرئ:
وجاءت سكرة الحق بالموت.
- السادس: القلب والإبدال في كلمة بأخرى، أو حرف بآخر: مثل:
وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها بالزاي، وقرئ: ننشرها بالراء.
- السابع: اختلاف اللغات: مثل: هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى تقرأ بالفتح والإمالة في أتى وموسى وغير ذلك من ترقيق وتفخيم، وإدغام ... وهكذا ...
ثم قال أبو الفضل الرازي: « ... فهذا التأويل مما جمع شواذ القراءات ومشاهيرها ومناسيخها على موافقة الرسم ومخالفته، وكذلك سائر الكلام لا ينفك اختلافه من هذه الأجناس السبعة المتنوعة، فإن وافق هذا التأويل معنى الخبر (أي حديث الأحرف السبعة) حذوا بحذو فقد أصاب من أخذ به، وإن لم يوافقه فلا شك في دخول معنى الخبر تحت هذه الوجوه، وإن لم يكن مرتبا عليها» [١].
المذهب الثاني
إن المراد بالأحرف السبعة سبع لغات من لغات قبائل العرب الفصيحة.
وذلك لأن المعنى الأصلي للحرف هو اللغة، فأنزل القرآن على سبع لغات مراعيا ما بينها من الفوارق التي لم يألفها بعض العرب، فأنزل الله القرآن بما يألف ويعرف هؤلاء وهؤلاء من أصحاب اللغات، حتى نزل في القرآن من القراءات ما يسهل على جلّ العرب إن لم يكن كلهم، وبذلك كان القرآن نازلا بلسان قريش والعرب كما قال الإمام البخاري في صحيحه.
وقال جماعة من العلماء: إنّ هذه اللغات هي لغات: قريش، وهذيل، وتميم، وأزد، وربيعة، وهوازن، وسعد بن بكر [٢].
والحاصل أن هذين المذهبين أقوى ما قبل في تفسير حقيقة الأحرف السبعة. ولا خلاف بينهما في النتيجة، لأن أحدهما يبين أوجه الاختلاف،
(١) «الأحرف السبعة في القرآن» ص ١٠٠ نقلا عن كتاب أبي الفضل الرازي نفسه وهو مخطوط محفوظ في مكتبة الأوقاف بحلب. وانظر فتح الباري ج ٩ ص ٢٣ - ٢٤ ومناهل العرفان ج ١ ص ١٤٩.
(٢) البرهان ج ١ ص ٢١٧.
والثاني ما تنطبق عليه هذه الأوجه من لغات العرب. وهما يحققان ما وردت به الأحاديث من نزول القرآن على سبعة أحرف يقرأ بها.
أين الأحرف الستة
ذلك ما تبين بالأدلة من حقيقة الأحرف السبعة، والقول الصحيح فيها الذي يجب أن لا يخرج عنه الباحث، فأين هي الأحرف السبعة، هل ما يقرأ به المسلمون من القراءات اليوم يشتمل على الأحرف السبعة ويحققها، أو أنه حرف واحد، وأين هي الستة الباقية إذن.
يرى المحققون في هذا الموضوع كالإمام الباقلاني وغيره أن الأحرف السبعة باقية وأن المصاحف العثمانية التي استنسخها عثمان بن عفان رضي الله عنه قد اشتملت على الأحرف السبعة جميعا.
وهذه عبارات الإمام المحقق أبي بكر الباقلاني تلقي الضوء ساطعا على القضية، قال رحمه الله ورضي عنه:
«لم يقصد عثمان قصد أبي بكر في جمع نفس القرآن بين لوحين، وإنما قصد جمعهم على القراءات الثابتة المعروفة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وإلغاء ما ليس كذلك، وأخذهم بمصحف لا تقديم فيه ولا تأخير، ولا تأويل أثبت مع تنزيل ولا منسوخ تلاوته كتب مع مثبت رسمه ومفروض قراءته وحفظه ... » [١].
« ... لأن القوم عندنا لم يختلفوا في هذه الحروف المشهورة عن الرسول صلى الله عليه وسلم التي لم يمت حتى علم من دينه أنه أقرأ بها، وصوّب المختلفين فيها، وإنما اختلفوا في قراءات ووجوه أخر لم تثبت عن الرسول عليه السلام، ولم تقم بها حجة، وكانت تجيء مجيء الآحاد وما لا يعلم ثبوته وصحته وكان منهم من يقرأ التأويل مع التنزيل، نحو قوله:
(١) انظر البرهان ج ١ ص ٢٣٥ وشرح صحيح مسلم للنووي ج ٦ ص ١٠٠.
والصلاة الوسطى وهي صلاة العصر [١]. فَإِنْ فاؤُ [٢]، ولَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ في مواسم الحج [٣] ... فمنع عثمان من هذا الذي لم يثبت ولم تقم الحجة به، وأحرقه وأخذهم بالمتعين المعلوم من قراءات الرسول عليه السلام ... [٤]».
(١) أصل الآية حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ وورد عن بعض الصحابة زيادة «وهي صلاة العصر»، وهي قراءة تفسيرية، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم تفسير الصلاة الوسطى أنها صلاة العصر.
(٢) الآية أصلها في المرأة يحلف زوجها لا يقربها: فَإِنْ فاؤُ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ.
وقراءة فِيهِنَّ تفسيرية.
(٣) الآية في بيان بعض أحكام الحج، وجواز تعاطي التجارة ونحوها للمحرم بالحج، وقوله «في مواسم الحج» تفسير ليس من الآية.
(٤) الأحرف السبعة ومنزلة القراءات منها ص ١٧٤ - ١٧٥ نقلا عن الانتصار للباقلاني مخطوط ج ١ ورقة ١١٣.
الفصل السادس عشر القراءات والقراء
تعريف القراءة
القراءة في اللغة: مصدر لقرأ.
وفي الاصطلاح: «القراءات علم بكيفيات أداء كلمات القرآن واختلافها بعزو الناقلة» [١].
وقولهم: كلمات القرآن: أي كلمة كلمة من أول القرآن إلى آخره، ببيان ما يندرج تحت قاعدة عامة، وما هو حالة خاصة. مثل السكوت اللطيف على عِوَجاً من الكهف.
وقولهم: بعزو الناقلة: أي أن هذا العلم ثابت بالنقل الثابت المتواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم، لا مصدر له سوى النقل والتلقين الشفاهي.
والمقرئ: العالم بالقراءات، الذي رواها مشافهة بالتلقي عن أهلها إلى أن يبلغ النبي صلى الله عليه وسلم، فلو حفظ كتاب «التيسير» في القراءات مثلا فليس له أن يقرأ بما فيه إن لم يشافهه من شوفه به مسلسلا، لأن في القراءات أشياء لا تحكم إلا بالسماع والمشافهة» [٢].
(١) منجد المقرئين لابن الجزري ص ٣. وانظر تعريفا آخر في مناهل العرفان ج ١ ص ٤٠٥.
(٢) منجد المقرئين ص ٣.
ضابط القراءة المقبولة
ولما كان النقل بعزو الناقلة يختلف قوة وضعفا بحسب حال الناقلة، فقد احتاج الأمر إلى ضابط تميز به القراءة المقبولة وغير المقبولة.
وقد ضبط علماء القراءات القراءة المقبولة بقاعدة مشهورة متفق عليها بينهم، وهي:
«كل قراءة وافقت العربية ولو بوجه، ووافقت رسم أحد المصاحف ولو احتمالا، وصح سندها فهي القراءة الصحيحة» [١].
ويتبين من هذا الضابط ثلاثة شروط يتوقف قبول القراءة على اجتماعها كلها وهي:
الشرط الأول: موافقة العربية ولو بوجه:
ومعنى هذا الشرط أن تكون القراءة موافقة لوجه من وجوه النحو، ولو كان مختلفا فيه اختلافا لا يضر مثله، فلا يصح مثلا الاعتراض على قراءة حمزة: وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ، بجر الأرحام بأنه عطف على الضمير المجرور بدون إعادة الجار، وهو خلاف مذهب البصريين، لأنا نقول إن الكوفيين يجيزون مثل هذا العطف، وهكذا ...
الشرط الثاني: موافقة خط أحد المصاحف ولو احتمالا:
وذلك أن النطق بالكلمة قد يوافق رسم المصحف تحقيقا، إذا كان مطابقا للمكتوب، وقد يوافقه احتمالا أو تقديرا باعتبار ما عرفنا أن رسم المصحف له أصول خاصة به تسمح بقراءته على أكثر من وجه.
مثال ذلك: ملك يوم الدين رسمت ملك بدون ألف في جميع المصاحف، فمن قرأ ملك يوم الدين بدون ألف موافق للرسم تحقيقا، ومن قرأ مالِكِ فهو موافق تقديرا، لحذف هذه الألف من الخط اختصارا.
(١) النشر بتصرف يسير ج ١ ص ٩.
الشرط الثالث: صحة السند:
وهو أن يروي القراءة عدل ضابط عن مثله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من غير شذوذ ولا علّة.
ويشترط في هذه القراءة أن تنال ثقة أئمة القراء الضابطين، بحيث تكون مشهورة لديهم متلقاة بالقبول عندهم.
وقد يتساءل من لم يتمعّن حقيقة المسألة، كيف يكفي لقبول القراءة صحة السند مع أن القرآن لا يثبت إلا بالتواتر؟.
والجواب عن هذا التساؤل من أوجه كثيرة نكتفي منها بوجه هو أن القراءة ثابتة بنقل أهل المنطقة كلهم، لكن بحكم قانون الانتخاب الطبيعي يوجد أفراد يفوقون أهل عصرهم، حتى يكونوا مرجعا لهم، وكذلك شأن هؤلاء القراء فإن السند وإن اتصل بخبر صحيح ظاهرا، لكنه متواتر في الحقيقة، لذلك قالوا يشترط أن تنال ثقة الأئمة وتكون مشهورة بينهم.
أنواع القراءات حسب أسانيدها
وبالنظر لما ذكرناه فقد قسّموا القراءات بحسب أسانيدها ستة أقسام، وبينوا حكم كل نوع ودرجته من حيث القبول أو الرد، وهذه الأقسام هي:
الأول: المتواتر:
وهو ما نقله جمع غفير لا يمكن تواطؤهم على الكذب عن مثلهم إلى منتهى السند، وهذا النوع هو غالب القراءات.
الثاني: المشهور:
وهو ما صح سنده واستوفى شروط القراءة الصحيحة واشتهر عند القراء فلم يعدوه من الغلط ولا من الشذوذ، وهذا تصح القراءة به، ولا يجوز رده، ولا يحل إنكاره.
الثالث: الآحاد:
وهو ما صحّ سنده وخالف الرسم أو العربية، أو لم يشتهر الاشتهار المذكور، وهذا لا تجوز القراءة به.
الرابع: الشاذ:
وهو ما لم يصح سنده ولو وافق رسم المصحف والعربية مثل قراءة: ملك يوم الدين، بصيغة الماضي في ملك ونصب يَوْمِ مفعولا.
الخامس: الموضوع:
وهو المختلق المكذوب.
السادس: ما يشبه المدرج من أنواع الحديث
، وهو ما زيد في القراءة على وجه التفسير كما نقل عن ابن عباس أنه قرأ وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة صالحة غصبا. فكلمة صالحة ليست قرآنا، إنما هي تفسير.
وهذه الأنواع الثلاثة الأخيرة لا تحل القراءة بها، بالأحرى والأولى إذا كانت قراءة الآحاد لا تجوز القراءة بها، ويعاقب من قرأ بها.
القراءات المتواترة وقراؤها
تلقى الصحابة القرآن من النبي صلى الله عليه وسلم، وقرأت كل قبيلة القرآن كما تعلموه منه صلى الله عليه وسلم. ثم خرجت كل قبيلة في الفتوحات في كتيبة أو كتائب مجتمعة إلى بعضها، واستقرت في البلاد تقرأ قراءتها، ويتلقاها الأبناء عن الآباء فكان لكل بلد أو قطر قراءته المتواترة جيلا عن جيل.
وكان من الضروري والطبيعي أن يشتهر في كل عصر جماعة من القراء، في كل طبقة من طبقات الأمة، يتفوقون في حفظ القرآن وإتقان ضبط أدائه، والتصدي والتفرغ لتعليمه، من عصر الصحابة، ثم التابعين، وأتباعهم، وهكذا، وكان من القراء من بلغ الذروة في الإتقان والضبط، كما كان ثمة قراء دونهم، وآخرون ليسوا من أهل الإتقان، فقام العلماء بتمحيص هذه القراءات ودراسة أحوالها، وبينوا للناس المتواتر منها.
واعتبارا من عصر التابعين انتشرت القراءات كثيرا فشعرت طائفة من أهل العلم بضرورة الاحتياط للقرآن وقراءاته، فنهض كل إمام بضبط القراءة عن الأئمة المقرئين وهكذا في العصور التالية، ثم أودعت تلك القراءات في مؤلفات خاصة، كما فعله أبو عبيدة ثم الطبري ومن جاء بعد ...
ثم جاء الإمام أحمد بن موسى بن العباس المشهور بابن مجاهد المتوفى سنة ٣٢٤، فأفرد القراءات السبع المعروفة فدونها في كتابه «القراءات السبع» فاحتلت مكانتها في التدوين وأصبح علمها مفردا يقصدها طلاب القراءات.
وقد بنى اختياره هذا على شروط عالية جدا، فلم يأخذ إلا عن الإمام الذي اشتهر بالضبط والأمانة، وطول العمر في ملازمة الإقراء، مع الاتفاق على الأخذ منه، والتلقي عنه، فكان له من ذلك قراءات هؤلاء السبعة وهم:
١ - عبد الله بن كثير الداري المكي المتوفى سنة ١٢٠ هـ.
٢ - عبد الله بن عامر اليحصبي الشامي المتوفى سنة ١١٨ هـ.
٣ - عاصم بن أبي النّجود الأسدي الكوفي المتوفى سنة ١٢٧ هـ.
٤ - أبو عمرو زبّان بن العلاء البصري المتوفى سنة ١٥٤ هـ.
٥ - حمزة بن حبيب الزيات الكوفي المتوفى سنة ١٥٦ هـ.
٦ - نافع بن عبد الرحمن بن أبي نعيم المدني المتوفى سنة ١٦٩ هـ.
٧ - أبو الحسن علي بن حمزة الكسائي النحوي الكوفي المتوفى سنة ١٨٩ هـ.
وقد تابع العلماء البحث لتحديد القراءات المتواترة، حتى استقر الاعتماد العلمي واشتهر على زيادة ثلاث قراءات أخرى، أضيفت إلى السبع فأصبح مجموع المتواتر من القراءات عشر قراءات، وهذه القراءات الثلاث هي قراءات هؤلاء الأئمة:
٨ - أبو جعفر يزيد بن القعقاع المدني المتوفى سنة ١٣٠ هـ.
٩ - يعقوب بن إسحاق الحضرمي المتوفى سنة ٢٠٥ هـ.
١٠ - خلف بن هشام، المتوفى سنة ٢٢٩ هـ.
شبهات بعض المستشرقين حول القراءات
دأب بعض المستشرقين على محاولة التشكيك بالقرآن العظيم وتشويش أذهان الناس، ولما أن القرآن محوط بأعظم أنواع الحفظ والصيانة في نقله وأدائه بالسطور والصدور، كان سبيل هذه الشبهات هو المغالطة وتجاهل الحقائق الثابتة، كذلك فعل المستشرق جولد تسيهر في موضوع القراءات، قال جولد تسيهر [١]: «وترجع نشأة قسم كبير من هذه الاختلافات إلى خصوصية
(١) مذاهب التفسير الإسلامي ص ٨.
الخط العربي الذي يقدم هيكله المرسوم مقادير صوتية مختلفة تبعا لاختلاف النقط الموضوعية فوق هذا الهيكل أو تحته، وعدد تلك النقاط، بل كذلك في حال تساوي المقادير الصوتية، يدعو اختلاف الحركات الذي لا يوجد في الكتابة الغربية الأصلية ما يحدده إلى اختلاف مواقع الإعراب للكلمة، وهذا إلى اختلاف دلالتها، وإذن فاختلاف تحلية هيكل الرسم بالنقط أو اختلاف الحركات في المحصول الموحّد القالب من الحروف الصامتة كانا هما السبب الأول في نشأة حركة اختلاف القراءات في نص لم يكن منقوطا أصلا، أو لم تتحرّ الدقة في نقطه أو تحريكه» انتهى.
كذلك يقول بعض الكاتبين المعاصرين: «وقد يدل بعضها- أي بعض الروايات- على تحريف بعض الكلمات القرآنية بمعنى قراءتها بشكل مختلف عن القراءة التي أنزلت على صدر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا ينسجم مع الرأي الذي ينكر تواتر القراءات السبعة، ويرى أنها نتيجة لاختلاف الرواية والاجتهاد» (؟!!) .
ويستدل هذا القائل لزعمه هذا ببعض روايات، وبعض نقول عن بعض الأئمة، مثل ما نقله عن جابر الجعفي عن أبي جعفر- وهو محمد الباقر- رضي الله عنه قال في رواية طويلة جاء فيها قوله: «أما كتاب الله فحرفوا ... ».
هكذا يحاول هذا المستشرق وهذا الكاتب نسبة القراءات إلى تصرف فردي واختيار شخصي، مصادمين الوقائع الثابتة، والدلائل القطعية، نكتفي منها بما يلي:
١ - إن أحدا لم يقبل القرآن إلا موافقا للمتلقى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد مرت بنا وقائع من إنكار الصحابي لما سمع قراءة لم يسمعها من النبي صلى الله عليه وسلم، وبالتالي كان من شروط القراءة المقبولة التلقي بالأسانيد.
وقد أحسّ جولدتسيهر بهذا الضعف الخطير، فراح يستره بما هو أعظم، فادعى أن شرط صحة الرواية لا يحد من حرية القراءة، لأنه ليس عسيرا- في زعمه- أن يسند المرء قراءته إلى ثقات معترف بهم فتحرز قراءته القبول» [١].
وهذا الزعم من تسيهر يكشف عن جهله بحقائق نقل القرآن عن النبي صلى الله عليه وسلم وحقائق مصطلح الحديث، أو تجاهله المتعمد لهذه الحقائق كلها، فإنه ليس يصح الحديث بمجرد الادعاء ونسبة القراءة أو الرواية إلى ثقة معرف به، بل هناك شروط الراوي ومنها العدالة والضبط، وهناك شروط سلسلة السند، وهناك السلامة من الشذوذ والعلة، وما في ذلك من تفاصيل تجعل من المتعذر حصول الاعتراف بقراءة أو رواية غير ثابتة على الحقيقة.
فضلا عن أن حقيقة المطلوب في القراءة المقبولة هو التواتر كما حققناه، لذلك لا تقبل قراءة رجل انفرد بها عن أهل بلده، كما هو متفق عليه في هذا العلم.
٢ - لو كان ثمة تسامح في القراءة وفق رسم المصحف من غير توقيف على التلقي لوجب أن يكون عدد القراءات كثيرا كثرة تبلغ أضعافا هائلة بالنسبة للقراءات الثابتة التي دققها العلماء وحققوا صحة سندها وتواترها، وقد اعترف جولدتسيهر نفسه بقراءات يسمح بها الخط، لكنها اعتبرت عند العلماء منكرة، مثل قراءة تستكثرون في قوله تعالى: وَنادى أَصْحابُ الْأَعْرافِ رِجالًا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيماهُمْ قالُوا ما أَغْنى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ [الأعراف: ٢٤٨] .
ومثل قراءة حماد الرواية أَباهُ عوضا عن إِيَّاهُ في قوله تعالى:
وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ [التوبة: ١١٤] .
ولو كان مجرد موافقة الخط كافيا لاعتمدت هذه القراءات ... ، وحسبنا
(١) مذاهب التفسير الإسلامي ص ٨.
هذا دليلا على أن مجرد موافقة الخط لم يكن هو العمدة في صحة القراءة.
وإذا كانت قضية القراءة نقل قبيلة ثم بلد، فكيف يمكن لرسم المصحف أن يؤثر فيها، أو يؤثر فيها الاجتهاد الشخصي؟!.
٣ - إن فذلكة تسيهر للموضوع جرت على قلب القضية من أساسها، وذلك أنه ليس هناك أي اختلاف في أن تجريد المصاحف العثمانية من الشكل والنقط كان بقصد استيعاب الأحرف المروية الثابتة من قبل عن النبي صلى الله عليه وسلم، لكن هذا الزاعم قلب القضية وجعل هذا الرسم للمصحف سببا لظهور القراءات فيما بعد بزعمه الباطل.
٤ - أن يكون الاستدلال بقراءة مكذوبة كما سبق، أو تكون قراءة تفسيرية كما هو مقرر، أو أن يكون النقل مختلقا على الإمام الذي نسب إليه، مثل الكلام المنقول عن الإمام أبي جعفر رضي الله عنه، فإنه مكذوب عليه، لأن سنده من طريق كذاب، قال أبو حنيفة ما رأى أكذب منه [١].
فتحققنا من ذلك كله قطعية نقل القراءات المعتمدة، بأقوى نقل، هو التواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم.
القراءات الشاذة
القراءة الشاذة: هي كل قراءة لم يتوفر فيها شرط واحد من شروط القراءة الصحيحة التي سبقت في ضابط القراءة الصحيحة.
وهذا الإطلاق للشذوذ قديم، وكان الأصل فيه إطلاق الشذوذ على ما خالف رسم المصحف، واستوفى سائر الشروط، ويطلق على القراءة التي استوفت الشروط إلا أن
سندها ضعيف: «رواية ضعيفة»، كما أطلقوا عليها وصف: «الشذوذ» أيضا على سبيل التوسع. أما إذا لم يوجد للقراءة سند فإنها تكون رواية مكذوبة مختلقة، يكفّر متعمدها حتى لو وافقت المعنى ورسم المصحف.
(١) علل الترمذي بشرح ابن رجب ص ٦٩.
أما حكم القراءة الشاذة فيتلخص بما يلي:
١ - يحرم القراءة بها، ولا تجوز الصلاة بها، لأنها ليست قرآنا، ويعاقب لقارئ بها ويستتاب.
٢ - ذهب كثير من الفقهاء ومنهم الشافعية إلى عدم الاحتجاج بالقراءة الشاذة، لأنها زعمت قرآنا ولم يثبت ذلك.
وخالف الحنفية فقالوا: يجوز الاحتجاج بها في الأحكام، لأنها من قبيل التفسير، والظاهر أنه تفسير نقله الصحابي عن النبي صلى الله عليه وسلم.
٣ - أما الاحتجاج بالقراءات الشاذة في اللغة فالراجح قبولها، لأنها لا تقل عن كثير من شواهد النحويين واللغويين.
وبعد:
فإن للأحرف السبعة والقراءات أهمية بالغة، لما جاءت به من فوائد في تنزيل القرآن وحفظ لغات العرب ولهجاتها. ولزيادة الدلالة على إعجاز القرآن، فإنها تؤيد بعضها بعضا، كما أن نظم القرآن المعجز يجري في كل قراءاته على ما هو عليه من الإعجاز: جزالة أو تتابع سرد، ونغم موسيقي، مع كثرة أوجه القراءات، مما يزيد الدلالة على إعجاز القرآن الكريم [١].
(١) انظر التوسع في حكم نزول القرآن على سبعة أحرف وقراءاته في تفسير الطبري ج ١ ص ٧٠ - ٧١ والأحرف السبعة ومنزلة القراءات منها للدكتور حسن ضياء الدين عتر ص ١٣٨ - ١٤٦ وغيرهما.
الفصل السابع عشر فواتح السور
حسن افتتاح الكلام من غاية البلاغة وأسباب القبول، لأنه أول ما يلامس أذن السامع، فإن كان بليغا جميلا استدعى انتباه السامع وإقباله، وإلا لم يكن له ذلك الوقع والتأثير.
وقد شهد أئمة البيان والبلاغة للقرآن الكريم أنه أتت فيه فواتح السور على أحسن الوجوه وأكملها، حتى أخذت منه فنون حسن الافتتاح وبراعة الاستهلال، كما أخذت من أساليبه سائر فنون البلاغة.
ويجد الناظر في فواتح السور تفننا عظيما في أنواع الافتتاحيات، أثارت انتباه البلغاء وعقدوا لها دراسات، ومؤلفات، لحسنها، وكثرة فنونها، ففيها الافتتاح بالتحميد، والتسبيح لله تعالى، والقسم، والنداء، والأمر، والجمل الخبرية، وحروف التهجي، وجمل الشرط، والاستفهام، والدعاء، والتعليل [١].
الافتاح بحروف التهجي
وكان أعجب فواتح السور حالا، وإثارة للبحث، هي حروف التهجي، التي افتتحت بها سور كثيرة من القرآن، وعرفت باسم «الحروف المقطعة في فواتح السور»، مثل: «الم»، «المص»، «ألر»، «حم»، «ق»، «ن».
(١) انظر تفصيلها وبيان السور التي افتتحت بكل نوع منها في الإتقان، النوع الستين.
فما هو الهدف أو المقصود من إيرادها؟.
أكثر العلماء من المفسرين واللغويين، وغيرهم قالوا: إن هذه الحروف المقطعة في فواتح السور هي أسماء للسور التي افتتحت بها، قالوا: سمّيت بها إيذانا بأنها كلمات عربية معروفة التركيب، قد ركّبت من هذه الحروف وأمثالها، وفي ذلك إشارة إلى الإعجاز، وأن القرآن لولا أنه وحي من الله تعالى لما عجزوا عن معارضته [١].
يؤيد هذا القول أحاديث، منها ما في الصحيحين [٢] عن أبي هريرة رضي الله عنه «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في صلاة الصبح يوم الجمعة: الم السجدة، وهل أتى على الإنسان».
وكذا حديث: «يس قلب القرآن» [٣].
وحديث: «من قرأ آية «الكرسي» و «حم» المؤمن عصم ذلك اليوم من كل سوء» [٤].
وذهب كثير من المحققين إلى أن هذه الحروف هي حروف مسرودة على طريقة التعديد- أي النطق بلفظها فقط- تنبيها على إعجاز القرآن، وكأنه يقول: إن القرآن منتظم من عين الحروف التي يتألف منها كلام العرب، فلولا أنه نازل من عند خلّاق القوى والقدر لما تضاءلت عن الإتيان بمثله قدرتهم، ولا عجزت عن كلام يساويه طاقاتهم، وهم فرسان البيان وأرباب الفصاحة والبلاغة.
(١) هكذا نقله أبو السعود في تفسيره ج ١ ص ١٦ وكثيرون ذكروه أنه اسم للسورة دون ذكر الإشارة إلى الإعجاز.
(٢) كلاهما في الجمعة البخاري ج ٢ ص ٥ ومسلم ج ٣ ص ١٦.
(٣) أخرجه أحمد عن معقل بن يسار مرفوعا في ضمن حديث ج ٢ ص ٢٦ وأخرجه الترمذي عن أنس عنه صلى الله عليه وسلم وفيه «وقلب القرآن يس». في فضائل القرآن رقم ٣٠٤٨ والبزار عن أبي هريرة. تفسير ابن كثير ج ٦ ص ٥٤٧.
(٤) أخرجه البزار والترمذي في فضائل القرآن رقم ٣٠٣٩، والأحاديث في تسمية السور «حم» و «يس» وغيرهما كثيرة، انظرها في الجامعين الصغير والكبير في لفظ «من قرأ» وفي مصادر التفسير المأثور.
وقيل: إن هذه الحروف جاءت ليدل كل حرف منها على اسم من أسمائه تعالى، أو أنها لو وصلت صارت اسما من أسماء الله تعالى. وهما منقولان عن ابن عباس. فقد ورد عنه أنه قال: الم: «أنا الله أعلم». وقيل: إن الألف من «الله»، واللام من «لطيف»، والميم من «مجيد».
ومثال وصلها ببعضها ما ورد عن ابن عباس: «الر» و «حم» و «ن» هي الرحمن.
واستشهدوا لهذا بأن العرب قد تستعمل الحرف تريد به الكلمة، كقول الشاعر:
فقلت لها قفي ... فقالت ق.
أي وقفت.
والذي يترجح عندنا من هذه الأقوال وغيرها هو المذهب الأول، وذلك لما ذكرنا من الأدلة، ولأنه أقرب المذاهب لاستعمال العرب، وإفادة الكلام.
أما الرأي الثاني الذي يجعلها إشارة فقط إلى إعجاز القرآن، لأن القرآن مؤلف من هذه الحروف وغيرها، وكلامكم هو كذلك، وحيث عجزتم عن الإتيان بمثله فقد ثبت أنه كلام الله، فهذا الرأي له مؤيدات كثيرة.
منها: أن عدد السور التي افتتحت بحروف التهجي تسع وعشرون، وهو عدد حروف الهجاء إذا جعلنا الهمزة والألف حرفين، وعدد الحروف الواردة فيها هو/ ١٤/ أي نصف الحروف، وأنها جاءت على نظام تركيب الكلمة عند العرب، منها ما هو حرف واحد، ومنها اثنان، وثلاثة، وأربعة، وخمسة.
ومن أقوى ما يؤيّد به هذا الرأي أن عادة القرآن أن يذكر بعد هذه الافتتاحيات القرآن وعظمته، إلا مواضع قليلة هي ثلاثة.
لكنه بعد ما فسّر الرأي الأول بأن هذه الفواتح أسماء للسور سمّيت بها إشارة للإعجاز فقد أصبح الرأي الأول يتضمن هذا الثاني، وهو بذلك أقرب منه، لما فيه من إفادة معنى مراد، ليس مجرّد الرمز والإشارة.
وأما جعل هذه الحروف رمزا لاسم من أسماء الله تعالى منفردة أو بوصلها مع بعضها فقد أولع به كثيرون من أهل الرياضات والتعبدات، وراح كل واحد يحملها محامل حسبما يخطر له، فليس مما نرجحه، لعدم انضباطه، أما شواهد كلام العرب فمنضبطة بقرينة تفيد المراد، والله تعالى أنزل القرآن بلسان عربي مبين.
وبناء على الرأيين الأقوى في تفسير هذه الفواتح لحظ العلماء دقة التناسب بينها وبين السور التي افتتحت بها، وأتوا بعجائب غريبة:
قال الإمام الزركشي رحمه الله [١]: «ومن ذلك افتتاح السور بالحروف المقطعة، واختصاص كل واحدة بما بدئت به، حتى لم يكن لترد «الم» في موضع «الر» ولا «حم» في موضع «طس». وذلك أن كل سورة بدئت بحرف منها فإن أكثر كلماتها وحروفها مماثل له، فحق لكل سورة منها ألا يناسبها غير الواردة فيها، فلو وضع «ق» موضع «ن» لعدم التناسب الواجب مراعاته في كلام الله.
وسورة «ق» بدئت به لما تكرر فيها من الكلمات بلفظ القاف، من ذكر القرآن، والخلق، وتكرير القول ومراجعته مرارا، و ... ، وقول العتيد والرقيب ... وحقّيّة الوعيد ... وغير ذلك مما هو واضح فيها».
ونضيف إلى ذلك ملاءمة حرف القاف الشديد لموضوع السورة ومعانيها كذلك.
«واشتملت سورة «ص» على خصومات متعددة: فأولها خصومة الكفار مع النبي صلى الله عليه وسلم وقولهم: أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً. ثم اختصام الخصمين عند داود، ثم تخاصم أهل النار، ثم اختصام الملأ
(١) فيما لخصه السيوطي في الإتقان: النوع الثاني والستون مع تصرف.
الأعلى، ثم تخاصم إبليس في شأن آدم، ثم في شأن بنيه وإغوائهم ... » [١].
وهكذا نخلص بعد هذه الدراسة إلى أن حروف الهجاء الواقعة في فواتح السور لها شأن عظيم: افتتحت بها تسع وعشرون سورة، وهو أكبر عدد بالنسبة لغيره من فواتح السور الأخرى، وكل هذه السور مكية عدا البقرة وآل عمران، وقد اشتملت السور التي افتتحت بهذه الحروف على بيان عظمة القرآن
(١) وأما إخضاع هذه الحروف إلى حساب رقمي- الذي ظهر حديثا- فقد سبق بمحاولة قديمة هي حساب الجمّل الذي توصل به بعضهم إلى وقائع معينة، أو فضيلة شخص، وكل منهما وكذا ما يشابههما من أي تفسير للقرآن- على هذا النحو- باطل مردود، وذلك لأنه طريق غير مقبول للفهم في كلام العرب، ولا يجوز فهم القرآن بغير طرائق فهمهم، ولما في ذلك من فتح أبواب لأهل الباطل، فإن كتابا كبيرا لا يخلو من أن تتفق فيه كلمات أو حروف مع رقم ما، فهل نجعل ذلك دليلا على حقية ما يزعمه أصحاب هذا الرقم؟! ثم إن الله تعالى تحدى العرب والعالم أن يأتوا بمثل هذا القرآن، من الكلام الدال على المعاني، ولم يتحدّ أحدا بحروف تعدّ ثم تقسم على عدد، فإدخال هذا الأمر خروج بالقرآن أسلوبا ومضمونا وإعجازا عن حقيقة القرآن. هذا لو فرضنا أن هذا الحساب المزعوم قد انتظم، كيف وقد اختل على يد مدعيه ولم ينتظم.
وليس أمر العدد جديدا، بل قد لاحظ أسلافنا كثرة هذه الحروف في السورة التي افتتحت بها، بل ذهبوا لما هو أبعد من ذلك وهو تلاؤم مضمون السورة لهذه الحروف ونغمها الموسيقى، فعلمنا من هذه البحوث العددية المعاصرة تأكيد دراستهم فقط، وهو إحكام القرآن ودقة نظمه وعمق أغواره، ليس بطريق حساب عدد متوهم مزعوم بل بطريق دقة النظم وعمق التجاوب بين هذه الفواتح وسورها.
قال الزركشي: «وقد عد بعضهم القافات التي وردت في سورة «ق» فوجدها سبعا وخمسين، مع أن آيات السورة خمس وأربعون، وفي سورة «ن» تكرر هذا الحروف أربع عشرة ومائة مرة وآياتها اثنتان وخمسون ...
كذلك أحصى العلماء عدد كلمات القرآن وحروفه، وكلمات سوره وحروفها أيضا، فلم يكن أمر الإحصاء والعدد غائبا عنهم.
لكن العلماء كانوا أبعد نظرا وأسدّ مسلكا فإنهم أخذوا من هذا العمل بيان إحكام القرآن في نظمه ومعناه، كما رأينا.
وإعجازه، كما أن كل افتتاح منها جاء ملائما للسورة التي افتتحت بها، لفظا ومعنى، شكلا ومضمونا، نغما ودلالة، مما يجعلها واقعة في مواقعها لتمييز هذه السور التي افتتحت بها، فتكون أسماء لها، ومفاتيح افتتحت بها، كما قال الإمام التابعي الجليل الحسن البصري رضي الله عنه: «سمعت السلف يقولون: إنها أسماء السور ومفاتيحها».
الفصل الثامن عشر جمع القرآن الكريم حفظا في الصدور والسطور
جمع القرآن يعني حفظه، وأول ما ورد هذا التعبير ورد في القرآن إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ.
وهذا موضوع جليل، قد عني العلماء بدرسه في كتب علوم القرآن، بل أفردوه بالدراسة في مؤلفات خاصة متعددة، نذكر منها هذه المؤلفات:
١ - «المصاحف» لابن أبي داود، مطبوع.
٢ - «المصاحف» لابن أشتة.
٣ - «الانتصار لنقل القرآن» للقاضي الإمام أبي بكر بن الطيب الباقلاني (٤٠٣ هـ) .
٤ - «نكت الانتصار لنقل القرآن» للإمام الصيرفي. مطبوع.
جمع القرآن في الصدور
حفظ النبي صلى الله عليه وسلم للقرآن
كان النبي الكريم أعظم العالم حفظا للقرآن، وكان يتلو هذا القرآن عن ظهر قلب لا يفتر لا سيما في الليل، حتى إنه ليقرأ في الركعة الواحدة العدد من السور الطوال.
ولزيادة التثبيت كان جبريل يعارضه بالقرآن كذلك.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: «كان النبي صلى الله عليه وسلم أجود الناس بالخير، وأجود ما يكون في شهر رمضان، لأن جبريل كان يلقاه في كل
ليلة في شهر رمضان حتى ينسلخ، يعرض عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن، فإذا لقيه جبريل كان أجود بالخير من الريح المرسلة» أخرجه البخاري [١].
وقال أبو هريرة: «كان يعرض على النبي صلى الله عليه وسلم القرآن كل عام مرة، فعرض عليه مرتين في العام الذي قبض، وكان يعتكف كل عام عشرا، فاعتكف عشرين في العام الذي قبض» أخرجه البخاري (١) .
حفظ الصحابة للقرآن الكريم
توفرت للصحابة العوامل التي تجعلهم يحرصون على حفظ القرآن إلى أقصى حد، وتجعل حفظ القرآن يتوفر فيهم إلى أبعد مدى، ومن تلك العوامل:
١ - قوة ذاكرتهم الفذة التي عرفوا بها واشتهروا، حتى كان الواحد منهم يحفظ القصيدة الطويلة من الشعر بالسمعة الواحدة.
٢ - نزول القرآن منجما كما عرفنا من قبل.
٣ - لزوم قراءة شيء من القرآن في الصلاة، وما هنالك من الفضل والثواب في تطويل المنفرد صلاته لنفسه.
٤ - وجوب العمل بالقرآن، فقد كان هو ينبوع عقيدتهم وعبادتهم، ووعظهم وتذكيرهم، وقد ترجموه إلى سلوك وخلق وحضارة.
٥ - حض النبي صلى الله عليه وسلم على قراءة القرآن، والترغيب بما أعد للقارئ من الثواب والأجر العظيم، والقوم أميون لا سبيل لهم إلا الحفظ عن ظهر قلب، وقد حددت السنة أقصى مدة للمسلم يختم بها القرآن شهرا، أو أربعين يوما.
عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله
(١) في فضائل القرآن ج ٦ ص ١٨٦.
عليه وسلم يقول: «من قرأ حرفا من كتاب الله فله به حسنة والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول «الم» حرف ولكن «ألف» حرف و «لام» حرف و «ميم» حرف» أخرجه الترمذي.
وعن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اقرأ القرآن في شهر، قلت: إني أجد قوة، حتى قال: فاقرأه في سبع ولا تزد على ذلك» متفق عليه.
٦ - تعاهد النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة بتعليم القرآن:
فكان الصحابة تلامذة للنبي صلى الله عليه وسلم يتعلمون منه القرآن، وكان النبي صلى الله عليه وسلم شيخهم، يتعاهدهم بتعليم القرآن، فإذا أسلم أهل أفق أو قبيلة أرسل إليهم من القرّاء من يعلّمهم القرآن، وإن كان في المدينة ضمه إلى حلق التعليم في جامعة القرآن النبوية.
وقد وافتنا الوثائق الثابتة الصحيحة بنماذج عن كثرة الحفاظ بين الصحابة، فهذه حرب المرتدين في اليمامة يقتل فيها، سبعون من القراء، بل ثبت بأوثق الإثباتات أنه صلى الله عليه وسلم أرسل في وفادة واحدة لتعليم بعض القبائل سبعين من القراء، وهم الذين غدر بهم المشركون في طريقهم وقتلوهم، كما في الصحيحين.
وإننا إذ نوضح هذا نذكّر أولا جيلنا بواجبهم تجاه القرآن الكريم وأن يحذوا حذو سلفهم الصالح في حفظ القرآن، أو على الأقل أن يجعل المسلم من تحصيله ودرسه للقرآن حصة كسائر ما يدرسه ويتحفظه من المعارف، ونذكّر ثانيا بتلك الصيانة الكبيرة الواسعة التي أحيط بها القرآن منذ عصره الأول ولم يزل كذلك حتى وصل إلينا بنقل الكافة عن الكافة.
على أن التاريخ إذ يسجل بدقة سمات مجتمع سلفنا، فإنه في الظواهر العامة لا يستطيع أن يسجل كل حالة على انفراد من حالات السمة العامة، إنما يسجل الحالات الخاصة والمتميزة عن سائر الأفراد فهو لا يسجل من الأطباء كل طبيب ولا من المهندسين كل مهندس ولا من العباد كل عابد، ولا من الفقهاء
كل فقيه، إنما يسجل من هؤلاء وهؤلاء الأفذاذ الذين بزّوا أقرانهم، وفاقوا أندادهم، حتى يكونوا كالمراجع لهم، وحتى لا يتبادر إلى الذهن لدى ذكر اختصاصهم غيرهم.
وقد أرشد النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه إلى كبار المقرئين ليأخذوا عنهم القرآن، كما أرشد وذكر مناقب اختص بها واحدا منهم أو اثنين بالذكر، ولم يفهم من ذلك أحد حصر القضية فيهم.
عن مسروق أنه قال: «ذكر عبد الله بن عمرو عبد الله بن مسعود فقال:
لا أزال أحبّه، سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «خذوا القرآن من أربعة: من عبد الله بن مسعود، وسالم، ومعاذ، وأبيّ بن كعب» أخرجه البخاري [١].
وعلى هذا النحو ورد الحديث عن قتادة قال: سألت أنس بن مالك رضي الله عنه: من جمع القرآن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال:
«أربعة كلهم من الأنصار: أبيّ بن كعب، ومعاذ بن جبل وزيد بن ثابت، وأبو زيد» أخرجه البخاري [٢].
فقد ذكر أنس هؤلاء لمعنى خاص لاحظه، أو أنهم هم الذين حضروا لذهنه [٣].
(١) في فضائل القرآن ج ٦ ص ١٨٦.
(٢) ج ٦ ص ١٨٧.
(٣) وأما رواية قول أنس: «مات النبي صلى الله عليه وسلم ولم يجمع القرآن غير أربعة:
أبو الدرداء، ومعاذ بن جبل، وزيد بن ثابت، وأبو زيد»، أخرجها البخاري أيضا عقب الرواية السابقة، فليس يصلح أن نأخذ منها ما يخلّ بما قدمنا الدلالة القاطعة عليه.
أما السند: فقد انتقده العلماء بأنه خالف الرواية الأولى وهي الأصح عند البخاري كما أشار لذلك البخاري نفسه، والمخالفة جاءت من وجهين: أحدهما التصريح بالحصر، والآخر ذكر «أبي الدرداء» بدل «أبيّ بن كعب»، وقد استنكر جماعة من الأئمة الحصر في الأربعة.
وقد تنوعت المواصفات التى سردت فيها قوائم القراء من الصحابة، فهناك الأئمة الذين اشتهروا أكثر، وكانوا مصادر تلقى عنهم المسلمون وهم سبعة: «عثمان بن عفّان، وعلي بن أبي طالب، وأبيّ بن كعب، وزيد بن ثابت، وعبد الله بن مسعود، وأبو الدرداء، وأبو موسى الأشعري» [١].
وهناك آخرون كثيرون ذكرهم العلماء.
وقد ذكر الإمام أبو عبيد القاسم بن سلّام- في كتاب القراءات الذي صنّفه [٢] - القراء من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فعدّ من المهاجرين: الخلفاء الراشدين الأربعة، وطلحة بن عبيد الله وسعد بن أبي وقاص، وعبد الله بن مسعود، وحذيفة بن اليمان، وسالما مولى أبي حذيفة، وأبا هريرة، وعبد الله بن السائب، والعبادلة (وهم: عبد الله بن عمر، وعبد الله بن عباس، وعبد الله ابن عمرو بن العاص، وعبد الله بن الزبير) ، وعائشة، وحفصة، وأم سلمة.
وحفظ القرآن من الأنصار في حياة النبي صلى الله عليه وسلم: عبادة ابن الصامت، ومعاذ أبو حليمة، ومجمّع بن جارية، وفضالة بن عبيد، ومسلمة بن مخلّد.
واما المتن: فلا يصلح فهمه على معنى نفي الحفظ عن غير هؤلاء، وحسبنا حديث أنس الأول دليلا حاسما في المسألة، وغاية ما هنالك أن الراوي فهم الحصر من الحديث فرواه على المعنى الذي فهمه، فأخطأ فيه، وخالف الثقات، لذلك قال الإمام البيهقي في المدخل «الرواية الأولى أصح».
وأجيب عن المتن على تقدير صحته وسلامته من أي علة بأن المراد به الحصر الإضافي لا الحقيقي، والمعنى: لم يجمعه على جميع الأوجه والأحرف والقراءات التي نزل بها إلا أولئك النفر.
الإتقان ج ١ ص ٧٠، ولا يشكل على ذلك ورود الرواية في البخاري لأن البخاري قد يورد الحديث من أكثر من وجه، لبيان قوة أصل الحديث، والتنبيه على ما في بعض الروايات فلا يقدح ذلك فيه لأن العمدة على الأصل.
(١) الإتقان ج ١ ص ٧٢.
(٢) كما نقل عنه السيوطي في الإتقان ج ١ ص ٧٢ وقال إنه صرح بأن بعضهم كمله بعد النبي صلى الله عليه وسلم وهذا لا يخل.
لكن هذا التعداد ليس للحصر قطعا، فهناك أبيّ بن كعب، ومعاذ بن جبل، وزيد بن ثابت، وأبو الدرداء، وأنس بن مالك.
وقد أضاف الإمام الذهبي [١] جملة من القراء إلى ما ذكره أبو عبيد وهناك غيرهم كثير يستخرجهم القارئ من دراسة الكتب المؤلفة في الصحابة، ومما تتوارد به الروايات في المراجع [٢].
وهكذا ثبت حفظ الصحابة للقرآن في صدورهم بما يبلغ رتبة التواتر بل يزيد عليها أضعافا، تجعلنا تتيقن ما قاله الإمام أبو الخير بن الجزري: «إن الاعتماد في نقل القرآن على حفظ القلوب والصدور لا على حفظ المصاحف والكتب أشرف خصيصة من الله تعالى لهذه الأمة».
وذلك مصداق البشارة التي وردت عن الأنبياء السابقين في وصف هذه الأمة: «أناجيلهم في صدورهم»، وهو تحقيق للحديث القدسي: «إني مبتليك ومبتل بك، ومنزّل عليك كتابا لا يغسله الماء تقرؤه نائما ويقظان ... » [٣]، كما أن هذا من تحقيق الإعلان القرآن الذي كرره القرآن وأكده:
وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ.
(١) في كتابه طبقات القراء كما نقل عنه الزركشي في البرهان ج ١ ص ٢٤٢ - ٢٤٣.
(٢) ومن ذلك: أبو زيد الذي ورد اسمه في الصحيح. وكمثل هذه الصحابية التي وجدها السيوطي ولم يعدها أحد وهي أم ورقة بنت عبد الله بن الحارث: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزورها ويسميها الشهيدة، وكانت قد جمعت القرآن، أنظر الإتقان ج ١ ص ٧٢، وكذلك أبو أمامة، وكان يقرئ في مسجد دمشق مع أبي الدرداء.
(٣) أخرجه مسلم في الجنة ج ٨ ص ١٥٨ - ١٥٩ في حديث طويل.
جمع القرآن الكريم تدوينا في السطور
هذا الجمع هو لون من الحفظ يدوم مع الزمان، ولا يذهب بذهاب الإنسان، فلا غرو أن يتحقق أكمل تحقق لهذا الكتاب الذي تكفل الله تعالى بحفظه: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ.
وقد رافق الجمع بالكتابة كل نجم من نجوم هذا القرآن منذ أن تنزّل هذا النجم بالوحي، إلى أن تكامل العمل بجمعه في المصحف جمعا محوطا بأشد أنواع العناية والحفاظ، حتى انتشر بين أمة الإسلام وهو في كل ذلك بإجماعها واطلاعها.
وتقتضي الدراسة الدقيقة تقسيم البحث في جمع القرآن إلى ثلاثة مراحل، كما قسمها المحققون من قبل.
جمع القرآن تدوينا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم
لقد عني النبي صلى الله عليه وسلم بكتابة القرآن عناية بالغة جدا، فكان كلما نزل عليه نجم دعا الكتاب فأملاه عليهم، فكتبوه على ما يجدونه من أدوات الكتابة حينئذ مثل الرّقاع، واللّخاف، والأكتاف، والعسب [١]. وقد اشتهر أن عدد كتّاب الوحي خمس وعشرون كاتبا، لكنه فيما يبدو أكثر من ذلك بكثير. فقد بلغ عدد الكتّاب فوق الأربعين، حسبما أفاده الإحصاء المستقصي لبعض المحققين [٢]، وقد حصر النبي الكريم جهد هؤلاء الكتّاب في كتابة القرآن فمنع من كتابة غيره إلا في ظروف خاصة أو لبعض أناس مخصوصين، كما في الحديث الصحيح: «لا تكتبوا عني شيئا إلا القرآن، فمن كتب عني شيئا غير القرآن فليمحه» أخرجه مسلم [٣].
(١) الرقعة: القطعة من الأديم أي الجلد ونحوه، واللحاف الحجارة الرقيقة، والعسب:
سعف النخل يكشط طرفه العريض ويكتب عليه.
(٢) ابن حديدة الأنصاري في كتابه «المصباح المضيّ في كتّاب النبي العربي» وقد بلغ عدد الكتّاب عنده أربعة وأربعين.
(٣) مسلم في الزهد ج ٨ ص ٢٢٩ وأحمد ج ٣ ص ٢١ بلفظه، وانظر في المسألة كتابنا منهج النقد ص ٣٩ وما بعد.
فتحقق بذلك توفر طاقة كبيرة لكتابة القرآن وترتيبه، كما أخرج الحاكم [١] بسند على شرط الشيخين عن أنس رضي الله عنه قال: «كنّا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم نؤلف القرآن من الرقاع .. »، ومقصود هذا الحديث فيما نرى هو أن «المراد به تأليف ما نزل من الآيات المفرقة في سورها وجمعها فيها بإشارة النبي صلى الله عليه
وسلم».
ومن هنا كان لا بد أن تتوفر نسخ كثيرة من القرآن مدونة عند عدد من الصحابة مثل «أبيّ بن كعب، وعبد الله بن مسعود، ومعاذ بن جبل، فبغير شك جمعوا القرآن، والدلائل عليه متظاهرة».
وكذلك السيدة عائشة رضي الله عنها.
وثمة نصوص تثبت كثرة كتابة القرآن وانتشاره مكتوبا، تؤكد ما ذهبنا إليه، نذكر منها، أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو»، متفق عليه [٢].
وفي لفظ لمسلم: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تسافروا بالقرآن، فإني لا آمن أن يناله العدو».
وهذا ظاهر في وجود المصاحف عندهم مكتوبة كما أشار البخاري في صحيحه.
وكذلك كتابه صلى الله عليه وسلم المشهور إلى عمرو بن حزم: «أن لا يمسّ القرآن إلا طاهر» أخرجه مالك والنسائي وابن حبان [٣].
وقد تظاهرت الأخبار أن سبب إسلام عمر بن الخطاب هو سماعه القرآن يقرأ في المصحف من سورة طه.
وغير ذلك من الأخبار في هذا الباب يثبت وجود القرآن عندهم مكتوبا في نسخ عديدة لديهم في عهد النبي صلى الله عليه وسلم. وبذلك تحقق للقرآن
(١) ج ٢ ص ٢٢٩ وانظر المرشد الوجيز لأبي شامة ص ٤٤ - ٤٥.
(٢) البخاري ج ٤ ص ٥٦ ومسلم ج ٦ ص ٣٠.
(٣) الموطأ ج ١ ص ١٥٧ والنسائي ج ٨ ص ٥٧ وموارد الظمآن ص ٢٠٣.
على عهد النبي صلى الله عليه وسلم الحفظ التام بنوعيه: حفظ الصدور وحفظ السطور.
جمع القرآن على عهد أبي بكر الصديق رضي الله عنه
ثم لاحت في الأفق إشارات تحذّر من الخطر، وذلك نتيجة القتل الكثير الذي وقع في صفوف الصحابة في حروب الردة، وكان قرّاؤهم أكثر إقداما بين مقاتليهم، فكثر فيهم القتل حتى دعا ذلك للتدبر في المستقبل الذي سيواجه فيه المسلمون الدولتين الأعظم في العالم آنذاك، كما فصلت لنا الروايات الصحيحة القطعية الثبوت، نسوق منها هنا رواية الإمام البخاري:
أخرج البخاري [١] عن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال:
«أرسل إليّ أبو بكر مقتل أهل اليمامة، فإذا عمر بن الخطاب عنده، قال أبو بكر رضي الله عنه: إن عمر أتاني، فقال: إن القتل قد استحرّ يوم القيامة بقرّاء القرآن، وإني أخشى أن يستحرّ القتل بالقراء بالمواطن فيذهب كثير من القرآن، وإني أرى أن تأمر بجمع القرآن، قلت لعمر: كيف تفعل شيئا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم؟، قال عمر: هذا والله خير، فلم يزل عمر يراجعني حتى شرح الله صدري لذلك، ورأيت في ذلك الذي رأى عمر، قال زيد: قال أبو بكر: إنك رجل شاب عاقل لا نتّهمك، وقد كنت تكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فتتبّع القرآن فاجمعه، فو الله لو كلفوني نقل جبل من الجبال ما كان أثقل عليّ مما أمرني به من جمع القرآن، قلت: كيف تفعلون شيئا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: هو والله خير، فلم يزل أبو بكر يراجعني حتى شرح الله صدري للذي شرح له صدر أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، فتتبعت القرآن أجمعه من العسب واللّخاف وصدور الرجال حتى وجدت آخر سورة التوبة مع أبي خزيمة الأنصاري، لم أجدها مع أحد غيره: «لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتّم، حتى خاتمة براءة، فكانت الصحف عند أبي بكر حتى توفّاه
(١) في فضائل القرآن (باب جمع القرآن) ج ١ ص ١٨٣.
الله، ثم عند عمر حياته، ثم عند حفصة بنت عمر رضي الله عنهم».
وهذا النص يفيد تخوّف الصحابة وحسابهم للمستقبل الذي يوجب الحذر والاستعداد لما يطرأ للقراء في مجتمع فرض عليه الجهاد وأحدقت به الأعداء.
ويذكر الحديث ما اقتضاه العمل من الجهد في قول زيد: «فتتبعت القرآن أجمعه من العسب واللّخاف وصدور الرجال».
إن هذا يعني في ضوء المعلومات الثابتة التي قدمناها معنى جليلا هو أنه «طلب القرآن متفرقا ليعارض [١] بالمجتمع عند من بقي ممن جمع القرآن، ليشترك الجميع في علم ما جمع، فلا يغيب عن جمع القرآن أحد عنده منه شيء، ولا يرتاب أحد فيما يودع المصحف، ولا يشكّوا في أنه جمع عن ملأ منهم» [٢].
وفي ضوء هذا نفهم قوله: «وجدت آخر سورة التوبة مع أبي خزيمة الأنصاري لم أجدها مع أحد غيره».
وروى البخاري عن ابن شهاب قال: «وأخبرني خارجة بن زيد بن ثابت سمع زيد بن ثابت قال: «فقدت آية من الأحزاب حين نسخنا المصحف، فقد كنت أسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ بها، فالتمسناها فوجدناها مع خزيمة بن ثابت الأنصاري: مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ، فألحقناها في سورتها في المصحف» [٣].
فقد ورد من أكثر من طريق [٤] أن زيدا وعمر بن الخطاب قاما بعمل جمع
(١) أي يقابل وتدقق نسخته.
(٢) البرهان ج ١ ص ٢٣٨ - ٢٣٩.
(٣) أخرجه البخاري في فضائل القرآن ج ٦ ص ١٨٤.
وقد اخترنا أن قصة هذه الآية وقعت في جمع القرآن على عهد أبي بكر لاتحاد مخرج القصتين فإنهما ترويان عن زيد بن ثابت، أما الجمع على عهد عثمان فمن رواية أنس بن مالك، كما أنه من المستبعد جدا فقد شيء من مصحف أبي بكر، وعمل الصحابة في عهد عثمان إنما كان نشرا للمصاحف عن مصحف أبي بكر، وهو الذي جزم به الإمامان ابن كثير والزركشي.
(٤) كما أخرجها ابن أبي داود في المصاحف ص ١٢ و ١٧ وانظر الإتقان ص ٥٨.
القرآن هذا «وكان لا يقبل من أحد شيئا حتى يشهد شهيدان».
وقد فسر هذا القول بتفاسير متعددة كلها تشير إلى غاية التثبت، ولعل أولاها عندنا هو الاستشهاد على أن ذلك كتب بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما فسره أبو شامة المقدسي، وعلم الدين السخاوي. «ولذلك قال في آخر سورة التوبة: لم أجدها مع غيره، أي لم أجدها مكتوبة على الشرط المذكور مع غيره».
وإلا فإن خاتمة براءة محفوظة عنده وعند غيره من الصحابة، مشهورة قد وردت أحاديث في فضلها.
وبهذا جمعت نسخة المصحف بأدق توثق ومحافظة، واستغرق هذا الجمع زهاء سنة، هي مدة ما بين واقعة اليمامة ووفاة الصديق رضي الله عنه، وأودعت نسخة المصحف لدى الخليفة لتكون إماما تواجه الأمة به ما قد يحدث في المستقبل ولم يبق الأمر موكولا إلى النسخ التي بين أيدي كتّاب الوحي، أو إلى حفظ الحفّاظ وحدهم.
ويعجبنا في هذا ما قاله الإمام أبو عبد الله الحارث بن أسد المحاسبي في كتاب «فهم السنن»: «كتابة القرآن ليست محدثة، فإنه صلى الله عليه وسلم كان يأمر بكتابته، ولكنه كان مفرقا في الرقاع والأكتاف والعسب، وإنما أمر الصدّيق بنسخها من مكان إلى مكان، وكان ذلك بمنزلة أوراق وجدت في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيها القرآن منتشر، فجمعها جامع، وربطها بخيط حتى لا يضيع منها شيء [١].
وما كان أقواه وأمتنه من خيط ذاك الذي جمع به الصحابة رضي الله عنهم كتاب الله تعالى.
وقد اعتمد الصحابة كلهم وبالإجماع القطعي هذا العمل وهذا المصحف الذي جمعه أبو بكر الصديق رضي الله عنه، وتتابع عليه الخلفاء الراشدون كلهم والمسلمون كلهم من بعده، وسجلوها لأبي بكر الصديق منقبة فاضلة
(١) البرهان ج ١ ص ٢٣٨ والإتقان ج ١ ص ٥٨.
عظيمة من مناقبه وفضائله الجمة رضي الله عنه، أثنوا عليها وأشادوا بها، لكونه أول من جمع القرآن، أي هذا الجمع العظيم الموثق، وحسبنا في ذلك ما ثبت عن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: «أعظم الناس في المصاحف أجرا أبو بكر، رحمة الله على أبي بكر، هو أول من جمع كتاب الله» [١].
جمع القرآن بنسخ المصاحف على عهد عثمان رضي الله عنه
إن ما يميز السياسة الراشدية نظرها الثاقب الذي يتدبر الأمور، بل الذي يسبق الحوادث قبل وقوعها، كما سجلها المؤرخون قديما وحديثا، وهكذا كان عمل أبي بكر والصحابة في جمع المصحف عدة ماضية آتت أعظم النتائج في مواجهة ما تطويه الأيام من تغيرات ومفاجآت [٢]، فقد استجد في عهد الخليفة الراشدي الثالث عثمان بن عفان رضي الله عنه ما يوجب نشر هذا المصحف وتعميمه على الآفاق ليحقق الغاية التي جمع لأجلها واستغرق تلك الجهود والأوقات.
أخرج البخاري [٣] عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن حذيفة بن اليمان قدم على عثمان، وكان يغازي أهل الشام في فتح إرمينية وآذربيجان مع أهل العراق، فأفزع حذيفة اختلافهم في القراءة، فقال حذيفة لعثمان: يا أمير المؤمنين، أدرك هذه الأمة قبل أن يختلفوا في الكتاب اختلاف اليهود والنصارى، فأرسل عثمان إلى حفصة أن أرسلي إلينا بالصحف ننسخها ثم نردها إليك، فأرسلت بها حفصة إلى عثمان، فأمر زيد بن ثابت وعبد الله بن
(١) أخرجه ابن أبي داود في المصاحف. والمراد أنه أول من جمع كتاب الله الجمع الموثّق باطلاع جميع المسلمين عليه، لما علمنا بالأدلة القاطعة الثبوت أن الصحابة كان عندهم القرآن مكتوبا.
(٢) نذكر هنا بمواقف الصحابة من رواية الحديث لما برز قرن الفتنة وظهر الكذب وكيف واجهوا الموقف بأحكم الوسائل العلمية في المحافظة على الحديث النبوي، كما فصلناه في كتابنا منهج النقد في علوم الحديث ص ٥٥ - ٥٧ محققا بالأدلة الثابتة.
(٣) ج ٦ ص ١٨٣ - ١٨٤.
الزبير وسعيد بن العاص وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام فنسخوها في المصاحف، وقال عثمان للرهط القرشيين الثلاثة: إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء من القرآن فاكتبوه بلسان قريش، فإنما نزل بلسانهم ففعلوا، حتى إذا نسخوا الصحف في المصاحف رد عثمان الصحف إلى حفصة، وأرسل إلى كل أفق بمصحف مما نسخوا،
وأمر بما سواه من القرآن في كل صحيفة أو مصحف أن يحرّق».
فقد أفادت هذه الرواية فوائد لها أهميتها في فهم العمل الذي قام به عثمان بن عفان رضي الله عنه، عني العلماء ببحثها ودراستها:
وأول ذلك: السبب الدافع للعمل الذي قام به عثمان وهو اختلاف الناس في وجوه قراءة القرآن، حتى قرءوه بلغاتهم- كما قال ابن التين [١] - على اتساع اللغات فأدى ذلك بعضهم إلى تخطئة بعض فخشي من تفاقم الأمر في ذلك فنسخت تلك الصحف في مصحف واحد مرتّبا لسوره واقتصر من سائر اللغات على لغة قريش ... ».
وهذا يوضح لنا فرقا جوهريا بين عمل أبي بكر وعمل عثمان، وهو أن عمل أبي بكر كان جمع القرآن كله في نسخة معتمدة يشترك فيها الجميع لخشية أن يذهب من القرآن شيء بذهاب حملته، لأنه لم يكن مجموعا في نسخة واحدة موثقة ذلك التوثيق، بل كان ما وجد من نسخ المصحف عند كتّاب الوحي على مسئوليتهم الخاصة.
وأما نوع الاختلاف الذي حدث بين الناس في القراءة فيلخصه لنا الإمام أبو بكر الباقلاني في الانتصار بأن عثمان «إنما قصد جمعهم على القراءات الثابتة المعروفة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وإلغاء ما ليس كذلك، وأخذهم بمصحف لا تقديم فيه ولا تأخير، ولا تأويل أثبت مع تنزيل ...
خشية دخول الفساد والشبهة على من يأتي بعد» [٢].
(١) الإتقان ج ١ ص ٦٠، وقارن بفتح الباري ج ٩ ص ١٩.
(٢) البرهان ج ١ ص ٢٣٥ - ٢٣٦، والإتقان الموضع السابق.
ثم إنا نجد ما يدل على أن العمل في نسخ المصاحف ساهم فيه غير هؤلاء الأربعة المذكورين هنا، وقد أخرج ابن أبي داود من أربعة طرق عن محمد بن سيرين قال: «جمع عثمان اثني عشر رجلا من قريش والأنصار، منهم أبيّ بن كعب ... » [١].
وتوافينا روايات تفصيلية بأسماء صحابة آخرين سوى أعضاء اللجنة الرباعية ساهموا في نسخ المصاحف، حتى اجتمع من التتبع إحصاء أسماء تسعة نفر منهم، مما يقوي رواية الاثني عشر، ويشير إلى أن اللجنة الرباعية كانت هي الرئيسية، ورفدها في العمل خبراء، عملوا معها لكتابة المصاحف التي تكفي لحاجة المسلمين» [٢].
شروط الكتابة في المصاحف العثمانية
وأما القواعد التي اتبعوها في كتابة المصاحف، فكانت أصولا هامة سارت عليها الأمة من بعد، وقد صرّح الحديث بقاعدة هامة منها، وحدثتنا الروايات عن غيرها، فمن مهمات ذلك:
١ - اختيار حرف قريش: لما جاء في الحديث: «وقال عثمان للرهط القرشيين الثلاثة: إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء من القرآن فاكتبوه بلسان قريش، فإنما نزل بلسانهم، ففعلوا».
وهذا لا يدل على إبطال بقية الأحرف السبعة، لما هو معلوم من قواعد رسم الصحف أنه غير مشكول ولا منقوط، وأنه لم تثبت فيه ألفات المد حسب قواعد في رسم الألف وعدمها، فمثلا «مالك» تكتب «ملك» و «الكتاب» تكتب «الكتب».
ومن هنا كان لقراءة رسم المصحف طريقان: الموافقة للرسم المكتوب تحقيقا، والموافقة احتمالا وتقديرا.
(١) المصاحف ص ٣٣ - ٣٤ وانظر فتح الباري ج ٩ ص ١٦.
(٢) قارن رأينا هذا بفتح الباري ج ٩ ص ١٦ - ١٧، وفيه التتبع للزيادة على الأربعة.
وراجع للتوسع نكت الانتصار لنقل القرآن للصيرفي ص ٣٦٧ وما بعد.
فقراءة «ملك يوم الدين» موافقة للرسم تحقيقا. وقراءة «مالك يوم الدين» موافقة له تقديرا.
لكن لا تجوز أي قراءة يحتملها الرسم إلا إذا ورد بها النقل المتواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم، كما هو مقرر في ضابط القراءة الصحيحة، غاية الأمر هنا أن يكون الرسم موافقا للسان قريش تحقيقا، ولغيرهم تقديرا [١].
٢ - إذا لم يمكن استيعاب كل الأوجه كتب بعض المصاحف ببعض الأوجه، وكتب بعض آخر بأوجه أخرى مثل «ووصّى»، «وأوصى».
٣ - تجريد المصحف عن كل ما ليس قرآنا، حتى سرت هذه العبارة المأثورة التي تناقلها التابعون: «جرّدوا المصاحف».
٤ - التثبت البالغ في الرسم، كما قال كثير بن أفلح أحد الكاتبين مع اللجنة الرباعية: «فكانوا إذا اختلفوا في الشيء أخروه»، قال ابن سيرين:
«أظنه ليكتبوه على العرضة الأخيرة» [٢].
وقد ورد نحو ذلك بأكثر من وجه.
وبهذا كان عمل عثمان بن عفان متكاملا في غاية الضبط والإتقان وقد حقق الهدف الذي قصد إليه من وراء هذا العمل من وجهين هما بيت القصيد:
آ- المحافظة على نص القرآن أن يدخل فيه ما ليس منه، أو أن يتعرض لأي تحريف، بسبب العوامل التي سبق ذكرها.
ب- اعتماد القراءات المتعددة المتواترة التي يمكن أن يقرأ بها القرآن، كما ذكرنا في قاعدة الرسم، وبذلك قضى عثمان رضي الله عنه على الخصام
(١) وأما رواية أنهم اختلفوا في التابوت فقال القرشيون: التابوت، وقال زيد: التابوة، فرفع إلى عثمان فقال اكتبوه «التابوت» فإنه نزل بلسان قريش، فهذه الرواية في إسنادها كلام، رواها الزهري مرسلة، وتفرد بوصلها من هو ضعيف، وانظر فتح الباري ج ٩ ص ١٧.
(٢) فتح الباري ج ٩ ص ١٦.
بسبب القراءات بين المسلمين، لأن الجميع علموا شرعية ما يقرأ به القرآن، لاعتماده على الأصل المجمع عليه من الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين.
يشير إلى هذا الهدف قول عثمان يرد على الخارجين عليه اعتراضهم لحرقه المصاحف: «إنما منعتكم من الاختلاف ... ».
نشر عثمان المصاحف في الأمصار
تم العمل الضخم الذي قام به عثمان وهو نسخ المصاحف بما لا يتجاوز كثيرا (سنة ٢٥ هـ) التي هي سنة غزو المسلمين إرمينية كما يثبته التاريخ [١]، فأعاد عثمان الصحف إلى حفصة أم المؤمنين رضي الله عنها، ووزع المصاحف على وجه يحقق المقصود، ويزيل الإشكال فأرسل إلى كل مصر من الأمصار الإسلامية بمصحف من المصاحف التي نسخت، واحتفظ عنده بمصحف سمي «المصحف الإمام»، وقد وقع الاختلاف في عدد هذه المصاحف، والمشهور أنها خمس على ما قرره السيوطي، لكن إذا أضفنا إليها المصحف الإمام كان المجموع ستة مصاحف.
ولاحظ عثمان في هذا التوزيع إرداف الكتابة بالقراءة، وهي العمدة بالنسبة لقراءة القرآن التي تحتاج إلى التلقي من الأفواه، فأرسل إلى كل بلد قارئا يرافق المصحف ويقرأ بالقراءة الموافقة لرسم المصحف، على التوزيع التالي: زيد بن ثابت مقرئ المصحف المدني، وعبد الله بن السائب مقرئ المصحف المكي، والمغيرة بن شهاب مقرئ المصحف الشامي، وأبو عبد الرحمن السّلمي مقرئ المصحف الكوفي، وعامر بن عبد القيس مقرئ المصحف البصري [٢].
وفي مقابل ذلك أمر عثمان بما سوى ذلك من المصاحف أن يحرّق،
(١) خلافا لما توهمه بعض السابقين ممن لم يحقق فزعم أنه كان سنة ٣٠، ومن ثم جاء بعض الأجانب ليبني على هذا القول الساقط خيالات باطلة، وانظر تحقيق الترجيح في فتح الباري للحافظ ابن حجر.
(٢) بتصرف يسير عن مناهل العرفان ج ١ ص ٣٩٦ - ٣٩٧.
فاستجاب الصحابة كلهم لذلك، وحمدوا صنيعه، حتى عبد الله بن مسعود نفسه، فإنه بعد أن امتنع قليلا وافق طواعية، كما ثبت ذلك بالأدلة القاطعة الثابتة عنه [١].
وإنما صنع عثمان ذلك بهذه المصاحف الفردية لإزالة جذور الخلاف ومنابته.
وقد انعقد إجماع الأمة عبر كل العصور منذ عهد الصحابة على التزام المصحف الذي أجمع عليه الصحابة رضي الله عنهم، وعملت بذلك جميع الفرق الإسلامية، لا يسمح أحد بمخالفة المصحف لا في رسمه ولا ترتيبه.
وهذه المصاحف في مختلف البلاد الإسلامية ولدى مختلف الفرق المسلمة لا تختلف في شيء عن مصاحف أهل السنّة، حتى في طريقة تقسيم السور وترقيمها، الأمر الذي أثبت بالدلالة القاطعة لكل العقلاء المنصفين على اختلاف أديانهم «أن المصحف الذي نسخه عثمان قد تواتر إلينا بدون أي تحريف على الإطلاق في النسخ التي لا حصر لها المتداولة في البلاد الإسلامية الواسعة، فلم يوجد إلا قرآن واحد لجميع الفرق الإسلامية المتنازعة، وهذا الاستعمال الإجماعي من الجميع للنص المقبول نفسه حتى اليوم يعدّ أكبر حجة ودليل على صحة النص المنزل الموجود معنا» [٢].
فضيلة عمل عثمان
وقد حمد المسلمون سلفا فخلفا لعثمان رضي الله عنه صنيعه، حتى لقبوه جامع القرآن، لما «وفّق له من هذا الأمر العظيم، ورفع الاختلاف، وجمع الكلمة، وأراح الأمة» [٣].
(١) انظر الآثار عنه في المصاحف لابن أبي داود تحت عنوان «رضا عبد الله بن مسعود لجمع عثمان ... ».
(٢) باختصار عن المستشرق (و. موير) .
(٣) البرهان ج ١ ص ٢٣٩ و ٢٤٠.
وقد ثبت عن عليّ رضي الله عنه أنه قال: «يا معشر الناس، اتقوا الله، وإياكم والغلو في عثمان وقولكم حراق المصاحف، فو الله ما فعل الذي فعل في المصاحف إلا عن ملإ منا» [١].
وقال علي رضي الله عنه أيضا: «لو وليت ما ولي عثمان لعملت بالمصاحف ما عمل» [٢].
وقد عنيت الأمة الإسلامية بهذه المصاحف العثمانية أكبر عناية، فاتخذت هذه المصاحف أصولا يؤخذ منها، وأئمة يقتدى في كتابة المصاحف بها، حتى حدثنا الرحالون المسلمون العلماء، والأئمة الكبار عن نسخ من هذه المصاحف أو قطع منها شاهدوها في بلاد الإسلام، ولا تزال أجزاء هامة من بعض هذه المصاحف حتى عصرنا هذا تحتفظ بها بعض دور الآثار الضخمة وتزهو بها على العالم.
ويحدثنا الإمام ابن كثير الدمشقي المتوفى سنة (٧٧٤ هـ) عن المصحف الشامي فيقول [٣]: «أما المصاحف العثمانية الأئمة فأشهرها اليوم الذي في الشام بجامع دمشق عند الركن، شرقي المقصورة المعمورة بذكر الله، وقد كان قديما بمدينة طبرية، ثم نقل منها إلى دمشق في حدود سنة ٥١٨، وقد رأيته كتابا عزيزا، جليلا، عظيما، ضخما، بخط حسن مبين، قوي، بحبر محكم، في رقّ أظنه من جلود الإبل».
وقد ظل هذا المصحف مفخرة تزهو بها دمشق، ويحتضنها جامعها الأموي الكبير، حتى كان الحريق الكبير الذي أصاب المسجد الأموي سنة
(١) فتح الباري ج ٩ ص ١٥ والنص أخرجه ابن أبي داود في المصاحف ص ٣٠ وابن الأنباري والسياق لابن أبي داود لكن الجملة الأولى من سياق ابن الأنباري، وانظر الإتقان ج ١ ص ٥٩ ومقدمتان في علوم القرآن ص ٤٦ ومناهل العرفان للزرقاني ج ١ ص ١٥٥.
(٢) المصاحف من أكثر من طريق ص ١٩ و ٣٠ وانظر البرهان ج ١ ص ٢٤٠.
(٣) في كتابه فضائل القرآن المطبوع في آخر تفسير ابن كثير ج ٤ ص ١٥.
١٣١٠ هـ، واحترق فيه هذا المصحف الجليل [١].
وهكذا سجلت الأمة الإسلامية بحفظها القرآن في الصدور والسطور منذ عهد الرسالة، ثم بصنيع أبي بكر وصنيع عثمان بن عفان والصحابة في نسخ المصاحف مزية ليست لأمة غيرها، هي اعتماد المسلمين على نسخ من كتاب ربهم، منقولة على غاية الدقة والتحري عن الأصل المكتوب عن نبيهم صلى الله عليه وسلم، مع مقابلة ذلك كله بحفظه في صدور المسلمين كلهم، ثم نقله كذلك عبر أجيالهم، ليعترف لهم التاريخ على لسان الموالي لهم والمخالف لدينهم بأنه أدق وأكمل مما يتوقعه أو يمكن أن يفعله أي إنسان، تحقيقا لقول الله تعالى: وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ.
(١) قال الأستاذ العلّامة الدكتور صبحي الصالح في كتابه مباحث في علوم القرآن ص ٨٩:
«وقد ذكر لي الزميل الأستاذ الدكتور يوسف العش أن القاضي عبد المحسن الأسطواني أخبره بأنه قد رأى المصحف الشامي قبل احتراقه، وكان محفوظا في المقصورة، وله بيت خشب» انتهى بحروفه.
حفظ الله تعالى القرآن العظيم من التحريف والتبديل فيه والزيادة والنقصان أبد الآبدين
لقد أثبت البحث العلمي في حفظ القرآن على عهد الصحابة الكرام أنه قد ثبت قطعا ويقينا حفظ الصحابة للقرآن الكريم بعدد يفوق التواتر حفظا في الصدور، كما أنه حفظ تسجيلا في السطور في الصحف حتى بلغ عدد النسخ جملة كثيرة عند كتّاب الوحي الذين زاد عددهم على الأربعين.
وهذا يدل قطعا على أن الله تعالى قد حفظ القرآن الكريم من التبديل والتحريف والزيادة والنقصان. ويدل على ذلك أيضا أدلة أخرى كثيرة قطعية يقينية، نذكر نبذة منها فيما يلي:
أولا: قوله تعالى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ [١]. فقد دل على أنه سبحانه هو الذي أنزل هذا القرآن وهو تكفل أن يحفظه من التلاعب والزيادة والنقصان، فكما يجب الإيمان قطعا بأن هذا القرآن أنزله الله تعالى، يجب الإيمان قطعا بأن الله هو حافظ لهذا القرآن قطعا. وذلك يوجب ألا يدخل عليه أي تحريف أو تبديل أو زيادة أو نقصان.
فلو جرى على هذا القرآن تبديل أو تغيير أو زيادة أو نقص: لما صحّ الخبر في قوله تعالى: وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ ولما صدق الله تعالى وعده بالحفظ لهذا القرآن العظيم، وتعالى الله عن ذلك علوا كبيرا. فإن الله تعالى لا يخلف
(١) سورة الحجر، الآية ٩.
وعده، وإن خبره صادق محتم الوقوع. ومن أصدق من الله قيلا! ومن أوفى بعهده من الله!! فإنه سبحانه لا يكذب خبره ولا يتخلّف وعده ولا تنقض كفالته.
ثانيا: قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ [١].
فإنه لو جرى على هذا القرآن الكريم تبديل أو زيادة أو نقص: لكان ذلك منافيا ومعارضا لقوله لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ فإن الله تعالى أخبر أن الباطل لا يأتي هذا القرآن ولا يتسرب إليه لا في نصوصه ولا في معانيه، فهو لا يعارض ولا يناقض، ولا يزاد فيه ولا ينقص منه، لأن الزيادة فيه باطلة ليست منه، والنقص منه هو إبطال لما هو منه حقا دالا على حق. فقوله تعالى لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ دليل صيانته وحفظه من التلاعب والزيادة والنقص. وهذا الخبر القرآني لا يتخلف ولا يتبدل. إذن فالباطل لا يمكن أن يتسرب إلى هذا القرآن قطعا، لا في نصوص كلماته بزيادة أو نقص، ولا في معانيه بتكذيب أو نقض.
ثالثا: لو جرى على هذا القرآن الكريم تحريف أو زيادة أو نقص: لكان ذلك منافيا ومخالفا لقوله تعالى: وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ الآية. وذلك أن الله
تعالى أمر نبيه صلى الله عليه وسلم بقوله قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ. فقد أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن ينذر به أول هذه الأمة وأوسطها وآخرها على حد سواء، وجعل الله تعالى القرآن الكريم حجة لرسول الله صلى الله عليه وسلم على جميع العباد، وبلاغا عنه لكافة العباد إلى يوم المعاد، فإنه صلى الله عليه وسلم صاحب الرسالة العامة للثقلين إلى يوم القيامة، ولذلك اقتضت الحكمة الإلهية أن يبقى كتابه الذي أنزله الله عليه، يبقى محفوظا إلى يوم الدين، لتقوم الحجة على العباد، وليهتدوا به إلى سبيل
(١) سورة فصلت، الآية ٤١.
الرشاد، ويبلّغه آخر هذه الأمة كما بلغه صلى الله عليه وسلم لأولها.
فلو جاز أن يجري عليه تحريف أو زيادة أو نقص لما تحقق إنذاره صلى الله عليه وسلم بالقرآن لمن يأتي من بعده، كما أنذر الذين في عصره، في حين أن الآية تخبر بإنذاره صلى الله عليه وسلم لمن في عصره ومن بعده على حد سواء.
رابعا: لو جرى على هذا القرآن الكريم تحريف أو زيادة أو نقص:
لأدّى ذلك إلى ذهاب الثقة به، ولأدّى ذلك إلى عدم الإيمان الجازم بما جاء به، وكيف لا يوثق به ولا يقطع جزما بما جاء به، مع أن الله تعالى بيّن لعباده أن هذا الكتاب الذي هو بجميع آياته موثوق به ومقطوع بحقيقته لا يتطرق الباطل ولا الخلل إلى جانب من جوانبه. قال تعالى لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ فإن فحوى هذه الآية ونصها يناديان العباد ويخبرانهم أن الثقة كل الثقة، واليقين كل اليقين، والحق كل الحق، في هذا الكتاب العزيز الذي لا يجد الباطل والوهم والكذب والافتراء والتلاعب وما شابه ذلك- لا يجد ذلك إلى الكتاب سبيلا أصلا.
فلو جرى عليه تحريف أو زيادة أو نقص لذهبت الثقة واليقين به.
أما ذهاب الثقة بالمزيد فالأمر بيّن. وأما ذهاب الثقة بالمزيد عليه فإن العاقل يقول: لعل في هذا الأصل زيادة أيضا، فما يدرينا أنها كلّها أصل؟! وأما ذهاب الثقة به حالة النقص: فذلك لأن بين الأصل المنقوص عنه والشيء الناقص منه ارتباطا في المعاني والأحكام والأخبار وغير ذلك، ولو جرى عليه النقص لأدى ذلك إلى عدم الثقة بالناقص والمنقوص منه. فلا يكون أحد من المسلمين على ثقة بدينه، لاحتمال نسخ بعض الصلوات أو تغيير أوقاتها أو الزيادة عليها، أو نسخ الزكاة أو مقاديرها، أو نسخ الصيام أو الزيادة فيه أو بتبديله بغيره، أو نسخ الحج، أو تحليل الخمر والميسر ونحوهما من المحرمات، أو تحريم بعض أنواع من الحلال، وبذلك لا يكون أحد من الناس على عبادة إلا وهو على شك منها، ولا يقدم على حلال ولا يحجم عن
حرام إلا وهو متشكّك، فأين الإيمان والجزم بشرع الله تعالى! نعوذ بالله تعالى! إن ذلك يخل بوجوب امتثال الإسلام، الذي كلف الله تعالى به جميع الأنام، في كل الأزمان، وذلك الإخلال ضد نصوص القرآن القطعية التي تطالب الناس بالإسلام في كل عصر وآن. قال تعالى: قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً. وقال تعالى: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً الآية. وقال تعالى: لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ وقال تعالى: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ فلذلك كان أيضا حفظ كتابه النازل عليه صلى الله عليه وسلم ثابت بالأدلة القطعية المفحمة للعقول، كما تقدم.
ومن ذلك أيضا قوله تعالى تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً فقد بيّن سبحانه في هذه الآية أن وظيفة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم عبد الله ورسوله أن ينذر العالمين إلى يوم الدين، دون أن يقتصر على أهل زمانه فحسب. ولا بد لهذا الخبر أن يتحقق وقوعه، لأنه من الله تعالى وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا فكيف كان ذلك؟ هل تحقق أم لا؟.
نعم كان ذلك حقا، كما بيّن الله تعالى في قوله وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أي وأنذر القرآن كل من بلغه هذا القرآن إلى يوم الدين، لأن هذا القرآن باق كما هو، إلى يوم الدين بحفظ رب العالمين [١].
خامسا: إن من المعلوم قطعا أن القرآن الكريم كان في حياة الصحابة والسلف الصالح بمنزلة الروح من الجسد، به آمنوا بالإسلام، وبه جاهدوا، وبه جادلوا وقارعوا أهل الملل، ولأجله عاشوا، وبذلوا أرواحهم رخيصة من أجل القرآن ودعوته، واستحفظوه حوافظهم الفذة، يتلونه آناء الليل وأطراف النهار. فمن المحال أن يحصل في كتاب الله تعالى خلل أو زيادة أو نقص من أي شخص كان مهما عظم شأنه سهوا أو عمدا إلا وينهض القوم بأجمعهم
(١) تلاوة القرآن المجيد ص ١١ وما بعد، وهدي القرآن الكريم إلى الحجة والبرهان ص ٢١٦ وما بعد، كلاهما لفضيلة أستاذنا الشيخ عبد الله سراج الدين حفظه الله.
كبيرهم وصغيرهم، دانيهم وقاصيهم لتقويم العوج وتصحيح النص.
ويحاربون لأجله، ويجاهدون في سبيله، لا سيما وأن إعداد نسخة المصحف التي أريد أن تكون مرجعا للناس، التي أعدت في عهد أبي بكر الصديق رضي الله عنه ثم نسخ
المصاحف عنها في عهد عثمان بن عفان رضي الله عنه كان ذلك كله باطلاع المسلمين كلهم، ومراجعة كل من عنده علم بشيء من كتاب الله تعالى، الأمر الذي يوقن به كل عاقل بأن نص القرآن الموجود هو طبق الوحي الذي نزل على النبي صلى الله عليه وسلم، وكما هو في اللوح المحفوظ، يتعبد به المسلمون ربهم، ويتشرف به القارءون، ويهتدي به العالم [١].
سادسا: على أنه لو كان عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه يعلم أن في القرآن الكريم الذي نشره عثمان في الأمصار إسقاطا، أو تغييرا ما، لما أمكن أن يتجاوزه أبدا، ولما جاز له أن يشتغل وهو خليفة آلت إليه أمور المسلمين لمدة ست سنوات تقريبا يشتغل بمقاتلة من خالفوه في السياسة عن تصحيح القرآن ومقاتلة الذين رضوا بتحريفه وتبديله. فكيف وهو لم يفعل شيئا من
(١) وليست القضية كما زعم بعضهم: «أن المعارضة لا يمكن أن تترك هذه الفرصة تمر، دون أن تستغلها في صراعها مع العهد والخليفة، مع أننا لا نجد إشارة إلى ذلك في كلامهم» انتهى.
وهذا زعم عجيب جدا، ناشئ عن الخطأ العظيم في فهم مجتمع الصحابة الذين نزع الله الغلّ من صدورهم، وكانوا إخوانا متحابين، لا سيما في عصر الراشدين، أو هو قياس غريب على الأوضاع السياسية الحاضرة التي فيها أحزاب حكومة وأحزاب معارضة.
وإلا فإن المعارضة في عهد الشيخين أبي بكر وعمر وكذا في عهد عثمان لا وجود لها إلا في خيال هذا القائل الواهم.
ومما يدل على ما نقول أنه لولا أن الكلمة مجتمعة عند الصحابة كلهم على كتاب الله بأقصى تقديس وغيرة لما كان بوسع المعارضة المزعومة في كلام هذا القائل أن تفعل شيئا. فدلّ كلام هذا القائل نفسه على أن القضية هي قداسة القرآن، والحفاظ عليه، والإجماع على العمل به وبسنّة النبي صلى الله عليه وسلم من الصحابة جميعهم، والأمة كلها في عهد الراشدين ومن بعدهم، وإلا فلا سلطان بل لا وجود لمن خالف ذلك، فلا يمكن أن يطرأ على القرآن تغيير قط.
ذلك، ولا فاه بكلمة حوله، بل كيف وقد كان هو يتلو القرآن وفق المصحف الذي نشره عثمان ويؤم الناس به في الصلوات.
سابعا: لقد ذكر الله تعالى بالمدح والتعظيم- التوراة، ثم ذكر الإنجيل، ثم ذكر هذا القرآن الكريم، وبيّن منزلته من بين الكتب الإلهية، ورفعة رتبته على جميع الكتب، وأنه المهيمن على الكتب السماوية التي نزلت قبله! قال تعالى إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ الآية. ثم قال تعالى ثُمَّ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِرُسُلِنا وَقَفَّيْنا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ الآية. ثم قال تعالى وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ.
فقد أخبر سبحانه عن رتبة هذا الكتاب العزيز بالنسبة لجميع الكتب قبله بأنه مصدق لما جاءت به من عند الله تعالى، وأنه المهيمن على جميع الكتب قبله.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: «المهيمن الأمين. والقرآن أمين على كل كتاب قبله».
وقال أيضا: «المهيمن: الحاكم».
وكلا قوليه هنا صحيح.
فإذا كان أمر القرآن وموقفه من الكتب السابقة أنه هو الأمين عليها، والحاكم على ما فيها فلا يمكن أن يجري عليه تحريف في كلمة، ولا زيادة أو نقص، لأن ذلك يعني أن الله تعالى قد نصب على كتبه السماوية السابقة أمينا غير مضمون وحكما غير مأمون. تعالى الله الحكيم العليم عن ذلك علوا كبيرا.
بل إن في جعل الله تعالى هذا القرآن الكريم أمينا وحكما على الكتب قبله شهادة منه سبحانه بضمانة وأمانة هذا القرآن وحفظه من التلاعب فيه والزيادة والنقص، ولذلك حقّ له أن يكون مهيمنا على الكتب السماوية قبله،
حاكما عليها وشاهدا وأمينا، يحقّ ما فيها من حق، ويبطل ما حرّف منها، أو زيد فيها.
وهكذا نجد الأدلة القطعية اليقينية تشهد بحقية نقل القرآن، ذلك النقل الذي لم يكن لكتاب غيره قط باجتماع التواتر له حفظا في الصدور وتدوينا في السطور. وضمان من الله تعالى بل ضمانات، وتكفل بل كفالات، وأي ضمان أعظم من ضمان الله، وأي كفالة أحفظ من كفالة الله تعالى، كيف وقد أكّد عز وجل وعده القاطع وكفالته الضامنة بمؤكدات على غاية القوة، فقد أكّد ب «إنّ»، ثم أكد بالضمير «نحن»، ثم باللام في لَحافِظُونَ.
ثم زاد هذه المؤكدات قوة بالتعبير بصيغة العظمة التي في الجمع إِنَّا نَحْنُ، وبالجملة الاسمية الدالة على الثبات والدوام، فأفاد ذلك تأكيدا بالغا غاية الغايات، ونهاية النهايات.
وبهذا آمنا بحفظ القرآن الكريم من التبديل والتغيير والزيادة أو النقص، إيماننا بنزوله من عند الله، وإيماننا بمن أنزله وهو الله سبحانه وتعالى، لنقبل عليه تلاوة وتدبرا، وعلما وعملا، ودعوة للخلق إليه، بكل يقين واطمئنان، كما تشير لذلك عبارة الآية الكريمة، لمن تأملها:
إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ.
الفصل التاسع عشر رسم القرآن الكريم
هذا البحث يظهر لنا غاية حفظ الأمة لكتاب ربها، حتى في طريقة كتابته.
والمراد برسم القرآن هنا كيفية كتابة الحروف والكلمات في المصحف على الطريقة التي كتبت عليها في المصاحف التي أمر عثمان اللجنة الرباعية فكتبتها، ووزّعها على الأمصار. ويطلق عليه: رسم المصحف، ومرسوم الخطّ [١].
ويرجع هذا الرسم في الأصل إلى كتابة القرآن بإملاء النبي صلى الله عليه وسلم على كتاب الوحي، فكتبوه حسبما يعرفون وبإشرافه صلى الله عليه وسلم واطلاعه عليه [٢].
ومن هنا فإن جمهور العلماء ذهبوا إلى منع كتابة المصحف بما استحدث الناس من قواعد الاملاء، للمحافظة على نقل المصحف بالكتابة على الرسم نفسه الذي كتبه الصحابة واستمرت عليه الأمة [٣]، وقد صرح الإمام أحمد فيه
(١) الإتقان ج ٢ ص ١٦٦.
(٢) وليس منشأ الرسم هو تأثر المسلمين العاطفي بإجلال الخليفة الشهيد عثمان بن عفان كما تصوره بعض الكاتبين متأثرا بآراء استشراقية.
(٣) مناهل العرفان ج ١ ص ٣٧٠.
بالتحريم فقال: «تحرم مخالفة خط مصحف عثمان في ياء أو واو أو ألف أو غير ذلك» [١].
وسئل الإمام مالك: هل تكتب المصحف على ما أخذته الناس من الهجاء؟ فقال: لا، إلا على الكتبة الأولى.
قال الإمام أبو عمرو الداني: «ولا مخالف له من علماء الأمة» [٢].
وهكذا اتخذت الأمة الإسلامية الرسم العثماني سنّة متبعة إلى عصرنا هذا، كما قال البيهقي في شعب الإيمان: «واتباع حروف المصاحف عندنا كالسنن القائمة التي لا يجوز لأحد أن يتعداها» [٣].
وكان ذلك للمبالغة في المحافظة والاحتياط على نص القرآن حتى في مسألة شكلية هي كيفية رسمه.
لكن العلماء استثنوا من ذلك نقط المصاحف وتشكيلها، لتمييز الحروف، والحركات فأجازوا ذلك بعد اختلاف في الصدر الأول عليه، وذلك لما اضطروا إلى ذلك لتلافي الاخطاء التي شاعت بسبب اختلاط العرب بالعجم.
وكان أول ما فعلوه من ذلك ضبط حركات الحروف، وقد رمزوا لذلك في بادئ الأمر بنقط على كيفية معينة، ثم تلا ذلك تمييز الحروف المعجمة عن غيرها.
وقد اختلفوا في أول من نقّط المصاحف، فقال المبرد: «أول من نقّط المصاحف أبو الأسود الدؤلي صاحب علي بن أبي طالب، وذكروا أن ابن سيرين التابعي كان له مصحف نقّطه له يحيى بن يعمر، وذكر الجاحظ في
(١) المقنع لأبي عمرو الداني ص ٣٠ وانظر البرهان ج ١ ص ٣٧٩.
(٢) المقنع ص ١٠ والبرهان الموضع السابق.
(٣) البرهان ج ١ ص ٣٨٠.
كتاب الأمصار أن نصر بن عاصم أول من نقّط المصاحف وكان يقال له: نصر الحروف [١].
وهكذا حافظت الأمة على صورة الحروف والكتابة وفق الرسم العثماني، إنما أضافت له النقط والشكل، لما أن ذلك دلالة على هيئة المقروء فلا يضر إثباتها لمن يحتاج إليها.
وإذا ما نظرنا لمتطلبات العصر وللحاجة إلى تسهيل قراءة القرآن وتعلمه على الناس فبوسعنا أن نقول: إنه يجوز كتابة القرآن بالرسم المعتاد لنا في مجالس التعليم، لتسهيل التعلم ولكي يتم نقل المتعلم إلى الرسم الأصلي بسهولة، نتيجة تدربه على أسلوب القرآن الكريم، على ما يستفاد من رأي الشيخ عز الدين بن عبد السلام رحمه الله، الذي توسّع في هذه المسألة ولم يلزم العامي بالرسم العثماني قائلا: «لئلا يوقع في تغيير الجهّال، ولكن لا ينبغي إجراء هذا على إطلاقه، لئلا يؤدي إلى دروس العلم، وشيء أحكمته القدماء لا يترك مراعاته لجهل الجاهلين، ولن تخلو الأرض من قائم لله بالحجة» [٢].
أحكام تختص بالمصحف
لما كان المصحف يضم بين دفتيه كلام الله تبارك وتعالى، فقد اختص بأحكام شرعية ليست لغيره من الكتب مهما جلّت أو عظمت أهميتها، وقد عني العلماء بتفصيل تلك الأحكام، وتفريعها، نذكر مهمات منها فيما يلي:
١ - كره كثير من العلماء بيع المصاحف وشراءها، لما أخرج ابن أبي داود عن عبد الله بن شقيق قال: «كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يشددون في بيع المصاحف».
والمختار عند بعض الأئمة ومنهم الشافعية كراهية البيع دون الشراء، والثمن يتوجه إلى الورق أو أجرة الكتابة، أو يتوجه لهما معا.
(١) البرهان ج ١ ص ٢٥٠ - ٢٥١.
(٢) البرهان ج ١ ص ٣٧٩.
ولعل هذا بالنسبة لمن عنده مصحف في بيته فلا يبيعه، أما أصحاب المكتبات فلا يمكن تطبيق ذلك عليهم، لما فيه من تعطيل مصالح المسلمين، غير أنه لا يسمى بيعا بل هبة، ولا يقال اشترى بل استوهب، تأدبا واحتراما.
٢ - يستحبّ تقبيل المصحف وتطييبه، وجعله على كرسي، ويحرم توسده، لأن فيه امتهانا، وكذا مد الرجلين إليه.
٣ - يستحب الاستياك لقراءة القرآن.
٤ - إذا احتيج إلى تعطيل أوراق فيها قرآن لبلاء أو نحوه فلذلك طرق:
غسلها بالماء إن أمكن أو إحراقها بالنار، واختار الحنفية أن يحفر له في الأرض ويدفن في موضع بعيد عن أن تطأه الأقدام.
٥ - اتفق جماهير العلماء ومنهم الأئمة الأربعة على تحريم مسّ المصحف للمحدث حدثا أصغر أو أكبر، لقوله تعالى: لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ، ولما ثبت في الحديث: «أن لا يمسّ القرآن إلا طاهر» [١].
(١) انظر هذه الأحكام وغيرها في البرهان ج ١ ص ٤٥٩ و ٤٧٧ - ٤٨٠ والإتقان ج ٢ ص ١٧٢ - ١٧٣، وانظر تفصيل مسألة مس المصحف في كتابنا هدي النبي صلى الله عليه وسلم في الطهارة والصلاة.
الفصل العشرون إعجاز القرآن الكريم
المعجزة في اصطلاح علماء التوحيد هي
«أمر خارق للعادة مقرون بالتحدي مع عدم المعارضة».
ويطلق على المعجزات دلائل النبوة وأعلام النبوة، ونحو ذلك، وهذه الألفاظ إذا سميت بها آيات الأنبياء كانت أدل على المقصود من لفظ المعجزات، ولهذا لم يكن لفظ المعجزات موجودا في الكتاب ولا في السنّة، وإنما فيه لفظ الآية، والبينة، والبرهان» [١].
الفرق بين المعجزة والكرامة والسحر
قد يكرم الله تعالى بعض أوليائه من المتقين الأبرار بأمر خارق يجريه له، ويسمى ذلك «الكرامة».
وثمة فرق شاسع بين المعجزة والكرامة، لأن الكرامة لا يدّعي صاحبها النبوة، بل لا يتحدى بها الناس، وإنما تظهر على يده لصدقه في اتباع النبي، لذلك قرر كثير من المحققين كالإمام أحمد بن حنبل وغيره أن الكرامات التي تقع للأولياء هي من جملة معجزات الأنبياء، وهذا حق وصواب، لأن هؤلاء الأبرار ما كانت تقع لهم هذه الخوارق لولا اعتصامهم بالاتباع الحق للنبي صلى الله عليه وسلم، وقيامهم بدعوته، فكانت الكرامة لهم معجزة للنبي
(١) لوائح الأنوار البهية للسفاريني ج ٢ ص ٢٧٨ نقلا عن الجواب الصحيح لابن تيمية، لكن يجب التنبه إلى التمييز بين المعجزة والآية أو البرهان والبينة في اصطلاح علماء التوحيد.
صلى الله عليه وسلم، ومن ثم تقررت هذه القاعدة: «كل كرامة لولي معجزة لنبيه».
وهذا يبين لنا أن شرط الكرامة للولي صدق الاتباع للنبي صلى الله عليه وسلم لكن ليس من شرطه العصمة، فإن الولي قد يقع في المعصية، أما الأنبياء فقد عصمهم الله تعالى.
وأما السحر فهو أبعد شيء عن المعجزة أو الكرامة، وإن كان قد يقع فيه غرابة وعجائب، لكنه يفترق عن المعجزة والكرامة من أوجه كثيرة تظهر في شخص الساحر وفي عمل السحر:
فمما يفترق به الساحر عن الولي ركوب متن الفسق والعصيان، والطاعة للشيطان، والتقرب إلى الشياطين بالكفر والجنابة والمعاصي، حتى ترى الساحر أكذب الناس وأشدهم شرا.
وأما عمل السحر فقد يكون مستغربا طريفا، لكنه لا يخرج عن طاقة الإنس والجن أو الحيوان، كالطيران في الهواء مثلا، بل هو أمر مقدور عليه لأنه يترتب على أسباب إذا عرفها أحد وتعاطاها صنع مثلها أو أقوى منها، لذلك ما إن يواجه السحر بالحقيقة حتى يذهب سدى، وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى، ومن هنا خضع السحرة لموسى عليه السلام، لأنهم وهم أعرف الناس بالسحر، كانوا أكثر الناس يقينا بحقية معجزته، وصدق نبوته فما وسعهم أمام جلال المعجزة الإلهية إلا أن خروا سجدا وقالوا: آمنا برب هارون وموسى.
تنوع المعجزة وحكمته: وتنقسم المعجزات إلى قسمين:
القسم الأول: المعجزات الحسية:
مثل معجزة الإسراء والمعراج، وانشقاق القمر، ونبع الماء من بين أصابع النبي صلى الله عليه وسلم حتى روى المئين، وتكثير الطعام القليل، وقلب الحصى حية، وإحياء
الموتى ...
القسم الثاني: المعجزات العقلية:
مثل الأخبار عن المغيبات، والقرآن الكريم، واستجابة الدعاء.
وقد جرت سنّة الله تعالى كما قضت حكمته أن يجعل معجزة كل نبي مشاكلة لما يتقن قومه ويتفوقون فيه. ولما كان العرب قوم بيان ولسن، يقادون بمقولهم كانت معجزة النبي صلى الله عليه وسلم الكبرى هي القرآن الكريم.
مصدر علمنا بإعجاز القرآن
وقد أعلن إعجاز القرآن على العالم من أعظم مصدر ثابت وهو القرآن نفسه، حيث نادى على رءوس الأشهاد وفي كل جيل وقبيل يتحدى الناس بل العالم أن يأتوا بمثله، قال تعالى: أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لا يُؤْمِنُونَ، فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كانُوا صادِقِينَ [١].
فقد كبّلهم بالعجز عن هذا التحدي فلم يفعلوا ما تحداهم، فجاءهم بتخفيف التحدي فتحداهم بعشر سور فحسب في هذه الآية:
أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ، فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [٢].
ثم أرخى لهم حبل التحدي، ووسّع لهم غاية التوسعة فتحدّاهم بسورة واحدة أيّ سورة ولو من قصار السور، قال تعالى: أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [٣].
وقد مكث رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة ثلاثة عشر عاما والمسلمون قليل مستضعفون، وكان الوحي يتتابع وهو يتحداهم، ويفضح عجزهم الذي استبان وظهر لكل من له عين تبصر، وأذن تسمع، وعقل يعي،
(١) سورة الطور، الآيتان ٣٣ و ٣٤.
(٢) سور هود، الآيتان ١٣ و ١٤.
(٣) سورة يونس، الآية ٣٨.
وقد قطع الله عليهم بل على الثقلين كلهم منافذ اللدود لهذا الإعلان الحاسم قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ، وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً [١].
وقد أمعن القرآن في هذا التحدي وأكده في سورة البقرة المدنية، فتحداهم ثانية بسورة منه، وأكد عجزهم عن ذلك بالإعلان على العالم أنهم لن يستطيعوا ذلك، ولن يفعلوه أبدا:
وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ. فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ [٢].
القدر المعجز من القرآن
وهكذا نجد القرآن تحدى العرب أن يأتوا بمثل سورة واحدة من القرآن، ولو كانت من قصار سوره، وإذا كانت أقصر سورة فيه هي سورة الكوثر تتألف من ثلاث آيات قصار علمنا أن كل آية طويلة معجزة، وكل عدة آيات قصار تبلغ سورة الكوثر أو أكثر من ذلك فهي معجزة كذلك.
وإذا علمت أن عدد آيات القرآن يزيد على ستة آلاف آية علمت كم عدد المعجزات في القرآن الكريم، فضلا عن النظر فيما يحمله من أوجه الإعجاز المتعددة، فتكون معجزاته بذلك كثيرة متنوعة يضيق عنها الحصر والتعداد.
خصائص إعجاز القرآن
إن من المقرر المعلوم أن القرآن الكريم هو المعجزة الكبرى بين سائر المعجزات، لما اختص به في إعجازه من خصائص ليست لمعجزة سواه.
١ - اختص القرآن: «مع كونه معجزا أنه معجز لجميع المكلفين، فوجب في الحكمة أن يكون أمرا يبقى ببقاء التكليف، ولذلك تكفل الله تعالى
(١) سورة الإسراء، الآية ٨٨.
(٢) سورة البقرة، الآيتان ٢٣ و ٢٤.
بحفظه وحراسته، وخصّه بأن أودعه من علم الأولين والآخرين ومن دلالة الحرام والحلال ما يدعو إلى تحفظه والتوفر على تأمله ... » [١].
٢ - اختص بالقرآن بكونه معجزة بذاته بخصوصية ثانية انفرد بها عن جميع المعجزات بل عن جميع البراهين والبينات، قال ابن خلدون:
«فإن الخوارق في الغالب تقع مغايرة للوحي الذي يتلقاه النبي ويأتي بالمعجزة شاهدة بصدقه، والقرآن هو بنفسه الوحي المدعى، وهو الخارق المعجز، فشاهده في عينه، ولا يفتقر إلى دليل مغاير له كسائر المعجزات مع الوحي، فهو أوضح دلالة لاتحاد الدليل والمدلول فيه، وهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم «ما من نبيّ من الأنبياء إلا قد أعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيت وحيا أوحى الله إليّ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة» [٢]. يشير إلى أن المعجزة متى كانت بهذه المثابة في الوضوح وقوة الدلالة وهي كونها نفس الوحي، كان المصدق لها أكثر لوضوحها، فكثر المصدق والمؤمن وهو التابع والأمة» [٣].
٣ - ثمة خصوصية أخرى بالغة الأهمية هي أن الإعجاز في الخوارق الحسية أنها أمور مخالفة للمعتاد من سنن الكون، وقواعد الطبيعة، فتأتي المعجزة الحسية ويدركها الناس بتلك المخالفة لقوانين الطبيعة فيعلمون إعجازها وصدق النبي الذي ظهرت على يديه [٤].
(١) المغني للقاضي عبد الجبار ج ١٦ ص ٣٤٤.
(٢) البخاري ج ٩ ص ٩٣ ومسلم ج ١ ص ٩٢ - ٩٣.
(٣) مقدمة ابن خلدون ص ١٠٦ - ١٠٧ مطبعة التقدم بمصر سنة ١٣٢٩.
(٤) ننبه هنا إلى أنها ليست مخالفة للعقل، ولا هي مستحيلة في النظر العقلي المجرد، أي أن تتابع الأحداث في الطبيعة وإنتاج الأسباب للمسببات ليس واجبا عقليا مثل كون الواحد والواحد يساوي اثنين، لكن العادة جرت على ذلك بحكمة الله تعالى وتدبيره، وقد يتحقق السبب ولا يتحقق المسبب لمانع، أو لتدخل قانون طبيعي أعلى من الأول، وهكذا يجري الله المعجزات وفق سنن إلهية خاصة غير معروفة للبشر، ولا داخلة في تعلمهم، وهو خالق العالم ومدبره، وذلك لتحقيق حكمته وإرادته في تأييد رسله وأنبيائه.
أما إعجاز القرآن فإنه لم يكن بواسطة مخالفة السنن الكونية، وصرف الإنسان عنها، بل إن معجزة هذا القرآن يدركها الإنسان بمقدار إعمال عقله وفهمه، بل إنه كلما ازداد معرفة بسنن الكون والطبيعة ازداد يقينا بإعجاز هذا القرآن.
ولذلك واجه القرآن عناد المشركين وتطلبهم للمعجزات بخصوصية القرآن الكبرى التي تجعله يكفي عن كل معجزة، فقال عز وجل:
وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ. أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [١].
شهادة العالم بإعجاز القرآن
شهادة العرب بأحوالهم وأفعالهم
بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم والعرب أكثر ما كانت شاعرا وخطيبا،- كما ذكر الجاحظ- وأحكم ما كانت لغة، وأشد ما كانت في البيان عدة، لهم القصيد العجيب، والرّجز الفاخر، والخطب الطوال البليغة، والقصار الموجزة، ولهم الأسجاع والمزدوج واللفظ المنثور، إذا تأملت بالذوق الصحيح والملكة الفنية المذواق تبينت من خلال أدبهم ما بلغوه في هذا المضمار.
فلما أمر الله نبيه أن يبلغ دعوته للناس راح يتتبع أفراد عشيرته وقومه، يقرأ عليهم ما نزل عليه من القرآن، ولم يكن برهانه ولا ما أمر به أن يلزمهم حجة وبرهانا، أنما هو إله واحد وأن محمدا نبي لله إلا دليلا واحدا هو هذا الذي يتلوه عليهم من قرآن يقرؤه.
(١) سورة العنكبوت، الآيتان ٥٠ - ٥١.
قال الإمام الباقلاني: «فلو كان هذا القرآن من ذلك القبيل- الشعر- أو من الجنس الذي ألفوه لم تزل أطماعهم عنه، ولم يدهشوا عند وروده عليهم، فكيف وقد أمهلهم، وفسح لهم الوقت، وكان يدعوهم إليه سنين كثيرة، وقال عزّ من قائل: أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ.
وبظهور العجز عنه بعد طول التقريع والتحدي بان أنه خارج عن عاداتهم وأنهم لا يقدرون عليه .. » [١].
بل إن العرب قد تحملوا في مواجهة التحدي بالقرآن وركوبهم متن العناد والتصميم على الشرك وعبادة الأوثان الأهوال والأخطار، فلو كان ذلك بوسعهم، وتحت مقدورهم لما عدلوا عن السهل المتناول من القول يخملون به حجته، ويصرفون الناس عن دعوته، إلى ركوب متن كل صعب وذلول، وتكلف الوعر المضني من الفعل بخوض غمار الحروب.
شهادة بلغاء العرب بإعجاز القرآن بأقوالهم
صدرت عن سادة العرب الفصحاء البلغاء اعترافات صريحة بإعجاز القرآن، أملتها عليهم سجيتهم العربية، وطبيعتهم الفنية التي لا يمكن معها جور ولا محاباة، وإن كانوا مخالفين لرسول الله صلى الله عليه وسلم معاندين دعوته إلى الإيمان، وقد أوردت لنا المصادر وقائع كثيرة يطول بسطها واستقصاؤها هنا [٢].
من ذلك ما روى الإمام محمد بن إسحاق في كتاب السيرة أن عتبة بن ربيعة وكان سيدا قال يوما وهو جالس في نادي قريش ورسول الله صلى الله عليه وسلم في
المسجد وحده: يا معشر قريش ألا أقوم إلى محمد فأكلمه وأعرض عليه أمورا لعله يقبل بعضها فنعطيه أيها شاء ويكف عنا؟ وذلك حين أسلم حمزة رضي الله عنه ورأوا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد اشتد
(١) إعجاز القرآن ص ٢٨٩.
(٢) انظر للاستزادة إن شئت كتاب «المعجزة الخالدة» فقد توسع وأفاض.
ساعدهم، فقال: يا ابن أخي، إنك منا حيث علمت من السّطة [١] في العشيرة والمكان في النسب، وإنك قد أتيت قومك بأمر عظيم، فرّقت به جماعتهم وسفّهت به أحلامهم، وعبت آلهتهم ودينهم وكفّرت به من مضى من آبائهم، فاسمع مني أعرض عليك أمورا تنظر فيها لعلك تقبل منها بعضها؟
قال فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قل يا أبا الوليد أسمع».
قال: يا ابن أخي إن كنت إنما تريد بما جئت به من هذا الأمر مالا جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا، وإن كنت تريد به شرفا سوّدناك علينا، وإن كان هذا الذي يأتيك رئيّا تراه لا تستطيع رده عن نفسك طلبنا لك الأطباء وبذلنا فيه أموالنا حتى نبرئك منه، فإنه ربما غلب التابع [٢] على الرجل حتى يداوى منه، أو كما قال له، حتى إذا فرغ عتبة ورسول الله صلى الله عليه وسلم يستمع منه قال: «أفرغت يا أبا الوليد» قال: نعم. قال: فاستمع مني، قال:
أفعل. قال: بسم الله الرحمن الرحيم، حم، تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ، كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ، بَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ [٣]. ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها وهو يقرؤها عليه فلما سمع عتبة أنصت وألقى يديه خلف ظهره معتمدا عليهما يستمع منه حتى انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السجدة منها فسجد، ثم قال:
«قد سمعت يا أبا الوليد ما سمعت فأنت وذاك».
فقام عتبة إلى أصحابه، فقال بعضهم لبعض: «نحلف بالله لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به، فلما جلس إليهم قالوا: ما وراءك يا أبا الوليد؟ قال: ورائي أني سمعت قولا والله ما سمعت مثله قط، والله ما هو بالسحر ولا بالشعر ولا بالكهانة، يا معشر قريش أطيعوني واجعلوها لي، خلّوا بين الرجل وبين ما هو فيه فاعتزلوه، فو الله ليكوننّ لقوله الذي سمعت نبأ، فإن
(١) أي الفضل.
(٢) أي الجني بزعمه الفاسد.
(٣) سورة فصلت، الآيات ١ - ٤.
تصبه العرب فقد كفيتموه بغيركم، وإنّ يظهر على العرب فملكه ملككم وعزه عزّكم وكنتم أسعد به. فقالوا: سحرك والله يا أبا الوليد بلسانه. قال: هذا رأيي فيه فاصنعوا ما بدا لكم» [١].
ولقد تحيرت العرب في شأن هذا القرآن لأنه نزل بلسانهم، لسان عربي مبين، ثم هم يجدونه مباينا لكلامهم، فحاروا ماذا يقولون فيه من طغيان اللدد والخصومة.
وإنه لخبر مشهور، خبر تحير الملأ من قريش، حينما ائتمرت حين حضر موسم الحج، لكي يتفقوا على قول واحد يقولونه للناس، وقد رأوا شتات كلامهم السابق المختلف، وأداروا الرأي فيما يقولون في هذا القرآن وفي النبي الكريم الذي سوف يتلو هذا القرآن على الناس في الموسم؟.
فطرحوا فكرة القول بأنه شاعر، وأنه كاهن، أو أنه مجنون أو ساحر، وصاحب المشورة فيهم الوليد بن المغيرة يرد كل ذلك عليهم بالحجة والبرهان، ثم قال: والله إن لقوله لحلاوة، وإن أصله لغدق، وإن فرعه لجناة، وما أنتم بقائلين من هذا شيئا إلا عرف أنه باطل، وإن أقرب القول فيه لأن تقولوا: «ساحر جاء بقول يفرق بين المرء وأبيه، وبين المرء وأخيه، وبين المرء وزوجته، وبين المرء وعشيرته».
فهذا التحير المظلم الذي غشاهم وأخذ منهم بالكظم، والذي نعته الوليد فأجاد النعت، كان تحيرا لما يسمعون من نظمه، وإعظاما ودهشة لما يحسون من إعجاز بيانه.
ولهذا فإنهم كانوا يخافون أن يفلت الزمام من أحدهم فيدخل في الإسلام لتأثره بعظمة القرآن، حتى قالوا لبعضهم كما سجل القرآن ذلك عليهم:
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ.
فكانوا إذا تلا النبي القرآن عليهم صخبوا وصفقوا كيلا يتمكن الناس من
(١) تفسير ابن كثير ج ٤ ص ٩٠ - ٩١.
سماع القرآن بهذا الضجيج، فكانت طريقة في الغلبة طريفة ...
بلغاء كبار سمعوا القرآن فآمنوا
وهذا أعظم الشهادات بإعجاز القرآن، إن سادة العرب في البيان ألقوا زمام قيادتهم وأسلموا لهذا القرآن وللنبي صلى الله عليه وسلم «مثل لبيد بن ربيعة العامري في حسن إسلامه وكعب بن زهير في صدق إيمانه، وحسان بن ثابت، وغيرهم: من الشعراء والخطباء الذين أسلموا.
على أن الصدر الأول ما فيهم إلا نجم زاهر، أو بحر زاخر» [١].
وما قصة إسلام عمر بخافية عنا، وما أسلم إلا بتلاوته للقرآن الكريم من سورة «طه» كما هو معلوم.
وروى مسلم في صحيحه عن أبي ذر رضي الله عنه حديثا طويلا عن إسلامه، وفيه: أن أنيسا أخا أبي ذر ذهب إلى مكة ثم عاد فقال لأبي ذر:
«لقيت رجلا بمكة على دينك يزعم أن الله أرسله. قلت فما يقول الناس؟
قال: يقولون شاعر، كاهن، ساحر. وكان أنيس أحد الشعراء. قال أنيس لقد سمعت قول الكهنة فما هو بقولهم. ولقد وضعت قوله على أقراء الشعر فما يلتئم على لسان أحد بعدي أنه شعر. والله إنه لصادق وإنهم لكاذبون» [٢].
ونسوق لك تصريح جبير بن مطعم بأن سبب تحول قلبه إلى الإسلام، أنه أصغى إلى تلاوة الرسول سورة الطور في صلاة المغرب. فقد روى البخاري في صحيحه عن محمد بن جبير عن أبيه قال:
(١) انظر إعجاز القرآن- للباقلاني- ص ٣٠٤ - ٣٠٥.
(٢) صحيح مسلم- فضائل الصحابة- باب فضائل أبي ذر رضي الله عنه ج ٤ ص ١٩٢٠ - طبع عيسى البابي الحلبي بمصر، أما قوله (على دينك) أي مثلك يعبد الله والمراد بقوله: (أقراء الشّعر) طرقه وبحوره، وبقوله (فما يلتئم .. أنه شعر) لا يوافق نسق الشعر.
«سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب بالطور، وذلك أول ما وقر الإيمان في قلبي» [١].
شهادة بلغاء من النصارى بإعجاز القرآن
قال الأستاذ الشيخ محمد رشيد رضا في تقديمه كتاب إعجاز القرآن للرافعي:
«فإن من أوتي حظا من بيان هذه اللغة وفاز بسهم رابح من آدابها حتى استحكمت له ملكة الذوق فيها، لا يملك أن يدفع عن نفسه عقيدة إعجاز القرآن ببلاغته وفصاحته، وبأسلوبه في نظم عبارته. وقد صرّح بهذا من أدباء النصرانية المتأخرين الأستاذ جبر ضومط مدرس علوم البلاغة بالجامعة الأمريكانية في كتاب (الخواطر الحسان) ».
قال الرافعي يعلق على هذا:
«وصرح لنا بذلك «بإعجاز القرآن» أديب هذه الملة وبليغها الشيخ إبراهيم اليازجي الشهير، وهو أبلغ كاتب، أخرجته المسيحية، وقد أشار إلى رأيه ذلك في مقدمة كتابه (نجعة الرائد) ، وكذلك سألنا شاعر التاريخ المسيحي الأستاذ خليل مطران، ولا نعرف من شعراء القوم من يجاريه فأقرّ لنا بمثل ما أقرّ به أستاذه اليازجي، والأمر بعد إلى العقل «المنصف»، والعقل «المنصف» ليس له دين إلا الحق. والحق واحد لا يتغير» [٢].
كذلك الأديب الشاعر المعاصر نقولا حنا قد تلا القرآن، فجذبه إليه وشغل قلبه وفؤاده، وزاده إيمانا بالله على إيمانه، وقذف في أعماق فكره وضميره يقينا راسخا بأن القرآن هو كتاب الله المعجز العزيز وأنه يسمو على سائر معجزات الأنبياء، فهو معجزة إلهية خالدة تبرهن بنفسها على نفسها. وأعلن ذلك في قصيدة من روائع الشعر، عنون لها بهذا العنوان «من وحي القرآن» وقال في مقدمة هذه القصيدة:
(١) كتاب المغازي والسير- قبيل باب تسمية من سمي أهل بدر.
(٢) عن «وحي القلم» - بتصرف يسير ص ١٥ - ١٦.
«قرأت القرآن فأذهلني، وتعمقت به ففتنني، ثم أعدت القراءة فآمنت ... آمنت بالقرآن الإلهي العظيم، وبالرسول من حمله، النبي العربي الكريم، أما الله فمن نصرانيتي ورثت إيماني به، وبالفرقان عظم هذا الإيمان ...
«وكيف لا أومن ومعجزة القرآن بين يديّ أنظرها وأحسها كل حين ..
هي معجزة لا كبقية المعجزات .. معجزة إلهية خالدة تدل بنفسها عن نفسها، وليست بحاجة لمن يحدّث عنها أو يبشر بها.
وكان يقول: «وكم احتاجت وتحتاج الأديان السابقة إلى علماء ومبشرين وشواهد وحجج وبراهين لحضّ الخلق على اعتناقها، إذ ليس لديها ما هو منظور محسوس يثبّت أصولها في القلوب. أما الإسلام فقد غني عن كل ذلك بالقرآن، فهو أعلم معلم وأهدى مبشر، وهو أصدق شاهدا وأبلغ حجة وأدمغ برهانا ... هو المعجزة الخالدة خلود الواحد الأزلي، المنظورة المحسوسة في كل زمان ... ومن إيماني العميق هذا استلهمت أبيات قصيدتي هذه» [١].
وذكر في قصيدته ثبوت نبوة محمد صلى الله عليه وسلم بمعجزات كثيرة أجلّها القرآن، وكان مما قال فيها:
يقولون ما آياته، ضلّ سعيهم ... وآياته- ليست تعدّ- عظام [٢]
كفى معجز الفرقان للناس آية ... علا وسما كالنجم ليس يرام
فكل بليغ عنده ظل صامتا ... كأن على الأفواه صرّ كمام [٣]
وشاء إله العرش بالناس رحمة ... وأن يتلاشى حقدهم وخصام
ففرّق ما بين الضلالة والهدى ... بفرقان نور لم يشبه قتام
(١) من وحي القرآن- نقولا حنا ص ١.
(٢) «ليست تعد» جملة معترضة بين المبتدأ «آياته» والخبر «عظام»، والمراد أن آيات النبي عظام أي معجزاته عظيمة جدا وكثيرة لا يحيط بها العد والإحصاء.
(٣) الصرّ: الشد أو الربط. الكمام: ما يكم به فم البعير لئلا يأكل أو يعضّ.
منشأ إعجاز القرآن
رأي الإعجاز بالصّرفة:
على الرغم من إجماع العلماء على إعجاز القرآن، وأن إعجازه وصف ثابت له، فقد شذّ بعض المتكلمين وهو أبو إسحاق النظّام من المعتزلة، ونحى في هذه المسألة منحى انفرد به دون أهل العلم قاطبة، وعرف رأيه بينهم ب «الصّرفة».
وقد فسر النظام إعجاز القرآن بهذا وقال يشرح رأيه: «إن الله ما أنزل القرآن ليكون حجة على النبوة، بل هو كسائر الكتب المنزلة لبيان الأحكام من الحلال والحرام، والعرب إنما لم يعارضوه لأن الله تعالى صرفهم عن ذلك، وسلب علومهم به».
وقد جرّ النظّام لهذا القول بعده عن معاناة أساليب البيان وانشغاله بالأساليب الفلسفية، مما أدى إلى وقوعه في هذا الخلط في تفسير إعجاز القرآن.
وجدير بالذكر أن هذا القول لا يدخل فيه عنصر الطعن في القرآن، ولا كان في قصد صاحبه ما يحوم حول ذلك، لأنه يعترف ويشهد بأنه من عند الله تعالى، إلا أنه شذّ في تفسير إعجاز القرآن، وحسب القارئ هنا أن أحدا من علماء البيان لم يوافقه على ذلك، حتى المعتزلة أنفسهم ومنهم تلميذه الجاحظ، الذي عني برد هذا الرأي وجلاء إعجاز نظم القرآن حتى كان- أي الجاحظ- أول من يبلغنا عنه هذا التعبير «نظم القرآن».
والحقيقة أن هذا الرأي من الضعف بحيث يغني شرحه عن تكلف الردّ عليه، ولولا ترداده على ألسنة بعض المتحذلقين في هذا العصر لما عرضنا له بشيء لمصادمته بدهيات الدلالة من القرآن والإجماع والعقل والواقع، كما أوضحه العلماء.
قال الإمام الزركشي في البرهان [١]:
١ - «وهو قول فاسد، بدليل قوله تعالى: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً فإنه يدل على عجزهم مع بقاء قدرتهم. ولو سلبوا القدرة لم يبق فائدة لاجتماعهم، لمنزلته منزلة اجتماع الموتى وليس عجز الموتى بكبير يحتفل بذكره.
٢ - هذا مع أن الإجماع منعقد على إضافة- أي نسبة- الإعجاز إلى القرآن، فكيف يكون معجزا غيره وليس فيه صفة إعجاز بل المعجز هو الله تعالى حيث سلبهم قدرتهم عن الإتيان بمثله ...
٣ - «ومما يبطل القول بالصّرفة أنه لو كانت المعارضة ممكنة وإنما منع منها الصّرفة لم يكن الكلام معجزا وإنما يكون المنع معجزا فلا يتضمن الكلام فضلا على غيره في نفسه». يعني وأن فضيلة القرآن ظاهرة، ومزاياه معجزة باهرة، مما يدل على بطلان تفسير إعجاز القرآن بالصرفة، ويثبت الإعجاز الذاتي للقرآن العظيم.
ونتكلم عن أوجه إعجاز القرآن فيما يلي:
أوجه إعجاز القرآن الكريم
كثرت الدراسات واستفاضت البحوث في تبيان أوجه الإعجاز الذاتي للقرآن فما من عصر إلا قدمت فيه مجموعة من الدراسات والآراء تحاول كشف أوجه إعجاز القرآن مما قدم للدراسات القرآنية واللغوية البيانية كنوزا لا تفنى ذخائرها ولا تبيد.
والجدير بالذكر هاهنا أن تعدد الآراء في بيان أوجه إعجاز القرآن وتنوع الوجهات في دراستها ليس تنوع اختلاف وتعارض، إنما هو تنوع ناشئ من غزارة فنون هذه المعجزة وعظمتها، مما يجعل أي فكر أو أي عصر من
(١) ج ٢ ص ٩٣. باختصار وتصرف يسير.
العصور عاجزا عن استنفاد أوجه إعجاز القرآن والإحاطة بها خبرا، وإنما يبلغ من ذلك مقدارا يتناسب مع ما يمكن أن يحققه هذا الإنسان العاجز المحدود، وهو يحاول
فك أسرار الإعجاز، الذي تجاوز الطاقة والحدود.
عرض الإعجاز عند المتقدمين
وسوف نكتفي بنموذج من بيان الأسلاف لأوجه إعجاز القرآن يساعد على استجماع الأفكار وتلخيص عصارة زبدة دراساتهم، ويمهد لتحليل جديد لهذه الأوجه.
وهذا النموذج للإمام المفسّر الكبير أبي عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي المتوفى سنة ٦٧١ هـ في مطالع كتابه العظيم في التفسير «الجامع لأحكام القرآن». قال القرطبي رحمه الله تعالى [١].
ووجه إعجاز القرآن الكريم عشرة
١ - منها: النظم البديع المخالف لكل نظم معهود في لسان العرب وفي غيرها، لأن نظمه ليس من نظم الشعر في شيء، وفي صحيح مسلم أن أنيسا أخا أبي ذرّ قال لأبي ذر: لقيت رجلا في مكة على دينك يزعم أن الله أرسله، قلت:
فما يقول الناس؟ قال يقولون: شاعر، كاهن، ساحر، وكان أنيس أحد الشعراء، قال أنيس: لقد سمعت قول الكهنة، فما هو بقولهم، ولقد وضعت قوله على أقراء الشعر فلم يلتئم على لسان أحد بعدي أنه شعر، والله إنه لصادق وإنهم لكاذبون.
وكذلك أقر عتبة بن ربيعة أنه ليس بسحر ولا شعر لما قرأ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم: حم فصلت، فإذا اعترف عتبة بن ربيعة على موضعه من اللسان وموضعه من الفصاحة والبلاغة، بأنه ما سمع مثل القرآن قط كان في هذا القول مقرا بإعجاز القرآن له ولضربائه من المتحققين بالفصاحة والقدرة على التكلم بجميع أجناس القول وأنواعه.
٢ - ومنها: الأسلوب المخالف لجميع أساليب العرب.
(١) الجامع لأحكام القرآن ج ١ ص ٧٣ - ٧٥.
٣ - ومنها: الجزالة التي لا تصح من مخلوق بحال، وتأمل ذلك في سورة: ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ إلى آخرها، وقوله سبحانه: وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ إلى آخر السورة [الزمر: ٦٧ - ٧٥] ، وكذلك قوله سبحانه:
وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إلى آخر السورة [إبراهيم: ٤٣ - ٥٢] .
قال ابن الحصار: فمن علم أن الله سبحانه وتعالى هو الحق، علم أن مثل هذه الجزالة لا تصح في خطاب غيره، ولا يصح من أعظم ملوك الدنيا أن يقول:
لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ، ولا أن يقول: وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ.
قال ابن الحصار: وهذه الثلاثة من النظم، والأسلوب، والجزالة، لازمة كلّ سورة، بل هي لازمة كلّ آية، وبمجموع هذه الثلاثة يتميز مسموع كل آية وكل سورة عن سائر كلام البشر، وبها وقع التحدي والتعجيز، ومع هذا فكل سورة لا تنفرد بهذه الثلاثة، من غير أن ينضاف إليها أمر آخر من الوجوه العشرة، فهذه سورة «الكوثر» ثلاث آيات قصار، وهي أقصر سورة في القرآن، وقد تضمنت الإخبار عن مغيّبين:
أحدهما: الإخبار عن الكوثر وعظمه وسعته وكثرة أوانيه، وذلك يدل على أن المصدقين به أكثر من أتباع سائر الرسل.
والثاني: الإخبار عن الوليد بن المغيرة، وقد كان عند نزول الآية ذا مال وولد، على ما يقتضيه قول الحق: ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً. وَجَعَلْتُ لَهُ مالًا مَمْدُوداً. وَبَنِينَ شُهُوداً. وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً ثم أهلك الله- سبحانه- ماله وولده، وانقطع نسله.
[قال نور الدين: قال القرطبي آخر تفسيره يفسّر الآية: «الأبتر: أي المقطوع ذكره من خير الدنيا والآخرة». انتهى. قال نور الدين: «وهذا هو الصحيح. وقد حصل ذلك لمبغضي النبي صلى الله عليه وسلم على أبلغ وجه.
الصحيح. وقد حصل ذلك لمبغضي النبي صلى الله عليه وسلم على أبلغ وجه.
وفي الآية على هذا إشارة إلى غيب ثالث، هو عزّة الإسلام وانتشاره، حتى يؤدي إلى بتر مبغض النبي صلى الله عليه وسلم وانقطاع ذكره، من خير الدنيا والآخرة] .
٤ - ومنها: التصرف في لسان العرب على وجه لا يستقل به مخلوق،
حتى يقع منهم الاتفاق من جميعهم على إصابته في وضع كل كلمة وحرف موضعه.
٥ - ومنها: الإخبار عن الأمور التي تقدمت في أول الدنيا إلى وقت نزوله من أمي ما كان يتلو من قبله من كتاب ولا يخطّه بيمينه، فأخبر بما كان من قصص الأنبياء مع أممها، والقرون الخالية في دهرها، وذكر ما سأله أهل الكتاب عنه وتحدوه به من قصة أهل الكهف وشأن موسى والخضر عليهما السلام، وحال ذي القرنين، فجاءهم- وهو أمّي من أمة أميّة ليس لها بذلك علم- بما عرفوا من الكتاب السالفة صحته، فتحققوا صدقه.
قال القاضي أبو الطيب: ونحن نعلم ضرورة أن هذا ما لا سبيل إليه إلا عن تعلم، وإذا كان معروفا أنه لم يكن ملابسا لأهل الآثار، وحملة الأخبار، ولا مترددا إلى المتعلم
منهم، ولا كان ممن يقرأ فيجوز أن يقع إليه كتاب فيأخذ منه، علم أنه لا يصل إلى علم ذلك إلا بتأييد من جهة الوحي.
٦ - ومنها: الوفاء بالوعد، المدرك بالحس في العيان، في كل ما وعد الله سبحانه، وينقسم: إلى أخباره المطلقة، كوعده بنصر رسوله عليه السلام، وإخراج الذين أخرجوه من وطنه، وإلى وعد مقيد بشرط كقوله:
وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ، وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وشبه ذلك.
٧ - ومنها: الإخبار عن المغيبات في المستقبل التي لا يطلع عليها إلا بالوحي فمن ذلك ما وعد الله نبيه عليه السلام أنه سيظهر دينه على الأديان بقوله تعالى: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ الآية، ففعل ذلك.
وكان أبو بكر رضي الله عنه إذا أغزى جيوشه عرّفهم ما وعدهم الله من إظهار دينه، ليثقوا بالنصر، وليستيقنوا بالنجح، وكان عمر يفعل ذلك، فلم يزل الفتح يتوالى شرقا وغربا، برا وبحرا، قال الله تعالى: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ
قَبْلِهِمْ وقال: لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ وقال: وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ وقال:
الم. غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ ....
فهذه كلها أخبار عن الغيوب التي لا يقف عليها إلا رب العالمين، أو من أوقفه عليها رب العالمين، فدل على أن الله تعالى قد أوقف عليها رسوله لتكون دلالة على صدقه.
٨ - ومنها: ما تضمنه القرآن من العلم الذي هو قوام جميع الأنام في الحلال والحرام وفي سائر الأحكام.
٩ - ومنها: الحكم البالغة التي لم تجر العادة أن تصدر في كثرتها وشرفها من آدمي.
١٠ - ومنها: التناسب في جميع ما تضمنه ظاهرا وباطنا من غير اختلاف، قال الله تعالى: وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً. انتهى كلام القرطبي.
وبالنظر في هذه الأوجه العشرة نجد أن إعجاز القرآن يتنوع تنوعا واسعا شاملا للأسلوب وللمضمون أي المعنى، مما يجعل إعجازه متناولا كل أنواع البشر: من كان مميزا للكلام البليغ والأبلغ، ومن لم يرزق تلك الموهبة، وإن كانت الحجة تلزم هذا النوع من الناس بشهادة أهل الموهبة الفنية والذوق الأدبي، من الفصحاء العقلاء، والبلغاء المراجيح الألبّاء.
لكن إذا أفحم هؤلاء القاصرون بمضمون القرآن وبما اشتمل عليه من المعاني لم يبق في الإعجاز أبلغ ولا أعظم من ذلك.
عرض الإعجاز عند المعاصرين
وقد عني العلماء المعاصرون والباحثون المحدثون بتحقيق البحث في أوجه إعجاز القرآن مستفيدين من دراسات القدماء ومن نتائج بحث الحدثاء، وقدموا دراسات متوالية تنقّح كلّ دراسة الدراسة التي قبلها وتضيف إليها ما ولّدته
قريحة كل دارس جاء بعدها. وكان أول المشاهير في العصر الحديث علّامة الأدب مصطفى صادق الرافعي رحمه الله في كتابه «إعجاز القرآن»، ثم جاء البحّاثة المحقق الدكتور محمد عبد الله درّاز رحمه الله فقدّم دراسات متعددة عن إعجاز القرآن كان أشهرها كتابه «النبأ العظيم»، الذي تميز بنظرات جديدة في الموضوع، ثم جاء معاصره العلّامة محمد عبد العظيم الزرقاني [١] فنقح القول في أوجه إعجاز القرآن وأفاد من دراسات الدكتور درّاز واستكمل دراسته فجاءت دراسة عصرية وافية اقتبس منها الدارسون وأفادوا من نتائجها، وعني بعضهم أخيرا [٢] بتنقيحها والبناء عليها فجاء عمله بذلك أتم وأوفى.
[نتائج مستفيدين من هذه الدراسات]
وسنقدم فيما يلي خلاصات ونتائج مستفيدين من هذه الدراسات مع الإيجاز الشديد مراعاة لمقتضى المقام في هذا الكتاب:
القسم الأول من أوجه إعجاز القرآن: أسلوب القرآن الكريم
هذا القسم من أوجه إعجاز القرآن فيه أعظم جوانب الإعجاز في القرآن، وإن كان قد يخفى معنى عظمه على كثير من الناس، والسبب في عظمة هذا الوجه أنه هو الذي به كان القرآن قرآنا، وأن المنهج البياني المعجز للقرآن هو سمة عامة لجميع القرآن الكريم، أما الأوجه الأخرى فيوجد الوجه منها في بعض الآيات دون الآخر، مثل أخبار الغيب، والإعجاز العلمي، والإعجاز التشريعي وهكذا.
وهذا الوجه يدركه العرب، وهم أول من يخاطب به وإذا عجزوا هم عنه، فغيرهم أعجز وأعجز، لكن جلال الإعجاز في هذا الكتاب لا يقتصر
(١) في كتابه القيم مناهل العرفان في علوم القرآن ج ٢ ص ٢٠٥ وما بعد إلى ص ٣٠٨، وبلغت أوجه إعجاز القرآن عنده أربعة عشر وجها، عدا ما يتضمنه بعضها من خواص معجزة، أدمجها في بعض الأوجه.
(٢) هو شقيقي الدكتور حسن ضياء الدين عتر في كتابه «المعجزة الخالدة»، فليرجع إليه للاستزادة ص ٢٢٥ - ٣٨٨.
على ذلك بل إنه يشمل أوجها أخرى يدرك الإعجاز فيها كل من يفقه معاني الكلام، ولو لم يكن له في ساحة البيان جولات.
وقد أطال الدارسون القدماء والمحدثون في بيان خصائص أسلوب القرآن الكريم، ونلخص منها هذه الجوانب فيما يلي:
الوجه الأول: خاصية تأليف القرآن الصوتي في شكله وجوهره:
وهي خاصية بارزة عني بها بعض المتأخرين، وصاغها نظرية في إعجاز القرآن الموسيقى، وهو الأديب الكبير مصطفى صادق الرافعي رحمه الله [١].
أما خاصية تأليف القرآن الصوتي في شكله
فهي أول ما يسترعي سامع القرآن الكريم عن بعد بحيث يسمع فيه جملة الحركات والسكنات، والغنّات والمدّات وهكذا ... فإن السمع يجد نفسه إزاء لحن غريب عجيب لا يجده في كلام آخر، هو لحن فرد اختص به القرآن لا يوجد في الموسيقى ولا في الشعر، وذلك أنك تسمع القصيدة من الشعر فإذا هي تتحد فيها الأوزان بيتا بيتا وشطرا شطرا، وتسمع القطعة من الموسيقى فإذا هي تتشابه أصداؤها وتذهب مذهبا متقاربا، فلا يلبث سمعك أن يمجها، وطبعك أن يملها إذا أعيدت وكرّرت عليك بتوقيع واحد بينما أنت من القرآن أبدا في لحن متنوع ومتجدد، على أوضاع مختلفة يأخذ منها كل وتر من أوتار قلبك بنصيب سواء، فلا يعروك منه على كثرة ترداده ملالة ولا سأم.
وأما جوهر تأليف القرآن الصوتي
فيكمن في نظم حروفه ورصفها وترتيب أوضاعها: هذا ينقر وذاك يصفر، وثالث يهمس، ورابع يجهر، وآخر حرف استعلاء وغيره حرف شدة أو رخاوة، وهكذا، ترى الجمال اللغوي ماثلا أمامك في هذا التناغم الموسيقى المعجز، الذي جعل منه القرآن قالبا لما حمله من معاني الرسالة وحكمها وأحكامها، وعقائدها وقواعدها، ومواعظها وزواجرها، وما امتاز به أسلوبها في عرض هذه المعاني من سائر الخصائص المعجزة.
(١) في كتابه القيم «إعجاز القرآن» ونكتفي بالإشارة إلى نظريته هذه لضيق المقام.
الوجه الثاني: القصد في اللفظ والوفاء بالمعنى:
وهما نهايتان في اتجاهين متضادين، لا يقبل المرء على إحداهما إلا ابتعد عن الأخرى، ذلك أن البليغ إما أن يؤدي مراده جملة مختصرا، مقلّا من الألفاظ فلا بد أن يحيف على المعنى قليلا أو كثيرا، وإما أن يعمد إلى الوفاء بحق المعنى وتحليله إلى عناصره وإبراز كل دقائقه، فلا يجد بدا من أن يمدّ في نفسه مدا، لأنه لا يجد في القليل من اللفظ ما يشفي صدره ويؤدي عن نفسه رسالتها كاملة.
ولئن وفق البليغ لتقريب هاتين الغايتين تقريبا ما في جملة أو جملتين، فلا يلبث أن يدركه الكلال والإعياء، وضعف الطبع الإنساني فلا يسترجع قوته إلا في الشيء بعد الشيء، كما تصادف في التراب قطعة من التبر هاهنا وقطعة هنالك، فتقول هذا نفيس جيد، وهذا أنفس وأجود ... وقد أجمع نقّاد الشعر والنثر على أن أبرع الشعراء لم يبلغوا مرتبة الإجادة إلا في أبيات محدودة من قصائد معدودة، ثم وراء ذلك الوسط والرديء والغثّ والمستكره ...
أما القرآن الكريم فقد جاء البيان فيه مقدرا أحسن تقدير، فلا تحسّ فيه بالإسراف ولا بالتقتير، فهو يؤدي لك الصورة وافية نقية لا يشوبها شيء مما هو غريب عنها، ولا يشذ عنها شيء من عناصرها وكمالها، كل ذلك في أوجز لفظ وأنقاه، كما قال الإمام أبو بكر الباقلاني: «محاسن تتوالى، وبدائع تترى».
ولنزيدك إيضاحا في هذا فخذ ما شئت من القرآن، واحص كلماته عدّا، ثم احص مثل عددها من أبلغ كلام تختاره خارجا عن المصحف، وانظر ما حواه هذا الكلام من المعاني، وقايسه إلى ذلك، ثم انظر كم كلمة تستطيع أن تسقطها من غير القرآن أو يمكن أن تبدلها بأخرى غيرها دون إخلال بغرض قائله؟ وانظر مقابل ذلك أي كلمة تستطيع أن تسقطها أو تبدلها من القرآن؟؟ لما وجدت لذلك سبيلا في القرآن، بل إن كتاب الله تعالى- كما
قال الإمام ابن عطية [١]: لو نزعت منه لفظة ثم أدير لسان العرب في أن يوجد أحسن منها لم يوجد»، بل هو كما وصفه الله: كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ.
الوجه الثالث: خطاب العامة وخطاب الخاصة:
وهاتان غايتان أخريان متباعدتان عند الناس، فلو أنك خاطبت الأذكياء بالواضح المكشوف الذي تخاطب به الأغبياء لنزلت بهم إلى مستوى لا يرضونه لأنفسهم في الخطاب، ولو أنك خاطبت العامة باللمحة والإشارة التي تخاطب بها الأذكياء لجئتهم من ذلك بما لا تطيقه عقولهم، فلا غنى لك- إن أردت أن تعطي كلتا الطائفتين حقها كاملا من بيانك- أن تخاطب كل واحدة منهما بغير ما تخاطب به الأخرى، كما تخاطب الأطفال بغير ما تخاطب به الرجال، فأما أن جملة واحدة تلقى إلى العلماء والجهلاء، وإلى الأذكياء والأغبياء، وإلى السوقة والملوك، فيراها كل منهم مقدرة على مقياس عقله وعلى وفق حاجته، فذلك ما لا تجده على أتمه إلا في القرآن الكريم، فهو قرآن واحد يراه البلغاء أوفى كلام بلطائف التعبير، ويراه العامة أحسن كلام وأقربه إلى عقولهم لا يلتوي على أفهامهم، ولا يحتاجون فيه إلى ترجمان وراء وضع اللغة، فهو متعة العامة والخاصة على السواء، ميسّر لكل من أراد وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ.
الوجه الرابع: إقناع العقل وإمتاع العاطفة:
في النفس الإنسانية قوتان قوة تفكير، وقوة وجدان، وحاجة كل واحدة منهما غير حاجة أختها: فأما إحداهما فتنقّب عن الحق لمعرفته، وعن الخير للعمل به، وأما الأخرى
فتسجل إحساسها بما في الأشياء من لذة وألم، والبيان التام هو الذي يوفي لك هاتين الحاجتين ويطير إلى نفسك بهذين الجناحين، فيؤتيها حظها من الفائدة العقلية والمتعة الوجدانية معا.
(١) في مقدمة تفسيره الجليل «المحرر الوجيز» ج ١ ص ٣٩.
فهل رأيت هذا التمام في كلام الناس؟
لقد عرفنا كلام العلماء والحكماء، وعرفنا كلام الأدباء والشعراء، فما وجدنا من هؤلاء ولا هؤلاء إلا غلوّا في جانب، وقصورا في جانب، فأما الحكماء فإنما يؤدون إليك ثمار عقولهم غذاء لعقلك، ولا تتوجه نفوسهم إلى استهواء نفسك واختلاب عاطفتك، فتراهم حين يقدمون إليك حقائق العلوم لا يأبهون لما فيها من جفاف وعري ونبوّ عن الطباع، وأما الشعراء فإنما يسعون إلى استثارة وجدانك، وتحريك أوتار الشعور في نفسك، فلا يبالون بما صوروه لك أن يكون غيّا أو رشدا، وأن يكون حقيقة أو تخيلا، فتراهم جادين وهم هازلون، يستبكون وإن كانوا لا يبكون، ويطربون وإن كانوا لا يطربون:
وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ. أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ.
هذا مقياس تستطيع أن تتبين به في كل لسان وقلم أي القوتين كان خاضعا لها حين قال أو كتب، فإذا رأيته يتجه إلى تقرير حقيقة نظرية أو وصف طريقة عملية قلت: هذا ثمرة الفكرة، وإذا رأيته يعمد إلى تحريض النفس أو تنفيرها وقبضها أو بسطها، واستثارة كوامن لذاتها أو ألمها، قلت هذا ثمرة العاطفة، وإذا رأيته قد انتقل من أحد هذين الضربين إلى الآخر فتفرّغ له بعد ما قضى وطره من سابقه، كما ينتقل من غرض إلى غرض، عرفت بذلك تعاقب التفكير والشعور على نفسه.
وأما أن أسلوبا واحدا يتجه اتجاها واحدا ويجمع في يديك هذين الطرفين معا، كما يحمل الغصن الواحد من الشجرة أوراقا وأزهارا وأثمارا معا، أو كما يسري الروح في الجسد والماء في العود الأخضر فذلك ما لا تظفر به في كلام بشر، ولا هو من سنن الله في النفس الإنسانية.
فمن لك إذا بهذا الكلام الواحد الذي يجيء من الحقيقة البرهانية الصارمة بما يرضي حتى أولئك الفلاسفة المتعمقين، ومن المتعة الوجدانية الطيبة بما يرضي حتى هؤلاء الشعراء المرحين؟
ذلك الله رب العالمين، فهو الذي لا يشغله شأن عن شأن، وهو القادر على أن يخاطب العقل والقلب معا بلسان، وأن يمزج الحق والجمال معا يلتقيان ولا يبغيان، وأن يخرج من بينهما شرابا خالصا سائغا للشاربين، وهذا هو ما تجده في كتابه الكريم حيثما توجّهت، ألا تراه في فسحة قصصه وأخباره لا ينسى حق العقل من حكمة وعبرة؟.
أولا تراه في معمعة براهينه وأحكامه لا ينسى حظ القلب من تشويق وترقيق، وتحذير وتنفير، وتهويل وتعجيب، وتبكيت وتأنيب؟ يبث ذلك في مطالع آياته ومقاطعها وتضاعيفها: تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ. إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ وَما هُوَ بِالْهَزْلِ.
الوجه الخامس: تآلف الألفاظ والمعاني:
التآلف في الألفاظ هو ألا تكون بينها ثغرة في المخارج، ولا في النغم بل تتآلف وتتآخى في نسق واحد.
ويقول الإمام أبو بكر الباقلاني في هذا: «واعلم أن هذا علم شريف المحل عظيم المكان، قليل الطلاب، ضعيف الأصحاب، ليست له عشيرة تحميه، ولا أهل بيت عصمة تفطن لما فيه، وهو أدقّ من السحر وأهول من البحر، وكيف لا يكون كذلك وأنت تحسب أن وضع الصبح في موضع الفجر يحسن في كل كلام إلا أن يكون شعرا أو سجعا، وليس كذلك، فإن إحدى اللفظتين قد تنفر في موضع وتزلّ عن مكان لا تزل فيه اللفظة الأخرى، بل تتمكن فيه وتضرب بجرانها، وتراها في مكانها، وتجدها غير منازعة في أوطانها، وتجد الأخرى لو وضعت في موضعها لكانت في محل نفار، ومرمى شرار، ونابية عن استقرار ... » [١].
وأما التآلف في المعاني: فهو ألا يكون معنى لفظ نافرا من المعنى الذي بليه، وأن تتآلف الألفاظ والمعاني: وما تثيره من الصور والأخيلة، وما
(١) إعجاز القرآن ص ٢٨٠.
تستدعيه من معان يستلزم بعضها بعضا، فيتألف من ذلك علم كثير، وأفهام زاخرة.
وهذه الخصوصية هي كغيرها أيضا مستوفاة في جميع القرآن، وفي كل آية منه، لا يحتاج الدارس والباحث إلى اختيار وانتقاء، بل كيفما قلب المصحف ونظر بعين البصيرة المدركة وجد أي خصوصية يطلبها على أعظم منازل الكمال الذي لا يطيقه إنسان، ووجد أسلوبه ينفذ من كافة أقطار النفس، ويتغلغل في أعماق الأفئدة، فيحملها على الخشوع والإخبات، لما في طياته من قوة وهيمنة تدل على تنزله من علو، وصدوره من عظمة الألوهية وشرف الربوبية، وقدرة الإله الحق ذي الجبروت.
فالقرآن بنفسه يدل على قدر متكلمه ويخبر عن مقام منزله عز وجل، كما ينبه على عظيم شأنه تبارك وتعالى، فيثبت لكل عاقل صحة رسالة محمد صلى الله عليه وسلم، وصدق نبوته [١].
القسم الثاني من أوجه إعجاز القرآن: الإعجاز بالمضمون
يمتاز هذا القسم من أوجه إعجاز القرآن بأنه معجزة عقلية، يعقلها ويدركها كل من يفهم الخطاب ويرد الجواب، سواء كان يملك ذوقا أدبيا فنيا أم لا يملك، بل سواء كان
عربيا أو أعجميا. وذلك من غاية كمال الإعجاز في القرآن الكريم.
ونقتصر على مهمات من أوجه إعجاز المضمون في القرآن فيما يلي:
(١) انظر في خصائص أسلوب القرآن هذا كتاب «النبأ العظيم» للدكتور محمد عبد الله دراز ص ٩٥ وما بعد ومناهل العرفان للزرقاني ج ٢ ص ٢١٥ وما بعد، وبينات المعجزة الخالدة ص ٣٠٢ - ٣٠٧ و ٣١٧ - ٣٢٠ والعمدة في الخاصة الأخيرة على المرجعين الأخيرين وإعجاز القرآن للباقلاني وكتاب المعجزة الكبرى للشيخ محمد أبو زهرة ص ١٣٣ - ١٣٥.
الوجه الأول: الإخبار عن الغيب:
والقرآن حافل بأنواع الاخبار عن الغيب: غيب المستقبل، وغيب الحاضر، وغيب الماضي، مما يحتاج تفصيله لتأليف واسع كبير، لذلك سنكتفي هاهنا بإلماعة ولمحة وجيزة لضيق المقام عن التوسع فضلا عن الاستيفاء.
أولا: الإخبار عن غيب المستقبل:
في القرآن تنبؤات كثيرة جدا عن أمور ستقع في المستقبل، لعل أهم ما نذكر منها تلك الأخبار المتعلقة بأمور مصيرية، إذا لم تتحقق بدقة كاملة أدت إلى انتقاض دعوة القرآن من الأساس، ومن ذلك:
١ - إخبار القرآن في مكة والمسلمون في أقل القلة وأشد الضعف عن تحول المؤمنين إلى القوة وانتصارهم، وهزيمة المشركين، وذلك في مواضع كثيرة، منها قوله تعالى: أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ. سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ [١].
فنبّأ القرآن بهزيمة جموع المشركين في وقت لا مجال فيه للتفكير بالحرب، لغاية ما كان عليه المسلمون من الضعف والقلة، لذلك تساءل عمر: أيّ جمع يهزم؟ أي جمع يغلب؟ قال عمر: فلما كان يوم بدر رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يثب في الدرع وهو يقول: «سيهزم الجمع ويولون الدّبر»، فعرفت تأويلها [٢].
وفي الحديث الآخر عن ابن عباس في يوم بدر قال: «وهو- يعني النبي صلى الله عليه وسلم- في الدرع فخرج وهو يقول سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ. بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ [٣].
(١) سورة القمر، الآيتان ٤٤ - ٤٥.
(٢) أخرجه ابن أبي حاتم.
(٣) أخرجه البخاري ج ٦ ص ١٤٣ - ١٤٤. وانظر ابن كثير في تفسيره سورة القمر ج ٧ ص ٤٥٦ - ٤٥٧.
٢ - إخباره بوقوع الجدب على المشركين وكشف الله إياه عنهم وعودهم إلى الكفر:
قال تعالى: فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ. يَغْشَى النَّاسَ هذا عَذابٌ أَلِيمٌ. رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ. أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى وَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ. ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ. إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عائِدُونَ. يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ [١].
فأخبر الله تعالى في هذه الآيات عن أمرين: رفع العذاب عن قريش بدعائهم وعدم اتعاظهم بذلك وعودهم إلى الكفر، وهزيمتهم يوم البطشة الكبرى، وهو يوم بدر.
كما في الحديث الصحيح عن عبد الله بن مسعود قال: « ... إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رأى من الناس إدبارا فقال: اللهم سبع كسبع يوسف، فأخذتهم سنة حصّت كل شيء، حتى أكلوا الجلود والميتة من الجوع، وينظر إلى السماء أحدهم فيرى كهيئة الدخان، فأتاه أبو سفيان فقال: يا محمد إنك جئت تأمر بطاعة الله وبصلة الرحم، وإن قومك قد هلكوا، فادع الله لهم، قال الله عزّ وجل: فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ. يَغْشَى النَّاسَ هذا عَذابٌ أَلِيمٌ .. إلى قوله إِنَّكُمْ عائِدُونَ قال:
أفيكشف عذاب الآخرة؟ يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ فالبطشة الكبرى يوم بدر ... » [٢].
٣ - إخباره عن عودة النصرة للروم بعد هزيمتهم المنكرة أمام الفرس حتى اضطر ملك الروم للالتجاء إلى القسطنطينية.
وقد فرح المشركون بذلك لكون الفرس مجوسا يعبدون النار والأصنام، والروم أهل كتاب، فأنزل الله تعالى:
(١) سورة الدخان، الآيات ١٠ - ١٦.
(٢) متفق عليه واللفظ لمسلم، وانظر تفسير ابن كثير ج ٧ ص ٢٣٣.
الم. غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ. لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ ....
وهذا مثال مشهور من أخبار الغيب بالقرآن، وقد اشتمل على خبرين خطيرين:
أولهما: انتصار الروم على الفرس في فترة وجيزة جدا بالنسبة لتغير ميزان القوى بين الدول، ولا سيما في ذلك العصر، وخصوصا بعد هزيمة ساحقة منكرة، وقد تحقق
ذلك في سبع سنين من تاريخ الحادث ونزول القرآن فيه.
ثانيهما: احتفاف ذلك بتغير ميزان القوة لمصلحة المسلمين وانتصارهم على المشركين وكان ذلك يوم بدر، وفرح المؤمنون بنصر الله لهم، كما فرحوا بنصر الروم وهم أهل كتاب على الفرس وليس لهم كتاب [١].
ثانيا: الإخبار عن غيب الحاضر:
في القرآن أخبار كثيرة عن مغيبات حدثت في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ولا سيما مما كان يبيته الاعداء والمنافقون، وقد عنيت سورة التوبة بكشف دخائل المنافقين ودسائسهم، وفضح مؤامراتهم حتى سميت الفاضحة.
ومن هذا النوع من الأخبار أيضا هذان المثالان:
١ - مؤامرة المشركين في بعض الغزوات على المسلمين أن يعطوهم الهدنة التي اعتادوها لأجل الصلاة، ويفاجئوهم بالهجوم عليهم غدرا وهم يصلون، فأنزل الله تعالى بيان كيفية صلاة الحرب بما فيه الوقاية من هذه المكيدة وقال فاضحا نوايا العدو:
(١) انظر النبأ العظيم ص ٤١ - ٤٢ ومناهل العرفان ج ٢ ص ٢٦٥ - ٢٦٧، ومصادر التفسير، تفسير أول سورة الروم، وانظر التحقيق في كتاب «المعجزة الخالدة» ص ٣٤٠ - ٣٤٤، وفيه أمثلة أخرى كثيرة ليست في غيره.
وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً واحِدَةً [١].
٢ - ائتمر المنافقون بتوجيه من اليهود فبنوا مسجدا بجوار مسجد قباء، زعموا أنه للصلاة وللمساكين يأوون إليه، وطلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم أن يصلي فيه، فأنزل الله تعالى يكشف خبيئة نفوسهم الخبيثة [٢]: وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا إِلَّا الْحُسْنى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ، لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ، فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ [٣].
ثالثا: أخبار الغيب الماضي:
وذلك كثير جدا في القرآن يتضمن الإخبار عن حوادث قديمة وقعت من قبل، وقصص الأنبياء وأممهم مما سنعرض له بشيء من التفصيل في بحث القصة في القرآن [٤].
الوجه الثاني: الإعجاز التشريعي:
إن القرآن قد جاء بتشريع معجز يثبت أنه تنزيل من الله ووحي منه تبارك وتعالى، وذلك من أوجه كثيرة نذكر منها:
١ - إنها جاءت على لسان رجل أمي وفي أمة أمية، تعيش الحياة القبلية بكل كيان أفرادها، لا يخطر على بال أحد منهم انتظام أو التزام بقانون عام أو نظام حضاري.
(١) سورة النساء، الآية ١٠٢.
(٢) سورة التوبة، الآيتان ١٠٧ - ١٠٨.
(٣) وقد عدّ صاحب مناهل العرفان الأخبار عن الملائكة والجن من أنباء الغيب الحاضر، ونحن نرى أنها تعتبر كذلك بالنسبة لمن سبق منه الإيمان، لا سيما إن قورنت بما عند الأمم الأخرى من علوم الغيب، أما غير تلك الحالة فهي من الغيبيات التي يتوقف الإيمان بها على أصل الإيمان بالله ورسله.
(٤) انظر التوسع في هذا الوجه الثاني كتاب «بينات المعجزة الخالدة» فقد أطال وأجاد بما لا تجده في غيره ص ٣٢١ - ٣٥٨.
٢ - إنه تشريع شامل وكافل لإحقاق الحق، وصيانة مصالح الناس في جميع شئونهم المالية، والاجتماعية والأسرية، والدولية ...
٣ - إنه تسامى على كل قانون عرفته الأمم قديمها وحديثها، حتى أقرت المجامع القانونية الدولية الفقه الإسلامي مصدرا أساسيا تقتبس منه القوانين، وإن القوانين الحديثة في تطورها تتسامى لتقترب من الفقه الإسلامي.
قال فضيلة العلّامة الكبير الشيخ محمد أبو زهرة رحمه الله [١]:
«ومن هذه الأحكام الشرعية التي اشتمل عليها القرآن، فإنها لا يمكن أن تكون من عند محمد صلى الله عليه وسلم، بل هي من عند الله، وقد كتبنا في هذه عدة بحوث في إحدى المجلات الإسلامية بعنوان (شريعة القرآن دليل على أنه من عند الله) جمعتها إحدى الهيئات الإسلامية في رسالة، ونشرتها، وترجمتها إلى الفرنسية والإنكليزية، وقد أقمنا الدليل على أن تلك الشريعة المحكمة لا يمكن أن يأتي بها أمي لا يقرأ ولا يكتب وقد نشأ في بلد أمي ليس به مدرسة ولا مكتب دراسة وهي في أحكامها لا يمكن أن تكون إلا من عند الله تعالى.
وكتبنا بحثا وازنا فيه بين شريعة القرآن وقانون الرومان في الملكية بالخلافة (الميراث) ، وذكرنا أن قانون الرومان قد تكوّن في نحو ثلاثة عشر قرنا ومع ذلك هو بالملكية بالخلافة لا يوازن بشريعة القرآن إلا إذا وازنا بين عصا هشة وسيف بتّار، فلا يمكن أن يأتي به محمد من عنده، بل هو من عند الله تعالى.
والأوربيون القانونيون يرون في قانون الميراث في القرآن أن العقل البشري لم يصل إلى الآن إلى خير منه ونحن نقرر لهذا أن ما ذكره القرطبي غير الصرفة يدل على أن القرآن كله جملة وتفصيلا هو من عند الله تعالى العليم الخبير».
(١) في كتاب «المعجزة الكبرى» ص ٩٥، وانظر دراسات مفصلة حول هذا الموضوع وبيان تفوق أنظمة القرآن ص ٤٥٤ - ٥٤٧ من كتابه هذا.
الوجه الثالث: اتساق نظريات القرآن وأحكامه:
جاء القرآن الكريم بهداية كاملة شاملة، كافية وافية في جميع الشئون المختلفة المتنوعة، وزاد عدد آياته على ستة آلاف آية تناولت مختلف الموضوعات التي تزيد على المئات، وجاء ذلك كله متفقا في معانيه وأحكامه، متسقا في أسلوبه وإعجازه، فكان ذلك دلالة على أنه كلام الله، كما قال تعالى: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً [١].
وقد فصّل الإمام الغزالي وجه الدلالة بهذا تفصيلا وافيا بإيجاز جميل فقال [٢]:
«الاختلاف لفظ مشترك بين معان، والمراد هنا نفي الاختلاف عن ذات القرآن، يقال: هذا كلام مختلف، أي لا يشبه أوله آخره في الفصاحة، أو هو مختلف الدعوى، أي بعضه يدعو إلى الدين وبعضه يدعو إلى الدنيا، أو هو مختلف النظم، فبعضه على وزن الشعر وبعضه منزحف وبعضه على أسلوب مخصوص في الجزالة وبعضه على أسلوب يخالفه.
وكلام الله منزّه عن هذه الاختلافات، فإنه على منهاج واحد في النظم مناسب أوله آخره، وعلى درجة واحدة في غاية الفصاحة، فليس يشتمل على الغث والسمين، مسوق لمعنى واحد وهو دعوة الخلق إلى الله تعالى وصرفهم عن الدنيا إلى الدين.
وكلام الآدميين تتطرق إليه هذه الاختلافات، إذ كلام الشعراء والمترسلين إذا قيس عليه وجد فيه اختلاف في منهاج النظم، ثم اختلاف في درجات الفصاحة، بل في أصل الفصاحة حتى يشتمل على الغث والسمين، ولا يتساوى رسالتان وقصيدتان بل تشتمل قصيدة على أبيات فصيحة وأبيات
(١) سورة النساء، الآية ٨١.
(٢) كما نقل عنه السيوطي في الإتقان ج ٢ ص ١٢٤ بتصرف يسير.
سخيفة، وكذلك تشتمل القصائد والأشعار على أغراض مختلفة، لأن الشعراء والفصحاء في كل واد يهيمون، فتارة يمدحون الدنيا وتارة يذمونها، وتارة يمدحون الجبن ويسمونه حزما وتارة يذمونه ويسمونه ضعفا، وتارة يمدحون الشجاعة ويسمونها صرامة وتارة يذمونها ويسمونها تهوّرا، ولا ينفك كلام الآدمي عن هذه الاختلافات، لأن منشأها اختلاف الأغراض بالأحوال.
والإنسان تختلف أحواله فتساعده الفصاحة عند انبساط الطبع وفرحه وتتعذر عليه عند الانقباض.
وكذلك تختلف أغراضه فيميل إلى الشيء مرة ويميل عنه أخرى، فيوجب ذلك اختلافا في كلامه بالضرورة، فلا يصادف إنسان يتكلم في ثلاث وعشرين سنة وهي مدة نزول القرآن فيتكلم على غرض واحد ومنهاج واحد، ولقد كان النبي صلى الله عليه وسلم بشرا تختلف أحواله، فلو كان هذا كلامه أو كلام غيره من البشر لوجدوا فيه اختلافا كثيرا».
الوجه الرابع: تأثير القرآن وفاعليته في الأفئدة:
وهو وجه هام، ذهب عنه الناس، فلا يعرفه إلا الشاذ من آحادهم، وذلك هو صنيعه العجيب في القلوب، وتأثيره العميق في القلوب [١].
لو أن إذاعات عالمية أو صحفا كبرى أخبرت عن دويلة صغرى أنها أخذت بكتاب لديها فارتقت من دحض الضعف والتخلف والجهل إلى أوج القوة والتقدم والعلم حتى اكتسحت الدولتين الأعظم لاعتبرنا ذلك حيلة إذاعية، أو خدعة صحفية، لأن هذا يتنافى مع ما جرت به العادة وقوانين الاجتماع، وقد كان العرب أدنى من ذلك حالا وأشد تخلفا، وإذا بهم بهذا القرآن وتأثيره فيهم انقلبوا حتى كانوا كما سجل القرآن نفسه في مدحهم:
كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ، وهكذا ظل القرآن مدى التاريخ كتاب
(١) كما ذكر الخطابي في رسالته «بيان إعجاز القرآن» ص ٦٤.
الهداية، يؤمن بسببه الكافر، ويهتدي الضال، ويتوب الفاسق ويثوب العاصي، مما لا تجده من التأثير العميق لكتاب آخر قط.
وهذا كما قال الله تعالى: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ.