اسم الكتاب ـ جامع الدروس العربية المجلد الثالث
المؤلف: مصطفى بن محمد سليم الغلايينى (ت ١٣٦٤هـ)
الناشر: المكتبة العصرية، صيدا - بيروت
الطبعة: الثامنة والعشرون، ١٤١٤ هـ - ١٩٩٣ م
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع]
الموضوع: علم النحو
عدد المجلدات 3
عدد الصفحات 902
فهرست الموضوعات
- (منصوبات الأسماء)
- المفعول به هو
- (المفعول به)
- (المفعول المطلق)
- (المفعول له)
- (المفعول فيه)
- (المفعول معه)
- (الحال)
- التمييز اس
- الاستثناء هو
- المنادى اس
- (مجرورات الأسماء)
- (حروف الجر)
- (الإضافة)
- (التوابع وإعرابها)
- (النعت)
- (التوكيد)
- (البدل)
- (عطف البيان)
- (المعطوف بالحرف)
- (أنواع الحروف)
- 1- أحرف النفي
- 2- أحرف الجواب
- 3- حرفا التفسير
- 4- أحرف الشرط
- 5- أحرف التخضيض والتنديم
- 6- أحرف العرض
- 7- أحرف التنبيه
- 8- الأحرف المصدرية
- 9- أحرف الاستقبال
- 10- أحرف التوكيد
- 11- حرفا الاستفهام
- 12- أحرف التمني
- 13- حرف الترجي والإشفاق
- 14- حرفا التشبيه
- 15- أحرف الصلة
- 16- حرف التعليل
- 17- حرف الردع والزجر
- 18- اللامات
- 19- تاء التأنيث الساكنة
- 20- هاء السكت
- 21- أحرف الطلب
- 22- حرف التنوين
- بقية الحروف
- (الخاتمة: مباحث إعرابية متفرقة)
- (العامل والمعمول والعمل)
- 1- معنى العامل والمعمول والعمل
- 2- العامل
- 3- المعمول
- 4- العمل
- (عمل المصدر والصفات التي تشبه الفعل)
- 1- عمل المصدر واسم المصدر
- 2- عمل اسم الفاعل
- 3- عمل اسم المفعول
- 4- عمل الصفة المشبهة
- 5- عمل اسم التفضيل
- (الجمل وأنواعها)
- 1- الجملة الفعلية
- 2- الجملة الاسمية
- 3- الجمل التي لها محل من الإعراب
- 4- الجمل التي لا محل لها من الإعراب
- العودة الي كتاب جامع الدروس العربية للغلاييني
(منصوبات الأسماء)
(المفعولُ به)
المفعولُ به هو اسمٌ دلَّ على شيءٍ وقع
عليه فعلُ الفاعلِ، إثباتاً أو نفياً، ولا تُغيَّر لأجله صورةُ الفعل، فالأولُ
نحو "برَيتُ القلمَ" ، والثاني، نحو "ما بَرَيتُ القلمَ" .
وقد
يَتعدَّدُ، المفعولُ به، في الكلام، إن كان الفعل متعدِّياً إلى أكثرَ
من
مفعول به واحدٍ، نحو "أعطيتُ الفقيرَ دِرهماً، ظننتُ الأمرَ واقعاً، أعلمتُ
سعيداً الأمر جَليّاً" .
(وقد سبق الكلام على الفعل المتعدي بأقسامه
وأحكامه في الجزء الأول من هذا الكتاب فراجعه) .
ويتَعَلَّقُ
بالمفعول به أحد عشرَ مبحثاً
1- أَقسامُ المفعولِ بهِ
المفعولُ
بهِ قسمانِ صريحٌ وغيرُ صريح.
والصّريحُ قسمان ظاهرٌ، نحو "فتحَ
خالدٌ الحِيرة" ، وضميرٌ متَّصلٌ نحو "أكرمتُكَ وأكرمتهم" ، أو منفصلٌ، نحو
{إيَّاكَ نعبدُ، وإِيَّاك نستعين} ، ونحو "إيَّاهُ أُريد" .
وغيرُ
الصريحِ ثلاثةُ أقسام مُؤوَّلٌ بمصدر بعدَ حرفٍ مصدَريٍّ، نحو "علِمتُ أنكَ
مجتهدٌ، وجملةٌ مُؤوَّلة بمفردٍ، نحو" ظننتك تجتهد "وجارٌّ ومجرور، نحو"
أمْسكْتُ بيدِكَ "وقد يَسقُطُ حرفُ الجرِّ فينتصبُ المجرورُ على أنه مفعولٌ به.
ويُسمّى" المنصوبَ على نزعِ الخافضِ "فهو يَرجعُ إلى أصلهِ من النصب، كقول
الشاعر [من الوافر] "
تَمُرُّونَ الدِّيارَ، ولم تَعوجُوا، ...
كلامُكُمُ عَلَيَّ إِذاً حَرَامُ
(وقد تقدم لهذا البحث فَضْلُ بيانٍ
في الجزء الأول من هذا الكتاب، في الكلام على الفعل اللازم، فراجعه) .
2-
أَحكامُ المفعول بهِ
للمفعول به أربعةُ أحكام
1- أنهُ
يجبْ نصبُهُ.
2- أنه يجوزُ حذفُهُ لدليلٍ، نحو "رَعَتِ الماشيةُ" ،
ويقالُ "هل رأيتَ خليلاً؟" ، فتقولُ "رأيتُ" ، قال تعالى {ما وَدَّعَكَ ربُّكَ
وما قَلى} ، وقال {ما أنزلنا عليكَ القُرآن لتشقى، إلا تذكرةً لِمنْ يخشى} .
وقد
يُنَزَّلُ المتعدِّي منزلة اللازمِ لعَدَم تعلُّقِ غرضٍ بالمفعول بهِ، فلا
يُذكرُ له مفعولٌ ولا يُقدَّرُ، كقوله تعالى {هل يَستوي الذينَ يعلمونَ والذينَ
لا يعلمونَ} .
وما نصبَ مفعولين من أفعال القلوب، جازَ فيه حذفُ
مفعوليه معاً، وحذفُ أحدهما لدليلٍ. فمن حذفِ أحدهما قولُ عَنترةَ. [من
الكامل]
وَلَقدْ نزَلْتِ، فلا تَظُنِّي غَيْرَهُ ... مِنِّي
بِمَنْزِلةِ المُحَبِّ المُكْرَمِ
أي فلا تَظُني غيرَهُ واقعاً. ومن
حذفهما معاً قولهُ تعالى أين
شُرَكائيَ الذين كنتم تَزعمونَ؟ أي
تزعمونهم شُرَكائي، ومن ذلك قولهم "مَنْ يَسمَعْ يَخَلْ" ، أي يَخَلْ ما
يَسمعُهُ حقاً.
(وقد تقدم في الجزء الأول من هذا الكتاب مزيد إيضاح
لهذا البحث في الكلام على أفعال القلوب، فارجع إليه) .
3- أنه يجوزُ
أن يُحذَفَ فعلُهُ لدليل، كقوله تعالى {ماذا أنزلَ ربُّكم؟ قالوا خيراً} ، أي
أنزلَ خيراً، ويقال لك "مَنْ أُكرِمُ؟، فتقول" العلماءَ "، أي أكرمِ
العلماءَ."
ويجبُ حذفهُ في الأمثال ونحوها مِما اشتهرَ بحذف الفعل،
نحو "الكلابَ على البَقَرِ" ، أي أرسلِ الكلابَ، ونحو أمرَ مُبكياتِكَ، لا أمرَ
مضحِكاتكَ "، أي الزَمْ واقبَلْ، ونحو" كلَّ شيءٍ ولا شَتيمةَ حُرّ "، أي ائتِ
كلَّ شيءٍ، ولا تتي شتيمة حُرٍّ، ونحو" أهلاً وسهلاً "، أي جئتَ أهلا ونزلتَ
سهلا."
ومن ذلكَ حذفهُ في أَبواب التحذير والإغراءِ والاختصاص
والاشتغال والنَّعتِ المقطوع. وسيأتي بيانُ ذلك في مواضعه.
4- أن
الأصلَ فيه أن يتأخرَ عن الفعلِ والفاعلِ. وقد يتقدَّمُ على الفاعلِ، أو على
الفعل والفاعل معاً، كما سيأتي.
3- تَقديمُ المفعولِ بهِ
وتأخيرُهُ
الأصل في الفاعل أن يَتَّصل بفعله، لأنهُ كالجزءِ منه،
ثُم يأتي بعدَهُ المفعولُ. وقد يُعكَسُ الأمرُ. وقد يَتقدَّمُ المفعولُ على
الفعل والفاعل معاً. وكلُّ ذلك إمَّا جائزٌ، وإمَّا واجبٌ، وإمَّا مُمتنع.
تقديم
الفاعل والمفعول أحدهما على الآخر
يجوزُ تقديمُ المفعولِ به على
الفاعلِ وتأخيرُه عنه في نحو "كتبَ زُهيرٌ الدرسَ، وكتبَ الدرسَ زُهيرٌ" .
ويجب
تقديمُ أَحدِهما على الآخر في خمس مسائل
1- إذا خُشيَ الإلتباسُ
والوقوعُ في الشكِّ، بسبب خفاء الإعراب مع عدَمِ القرينةِ، فلا يُعلَمُ الفاعلُ
من المفعول، فيجبُ تقديمُ الفاعل، نحو "عَلّمَ موسى عيسى، وأكرمَ ابني أخي.
وغلَب هذا ذاك" . فإن أُمِنَ اللّبسُ لقرينةٍ دالّةٍ، جازَ تقديمُ المفعولِ،
نحو "أكرمتْ موسى سَلمى، وأَضنتْ سُعدَى الحُمّى" .
2- أن يتصلَ
بالفاعلِ ضميرٌ يعودُ إلى المفعول، فيجبُ تأخيرُ الفاعل وتقديمُ المفعولِ، نحو
"أكرمَ سعيداً غلامُهُ" . ومنهُ قولهُ تعالى {وإذْ ابتلى إبراهيمَ رَبُّهُ
بكلماتٍ "، وقولهُ" يومَ لا ينفع الظّالمينَ مَعذِرتُهم} . ولا يجوزُ أن يقال
"أكرم غلامُهُ سعيداً" ، لئلا يلزمَ عَودُ الضمير على مُتأخر لفظاً ورتبةً،
وذلك محظورٌ. وأما قولُ الشاعر [من الطويل]
وَلَوْ أَنَّ مَجداً
أَخلَدَ الدَّهْرَ واحِداً ... مِنَ النَّاسِ، أَبقى مَجْدُهُ الدَّهرَ
مُطْعِما
وقول الآخر [من الطويل]
كسَا حِلْمُهُ ذَا
الْحِلْمِ أَثوابَ سُؤدُدٍ ... وَرَقَّىَ نَدَاهُ ذَا النَّدَى في ذُرَى
الْمَجْدِ
وقوله غيره [من الطويل]
جَزَى رَبُّهُ عَنِّي
عَدِيَّ بْنَ حاتِمٍ ... جَزاءَ الكِلابِ الْعاوِياتِ، وقَدْ فَعلْ
وقول
الآخر [من البسيط]
جَزَى بَنُوهُ أبا الْغيْلانِ عنْ كِبَرٍ ...
وَحُسْنِ فِعْلٍ كَما يُجْزَى سِنِّمار
فضَرُورةٌ، إن جازتْ في
الشعر، على قبُحها، لم تَجزْ في النّثر.
فإنِ اتّصل بالمفعول ضميرٌ
يعودُ على الفاعل، جازَ تقديمهُ وتأخيرُهُ فتقول "أكرمَ الأستاذُ تلميذَهُ.
وأَكرمَ تلميذَهُ الأستاذُ" ، لأنَّ الفاعلَ رتبتُهُ التقديمُ، سواءٌ أَتقدّمَ
أَم تأخّر.
3- أَن يكون الفاعلُ والمفعولُ ضميرينِ، ولا حصرَ في
أَحدهما، فيجبُ تقديمُ الفاعل وتأخيرُ المفعول به، نحو "أَكرمتُه" .
4-
أَن يكون أَحدُهما ضميراً متصلاً، والآخر اسماً ظاهراً، فيجبُ تقديمُ الضمير
منهما، فيُقدّمُ الفاعلُ في نحو "أكرمتُ علياً" ، ويُقدّمُ المفعولُ في نحو
"أكرَمني علي" ، وجوباً.
(ولك في المثال الأول تقديمُ المفعول على
الفعل والفاعل معاً. نحو "علياُ أكرمتُ" . ولك في المثال الآخر تقديم "عليّ"
على الفعل والمفعول به، نحو "عليٌ أكرمني" ، غير أنه يكون حينئذ مبتدأ، على رأي
البصريين، ويكون الفاعل ضميراً مستتراً يعود اليه. فلا يكون الكلام، والحالة
هذه، من هذا الباب، بل يكون من المسألة الثالثة، لأن الفاعل والمفعول كليهما
حينئذ ضميران) .
5- أَن يكون أَحدُهما محصوراً فيه الفعلُ بإلا أَو
إنما، فيجبُ تأخيرُ ما حُصِرَ فيه الفعلُ، مفعولاً أو فاعلاً، فالمفعولُ
المحصورُ نحو "ما أَكرمَ سعيدٌ إلا خالداً" ، والفاعلُ المحصورُ نحو "ما أكرمَ
سعيداً إلا خالدٌ. وإنما أَكرمَ سعيداً خالدٌ" .
(ومعنى الحصر في
المفعول أن فعل الفاعل محصور وقوعه على هذا المفعول دون غيره. وذلك يكون ردّاً
على من اعتقد أن الفعل وقع على غيره، أو عليه وعلى غيره. ومعنى الحصر في الفاعل
أن الفعل محصور وقوعه من هذا الفاعل دون غيره. وذلك يكون رداً على ن اعتقد أن
الفاعل غيره، أو هو وغيره) .
وقد أَجازَ بعضُ النُّحاة تقديمَ
أحدِهما وتأخيرَ الآخرِ، أيًّا كان المحصورُ فيهِ الفعلُ، إذا كان الحصرُ بإلا،
تَمسكاً بما ورَدَ من ذلك. فمن تقديم المفعولِ المحصورِ بإلا قولُ الشاعر [من
الطويل]
وَلَمَّا أَبَى إِلاَّ جِمَاحاً فُؤَادُهُ ... وَلَمْ
يَسْلُ عَنْ لَيْلَى بِمَالٍ ولا أَهلِ
وقول الآخر [من الطويل]
تَزَوَّدْتُ
مِنْ لَيْلَى بِتَكْلِيمِ ساعةٍ ... فَما زادَ ضِعْفَ ما بِي كَلامُها
ومن
تقديم الفاعلِ المحصورِ بها قولُ الشاعر [من البسيط]
ما عابَ إِلاَّ
لَئِيمٌ فِعْلَ ذي كَرَم ... ولا جَفَا قَطُّ إِلاَّ جُبَّأُ بَطَلاَ
وقول
الآخر [من الطويل]
نُبِّئْتُهُمْ عَذَّبوا بالنَّارِ جارَهُمُ! ...
وَهَلْ يَعَذِّبُ إِلاَّ اللهُ بالنَّارِ؟!
وقولُ غيره [من
الطويل]
فَلْم يَدْرِ إِلا اللهُ ما هَيَّجَتْ لَنا، ... عَشِيَّةَ
آناءِ الدِّيارِ، وِشامُها
والحق أَن ذلكَ كله ضَرورَةٌ سَوَّغَها
ظهورُ المعنى المرادِ ووضُوحهُ، وسَهّلها عدمُ الالتباسِ.
واعلم
أَنهُ متى وجبَ تقديمُ أَحدِهما، وجبَ تَأخيرُ الآخر بالضرورة.
تقديم
المفعول على الفعل والفاعل معاً
يجوزُ تقديمُ المفعول به على الفعل
والفاعل معاً في نحو "عليّاً أَكرمتُ. وأَكرمتُ عليّاً" ، ومنه قولهُ تعالى
{فَفريقاً كذَّبتم وفَريقاً تقتلونَ} .
ويجبُ تقديمهُ عليهما في
أَربعَ مَسائلَ
1- أَن يكونَ اسمَ شرطٍ، كقولهِ تعالى {من يُضلِل
اللهُ فما لهُ من هادٍ} ، ونحو "أَيَّهُمْ تُكرِمْ أُكرِمْ" ، أَو مضافاً لاسمِ
شرطٍ، نحو "هدْيَ من تَتبعْ يَتبعْ بَنوكَ" .
2- أَن يكونَ اسمَ
استفهامٍ، كقولهِ تعالى {فأيَّ آياتِ اللهِ تُنكرِونَ؟} ، ونحو "من أَكرمتَ؟
وما فعلتَ؟ وكمْ كتاباً اشتريتَ؟" أَو مُضافاً لاسم استفهامِ، نحو كتابَ من
أَخذتَ؟ "."
وأَجاز بعضُ العلماء تأخيرَ اسم الإستفهام، إذا لم يكن
الاستفهامُ ابتداءً، بل قُصِدَ الإستثباتُ من الأمر، كأن يُقالَ "فعلتُ كذا
وكذا" ، فتستثبِتُ الأمرَ بقولكَ "فعلتَ ماذا؟" . وما قولُهم ببعيدٍ من
الصواب.
3- أَن يكون "كمْ" أَو "كأيِّنْ" الخَبريَّتينِ، نحو "كم
كتابٍ مَلَكتُ!" ، ونحو "كأيِّنْ من عِلمٍ حَوَيتُ!" ، أَو مضافاً إلى "كم"
الخبريَّةِ نحو ذَنبَ كم مُذْنِبٍ غَفرتُ! "."
(أما "كأين" فلا تضاف
ولا يضاف اليها. وانما وجب تقديم المفعول به ان كان واحداً مما تقدم، لأنّ هذه
الأدوات لها صدر الكلام وجوباً، فلا يجوز تأخيرها) .
4- أَن ينصبهُ
جوابُ "أَما" ، وليسَ لجوابها منصوبٌ مُقدَمٌ غيرُهُ، كقولهِ تعالى {فأمّا
اليتيم فلا تَقهرْ، وأَمَّا السائلَ فلا تَنهرْ} .
(وانما وجب
تقديمه، والحالة هذه، ليكون فاصلاً بين "أما" وجوابها، فان كان هناك فاصل غيره
فلا يجب تقديمه، نحو "أما اليوم فافعل ما بدا لك" ) .
تقديم أحد
المفعولين على الآخر
إذا تعدَّدَت المفاعيلُ في الكلام، فلبعضها
الأصالةُ في التقدُّم على بعضٍ، إمّا بكونه مبتدأً في الاصل كما في باب "ظنَّ"
، وإمّا بكونهِ فاعلاً
في المعنى، كما في باب "أَعطى" .
(فمفعولا
"ظنّ" وأخواتها أصلهما مبتدا وخبر، فاذا قلت "علمت الله رحيماً" . فالأصل
"اللهُ رحيمٌ" . ومفعولا "أعطى" وأخواتها ليس أصلهما مبتدأ وخبراً، غير أن
المفعول الأول فاعل في المعنى، فاذا قلت "ألبستُ الفقير ثوباً" . فالفقير فاعل
في المعنى، لأنه لبس الثوب) .
فإذا كان الفعل ناصباً لمفعولين،
فالأصلُ تقديمُ المفعولِ الأوَّل، لأنّ اصله المبتدأُ، في باب "ظَنَّ" ، ولأنهُ
فاعلٌ في المعنى في باب "أَعطى" ، نحو "ظننتُ البدرَ طالعاً، ونحو" أعطيتُ
سعيداً الكتابَ ". ويجوز العكسُ إِن أُمِنَ اللَّبْسُ، نحو،" ظننتُ طالعاً
البدرَ "، ونحو" أَعطيتُ الكتابَ سعيداً "."
ويجب تقديم أَحدهما على
الآخر في أربع مسائلَ
1- أَن لا يُؤْمنَ اللّبْسُ، فيجبُ تقديمُ ما
حقّهُ التقديمُ، وهو المفعولُ الأول، نحو "أَعطيتكَ أَخاكَ" ، إن كان المخاطَبُ
هو المُعطى الآخذَ، وأخوهُ هو المعطى المأخوذ، ونحو "ظننت سعيداً خالداً" ، إن
كان سعيدٌ هو المظنونَ أنه خالدٌ. وإلا عكستَ.
2- أن يكونَ أحدُهما
اسماً ظاهراً، والآخر ضميراً، فيجبُ تقديمُ ما هو ضميرٌ، وتأخيرُ ما هو ظاهرٌ،
نحو "أعطيتُكَ درهماً" و "الدرهمَ أعطيتُهُ سعيداً" .
3- أن يكون
أحدُهما محصوراً فيه الفعلُ، فيجبُ تأخير المحصور، سواءٌ أكان المفعولَ الاولَ
أم الثاني، نحو ما اعطيتُ سعيداً إلا دِرهماً "و" ما أعطيتُ الدرهمَ إلا سعيداً
"."
4- أن يكونَ المفعولَ الأولُ مشتملاً على ضمير يعودُ إلى
المفعول الثاني، فيجب تأخيرُ الأول وتقديم الثاني، نحو "أعطِ القوسَ باريَها"
.
(فلو قُدِّم المفعولُ الأول لعاد الضمير على متأخر لفظاً ورتبة،
لأن المفعول الثاني رتبته التأخير عن المفعول الأول. أما أن كان المفعول الثاني
مشتملاً على ضمير يعود الى المفعول الأول، نحو "أعطيت التلميذَ كتابه" ، فيجوز
تقديمه على المفعول الأول، نحو "أعطيتُ كتابه التميذَ" لأن المفعول الأول، وان
تأخر لفظاً، فهو متقدم رتبة) .
(4) المُشَبَّهُ بالْمَفعول به
إن
كان معمولُ الصفةِ المُشبَّهة معرفةً، فحقُّهُ الرفعُ، لأنه فاعلٌ لها، نحو
"عليٌّ حَسَنٌ خُلقُهُ" . غيرَ أنهم إذا قصدوا المبالغةَ حوَّلوا الإسنادَ عن
فاعلها إلى ضميرٍ يسْتَتِرُ فيها يعود الى ما قبلها، ونَصبوا ما كان فاعلاً،
تشبيهاً له بالمفعول به، فقالوا "علي حَسَنٌ خُلقَهُ، بنصبِ الخُلُق على
التَّشبيه بالمفعول به، وليس مفعولاً به، لأنّ الصفةَ المشبَّهة قاصرةٌ غيرُ
متعديةٍ، ولا تمييزاً، لأنه معرفةٌ بالإضافة إلى الضمير."
والتمييزُ
لا يكونُ إلا نكرةً.
5- التَّحْذيرُ
التَّحذيرُ نصبُ
الاسمِ بفعلٍ محذوف يُفيدُ التَّنبيهَ والتّحذيرَ. ويُقدّرُ بما يُناسبُ
المقامَ كاحذَرْ، وباعِدْ، وتَجنَّبْ، و "قِ" وتَوَقَّ، ونحوها.
وفائدتُهُ
تنبيهُ المخاطبِ على أمرٍ مكروهٍ ليجتنبَهُ.
ويكونُ التحذيرُ تارةً
بلفظِ "إيّاكَ" وفروعهِ، من كلّ ضميرٍ منصوبٍ متصل للخطاب، نحو "إياكَ
والكَذِبَ، إِياكَ إِياكَ والشرَّ، إياكما من النفاقِ إياكم الضَّلالَ، إياكنَّ
والرَّذيلةَ."
ويكونُ تارةً بدونه، نحو "نفسَكَ والشرّ، الاسدَ
الاسد" .
وقد يكونُ بـ "إيّاه، وفروعهما، إذا عُطفَ على المُحذّر،
كقوله [من الهزج] "
فَلا تَصْحَبْ أَخَا الجَهْلِ ... وَإِيَّاكَ
وَإِيَّاهُ
ونحو "إيّايَ والشرَّ" . ومنه قولُ عُمرَ، "إيايَ وان
يَحذفَ أحدكمُ الأرنبَ، يريد أن يحذفها بسيفٍ ونحوهِ. وجعلَ الجمهورُ ذلك من
الشُّذوذ."
ويجبُ في التّحذيرِ حذفُ العامل مع "إيَّاكَ" في جميع
استعمالاته، ومعَ غيره، إن كُرِّر او عطفَ عليه، كما رأَيتَ. وإلا جازّ ذِكرُه
وحذفُهُ،
نحو: "الكسلَ، نفسكَ الشرَّ" فيجوز في هذا أن تقول:
"احذَرْ، أو توقّ الكسلَ، قِ نفسكَ الشرَّ، او أُحذِّرُكَ الشرَّ" .
وقد
يُرفعُ المكرّرُ، على أنهُ خبرٌ لمبتدأ محذوفٍ، نحو "الأسدُ الأسدُ" أي هذا
الأسدُ.
وقد يُحذَفُ المحذورُ منه، بعد "إياك" وفروعهِ، اعتماداً
على القرينة، كأنْ يُقال "سأفعلُ كذا" فتقولُ "إياكَ" ، أَي "إياك أَن تفعله"
.
وما كان من التّحذير بغير "إياك" وفروعهِ، جاز فيه ذكرُ المُحذَّر
والمحذَّر منه معاً، نحو "رجلَكَ والحجرَ" وجازَ حذفُ المحذّر وذكرُ المحذّر
منه وحدَهُ، نحو "الأسدَ الاسدَ" . ومنه قولهُ تعالى {ناقةَ اللهِ وسُقياها}
.
6- الإِغراءُ
الإِغراءُ نصبُ الاسمِ بفعلٍ محذوفٍ
يُفيدُ الترغيبَ والتشويقَ والإِغراءَ. ويقدَّرُ بما يُناسبُ المقامَ كالزَمْ
واطلُبْ وافعلْ، ونحوها.
وقائدتُه تنبيهُ المخاطَبِ على أمرٍ محمودٍ
ليفعلُه، نحو "الاجتهادَ الاجتهادَ" مو "الصِدقَ وكرَمَ الخلقِ" .
ويجبُ
في هذا البابِ حذفُ العاملِ إن كُرّرَ المُغرَى به، أو عُطِفَ عليهِ، فالأولُ
نحو "النَجدةَ النَّجدةَ" . ومنه قول الشاعر [من الطويل]
أَخاكَ
أَخَاكَ، إنَّ مَنْ لا أَخا لَهُ ... كساعٍ إلى الهَيْجا بِغَيْرِ سِلاَحِ
وإِنَّ
ابْنَ عَمِّ المَرْءِ فاعلَمْ، جَناحُهُ ... وهَلْ يَنْهَضُ البازِي بِغَيْرِ
جَنَاحِ
والثاني نحو "المُروءةَ والنّجدةَ" . ويجوزُ ذِكرُ عاملهِ
وحذفه إن لم يُكرّر ولم يُعطَفْ عليه، نحو "الإِقدامَ، الخيرَ" . ومنه
"الصّلاةَ جامعةً" . فإن أظهرتَ العاملَ فقلتَ "اِلزمِ الإقدام، إفعَلِ الخيرَ،
أُحضُرِ الصلاة" ، جازَ.
وقد يُرفعُ المكرَّرُ، في الإغراءِ، على
أنهُ خبرٌ لمبتدأ محذوف، كقوله [من الخفيف]
إِنَّ قَوْماً مِنْهُمْ
عُمَيْرٌ وأَشبا ... هُ عُميْرٍ، ومِنْهُمُ السَّفَّاحُ
لَجَدِيرُونَ
بالوَفاءِ إِذَا قا ... لَ أَخُو النَّجْدةِ. السِّلاَحُ السِّلاَحُ
7-
الاختِصاصُ
الاختصاصُ نصبُ الاسمِ بفعلٍ محذوفٍ وجوباً تقديرُهُ
"أَخصُّ، أو أعْني" . ولا يكونُ هذا الاسمُ ضميرٍ لبيان المرادِ منه، وقَصرِ
الحكمِ الذي للضمير عليه، نحو "نحنُ - العرَبَ - نُكرِمُ الضّيفَ" . ويُسمّى
الاسمَ المُختصّ.
(فنحن مبتدأ، وجملة نكرم الضيف خبره. والعربَ
منصوب
على الاختصاص بفعل محذوف تقديره "أخصّ" . وجملة الفعل المحذوف
معترضة بين المبتدأ وخبره. وليس المراد الإخبار عن "نحن" بالعرب، بل المراد أن
اكرام الضيف مختص بالعرب ومقصور عليهم.
فان ذُكرَ الاسمُ بعد المضير
للاخبار به عنه، لا لبيان المراد منه، فهو مرفوع لأنه يكون حينئذ خبراً
للمبتدأ. كأن تقول "نحنُ المجتهدون" أو "نحن السابقون" .
ومن النصب
على الاختصاص قولُ الناس "نحنُ - الواضعين أسماءنا أدناه - نشهد بكذا وكذا" .
فنحن مبتدأ، خبره جملة "نشهد" والواضعين مفعول به لفعل محذوف تقديره "نخصّ، أو
نعني" ) .
ويجبُ أن يكونَ مُعرّفاً بأل، نحو "نحنُ - العربَ - أوفى
الناسِ بالعُهود" ، أو مضافاً لمعرفةٍ، كحديث "نحنُ - مَعاشرَ الأنبياء - لا
نورثُ ما تركناهُ صدَقةٌ" ، أو عَلَماً، وهو قليلٌ، كقول الراجز "بنا - تَميماً
- يُكشَفُ الضَّبابُ" . أما المضافُ إلى العَلَمِ فيكونَ على غيرِ قِلّةٍ،
كقولهِ "نحنُ - بَني ضَبَّةَ أصحابَ الجَمَل" . ولا يكونُ نكرةً ولا ضميراً ولا
اسمَ إشارة ولا اسمَ موصولٍ.
وأكثرُ الأسماءِ دخولاً في هذا البابِ
"بنو فلان، ومعشر (مضافاً) ، وأهلُ البيتِ، وآلُ فلانٍ" .
واعلمْ أن
الأكثر في المختصِّ أن يَلي ضميرَ المتكلِّمِ، كما رأيتَ. وقد يلي ضميرَ
الخطاب، نحو "بكَ - اللهَ. ارجو نجاحَ القصدِ" و "سُبحانَكَ - اللهَ - العظيمَ"
. ولا يكون بعدَ ضميرِ غيبة.
وقد يكون الاختصاصُ بلَفظ "أَيُّها
وأَيَّتُها" ، فيُستعملان كما يستعملان
في النّداءِ، فيبنيان على
الضمِّ، ويكونانِ في محلِّ نصبٍ بأخُص محذوفاً وجوباً، ويكونُ ما بعدَهما اسماُ
مُحَلًّى بألْ، لازمَ الرفعِ على أنه صفةٌ لِلَفظهما، أو بدلٌ منه، أو عطفُ
بيانٍ لهُ. ولا يجوزُ نصبه على أنه تابعٌ لمحلّهما من الإعراب. وذلك نحو "أَنا
أفعلُ الخيرَ، أيُّها الرجلُ، ونحن نفعلُ المعروفَ، أيُّها القومُ" . ومنه
قولهم "أَللهمَّ اغفر لنا، أَيَّتُها العَصابةُ" .
(ويراد بهذا
النوع من الكلام الاختصاص، وإن كان ظاهره النداء. والمعنى "أنا أفعل الخير
مخصوصاً من بين الرجال، ونحن نفعل المعروف مخصوصين من بين القوم, واللهمّ اغفر
لنا مخصوصين من بين العصائب" . ولم ترد بالرجل إلا نفسك ولم يريدوا بالرجال
والعصابة إلا أنفسهم. وجملة "أخص" المقدّرة بعد "أيها رأيتها" في محل نصب على
الحال) .
8- الاشتغالُ
الاشتغالُ أن يَتقدَّمَ اسمٌ على
من حقِّهِ أن يَنصِبَه، لولا اشتغالهُ عنه بالعمل في ضميرهِ، نحو "خالدٌ
أَكرمتُهُ" .
(إذا قلت "خالداً أكرمتُ" ، فخالداً مفعول به لأكرمَ.
فان قلتَ "خالدٌ أكرمته" ، فخالدٌ حقه أن يكون مفعولاً به لأكرم أيضاً، لكنّ
الفعلَ هنا اشتغل عن العمل في ضميره، وهو الهاء. وهذا هو معنى الاشتغال) .
والأفضلُ
في الاسم المقتدمِ الرفعُ على الابتداء، كما رأيتَ. الجملةُ بعدَهُ خبرهُ.
ويجوز نصبُهُ نحو "خالداً رأيتهُ" .
وناصبُهُ فعلٌ وجوباً، فلا
يجوزُ إظهارهُ. ويُقدَّرُ المحذوفُ من لفظِ المذكور. إلا أن يكونَ المذكورُ
فعلاً لازماً متعدياً بحرف الجر، نحو "العاجزَ أخذتُ بيدهِ" و "بيروتَ مررتُ
بها" ، فَيُقدّرُ من معناهُ.
(فتقدير المحذوف "رأيت" . في نحو
"خالداً رأيته" .
وتقديره "أعنت، أو ساعدت، في نحو" العاجزَ أخذت
بيده ". وتقديره" جاوزت "في نحو" بيروتَ مررت بها ") ."
وقد يَعرِضُ
للاسمِ المُشتَغَلِ عنه ما يوجبُ نصبَهُ أو يُرَجّحُهُ، وما يوجبُ رفعَهُ
أويُرَجّحُهُ.
فيجبُ نصبُهُ إذا وقعَ بعدَ أدواتِ التّحضيضِ والشرطِ
والاستفهامِ غير الهمزةِ، نحو "هلاّ الخيرَ فعلتَهُ. إنْ علياً لقيتَهُ فسَلّمْ
عليهِ, هل خالداً أَكرمتَهُ؟" .
(غير أن الاشتغال بعد أدوات
الاستفهام والشرط لا يكون الا في الشعر. الا أن تكون أداة الشرط "أن" والفعل
بعدها ماض، أو "إذا" مطلقاً، نحو "إذا عليّاً لقيته، أو تلقاه فسلم عليه" . وفي
حكم "اذا" . في جواز الاشتغال بعدها في النثر، "لو ولولا" ) .
ويُرجَّحُ
نصبُهُ في خمسِ صُوَر
1- أن يقعَ بعد الاسمِ أمرٌ، نحو "خالداً
أَكرِمْهُ" و "عليّاً لِيُكرِمْهُ سعيدٌ" .
2- أن يقعَ بعدَهُ نهيٌ،
نحو "الكريمَ لا تُهِنهُ" .
3- أن يقعَ بعدَهُ فعلُ دُعائي، نحو
"اللهمَّ أمرِيَ يَسّرّهُ، وعَمَلي لا"
تُعَسّرْهُ ". وقد يكونُ
الدعاءُ بصورةِ الخبرِ، نحو" سليماً غفرَ اللهُ لهُ، وخالداً هداهُ اللهُ
"."
(فالكلام هنا خبري لفظاً، انشائيَّ دعائي معنى. لأنّ المعنى
اغفر اللهم لسليم، واهدِ خالداً. وانما ترجح النصب في هذه الصور لأنك ان رفعت
الاسم كان خبره جملة انشائية طلبية، والجملة الطلبية يضعف الإخبار بها) .
4-
أن يقعَ الإسمُ بعدَ همزة الاستفهام، كقوله تعالى {أَبشَراً مِنّا واحداً
نَتَّبعُهُ؟} .
(وانما ترجح النصب بعدها لأن الغالب ان يليها فعلٌ،
ونصبُ الاسم يوجبُ تقديرَ فعل بعدها) .
5- أن يقعَ جواباً
لمُستفهَمٍ عنه منصوبٍ، كقولك "عليّاً أَكرمتُهُ" ، في جواب من قال "مَنْ
أَكرمتَ؟" .
(وانما ترجح النصب لأنّ الكلام في الحقيقة مبنيّ على ما
قبله من الاستفهام) .
ويجبُ رفعُهُ في ثلاثة مواضعَ
1-
أن يقعَ بعدَ "إذا الفجائيَّةِ" نحو "خرجت فإذا الجوُّ يَملَؤُهُ الضَّبابُ"
.
(وذلك لأن "اذا" هذه لم يؤوّلها العربُ الا مبتدأ، كقوله تعالى
{ونزعَ يده فإذا هي بيضاء للناظرين} ، او خبراً، كقوله سبحانه {فاذا لهم مكرٌ
في آياتنا} . فلو نُصب الاسمُ بعدها، لكان على تقدير فعل بعدها، وهي لا تدخل
على الأفعال) .
2- أن يقعَ بعدَ واو الحال، نحو "جئتُ والفرسُ
يَركبُهُ أَخوكَ" .
3- أن يقعَ قبلَ أدوات الاستفهام، أو الشرط، أو
التحضيص، أو ما النافية، أو لامِ الإبتداء، أو ما التَّعجبيةِ، أو كم الخبرية،
أو "إنَّ" وأَخواتها، نحو "زُهيرٌ هل أَكرمتَهُ؟، سعيدٌ فأكرِمه، خالدٌ هلاَّ
دعوتهُ، الشرُّ ما فعلتُهُ، الخيرُ لأنا أَفعلُهُ، الخلُق الحَسَنُ ما
أَطيبَهُ!، زُهيرٌ كم أكرمتُهُ!، أُسامةُ إني أَحِبُّهُ" .
(فالاسم
في ذلك كله مبتدأ. والجملة بعده خبره. وانما لم يجز نصبه بفعل محذوف مفسر
بالمذكور. لأن ما بعد هذه الأدوات لا يعمل فيما قبلها. وما لا يعمل لا يفسر
عاملاً) .
ويُرَجَّحُ الرفعُ، إذا لم يكن ما يوجبُ نصبَهُ، أو
يرَجِّحُه، أو يوجبُ رفعَه، نحو "خالدٌ أكرمتُهُ" . لأنهُ إذا دار الامرُ بينَ
التقديرِ وعدَمِهِ فتركهُ أولى.
9- التَّنازُعُ
التَّنازُعُ
أن يَتوجهَ عاملانِ مُتقدمانِ، أو أكثرُ، إلى معمول واحدٍ مُتأخرٍ أو أكثر،
كقوله تعالى {آتوني أُفرغْ عليه قِطراً} .
(آتوا فعل أمر يتعدى الى
مفعولين. ومفعوله الأول هو الياء، ضميرُ المتكلم. وهو يطلب "قطراً" ليكون
مفعوله الثاني. و "أفرغ" فعل مضارع متعد الى مفعول واحد. وهو يطلب "قطراً"
ليكون ذلك المفعول. فأنت ترى أنّ "قطراً" قد تنازعه عاملانِ، كلاهما يطلبه
ليكون مفعولاً به له، لأنّ التقدير {آتوني قطراً أفرغه عليه} . وهذا هو معنى
التنازع) .
ولكَ أن تُعمِلَ في الاسم المذكور أيَّ العاملَينِ شئتَ.
فإن أعملت الثاني فَلقُربهِ، وإن أعملت الأولَ فلسبَقهِ.
فإن
أَعملتَ الأوَّلَ في الظاهرِ أَعملتَ الثانيَ في ضميرهِ، مرفوعاً كان أم
غيرَهُ، نحو:
"قامَ، وقعدا، أخواك * اجتهدَ، فأكرمتُهما، أخواك *
وقفَ، فسلمتُ عليهما، أخواك * أكرمتُ، فَسُرّا، أخَويْكَ * أكرمتُ، فشكرَ لي،
خالداً" .
ومن النُّحاة من أجاز حذفه، إن كان غيرَ ضميرِ رفعٍ،
لأنهُ فضلةٌ، وعليه قول الشاعر [من مجزوء الكامل]
بِعُكاظَ يُعْشي
النَّاظِريـ ... ـنَ، إذا هُمُ لَمَحُوا، شُعاعُهْ
وأن أعملتَ
الثانيَ في الظاهر، أعملتَ الأولَ في ضميرهِ، إن كان مرفوعاً نحو:
"قاما،
وقعدَ أخواك * اجتهدا، فأكرمتُ أخوَيْك * وَقَفا، فسَلَّمتُ على أخويكَ" .
ومنه
قولُ الشاعر [من الطويل]
جَفَوْني، ولم أَجفُ الأَخِلاَّءَ، إِنَّني
... لِغَيْرِ جَميلٍ مِنْ خَلِيلَي مُهْمِلُ
وإن كان ضميرُهُ غير
مرفوعٍ حذفتَهُ، نحو
"اكرمتُ، فَسُرَّ أخواك * أكرمتُ، فشكرَ لي
خالدٌ * أكرمتُ، وأكرَمني سعيدٌ * مررتُ، ومَرَّ بي علىُّ."
ولا
يقال
"أكرمتهما، فَسُرَّ أخواكَ * أكرمتُهُ، فشكرَ لي خالد *
أكرمتُهُ، وأكرمني سعيدٌ * مررتُ به، ومرَّ بي عليَّ."
وأمّا قول
الشاعر [من الطويل]
إذا كُنْتَ تُرْضِيهِ، وَيُرْضيكَ صاحبٌ ...
جِهاراً، فَكُنْ في الْغَيْبِ أَحفَظَ للعَهْدِ
وَأَلْغِ أَحاديثَ
الْوُشاة، فَقَلَّما ... يُحاوِلُ واشٍ غَيْرَ هِجْرانِ ذِي وُدِّ
بإظهار
الضمير المنصوب في "تُرضيه" ، فضرورةٌ لا يحسُنُ ارتكابها عند الجمهور. وكان
حقُّهُ ان يقول "إذا كنت تُرضي، ويُرضيكَ صاحبٌ" . وأجازَ ذلك بعضُ مُحَقّقي
النّحاة.
(وذهب الكسائيّ ومن تابعه الى أنه أذا اعملتَ الثاني في
الظاهر، لم تُضمر الفاعلَ في الاول بل يكون فاعله محذوفاً لدلالة ما بعده عليه
(لانه يُجيز حذف الفاعل اذا دل عليه دليل) . فاذا قلت "اكرمني فسرّني زهيرُ" ،
فان جعلت زهيراً فاعلاً لسرّ، كان فاعل "أكرمَ" (على رأى سيبويه والجمهور)
ضميراً مستتراً يعود اليه. وعلى رأي الكسائي ومن وافقه يكون فاعل "اكرمَ"
محذوفاً لدلالة ما بعده عليه. ويظهر اثر الخلاف في التثنية والجمع، فعلى رأي
سيبويه يجب ان تقول (ان اعملت الثاني) "اكرماني، فسرَّني صديقايَ. واكرموني،
فسرَّني اصدقائي" . وتقول على مذهب الكسائي ومن تابعه "اكرمني، فسرَّني
صديقايَ. واكرمني، فسرَّني اصدقائي" . فيكون الاسم الظاهر فاعلاً للثاني. ويكون
فاعل الاول محذوفاً. وما قاله الكسائي ليس ببعيدٌ، لان العرب تستغني في كلامها
عما يُعلم لو حُذف، ولو كان عمدة. ولهذا شواهدُ من كلامهم. اما لو اعملتَ الاول
في الاسم الظاهر، فيجب بالاتفاق الإضمار في الثاني، نحو "اكرمني، فسرَّاني،
صديقايَ، واكرمني، فسرّوني، اصدقائي" .
والذي دعا الكسائيّ الى ما
ذهب اليه، انه لو لم يحذف الفاعل،
لوجب أن يكون ضميراً عائداً على
الاسم الظاهر المتأخر لفظاً ورتبة، وذلك قبيح. وقال سيبويه ان عود الضمير على
المتأخر أهون من حذف الفاعل، وهو عمدة، والحقّ أنَّ لكل وجهاً، وانّ الإضمار
وتركه على حد سواء. وقد ورد في كلامهم ما يؤيج ما ذهب اليه الفريقان. فقول
الشاعر جفوني ولم اجف الاخلاءَ ... "شاهدٌ لسيبويه وقول الآخر [من الطويل] "
تعفق
بالارطى لها وأرادها ... رجالٌ، فبذَّت نبلَهم وكَليبٌ
(شاهدٌ
للكسائي فهو لا يُضمر في واحد من الفعلين. ولو اضمر في الاول واعمل الثاني لقال
"تعفقوا بالارطى وأرادها رجال" . ولو اضمر في الثاني واعمل الاول، لقال "تعفق
بالارطى ورادوها رجال" ) .
واعلم أنهُ لا يقعُ التنازعُ إلا بينَ
فعلينِ مُتصرّفينِ، او اسمينِ يُشبهانِهما، أو فعلٍ متصرفٍ واسمٍ يُشبهُه.
فالأول نحو "جاءَني، وأكرمتُ خالداً" ، والثاني كقول الشاعر [من الطويل]
عُهِدْتَ
مُغِيثاً مُغنِياً مَنْ أَجَرْتَهُ ... فَلَمْ أَتَّخِذْ إِلاَّ فِناءَكَ
مَوْئِلا
والثالثُ كقوله تعالى {هاؤُمُ اقرَأُوا كتابِيَهْ} . ولا
يقعُ بينَ حرفين ولا
بينَ حرفٍ وغيره، ولا بينَ جامدينِ، ولا بينَ
جامدٍ وغيره.
وقد يُذكَرُ الثاني لمجرَّدِ التَّقويةِ والتأكيد، فلا
عَمَلَ له، وإنَّما العمل للأوَّلِ. ولا يكونُ الكلامُ حينئذٍ من باب التنازع،
كقول الشاعر [من الطويل]
فَهَيْهَاتَ، هَيْهَاتَ، الْعَقِيقُ وَمَنْ
بهِ ... وهَيْهَاتَ خِلٌّ بالْعَقيقِ نُواصِلُهْ
وقول الآخر
فأَينَ
إلى أَينَ النَّجَاةُ ببَغْلَتِي ... أَتاكَ، أَتاكَ، اللاَّحِقُونَ، احْبِسِ
احْبِسِ
(ولو كان من باب التنازع لقال "اتوك اتاك اللاحقون" ؛
باعمال الثاني في الظاهر والإضمار في الاول، او "اتاك اتوك اللاحقون" بالإضمار
في الاول واعمال الثاني في الظاهر) .
10- القوْلُ المتَضَمِّنُ
مَعْنَ الظنِّ
قد يتضمنُ القول معنى الظن، فينصبُ المبتدأ والخبر
مفعولينِ، كما تنصبهُما "ظنَّ" . وذلك بشرطِ أن يكون الفعل مضارعاً للمخاطَب
مسبوقاً باستفهامٍ، وأن لا يُفصَلَ بينَ الفعلِ والاستفهام بغير ظرفٍ، أو جار
ومجرورٍ، أو معمولِ الفعل، كقول الشاعر [من الرجز]
مَتَى تَقُولُ
الْقُلُصَ الرَّواسِما ... يَحْمِلْنَ أُمَّ قاسمٍ وَالْقاسِما
ومثالُ
الفصل بينهما بظرفٍ زمانيّ أو مكانيّ:
أيومَ الخميس تقولُ عليّاً
مسافراً
أوَ عندَ سعيدٍ تَقولُهُ نازلاً
قال الشاعر [من
البسيط]
أَبَعْدَ بُعْدٍ تَقولُ الدَّارَ جامعةً ... شَمْلي بهمْ؟
أَمْ تَقول البُعْدَ مَحْتوما؟!
ومثالُ ما فُصِلَ فيه بينهما
بالجارّ والمجرور "أبا الكلامِ تقول الأمّةَ بالغةً مجدَ آبائها الأوَّلينَ؟" .
ومثالُ الفصلِ بمعمول الفعل قولُ الشاعر [من الوافر]
أجُهَّالاً
تَقُولُ بني لُؤَيِّ؟ ... لَعَمْرُ أَبِيكَ، أَمْ مُتَجاهِلينا؟
فإن
فُقد شرطٌ من هذه الشروطِ الأربعة، تَعيّنَ الرفعُ عند عامة العربِ، إلا بني
سلَيمٍ، فهم ينصبون بالقول مفعولينِ بلا شرطٍ.
ولا يجب في القول
المُتَضمّنِ معنى الظن، المُستوفي الشروط، أن ينصب المفعولين، بل يجوز رفعُهما
على أنهما مبتدأ وخبر، كما كانا.
وإن لم يتضَمنِ القولُ معنى الظن
فهو مُتعد إلى واحد. ومفعولهُ إمّا مفرد (أي غير جملةٍ) ، وإمّا جملةٌ محكيّة.
فالمفرد على نوعينِ مفردٍ في معنى الجملةِ، نحو "قلت شعراً، أو خطبةً، أَو
قصيدة أَو حديثاً" ، ومفردٍ يُرادُ به مُجردُ اللفظِ، مثلُ "رأيتُ رجلاً يقولون
له خليلاً" (أي يُسمُّونه بهذا الاسم) وأمَّا الجملة المحكِيَّة بالقول، فتكونُ
في موضع نصب على أنها مفعوله، نحو "قلتُ لا إلهَ إلا اللهُ" .
وهمزةُ
"إنَّ" تكسرُ بعد القول العَري عن الظن، وتُفتح بعد القول المَتضمّن معناهُ.
كما سبق في مبحث "أن" .
11- الإِلغاءُ والتَّعْليقُ في أَفعال
الْقُلُوب
الإلغاءُ إِبطال عملِ الفعلِ القلبيِّ الناصبِ للمبتدأ
والخبر لا لمانعٍ، فيعودان مرفوعينِ على الابتداءِ والخبرّةِ، مثل "خالدٌ كريم
ظننت" .
والإلغاء جائز في أَفعالِ القلوب إِذا لم تَسبقْ مفعولَيها.
فإن تَوسطت بينهما فإعمالُها وإلغاؤها سِيّانِ. تقول "خليلاً ظننت مجتهداً" و
"خليلٌ ظننتُ مجتهد" . وإن تأخرت عنهما جاز أن تَعمَل وإلغاؤها أَحسن، تقول
"المطر نازل حَسِبتُ" ، و "الشمس طالعةً خلت" . فإن تقدَّمت مفعولَيها، فالفصيح
الكثيرُ إعمالها، وعليهِ أكثرُ النُّحاةِ، تقول "رأيتُ الحقَّ أَبلجَ" . ويجوزُ
إهمالُها على قِلةٍ وضعفٍ، وعليه بعضُ النُّحاةِ، ومنه قولُ الشاعر [من
البسيط]
أَرْجُو وآمُلُ أنْ تَدْنو مَوَدَّتُها ... وما إخالُ
لدَيْنا منْك تنويلُ
وقول الآخر [من البسيط]
كَذَاكَ
أُدِّبْتُ، حتَّى صارَ مِنْ خُلقِي ... أَنِّي وَجَدْتُ مِلاكُ الشِّيمةِ
الأَدَبُ
والتعليقُ إِبطالُ عملِ الفعل القلبيِّ لفظاً لا محلاً،
لمانع، فتكونُ الجملةُ بعده في موضع نصبٍ على أَنها سادَّةٌ مَسدَّ مفعوليهِ،
مثل علمتُ لخَالد شجاعٌ "."
فيجبُ تعليقُ الفعلِ، إذا كان هناك
مانعٌ من إعماله. وذلك إذا وقع بَعدَهُ أحدُ أربعةِ أَشياءَ
1- ما
وإنْ ولا النافياتُ نحو "علمتُ ما زُهيرٌ كسولاً. وظَننتُ إنْ فاطمة مُهملة.
ودخلتُ لا رجلَ سُوءٍ موجودٌ. وحَسِبتُ. لا أُسامةُ بطيءٌ،"
ولا
سُعادُ "، قال تعالى" لَقد علمتَ، ما هؤلاءِ يَنطقونَ "."
2- لامُ
الابتداءِ، مثلُ علمتُ "لأخوكَ مجتهدٌ. وعلمتُ إنَّ أخاكَ لمجتهدٌ" . قال تعالى
{ولقد علموا لِمَنِ اشتراهُ مالَهُ في الآخرةِ من خلاقٍ} .
3- لامُ
القسمِ، كقول الشاعر [لبيد / من الكامل]
وَلَقَدْ عَلِمْتُ
لَتأْتِيَنَّ مَنِيَّتي ... إنَّ الْمَنَايَا لا تَطِيشُ سِهَامُها
4-
الاستفهامُ، سواءٌ أكان بالحرف، كقوله تعالى {وإنْ أدري أقريبٌ أم بعيدٌ ما
تُوعدُونَ؟} أم بالاسمِ، كقوله عزّ وجلّ {لنَعلَمَ أيُّ الحزبينِ أحصى لِما
لَبِثوا أمداً؟} ، وقوله {لَتَعلمُنَّ أيُّنا أشدُّ عذاباً؟} . وسواءٌ أكانَ
الاستفهام مبتدأ، كما في هذه الآيات، أم خبراً، مثل "علمتُ مَتى السّفرُ؟" ، أم
مضافاً إلى المبتدأ، مثل "علمتُ فَرَس أيهم سابقٌ؟" أم إلى الخبر، مثل "علمتُ
ابنُ مَن هذا؟" .
وقد يُعلقُ الفعلُ المتعدي، من غير هذه الأفعالِ،
عن العمل، كقوله تعالى {فَليَنظُر أيُّها أزكى طعاماً؟} ، وقوله
{ويَستنبئُونَكَ أحقّ هُوَ؟} .
وقد اختُصَّ ما يتصرّفُ من أفعال
القُلوب بالإلغاءِ والتَّعليقِ. فلا يكونانِ في "هَبْ وتَعلَمْ" ، لأنهما
جامدانِ.
وقد علمت أن الإلغاء جائز عند وجودِ سبيلهِ، وأن المُلغى
لا عملَ له البتَةَ، وإنَّ المعلَّقَ، إن لم يعملْ لفظاً فهو يعمل النصبَ في
مَحلِّ الجملةِ، فيجوزُ العطفُ بالنصب على محلها، فنقولُ "علمتْ لخالد شجاعُ
وسعيداً كريماً" ، بالعطف على مَحلّ "خالد وسعيد" ، لأنهما مفعولان للفعل
المعلّق عن نصبهما بلام الإبتداءِ. ويجوز رفعُهما بالعطف على اللفظ، قال الشاعر
[كثير عزة / من الطويل]
وما كُنْتُ أَدْرِي قَبْلَ عَزَّةَ. ما
الْبُكا ... ولا مُوجِعاتُ الْقَلْبِ؟ حَتَّى تَوَلَّتِ
يُروَى بنصب
موجعات، عطفاً على محل "ما البكا" . ويجوزُ الرفعُ عطفاً على البكا.
والجملةُ
بعدَ الفعلِ المُعلَّقِ عن العمل في موضع نصبٍ على المفعولية. وهي سادّةٌ
مَسدَّ المفعولينِ، إن كان يتعدّى إلى اثنينِ ولم ينصب الأوّلَ. فإن نصبَهُ
سدَّت مسدّ الثاني، مثلُ "علمتكَ أيَّ رجلٍ أنتَ؟" .
وإن كان يتعدّى
إلى واحدٍ سدّت مسدّهُ، مثل "لا تأتِ أمراً لم تعرفْ ما هُوَ؟" .
وإن
كان يتعدَّى بحرف الجرّ، سقطَ حرفُ الجرّ وكانت الجملة منصوبة محلاًّ بإسقاط
الجارِّ (وهو ما يسمُّونهُ النصبَ على نَزع الخافض) ، مثل "فكَّرت أصحيحٌ هذا
أم لا؟" ، لأن فكَّرَ يتعدَّى بفي، تقول "فكَّرْتُ في الأمر" .
(المفعولُ
المطلقُ)
المفعولُ المطلَقُ مَصدرٌ يُذكرُ بعد فعلٍ من لفظهِ
تأكيداً لمعناهُ، أو بياناً لِعَددِهِ، أو بياناً لنوعهِ، أو بَدَلاً من
التلفُّظِ بفعلهِ. فالأول نحو {وكلّم اللهُ مُوسى تكليماً} . والثاني نحو
"وقفتُ وقفتينِ" . والثالثُ نحو "سرتُ سيرَ العُقلاءِ" . والرابعُ نحو "صَبراً
على الشدائد" .
واعلم أنّ ما يُذكرُ بدلاً من فعلهِ لا يُرادُ به
تأكيدٌ ولا بيان عددٍ أو نوع.
وفي هذا المبحث ستَّةَ مَباحث.
1-
الْمَصْدَرُ المُبْهَمُ وَالْمَصْدَرُ المُخْتَصُّ
المصدرُ نوعانِ
مُبهمٌ ومُختَص.
فالمُبهم ما يُساوي معنى فعلهِ من غير زيادةٍ ولا
نقصانٍ، وإنما يُذكرُ لمجرّد التأكيد، "قمتُ قياماً. وضربتُ اللصّ ضرباً" ، أو
بدَلاً من التّلفّظِ بفعلهِ، نحو "إيماناً لا كُفْراً" ، ونحو "سَمعاً وطاعةً"
، إذِ المعنى "آمِنْ ولا تكْفُرْ، وأَسمعُ وأُطيعُ" .
ومن ثمَّ لا
يجوزُ تثنيتُهُ ولا جمعهُ، لأنَّ المؤكدَ بمنزلةِ تكرير الفعلِ،
"والبدل
من فعلهِ بمنزلةِ الفعلِ نفسهِ، فعُومِلَ مُعاملتَهُ في عدَمِ التثنيةِ
والجمعِ."
والمختصُّ ما زادَ على فعلهِ بإفادتهِ نوعاً أو عدداً،
نحو "سرتُ سَيرَ العُقلاءِ. وضربتُ اللصَّ ضرْبَتينِ، أو ضَرَباتٍ" .
والمُفيدُ
عَدَداً يُثنّى ويُجمَعُ بلا خلافٍ. وأمّا المُفيدُ نوعاً، فالحقُّ أن يُثنَّى
ويُجمَعُ قياساً على ما سُمعَ منهُ كالعقولِ والألبابِ والحُلُوم وغيرها
فيَصحُّ أن يُقالَ "قمتُ قِيامَينِ" ، وأنتَ تُريدُ نوعينِ من القيام.
ويَختصُّ
المصدرُ بألْ العهديَّةِ، نحو "قمتُ القيامَ" ، أي "القيامَ الذي تَعهَدُ" ،
وبأل الجنسيّةِ، نحو "جلستُ الجلوسَ" ، تُريدُ الجنسَ والتنكير، وبوصَفهِ، نحو
"سعيتُ في حاجتك سعياً عظيماً، وبإضافته، نحو" سرتُ سيرَ الصالحينَ "."
2-
الْمَصْدَرُ المُتَصَرِّفُ والْمَصْدَرُ عَيْرُ الْمُتَصَرِّفِ
المصدرُ
المتصرّف ما يجوزُ أن يكونَ منصوباً على المصدريّة، وأن ينصرف عنها إلى وقوعهِ
فاعلاً، أو نائبَ فاعلٍ، أو مبتدأ، أو خبراً، أو مفعلواً بهِ، أو غيرَ ذلك. وهو
جميعُ المصادر، إلا قليلاً جِدًّا منها. وهو ما سيُذكر.
وغيرُ
المتصرّفِ ما يُلازمُ النصبَ على المصدريَّة، أي المفعوليّة المطلقةِ؛ لا
يَنصرف عنها إلى غيرها من موقاع الإعراب، وذلك نحو
سبحان ومَعاذَ
ولَبيّكَ وسَعدَيكَ وحنَانَيكَ ودوَاليكَ وحَذارَيك ". وسيأتي الكلام على هذه
المصادر."
3- النائبُ عن المَصْدَر
ينوب عن المصدر -
فيُعطَى حكمَه في كونهِ منصوباً على أنه مفعولٌ مُطلَقٌ - اثنا عَشرَ شيئاً
1-
اسم المصدرِ، نحو "أعطيتُك عَطاءً" ، و "اغتسلتُ غُسلاً" و "كلّمتكَ كلاماً" و
"سلّمتُ سلاماً" .
2- صفتهُ، نحو "سرت أحسنَ السيرِ" و {اذكروا الله
كثيراً} .
3- ضميرُهُ العائدُ اليهِ، نحو "اجتهدتُ اجتهاداً لم
يجتهدهُ غيري" . ومنه قَولهُ تعالى {فإني أعذِّبُهُ عذاباً لا أعَذبُهُ أحداً
من العالمينَ} .
4- مرادفُهُ - بأن يكون من غير لفظهِ، معَ تَقارُب
المعنى - نحو "شَنِئْتُ الكسلانَ بُغضاً" . و "قمت وقُوفاً" و "رُضتُه إذلالاً"
و "أعجبني الشي حُباً" ، وقال الشاعر [من الرجز]
يُعْجبُهُ
السَّخُونُ والبَرُودُ ... والتَّمْرُ، حُبًّا ما لَهُ مَزِيدُ
5-
مصدر يُلاقيهِ في الاشتقاقِ، كقولهِ تعالى {واللهُ أنبتَكم من الأرض نبَاتاً} ،
وقولهِ {تَبتَّلْ إليهِ تَبتيلاً} .
6- ما يَدلُّ على نوعه، نحو
"رجعَ القهقرَى" و "قعدَ القُرفُصاءَ" و "جلسَ الاحتباءَ" و "اشتمل الصّمّاءَ"
.
7- ما يدلُّ على عدده نحو "أنذرتُك ثلاثاً" ، ومنه قولهُ تعالى
{فاجلدوا كلَّ واحدٍ منهما ثمانينَ جلدةً} .
8- ما يدلُّ على آلته
التي يكونُ بها، نحو "ضربتُ اللصَّ سَوطاً، أو عصاً، ورشقتُ العدوَّ سهماً، أو
رَصاصةً أو قذيفةً. وهو يَطّردُ في جميع أسماءِ آلاتِ الفعلِ. فلو قلتَ" ضربتُه
خشبةً، أو رميتُه كرسيّاً، لم يَجُز لأنهما لم يُعهَدا للضرب والرمي.
9-
"ما" وأَيُّ "الإستفهاميَّتان، نحو" ما أكرمتَ خالداً؟ "و" أَيَّ عيشٍ تعيش؟ "،
ومنه قوله تعالى {وسيعلمُ الذين ظَلموا أَيَّ مُنقلب ينقلبون} ."
10-
"ما ومهما وأَيُّ" الشَّرطيّاتُ "ما تجلسْ أجلسْ "و" مهما"
تقِفْ
أَقِفْ "و" أَيَّ سَيرٍ تَسِرْ أَسِرْ "."
11- لفظ كل وبعضٍ وأي
الكماليّة، مضافاتٍ إلى المصدرِ، نحو {فلا تَميلوا كلَّ المَيلِ} و "سَعَيتُ
بعضَ السعيِ" "واجتهتدتُ أيَّ اجتهادٍ" .
(وهذا في الحقيقة من صفة
المصدر عنه، لان التقدير "فلا تميلوا ميلاً كلّ الميل. وسعيت سعياً بعضَ السعي.
واجتهدت اجتهاداً أيّ اجتهاد" .
وسميت "أيّ" هذه بالكمالية، لأنها
تدل على معنى الكمال. وهي إذا وقت بعد النكرة كانت صفة لها، نحو "خالدٌ رجلٌ
أيّ رجلٍ" أي هو كامل في صفات الرجال. وإذا وقعت بعد المعرفة كانت حالاً منها،
نحو "مررت بعبد اللهِ أيّ رجل" . ولا تُستعمل إلا مضافة وتطابق موصوفها في
التذكير والتأنيث، تشبيهاً لها بالصفات المشتقات. ولا تطابقه في غيرهما) .
12-
اسمُ الإشارةِ مُشاراً به إلى المصدر، سواءٌ أَأُتبعَ بالمصدر، نحو "قلتُ ذلكَ
القولَ" أم لا، كأن يُقال "هل اجتهدتَ اجتهاداً حسَناً؟" ، فتقولُ "اجتهدتُ
ذلك" .
4- عاملُ الْمَفْعول المُطْلَق
يعملُ في المفعولِ
المُطلقِ أحدُ ثلاثةِ عواملَ الفعلُ التام المتصرّفُ، نحو "أتقِنْ عملَك
إتقاناً" ، والصفةُ المُشتقّةُ منهُ، نحو "رأيتُهُ مُسرعاً إسراعاً عظيماً" ،
ومصدرُه، نحو "فرحتُ باجتهادك اجتهاداً حسناً" ، ومنه قوله تعالى {فَإِنَّ
جَهَنَّمَ جَزَآؤُكُمْ جَزَاءً مَّوْفُوراً} [الإسراء: 63] .
5-
أَحكامُ المفعولِ المطلَق
للمفعول المطلق ثلاثةُ أَحكام
1-
أنهُ يجبُ نصبُه.
2- أنهُ يجبُ أن يقعَ بعدَ العامل، إن كان
للتأكيد. فإن كان للنَّوع أو العدَدِ، جاز أن يُذكرَ بعدَه أو قبله، إلا إن كان
استفهاماً أو شرطاً، فيجبُ تَقدمُه على عاملهِ، كما رأيتَ في أمثلتهما التي
تقدّمت. وذلكَ لأنَّ لأسماءِ لاستفهام والشرط صدرَ الكلام.
3- أنهُ
يجوزُ أن يُحذَفَ عاملُهُ، إن كان نَوعيّاً أو عدديّاً، لقرينةٍ دالّةٍ عليه،
تقولُ "ما جلستَ" ، فيقالُ في الجواب "بَلى جُلوساً طويلاً، أَو جَلستينِ" ،
ويُقالُ "إنك لا تعتني بعملك" ، فتقولُ "بلى اعتناءً عظيماً" ، ويقال "أيَّ
سيرٍ سرتَ؟" ، فتقول "سيرَ الصالحينَ" ، وتقول لِمنْ تأهَّبَ للحجَّ "حَجّاً
مبروراً" ، ولِمن قَدِمَ من سفَر "قُدوماً مُباركاً" و "خيرَ مَقدَمٍ" ، ولِمن
يُعِدُ ولا يَفي "مَواعيدَ عُرقوبٍ" من ذلك
قولهم "غضَب الخيل على
اللُّحْم" .
وأمّا المصدرُ المؤكدَ فلا يجوزُ حذفُ عامله، على
الأصحَ من مذاهب النحاة، لأنه إنما جيء به للتَّقوية والتأكيد. وحذفُ عامله
يُنافي هذا الغرض.
وما جِيء به من المصادر نائباً عن فعله (أي بدلاً
من ذكر فعله) ، لم يجُز ذكرُ عامله، بل يحذفُ وجوباً، نحو "سَقياً لكَ ورَعياً*
صبراً على الشدائد* أتَوانياً وقد جَدَّ قُرناؤكَ؟ * حمداً وشكراً لا كفراً*
عجباً لك* وَيلُ الظالمين* تبّاً للخائنينَ* وَيْحَكَ* أنتَ صديقي حقاً" . قال
الشاعر [من الوافر]
فَصبْراً في مجالِ الْمَوتِ صَبْراً ... فَما
نَيْلُ الخُلودِ بِمُسْتَطاعِ
6- الْمَصدَرُ النائبُ عن فعلهِ
المصدرُ
النائبُ عن فعله ما يُذكرُ بَدلاً من التلفظ بفعله. وهو على سبعةِ أنواعٍ
1-
مصدرٌ يَقعُ مَوقعَ الأمر، نحو "صبراً على الأذَى في المجد" ، ونحو "بَلْهاً
الشر، وبَلْهَ الشرَّ" .
(و "بله" مصدر متروك الفعل، وهو منصوب على
المصدرية بفعله المهل أو بفعل من معناه تقديره "أترك" . وهو إما أن يستعمل
مضافاً أو منوّناً. كما رأيت. وأكثر ما يستعمل اسم فعل أمر بمعنى "أترك" ) .
2-
مصدرٌ يقعُ موقعَ النَّهي، نحو "إجتهاداً لا كسلاً، جِداً لا تَوانياً* مَهلاً
لا عجلةً* سُكوتاً لا كلاماً* صَبراً لا جَزَعاً" . وهو لا يقع إلاّ تابعاً
لمصدر يُرادُ به الأمر كما رأيت.
3- مصدرٌ يقعُ موقعَ الدعاءِ، نحو
"سَقياً لك ورَعياً* تَعساً للخائن* بُعداً للظالم، سُحقاً للَّئيم* جَدعاً
للخبيثِ* رحمةً للبائس* عذاباً للكاذب* شقاءً للمهمل* بُؤْساً للكسلان* خَيبة
للفاسق* تَبّاً للواشي* نُكساً للمتكبِّر" .
ومنعَ سيبويه أن يُقاسَ
على ما وَرَدَ من هذه الألفاظ. وأجاز الأخفش القياسَ عليها. وهو ما يظهرُ أنه
الحقُّ.
(ولا تُستعمل هذه المصادر مضافة إلا في قبيح الكلام. فان
أضفتها فالنصبُ حتمٌ واجب، نحو "بُعدَ الظالم وسُحقَهُ" . ولا يجوز الرفع لأنّ
المرفوع يكون حينئذ مبتدأ ولا خبرَ له وان لم تُضفها فلك أن تنصبها، ولك أن
ترفعها على الإبتداء، نحو عذاباً له، وعذابٌ له "."
والنصب أولى.
وما عُرَّف منها بأل فالافضل فيه الرفع على الإبتداء، نحو "الخيبةُ للمفسد" )
.
ومما يُستعمَلُ للدُّعاءِ مَصادرُ قد أُهملت أفعلها في الاستعمال،
وهي "ويلَهُ، وويَبَهُ، ووَيْحَهُ، ووَيسَهُ" . وهي منصوبةٌ بفعلها المُهمَل،
أو بفعل من معناها.
( "ويل وويب" كلمتا تهديد تقالانِ عند الشتم
والتوبيخ. و "ويح وويس" كلمتا رحمة تقالان عند الإنكار الذي لا يراد به توبيخ
ولا شتم؛ وإنما يراد به التنبيه على الخطأ. ثم كثرت هذه الألفاظ في الاستعمال
حتى صارت كالتعجب، يقولها الإنسان لمن يجب ولمن يبغض. ومتى أضفتها
لزمتِ
النصب، ولا يجوز فيها الرفع، لان المرفوع يكون حينئذ مبتدأ ولا خبر له. وان لم
تُضفها فلك أن ترفعها، ولك أن تنصبها. نحو "ويلٌ له وويحٌ له، وويلاً له وويحاً
له" والرفع أولى) .
4- مصدرٌ يقعُ بعدَ الاستفهام موقعَ التوبيخ، أو
التعجُّب، أو التوَجعِ، فالأول نحو "أجُرأةً على المعاصي؟" ، والثاني كقول
الشاعر [من الطويل]
أَشوْقاً؟ وَلَمَّا يَمْضِ لي غَيْرُ لَيْلَةٍ
... فَكَيْفَ إِذَا خَبَّ المطِيُّ بِنَا عَشْرَا
والثالث كقول
الآخر [من الطويل]
أَسِجْناً وقتْلاً واشتياقاً وغُرْبَةً ...
وَنَأيَ حَبيبٍ؟ إنَّ ذا لَعَظيم
وقد يكونُ الاستفهامُ مُقدَّراً،
كقوله [من الطويل]
خُمُولاً وإِهْمالاً؟ وَغَيْرُك مُولَعٌ ...
بِتَثْبيتِ أَركانِ السِّيادَةِ والْمَجْدِ
أي أخمولاً؟ وهو هنا
للتوبيخ.
5- مَصادرُ مسموعةٌ كثرَ استعمالُها، ودلَّتِ القرائنُ على
عاملها، حتى صارت كالأمثال، نحو "سَمعاً وطاعةً* حمداً لله وشُكراً* عَجَباً*
عجَباً لكَ*، ويُقالُ أتفعلُ هذا؟ فتقول" أفعلُهُ، وكراهةً ومَسَرَّةً "، أو"
لا
أفعلُهُ ولا كَيْداً ولا همّاً "و" لافعلنَّهُ ورَغماً وهواناً
"."
وإذا أفرَدْتَ "حمداً وشكراً" جاز إظهارُ الفعل، نحو "أحمدُ
اللهَ حمداً "و" أشكرُ اللهَ شًكراً". أمّا "لا كُفراً" فلا يُستعمل إلا معَ
"حمداً وشكراً" .
ومن هذه المصادر "سُبحانَ اللهِ، ومَعاذَ اللهِ" .
ومعنى "سبحانَ الله" . تَنزيهاً للهِ وبراءَةً له مما لا يليقُ به. وعمى
"مَعاذَ اللهِ" عياذاً باللهِ، أي أعوذُ به. ولا يُستعملان إلا مُضافينِ.
ومنها
"حِجْراً - بكسر الحاءِ وسكونِ الجيم - يقال للرجل أتفعلُ هذا؟ فيقولُ" حِجْراً
"، أي منعاً، بمعنى أمنعُ نفسي منه، وأُبعِدُهُ وأبرأُ منه، وهو في معنى
التعوُّذ ويقولون عند هجوم مكروهٍ" حِجْراً محجوراً "، أي منعاً ممنوعاً.
والوصف للتأكيد. وتقول لِمن أراد أن يخوض فيما لا يجوزُ الخوضُ فيه، أو أراد أن
يأتيَ ما لا يحِلُّ" حِجْراً محجوراً "، أي حراماً مُحرَّماً."
ومنها
مصادرُ سُمعتْ مُثنَّاةً، نحو "لَبَّيكَ وسَعدَيك وحَنانَيكَ ودَوالَيكَ
وحَذارَيكَ" . وهي مُثنّاةٌ تَثنيةً يُرادُ بها التكثيرُ، لا حقيقةُ
التَّثنيةِ.
(و "لبيك وسعديك" يستعملان في إجابة الداعي، أي "أجابة
بعد اجابة واسعاداً بعد اسعاد" ، أي كلما دعوتني أجبتك وأسعدتك، ولا
يستعمل
"سعديك" إلا تابعاً للبيك. ويجوز أن يستعمل لبيك وحده. و "حنانيك" معناه تحنناً
بعد تحنن. ومعنى قولهم "سبحان الله وحنانيه" أسبحه وأسترحمه. و "دواليك" معناه
مداولة بعد مدالة. و "حذاريك" معناه حذراً بعد حذر) .
6- المصدرُ
الواقعُ تفصيلاً لمُجمَلٍ قبلَهُ، وتَبييناً لعاقبتهِ ونتيجتهِ كقوله تعالى
"فَشُدُّوا الوَثاقَ، فإمّا مَنّاً بعدُ، وإمّا فِداءً" وكقول الشاعر [من
البسيط]
لأَجهَدَنَّ، فإمَّا دَرْءَ مَفْسَدَةٍ ... تُخْشى، وإمَّا
بُلُوغَ السُّوْلِ والأَمَلِ
7- المصدرُ المؤكّدُ لمضمونِ الجملة
قبلهُ. سواءٌ أَجيءَ بهِ لمجرَّد التأكيدِ (أيٍ لا لدفعِ احتمال المجازِ، بسبب
أنَّ الكلامَ لا يحتملُ غيرَ الحقيقةِ) نحو "لكَ عليَّ الوفاءُ بالعهد حَقّاً"
، أم للتأكيد الدافعِ إرادةَ المجاز نحو "هو أَخي حقّاً" . فإنَّ قولكَ "هو
أَخي" يحتملُ أنك أردتَ الأخوَّة المجازيَّةَ، وقولكَ "حقّاً، رفعَ هذا
الاحتمال. ومن المصدر المؤكّدِ لمضمونِ الجملةِ قولهم" لا أفعله بَتّاً
وبَتاتاً وبَتَّةً والبَتَّةَ "."
(ويجوز في همزة "البتة" القطع
والوصل، والثاني هو القياس لأنها همزة وصل. واشتقاق ذلك من البت، وهو القطع
المستأصل، لأن من يقول ذلك يقطع بعدم الفعل. ويُستعمل من كل أمر يمضي لا رجعة
فيه ولا التواء) .
فكلَّ ما تقدَّمَ من هذه المصادر، النائبة عن
أفعالها، يجبُ فيه حذفُ العامل كما رأيتَ. ولا يجوزُ ذكرهُ. لأنهاإنما جِيءَ
بها لتكونَ بدلاً من أفعالها.
واعلم أنْ ليسَ المصدرُ، الذي يُؤتى
بهِ بَدلاً من التلفظ بفعله،
من المصادرِ المؤَكّدةِ (كما زعم
جمهورٌ من النُّحاةِ) ، وإنما هو ضرب آخرُ من المصادرِ، كما علمتَ. ولو كان
مؤَكداً لم يَجُز حذفُ عامله، لأنه إنما أُتيَ به ليؤكّدَ عاملُه ويُقوِّيهِ.
فحذفُ العاملِ بعدَ ذلك يُنافي ما جِيءَ بالمصدرِ لأجله. ولو كان مؤكداً لجاز
ذكر العامِلِ معَهُ. ولم يَقُلْ بذلك أحدٌ منهم، مع إجماعِهم على أنه يجوزُ
ذكرُ العاملِ ومصدرِهِ المؤَكدِ له معاً. نحو {يا أيُّها آمنوا صلُّوا عليه
وسلموا تسليماً} .
(المفعولُ لهُ)
المفعولُ لهُ (ويُسمّى
المفعولَ لأجلهِ، والمفعولَ من أجلهِ) هو مصدرٌ قَلبيٌّ يُذكرُ عِلّةً لحدَثٍ
شاركهُ في الزمانِ والفاعلِ، نحو "رغبةً" من قولكَ "اغتربتُ رَغبةً في العلم"
.
(فالرغبة مصدر قلبي، بين العلة التي من أجلها اغتربت، فان سبب
الإغتراب هو الرغبة في العلم, وقد شارك الحدثُ (وهو اغتربت) المصدرَ (وهو رغبة)
في الزمان والفاعل. فان زمانهما واحد وهو الماضي. وفاعلهما واحد وهو
المتكلم.
والمراد بالصدر القلبي ما كان مصدراً لفعل من الأفعال التي
منشؤُها الحواسّ الباطنة كالتعظيم والإجلال والتحقير والخشية والخوف والجرأة
والرغبة والرهبة والحياء والوقاحة والشفقة والعلم والجهل. ونحوهما. ويقابل
أفعال الجوارح (أي الحواسّ الظاهرة وما يتصل بها) كالقراءة والكتابة والقعود
والقيام والوقوف والجلوس والمشي والنوم واليقظة، ونحوها) .
وفي هذا
المبحث مبحثان
ِ1- شُروطُ نَصْبِ المفعولِ لأَجلهِ
عَرفتَ،
ممّا عَرَّفنا به المفعولَ لأجلهِ، أنه يُشترَطُ فيه خمسةُ شروطٍ. فإنْ فُقِدَ
شرطٌ منها لم يَجُز نصبُهُ. فليسَ كلُّ ما يُذكر بياناً لسبب حُدوثِ الفعلِ
يُنصَب على أنه مفعولٌ له. وهكاَ تفصيلَ شروط نصبه
1- أن يكونَ
مصدراً.
(فان كان غير مصدر لم يجز نصبه كقوله تعالى {والأرض وضعها
للأنام} ) .
2- أن يكون المصدر قلبياً.
(أي من أفعال
النفس الباطنة، فان كان المصدر غير قلبي لم يجز نصبه، نحو "جئت للقراءة" ) .
3
و4- أن يكونَ المصدرُ القلبيُّ مُتَّحداً معَ الفعل في الزمان، وفي الفاعل.
(أي)
يجب أن يكون زمان الفعل وزمان المصدر واحداً، وفاعلهما واحداً. فان اختلفا
زماناً أو فعلاً لم يجز نصب المصدر. فالأول نحو "سافرت للعمل" . فان زمان السفر
ماضٍ وزمان العلم مستقبل والثاني نحو "أحببتك لتعظيمك العلم" . إذ أن فاعل
المحبة هو المتكلم وفاعل التعظيم هو المخاطب.
ومعنى اتحادهما في
الزمان أن يقع الفعل في بعض زمان المصدر كجئت حباً للعلم، أو يكون أول زمان
الحدث آخر زمان المصدر كأمسكته خوفاً من فراره. أو بالعكس، كأدبته اصلاحاً له)
.
5- أن يكون هذا المصدرُ القلبي المُتَّحدُ معَ الفعل في الزمان
والفاعل،
عِلَّةً لحُصولِ الفعلِ، بحيثُ يَصِحُّ أن يقعَ جواباً لقولكَ "لِمَ فعلتَ؟"
.
(فان قلت "جئت رغبة في العلم" ، فقولك "رغبة في العلم" بمنزلة
جواب لقول قائل "لم جئت؟" .
فان لم يذكر بياناً لسبب حدوث الفعل، لم
يكن مفعولاً لأجله، بل يكون كما يطلبه العامل الذي يتعلق به. فيكون مفعولاً
مطلقاً في نحو "عظمت العلماء تعظيماً" ، ومفعولاً به في نحو "علمتُ الجبن
معرةً" ، ومبتدأ في نحو "البخل داء" ، وخبراً في نحو "أدوى الأدواء الجهل" ،
ومجروراً في نحو "أي داء أدوى من البخل" ، وهلم جراً) .
ومثال ما
اجتمعت فيهِ الشروطُ قولهُ تعالى {ولا تقتلوا أولادَكم خشيةَ إملاقٍ، نحن
نرزُقُهم وإيَّاكم} .
فإن فُقدَ شرطٌ من هذه الشروطِ، وجب جرُّ
المصدرِ بحرف جر يفيدُ التعليلَ، كاللامِ ومن وفي، فاللامُ نحو "جئت للكتابةِ"
، ومن، كقولهِ تعالى {ولا تَقتُلوا أولادَكم من إملاقٍ نحن نَرزُقكم وإيّاهم}
،وفي، كحديثِ "دخلتِ امرأةٌ النارَ في هِرَّةٍ حَبَستها، لا هي أطعمتها، ولا
هي"
َ تركتها تأكلُ من خَشاشِ الأرض "."
2- أَحكامُ
الْمَفْعولِ لَهُ
للمفعولِ من أجلهِ ثلاثةُ أحكام
1-
يُنصَبُ، إذا استوفى شروطَ نصبهِ، على أنهُ مفعولٌ لأجله صريحٌ. وإن ذُكرَ
للتعليل، ولم يَستوف الشروطَ، جُرَّ بحرف الجرِّ المُفيدِ للتَّعليل، كما
تقدَّمَ، واعتُبِرَ أنهُ في محلّ نصبٍ على أنه مفعولٌ لأجلهِ غيرُ صريحٍ، وقد
اجتمع المنصوبان، الصريحُ وغيرُ الصريح، في قوله تعالى {يجعلون أصابعَهم في
آذانهم من الصّواعق حَذَرَ الموت} ، وفي قول الشاعر [الفرزدق / من البسيط]
يُغضِي
حَياءً، ويُغضَى من مَهابتِهِ ... فَلا يُكَلَّمُ إِلاَّ حِينَ يَبْتسِمُ
(فقوله
تعالى {من الصواعق} في موضع نصب على أنه مفعول لأجله غير صريح. وقوله {حذر}
مفعول لاجله صريح. وقول الشاعر "حياء" مفعول لأجله صريح. وقوله "من مهابته" في
محل نصب على أنه مفعول له غير صريح. ونائب فاعل "يغضى" ضمير مستتر يعود على
مصدره المقدّر. والتقدير "يغضى الإغضاءُ" . ولا يجوز أن يكون "من مهابته" في
موضع نائب الفاعل، لان المفعول له لا يُقام مُقامَ الفاعل، لئلا تزول دلالته
على العلة. وقد عرفت في مبحث نائب الفاعل (في الجزء الثاني) أن
المجرور
بحرف الجر لا ينوب عن الفاعل؛ ان جُرّ بحرف جر يفيد التعليل) .
2-
يجوزُ تقديمُ المفعولِ لأجلهِ على عامله، سواءٌ أَنُصبَ أم جُرَّ بحرف الجرَّ،
نحو "رغبةً في العلم أتيتُ" و "للتِّجارةِ سافرتُ" .
3- لا يجبُ
نصبُ المصدر المُستوفي شروطَ نصبهِ، بل يجوزُ نصبُهُ وجرُّهُ. وهو في ذلك على
ثلاثِ صوَر
1- أن يَتجرَّدَ من "أَل" والإضافة، فالاكثرُ نصبُهُ،
نحو "وقفَ الناسُ احتراماً للعالم" . وقد يُجَرُّ على قلَّةٍ، كقوله [من
الرجز]
مَنْ أَمَّكُمْ، لِرَغْبَةٍ فِيكْم، جُبِرْ ... ومَنْ
تَكونُوا ناصِريهِ يَنْتَصِرْ
2- أن يقترنَ بأل، فالأكثرُ جرهُ
بحرفِ الجر، نحو "سافرتُ للرغبة في العلم" . وقد يُنصَبُ على قلةِ كقولهِ [من
الرجز]
لا أَقْعُدُ، الجُبْنَ، عنِ الْهَيْجاء ... وَلَوْ تَوَالتْ
زُمَرُ الأَعداءِ
3- أن يُضافَ، فالأمرانِ سواءٌ، نصبُهُ وجرُّه
بحرف الجرّ، تقول "تركتُ المنكَرَ خَشيةَ اللهِ، أو لخشيةِ الله، أو من خشيةِ
اللهِ" . ومن النصب قولهُ تعالى {يُنفقونَ أموالَهُمُ ابتغاءَ مَرضاةِ اللهِ} ،
وقولُ الشاعر [من الطويل]
وَأَغْفِرُ عَوْراءَ الْكريمِ ادِّخارَهُ
... وأُعْرِضُ عَنْ شَتْمِ اللَّئيمِ تَكرُّما
ومن الجرِّ قوله
سبحانَهُ {وإنَّ منها لمَا يَهبِط من خشيةِ اللهِ} .
(المفعولُ
فيه)
وهو المُسَمَّى ظَرْفاً
المفعولُ فيه (ويُسمّى
ظرفاً) هو اسمٌ يَنتصبُ على تقدير "في" ، يُذكرُ لبيانِ زمان الفعل أو
مكانهِ.
(أما اذا لم يكن على تقدير "في" فلا يكون ظرفاً، بل يكون
كسائر الاسماء، على حسب ما يطلبه العامل. فيكون مبتدأ وخبراً، نحو "يومنا يومٌ
سعيد" ، وفاعلاً، نحو "جاء يومُ الجمعة" ، ومفعولاً به، نحو "لا تضيع أيامَ
شبابك" . ويكون غير ذلك، وسيأتي بيانه.
والظرف، في الاصل، ما كان
وعاء لشيء. وتسمى الاواني ظروفاًن لانها أوعية لما يجعل فيها، وسميت الازممنة
والامكنة "ظروفاً" . لأنّ الافعال تحصل فيها، فصارت كالاوعية لها) .
وهو
قسمانِ ظرفُ زمانٍ، وظرفُ مكان.
فظرفُ الزمان ما يَدْلُّ على وقتٍ
وقعَ فيه الحدثُ نحو "سافرتُ ليلاً" .
وظرفُ المكان ما يدلُّ على
مكانٍ وقعَ فيه الحدثُ، نحو "وقفتُ تحتَ عَلَمِ العلم" .
والظرفُ،
سواءٌ أكانَ زمانياً أم مكانياً، إما مُبهَمٌ أو محودٌ (ويقال للمحدود
المُوَقَتُ والمختصُّ أيضاً) ، وإما مُتصرّفٌ أو غيرُ مُتصرفٍ.
وفي
هذا الباب ثمانيةُ مباحثَ
1- الظَّرفُ المُبْهَمُ والظَّرفُ
الْمَحْدُود
المُبهَهمُ من ظروفِ الزمانِ ما دلَّ على قَدْرٍ من
الزمان غير مُعيَّنٍ، نحو "أبدٍ وأمدٍ وحينٍ ووقتٍ وزمانٍ" .
والمحدودُ
منها (أو المُوقَّتُ أو المختصُّ) ما دلَّ على وقتٍ مُقدَّرٍ مُعَيَّنٍ محدودٍ،
نحو "ساعةٍ ويومٍ وليلةٍ وأُسبوعٍ وشهرٍ وسنةٍ وعامٍ" .
ومنه أسماءُ
الشهور والفُصولِ وأيام الأسبوع وما أُضيفَ من الظروف المُبهَمةِ إلى ما يزيلُ
إبهامَهُ وشُيوعَهُ كزمانِ الرَّبيعِ ووقتِ الصيف.
والمُبهمُ من
ظروف المكان ما دلَّ على مكانٍ غيرِ مُعيَّنٍ (أي ليس له صورةٌ تدرَكُ بالحسِّ
الظاهر، ولا حُدودٌ لصورةٍ) كالجهاتِ الستَّ، وهيَ "أمامٌ (ومثلُها قُدَّامٌ)
ووراءٌ (ومثلها خَلفٌ) ويَمينٌ، ويَسار (ومثلُها شمال) وفَوق وتحت" ، وكأسماءِ
المقادير المكانيّة كمِيلٍ وفَرسخٍ وبَريدٍ وقَصبةٍ وكيلومترٍ، ونحوها، وكجانبٍ
ومكانٍ وناحيةٍ، ونحوِها.
ومن المُبهَمِ ما يكونُ مُبهمَ المكانِ
والمسافةِ معاً كالجهاتِ الستْ، وجانبٍ وجهةٍ وناحيةٍ. ومنه ما يكونُ مُبهمَ
المكانِ مُعينَ المسافةِ كأسماءِ المقادير، فهي شبيهةٌ بالمُبهم من جهةِ أنها
ليست أشياءَ مُعيَّنةً في الواقع، ومحدودةٌ من حيثُ أنها مُعيّنةُ المقدار.
(فمكان
الجهات الست غير معين لعدم لزومها بقعة بخصوصها، لانها أمور اعتبارية أي
باعتبار الكائن في المكان، فقد يكون خلفك أماماً لغيرك؛ وقد تتحول فينعكس
الامر. وهكذا مقدارها، أي مسافتها ليس له أمد معلوم. فخلفك مثلاً اسم لما وراء
ظهرك الى ما لا نهاية. أما أسماءُ المقادير فهي،
وان كانت معلومة
المسافة والمقدار. لا تلزم بقعة بعينها، فابهامها من جهة أنها لا تختص بمكان
معين) .
والمختص منها (أو المحدودُ) ما دلَّ على مكانٍ معيَّنٍ، أي
له صورة محدودةٌ، محصورةٌ كدارٍ ومدرسةٍ ومكتبٍ ومسجدٍ وبلدٍ. ومنهُ أسماءُ
البلادِ والقُرَى والجبال والأنهارِ والبحار.
2- الظَّرْفُ
المُتَصرِّفُ والظَّرفُ غَيْرُ المُتَصَرِّفِ
الظّرفُ المتصرفُ ما
يُستعملُ ظرفاً وغيرَ ظرفٍ. فهو يُفارق الظرفيّة إلى حالةٍ لا تُشبهُها كأن
يُستعملَ مبتدأ أو خبراً أو فاعلاً أو مفعولاً به، أو نحوَ ذلك، نحو "شهرٍ
ويومٍ وسنةٍ وليل" ، ونحوها. فمِثالُها ظرفاً "سرتُ يوماً أو شهراً أو سنةً أو
ليلاً" . ومثالُها غيرَ ظرف "السنةُ اثنا عَشرَ شهراً. والشهرُ ثلاثون يوماً
والليلُ طويل. وسرَّني يومُ قدومِكَ. وانتظرتُ ساعةَ لقائك. ويومُ الجمعة يومٌ
مُباركٌ" .
والظرفُ غيرُ المُتصرفِ نوعانِ
النّوعُ
الأولُ ما يُلازمُ النصبَ على الظرفيّةِ ابداً، فلا يُستعمَلُ إلا ظرفاً
منصوباً، نحو "قَط وعوْضُ وبَينا وبينما وإذا وأَيَّانَ وأنّى وذا صَباحٍ وذاتَ
ليلةِ" . ومنه ما رُكِّبَ من الظروف كصباحَ مساءَ وليلَ ليلَ.
النوع
الثاني ما يَلزَمُ النصبَ على الظرفيّة أو الجرِّ بمن أو إلى أو حتى أو مُذ أو
مُنذُ، نحو "قَبل وبَعدَ وفوق وتحت ولدَى وَلدُنْ وعندَ ومتى وأينَ وهُنا
وثَمَّ وحيث والآن" .
(وتُجرّ "قبل وبعد" بمن، من حروف الجر. وتُجر
"فوق وتحت"
بمن والى. وتجر "لدى ولدن وعند" بمن. وتجر "متى" بالى
وحتى. وتجر "أين وهنا وثم وحيث" بمن والى. وقد تجر "حيث" بفي أيضاً. وتجر
"الآن" بمن والى ومذ ومنذ. وسيأتي شرح ذلك) .
3- نَصْبُ
الظَّرْفِ
يُنصَبُ الظّرفُ الزَّماني مُطلقاً، سواءٌ أكانَ مُبهَماً
أم محدوداً، أي (مُختصاً) ، نحو "سرتُ حيناً، وسافرتُ ليلةً" ، على شرط أن
يَتضمنَ معنى (في) .
(فان لم يتضمن معناها، نحو "جاءَ يومُ الخميس.
ويومُ الجمعة يومٌ مبارك. واحترم ليلةَ القدر" ، وجب أن تكون على حسب العوامل)
.
ولا يُنصَبُ من ظروف المكان إلا شيئانِ
1- ما كان منها
مُبهَماً، أو شِبهَهُ، مُتَضمّناً معنى (في) ، فالأول نحو "وقفتُ أمامَ
المِنبر" ، والثاني نحو "سرتُ فرسخاً" .
(فإن لم يتضمن معناها نحو
"الميل ثلث الفرسخ، والكيلومترُ ألفُ متر" . وجب أن يكون على حسب العوامل) .
2-
ما كان منها مُشتقّاً، سواءٌ أكان مُبهماً أَم محدوداً، على شرطِ أن يُنصَب
بفعلهِ المُشتقّ منهُ، نحو "جلستُ مجلسَ أَهل الفضل. وذهبتُ مذهبَ ذَوِي
العقلِ" .
فإن كان من غيرِ ما اشتُقَّ منهُ عاملُهُ وجبَ جَرُّهُ
نحو "أَقمتُ في مجلسك. وسرتُ في مذهبكَ."
وأَمّا قولُهم "هو مني
مَقعَدَ القابلةِ. وفلانٌ مَزجَرَ الكلبِ. وهذا الأمرُ"
مُناطَ
الثُّرَيّا "، فسماعِيٌّ لا يقاس عليه."
(والتقدير "مستقرَّ مقعد
القابلة ومزجرَ الكلب ومناطَ الثريا" . فمقعد ومزجر ومناط منصوبات بمستقر، وهن
غير مشتقات منه، فكان نصبهنّ بعامل من غير مادّة اشتقاقهنَّ شاذّاً) .
وما
كان من ظروف المكان محدوداً، غيرَ مُشتقٍ، لم يجُز نصبُه، بل يجب جَرُّهُ
بِفِي، نحو "جلستُ في الدارِ. وأَقمتُ في البلد. وصلَّيتُ في المسجد" . إلاَّ
إذا وقعَ بعدَ "دخلَ ونَزَلَ وسكنَ" أَو ما يُشتقُّ منها، فيجوزُ نصبُهُ، نحو
"دخلتُ المدينةَ. ونزَلتُ البلَدَ. وسكنتُ الشامَ" .
(وبعض النحاة
ينصب مثل هذا على الظرفية والمحققون ينصبونه على التوسع، في الكلام باسقاط
الخافض، لا على الظرفية، فهو منتصب انتصاب المفعول به على السعة، باجراء الفعل
اللازم مُجرى المتعدي. وذلك لانّ ما يجوز نصبه من الظروف غيرُ المشتقة يُنصب
بكل فعل، ومثل هذا لا ينصب الا بعوامل خاصة، فلا يقال "نمت الدارَ، ولا صليتُ
المسجدَ، ولا أقمتُ البلدَ" كما يقال "نمت عندك. وصليت أمام المنبر. وأقمتُ
يمينَ الصف" ) .
4- ناصب الظَّرْف (أي العاملُ فيه)
ناصبُ
الظَّرفِ (أي العاملُ فيه النصبَ) هوَ الحدَثُ الواقع فيه من فعلٍ أو شِبههِ.
وهو إمّا ظاهرٌ، نحو "جلستُ أمام المِنبَرِ. وصُمتُ يومَ الخميسِ. وأنا واقفٌ
لديك. وخالدٌ مسافرٌ يومَ السبتِ" . وإمّا مُقدَّرٌ جوازاً، نحو "فرسخينِ" ،
جواباً لمن قال لكَ "كم سرتَ؟" ، ونحو
"ساعتينِ" ، لمن قال لك "كم
مشيتَ؟" . وإمّا مُقدَّرٌ وجوباً، نحو "أنا عندَك" . والتَّقديرُ "أنا كائنٌ
عندَك" .
5- مُتَعَلَّق الظَّرف
كلُّ ما نُصبَ من الظروف
يحتاجُ إلى ما يتعلّقُ بهِ، من فعلٍ أو شِبهه، كما يحتاجُ حرفْ الجر إلى ذلك.
ومُتعلَّقُهُ إمّا مذكورٌ، نحو "غبتُ شهراً. وجلستُ تحت الشجرة" . وإمّا محذوف
جوازاً أو وجوباً.
فيُحذَفُ جوازاً، إنْ كان كوناً خاضاً، ودلَّ
عليه دليلٌ، نحو "عندَ العلماءِ" ، في جواب من قال أينَ أجلسُ؟ "."
ويُحذَفُ
وجوباً في ثلاثِ مسائلٌ
1- أن يكون كوناً عمّاً يَصلُحُ لأن يُرادَ
به كلُّ حَدَثٍ كموجودٍ وكائن وحاصل. ويكونُ المتعلَّق المقدَّرُ إمّا خبراً،
نحو "العصفورُ فوقَ الغصنِ. والجنةُ تحت أقدامِ الأمهاتِ" وإمّا صفةً، نحو
"مررتُ برجل عندَ المدرسةِ" . وإمّا حالاً، نحو "رأيتُ الهلالَ بين السحابِ" .
وإمّا صِلةً للموصولِ، نحو "حَضَرَ مَنْ عندَهُ الخبرُ اليقينُ" . غيرَ أنَّ
مُتعلّق الصلةِ يجبُ أن يُقدَّرَ فعلاً، كحصَل ويَحصلُ، وكان ويكون، ووُجِد
ويُوجَدُ، لوجوبِ كونِها جملةً.
2- أن يكونَ الظرفُ منصوباً على
الاشتغال، بأن يشتغلَ عنهُ العاملُ المتأخرُ بالعمل في ضميره، نحو "يوم الخميس
صُمتُ فيه. ووقت الفجر سافرتُ فيه" .
(فيوم ووفت منصوبان على
الظرفية بفعل محذوف، لاشتغال الفعل
المذكور عن العمل فيهما بالعمل
في ضميرهما. والفعل المحذوف مقدَّر من لفظ الفعل المذكور غير أنه يجوز التصريح
به؛ كما علمت في باب الاشتغال) .
3- أن يكون المتعلَّقُ مسموعاً
بالحذف، فلا يجوزُ ذكرُهُ، كقولهم "حينئذٍ الآنَ" ، أي "كان ذلك حينئذٍ، فاسمعِ
الآنَ" .
(فحينئذ والآن منصوب كل منهما بفعل محذوف وجوباً؛ لأنه
سُمع هكذا محذوفاً. وهذا كلام يقال لمن ذكر أمراً قد تقادمَ زمانه لينصرف عنه
الى ما يعنيه الآن) .
6- نائبُ الظَّرْفِ
ينوبُ عن
الظّرفِ - فيُنصَبُ على أنهُ مَفعولٌ فيهِ - أحد ستةِ أشياءَ
1-
المُضافُ إلى الظرفِ، ممّا دَلَّ على كُليّةٍ أو بعضيّة، نحو "مشيتُ كلَّ
النهارِ، أو كلَّ الفَرْسخِ، أو جميعَهُما أو عامّتهُما، أو بَعضَهما، أو
نصفَهُما، أو رُبعَهُما" .
2- صِفتُهُ، نحو "وقفتُ طويلاً من الوقت
وجلستُ شرقيَّ الدار" .
3- اسم الإشارة، نحو "مشيتُ هذا اليومَ
مشياً مُتعِباً. وانتبذت تلكَ الناحية" .
4- العدَدُ الممَيّزُ
بالظرفِ، أو المضافُ إليه، نحو "سافرتُ ثلاثين"
يوماً. وسرتُ أربعين
فرسخاً. ولزمتُ الدارَ ستةَ أيام، وسرت ثلاثة فراسخَ "."
5- المصدرُ
المتضمنُ الظّرفِ، وذلك بأن يكون الظرف مضافاً إلى مصدر، فيُحذَفُ الظّرفُ
المضاف، ويقوم المصدرُ (وهو المضاف إِليه) مَقامَهُ، نحو "سافرتُ وقتَ طلوعِ
الشمس" .وأكثرُ ما يُفعلُ ذلك بظروف الزمان، بشرط أن تُعيَّن وقتاً أو مقداراً.
فما يُعيّن وقتاً مثل "قَدِمتُ قدومَ الرَّكبِ. وكان ذلك خُفُوقَ النّجمِ.
وجئتكَ صلاةَ العصرِ" ، وما يُعيّنُ مقداراً مثل "انتظرتُكَ كتابةَ صفحتينِ، أو
قراءَةَ ثلاثِ صفحاتٍ. ونمتُ ذهابَكَ إلى دارِكَ ورُجوعَكَ منها. ونَزَلَ
المطرُ ركعتينِ من الصلاة. وأقمت في البلد راحةَ المسافرِ" .
وقد
يكون ذلك في ظروف المكان، نحو "جلستُ قربَكَ. وذهبتُ نحوَ المسجدِ" .
6-
ألفاظٌ مسموعةٌ توسعُوا فيها، فنصبوها نصبَ ظروفِ الزمانِ، على تضمينها معنى
(في) ، نحو "أحقّاً أنك ذاهبٌ؟" . والأصل "أفي حَقّ؟" . وقد نُطِقَ بفي في قوله
[من الطويل]
أَفي الْحَقِّ أَني مُغْرَمٌ بِكِ هائِمٌ ... وأَنَّكِ
لا خَلٌّ هَواكِ وَلا خَمْرُ
ونحو "غيرَ شَك اني على حقٍّ. وجهَدَ
رأيي أنكَ مُصيبٌ. وظَنّ مني أنكَ قادمٌ" .
فائدة
اعلمُ
أنَّ ضميرَ الظّرفِ لا يُنصَبُ على الظرفيّة، بل يجبُ جرهُ بفي نحو "يومَ
الخميسِ صُمتُ فيه" ، ولا يُقالُ "صُمتُهُ" ، إلا إذا لم تضمّنهُ معنى (في) ،
فلكَ أن تنصبه بإسقاط الجارِّ على أنهُ مفعولٌ به تَوَسُّعاً، نحو "إذ جاءَ
يومُ الخميسِ صُمتُهُ" ، ومنه قول الشاعر "ويومٍ شَهِدناهُ سُليماً وعامراً"
.
(فقد جعل الضمير في "شهدناه" مفعولاً به على التوسع باسقاط حرف
الجر. والأصل "ويوم شهدنا فيه عامراً وسليماً" ) .
7- الظَّرفُ
المُعْرَب والظَّرفُ الْمَبْنِي
الظروفُ كلها مُعرَبةٌ مُتغيرةُ
الآخر، إلا ألفاظاً محصورةً، منها ما هو للزمان، ومنها ما هو للمكان، ومنها ما
يُستعمَلُ لهما.
فالظُروفُ المبنيّةُ المختصَّةُ بالزمانِ إذا ومتى
وأيانَ وإذْ وأمسِ والآن ومُذ ومُنذُ وقَطُّ وعَوْضُ وبَينا وبَينما ورَيْثُ
ورَيْثما وكيفَ وكيفما ولمَّا "."
ومنها ما رُكِّبَ من ظروف الزمان،
نحو "زُرنا صبَاحَ مساءَ، وَليل لَيلَ، ونهارَ نهارَ، ويومَ يومَ" . والمعنى
كلَّ صباحٍ، وكلَّ مساءٍ، وكلَّ نهارٍ، وكلّ يومٍ.
والظروفُ
المبنيّةُ المختصة بالمكانِ هي "حيثُ وهُنا وثَمَّ وأينَ" .
ومنها
ما قُطعَ عن الإضافةِ لفظاً من أسماءِ الجهاتِ الستّ.
والظروف
المبنيّةُ المشتركةُ بينَ الزمانِ والمكانِ هي "أنّى وَلدَى ولَدُنْ" . ومنها
"قبلُ وبعدُ" ، في بعض الأحوال.
وسيأتي شرحُ ذلكَ كلّه.
8-
شَرْح الظُّرُوفِ الْمَبْنِيَّةِ وبَيانٌ أَحكامِها
1- قَط ظرفٌ
للماضي على سبيل الاستغراق، يَستغرقُ ما مضى من الزَّمان، واشتقاقُهُ من
"قَطَطتُهُ" - أي قطعته - فمعنى "ما فعلتُهُ قطُّ" ما فعلتُهُ فيما انقطعَ من
عُمري. ويُؤتى به بعدَ النفي أو الاستفهام للدلالة على نفي جميع أجزاءِ الماضي،
أو الاستفهامِ عنها. ومن الخطأ أن يقال "لا أفعلُهُ قَطُّ" ، لأنَّ الفعلَ هنا
مُستقبَلٌ، و "قطّ" ظرفٌ للماضي.
2- عَوْضٌ ظرفٌ للمستقبَلِ، على
سبيل الاستغراق أيضاً، يستغرقُ جميعَ ما يُستقبلُ من الزمان.
والمشهورُ
بناؤهُ على الضمِّ. ويجوزُ فيه البناءُ على الفتح والكسر أيضاً. فإن أُضيفَ فهو
مُعرَبٌ، نحو "لا أفعلهُ عَوضَ العائضين" .
وهو منقولٌ عن العَوْضِ
بمعنى الدَّهر. والعَوْضُ في الأصل مصدرُ عاضهُ من الشيءِ يَعوضُهُ عَوْضاً
وعِوَضاً وعِياضاً، إذا أعطاهُ عِوَضاً، أي خلفاً. سُميَ الدهرُ بذلك، لأنه
كلما مضى منهُ جُزءٌ عُوَّضَ منه آخر، فلا ينقطعُ.
ويُؤتى بعَوْضُ
بعد النّفي أو الاستفهام للدلالة على نفي جميع أجزاءِ
المستقبَلِ،
أو الاستفهام عن جميع أجزائهِ. فإذا قلت "لا أفعلُهُ عَوْضُ" ، كان المعنى لا
أفعلهُ في زمنِ من الأزمنةِ المُستقبلة. وقد يُستَعملُ للزمانِ الماضي.
3-
بَيْنا وبَينما ظرفان للزمانِ الماضي. وأصلهما "بينَ" ، أشبِعت فتحةُ النون،
فكان منها "بيْنا" . فالألفُ زائدةٌ، كزيادة "ما" في "بَيْنما" .
وهما
تلزَمانِ الجُملَ الإسميّة كثيراً، والفعليّةَ قليلاً. ومن العلماءِ من
يَضيفُهما إلى الجملة بعدَهما. ومنهم من يكفُّهُما عن الإضافة بسببِ ما لحقهما
من الزيادة. وهو الأقربُ، لبُعدهِ من التكلُّف.
وأصلُ "بَينَ"
للمكانِ وقد تكونُ للزَّمان، نحو "جئتُ بينَ الظهر والعصر" . ومنه حديثُ "ساعةُ
الجُمعةِ بينَ خروجِ الإمامِ وانقضاءِ الصلاة" . وإذا لحقتها الألف أو "ما"
الزَّائدتانِ، اختصّتْ بالزمان، كما تقدَّم.
4- إذا ظرفٌ للمستقبَل
غالباً، مَتَضمنٌ معنى الشرطِ غالباً. ويختصّ بالدخول على الجملِ الفعليّة.
ويكونُ الفعلُ معه ماضيَ اللَّفظِ مُستقبَلَ المعنى كثيراً؛ ومضارعاً دونَ ذلك.
وقد اجتمعا في قول الشاعر [من الكامل]
والنَّفْسُ راغبةٌ إِذا
رَغَّبْتَها ... وَإِذَا تُرَدُّ إِلى قليلٍ تَقْنَعُ
وقد يكونُ
للزمان الماضي، كقوله تعالى {وإذا رأَوا تجارةً أو لهواً انفضوا إليها} .
وقد
يتجرَّدُ للظرفية المحض، غيرَ مُتَضمنٍ معنى الشرط، كقوله تعالى "والليل إذا
يَغشَى، والنهارِ إذا تَلجَّى" ، وقولهِ "واللَّيلِ إذا سَجى" ، ومنه قول
الشاعر [من الوافر]
ونَدْمانٍ يزيد الكأْسَ طِيباً ... سَقَيْتُ
إِذا تَغَوَّرَتِ النُّجومُ
5- أَيَّانَ ظرفٌ للمستقبل. يكونُ اسمَ
استفهام، فَيُطلَبُ به تعيينُ الزَّمانِ المستقبل خاصةً. وأكثرُ ما يكونُ في
مواضع التَّفخيم، كقوله تعالى {يَسألُ أَيانَ يومُ الدِّين؟} . ومعناهُ أَيُّ
حينٍ؟ وأصلُهُ "أيُّ آنٍ" فَخُفِّفَ، وصارَ اللفظانِ واحداً.
وقد
يتضمّنُ معنى الشّرط، فيجزمُ الفعلين، نحو "أَيَّانَ تجتهدْ تَجدْ نجاحاً" .
6-
أنّى ظرفٌ للمكان. يكونُ اسمَ شرطٍ بمعنى "أَينَ" ، نحو "أنّى تَجلسْ أجلسْ" ،
واسمَ استفهامٍ عن المكان، بمعنى "من أينَ؟" ، كقوله تعالى {يا مريمُ أنّى لكِ
هذا؟} أي "من أينَ" ، ويكون بمعنى "كيفَ؟" ، كقوله سبحانهُ {أنّى يُحيي هذهِ
اللهُ بعدَ موتها؟} أي "كيفَ يُحييها؟" . ويكونُ ظرفَ زمانٍ بمعنى "متى؟" ،
للاستفهام، نحو "أنّى جئتَ؟" .
7- قَبلُ وبعدُ ظرفانِ للزمانِ،
يُنصبَانِ على الظّرفيّة أو يُجرَّانِ بمن، نحو "جئتُ قبلَ الظهر، أو بعدَهُ،
أو من قبلهِ، أو بعدهِ" .
وقد يكونانِ للمكان نحو "داري قبلَ دارِك،
أو بعدَها" .
وهما مُعْرَبان بالنّصبِ أو مجروران بمن. ويُبنيانِ في
بعض الأحوال وذلك إذا قطعا عن الإضافة لفظاً لا معنًى - بحيثُ يَبقى المضافُ
إليه في النية والتّقدير - كقوله تعالى للهِ الأمرُ من قبلُ ومن بعدُ "، أي من
قَبلِ الغلَبةِ ومن بعدها" . فإن قُطِعا عن الإضافة لفظاً ومعنًى لقصدِ
التّنكير - بحيثُ لا يُنوَى المضافُ إليه ولا يُلاحَظُ في الذهن - كانا
مُعرَبين، نحو "فعلتُ"
ذلكَ قبلاً، أو بعداً "، تَعني زماناً سابقاً
أو لاحقاً، ومنه قول الشاعر [من الوافر] "
فَساغَ لِيَ الشَّرابُ،
وكُنْتُ قَبْلاً ... أكادُ أَغَصُّ بالماءِ الْفُرَاتِ
(واليك توضيح
هذا البحث
اذا أردت قبليّةً أو بعديةً معينتين، عينتَ ذلك بالإضافة،
نحو "جئت قبل الشمس أو بعدها" ، أو بحذف المضاف إليه وبناء "قبل وبع" على الضم،
نحو "جئتك قبلُ أو بعدُ، أو من قبلُ أو من بعدُ" ، تعني بذلك قبل شيء معين أو
بعده. فالظرف هنا، وان قُطع عن الإضافة لفظاً، لم يُقطع عنها معنى، لأنه في نية
الإضافة.
وان أردت قبليَّة أو بعديه غير معينتين، قلت "جئتك قبلاً،
أو بعداً، أو من قبلٍ أو من بعدِ" . بقطعهما عن الإضافة لفظاً ومعنى وتنوينهما،
قصداً الى معنى التنكير والإبهام) .
8- لَدَى ولَدُنْ ظرفانِ للمكان
والزمان، بمعنى "عن" ، مَبنيّانِ على السكون.
والغالبُ في "لَدُنْ"
أن تُجرَّ بمن، نحو "وعلَّمناهُ من لَدُنّا علماً. وقد تُنصَبُ مَحلاًّ على
الظرفيّة الزمانية، نحو" سافرتُ لَدُنْ طُلوعِ الشمسِ "، أو المكانيّة، نحو"
جلستُ لَدُنْك "."
وإذا أُضيفت إلى ياء المتكلم لَزمتها نونُ
الوقاية، نحو "لَدُنِّي" . وقد تترَك هذه النونُ، على قِلَّةٍ، نحو "لَدْنِي"
.
وهي تَضافُ إلى المفرد، كما رأيتَ، وإلى الجملة، نحو "انتظرتُك من
لَدُنْ طلعت الشمسُ إلى أن غَربتْ" .
وإن وقعت بعدَها "غُدْوَةٌ"
نحو جئتُك لَدُن غُدْوَة "جاز جرها بالإضافة إلى" لَدُنْ ". وجاز نصبُها على
التَّمييز، أو على أنها خبرٌ لكان المُقدَّرة معَ اسمها. والتقديرُ" لَدُنْ كان
الوقتُ غُدوةً "وجاز رفعُها على أنها فاعلٌ لفعل محذوف. والتقديرُ" لَدُنْ كانت
غدوةٌ "أي" وُجِدتْ ". فكان هنا تامّة."
والغالبُ على "لَدَى"
النّصبُ محلاً على الظرفيّة الزمانيّة، نحو "جئتُ لَدَى طُلوعِ الشمس" ، أو
الكانيّة، نحو "جلست لَديكَ" . وقد تُجرُّ بمن، نحو "حَضَرتُ من لَدَى الأستاذ"
.
ولا تقعُ "لَدُنْ" عمدةً في الكلام، فلا يُقالُ "لدُنهُ عِلم" ،
بخلافِ "لَدَى" فتقعُ، نحو "ولَدَينا مَزيدٌ" . وكذلك "عند" تقعُ عُمدة، نحو
"عندَك حُسنُ تدبيرٍ" .
ولا تكون "لَدى وَلدُنْ" إلا للحاضر. فلا
يُقال "لديَّ كتابٌ نافعُ" ، إلا إذا كان حاضراً. أمّا "عند" فتكون للحاضر
والغائب.
ولا تُجرُّ "لَدَى ولَدُنْ وعند" بحرف جرّ غيرِ "من" ، فمن
الخطأ أن يُقال "ذهبتُ إلى عندهِ" . وكثيرٌ من الناس يُخطئُون في ذلك. والصوابُ
أن يقال "ذهبتُ إليه، أو إلى حضرتهِ" .
وإذا اتصلَ الضميرُ بِلَدَى
انقلبت ألفها ياءً، نحو "لَدَيه ولديهم ولدينا" .
9- مَتى ظرفٌ
للزمان، مبني على السكون.
وهو يكون اسمَ استفهامٍ، منصوباً محلاً
على الظرفيّة، نحو "متى جئتَ؟" ، ومجروراً بإلى أو حتى، نحو "إلى متى يرتَعُ
الغاوي في غيَّه؟ وحَتّى متى يبقى الضّال في ضلالهِ؟" .
ويكونُ اسمَ
شرطٍ، نحو "متى تُتقنْ عملَكَ تبلغْ أملَكَ" .
ومتى تضمّنت "متى"
معنى الشرط لَزِمتِ النصبَ على الظرفية، فلا تُستعملُ مجرورةٌ.
10-
أينَ ظرفٌ للمكانِ، مبنيٌّ على الفتح.
وهو يكونُ اسمَ استفهامٍ،
منصوباً على الظرفيّة، فَيُسأل به عن المكان الذي حلَّ فيه الشيءُ، نحو "أينَ
خالدٌ؟ وأينَ كنتَ؟" . ومجروراً بمن، فيُسألُ به عن مكانِ بُروزِ الشيءِ، نحو
"من أَينَ جِئتَ؟" ، ومجروراً بإلى، فيُسألُ به عن مكان انتهاءٍ الشيءِ. نحو
"إلى أينَ تذهبُ؟" .
ويكونُ اسمَ شرطٍ. وحينئذٍ يَلزَمُ النصبَ على
الظرفيّة، نحو "أينَ تَجلسْ أجلسْ" وكثيراً ما تلحقُهُ "ما" الزائدةُ للتّوكيد،
نحو "أينما تكونوا يُدرِكُكُمُ الموتُ" .
11- هنا وثَمَّ اسما
إشارةٍ للمكان. فهُنا يُشار به إلى المكان القريب وثَمَّ يُشار به إلى البعيد.
والأول مبني على السكون. والآخرُ مبنيّ على الفتح. وقد تلحقُهُ التاءُ لتأنيث
الكلمة، نحو "ثَمَّةَ" . ومَوضعُها النصبُ على الظرفية. وقد يُجرَّان بمن
وبإلى.
12- حيثُ ظرفٌ للمكان، مبنيٌّ على الضمِّ، نحو "إجلِسْ حيثُ
يجلسُ أهلُ الفضلِ" ، ومنهم من يقول، "حَوْثُ" .
وهي ملازمةٌ
الإضافةَ إلى الجملة. والأكثرُ إضافتُها إلى الجملة الفعليّة، كما مُثِّلَ. ومن
إضافتها إلى الاسميةِ أن تقولَ إجلِسْ حيثُ خالدٌ جالسٌ ". ولا تُضاف إلى
المفردِ. فإن جاءَ بعدَها مفردٌ رُفعَ على أنهُ مبتدأ خبرُهُ محذوف، نحو" إجلسْ
حيثُ خالدٌ "، أي" حيث خالدٌ جالس "."
وقد تُجرُّ بمن أو إلى، نحو
"إرجِعُ من حيثُ أتيتَ إلى حيثُ كنتَ" . وأقلُّ من ذلك جرُّها بالباءِ أو
بفي.
وإذا لحقتها "ما" الزائدة كانت اسمَ شرطٍ، نحو "حيثُما تذهبْ
أذهبْ" .
13- الآن ظرفُ زمانٍ للوقت الذي أنت فيهِ، مبني على الفتح.
ويجوز أن يدخلهُ من حروفِ الجرَّ "من وإلى وحتى ومُذْ ومُنذُ" ، مبنياً
مَعَهنَّ على الفتح. ويكون في موضعِ الجرِّ.
14- أمسِ له حالتان
إحداهما أن تكون معرفةً، فتُبنى على الكسر، وقد تُبنى على الفتح نادراً.
ويُرادُ بها اليومُ الذي قبلَ يومكَ الذي أنت فيه، نحو "جئتُ أمسِ" . وتكونُ في
موضع نصب على الظرفيّة الزمانية.
وقد تخرجُ عن النصب على الظرفية،
فتجرُّ بمن أو مُذْ أو منذُ. وتكونُ فاعلاً أو مفعولاً به أو غيرَهما. ولا
تخرجُ في ذلك كلهِ عن بنائها على الكسر قال الشاعر [من الكامل]
أَلَيْومَ
أَعلمُ ما يَجِيءُ بهِ ... وَمَضى بِفَصلِ قَضائهِ أَمْسِ
ومن العرب
من يُعربها إعرابَ ما لا ينصرفُ وعليه قولهُ [من الرجز]
إني رَأَيتُ
عَجَباً مُذْ أَمْسَا ... عَجائِزاً مِثْلَ السَّعالِي خَمْساً
وقول
الآخر [من الخفيف]
إعتَصِمْ بالرَّجاءِ إِنْ عَنَّ يَأسُ ...
وَتَناسَ الَّذي تَضَمَّنَ أَمْسُ
ومنعُها من الصّرف هو للتعريف
والعَدْل، لأنها معدولةٌ عن الأمس. كما أنَّ "سحَرَ" معدولٌ عن السَّحَر. كما
سبقَ في إعراب ما لا ينصرف.
والحالةُ الثانيةُ أن تدخلَ عليها (أل)
، فتُعرَبُ بالإجماع، ولا يُرادُ بها حينئذٍ أمس بعينهِ، وإنما يُرادُ بها يومٌ
من الأيام التي قبل يومك. وهي تتصرّفُ من حيثُ موقعُها في الإعراب تَصرُّفَ
"أمس" .
15- دُون ظرفٌ للمكان. وهو نقيضُ "فوْق" ، نحو "هو دونَه" ،
أي أحُّ منه رتبةً، أو منزلةً، أو مكاناً. وتقولُ "قعدَ حالدٌ دونَ سعيدٍ" أي
في مكانٍ مُنخفض عن مكانه. وتقولُ "هذا دُونَ ذاك" ، أي هو مُتسفّلٌ عنه.
ويأتي
بمعنى "أمام" نحو "الشيء دونَك" ، أي "أمامَكَ" وبمعنى "وراْ" ، نحو "قعدَ
دُونَ الصَّفِّ" ، أي وراءَه. وهو منصوبٌ على الظرفيةِ المكانيّة، كما
رأيتَ.
وقد يأتي بمعنى "رديءِ وَخسيسٍ" فلا يكون ظرفاً، نحو "هذا
شيءٌ دُونٌ" أي خسيسٌ حقيرٌ. وهو حينئذٍ يتصرَّفُ بوجوهِ الإعرابِ. وتقولُ "هذا
رجلٌ من دُونٍ. وهذا شيءٌ من دونِ" . هذا أكثرُ كلامِ العرب، ويجوز حذفُ "من" ،
كما تقدَّمَ وتُجعَلُ "دون" هي النّعت.
وهو مُعرَبٌ. لكنَّه يُبنى
في بعض الأحوال، وذلكَ إذا قطع عن الإضافةِ
لفظاً ومعنى، نحو "جلستُ
دونُ" ، بالبناءِ على الضم. ويكونُ في موضع نصب.
16- رَيْثَ ظرفٌ
للزمان منقول عن المصدر. وهو مصدر "راثَ يَريثُ رَيْثاً" ، إذا أبطأ، ثُمَّ
ضُمنَ معنى الزمان. ويُرادُ به المقدارُ منه، نحو "انتظرتُه رَيثَ صَلَّى.
وانتظرني رَيثَ أجيءُ" ، أي قدْرَ مُدَّةِ صلاتهِ، وقدرَ مدة مجيئي.
ولا
يَليهِ إلا الفعلُ، مُصدَّراً بما أو أنْ المصدريتين، أو مُجرَّداً عنهما
فالأول نحو "انتظرني رَيثما أحضُرُ. وانتظرتُهُ رَيثَ أن صَلّى" ، فيكون حينئذ
مضافاً إلى المصدر المُؤوّل بِهما والثاني تقدّم مثاله.
وإذا لم
يُصَدّر الفعلُ بهما، أُضيفَ "رَيْث" إلى الجملة. وكان مبنيّاً على الفتح، إن
أُضيف إلى جملةٍ صَدرُها مبنيٌّ، نحو "وَقفَ رَيث صلَّينا" ، ومُعرَباً، إن
أُضيف إلى جملةٍ صدرُها مُعربٌ، كقول الشاعر [من البسيط]
لا يَصعُبُ
الأًمْرُ إلاَّ رَيْثَ يَرْكبُهُ ... وَكلَّ أَمرٍ، سِوَى الْفَحْشاء،
يأْتَمِرُ
لأنَّ المضارع هنا مُعرَب.
وأكثرُ ما يُستعملُ
(رَيثَ) قبل فعلٍ مُصَدَّر بما أو أنْ. وقد يُستعمل مُجرّداً عنهما. كما
تَقدم.
ويكثر وقوعه مُستثنًى بعد نفي، نحو "ما قعدَ عندنا إلا ريثما
تُقرأ الفاتحة" . ومنهُ حديثُ "فلم يَلبَثْ إلا رَيثما قلتُ" .
17-
معَ ظرفٌ لمكانِ الاجتماع ولزمانهِ، فالأول نحو "أنا معكَ" ، والثاني نحو "جئتُ
معَ العصر" . وهو مُعرَب منصوب وقد يُبنى على
السكون. (وذلك في لغة
غُنْمٍ ورَبيعة) ، فيكون في محلِّ نصبٍ. وإذا وَلِيَهُ ساكنُ حُرِّكَ بالكسر،
على هذه اللغة، تَخلصاً من التقاءِ الساكنينِ، نحو "جئتُ معِ القومِ" .
وأكثرُ
ما يُستعملُ مضافاً، كما رأيتَ. وقد يُفرَدُ عن الإضافة، فالأكثر حينئذٍ أن
يقعَ حالاً، نحو "جئنا معاً" أي جميعاً، أو مجتمعينِ. وقد يقعُ في موضع الخبر،
نحو "سعيدٌ وخالدٌ معاً" ، فيكونُ ظرفاً متعلقاً بالخبر.
والفرقُ
بين "مع" ، إذا أُفردت، وبينَ "جميعاً" أنكَ إذا قلتَ "جاءُوا معاً" ، كان
الوقتُ واحداً. وإذا قلتَ "جاءوا جميعاً" ، احتمل أن يكونَ الوقتُ واحداً،
واحتملَ أنهم جاءُوا مُتفرِّقينَ في أوقات مختلفة.
18- كيفَ اسمُ
استفهام. وهي ظرفٌ للزمان عندَ سيبويهِ، في موضع نصبٍ دائماً، وهي مُتعلقةٌ إما
بخبرٍ، نحو "كيفَ أنت؟ وكيفَ أصبحَ القومُ؟" ، وإمّا بحالٍ، نحو "كيفَ جاءَ
خالدٌ؟" . والتقديرُ عندهُ "في أي حالٍ، أي على أي حالٍ؟" .
والمُعتمَدُ
أنها للاستفهامِ المجرّدِ عن معنى الظرفيّة، فتكون هي الخبرَ أو الحال، لا
المتعلّقَ المقدّر.
وتكون أيضاً ثانيَ مفعولَيْ "ظنّ" وأخواتها،
لأنه في الأصل خبرٌ، نحو "كيفَ ظننتَ الأمرَ؟" .
وقد تكون اسمَ شرطٍ
فيجزمُ فعلين، عندَ الكوفيين، نحو "كيفَ تجلسْ أجلسْ، وكيفما تكنْ أكنْ" . وهي،
عند البصريين، اسمُ شرطٍ غيرُ جازم.
19- إذْ ظرفٌ للزمانِ الماضي،
نحو "جئتُ إذْ طلعت الشمسُ" . وقد تكونُ ظرفاً للمستقبَل، كقوله تعالى {فسوف
يعلمونَ إذِ الأغلال في اعناقهم} .
وهي مبنيةٌ على السكون في محل
نصبٍ على الظرفية. وقد تقعُ موقعَ المضاف إليه، فتُضافُ إلى اسمِ زمانٍ، كقولهِ
تعالى {رَبَّنا لا تزغْ قُلوبَنا بعدَ إذْ هَدَيتنا} .
وقد تقعُ
موقعَ المفعولِ به (أو البدل منه) . فالأولُ كقوله سبحانه {واذكرُوا إذ كنتم
قليلاً} . والثاني كقولهِ {واذكرْ في الكتاب مريمَ، إذ انتبذتْ من أهلها مكاناً
شرقيّاً} .
وهي تلزمُ الإضافةَ إلى الجُمل، كما رأيتَ. فالجملةُ
بعدها مضافة إليها. وقد يُحذف جزء الجملة التي تضافُ إليها، كقول الشاعر [من
البسيط]
هَلْ تَرجِعَنَّ لَيالٍ قَدْ مَضَيْنَ لَنا ... وَالْعَيْشُ
مُنَقَلِبٌ إذْ ذَاكَ أَفْناناً
وقد تُحذَفُ الجملةُ كلُّها،
ويُعوَض عنها بتنوينِ "إذ" تنوين العِوَض، كقوله تعالى {فلَولا إذْ بلغتِ
الرُّوحُ الحُلْقُومَ، وأنتم حينئذٍ تَنظُرونَ} أي وأنتم حينَ إذْ بلغت الروحُ
الحُلقوم تَنظرون.
20- لمَّا ظرفٌ للزمانِ الماضي، بمعنى "حينٍ" أو
"إذْ" . وهي تقتضي جملتينِ فعلاهما ماضيانِ. ومحلها النصبُ على الظرفية
لجوابها. وهي مضافة إلى جملةِ فعلِها الأول والمُحقّقون من العلماءِ يَرَوْنَ
أنها حرفٌ لربطِ جُملتيها. وسمّوها حرفَ وُجودٍ لوجودِ. أي هو للدَّلالة على
وجودِ شيءٍ لوجودِ غيرِهِ. وسترى توضيحَ ذلك في كتاب الحروف. إن شاءَ الله.
21-
مُذ ومُنذُ ظرفانِ للزّمان. و "مُذْ" مُخفَّفةٌ من "منذُ" . و "منذُ" أصلُها
"من" الجارَّةُ و "إذ" الظرفيّةُ، لذلك كُسرت مِيمُها في بعض اللُّغاتِ باعتبار
الأصلِ.
وإن وَلِيهما جملةٌ فعليّةٌ، أو اسميّةٌ، كانا مُضافينِ
إليها، وكانت الجملةٌ بعدَهما في موضع جَرّ بالإضافةِ إليهما، نحو "ما تركتُ
خدمةَ الأمةِ مُنذُ نَشأتُ. وما زلتُ طَلاباً للمجد مُذْ أنا يافِعٌ" .
وإن
وَلِيَهما مُفردٌ جاز رفعُهُ على أنهُ فاعلٌ لفعلٍ محذوف، نحو "ما رأيتكَ منذ
يومُ الخميسِ، أو مُذْ يومانِ" . والتقديرُ منذ كان أو مضى يوم الخميسِ، أو
يومانِ. فالجملةُ المركبةُ من الفعل المحذوف والفاعل المذكور في محل جر
بالإضافة إلى مذأو منذُ. ولكَ أن تَجُرّهُ على أنهما حرفا جرٍّ، شبيهانِ
بالزائدِ، نحو "ما رأَيتك مذْ يومٍ أو منذُ يومينِ" .
22- عَلُ ظرفٌ
للمكان بمعنى "فَوقُ" . ولا يستعملُ إلا بمن ولا يضافُ لفظاً على الصّحيح، فلا
يُقالُ "أخذتُهُ من عَلِ الخزانة" ، كما يقال "أخذتهُ من عُلوها ومن فوقها" .
وأجاز قومٌ إضافتهُ.
وله حالتانِ، الأولى البناءُ على الضم، إن
نَوَيتَ المضافَ إليه، نحو "نَزَلتُ من عَلُ" ، تُريدُ من فوقِ شيءٍ مُعيَّنٍ
مخصوصٍ، قال الشاعر [من الكامل]
وَلَقَدْ سَدَدْتُ عَلَيْكَ كُلَّ
ثَنِيَّةٍ ... وَأَتَيْتُ نَحْوَ بَني كِلاَبٍ مِنْ عَلُ
والحالةُ
الثانية جرُّهُ لفظاً بمن، على أنهُ مُعرَبٌ، وذلك إن أردتَ التنكيرَ، فحذفتَ
المضافَ إليه وجعلتَه نَسياً مَنسيّاً، نحو "نزلتُ من عَلٍ" ، تريدُ من مكانٍ
عالٍ، لا من فوقِ شيءٍ مُعيّن. ومنه قول الشاعر يصف فرسهُ [من الطويل]
مِكَرٌّ
مِفَرٌّ، مُقْبِلٌ مُدبِرٌ مَعاً ... كجُلْمُودِ صَخْرٍ حَطَّةُ السَّيْلُ مِنْ
عَلِ
أراد تشبيهَ الفرسِ في سرعته بِجُلمودٍ انحطَّ من مكانٍ عالٍ،
لا من عُلْوٍ مخصوصٍ.
23- أسماءُ الزمان، المُضافةُ إلى الجملِ،
يجوزُ بناؤها، ويجوز إعرابها. ويرَجّحُ بناءُ ما أُضيفَ منها إلى جملةٍ صَدرُها
مبنيٌّ، كقول الشاعر [امرئ القيس / من الطويل]
عَلى حِينَ عَاتَبتُ
الْمَشِيبَ عَلى الصِّبا ... فَقُلْتُ أَلَّما تَصْحُ؟ والشَّيْبُ وازِعُ
وقولِ
غيرِه [من الطويل]
لأَجتَذِبنْ مِنْهُنَّ قَلْبي تَحَلُّماً ...
عَلى حِينَ يَستصْبينَ كُلَّ حَليم
وإن كانت مُصدَّرةً فالرَّاجحُ
والأولى إعرابُ الظرفِ، كقولهِ تعالى {هذا يومُ ينفعُ الصادقينَ صِدقُهُم} .
وقد يُبنى، ومنه قراءَةُ نافعٍ {هذا يومَ ينفعُ} ، ببناء "يومَ" على الفتح. ومن
هذا الباب قولُ الشاعر [من الطويل]
أَلَمْ تَعْلَمي، يا عَمْرَكِ
اللهُ، أَنني ... كريمٌ عَلى حِينِ الكرامُ قَلِيلُ
وقول الآخر [من
الوافر]
تَذَكَّرَ مَا تَذَكَّرَ مِنْ سُلَيْمَى ... عَلى حِينِ
التَّواصُلُ غَيْرُ دانِ
24- يجري مَجرَى "قبل وبعد" ، من حيث
الإعرابُ تارة والبناءُ تارة أُخرَى، الجهاتُ الستُّ "أَمام وقُدّام وخَلف
ووراءَ ويَمين وشمال ويَسار وفوق وتحت" . فإن أُضيفت، أو قُطعت عن الإضافة
لفظاً ومعنى، كانت مُعربَةً، نحو "جلستُ أمامَ الصفِّ. وسرتُ يميناً. وامشِ من
وراءِ الشَجرة" وإن قُطعت عن الإضافةِ لفظاً لا معنًى، بُنيتْ على الضمِّ، نحو
"اقعُدْ وراءُ، أو أمامُ، أو يمينُ، أو خَلفُ، أو فوقُ، أو تحتُ" ، ونحو "نزلتُ
من فوقُ. ونظرتُ من تحتُ. وأتيتُ من يَسارُ" . وتقولُ "جاءَ القوم، وخالدٌ خلف،
أو أمامُ" تُريدُ خلفَهم أو أَمامَهم، فحذفتَ المضافَ إليه ونوَيت معناهُ. قال
الشاعر [من الكامل]
لَعَنَ الإِلهُ تَعِلَّةَ بنَ مُسافِرٍ ...
لَعْناً يُشَنُّ عَلَيْهِ مِنْ قُدَّامُ
أي "من قُدّامه" .
(إذا
أردت جهة معينة، فانما تعينها بالإضافة، نحو "سر يمينَ الصف" . أو بحذف المضاف
إليه وبناء الظرف على الضم، نحو "سِر يمينُ" ، تعني يمين شيءٍ معين معروف عنده.
فالظرف هنا، وإن قطع عن الإضافة لفظاً. لم يقطع عنها معنى لأنه في نية
الإضافة.
وإن أردت يميناً غير معين، قلت "سر يميناً" ، تقطعه عن
الإضافة لفظاً ومعنى، قصداً إلى التنكير والإبهام) .
وفي حُكمها
"أولُ وأسفلَ ودُونُ" ، تقول "قِفْ أوَّل الصفِّ" وقِفْ أوَّلَ. وَلقيتُهُ عامَ
أوَّلَ. وقِفْ أَوَّلُ. وسِر من أَوّل. وتقولُ "اقعُدْ أَسفلَ الصفِّ. واقعد
أَسفلَ. وقم من أَسفلَ. واقعُد أَسفلُ. وسِرْ من أَسفلُ" . وقد تقدمَ الكلامُ
على "دون" .
واوَّلُ وأَسفلُ ممنوعانِ من الصرف للوصفيّةِ ووزنِ
"أفعلَ" ، ولذا لم ينوَّنا في قولكَ قُم من أسفلَ، ولقيتُهُ عَامَ أَوَّلَ
"."
فائدة
اعمل ان لفظ "أول" له استعمالان. أحدهما أن
يراد به الوصف، فيكون بمعنى "أسبق" ، فيعطى حكم اسم التفضيل فيمتنع من الصرف
ولا يؤنث
بالتاء، نحو "لقيتك عامَ أوّلَ" ، ويستعمل بمن، نحو "هذا
اوَّلُ من هذين. وجئت أوَّلَ من أمس" . وثانيهما أن لا يراد به الوصف، فيكون
اسماً متصرفاً نحو "لقيته عاماً أولا" . تريد عاماً قديماً. ومنه قولهم "ما له
أولٌ ولا آخرٌ. وما رأيت لهذا الأمر أولاً ولا آخراً" ، بالتنوين. تعني بالأول
والآخر المبدأ والنهاية. قال أبو حيان وفي محفوظي أن هذا مما يؤنث بالتاء ويصرف
أيضاً. فيقال "أولةٌ وآخرةٌ" او قلت والعامة عندنا تقول هذا الشيء ما له أولةٌ
ولا آخرةٌ "، وتقول" والذي ماله أولةٌ ما له آخرةٌ "بالتأنيث."
(المفعولُ
معهُ)
المفعولُ مَعَهُ اسمٌ فضلةٌ وقعَ بعد واوٍ، بمعنى "مع"
مسبوقةً بجملةٍ، ليدُلَّ على شيءٍ حصلَ الفعلُ بمُصاحبتِه (أي معهُ) ، بلا قصدٍ
إلى إشراكِهِ في حكم ما قبلهُ، نحو "مَشيتُ والنّهرَ" .
وفي هذا
المبحث ثلاثة مباحثَ
1- شُرُوطُ النصْبِ عَلى المعِيَّة
يشترط
في نصبِ ما بعد الواو، على أنه مفعولٌ معهُ، ثلاثةُ شُرُوط
1- أَن
يكون فضلةً (أَيْ بحيثُ يصحُّ انعقادُ الجملةِ بدونه) .
(فان كان
الاسم التالي للواو عمدة، نحو "اشترك سعيدٌ وخليلٌ" ، لم يجز نصبه على المعية،
بل يجب عظفه على ما قبله، فتكون الواو عاطفة. وإنما كان "خليل" هنا عمدة، لوجوب
عطفه على "سعيد" الذي هو عمدة.
والمعطوف له حكم المعطوف عليه. وغنما
وجب عطفه لأنّ فعل الاشتراك لا يقع إلا من متعدد. فبالعطف يكون الاشتراك مسنداً
إليهما معاً. فلو نصبته لكان فضلة، ولم يكن له حظّ في الاشتراك حاصلاً من واحد،
وهذا ممتنع) .
2- أن يكونَ ما قبلَهُ جملةً.
(فان سبقه
مفرد، نحو "كلّ امرئ وشأنهُ" ، كان معطوفاً على ما قبله. وكل مبتدأ. وامرئ مضاف
إليه. وشأنه معطوف على كل. والخبر محذوف وجوباً. كما تقدم نظيره في باب
"المبتدأ والخبر" . والتقدير كل امرئ وشأنهُ مُقترنانِ. ولك أن تنصب "كل" ، على
أنه مفعول به لفعل محذوف تقديره "دع أو اترك" ، فتعطف "شأنه" حينئذ عليه
منصوباً) .
3- أن تكونَ الواوُ، التي تسبقُهُ، بمعنى "مَعَ" .
(فان
تعين أن تكون الواو للعطف، لعدم صحة المعية، نحو "جاء خالدٌ وسعيدٌ قبله، أو
بعده" ، فلم يكن ما بعدها مفعولا معه، لأن الواو هنا ليست بمعنى "مع" ، إذ لو
قلت "جاء خالد مع سعيد قبله، أو بعده" كان الكلام ظاهر الفساد.
وإن
تعين أن تكون واوً الحال فكذلك، نحو "جاء علي والشمسُ طالعة" ) .
ومثالُ
ما اجتمعت فيه الشُّروطُ "سارَ علي والجبلَ. وما لكَ وسعيداً؟ وما أنت
وسليماً."
2- أَحكامُ ما بعدَ الواوِ
للاسمِ الواقعِ بعد
الواو أربعةُ أحكام وجوبُ النّصبِ على المعيّةِ، ووجوبُ العطفِ، ورُجحانُ
النصبِ، ورجحانُ العطف.
فيجب النصبُ على المعيّةِ (بمعنى أنه لا
يجوزُ العطف) إذا لزمَ من العطف فسادٌ في المعنى، نحو "سافرَ خليلٌ والليلَ.
ورجعَ سعيدٌ والشمسَ" ومنه قولهُ تعالى {فأجمِعُوا أمرَكم وشُرَكاءَكم} ،
وقولهُ {والذين تَبَوَّؤُا الدارَ والإيمانَ} .
(وإنما امتنع العطف،
لأنه يزلم منه عطف الليل على خليل، وعطف الشمس على سعيد، فيكونان مسنداً
إليهما، لأن العطف على نية تكرير العامل، والمعطوف في حكم المعطوف عليه لفظاً
ومعنى، كما لا يخفى، فيكون المعنى "سافر خليل وسافر الليل، ورجع سعيد ورجعت
الشمس" وهذا ظاهر الفساد.
ولو عطفتَ "شركاءكم" ، في الآية الأولى،
على "أمركم" لم يجز، لأنه يقال "أجمع أمرَهُ وعلى أمره" ، كما يقال "عزمه وعزم
عليه" ، كلاهما بمعنى واحد. ولا يقال "أجمع الشركاء أو عزم عليهم" . بل يقال
"جمعهم" . فلو عطفت كان المعنى "اعزموا على أمركم واعزموا على شركائكم" ...
وذلك واضح البلطلان.
ولو عطفتَ الإيمانَ على الدار، في الآية
الأخرى، لفسد المعنى، لأنّ الدار. أن تُتَبَوَّأ - أي تُسكن - فالإيمان لا
يُتَبوأ. فما بعد الواو، في الآيتين، منصوب على أنه مفعول معه. فالواو واو
المعية.
ويجوز أن تكون الواو في الآيتين، عاطفة وما بعدها مفعول به
لفعل
محذوف تقديره في الآية الأولى "ادعوا واجمعوا" - فعل أمر من
الجمع - وفي الثانية "أخلصوا" - فعل ماض من الإخلاص - فيكون الكلام من عطف جملة
على جملة، لا من عطف مفرد على مفرد.
ويجوز أن يكون شركاءَكم معطوفاً
على (أمركم) على تضمين "أجمعوا" معنى "هيئوا" . وأن يكون الإيمان معطوفاً على
تضمين "تبوؤا" معنى "لزموا" . والتضمين في العربية باب واسع) .
ويجبُ
العطفُ (بمعنى أنه يمتنعفُ النصبُ على المعيّة) إذا لم يَستكمل شروطَ نصبهِ
الثلاثةَ المتقدمةَ.
ويرَجّحُ النصبُ على المعيّة، مَعَ جواز
العطفِ، على ضَعفٍ، في موضعين
1- أن يلزمَ من العطف ضعفٌ في
التركيب، كأن يلزمَ منه العطفُ على الضمير المُتّصلِ المرفوعِ البارز، أو
المستتر، من غير فصلٍ بالضمير المنفصل، أو بفاصلٍ، أيِّ فاصلٍ، نحو "جئتُ
وخالداً. واذهبْ وسليماً" . ويَضعُفُ أن يُقالَ "جئتُ وخالدٌ. واذهبْ وسليم"
.
(أي بعطف "خالد" على التاء في "جئت" ، وعطف "سليم" على الضمير
المستتر في "اذهب" . والضعف إنما هو من جهة الصناعة النحوية الثابتة أصولها
باستقراء كلام العرب. وذلك أن العرب لا تعطف على الضمير المرفوع المتصل البارز
أو المستتر، إلا أن يفصل بينهما بفاصل أيّ فاصل. نحو: "جئت اليوم وخالدٌ واذهب
غداً وسعيدٌ" . والأفضل أن يكون الفاصل ضميراً منفصلاً يؤكد به الضميرُ المتصل
أو المستتر، نحو "جئت أنا وخالد. واذهب أنت وسعيد" ) .
أما العطفُ
على الضمير المنصوب المتّصل، فجائزٌ بلا خلافٍ، نحو "أَكرمتكَ وزُهيراً" .
وأما
العطفُ على الضمير المجرور، من غير إعادة الجارّ، فقد منعه جمهور النُّحاةِ،
فلا يقالُ على رأيهم "أحسنتُ إليك وأبيك" ، بل أحسنتُ إليك وأباكَ "، بالنصب
على المعيّة. فإن أعدتَ الجار جازَ، نحو" أحسنتُ إليك وإلى أبيك ". والحقُّ أنه
جائز. وعلى ذلك الكسائيُّ وابنُ مالكٍ وغيرُهما. وجعلوا منه قولهُ تعالى
{وكُفرٌ بهِ والمسجدِ الحرام} وقد قرئَ في السبعِ {واتقوا اللهَ الذي تساءَلونَ
بهِ والأرحامِ} ، بجرّ" الأرحامِ "عطفاً على الهاء في" به "، قرأ ذلك حمزةُ،
أحدُ القُرَّاءِ السبعة. لكنَّ الأكثرَ والأفصحَ إعادةُ الجارَ، إذا أُريد
العطفُ. كما تقدّم."
2- أن تكونَ المعيّةُ مقصودةً من المتكلم،
فتَفوتُ بالعطف، نحو "لا يَغُرَّكَ الغِنى والبَطَرَ. ولا يعجِبْكَ الأكل
والشبَعَ. ولا تهوَ رغَدَ العيشِ والذُّلَّ" ، فإن المعنى المراد، كما ترى،
ليسَ النهيَ عن الأمرينِ. وإنما هو الأول مجتمعاً مع الآخر. ومنه قول الشاعر
[من الوافر]
فَكونوا أَنتُمُ وبَنِي أَبيكمْ ... مَكانَ
الكِلْيَتَيْنِ مِنَ الطِّحالِ
(فليس مراده كونوا أنتم وليكن بنو
أبيكم، وإنما يريد كونوا أنتم مع بني أبيكم. فالنصب على المعية فيما تقدم راجح
قوي، لتعيينه المعنى المراد، وفي العطف ضعف من جهة المعنى) .
والمُحقّقُون
يوجبون، في مثل ذلك النصبَ على المعيّة، ولا يُجوّزون العطف. وهو الحقُّ، لأنَّ
العطفَ يفيدُ التشريكَ في الحكم. والتشريكُ هنا غير مقصود.
ويرَجْحُ
العطفُ متى أمكنَ بغيرِ ضعفٍ من جهة التركيب، ولا من جهة المعنى، نحو "سار
الأميرُ والجيشُ. وسرتُ أنا وخالدٌ. وما أنتَ وسعيدٌ؟" ، قال تعالى {يا آدمُ
اسكن أنتَ وزوجُكَ الجنة} .
ومتى ترجحَ العطفُ ضَعُفَ النصبُ على
المعيّة، ومتى ترجحَ النصبُ على المعيّة ضعُفَ العطفُ.
خلاصة
وتحقيق
(وخلاصة البحث أن ما بعد الواو، تارة لا يصح تشريكه في حكم
ما قبله، نحو "سار علي والجبل" فيجب نصبه على المعية. وتارة يصح تشريكه فيمنع
من العطف مانع، نحو "جئت وسعيداً" ، فيترجح نصبه على المعية. وتارة يجب تشريكه،
نحو "تصالح سعيد وخالد" فيجب العطف. وتارة يجوز تشريكه بلا مانع، نحو "سافرت
أنا وخليل" ، فيختار فيه العطف على نصبه على المعية، وتارة لا يكون التشريك
مقصوداً، وإنما يكون المقصود هو المعية، فيكون الكلام على نية الإعراض عن تشريك
ما بعد الواو في حكم ما قبلها الى مجرّد معنى المصاحبة. فيرجح النصب على المعية
على العطف، نحو "لا تسافر أنت وخالدً" ، إذا أردت نهيه عن السفر مع خالد، لا
نهيه ونهيَ خالدٍ عن السفر. وقد ذكرنا آنفاً بضعة أمثلة على ذلك. فان قصدت إلى
نهيهما كليهما عن السفر، ترجح العطف. نحو "لا تسافر أنت وخالد" .
والنفس
تواقة إلى إيجاب النصب على المعية فيما لم يُقصد به إلى التشريك في الحكم، والى
ايجاب العطف فيما يُقصد به الى التشريك فيه، مراعاةً لجانب المعنى الذي يريده
المتكلم. ونرى أن اجازتهم العطف في
الصورة الأولى، والنصب على
المعية في الصورة الثانية (على ضعف فيهما) انما هي من حيث الصناعة اللفظية،
بمعنى أنه لا يمنع من ذلك مانع من حيث القواعد النحوية. وأنت خبير بما في ذلك
من التهويش على السامع والتلبيس عليه. فاحفظ هذا التحقيق واعمل به) .
3-
العاملُ في الْمَفْعولِ مَعَهُ
يَنصبُ المفعولَ معهُ ما تقدَّمَ
عليه من فعلٍ أو اسمٍ يُشبهُ الفعلَ. فالفعلُ نحو "سرتُ والليلَ" ، والاسمُ
الذي يُشبهُهُ، نحو "انا ذاهبٌ وخالداً" . "وحسبُكَ وسعيداً ما فعلتُما" .
وقد
يكونُ العاملُ مقدّراً، وذلكَ بعدَ "ما وكيفَ" الاستفهاميّتينِ، نحو "ما أنتَ
وخالداً. وما لك وسعيداً. وكيفَ أنتَ والسفرَ غداً. والتقدير" ما تكون وخالداً؟
وما حاصل لكَ وسعيداً؟ وكيف تكونُ والسفرَ غداً "."
واعلم أنه لا
يجوزُ أن يتقدّمَ المفعولُ معهُ على عاملهِ، ولا على مُصاحبهِ، فلا يقال
"والجبلَ سارَ عليٌّ" ولا "سارَ والجبلَ عليٌّ" .
(الحال)
الحالُ
وصفٌ فضلةٌ يُذكرُ لبيانِ هيئَةِ الاسمِ الذي يكونُ الوصفُ له، نحو "رجعَ
الجندُ ظافراً. وأدَّبْ ولدَكَ صغيراً. ومررتُ بهند راكبةً. وهذا خالدٌ
مُقبلاً" .
(ولا فرق بين أن يكون الوصف مشتقاً من الفعل، نحو "طلعت
الشمس صافية" ، أو اسماً جامداً في معنى الوصف المشتق، نحو "عدا"
خليل
غزالاً "أي مسرعاً كالغزال."
ومعنى كونه فضلة أنه ليس مسنداً اليه.
وليس معنى ذلك أن هيصح الاستغناء عنه اذ قد تجيء الحال غير مستغنى عنها كقوله
تعالى {وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما لاعبين} وقوله {لا تقربوا الصلاة
وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون} ؛ وقول الشاعر [من الخفيف]
انما
الميتُ من يعيشُ كئيباً ... كاسفاُ بالُهُ، قليلَ الرّجاء
وقد تشتبه
الحال بالتمييز في نحو "لله ِ دَرّهُ فارساً أو عالماً أو خطيباً" . فهذا ونحوه
تمييزٌ لأنه لم يقصد به تمييز الهيئة. وانما ذكر لبيان جنس المتعجب منه،
والهيئة مفهومة ضمناً. ولو قلت "لله دَرّهُ من فارس" . لصحَّ. ولا يصحّ هذا في
الحال. فلا يقال "جاء خالد من راكب" وليس مثل ما تقدم هو التمييز حقيقة. وانما
هو صفته نابت عنه بعد حذفه. والأصل "لله درّهُ رجلاً فارساً" .
وربما
اشتبهت الحال بالنعت. نحو "مررت برجل راكب" . فراكب نعت. لأنه ذكر لتخصيص الرجل
لا لبيان هيئته) .
واعلم أنّ الحالَ منصوبةٌ دائماً. وقد تُجرُّ
لفظاً بالباءِ الزائدة بعد النفيِ، كقول الشاعر [من الوافر]
فما
رَجَعَتْ بِخائِبةٍ رِكابٌ ... حَكيمُ بنُ المُسَيَّبِ مُنْتَهاها
وفي
هذا الباب تسعةُ مَباحثَ
1- الاسمُ الَّذي تَكون لَهُ الحالُ
تجيء
الحالُ من الفاعل، نحو "رجعَ الغائبُ سالماً" . ومن نائب الفاعل، نحو "تُؤكلُ
الفاكهةُ ناضجة" . ومن الخبرِ، نحو "هذا الهلالُ طالعاً" . ومن المبتدأ (كما هو
مذهبُ سيبويه ومن تابعهُ. وهو الحقُّ) ، نحو "أنتَ مجتهداً أخي" ونحو "الماءُ
صرفاً شرابي" . ومن المفاعيل كلها على الأصحّ، لا من المفعول به وحدَهُ.
فمجيئُها من المفعول به نحو "لا تأكل الفاكهة فِجّةً" ومن المفعول المطلق نحو
"سرتُ سيري حثيثاً، فتعبتُ التعب شديداً" ، ومن المفعول فيه نحو "سريتُ الليلَ
مظلماً. وصُمتُ الشهرَ كاملاً" ، ومن المفعول لأجلهِ نحو "افعلِ الخيرَ محبةَ
الخيرِ مجرَّدةً عن الرياء" ، ومن المفعولِ معهُ نحو "سِرْ والجبلَ عن يمينك"
ونحو "لا تَسرِ والليلَ داجياً" .
ولا فرقَ بينَ أن يكون المفعولُ
صريحاً، كما رأيتَ، أو مجروراً بالحرف، نحو "انهضْ بالكريمِ عاثراً" ونحو "لا
تَسرِ في الليل مُظلِماً" ونحو "اسعَ للخير وحدَهُ" .
وقد تأتي
الحالُ من المضاف إليه بشرط أن يكون في المعنى، أو في التقدير، فاعلاً أو
مفعولاً، وذلك في صورتين.
1- أن يكونَ المضافُ مَصدراً أو وصفاً
مضافين إلى فاعلهما أو نائب فاعلهما أو مفعولِهما.
فالمصدرُ المضافُ
إلى فاعلهِ، نحو سَرّني قدومكَ سالماً "، ومنه قولهُ تعالى {إليه مرجعُكُم
جميعاً} ، وقولُ الشاعر [مالك بن الديب / من الطويل] "
تقُولُ
ابْنَتي إنَّ انْطلاقَكَ واحداً، ... إلى الروْعِ يَوْماً، تاركي لا
أَبالِيَا
والوصفُ المضافُ إلى فاعله نحو "أنتَ حسَنُ الفرَسِ
مُسرَجاً" .
والوصفُ المضافُ إلى نائب فاعله نحو "خالدٌ مغمَض
العينِ ادمعةً" .
والمصدرُ المضافُ إلى مفعولهِ، نحو "يعجبُني
تأديبُ الغلام مُذنِباً، وتهذيبُهُ صغيراً" .
والوصفُ المضافُ إلى
مفعولهِ نحو "أنتَ ورادُ العيشِ صافياً، ومسهَلُ الأمرِ صعباً" ، ونحو "خالدٌ
ساري الليلِ مظلماً" .
وبذلك تكونُ الحالُ قد جاءَت من الفاعل أو
نائبه أو من المفعولِ، كما هو شرطها.
2- أن يَصِحَّ إقامةُ المضافِ
إليه مقامَ المضاف، بحيثُ لو حذف المضافُ لاستقامَ المعنى. وذلكَ بأن يكونَ
المضافُ جُزْءاً من المضاف إليه حقيقةً، كقولهِ تعالى {أيُحب أحدُكم أن يأكل
لحمَ أخيه مَيتاً فكَرِهتُموهُ} ، وقوله {ونَزَعنا ما في صُدورهم من غِلٍّ
إخواناً} ، ونحو "أمسكتُ بيدِكَ عاثراً" . أو يكونَ كجزءٍ منه، نحو "تَسرُّني
طِباعُ خالدٍ راضياً، وتسوءُني أخلاقُهُ غضبان" . ومنه قوله تعالى {أنِ
اتَّبِعْ ملّةَ إبراهيمَ حنيفاً} .
(وبذلك تكون الحال ايضاً قد جاءت
من الفاعل أو المفعول تقديراً، لأنه يصح الاستغناء عن المضاف. فاذا سقط ارتفع
ما بعده على الفاعلية أو انتصب على المفعولية. وإذا علمت ذلك عرفت أنه لا يصحُّ
أن يقال "مررت بغلام سعاد جالسة" ، لعدم صحة الاستغناء عن المضاف؛ لأنه ليس
جزءاً من المضاف إليه، ولا كالجزء منه. فلو أسقطت الغلام، فقلت "مررت بهند
جالسة" لم يستقم المعنى المقصود، لأن القصد هو المرور بغلامها لا بها) .
2-
شروطُ الحال
يشترطُ في الحال أربعةُ شروطٍ
1- أن تكونَ
صفةً مُنتقلةً، لا ثابتةً (وهو الأصلُ فيها) ، نحو "طلعت الشمسُ صافيةً" .
وقد
تكونُ صفةً ثابتةً، نحو "هذا أَبوكَ رحيماً* {يومَ أُبعثُ حيّاً} * {خُلِقَ
الإنسانُ ضعيفاً} * خَلَقَ اللهُ الزَّرافةَ يَدَيها أطولَ من رِجلَيها*
{أَنزلَ إليكم الكتابَ مفصّلاً} " . وقال الشاعر [من الطويل]
فَجَاءَتْ
بهِ سَبْطَ العِظامِ، كأَنما ... عِمامتُهُ بَيْنَ الرِّجالِ لِواءُ
2-
أن تكونَ نكرةً، لا معرفةً.
وقد تكون معرفةً إذا صحَّ تأويلُها
بنكرةٍ، نحو "آمنتُ بالله وحدهُ" . أَي منفرداً، ونحو "رجعَ المسافرُ عودَهُ
على بَدئهِ" ، أي عائداً في طريقه، والمعنى أنه رجعَ في الحال. ونحو "أُدخلُوا
الأولَ فالأولَ" أي مترَتِّبينَ. ونحو "جاءُوا الجَمّاءَ الغَفيرَ" ، أي
جميعاً. ونحو "إفعلْ هذا جُهدَكَ وطاقتكَ" أي جاهداً جادًّا. ونحو "جاءَ القومُ
قَضَّهُم، بقَضيضهم" ، أي جاءُوا جميعاً أو قاطبةً.
3- أن تكونَ
نَفْسَ صاحبِها في المعنى، نحو "جاءَ سعيدُ راكباً" .
(فان الراكب
هو نفس سعيد. ولا يجوز أن يقال "جاء سعيد ركوباً" . لأن الركوب فعل الراكب وليس
هو نفسه) .
4- أن تكون مشتقّةً، لا جامدةً.
وقد تكون
جامدةً مُؤَوَّلةً بوصفٍ مشتقٍّ، وذلك في ثلاث حالات
الأولى أن
تدُلَّ على تشبيهٍ، نحو "كرَّ عليٌّ أسداً" ، أي شُجاعاً كالأسد، ونحو "وضَحَ
الحقُّ شمساً" ، أي مضيئاً، أو ميراً كالشَّمس. ومنه قولهم "وقعَ المصطَرعانِ
عِدْليْ عَيرٍ" . أي مصطَحِبَينِ كاصطحابِ عدليْ حمارٍ حينَ سقوطهما.
الثانيةُ
أن تَدُلُّ على مُفاعلةٍ، نحو "بِعتُكَ الفرَسَ يداً بيدٍ" ، أي متقابضينِ،
ونحو "كلّمتُه فاهُ غلى فيَّ" ، أي مُتشافهينِ.
الثالثةُ أن تدلَّ
على ترتيبٍ، نحو "دخلَ القومُ رجلاً رجلاً" ، أي مُترَتّبينَ، ونحو "قرأتُ
الكتابَ باباً باباً" ، أي مُرَتّباً.
وقد تكونُ جامدةً، غيرَ
مُؤوَّلةٍ بوصفٍ مُشتق، وذلك في سبع حالاتٍ
الأولى أن تكونَ
موصوفةً، كقوله تعالى {إنّا أنزلناه قرآنا عربياً} وقولهِ {فتَمثَّلَ لها
بَشراً سَوياً} .
الثانيةُ أن تدلَّ على تسعيرٍ، نحو بعتُ القمحَ
مُدًّا بِعشرةِ قُروشٍ. واشتريتُ الثوبَ ذِراعاً بدينارِ "."
الثالثةُ
أن تدُلَّ على عددٍ، كقوله تعالى {فَتَمَّ مِيقاتُ رَبكَ أربعينَ ليلةً} .
الرابعةُ
أن تَدُلَّ على طَورٍ، أي حالٍ، واقعٍ فيه تفضيلٌ، نحو "خالدٌ غلاماً أحسنُ
منهُ رجلاً" ونحو "العِنَب زبيباً أطيبُ منه دِبساً" .
الخامسةُ أن
تكون نوعاً لصاحبها، نحو "هذا مالُكَ ذهباً" .
السادسةُ أن تكونَ
فرعاً لصاحبها، نحو "هذا ذَهبُكَ خاتماً" ، ومنه قولهُ تعالى {وتنحِتونَ
الجبالَ بُيوتاً} .
السابعةُ أن تكون أصلاً لصاحبها، نحو "هذا
خاتُمكَ ذَهباً. وهذا ثوبُك كتّاناً" ، ومنه قوله تعالى {أأسجُدُ لِمن خَلقتَ
طيناً؟} .
فوائد
1- سمع بعض المصادر مما يدل على نوع
عامله منصوباً. فقال جمهور البصريين انه منصوب على الحال. وهو مؤول بوصف مشتق،
نحو "جاء ركضاً. قتله صبراً. طلع علينا فجأة أو بغتة. لقيته كفاحاً أو عياناً.
كلمته مشافهة. أخذت الدرس عن الأستاذ سماعاً" ونحو ذلك وجعلُ هذه المصادر
حالاً، كما قالوا، جائز. والأولى أن يجعل ذلك مفعولاً مطلقاً مبيناً للنوع. فهو
منصوبٌ على المصدرية لا على الحالية، لأن المعنى على ذلك، فلا حاجة الى
التأويل.
2- جعلوا أيضاً المصدر المنصوب بعد "أل" الكمالية (أي
الدالة
على معنى الكمال في مصحوبها) منصوباً على الحال (بعد تأويله
بوصف مشتق) . نحو "أنت الرجل فهماً" والحق أنه منصوب على التمييز، ولا معنى
للحال هنا.
3- جعلوا من المنصوب على الحال (بعد تأويله بوصف مشتق)
المصدرَ المنصوب بعد خبر مُشبهٍ به مبتدؤه، نحو "أنتَ زهيرٌ شعراً. وسحبانُ
فصاحةً، وحاتم جوداً، والأحنفُ حلماً، واياسٌ ذكاءً" . وهو منصوب على التمييز
لا محالة، ولا معنى للحال هنا.
4- جعلوا أيضاً المنصوب بعد "أمّا"
في مثل قولك "أمّا علماً فعالمٌ" حالاً، بعد تأويله بوصف مشتق، وهو منصوب على
أنه مفعول به لفعل محذوف، والتقدير "أن ذكرت العلم فهو عالم" . ولا معنى لنصبه
على الحال.
3- عاملُ الحالِ وصاحبُها
تحتاج الحالُ إلى
عاملٍ وصاحبٍ.
فعاملُها ما تَقدَّم عليها من فعلٍ، أو شبههِ، أو
مَعناهُ.
فالفعلُ، نحو "طلعت الشمسُ صافيةً" .
والمرادُ
بشبهِ الفعلِ الصفاتُ المشتقةُ من الفعلِ، نحو "ما مسافرٌ خليلٌ ماشياً" .
والمراد
بمعنى الفعل تسعةُ أشياء
1- اسمُ الفعلِ، نحو "صَهْ ساكتاً.
ونَزَالِ مُسرعاً" .
2- اسمُ الإشارةِ، نحو "هذا خالدٌ مُقبلاً" ،
ومنه قولهُ تعالى
{وهذا بَعلي شيخاً} ، وقولهُ {فَتلكَ بُيوتُهُم
خاويةً بما ظلموا} ، وقولهُ {إنَّ هذه أُمَّتُكم أُمَّةً واحدةً} .
3-
أدواتُ التّشبيهِ، نحو "كأنَّ خالداً، مقبلاً، أسدٌ" ، قال الشاعر [من
الطويل]
كأَنَّ قُلُوبَ الطَّيْرِ، رَطْباً ويَابساً ... لَدَى
وَكْرِها، العُنَّابُ والحَشَف البالي
4- أدوات التّمني والتّرجّي،
نحو: "ليتَ السرورَ، دائماً عندنا، ونحو:" لَعلَّك، مدَّعياً، علي حقٍّ "."
5-
أدوات الاستفهام، نحو: "ما شأنُكَ واقفاً؟ * ما لَكَ مُنطلقاً* كيفَ أنتَ
قائماً؟ * كيفَ بزُهيرٍ رئيساً؟" . ومن ذلك قولُه تعالى: {فَمَا لَهُمْ عَنِ
التذكرة مُعْرِضِينَ} [المدثر: 49] .
6- حرفُ التنبيهِ، نحو "ها
هُوَ ذا البدرُ طالعاً" .
7- الجارُّ والمجرورُ، نحو "الفرَسُ لكَ
وحدَك" .
8- الظرفُ، نحو "لَدَينا الحقُّ خَفّاقاً لواؤُهُ" .
9-
حرفُ النداء، كقوله "يا أيُّها الرَّبعُ مبكيّاً بساحتهِ" .
وصاحبُ
الحالِ ما كانت الحالُ وصفاً له في المعنى. فإذا قلتَ "رجعَ الجندُ ظافراً" ،
فصاحبُ الحال هو "الجُندُ" وعاملُها هو "رجعَ" .
والأصلُ في صاحبها
أن يكون معرفةً، كما رأيتَ. وقد يكونُ نكرةً، بأحدِ أربعةِ شروطٍ
1-
أن يتأخرَ عنها، نحو "جائني مُسرعاً مُستنجدٌ فأنجدتهُ" ، ومنه قولُ الشاعر
"لِمَيّةً مُوحِشاً طَلَلُ" .
وقول الآخر [من الطويل]
وَفي
الجِسْم مِنّي بَيِّناً، لَوْ عَلِمْتِهِ، ... شُحُوبٌ. وإِنْ تَستَشْهِدي
العَيْنَ تَشْهَدِ
وقولُ غيره [من الطويل]
ومَا لامَ
نَفْسِي مِثْلَها ليَ لائِمُ ... ولا سَدَّ فَقْرِي مِثْلُ مَا مَلَكَتْ
يَدِي
2- أن يسبقه نفيٌ أو نهيٌ أو استفهامٌ فالأولُ نحو "ما في
المدرسة من تلميذٍ كسولاً. وما جاءني أحدٌ إلاّ راكباً" ، ومنه قولهُ تعالى
{وما أهلكنا من قريةٍ إلا لها مُنذِرُونَ} . والثاني نحو "لا يَبغِ امروءٌ على
امرئ مُستسهِلاً بَغيَهُ، ومنه قولُ الشاعر [من الطويل] "
لاَ
يَرْكَنَنْ أَحدٌ إِلى الإِحجامِ ... يَوْمَ الْوَغَى مُتَخَوِّفاً لِحمامِ
الثالثُ،
نحو "أَجاءكَ أحدٌ راكباً" ، ومنه قولُ الشاعر [من البسيط]
يا
صَاحِ، هَلْ حمَّ عَيْشٌ باقِياً؟ فَترَى ... لِنَفْسِكَ العُذْرَ في إِبعادِها
الأَمَلا
3- أن يتَخصَّصَ بوصفٍ أو إضافةٍ، فالأولُ نحو "جاءني
صديقٌ حميمٌ طالباً مَغونتي" ، ومنهُ قوله تعالى {فيها يُفرَقُ كلُّ أمر حكيمٍ،
أمراً من عندِنا} ، وقول الشاعر [من البسيط]
يا رَبِّ نَجَّيْتَ
نُوحاً واستجَبْتَ لَهُ ... في فُلُكٍ ماخِرٍ في الْيَمِّ مَشْحُونَا
والثاني،
نحو "مَرَّت علينا ستةُ أيامٍ شديدةً" ، ومنه قولهُ تعالى {في أربعة ايامٍ
سَواءً للسائلين} .
4- أن تكون الحالُ بعدَهُ جملةً مقرونةً بالواو،
كقوله تعالى {أو كالذي مَرَّ على قريةٍ، وهيَ خاويةٌ على عُرُوشها} .
وقد
يكونُ صاحبُ الحالِ نكرةً بلا مُسَوِّغٍ، وهو قليلٌ، كقولهم "عليه مِئَةٌ
بيضاً" ، وفي الحديث "صلَّى رسولُ اللهِ، صلَّى الله عليه وسلَّم، قاعداً
وصلَّى وراءهُ رجالٌ قِياماً" .
4- تَقَدُّمُ الحالِ على صاحِبها
وتَأَخُّرُها عنه
الأصلُ في الحالِ أن تتأخرَ عن صاحبها. وقد
تتقدَّمُ عليه جوازاً، نحو "جاء راكباً سعيدٌ" ، ومنه قول الشاعر [من
الكامل]
فَسَقَى دِيارَكِ، غَيْرَ مُفْسِدِها، ... صَوْبٌ الرَّبيعِ
وديمة تَهْمِي
وقد تتقدَّمُ عليه وُجوباً. وقد تَتأخرُ عنهُ
وجوباً.
فتتقدّمُ عليه وُجوباً في موضعينِ
1- أن يكونَ
صاحبُها نكرةً غير مستوفيةٍ للشُّروطِ، نحو "لخليلٍ مُهذَّباً غلامٌ" ، ومنه
قولُ الشاعر [من الطويل]
وهَلاَّ أَعَدُّوني لِمثْلي، تَفَاقَدُوا
... وَفي الأَرْضِ مَبْثُوثاً شُجاعٌ وعَقْرَبُ
2- أن يكونَ
محصوراً، نحو "ما جاء ناجحاً إلا خالدٌ وإنما جاء ناجحاً خالدٌ" . تقولُ ذلك
إذا أردتَ أن تَحصُرَ المجيء بحالة النجاح في خالد.
وتتأخرُ عنه
وجوباً في ثلاثة مواضع
1- أن تكونَ هي المحصورة، نحو "ما جاء خالدٌ
إلا ناجحاً. وإنما جاء خالدٌ ناجحاً" . تقول ذلك إذا اردت أن تحصُرَ مجيء خالدٍ
في حالة النجاح. ومنه قولهُ تعالى {وما نُرسِلُ المُرسلين إلا مبشّرينَ
ومنذِرينَ} .
2- أن يكون صاحبُها مجروراً بالإضافة، نحو "يُعجبُني
وُقوفُ عليٍّ خطيباً. وسرَّني عملُك مخلصاً" .
أما المجرور بحرف
جرٍّ أصلي، فقد منعَ الجمهورُ تقدُّمَ الحال عليه. فلا يقالُ "مررتُ راكبةً
بسعادَ وأخذتُ عاثراً بيدِ خليلٍ" . بل يجب تأخيرُ الحال. وأجاز تقدُّمَهُ ابنُ
مالك وغيرهُ. وجعلوا منه قوله تعالى وما
أرسلناكَ إلا كافَّةً للناس
. وجعلَ بعضُهم جوازَ تَقدُّمها عليه مخصوصاً بالشعر، كقول الشاعر [من
الطويل]
إذا الْمَرءُ أَعيَتْهُ المُرُوءَةُ ناشئاً ...
فَمَطْلَبُها كَهْلاً عَلَيْهِ عَسِيرُ
وقولُ الآخر [من الطويل]
تَسَلَّيْتُ
طُرًّا عَنْكُمُ بُعْدَ بَيْنِكُمْ ... بِذِكْراكُمُ، حَتَّى كَأَنَّكُم
عِنْدِي
وقول غيره [من الطويل]
لَئنْ كانَ بَرْدُ
الْمَاءِ هَيْمانَ صادِياً ... إليَّ حبِيباً، إِنَّها لَحَبِيبُ
وقولُ
الآخر [من الخفيف]
غافلاً تَعْرِضُ الْمَنِيَّةُ لِلمَرْ ... ءِ
فَيُدْعَى، ولاتَ حِينَ نِداءِ
أمّا المجرور بحرفِ جرٍّ زائد، فلا
خلافَ في جواز تقدُّمِ الحالِ عليه، لأن حرفَ الجرِّ الزائد كالسّاقطِ فلا
يُعتدُّ به، نحو "ما جاء راكباً من أحدٍ. وكفى صديقاً بِكَ" .
3- أن
تكون الحالُ جملةً مقترنةً بالواو، نحو "جاء عليٌّ والشمسُ طالعة" . فإن كانت
غيرَ مُقترننة بها جاز تأخيرُها وتقديمها، فالأولُ نحو "جاء خليلٌ يَحمِلُ
كتابهُ" ، والثاني نحو "جاء يحملُ كتابَهُ خليلٌ" .
وأجاز قومٌ
تقديمَها وهي مُصَدَّرةٌ بالواو. والأصح ما ذكرناه.
5- تقَدُّمُ
الحالِ على عاملِها وتأَخُّرُها عَنه
الأصلُ في الحال أن تَتأخرَ عن
عاملها. وقد تتقدَّم عليه جوازاً، بشرطِ أن يكون فعلاً مُتَصرفاً، نحو "راكباً
جاء علي" أو صفة تُشبهُ الفعلُ المتصرفَ - كاسمِ الفاعلِ واسمِ المفعولِ والصفة
المشبهَةِ - نحو "مُسرعاً خالدٌ مُنطلقٌ" . ومن الفعل المتصرف قوله تعالى
{خُشّعاً أبصارُهم يَخرُجونَ} ، وقولهم "شتّى تؤوبُ الحَلَبةُ" ، أي
مُتَفرِّقين يرجعون.
(فان كان العامل في الحال فعلا جامداً، أو صفة
تشبهه - وهي اسم التفضيل - أو معنى الفعل دون أحرفه، فلا يجوز تقديم الحال
عليه، فالأول نحو "ما أجملَ البدرَ طالعاً!" . والثاني "عليّ افصحُ الناس
خطيباً" . والثالث نحو "كأنّ علياً مُقدماً أسدٌ" ، فلا يقال "طالعاً ما أجمل
البدر. ولا علي خطيباً أفصحُ الناس. ولا مقدماً كأن علياً أسدٌ" ويستثنى من
ذلك
اسم التفضيل في نحو، قولك "سعيد خطيباً أفصح منه كاتباً.
وابراهيمُ كاتباً أفصح من خليل شاعراً" ففي هذه الصورة يجب تقديم الحال، كما
ستعلم.
واعلم أن اسم التفضيل صفة تشبه الفعل الجامد، من حيث أنه لا
يتصرف بالتثنية والجمع والتأنيث، كما تنصرف الصفات المشتقة، كاسم الفاعل واسم
المفعول والصفة المشبهة. فهو لا يتصرف تصرّفها إلا في بعض الأحوال، وذلك إن
اقترن بأل أو أضيف الى معرفة، فيصرف حينئذ افراداً وتثنية وجمعاً وتذكيراً
وتأنيثاً. كما عرفت في الجزء الأول من هذا الكتاب) .
متى تتقدم
الحال على عاملها وجوباً؟
تتقدمُ الحالُ على عاملها وجوباً في ثلاثِ
صُوَرٍ
1- أن يكون لها صدرُ الكلامِ، نحو "كيفَ رجعَ سليمٌ؟" ، فإن
أسماء الاستفهامِ لها صدرُ جملتها.
2- أن يكون العاملُ فيها اسمَ
تفضيلٍ، عاملاً في حالين، فُضّلَ صاحبُ إحداهما على صاحبِ الأخرى، نحو "خالدٌ
فقيراً، أكرمُ من خليلٍ غنيّاً" ، أو كان صاحبُها واحداً في المعنى، مُفضّلاً
على نفسه في حالةٍ دونَ أُخرى، نحو "سعيدٌ، ساكتاً، خيرٌ منه متكلماً" . فيجبُ
والحالةُ هذهِ، تقديمُ الحال التي للمُفضّل، بحيثُ يتوسطُ اسمُ التفضيلِ
بينهما، كما رأَيتَ.
3- أن يكون العاملُ فيها معنى التّشبيه، دونَ
أحرُفهِ، عاملاً في حالينِ
يرادُ بهما تشبيهُ صاحبِ الأولى بصاحبِ
الأخرى، نحو "أنا، فقيراً، كخليلٍ غنيّاً، ومنه قولُ الشاعر [من المتقارب] "
تُعَيّرُنا
أنَّنا عالةٌ ... ونحنُ، صَعاليكَ، أَنُتمْ مُلوكا
أو تشبيهُ
صاحبهما الواحد في حالةٍ، بنفسه في حالةٍ أُخرى، نحو "خالدٌ، سعيداً، مِثلُهُ
بائساً" . فيجبُ، إذ ذاك، تقديمُ الحالِ التي للمُشبّهِ على الحالِ التي
للمُشبّهِ به، كما رأيت. إلا إن كانت أداةٌ التّشبيه "كأنَّ" ، فلا يجوزُ
تقديمُ الحال عليها مُطلقاً، نحو "كأنَّ خالداً، مُهرولاً، سعيدٌ بَطيئاً" .
(فان
كان التشبيه العامل في الحالين، فعلاً أو صفة مشتقة منه، جاز تقديم حال المفضل
عليه وتأخيرها عنه، فالأول نحو "خالد ماشياً يشبه سعيداً راكباً" . والثاني نحو
"يشبه خالد ماشياً سعيداً راكباً" ) .
متى تتأخر الحال عن عاملها
وجوبا؟
تتأخرُ الحال عن عاملها وجوباً في أحدَ عشرَ موضعاً
1-
أن يكونَ العاملُ فيها فعلاً جامداً، نحو "نِعْمَ المهذارُ ساكتاً. ما أحسنَ
الحكيمَ متكلِّماً. بئس المرءُ منافقاً. أحسِنْ بالرَّجلِ صادقاً" .
2-
أن يكونَ اسمَ فعلٍ، نحو "نَزالِ مسرعاً" .
3- أن يكونَ مصدراً
يَصِحُّ تقديرُهُ بالفعلِ والحرفِ المصدري، نحو "سرَّني أو يَسرُّني، اغترابُك
طالباً للعلم" .
(اذ يصح أن تقول "يسرني أن تغترب طالباً للعلم" .
فان كان يصح تقديره بالفعل والحرف المصدري. نحو "سمعا كلامَ اللهِ متلوّاً" ،
جاز تقديمه عليه نحو "متلوّاً سمعا كلام الله" .
4- أن يكون صِلةً
لألْ، نحو "خالدٌ هو العاملُ مجتهداً" .
5- أن يكون صِلةً لحرفٍ
مصدريٍّ، نحو "يَسُّرني أن تعملَ مجتهداً. سَرَّني أن عملتُ مُخلِصاً، يَسرُّني
ما تجتهدُ دائباً. سرَّني ما سَعَيتَ صابراً" .
6- أن يكونَ مقروناً
بلامِ الابتداءِ، نحو "لأَصبِرُ مُعتمِلاً" . 7- أن يكونَ مقروناً بلامِ القسم،
نحو "لأثابرَنَّ مجتهداً" .
8- أن يكونَ كلمةً فيها معنى الفعل دون
أَحرفهِ، نحو "هذا عليٌّ مقبلاً. ليت سعيداً، غنيّاً، كريمٌ. كأنَّ خالداً،
فقيراً، غنيٌّ."
9- أن يكون اسمَ تفضيلٍ، نحو "عليٌّ أفصحُ القومِ
خطيباً" ، إلا إذا كان عاملاً في حالين، نحو "العصفورُ، مغَرداً خيرٌ منه
ساكتاً" ، فيجبُ تقديمُ حال المفضّل على عامله، كما تقدَّم.
10- أن
تكونَ الحالُ مؤكدةً لعاملها، نحو "ولّى العدوُّ مدبِراً، فتَبسّم الصديقُ
ضاحكاً" .
11- أن تكون جملةً مقترنة بالواو، على الأصحِّ، نحو "جئتُ
والشمسُ طالعةٌ" .
(فان كانت غير مقترنة بالواو جاز تقديمها على
عاملها، نحو "يركب فرسه جاء خالد" وأجاز قوم تقديمها على عاملها وهي مصدرة
بالواو، فأجازوا أن يقال "والشمس طالعة جئت" والأصح ما قدّمناه. وقد سبق أنه لا
يجوز تقديم الجملة المصدرة بالواو على صاحبها أيضاً؛ وان قوماً أجازوه) .
6-
حَذْفُ الحالِ وحَذْفُ صاحِبها
الأصلُ في الحال أنه يجوز ذكرها
وحذفُها، لانها فضلةٌ. وإن حذفت فإنما تُحذَفُ لقرينة. وأكثرُ ذلك إذا كانت
الحالُ قولاً أغنى عنه ذكرُ القَول، كقولهِ تعالى {والملائكةُ يَدخلونَ عليهم
من كل باب سلامٌ عليكم} ، أي "يدخلون قائلين سلامٌ عليكم" ، وقوله {وإذْ يَرفعُ
إبراهيمُ القواعدَ من البيتِ وإسماعيلُ ربّنا تَقبّلْ منا} ، أي "يَرفعانِ
القواعدَ قائلَينِ ربّنا تقبّلْ منّا" .
وقد يُحذَفُ صاحبُها
لقرينةٍ، كقولهِ تعالى {أهذا الذي بَعثَ الله رسولاً} ، أَي "بعثهُ" .
وقد
يَعرِضُ للحال ما يَنعُ حذفَها، وذلك في أربعِ صورٍ
1- أن تكونَ
جواباً، كقولك "ماشياً" في جواب من قال "كيف جئتَ؟" .
2- أن تكونَ
سادًةَ مسَدَّ خبرِ المبتدأ، نحو "أَفضلُ صدَقةِ الرجلِ مُستتراً" .
3-
أن تكونَ بَدلاً من التلفُّظِ بفعلها، نحو "هنيئاً لكَ" .
4- أن
يكونَ الكلامُ مَبنيّاً عليها - بحيثُ يَفسُدُ بحذفها - كقوله تعالى {يا أيُّها
الذينَ آمنوا لا تقربُوا الصلاةَ، وأنتم سكارى، حتى تَعلموا ما تقولون} ،
وقولهِ {ولا تَمشِ في الأرضِ مَرَحاً} ومن هذا أن تكون محصورةً في صاحبها، أَو
محصوراً فيها صاحبُها، فالأولُ نحو "ما جاءَ راكباً إلاّ علي" ، والآخرُ نحو
"ما جاءَ عليٌّ إلاَّ راكباً" .
7- حذفُ عاملِ الحالِ
يحذَفُ
العاملُ في الحال. وذلك على قسمين جائز وواجب.
فالجائزُ كقولك لقاصد
السفر "راشداً" ، وللقادم من الحجِّ "مأجوراً" ، ولِمن يحدِّثُكَ "صادقاً" ،
ونحو "راكباً" لمن قال لكَ "كيف جئتَ؟" ، وبَلى مسرعاً "في جواب من قال لكَ"
إنَّكَ لم تَنطلق ". ومن ذلك قولهُ تعالى {أيَحسَبُ الإنسانُ أَن لن نجمعَ
عِظامَهُ؟ بَلى، قادرينَ على أن نُسوِّي بنَانَهُ} ، وقولُهُ حافضوا على
الصّلواتِ"
والصلاة الوسطى ، إلى قوله {فإن خِفتم فَرِجالاً أَو
ركباناً} .
والواجبُ في خمس صوَر
1- أن يُبيّن بالحالِ
ازيادٌ أَو نقصٌ بتدريجٍ، نحو (تَصدَّق بدرهمٍ فصاعداً، أَو فأكثرَ) ، ونحو
(اشترِ الثّوبَ بدينار فنازلاً، أو فأقلَّ، أَو فسَافِلاً) . وشرطُ هذهِ الحالِ
أَن تكون مصحوبة بالفاءِ، كما رأيت، أَو بِثمّ. والفاءُ أكثرُ.
2-
أن تُذكرَ للتّوبيخِ، نحو (أقاعداً عن العلمل، وقد قام الناسَ؟) ، ونحو
(أَمتوَانياً، وقد جَدَّ قُرَناؤكَ؟) . ومنه قولهم (أَتَميميّاً مرةً،
وقَيسيّاً أُخرَى؟) .
3- أَن تكون مُؤكدةً لمضمونِ الجملةِ، نحو
(أنت أَخي مواسياً) .
4- أن تسُدّ مسَدّ خبر المبتدأ، نحو (تأديبي
الغلامَ مُسيئاً) .
5- أَن يكون حذفُهُ (أَي حذفُ العامل) سَماعاً،
نحو (هنيئاً لك) .
8- أَقسامُ الحال
تنقسم الحال -
باعتبارات مختلفة - الى مؤسسة ومؤكدة؛ والى
مقصودة لذاتها وموئة،
والى حقيقية وسببية، والى مفردة وشبه جملة. فالمجموع تسعة أنواع، وسيأتيك
بيانها
الحال المؤسسة، والحال المؤكدة
الحالُ، إمّا
مؤسسةٌ، وإمَّا مؤكدةٌ
فالمؤسسةُ (وتُسمّى المبنيّة أَيضاً، لانها
تُذكرُ للتّبين والتّوضيح) هي التي لا يُستفادُ معناها بدونها، نحو (جاءَ خالدٌ
راكباً) . وأَكثر ما تأتي الحالُ من هذا النوع، ومنه قولهُ تعالى {وما نُرسِلُ
المرسَلين إلا مبَشّرينَ ومُنذِرينَ} .
والمؤكدةُ هيَ التي يُستفادُ
معناها بدونها، وإنما يُؤتى بها للتوكيد. وهي ثلاثةُ أَنواع
1- ما
يؤتى بها لتوكيدِ عاملها، وهي التي تُوافقه معنًى فقط، أو معنى ولفظاً. فالأول
نحو (تَبسّم ضاحكاً) ، ومنهُ قولهُ تعالى {ولا تَعثوا في الأرضِ مُفسدِين} ،
وقولهُ {ثمَّ توَليتم مدبِرين} ، والثاني كقوله تعالى {وأَرسلناكَ للناس
رسولاً} ، وقولِ الشاعر [من البسيط]
أَصِخْ مُصيخاً لِمَنْ أَبدَى
نَصيحَتَهُ ... والزَمْ تَوَقِّيَ خَلْطِ الجِدِّ بِاللَّعِبِ
2- ما
يؤتى بها لتوكيدِ صاحبِها، نحو (جاءَ التلاميذُ كلُّهم جميعاً) . قال تعالى
{ولو شاءَ ربُّكَ لآمنَ مَن في الأرض كلُّهم جَميعاً، أفأنتَ تُكرِهُ الناسَ
حتى يكونوا مؤمِنينَ؟} .
3- ما يؤتى بها لتوكيدِ مضمون جملة معقودة
من اسمينِ معرفتينِ
جامدينِ، نحو "هو الحقُّ بيّناً، أو صريحاً" ،
ونحو "نحنُ الأخوةُ مُتعاونينَ" ، ومنهُ قولُ الشاعر [من البسيط]
أَنَا
ابنُ دَارَةَ، مَعْروفاً بها نَسَبي. ... وَهَلْ بِدارَةَ، يا للنَّاسِ مِنْ
عارٍ
الحال المقصودة لذاتها، والحال الموطئة
الحالُ،
إمَّا مقصودة لذاتها (وهو الغالبُ) نحو "سافرتُ منفرداً" ، وإمَّا مُوطِّئة،
وهيَ الجامدةُ الموصوفةَ، فتُذكرُ تَوطئةً لما بعدها، كقوله تعالى {فتَمثّلَ
لها بَشراً سويّاً} ، ونحو "لَقيتُ خالداً رجلاً مُحسناً" .
الحال
الحقيقية، والحال السببية
الحالُ، إمَّا حقيقيةٌ، وهي التي تُبيّنُ
هيئَةَ صاحبها (وهو الغالبُ) نحو (جئتُ فَرِحاً) ، وإمَّا سَببيّة، وهي ما
تُبيّنُ هيئةَ ما يَحملُ ضميراً يعودُ إلى صاحبها، نحو (ركِبتُ الفرسَ غائباً
صاحبُهُ) ، ونحو (كلّمتُ هنداً حاضراً أبوها) .
الحال الجملة
الحالُ
الجملة. هو أَن تقعَ الجملةُ الفعليةُ، أو الجملةُ الاسميّة، مَوقعَ الحال،
وحينئذٍ تكونُ مؤَوَّلة بمفرد، نحو "جاء سعيدٌ يركُضُ" ونحو "ذهبَ خالِدٌ
دَمعُهُ مُتحدَّرٌ" . والتأويلُ "جاء راكضاً. وذهبُ مُتحدِّراً دَمعُهُ" .
ويُشترطُ
في الجملة الحاليّة ثلاثةُ شروطٍ
1- أن تكون جملةً خبريّةً، لا
طلبيةً ولا تَعَجُّبيّة.
2- أن تكون غيرَ مُصدّرةٍ بعلامةِ
استقبالٍ.
3- أن تَشتملَ على رابط يربطُها بصاحب الحال.
والرابطُ
إمّا الضميرُ وحدَهُ، كقوله تعالى {وجاءُوا أَباهم عِشاءً يبكونَ ". وإمّا
الواوُ فقط، كقوله سبحانهُ لَئِنْ أكلَهُ الذئبُ ونحنُ عصبةٌ} وإمّا الواو
والضميرُ معاً، كقوله تعالى {خرجوا من ديارهم وهم أُلوفٌ} ."
الحال
شبه الجملة
الحالُ شِبهُ الجملة هو أَن يقعَ الظرف أو الجارُّ
والمجرورُ في موقعِ الحال. وهما يتعلقانِ بمحذوفٍ وجوباً تقديرُهُ "مستقرًّا"
أو "استقرَّ" . والمُتعلّقُ المحذوفُ، في الحقيقة هو الحال، نحو "رأيتُ الهلالَ
بينَ السحابِ" ، ونحو "نظرتُ العُصفورَ على الغصنِ" . ومنه قوله تعالى "فخرجَ
على قومهِ في زينتهِ" .
فائدة جليلة
إذا ذكرَ معَ
المبتدأ اسمٌ وظرفٌ أَو مجرورٌ بحرف جرّ، وكلاهما صالحان للخبريَّة والحاليّة،
فإن تَصدَّرَ الظرفُ أَو المجرورُ، فالمُختارُ نصبُ الاسم على الحاليّة وجعلُ
الظرفِ أو المجرور خبراً مقدّماً، نحو "عندك، أَو في الدار، سعيدٌ نائماً" ،
ونحو "عندَك، أو في الدار، نائماً سعيدٌ" ، لأنه بتقديمه يكون قد تَهيّأ
للخبرية، ففي صرفه عنها إجحافٌ. ويجوز العكس.
وإن تَصدّرَها الاسمُ،
وجب رفعُهُ وجعلُ الظرفِ أو المجرور حالاً، نحو "نائمٌ عندَكَ، أو في الدار،
سعيدٌ" ، ونحو "نائمٌ سعيدٌ عندَكَ، أو في الدار" .
وإن تَصدَّرَها
المبتدأ، فإن تقدَّمَ الظرفُ أو المجرور على الاسم، جاز جعلُ كلٍّ منهما حالاً
والآخر خبراً، نحو "سعيدٌ عندَكَ، أو في داره" نائماً "، أو تقولُ" نائمٌ ".
وإن تَقدَّمَ الاسم على الظرف أو المجرور، فالمختارُ رفعُ الاسم، وجعلُ الظرفِ
أو المجرور حالاً، نحو" سعيدٌ نائمٌ عندَك، أو في داره "، ويجوز العكسُ (وهو
قليل في كلامهم) ، فتقولُ" سعيدٌ نائماً عندَكَ، أو في داره "."
ومنعَ
الجمهورُ نصبَ الاسم، في هذه الصورة. وأجازَهُ ابن مالك مُستنداً إلى قراءَة
الحسن البصريّ. {والأرضُ جميعاً قبضتُهُ يوم القيامة. والسمواتُ، مَطوياتٍ،
بِيَمينهِ} بنصبِ "مطوياتٍ" على الحال، وجعلِ "بيمينهِ" خبراً عن "السّموات" ،
وإلى قراءة من قرأَ، وقالوا {ما في بُطُونِ هذه الأنعامِ، خالصةً لذكورنا} ،
بنصب "خالصةً" على الحال، وجعلِ "لذكورنا" خبراً عن "ما الموصوليّة" .
والقراءتان شاذّتانِ. لكن فيهما دليلاً على الجواز. لأنه ليس معنى شذوذِ
القراءة أنها غيرُ صالحةٍ للاحتجاج بها عَربيّةً.
فإن لم يَصلُحِ
الظرفُ أو المجرورُ بالحرف للخبريّة (بحيثُ لا يكون مستغنًى عن الاسم، لأنه لا
يَحسُنُ السكوتُ عليه) تَعَيّنتْ خبريةُ الاسم
وحاليّةُ الظرف أو
المجرور، نحو "فيكَ إبراهيمُ راغبٌ" ، ونحو "إبراهيمُ فيكَ راغبٌ" . إذ لا
يصحُّ أن تَستغنيَ هنا عن الاسم، فتقولُ "إبراهيم فيك" .
الحال
المفردة
الحالُ المُفرَدةُ ما ليست جملةً ولا شِبهَها، نحو "قرأتُ
الدرسَ مجتهداً. وكتَباهُ مُجتهدَينِ. وتَعلمناهُ مجتهدِينَ" .
9-
واوُ الحالِ وأَحكامُها
واوُ الحالِ ما يصحُّ وقوعُ "إذ" الظرفيّةِ
موقعَها، فإذا قلتَ "جئتُ والشمسُ تغيبُ" ، صحَّ أن تقول "ئجتُ إذِ الشمسُ
تغيب" .
ولا تدخلُ إلاّ على الجملة، كما رأَيتَ، فلا تدخلُ على حال
مُفرَدة، ولا على حالٍ شبهِ جملةٍ.
وأصلُ الرَّبطِ أن يكونَ بضمير
صاحب الحال. وحيثُ لا ضميرَ وجبتِ الواو، لأنّ الجملةَ الحاليّةَ لا تخلو من
أحدهما أو منهما معاً. فإن كانت الواو معَ الضمير كان الرَّبطُ أشدَّ وأحكم.
وواوُ
الحالِ، من حيثُ اقترانُ الجملة الحاليّة بها وعَدمُهُ، على ثلاثة أضرُبٍ واجبٍ
وجائزٍ ومُمتنع.
متى تجب واو الحال؟
تجبُ واو الحال في
ثلاثِ صُوَرٍ
1- الأولى أن تكونَ جملةُ الحالِ إسميَّةً مجرَّدةً من
ضمير يَربطُها بصاحبها، نحو "جئت والناس نائمون" ، ومنه قوله تعالى {كما أخرجكَ
ربُّك من بيتكَ بالحق، وإنّ فريقاً من المؤمنين لكارهونَ} [الأنفال: 5] ،
وقولهُ: {لَئِنْ أَكَلَهُ الذئب وَنَحْنُ عُصْبَةٌ} [يوسف: 14] ، وتقول: "جئتُ
وما الشمسُ طالعةٌ" .
2- أن تكون مُصدَّرَةً بضمير صاحبها، نحو "جاء
سعيدٌ وهو راكبٌ" ، ومنه قولهُ تعالى {لا تَقرَبوا الصلاة وأنتم سُكارى} .
3-
أن تكون ماضيَة غيرَ مُشتملةٍ على ضمير صاحبها، مُثبتةً كانت أو مَنفيَّةً. غير
أنه تجب "قَدْ" معَ الواوِ في المثبتةِ، نحو "جئتُ وقد طلعت الشمسُ" ، ولا تجوز
مع المفيّةِ، نحو "جئتُ وما طلعتِ الشمسُ" .
متى تمنع واو الحال؟
تمتنعُ
واوُ الحال من الجملة في سبعش مسَائلَ
1- أن تقعَ بعد عاطفٍ، كقوله
تعالى {وكم من قريةٍ أهلكناها، فجاءَها بأسُنا بَياتاً، أو هم قائلونَ} .
2-
أن تكونَ مُؤكدةً لمضمون الحملةِ قبلَها، كقولهِ سبحانهُ {ذلكَ الكتابُ، لا
ريبَ فيه} .
3- أن تكونَ ماضِيَّةً بعد "إلاَّ" ، فتمتنعُ حينئذٍ من
"الواو" و "قدْ"
مجتمعينِ، ومُنفردتينِ، وتُربطُ بالضميرِ وحدَهُ،
كقوله تعالى {ما يأتيهم من رسول إلاَّ كانوا بهِ يستهزئونَ} . ولا عبرةَ
بِشُذوذِ من ذهب إلى جواز اقترانها بالواو، تمسُّكاً بقولِ الشاعر [من
البسيط]
نِعْمَ امرَءًا هَرِمٌ، لم تَعْرُ نائِبَةٌ ... إِلاَّ
وكانَ لِمُرتْاعٍ بها وَزَرا
أو إلى جواز اقترانها بِقَدْ، تمسكاً
بقولِ الآخر [من الطويل]
مَتَى يَأْتِ هذا الْمَوْتُ لَمْ يُلْفِ
حاجَةً ... لِنَفْسِيَ، إلاَّ قَدْ قَضَيْتُ قَضَاءَها
لأنَّ ذلك
شاذ مخالفٌ للقاعدةِ، وللكثيرِ المسموعِ في فصيح الكلام، منثورهِ ومنظومه.
4-
أن تكون ماضيّةً قبلَ "أو" ، كقول الشاعر [من البسيط]
كُنْ
لِلخَليلِ نَصيراً، جارَ أوْ عَدَلاَ ... وَلاَ تَشُحَّ علَيْهِ. جادَ أَوْ
بَخِلاَ
5- أن تكونَ مُضارعيّةً مُثبَتةً غيرَ مُقترنةٍ بِقدْ
وحينئذٍ تُربطُ بالضميرِ وحدَهُ، كقولهِ تعالى {ولا تَمنُنْ تَستكثرُ} ، ونحو
"جاء خالدٌ يحملُ كتابهُ" . فإن اقترنت بِقدْ، وجبتِ الواوُ معَها، كقولهِ
تعالى {لِمَ تُؤذونني؟ وقد تَعلمونَ أني رسولُ اللهِ إليكم} . ولا يجوزُ الواوُ
وحدَها ولا قَد وحدَها. بل يجبُ تجريدُها منهما معاً، أو اقترانُها بهما معاً،
كما رأيت.
6- أن تكونَ مُضارِعيّةً منفيّةً بِ "ما" ، فتمنعُ حينئذٍ
من الواو وقد، مُجتمعتينِ ومُنفردتينِ، وتُربَطُ بالضميرِ وحدَهُ كقول الشاعر
[من الطويل]
عَهْدْتُكَ ما تَصْبُو، وفيكَ شَبيبةٌ ... فَما لَكَ
بَعْدَ الشَّيْبِ صَبًّا مُتَيَّما؟
وقول الآخر [من البسيط]
كأنَّها
- يومَ صَدَّتْ ما تُكَلِّمُنا - ... ظَبْيٌ بِعُسْفانَ ساجِي الْظَّرْفِ
مَطْرُوفُ
(وأجاز بعض العلماء اقترانها بالواو، نحو "حضر خليل وما
يركب" . وليس ذلك بالمختار عند الجمهور. والذوق اللغوي لا يأباه. قال السيوطي
في (همع الهوامع) والمنفيّ بما فيه الوجهان أيضاً، نحو "جاءَ زيد وما يضحك؛ أو
ما يضحك" ) .
7- أن تكونَ مُضارعيّةً مَنفيّةً بِـ "لا" ، فتمنع
أيضاً من "الواو" و "قَدْ" مُجتمعتينِ ومُنفردتينِ، كقوله تعالى {وما لَنا لا
نُؤمِنُ باللهِ} ، وقولهِ {ما لي لا أرَى الهُدهُدَ} وقولِ الشاعر [من
الكامل]
لَوْ أَنَّ قَوْماً - لارْتِفاعِ قَبِيلَةٍ ... دَخَلوا
السَّماءَ - دَخَلْتُها - لاَ أُحجَبُ
(وأجاز قوم اقترانها بالواو،
لكنه بعيد من الذوق اللغوي، قال ابن الناظم "وقد يجيء (أي المضارع المنفي بلا)
بالضمير والواو" ) .
فإن كانت مَنفيّةً بِلَمْ، جاز أن تُربَطَ
بالواوِ والضميرِ معاً، كقولهِ تعالى {أو قالَ أُوحِيَّ، إِليَّ ولم يُوحَ
إليهِ شيءٌ} ، وقولِ النابغة الذبياني الشاعر [من الكامل]
ِسَقَطَ
النَّصيفُ ولم تُرِدْ إِسقاطَهُ ... فَتَناوَلَتْهُ، وَاتَّقَتْنا بالْيَدِ
وجاز
أن تُربَطَ بالضمير وحدَهُ، كقوله تعالى {فانقلبُوا بِنعمةٍ من اللهِ وفضلٍ لم
يُمسسْهُم سُوءٌ} ، وقولِ الشاعر [زهير / من الطويل]
كأَنَّ فُتاتَ
العِهْنِ - في كُلِّ مَنْزِلٍ ... نَزَلْنَ بهِ - حَبُّ الْفَنَا لَمْ
يُحَطَّمِ
فإن خلت من الضميرِ، وجبَ رَبطُها بالواو، نحو "جئت ولم
تطلُعِ الشمسُ" ولا يجوزُ تركها، ومنه قول الشاعر [عنترة / من الكامل]
ولَقَدْ
خَشِيتُ بِأنْ أَمُوتَ وَلَمْ تَدُرْ ... لِلْحَرْبِ دائِرَةٌ عَلى ابنَيْ
ضَمْضَمِ
وإن كانت منفيّة بلمّا، فالمختارُ ربطها بالواو على كل
حال، كقوله تعالى {أم حَسِبتُمْ أن تدخُلوا الجنّةَ ولمّا يَعلمِ اللهُ الّذينَ
جاهدوا منكم ويَعلَم الصّابرينَ} وقولِ الشاعر [من الطويل]
اشَوْقاً
وَلَمَّا يَمضِ لي غَيْرُ لَيْلَةٍ ... فَكَيْفَ إِذا خَبَّ الْمَطِيُّ بِنا
عَشْرا؟
وقولِ غيره [من الطويل]
إذا كُنْتَ مأْكُولاً،
فكُنْ خَيْرَ آكِلِ ... وَإِلاَّ فأَدْرِكْنِي وَلَمَّا أُمزَّقِ
(وأجاز
النحاة ربطها بالضمير وحده، نحو "رجعت لما أبلغ مرادي" . والمختار أن تربط
بالواو والضمير معاً، لأنها لم ترد في كلام العرب إلا كذلك. وإنما جوَّز النحاة
ترك الواو معها، قياساً على أختها (لم) ، لا سماعاً. والنفس غير مطمئنة إلى هذا
القياس، لأنّ الذوق اللغوي يأباه. قال ابن مالك والمنفي بلما كالمنفي بلم في
القياس. إلا أني لم أجده إلا بالواو) .
متى تجوز واو الحال
وتركها
يجوزُ أن تقترنَ الجملةُ بواو الحالِ، وأن لا تقترنَ بها، في
غير ما تقدَّمَ من صُوَر وُجوبها وامتناعها.
غيرَ أن الأكثرَ في
الجملةِ الاسميّة - مُثبتةً أو منفيةً - أن تقترنَ بالواو والضمير معاً.
فالمُثبتةُ كقولهِ تعالى "خرجوا من ديارهم وهم أُلوفٌ" ، وقولهِ {فلا تجعلوا
للهِ أنداداً وأنتم تعلمونَ} . والمنفيّةُ نحو "رجعتُ وما في يدي شيءٌ" .
وقد
تُربَطُ - مُثبَتةً أو منفيّةٌ - بالضمير وحدَهُ. فالمُثبتَةُ كقوله تعالى
{قُلنا اهبِطوا بعضُكم لبعضٍ عدُوٌّ} ، وقولِ الشاعر [من الطويل]
وَلَوْلاَ
جَنَانُ الليلِ ما آبَ عامرُ ... إلى جَعْفَرٍ، سِربَالُهُ لَمْ يُمَزَّق
وتقولُ
"جاءَ عليٌّ، وجهُهُ مُتَهَلَلٌ. وكرّ خالدٌ كأنَّهُ أسدُ، والمنفيّة كقوله
تعالى {واللهُ يَحكُمُ لا مُعَقْبَ لِحُكمه} ."
(ولا يشترط لاقتران
الجملة الاسمية بالواو، عدم اقترانها بالا (كما توهم بعض أصحاب الحواشي سامحهم
الله، فان ذلك ثاتب في أفصح الكلام، قال تعالى {وما أهلكنا من قرية إلا ولها
كتابٌ معلوم} . وهذا الشرط إنما هو للجملة الماضيَّة فقط، كما علمت، وأما
الجلمة الاسمية فقد تقترن بهما معاً كما رأيت، وقد تقترن بالا وحدها، كقوله
تعالى {وما أهلكنا من قرية إلا لها منذرون} ) .
أمّا الجملةُ
الماضيّة الحاليَّة، فإن كانت مُبتَةً، فأكثرُ ما تُربَطُ بالضمير والواو وقَدْ
معاً، كقوله تعالى {أفتَطْمَعونَ أن يُؤمنوا لكم، وقد كان فريقٌ منهم يسمعون
كلامَ اللهِ ثمّ يُحرفونهُ من بعدظش ما عقَلوهُ} .
وأقلُّ منه أن
تُربَطَ بالضمير وَقدْ فقطْ، دون الواوِ، كقول الشاعر [من الطويل]
وَقَفْتُ
برَبْعِ الدَّارِ، قَدْ غَيَّرَ البِلى ... معارِفَها، والسَّارِياتُ
الهَواطِلُ
وأقلَ من هذا أن تُربَطَ بالضمير وحدَهُ، دون الواو
وقَدْ، كقوله تعالى {هذِهِ بِضاعتُنا رُدَّتْ إلينا} ، وقولهِ {أو جاءُوكم
حَصِرَتْ صُدورُهم} ومنه
قول الشاعر [أبي صخر الهذلي / من
الطويل]
وإنِّي لتعُرُوني لِذِكْرَاكَ هَزَّةٌ ... كَما انتفَضَ
العُصفُورُ بَلَّلَهُ القَطْرُ
وأقلّ من الجميعِ أن تُربَطَ بالضمير
والواو فقط، دونَ قد، كقوله تعالى {قالوا، وأقبلوا عليه ماذا تفقِدون} ، وقوله
{أنؤمِنُ لكَ واتّبعكَ الأرذلونَ} .
إن كانت منفيّةً امتنعتْ معها
"قد" ، فهي تُربَط غالباً بالضمير والواو معاً، نحو "رجعَ خالِدٌ وما صنعَ
شيئاً" . وقد تُربَطُ بالضمير وحدَهُ، نحو "رجعَ ما صنعَ شيئاً" .
فإن
لم تشتمل الجملةُ الماضيّة، مُثبتةً كانت أو منفيّة، على ضميرٍ يعودُ إلى صاحب
الحال، رُبِطت المُثبتةُ بالواوِ وقد، والمنفيّةُ بالواو وحدها، وجوباً، كما
سبقَ.
(واما الجملة المضارعية الحالية، فقد تقدم حكمها، مثبتة
ومنفية، في الكلام على المواضع التي تمتنع فيها واو الحال من الجملة، فراجعه)
.
فائدة
(أوجب البصريون، إلا الأخفش، لزومَ "قد" مع جملة
الماضي المثبت الذي لم يقع بعد "إلا" ولا قبل "أو" مطلقاً، سواء أربطت بالضمير،
أم بالواو، أم بهما معاً. فان لم تكن ظاهرة فهي مقدرة. وقد قدَّروها قبل الماضي
في الآيات السابقة، والمختار قول الكوفيين والأخفش، وهو أنها لا تلزم إلا
مع
جملة الماضي التي لم تشتمل على ضمير صاحب الحال وهي تلزم في ذلك مع الواو، كما
تقدم. ولا تلزم في غير ذلك، لكثرة وقوعها حالاص بدون "قد" ، والأصل عدم
التقدير) .
10- تَعَدُّدُ الحالِ
يجوزُ أن تَتعدّدَ
الحالُ، وصاحبُها واحدٌ أو مُتَعدّدٌ. فمثالُ تعدُّدها، وصاحبُها واحدٌ، قولهُ
تعالى {فرجَعَ موسى إلى قومهِ غضبانَ أسِفاً} .
وإن تَعدّدَت
وتعدّدَ صاحبها، فإن كانت من لفظٍ واحدٍ، ومعنًى واحدٍ ثَنّيتها أو جمعتها، نحو
"جاءَ سعيدٌ وخالدٌ راكبينِ. وسافر خليلٌ وأخواه ماشِيينَ" ، ومنه قوله تعالى
{وسَخَّرَ لكمُ الشمسَ والقمرَ دائِبَيْنِ} (والأصلُ دائبةً ودائباً) وقولهُ
{وسخَّرَ الليلَ والنهارَ والشمسَ والقمرَ والنجومَ مُسخّراتٍ بأمرهِ} .
وإن
اختلفَ لفظُهما فُرِّقَ بينهما بغير عطفٍ، نحو "لَقيتُ خالداً مُصعِداً
مُنحدراً. ولقيتُ دَعداً راكبةً ماشياً. ونظرتُ خليلاً وسعيداً واقفيْنِ
قاعداً" . وإنْ لم يُؤمنِ اللّبسُ أعطيتَ الحال الأولى للثاني والأخرَى للأولِ.
فإن أردتَ العكس وجبَ أن تقول "لقيتُ خالداً مُنحدِراً مُصعِداً، فيكونُ هوَ
المنحدِر وأنت المُصعِد. وإن أُمِنَ من اللّبسُ، لظهور المعنى، كما في
المثالينِ الباقيينِ، جاز التقديمُ والتأخير، لأنهُ يمكنُكَ أن تَرُدّ كلّ حال
إلى صاحبها. فإن قلت" لقيتُ دعداً ماشياً راكبةً. ونظرت خليلاً وسعيداً قاعداً
راكبينِ "، جاز لِوضوح المعنى المراد. ومنه قول الشاعر [من الطويل] "
خَرَجْتُ
بها أَمشِي تَجُرُّ وَراءَنا ... عَلى أَثَرَيْنا ذَيْلَ مِرْطٍ مُرَحَّلِ
11-
تَتمَّةٌ
وردت عن العَربِ ألفاظٌ، مركّبةٌ تركيبَ خمسةَ عشَر،
واقعةً موقع الحالِ. وهي مبنيّة على فتح جُزءَيها، إلاّ ما كان جُزؤهُ الأولُ
ياءً فبناؤهُ على السكون.
وهذهِ الألفاظُ على ضربينِ
1-
ما رُكِّبَ، وأصلُهُ العطفَ، نحو "تَفَرّقُوا شَذَرَ مَذَرَ، أو شَغَرَ بَغَرَ"
، أي "مُتفرّقِين، أو مُنتشرين، أو متَشتّتينَ" ، ونحو "هو جاري بيتَ بَيتَ" ،
أي "مُلاصِقاً" ، ونحو "لَقيتُهُ كَفّةَ كَفّةَ" ، أي "مُواجِهاً" .
2-
ما رُكِّبَ، وأصلهُ الإضافةُ، نحو "فَعلتُهُ بادِئَ بَدْءَ، وبادِيْ بَدْأَةَ،
وبادِئَ بِداءَ، وباديْ بَداءَ، وبَدْأَةَ بَدْأَةَ" ، أي "فعلتُهُ مَبدوءاً
بهِ" ونحو "تفَرَّقوا، أو ذَهَبُوا أَيدي سَبَا وأَيادِي"
سَبا "،
أي" مُتَشتِتين "."
(التمييز)
التَّمييزُ اس مٌ نكرةٌ
يذكرُ تفسيراً للمُبهَم من ذاتٍ أو نِسبةٍ. فالأوّلُ نحو "اشتريتُ عشرينَ
كتاباً" ، والثاني نحو "طابَ المجتهدُ نفساً" .
والمُفسّرُ
للمُبهَمِ يُسمّى تمييزاً ومُميّزاً، وتفسيراً ومُفسّراً، وتبييناً ومُبيّناً،
والمُفَسّرُ يُسمّى مُميّزاً ومُفسّراً ومُبيّناً.
والتّمييزُ يكونُ
على معنى "مِنْ" ، كما أنَّ الحال تكون على معنى "في" . فإذا قلتَ "اشتريتُ
عشرين كتاباً" ، فالمعنى أنكَ اشتريتَ عشرين من الكتُب، وإذا قلتَ "طابَ
المجتهدُ نفساً" ، فالمعنى أنهُ طابَ من جِهة نفسهِ.
والتَّمييزُ
قسمانِ تمييزُ ذاتٍ (ويسمّى تمييزَ مُفرَدٍ أيضاً) ، وتمييزُ نِسبةٍ (ويُسَمّى
أيضاً تمييزَ جملةٍ) .
وفي هذا المَبحث ثمانيةُ مَباحثَ
1-
تَمْيِيزُ الذَّاتِ وحُكْمُهُ
تمييزُ الذاتِ ما كان مُفسّراً لاسمٍ
مُبهمٍ ملفوظٍ، نحو "عندي رِطلٌ زَيتاً" .
والاسمُ المُبهَمُ على
خمسة أنواع
1- العَدَدُ، نحو "اشتريتُ أحدَ عشرَ كتاباً" .
ولا
فرقَ بينَ أن يكونَ العدَدُ صريحاً، كما رأيتَ، أو مُبهَماً، نحو ""
كم
كتاباً عندكَ؟ "."
والعددُ قسمانِ صريحٌ ومُبهمٌ.
فالعدَدُ
الصريحُ ما كان معروفَ الكميّةِ كالواحد والعشرةِ والأحدَ عشرَ والعشرينَ
ونحوِها.
والعدَدُ المُبهَمُ ما كانَ كنايةً عن عَدَدٍ مجهولٍ
الكميّةِ وألفاظهُ "كَمْ وكأيِّنْ وكذا" ، وسيأتي الكلام عليه.
2-
ما دلَّ على مِقدارٍ (اي شيءٍ يُقدَّرُ بآلة) . وهو إمّا مِساحةٌ نحو "عندي
قَصبَةٌ أرضاً" ، أو وزنٌ، نحو "لك قِنطارٌ عَسَلاً، أو كيلٌ، نحو" أعطِ
الفقيرَ صاعاً قمحاً "، أو مِقياسٌ نحو" عندي ذراعٌ جوخاً "."
3- ما
دلَّ على ما يُشبهُ المقدارَ - مما يَدُلُّ على غيرِ مُعيّنٍ - لأنهُ غيرُ
مُقدَّر بالآلة الخاصّة. وهو إمّا إن يُشبهَ المِساحةَ، نحو "عندي مَدُّ البصرِ
أرضاً. وما في السماء قَدْرُ راحةٍ سَحاباً" ، أو الوزن كقوله تعالى {فمن
يعمَلْ مِثقالَ ذَرَّةٍ خيراً يَرَهُ، ومَنْ يعملْ مِثقالَ ذَرَّةٍ شرًّا
يَرَهُ} ، أو الكيلُ - كالأوعيةِ - نحو "عندي جَرَّةٌ ماءً، وكيسٌ قمحاً،
وراقودٌ خَلاًّ، ونِحْيٌ سَمناً، وحُبٌّ عسلاً" ، وما أشبه ذلك، أو المِقياسَ،
نحو "عندي مَدُّ يَدِكَ حبلاً" .
4- ما أُجرِيَ مُجرَى المقادير -
من كل اسمٍ مُبهَمٍ مُفتقرٍ إلى التّمييز والتّفسير، نحو "لنا مِثلُ ما لَكم
خيلاً. وعندنا غيرُ ذلك غَنَماً" ، ومنه قولهُ تعالى {ولو جئْنا بِمثلهِ
مَدَداً} .
5- ما كان فرعاً للتّمييز، نحو "عندي خاتمٌ فِضّةً،
وساعةٌ ذهباً، وثوبٌ صوفاً، ومِعطفٌ جوخاً" .
وحكمُ تمييز الذاتِ
أنه يجوز نصبُهُ، كما رأيتَ، ويجوزُ جرُّه بمن، نحو "عندي رِطلٌ من زيتٍ،
ومِلْءُ الصّندوقِ من كتب" ، وبالإضافة، نحو "لنا قَصَبةُ أرضٍ، وقِنطارُ
عَسَلٍ" ، إلا إذا اقتضت إضافتُهُ إضافتْين - بأن كانَ المُمَيّزُ مضافاً -
فتمتنعُ الإضافةُ، ويتَعيَّنُ نصبُهُ أو جَرُّهُ بِمِن، نحو "ما في السّماءِ
قدَرُ راحةٍ سَحاباً، أو من سَحابٍ" . ويُستثنى منه تمييزُ العدَدِ، فإن له
أحكاماً ستُذكر.
1- تَمْيِيزُ النِّسْبَةِ وحُكمُهُ
تمييزُ
النّسبةِ ما كان مُفسّراً لجملةٍ مُبهَمةِ النسبةِ، نحو "حَسُنَ علي خُلُقاً.
ومَلأ الله قَلبَكَ سُروراً" . فإنَّ نسبةَ الحُسنِ إلى عليٍّ مُبهَمةٌ تحتملُ
أشياءَ كثيرة، فأزلتَ إبهامَها بقولك "خلُقاً" . وكذا نسبةُ مَلْءِ اللهِ
القلبَ قد زال إبهامُها بقولك "سروراً" .
ومن تمييزِ النسبةِ الاسمُ
الواقعُ بعدَ ما يُفيدُ التَّعجُّبَ، نحو "ما أشجعَهُ رجلاً. أكرمْ بهِ
تلميذاً. يا لهُ رجلاً. للهِ درُّهُ بَطلاً. وَيحَهُ رجلاً. حَسبُكَ بخالدٍ
شُجاعاً. كفى بالشَّيبِ واعظاً. عَظُمَ عليٌّ مَقاماً، وارتفعَ رُبتةً" .
وهو
على قسمين مُحَوَّلٍ وغير مُحوَّل.
فالمحوَّلُ ما كانَ أصلُهُ
فاعلاً؛ كقوله تعالى {واشتعلَ الرأسُ شيباً} ، ونحو "ما أحسنَ خالداً أدباً!" ،
أو مفعولاً، كقوله سبحانهُ
{وفجَّرنا الأرضَ عُيوناً} ، ونحو
"زَرَعتُ الحديقةَ شجراً" ، أو مُبتدأ، كقوله عزَّ وجلَّ "أنا أكثرُ منكَ مالاً
وأعزُّ نفراً" ، ونحو "خليلٌ أوفرُ علماً وأكبرُ عقلاً" .
وحُكمهُ
أنهُ منصوبٌ دائماً. ولا يجوزُ جرُّهُ بِمن أو بالإضافة، كما رأيتَ. وغيرُ
المحول ما كان غير محوّل عن شيء، نحو "أكرمْ بسليم رجلاً. سَمَوتَ أديباً.
عظُمت شجاعاً، لله دَرُّهُ فارساً, ملأتُ خزائني كُتُباً. ما أكرَمكَ رجلاً"
.
وحُكمُهُ أنهُ يجوز نصبُهُ، كما رأيتَ، ويجوزُ جَرهُ بِمن، نحو
"لله دَرُّهُ من فارس. أكرِمْ به من رجل. سَمَوتَ من أديب" .
واعلم
أنَّ ما بعدَ اسم التفضيل ينصَبُ وجوباً على التَّمييزِ، إن لم يكن من حنس ما
قبلَهُ، نحو "أنتَ أعلى منزلاً" .
فإن كان من جنس ما قبلهُ وجبَ
جَرُّهُ بإضافتهِ، إلى "أفعل" ، نحو "أنتَ أفضلُ رجلٍ" . إلاّ إذا كانَ
"أفعَلُ" مضافاً لغير التَّمييز، فيجبُ نصبُ التمييز حينئذٍ، لتعذُّرِ الإضافة
مَرتينِ، نحو "أنتَ أفضلُ الناسِ رجلاً" .
4- حُكمُ تَمْيِيزِ
العَدَدِ الصَّريح
تمييزُ العددِ الصَّريحِ مجموعٌ مجرورٌ بالإضافة
وجوباً، منَ الثلاثةِ إلى
العشرة، نحو "جاءَ ثلاثةُ رجالٍ، وعشرُ
نِسوةٍ" ، ما لم يكن التمييزُ لفظَ مِئَةٍ، فيكون مفرداً غالباً، نحو "ثلاث
مِئَةٍ" . وقد يُجمعُ نحو "ثلاثِ مئينَ، أو مِئاتٍ" . أما الألفُ فمجموع
البتةَ، نحو "ثلاثة آلافٍ" .
واعلم أنَّ مُميَّزَ الثلاثةِ إلى
العشرة، إنما يُجرُّ بالإضافة إن كان جمعاً كعشرةِ رجالٍ. فإن كان اسمَ جمعٍ أو
اسمَ جنس، جُرَّ بمن. فالأولُ كثلاثةٍ من القوم، وأَربعةٍ من الإبل، والثاني
كستَّةٍ من الطَّيرِ، وسَبعٍ من النَّخلِ. قال تعالى {فَخُذْ أَربعةً من
الطَّير} . وقد يُجرُّ بالإضافة كقوله تعالى {وكان في المدينةِ تسعةُ رَهْطٍ} .
وفي الحديثِ "ليس فيما دونَ خَمسٍ ذَوْدٍ صَدَقةٌ" ، وقال الشاعر [من
الوافر]
ثَلاثَةُ أَنفُسٍ، وثَلاَثُ ذَوْدٍ ... لَقَدْ جارَ
الزَّمانُ على عِيالي
وأما معَ أحدَ عشرَ إلى تسعةٍ وتسعينَ،
فالتمييزُ مفردٌ منصوبٌ، نحو "جاء أحدَ عشرَ تلميذاً، وتسعٌ وتسعونَ تلميذةً" .
وأما قوله تعالى
{وقَطَّعناهمُ اثنتيْ عشَرةَ أسباطاً} ، فأسباطاً
ليس تمييزاً لاثنتيْ عَشرةَ، بل بدلٌ منه والتمييزُ مُقدَّر، أي قطعناهم اثنتي
عشرةَ فِرقةً، لأنَّ التمييزَ هنا لا يكونُ إلا مفرداً. ولو جازَ أن يكون
مجموعاً - كما هو مذهبُ بعض العلماءِ - لَمَا جازَ هنا جعلُ "أَسباطاً تمييزاً،
لأن الأسباطَ جمعُ سِبطٍ، وهو مُذكَّر، فكان ينبغي أن يُقالَ وقطَّعناهم اثنتيْ
عشرَ أسباطاً، لأنَّ الإثنين تُوافِقُ المعدودَ، والعشرةَ، وهي مركبةٌ، كذلك،
كما مرَّ بك في بحث المركبات."
وأما معَ المئَةِ والألفِ
ومُثنَّاهما وجمعِهما، فهو مفردٌ مجرورٌ بالإضافة وجوباً، نحو "جاءَ مِئَةُ
رجلٍ؛ ومِئَتا امرأَةٍ، ومِئاتُ غُلامٍ، والفُ رجلٍ، وأَلفا امرأَةٍ، وثلاثةُ
آلافِ غلامٍ" . وقد شذَّ تمييزُ المِئَة منصوباً في قوله [من الوافر]
إذا
عاشَ الْفَتى مِئَتَيْنِ عاماً ... فَقَدْ ذّهَبَ الْمَسَرَّةُ وَالفَتاءُ
5-
"كم" الاستِفْهامِيَّة وتَمْيِيزُها
كم على قسمينِ استفهاميّة
وخَبَريّة.
فكَمِ الاستفهاميةُ ما يُستفهَمُ بها عن عددٍ مُبهَمٍ
يُراد تَعيينُهُ، نحو "كم رجلاً سافرً؟" . ولا تقعُ إلاّ في صدر الكلامِ، كجميع
أَدواتِ الاستفهام.
ومُميّزُها مفردٌ منصوبٌ، كما رأَيتَ. وإن سبقها
حرفُ جرّ جاز جره - على ضَعفٍ - بِمنْ مُقدَّرةً، نحو "بكمْ درهم اشتريتَ هذا
الكتابَ؟" أَي بكم من درهم اشتريته؟ ونصبُهُ أَولى على كلِّ حالٍ. وجرُّهُ
ضعيفٌ.
وأَضعفُ منه إظهارُ "مِنْ" .
ويجوزُ الفصلُ بينها
وبينَ مُميِّزها. ويكثرُ وقوعُ الفصل بالظّرف والجارِّ والمجرور، ونحو "كم
عندَك كتاباً؟ * كم في الدار رجلاً؟" . ويَقِلُّ الفصلُ بينهما بخبرها، نحو "كم
جاءَني رجلاً؟" ، أو بالعامل فيها نحو "كمن اشتريتَ كتاباً؟" .
ويجوزُ
حذفُ تمييزِها، مثل "كم مالُكَ؟" أي كم درهماً، أو ديناراً، هُو؟.
وحُكمُها،
في الإعرابِ، أَن تكونَ في محلِّ جرٍّ، إن سبقَها حرفُ جرٍّ، أو مضافٌ، نحو "في
كم ساعة بلغتَ دمَشقَ؟" ، ونحو "رأيَ كم رجلاً أّخذتَ؟" ، وأن تكونَ في محل نصب
إن كانت استفهاماً عن المصدر، لأنها تكونُ مفعولاً مطلقاً، نحو "كم إحساناً
أحسنت؟" ، أو عن الظّرفِ، لأنها تكونُ مفعولاً فيه، نحو كم يوماً غِبْتَ؟ وكم
ميلاً سِرتَ؟ "، أَو عن المفعول به، نحو" كم جائزةً نِلْتَ؟ "أَو عن خبر الفعلِ
الناقصِ، نحو" كم إخوتُكَ؟ "."
فإن لم تكن استفهاماً عن واحدٍ مما
ذُكرَ، كانت في محل رفعٍ على أنها مبتدأ أو خبرٌ. فالأولُ نحو "كم كتاباً
عندَكَ؟" ، والثاني نحو "كم كتُبكَ؟" . ولك في هذا أيضاً أن تجعل "كم" مبتدأ
وما بعدَها خبراً. والأول أولى.
6- "كم" الخَبَرِيَّة
وتَمْيِيزُها
كم الخبريّةُ هي التي تكون بمعنى "كثيرٍ" وتكونُ
إخباراً عن عدَد كثير مُبهَمِ الكميّةِ، نحو "كم عالمٍ رأيتُ!" ، أي رأيتُ
كثيراً من
العلماء ولا تقعُ إلاّ في صدر الكلامِ، ويجوز حذفُ
مُميّزها، إن دلَّ عليه دليلٌ، نحو "كم عَصَيتَ أمري!" ، أي "كم مَرَّةٍ
عصيتَهُ!" .
وحكمُ مُميّزها أن يكونَ مفرداً، نكرةً، مجروراً
بالإضافةِ إليها أو بِمن، نحو "كم علمٍ قرأتُ!" ونحو "كم من كريم أكرمتُ!" .
ويجوزُ أن يكون مجموعاً، نحو "كم عُلومٍ أعرِفُ!" . وإفرادُهُ أَولى.
ويجوزُ
الفصلُ بينها وبينَ مُميّزها. فإن فُصِلَ بينهما وجبَ نصبُهُ على التَّمييز،
لامتناعِ الإضافةِ معَ الفصلِ، نحو "كم عندكَ درهماً!" ، ونحو "كم لك يا فتى
فضلاً!" أو جرُّه بِمنْ ظاهرةً، نحو "كم عندكَ من درهم!" . ونحو "كم لك يا فتى
من فضل!" . إلاّ إذا كان الفاصل فعلاً مُتعدّياً متسلّطاً على "كم" ، فيجبُ
جرُّهُ بمن، نحو "كم قَرأتُ من كتابٍ" ، كيلا يلتبسَ بالمفعول به فيما لو قلت
"كم قَرأتُ كتاباً" .
(وذلك لأن الجملة الأولى تدل على كثرة الكتب
التي قرأتها، والجملة الأخرى تدلّ على كثرة المرّات التي قرأت فيها كتاباً. فكم
في الصورة الأولى في موضع نصب على أنها مفعول به مقدم لقرأت، وفي الصورة الأخرى
في موضع نصب على أنها مفعول مطلق له. لأنها كناية عن المصدر، والتقدير كم قراءة
قرأت كتاباً فيكون تمييزها محذوفاً) .
ويجوز في نحوِ "كم نالني منك
معروفٌ!" ، أن تَرفعَهُ على أنه فاعل "نالَ" ، فيكون تمييزُ "كم" مقدَّراً، أي
"كم مرَّةٍ!" . ويجوز أن تنصبَهُ على التمييز، فيكون فاعلُ "نال" ضميراً
مستتراً يعود إلى "كم."
وحكمُ "كم" الخبريّةِ، في الإعراب، كحُكم
"كم" الاستفهامية تماماً، والأمثلةُ لا تخفى.
واعلم أنَّ "كم"
الاستفهاميةَ مو "كم" الخبريَّةَ، لا يَتقدَّمُ عليهما شيءٌ من
متعلَّقاتِ
جُملَتيهما، إلا حرفُ الجرّ والمضاف، فهما يَعملانِ فيهما الجرَّ. فالأولى نحو
"بكم درهماً اشتريتَ هذا الكتاب؟" ونحو "ديوانَ كم شاعراً قرأتَ؟" ، والثانيةُ
نحو "إلى كم بلدٍ سافرتُ!" ونحو "خطبةَ كم خَطيبٍ سَمِعتُ فَوَعيتُ!" .
وتشترِكُ
"كم" الاستفهاميةُ و "كم" الخبريّة في خمسةِ أمور كونُهما كنايتَينِ عن عددٍ
مُبهَمٍ مجهولِ الجنس والمِقدارِ، وكونُهما مُبنيَّتينِ، وكون النباءِ على
السكونِ، ولُزومُ التصديرِ، والاحتياجُ إلى التَّمييز.
ويفترقانِ في
خمسة أُمور أيضاً
1- أنَّ مُميزيهما مختلفانِ إعراباً. وقد تقدَّم
شرحُ ذلك.
2- أنَّ الخبريّة تختصُّ بالماضي، كَرُبَّ، فلا يجوزُ أن
تقول "كم كتُبٍ سأشتري!" ، كما لا تقولُ "رُبَّ دارٍ سأبني" . ويجوز أن تقول
"كم كتاباً ستشتري؟" .
3- أن المتكلَم بالخبرية لا يستدعي جواباً،
لأنه مخبِرٌ، وليس بُمستفهِم.
4- أنَّ التصديقَ أو التكذيب يتوجَّهُ
على الخبرية، ولا يتوجّه على الاستفهاميّة، لأنَّ الكلامَ الخبريّ يحتملُ
الصدقَ والكذبَ. ولا يحتملُهما الاستفهاميُّ، لأنه إنشائي.
5- أنَّ
المُبدَل من الخبريةِ لا يقترِنُ بهمزة الاستفهاميّة، تقولُ "كم رجلٍ في الدار!
عَشَرةٌ، بل عشرونَ" . وتقولُ "كم كتابٍ اشتريتَ! عَشَرةً، بل عشرينَ" ، أما
المُبدَلُ من الاستفهاميةِ فيقترن بها، نحو "كم كتُبُكَ؟ أعشرَةٌ أم عشرون؟"
ونحو "كم كتاباً اشتريتَ؟ أَعشرةً، أَم عشرين؟" .
6- "كأَيِّنْ"
وتَمْيِيزُها
كأيّنْ (وتُكتَبُ كأيٍّ أيضاً) مثل "كم" الخبريّة
معنًى. فهي تُوافقُها في الإبهام، والافتقارِ إلى التمييز، والبناءِ على
السكون، وإفادةِ التّكثير، ولُزومِ أن تكونَ في صدر الكلام، والاختصاصِ
بالماضي.
وحكمُ مُميزها أن يكون مفرداً مجروراً بِمِنْ، كقوله تعالى
{وكأيّنْ من نَبيّ قاتلَ معَهُ رِبَيُّونَ كثير} ، وقولهِ {وكأيّنْ من دابّة لا
تَحمِلُ رزقَها، اللهُ يَرزقُها وإياكم} وقولِ الشاعر [من الطويل]
وَكائِنْ
تَرَى مِنْ صَامِتٍ، لكَ مُعجبٍ ... زِيادَتُهُ، أَو نَقْصُهُ، في
التَّكَلُّمِ!
وقد يُنصبُ على قِلَّة، كقولِ الآخر [من الطويل]
وَكائِنْ
لَنا فَضْلاً عَلَيْكُمْ ومِنَّةً ... قَديماً! ولا تَدْرُونَ ما مَنُّ
مُنْعِمِ؟
وقول غيره [من الخفيف]
أُطْرُدِ الْيأْسَ
بالرَّجا، فَكَأيِّنْ ... آلِماً حُمَّ يُسْرُهُ بَعْدَ عُسْرٍ!
وحكمها
في الإعراب، كحكم أُختها "كم" الخبرية، إلا انها إن وقعت مبتدأ لا يُخبَر عنها
إلا بجملةٍ أو شبهها (أي الظَّرفِ والجارّ والمجرور) ، كما
رأيتَ
ولا يُخبَرُ عنها بمفردٍ، فلا يقالُ "كأينْ من رجلٍ جاهلٌ طريق الخير!" ، بخلاف
"كم" .
7- "كَذا" وتَمْيِيزُها
تكونُ "كذا" كنايةً عن
العددِ المبهَمِ، قليلاً كان أو كثيراً، نحو "جاءني كذا وكذا رجلاً" ، وعن
الجملةِ، نحو قلتُ "كذا وكذا حديثاً" والغالب أن تكونَ مُكرَّرةً بالعطفِ، كما
رأيت. وقد تُستعمَلُ مُفردَةً أو مكرَّرةً بلا عَطف.
وحكمُ مُميّزها
أنه مفردٌ منصوبٌ دائماً، كما رأيت. ولا يجوزُ جرهُ. قال الشاعر [من الطويل]
عِدِ
النَّفْس نُعْمى، بَعدَ بُؤْساكَ، ذاكراً ... كَذا وكَذا لُطْفاً بهِ نُسِيَ
الجَهْدُ
وحُكمُها في الإعراب أنها مبنيّةٌ على السكون. وهي تقع
فاعلاً، نحو "سافر كذا وكذا رجلاً" ، ونائب فاعل، نحو "أُكرِمَ كذا وكذا
مجتهداً" ، ومفعولاً به نحو "أكرمتُ كذا وكذَا عالماً" ، ومفعولاً فيه، نحو
"سافرتُ كذا وكذا يوماً. وسرت كذا وكذا ميلاً" ، ومفعولاً مطلقاً، نحو "ضربتُ
اللصَّ كذا وكذا ضَربةً" ، ومبتدأ، نحو "عندي كذا وكذا كتاباً" ، وخبراً، نحو
"المسافرونَ كذا وكذا رجلاً" .
8- بعضُ أَحكامٍ للتَّمْيِيز
1-
عاملُ النّصبِ في تمييزِ الذاتِ هو الاسمُ المُبهَمُ المميَّزُ، وفي تمييزِ
الجملةِ هو ما فيها من فعل أو شِبههِ.
2- لا يَتَقدَّمُ التمييزُ
على عامله إن كان ذاتاً "كرطل زيتاً" ، أو فعلاً
جامداً، نحو "ما
أحسنَهُ رجلاً. نِعمَ زيدٌ رجلاً. بِئس عَمرٌو امرأً" . ونَدَر تَقدُّمُهُ على
عاملهِ المتصرّفِ، كقولهِ [من المتقارب]
أَنَفْساً تَطِيبُ بِنَيْلِ
المُنى؟ ... وداعِي المْمَنُونِ يُنادي جِهارا!.
أمّا تَوسُّطُهُ
بينَ العاملِ ومرفوعهِ فجائزٌ، نحو "طابَ نفساً علي" .
3- لا يكونُ
التمييزُ إلاّ اسماً صريحاً، فلا يكونُ جملةً ولا شِبهَها.
4- لا
يجوز تعدُّدُهُ.
5- الأصلُ فيه أن يكونَ اسماً جامداً. وقد يكونُ
مشتقاً، إن كان وصفاً نابَ عن موصوفهِ، نحو "للهِ دَرُّهُ فارساً!. ما أحسنَهُ
عالماً!. مررت بعشرينَ راكباً" .
(لأن الأصل "لله درّهُ رجلاً
فارساً، وما أحسنه رجلاً عالماً، ومررت بعشرين رجلاً راكباً" . فالتمييز، في
الحقيقة، انما هو الموصوف المحذوف) .
6- الأصلُ فيه أن يكونَ نكرةً.
وقد يأتي معرفةً لفظاً، وهو في المعنى نكرةٌ، كقول الشاعر [من الطويل]
رَأَيتُكَ
لَمَّا أَنْ عَرَفْتَ وُجوهَنا ... صَدَدْتَ، وَطِبْتَ النَّفْسَ يَا قَيْسُ
عَنْ عَمْرِو
وقول الآخر [من الطويل]
عَلاَمَ مُلِئْتَ
الرُّعبَ؟ ... وَالحَرْبُ لم تَقِدْ "."
فإن "أل" زائدةٌ، والأصل
"طِبتَ نفساً، ومُلِئتَ رعباً" ، كما قال
تعالى {لَوَلْيتَ منهم
فراراً،، ولُمُلئتَ منهم رُعباً} . وكذا قولهم "ألِمَ فلانٌ رأسَهُ" أي "ألِمَ
رأساً" . قال تعالى {إلاّ مَنْ سَفِه نَفسَه} ، وقال {وكم أهلكنا من قرية
بَطِرَتْ مَعيشَتها} ، أي "سَفِهَ نفساً، وبَطِرَت مَعيشةً" . فالمعرفةُ هنا،
كما ترى، في معنى النكرة.
(وكثير من النحاة ينصبون الاسم في نحو
"ألم رأيه، وسفه نفسه، وبطرت معيشتها" على التشبيه بالمفعول به. ومنهم من لم
يشترط تنكير التمييز، بل يجيز تعريفه مستشهداً بما مرّ من الأمثلة. والحق أن
المعرفة لا تكون تمييزاً إلا اذا كانت في معنى التنكير، كما قدمنا) .
7-
قد يأتي التمييزُ مؤكّداً، خلافاً لكثير من العُلماءِ، كقوله تعالى {إنَّ
عِدَّةَ الشُّهورِ عندَ اللهِ اثنا عشرَ شهراً} ونحو "اشتريتُ من الكتبِ عشرينَ
كتاباً" ، فشهراً وكتاباً لم يذكرا للبيانِ، لأنَّ الذات معروفة، وإنما ذُكرا
للتأكيد. ومن ذلك قول الشاعر [من البسيط]
وَالتَّغْلِبِيُّونَ
بِئْسَ الفَحْلُ فَحْلُهُم ... فَحْلاً، وأُمُّهُمُ زَلاَّءُ مِنْطِيقُ
8-
لا يجوزُ الفصلُ بينَ التمييزِ والعدَدِ إلاّ ضرورة في الشعر كقوله [من
الطويل]
"في خَمْسَ عَشْرَةَ من جُمادَى لَيْلَةً"
يريدُ
في خَمسَ عَشرَةَ ليلةً من جُمادى.
9- إذا جئتَ بعد تمييز العَددِ -
كأحدَ عشرَ وأخواتها، وعشرين وأخواتها - بِنعتٍ، صَحّ أن تُفردهُ منصوباً
باعتبارِ لفظِ التمييز، نحو "عندي ثلاثةَ عشرَ، أو ثلاثون، رجلاً كريماً" ،
وصَحَّ أن تجمعهُ جمعَ تكسيرٍ منصوباً،
باعتبار معنى التمييز، نحو
"عندي ثلاثة عَشر، أو ثلاثون رجلاً كِراماً، لأن رجلاً هُنا في معنى الرجال،
ألا ترى أنَّ المعنى ثلاثةَ عشرَ، أو ثلاثون من الرجال" .
ولكَ في
هذا الجمعِ المنعوتِ به أن تحمِلَهُ، في الإعراب، على العَدَد نفسه، فتَجعلهُ
نعتاً لهُ، نحو "عندي ثلاثةَ عشرَ، أو ثلاثون رجلاً كِراماً" . ولكَ أن تقولَ
"عندي أَربعونَ درهماً عربياً أَو عربيّةً" ، فالتذكير باعتبار لفظٍ الدرهم،
والتأنيث باعتبار معناهُ، لأنه في معنى الجمع، كما تقدمَ.
فإن جمعتَ
نعتَ هذا التمييز جمعَ تصحيحٍ، وجبَ حملُهُ على نفسه، وجعلُهُ نعتاً لهُ لا
للتمييز، نحو "عندي أَربعةَ عشرَ، أو أَربعونَ، رجلاً صالحونَ" .
10-
قد يضافُ العددُ فيستغنى عن التّمييز، نحو "هذه عَشَرَتُكَ، وعِشرُو أبيك،
وأحدَ عشرَ أَخيكَ" ، لأنك لم تُضِف إِلاَّ والمُميّزُ معلومُ الجنس عند
السامع. ويستثنى من ذلك "اثنا عشرَ واثنتا عَشْرةَ" ، فلم يُجيزُوا إضافتها،
فلا يقال "خُذِ اثنيْ عشرَكَ" ، لأنَّ عَشْرَ هنا بمنزلةِ نون الاثنين، ونونُ
الاثنينِ لا تجتمعُ هي والإضافة، لأنها في حكم التنوينِ، فكذلك ما كان في
حكمها.
واعلم أنَّ العددَ المركبَ، إذا اضيفَ، لا تُخِلُّ إِضافته
ببنائه، فيبقى مبنيّ الجزءَين على الفتحِ، كما كان قبلَ إضافتهِ، نحو "جاءَ
ثلاثةَ عشرَكَ" .
ويرى الكوفيّون أنَّ العددَ المركّب إذا اضيفَ
اعربَ صدرُهُ بما تقتضيهِ العواملُ، وجرَّ عَجزُهُ بالإضافةِ نحو "هذه خمسةُ
عشَركِ. خُذْ خمسةَ عشرِكَ. أعطِ من خمسةِ عشرِكَ" والمختارُ عند النُّحاة أنَّ
هذا العددَ يلزم بناءَ الجزءين، كما قدَّمنا.
(الاستثناء)
الاستثناءُ
هو إخراجُ ما بعدَ "إلاّ" أو إحدَى أخواتها من أدوات الاستثناءِ، من حكم ما
قبلَهُ، نحو "جاءَ التلاميذُ إلاّ عليّاً" .
والمُخرَجُ يُسمّى
"مستثنى" ، والمُخرَجُ منه "مُستثنى منه" .
وللاسثناءِ ثماني
أَدواتٍ، وهي "إلاّ وغيرٌ وسِوًى (بكسر السين. ويقال فيها أيضاً سُوًى - بضم
السين - وسَواءٌ - بفتحها) وخَلا وعَدا وحاشا وليسَ ولا يكونُ" .
وفي
هذا المبحث ثمانية مباحث
1- مَباحِثُ عامَّةٌ
1-
المُستثنى قسمانِ مُتَّصلٌ ومنقطعٌ.
فالمُتّصلُ ما كان من جنس
المُستثنى منه، نحو "جاءَ المسافرون إلا سعيداً" .
والمُنقطعُ ما
ليسَ من جنس ما استثنيَ منه، نحو "احترقت الدارُ إلاّ الكتُبَ" . 2- الاستثناء
استفعالٌ من "ثنَاهُ عن الأمر يثنيهِ" إذا صَرَفهُ عنه ولواه. فالاستثناءُ صرفُ
لفظِ المُستثنى منه عن عمومه، بإخراج المستثنى من أن يتناولهُ ما حُكِمَ به على
المستثنى منه. فإذا قلتَ "جاءَ القومُ، ظُنَّ أنَّ خالداً داخلٌ معهم في حكم
المجيءِ أيضاً، فإذا استثنيتَهُ منهم، فقد صرفتَ لفظَ" القوم "عن عُمومه
باستثناءِ أحدِ أفرادهِ - وهو خالدٌ - من حكم المجيءِ المحكومِ به على القوم.
لذلك كان الاستثناءُ تخصيصَ صفةٍ عامّةٍ بذكر ما يَدُلُّ"
على تخصيص
عمومها وشُمولها بواسطة أداةِ من أدوات الاستثناء.
فإذا علمتَ هذا،
علمتَ أَن الاستثناء من الجنس، هو الاستثناءُ الحقيقيُّ، لأنه يُفيدُ التخصيص
بَعدَ التّعميم، ويُزيلُ ما يُظَنُّ من عُموم الحكم. وأَما الاستثناءُ من غير
الجنس فهو استثناءٌ لا معنى له إلاّ الاستدراكُ، فهو لا يُفيدُ تخصيصاً، لأن
الشيءَ إنما يُخصّصُ جنسَهُ. فإذا قلتَ "جاءَ المسافرون إلا أَمتعتَهُم" ، فلفظ
"المسافرين" لا يتناول الأمتعةَ، ولا يدلُّ عليها. وما لا يَتناولهُ اللفظُ فلا
يحتاجُ إلى ما يخرجُهُ منهُ. لكنْ إنما استثنيتَ هُنا استدراكاً كيلا يُتَوهم
أن أَمتعتَهُم جاءَت مَعهم أَيضاً، عادةَ المسافرين.
فالاستثناءُ
المتَّصلُ يُفيدُ التَّخصيصَ بعدَ التعميم، لأنهُ استثناءٌ من الجنس.
والاستثناءُ المُنقطعُ يُفيدُ الاستدراكَ لا التّخصيصَ، لأنه استثناءٌ من غير
الجنس.
3- لا يستثنى إلاّ من معرفةٍ أو نكرةٍ مُفيدةٍ، فلا يقالُ
"جاءَ قومٌ إلا رجلاً منهم" ، ولا "جاءَ رجالٌ إلا خالداً" . فإن أفادت النكرةُ
جاز الاستثناء منها، نحو "جاءَني رجالٌ كانوا عندكَ إلاّ رجلاً منهم" ونحو "ما
جاءَ أحدٌ إلا سعيداً" ، قال تعالى {فَلَبِثَ في قومهِ أَلفَ سنةٍ إلا خمسينَ
عاماً} [العنكبوت: 14] .
وتكونُ النكرةُ مفيدة إذا أُضيفتْ، أو
وصِفت، أو وقعت في سياقِ النفي أو النَّهي أو الاستفهام.
وكذا لا
يُستثنى من المعرفة نكرةٌ لم تخصَّص، فلا يقالُ "جاء القومُ إلاّ رجلاً" . فإن
تُخصّصَت جاز، نحو "جاء القومُ إلاّ رجلاً منهم، أو إلاَّ رجلاً مريضاً، أو
إلاّ رجلَ سُوءٍ" .
4 - الناصب للمستثنى بإلا هو "إلا" نفسها على
المعتمد، وقيل: هو ما تقدمها من فعلٍ أو شبهه
5- يصح استثناءُ قليلٍ
من كثير. وكثيرٍ من أكثرَ منه. وقد يُستثنى من الشيء نصفُهُ، تقول "لهُ عليَّ
عشرةٌ إلا خمسةً" ، قال تعالى {يا أَيُّها المُزَّمِّلُ، قُمِ الليلَ إلاّ
قليلاً، نِصفَه، أَو انقُصْ منهُ قليلاً، أو زِدْ عليه} . فقد سمّى النصفَ
قليلاً واستثناهُ من الأصل. وقال قومٌ لا يستثنى من الشيءِ إلا ما كان دونَ
نصفهِ. وهو مردودٌ بهذه الآية.
6- استثناءُ الشيء من غيرِ جنسهِ لا
معنى له. وما ورد من ذلك فليست فيه "إلاّ" للاستثناء على سبيل الأصل. وإنما هي
بمعنى "لكنْ" ، وهو ما يُسمونهُ "الاستثناء المُنقَطِع" . ومعّ ذلك فلا بدّ من
الارتباط بين المستثنى منه والمستثنى، كما ستعلم ذلك ... ومن ذلك قوله تعالى
{ما أنزَلنا عليك القرآنَ لِتشقى، إلا تَذكرَةً لِمن يخشى} ، أي لكن أنزلناهُ
تذكرةً، وقولُهُ فذَكّر، إنما أنتَ مُذكّرٌ، لستَ عليهم بِمُسَيطرٍ، إلاّ مَنْ
تَوَلى وكفرَ فَيُعذبُهُ اللهُ العذابَ الأكبرَ "، أي لكنْ مَنْ تَوّلى
وكفرَ."
2- حُكْمُ المُسْتَثْنَى بِإلاَّ المُتَّصِلِ
إن
كان المستثنى بإلاّ مُتَّصلاً، فلهُ ثلاثُ أحوال وجوبَ النصبِ بإلاّ وجوازُ
النّصبِ والبدليّةِ، ووجوبُ أن يكونَ على حسبِ العواملِ قبلَه.
متى
يجب نصب المستثنى بإلا؟
يجبُ نصبُ المستثنى بإلاّ في حالتين
1-
أن يقعَ في كلامٍ تام موجَب، سواءٌ أتأخرَ عن المستثنى منهُ أم تقدَّمَ عليه.
فالأولُ نحو "ينجحُ التلاميذُ إلا الكسولَ" ، والثاني نحو "ينجحُ إلاّ الكسولَ
التلاميذُ" .
والمُرادُ بالكلامِ التام أن يكونَ المُستثنى منه
مذكوراً في الكلام، وبالمُوجَب أن يكونَ الكلامُ مُثَبتاً، غيرَ منفي. وفي حكم
النَّفي النَّهيُ والاستفهامُ الإنكاري. ولا فرقَ بينَ أن يكون النفيُ معنًى أو
بالأداةِ، كما ستعلم.
2- أن يقعَ في كلامٍ تام منفي، أو شِبهِ منفي،
ويتقدَّمَ على المستثنى منه، نحو "ما جاء إلا سليماً أحدٌ" ومنه قولُ الشاعر
[من الطويل]
ومَا لِيَ إِلاَّ آلَ أَحمدَ شِيعَةٌ ... وما لِيَ
إِلاَّ مَذْهَبَ الحَقِّ مَذْهَبُ
فإن تقدَّمَ المستثنى على صفة
المُستثنى منه، جاز نصبُ المستثنى بإلا، وجاز جعلهُ بدلاً من المستثنى منه، نحو
"ما في المدرسة أحد إلا أخاك، أو إلاّ أخوكَ، كَسوٌ" .
متى يجوز في
المستثنى بالاّ الوجهان
يجوز في المستثنى بإلاّ الوجهان - جَعلُهُ
بَدَلاً من المستثنى منه. ونصبُهُ بالاّ - إن وقعَ بعدَ المستثنى منه في كلامٍ
تام منفيٍّ أو شِبهِ منفيّ، نحو "ما جاءَ القومُ إلاّ علي، وإلا علياً" .
وتقولُ في شِبه النفي "لا يَقمْ أحدٌ إلاّ سعيدٌ، وإلا سعيداً. وهل فعلَ هذا
أحدٌ إلا أنت، وإلا إياك!" والاتباع على البدليّة أولى. والنصبُ عربي جَيِّدٌ.
ومنه قوله تعالى {ولا يَلتفتْ منكم أحدٌ إلا امرأتَكَ} . "وقُرئَ إلا امرأتُكَ"
، بالرفع على البدلية.
ومن أمثلة البدليّةِ، والكلامُ منفيٌّ،
قولُهُ تعالى {ما فعلوهُ إلاَّ قليلٌ منهم} ، وقرئَ "إلاّ قليلاً" بالنصب
بالاّ، وقولُهُ {لا إله إلاّ اللهُ} ، وقوله {وما من إله إلاّ إلهٌ واحدٌ}
[المائدة: 73] ، وقوله {وما من إلهٍ إلاّ اللهُ} [آل عمران: 62] .
ومن
أمثلتها، والكلامُ شِبهُ منفي، لأنهُ استفهامٌ إنكاري، قولهُ تعالى {ومَن يغفرُ
الذُّنوبَ إِلاّ اللهُ!} ، وقولهُ {ومَن يقنَطُ من رحمةِ ربهِ إلاّ الضّالون؟!}
.
وقد يكونُ النفيُ معنوياً، لا بالأداةِ، فيجوزُ فيما بعدَ "إلاّ"
الوجهان أيضاً - البدليّةُ والنصبُ بإلاّ، والبدليّة أولى - نحو "تَبدَّلت
أخلاقُ القوم إلاّ خالدٌ، وإلاّ خالداً" ، لأن المعنى لم تَبقَ أخلاقُهم على ما
كانت عليه، ومنه قول الشاعر [من البسيط]
وبَالصَّرِيمَةِ مِنْهُمْ
مَنْزِلٌ خَلَقٌ ... عافٍ، تَغَيَّرَ، إلاَّ النُّؤْيُ وَالْوَتِدُ
فمعنى
تغيّرَ لم يبقَ على حاله.
(وانما جاز الوجهان في مثل ما تقدم، لأنك
ان راعيت جانب اللفظ نصبت ما بعد (الا) ، لأن الجملة قد استقوفت جزءيها -
المسند والمسند اليه - فيكون ما بعد (الا) فضلة، والفضلة منصوبة, وان راعيت
جانب المعنى رفعت ما بعدها، لأن المسند إليه في الحقيقة هو ما بعد (الا) . لذلك
يصح تفريغ
العامل الذي قبلها له وتسليطه عليه. فان قلت "ما جاء
القوم إلا خالد. أو خالداً" ، صحّ أن تقول "ما جاء إلا خالد" ، فنصبه باعتبار
أنه عمدة في المعنى، فهو بدل مما قبله، والمبدل منه في حكم المطروح. ألا ترى
أنك ان قلت "أكرمت خالداً أباك" ، صحّ أن تقول "أَكرمت أَباك" ) .
ثلاث
فوائد
1- يجوزُ، في نحو "ما أَحدٌ يقولُ ذلك إلاّ خالدٌ" ، رَفعُ ما
بعد "إلاَّ" على البدليّةِ من أحدٌ (وهو الأولى) ، أو على البدليّة من ضمير
"يقولُ" . ويجوزُ نصبُهُ على الاستثناء. ويجوز في نحو "ما رأيتُ أحداً يقولُ
ذلك إلاّ خالداً، نصبُ ما بعد" إلا "على البدليّة من" أحداً "(وهو الأوْلى) ،
ونصبُهُ" بإلا" ويجوز رفعه على أنه بدلٌ من ضمير "يقولُ" ومن مجيئهِ مرفوعاً
على البدليّة من ضمير الفعلِ المستتر قولُ الشاعر [من المنسرح] "
في
لَيْلَةٍ لا نَرَى بِها أَحَداً ... يَحْكِي عَلَيْنا إِلاَّ كَواكِبُها
2-
تقولُ "ما جاءَني من أحدٍ إلا خالداً، أو إلا خالدٌ" . فالنصب على الاستثناء،
والرفعُ على البدليّة من محل "أحد" ، لأن محله الرفع على الفاعليّة، ومن حرف جر
زائد. ولا يجوزُ فيه الجرُّ على البدليّة من لفظ المجرور.
(لأن
البدل على نية تكرار العامل. وهنا لا يجوز أن تكرره، فلا يجوز أن تقول "ما
جاءني من أحد إلا من خالد" . وذلك لأن "من" زائدة لتأكيد النفي، وما بعد "إلا"
مثبت، لأنه مستثنى من منفي، فلا تدخل عليه "من" هذه. لكن إن قلت "ما أخذت
الكتاب من أحد إلا خالد" جاز الجر على
البدلية من اللفظ، لأن "من"
هنا ليست زائدة. فلو كررت العامل، فقلت "ما أخذت الكتاب من أحد إلا من خالد" ،
لجاز) .
وكذلك تقولُ "ليس فلانٌ بشيءٍ إلا شيئاً لا يُعبَأُ به" ،
بالنصب فقط، إما على الاستثناءِ، وإما على البدليّة من موضع "شيءٍ" المجرور
بحرف الجرّ الزائد، لأنَّ موضعَهُ النصب على أنهُ خبرُ "ليسَ" . ولا تجوز
البدليّة بالجر.
(لأن الباء هنا زائدة لتأكيد النفي، وما بعد "إلا"
مثبت، فلو كررت الباء مع البدل، فقلت "ليس فلان بشيء إلا بشيء لا يعبأ به" ، لم
يجز) .
من ذلك قول الشاعر [من الكامل]
أَبَنِي
لُبَيْنَى، لَسْتُمُ بِيَدٍ ... إِلاَّ يَداً لَيْسَتْ لَها عَضُدُ
(لكن،
إن قلت "ما مررت بأحد إلا خالد" ، جاز الجرّ على البداية من اللفظ، لأن الباء
هنا أصلية، فان قلت "ما مررت بأحد إلا بخالد" ، بتكريرها، جاز) .
3-
علمتَ أنهُ إذا تقدَّمَ المستثنى على المستثنى منه - في الكلام التامّ المنفيّ
- فليس فيه إلا النصبُ على الاستثناء، نحو "ما جاءَ إلا خالداً أحدٌ" ، غير
أنَّ الكوفيينَ والبّغداديين يجيزونَ جَعلَهُ معمولاً للعامل السابق، وجعلَ
المستثنى منه المتأخر تابعاً له في إعرابه، على أنهُ بدلٌ منه، فيجوّزون أن
يقال "ما جاءَ إلا خالدٌ أحدٌ" ، فخالدٌ فاعلٌ لجاءَ، وأحدٌ بدلٌ من
خالدٌ.
ومن ذلك ما حكاهُ سيبويهِ عن يُونسَ أنه سمع قوماً يُوثَقُ بِعربيَّتهم، يقولون
"ما لي إلا أبوك ناصرٌ" ، وعليه قولُ الشاعر [من الطويل]
لأَنَّهُمُ
يَرْجُونَ مِنْكَ شَفاعَةً ... إِذا لم يَكنْ إِلاَّ النَّبِيُّونَ شافعُ
وهذا
من البدل المقلوب.
(لأنك ترى أن التابع هنا - وهو البدل ناصر وشافع
- قد كان متبوعاً - أي مبدَلاً منه -، وأنّ المتبوع - وهو المبدل منه أبوك
والنبيون - قد كان تابعاً - أي بدلاً - لأنّ الأصل "مالي ناصر إلا أبوك، وإذا
لم يكن شافع إلا النبيون" .
ونظيره في القلب - اي جعلِ التابع
متبوعاً والمتبوع تابعاً - قولك، "ما مررت بمثلك أحد" "فأحد بدل من مثلك مجرور
مثله. وقد كان" مثلك "صفة له مؤخرة عنه، لأن الأصل" ما مررت بأحد مثلك ") ."
متى
يجب أن يكون المستثنى بالا على حسب العوامل.
يجبُ أن يكون المستثنى
بإلا على حسب ما يطلبُهُ العاملُ قبلَهُ، متى حُذِفَ المستثنى منه من الكلام،
فيتفرَّعُ ما قبلَ "إلا" للعملِ فيما بعدَها، كما لو كانت "إلا" غيرَ موجودةٍ.
ويجبُ حينئذٍ أن يكون الكلامُ منفيّاً أو شِبهَ منفيٍّ، نحو "ما جاءَ إلا
عليٌّ، ما رأيتُ إلا عليّاً، ما مررتُ إلا بعليّ" ومنه في النهي قوله تعالى
{ولا تَقولوا على الله إلا الحقّ} ، وقولهُ "ولا تُجادلوا أهلَ الكتابِ إلا
بالتي هيَ أحسن" . ومنه في الاستفهامِ قولُه سبحانهُ "فَهَلْ يَهلِكُ إلا
القومُ الفاسقون" .
وقد يكونُ النفيُ معنويّاً، كقولهِ تعالى {ويأبى
الله إلا أن يُتِمَّ نورَهُ} ، لأنَّ معنى يأبى لا يريدُ.
فائدة
إذا
تَكرَّرت "إلا" للتّوكيد - بحيث يصحُّ حذفُها، وذلك إذا تَلَتْ واوَ العطف، أو
تلاها بَدَل ممّا قبلَها - كانت زائدةً لتوكيد الاستثناء، غيرَ مُؤثرة فيما
بعدَها، فالأولُ نحو "ما جاءَ إلا زهيرٌ وإلا أُسامةُ" ، والثاني، نحو "ما جاءَ
إلا أبوكَ إلا خالدٌ" . وقد اجتمع البدل والعطف في قوله [من الرجز]
مَالَكَ
مِنْ شَيْخِكَ إِلاَّ عَمَلُهُ ... إلاَّ رَسِيمُهُ، وَإِلاَّ رَمَلُهُ
وإن
تكرَّرت لغير التوكيد - بحيثُ لا يصحُّ حذفُها - فالكلام على ثلاثةِ أَوجُهٍ
1-
أن يحذَف المستثنى منه، فتَجعل واحداً من المستثنَيات معمولاً للعامل وتَنصب ما
عداه. تقولُ "ما جاءَ، إلا سعيدٌ، إلا خالداً، إلا إبراهيم" . والأوْلى تسليطُ
العامل على الأول ونصبُ ما عداهُ، كما ترَى. ولك أن تَنصبَ الأولَ وترفعَ
واحداً مما بعدَهُ.
2- أن يُذكرَ المستثنى منهُ، والكلامُ مثبتٌ،
فتنصبُ الجمع على الاستثناء نحو "جاء القومُ إلا سعيداً، إلا خالداً، إلا
إبراهيم" .
3- أن يُذكر المستثنى منه، والكلامُ منفي، فان تقدمت
المستثنيات،
وجب نصبُها كلُّها، نحو "ما جاءَ إلا خالداً، إلا
سعيداً، إلا ابراهيمَ أحدٌ" .
وإن تأخرت، أبدلتَ واحداً من المستثنى
منه، ونصبتَ الباقي على الاستثناء. والأوْلى إبدالُ الأولِ ونصبُ الباقي، نحو
"ما جاءَ القومُ إلا خالداً، إلا إبراهيمَ" .
3- حُكُم المُستثْنى
بِإِلاَّ المُنْقَطِعِ
إن كان المُستثنى بإلا منقطعاً، فليس فيه إلا
النصبُ بالا، سواءٌ أتقدَّمَ على المستثنى منه أم تأخر عنه، وسواءٌ أكان الكلام
مُوجَباً أم منفياً، نحو "جاءَ المسافرونَ إلا أمتعتَهم. جاءَ إلا أمتعتَهمُ
المسافرون. ما جاءَ المسافرون إلا أمتعتَهم" .
ومن الاستثناء
المُنقطع قولهُ تعالى {ما لهم به من علمٍ، إلا اتباعَ الظنّ} ، وقوله {وما
لأحدٍ عندَهُ من نِعمةٍ تُجزى، إلا ابتغاءَ وجهِ ربهِ الأعلى} .
ولا
تجوز البدليّةُ في الكلام المنفيّ، هنا، كما جازت في المستثنى المُتَّصل، إذ لا
معنى لإبدال الشيءِ من غير جنسه.
وبَنو تميمٍ يُجيزون البدليّة فيه،
إن صحَّ تَفرُّغ العاملِ قبلَه له وتَسلُّطهُ عليه. فيجيزون أن يقالَ "ما جاءَ
المسافرونَ إلا أمتعتُهم" ، لأنك لو قلتَ "ما جاءَ إلا أمتعةُ المسافرين" ،
لَصَحَّ. وعليه قولُ الشاعر [من الرجز]
وبَلْدةٍ لَيْسَ بِها أَنيسُ
... إِلاَّ الْيَعافِيرُ، وإِلاَّ العِيسُ
وقول الآخر [من
الطويل]
عَشِيَّةَ لا تُغْنِي الرِّياحُ مَكانَها ... ولا
النَّبْلُ، إِلاَّ المَشْرِفيُّ المُصَمِّمُ
وقول غيره [من
الطويل]
وَبِنتَ كِرامٍ قد نَكحْنا، ولم يَكُنْ ... لَنا خاطِبٌ إلا
السِّنانُ وعامِلُهُ
فائدة
اعلم أنه لا يكون الاستثناء
المنقطع إلا إذا كان للمستثنى علاقة بالمستثنى منه، فيتوهم بذكر المستثنى منه
دخولُ المستثنى معه في الحكم، فتقول "جاء السادة إلا خدمهم" ، إذا كان من
العادة أنهم يجيئون معهم، فان لم يكن ن العادة ذلك فلا معنى لهذا الاستثناء.
وتقول "رجع المسافرون إلا أثقالهم. أو إلا دوايهم" ، لأنّ الإخبار برجوعهم
يتوهم منه رجوعُ أثقالهم أو دوابهم معهم. وقد تكون العلاقة بينهما، لكنه لا
يُتوهم دخولُ المستثنى في حكم المستثنى منه، وإنما يذكر لتمكين المعنى في نفس
السامع والتهويل به، كأن تقول "لا يخطب في الحرب خطيبٌ إلا ألسنَ النيران" .
وقد صح الاستقناء مع عدم التوقهم لمكان المناسبة بين صوت النار وصوت الخطيب
المتأجج حماسة، وللتهويل بشدة الحال. وكذا إن قلت "سلكتُ فلاةً ليس فيها أنيس
إلا الذئاب، أو إلا وحوشها" . فلمناسبة التضاد
بين الأنيس والذئاب،
ولتمثيل هول الموقف. لهذا لم يتعدَّ الصواب من أجاز من العرب البدلية في الكلام
التام المنفي، من هذا الاستثناء، لأنه في حكم المتصل معنى، ألا ترى أنك إن حذفت
المستثنى منه وسلطت العامل فيه على المستثنى صح اللفظ والمعنى, فتقول "لا يتكلم
في الحرب إلا ألسنُ النيران" ، وتقول "مررت بفلاة ليس فيها إلا الذئاب" ، من
غير أن ينقص من المعنى شيءٌ إلا ما كنت تريده من إعظام الأمر وتهويله. ويجري
هذا المجرى الأبيات الثلاثة التي مرت بك آنفاً. هذا هو الحق فاعتصم به.
وبما
قدمنا تعلم أنَّ في إطلاق النحاة الكلام، في الاستثناء المنقطع، تساهلاً لا
ترضاه أساليب البيان العربي. وتمثيلهم له بقولهم "جاء القوم إلا حماراً" شيءٌ
يأباه كلام العرب. نعم يصح أن تقول "جاء القوم إلا الحمار، أو إلا حماراً لهم،
أو إلا حمارهم" إن كان من العادة أن يكون معهم. أما "جاء القوم إلا حماراً" فلا
يجوز، وإن كان من العادة مجيءُ حمار معهم، لأنه لا يجوز استثناء النكرة غير
المفيدة (أي التي لم تخصص) من المعرفة. كما قدمنا.
4- "إلاَّ"
بِمَعْنى "غَيْر"
الأصلُ في "إلاّ" أن تكونَ للاستثناء، وفي "غير"
أن تكون وصفاً. ثمَّ قد تُحمَلُ إحداهما على الأخرى، فَيوصَفُ بإلاّ، ويُستثنى
بغير.
فان كانت "إلا" بمعنى "غير" ، وقعت هي وما بعدَها صفةً لما
قبلها، (وذلك حيثُ لا يُرادُ بها الاستثناءُ، وإنما يُرادُ بها وصفُ ما قبلَها
بما يُغاير ما بعدَها) ، ومن ذلك حديثُ "الناسُ هلَكَى إلا العالِمونَ،
والعالِمونَ هَلكَى إلا العامِلونَ، والعاملونَ هلكى إلاّ المخلصون" ، أي
"الناسُ غيرُ العالمينَ هَلكى، والعالمونَ غيرُ العاملين هلكى، والعاملونَ غيرُ
المخلصينَ هَلكى"
ولو أراد الاستثناءَ لنصبَ ما بعدَ "إلا" لأنهُ في
كلام تامٍّ مُوجَبٍ.
وقد يصحُّ الاستثناءُ كهذا الحديث، وقد ولا
يصحُّ، فيتعيّن أن تكونَ "إلا" بمعنى "غير" ، كقوله تعالى {لو كان فيهما آلهةٌ
إلا اللهُ لفسدتا} . فالا وما بعدَها صفةٌ لآلهَة، لأنَّ المُرادَ من الآية نفي
آلهةٌ المتعدِّدةِ وإثبات الآلهِ الواحد الفرد. ولا يصحُّ الاستثناءُ بالنصب،
لأنَّ المعنى حينئذٍ يكون "لو كان فيهما آلهةٌ، ليس فيهمُ اللهُ لفسدتا" . وذلك
يقتضي أنه لو كان فيهما آلهةٌ، فيهمُ الله، لم تَفسْدا، وهذا ظاهرُ الفسادِ.
وهذا كما تقولُ "لو جاءَ القوم إلا خالداً لأخفقوا" أي لو جاءُوا مستثنًى منهم
خالدٌ - بمعنى أنه ليس بينهم - لأخفقوا. فهم لم يُخفقوا لأنَّ بينهم خالداً.
ونظيرُ الآية - في عدم جواز الاستثناءِ - أن تقول "لو كان معي دراهمُ" إلا هذا
الدرهم ". فان قلتَ" إلا هذا الدرهمَ "، بالنصب كان المعنى لو كان معي دراهمُ
ليس فيها هذا الدرهمُ لبذلتُها، فيُنتجُ أنكَ لم تبذُلها لوجودِ هذا الدرهمِ
بينّها. وهذا غير المراد."
ولا يَصِحُّ أيضاً أن يُعرَب لفظ
الجلالةِ بدلاً من آلهة، ولا "هذا الدرهم" ، بدلاً من دراهمَ، لأنهُ حيثُ لا
يَصِحُّ الاستثناءُ لا تصحُّ البدليّةُ. ثم إنَّ الكلامَ مُثبتٌ، فلا تجوزُ
البدليّةُ ولو صحَّ الاستثناءُ، لما علمتَ من أنَّ النصبَ واجبٌ في الكلام
التامّ المُوجَبِ. وأيضاً لو جعلتَهُ بدلاً لكان التقديرُ "لو كان"
فيهما
إلا اللهُ لفسدتا "، لأنَّ البدلَ على نِيَّةِ طرحِ المُبدَل منه، كما هو
معلومٌ. ولعدَم صحَّةِ الاستثناءِ هنا وَعدَمِ جَواز البدليّة تَعيَّنَ أن
تكونَ" إلا "بمعنى" غير "."
وممّا جاءَت فيه "غلا "بمعنى" غير"، معَ
عدم تَغدُّرِ الاستثناءِ معنًى، قول الشاعر [من الوافر]
وكلُّ أخٍ
مُفارقُهُ أخوهُ ... لَعَمْرُ أَبيكَ إلاَّ الفَرْقَدَانِ
أي كلُّ
أخٍ، غيرُ الفرقدينِ، مفارقُهُ أخوه. ولو قال "كل أخٍ مُفارقُهُ أخوهُ إلا
الفَرقدينِ" لَصَحَّ.
واعلم أنَّ الوصفَ هو "إلا" وما بعدَها معاً،
لا "إلا" وحدَها، ولا ما بعدَها وحدَه، معَ بقائها على حرفيّتها، كما يُوصف
بالجارّ والمجرورِ معَ بقاءِ حرف الجرِّ على حرفيته. والإعرابُ يكون لِما
بعدَها. ومن العلماءِ من يجعلُها اسماً مبنياً بمعنى "غير" ويَجعلُ إعرابها
المحلّي ظاهراً فيما بعدَها. والجمهور على الأول وهوَ الأولى.
5-
حُكُم المُستَثْنى بِغَيْرٍ وسِوًى
غيرٌ نكرة مُتوغلةٌ في الابهام
والتَّنكير، فلا تُفيدُها إضافتُها إلى المعرفة تعريفاً، ولهذا تُوصَفُ بها
النكرةُ مع إضافتِها إلى معرفةٍ، نحو "جاءَني رجلٌ"
غيرُكَ، أو غيرُ
خالدٍ ". فلذا لا يُوصَفُ بها إلا نكرةٌ، كما رأيتَ، أو شبهُ النكرةِ مِمّا لا
يفيدُ تعريفاً في المعنى، كالمُعرَّفِ بألِ الجنسيةٍ، فإنَّ المعرَّفَ بها، وإن
كان معرفة لفظاً، فهو في حكم النكرةِ معنًى، لأنه لا يدُلُّ على مُعيَّنٍ. فان
قلتَ" الرجالُ غيرُك كثيرٌ "، فليس المرادُ رجالاً مُعيَّنينَ."
ومثلُها
في تنكيرها، وتَوَغُّلها في الإبهام، ووصفِ النكرةِ أو شبهها بها، وعدمِ
تعرُّفها بالإضافةِ "مِثلٌ وسِوًى وشِبْهٌ ونظيرٌ" . تقول "جاءَني رجلٌ مِثلُك،
أو سِواكَ، أو شِبهُكَ، أو نظيرُكَ" .
وقد تُحمَلُ "غير" على "إلا"
فيُستثنى بها، كما يستثنى بإلا، كما حُملتْ "إلا" على "غير" فَوُصِفَ بها.
والمستثنى بها مجرورٌ أبداً بالإضافة إليها، نحو "جاءَ القومُ غيرَ عليّ" .
وقد
تُحمَلُ "سِوى" على "إلا" ، كما حُمِلت "غيرٌ" ، لأنها بمعناها، فَيُستثنى بها
أيضاً. والمُستثنى بها مجرور بالإضافة إليها.
وحكُم "غيرٍ وسِوًى"
في الإعراب كحكمِ الاسم الواقع بعدَ "إلا" : فتقول: "جاءَ القومُ غيرَ خالدٍ" ،
بالنصب، لأنَّ الكلام تامٌّ مُوجَبٌ.
وتقول "ما جاءَ غيرَ خالدٍ
أحدٌ" ، النصب أيضاً، وإن كان الكلامُ منفيّاً، لأنها تقدَّمت على المستثنى
منه.
وتقول "ما احترقتِ الدارُ غيرَ الكتبِ" ، بالنصب، وإن كان
الكلام منفيّاً، ولم يَتقدم فيه المستثنى على المستثنى منه، لأنها وقعت في
استثناء مُنقطع.
وتقول "ما جاءَ القومُ غيرُ خالدٍ، أو غيرَ خالد" ،
بالرفع على أنها بدلٌ
من القوم، وبالنصب على الاستثناء، لأنَّ
الكلام تَامٌّ منفي. قال تعالى {لا يَستوي القاعدون من المؤمنينَ، غيرُ أولي
الضَرر، والمُجاهدون في سبيل اللهِ بأموالهم وأنفُسهم} . قُرئَ "غير" بالرفع،
صفةً للقاعدون، وبالجر، صفةً للمؤمنين، وبالنصب على الاستثناءِ.
وتقول
"ما جاءَ غيرُ خالدٍ" بالرفع، لأنها فاعل، و "ما رأيتُ غيرَ خالد" بالنصب،
لأنها مفعولٌ به، و "مررتُ بغير خالدٍ" ، بجرها بحرف الجر. وإنما لم تُنصَب
"غير" هنا على الاستثناء لأن المستثنى منه غيرُ مذكورٍ في الكلام، فتفرَّغَ ما
كان يعملُ فيه للعمل فيها.
واعلم أنه يجوز في "سوى" ثلاثُ لغاتٍ
"سِوى" بكسر السين، و "سُوى" بضمها، و "سَواء" بفتحها معَ المدّ.
6-
حُكُم المُستثْنى بِخَلا وعَدَا وحاشا
خلا وعدا وحاشا أفعال ماضيةٌ،
ضُمّنت معنى "غلا" الاستثنائية، فاستثنيَ بها، كما يُستثنى بإلاّ.
وحكمُ
المستثنى بها جوازُ نصبِه وجرّهِ. فالنصبُ على أنها أفعالٌ ماضية، وما بعدَها
مفعولٌ به. والجرُّ على أنها أحرفُ جرٍّ شبيهةٌ بالزائدِ، نحو "جاءَ القومُ
خَلا عليّاً، أو عليٍّ" .
والنصبُ بخلا وعَدا كثيرٌ، والجرُّ بهما
قليلٌ. والجرُّ بحاشا كثيرٌ، والنصبُ بها قليلٌ.
وإذا جررتَ بهن كان
الاسمُ بعدَهنَّ مجروراً لفظاً، منصوباً محلاً على الاستثناءِ.
فإن
جُعلت أفعالاً كان فاعلها ضميراً مستتراً يعودُ على المُستثنى
منه.
والتُزِمَ إفرادهُ وتذكيرهُ، لوقوعِ هذهِ الأفعالِ موقعَ الحرف، لأنها قد
تضمّنت معنى "إلا" ، فأشبهتها في الجمودِ وعَدَمِ التَّصرُّفِ والاستثناءِ بها.
والجملةُ إما حالٌ من المستثنى منه، وإما استئنافية.
ومن العلماءِ
من جعلها أفعالاً لا فاعلَ لها ولا مفعولَ، لأنها محمولةٌ على معنى "إلا" ، فهي
واقعةٌ موقعَ الحرفِ. والحرفُ لا يحتاج إلى شيء من ذلك. فما بعدَها منصوبٌ على
الاستثناء، حملاً لهذه الأفعال على "غلا" . وهو قولٌ في نهاية الحِذقِ
والتَّدقيق.
(قال العلامة الاشموني في شرح الالفية "ذهب الفراءُ الى
أن (حاشا) فعل، لكن لا فاعل له. والنصب بعده إنما هو بالحمل على (إلا) . ولم
ينقل عنه ذلك في (خلا وعدا) . على أنه يمكن أن يقول فيهما مثل ذلك" . قال
الصبان في حاشيته عليه "قوله لا فاعل له، أي ولا مفعول، كما قاله بعضهم. وقوله
بالحمل على "إلا" أي. فيكون منصوباً على الاستثناء ومقتضى حمله على "إلا" أنه
العامل للنصب فيما بعده" اهـ.
والحق الذي ترتاح إليه النفس أن تُجعل
هذه الأدوات "خلا وعدا حاشا" - في حالة نصبها ما بعدها - إما أفعالاً لا فاعل
لها ولا مفعول، لأنها واقعة موقع الحرف، وإما أحرفاً للاستثناء منقولة عن
الفعلية الى الحرفية، لتضمنها معنى حرف الاستثناء كما جعلوها - وهي جارَّةٌ
أحرفَ جر، وأصلها الافعال) .
وإذا اقترنت بخلا وعدا "ما" المصدريةُ،
نحو "جاءَ القوم ما خلا"
خالداً "وجبَ نصبُ ما بعدَهما، ويجوزُ جره،
لأنهما حينئذٍ فعلانِ. و" ما "المصدريّة لا تَسبقُ الحروفَ. والمصدر المؤوَّل
منصوبٌ على الحال بعد تقديره باسم الفاعل، والتقديرُ جاءَ القومُ خالينَ من
خالدٍ."
(هكذا قال النحاة، وأنت ترى ما فيه من التكلف والبعد
بالكلام عن أسلوب الاستثناء. والذي تطمئن إليه النفس أن "ما" هذه ليست مصدرية.
وإنما هي زائدة لتوكيد الاستثناء، بدليل أن وجودها وعدمه، في إفادة المعنى،
سواء على أن من العلماء من أجاز أن تكون زائدة، كما في شرح الشيخ خالد الازهري
لتوضيح ابن هشام) .
أما حاشا فلا تَسبقُها "ما" إلا نادراً. وهي
تُستعملُ للاستثناءِ فيما ينزَّه فيه المستثنى عن مشاركة المستثنى منه، تقول
"أهملَ التلاميذُ حاشا سليمٍ" ، ولا تقولُ "صلَّى القومُ حاشا خالدٍ" لأنه لا
يتنزَّه عن مشاركة القوم في الصَّلاة. وأما سليم - في المثال الأول، فقد
يتنزَّه عن مشاركة غيرهِ في الإهمال.
وقد تكون للتَّنزيه دون
الاستثناء، فيُجرُّ ما بعدها إما باللام، نحو "حاشَ للهِ" ، وإما بالإضافة
إليها، نحو "حاشَ اللهِ" . ويجوز حذفُ ألفها، كما رأيتُ، ويجوز إثباتها، نحو
"حاشا لله" و "حاشا اللهِ" .
ومتى استُعملت للتّنزيهِ المجرَّدِ
كانت اسماً مُرادِفاً للتنزيهِ، منصوباً على المفعوليّة المُطلَقةِ انتصابَ
المصدرِ الواقع بدلاً من التفُّظ بفعلهِ. وهي، إن لم تُضَف ولم تُنوَّن كانت
مبنيّةً، لشببهها بحاشا الحرفية لفظاً ومعنى. وإن أُضيفت أو نُوّنت كانت
مُعرَبةً، لِبُعدِها بالإضافة والتنوينِ من شَبِهٍ الحرف، لأنَّ الحروفَ لا
تُضافُ ولا تنوَّنُ، نحو "حاشَ اللهِ، وحاشا للهِ" .
وقد تكونُ
فعلاً متعدِّياً مُتصرفاً، مثل "حاشيتهُ أُحاشيهِ" ، بمعنى
استثنيتُه
أستثنيهِ. فإن سبقتها "ما" كانت حينئذٍ نافيةً. وفي الحديث أن النبيَّ صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال "أُسامة أحبُّ الناسِ إليَّ" ، وقال راويهِ "ما
حاشى فاطمةَ ولا غيرَها" .
وتأتي فعلاً مضارعاً، تقول "خالدٌ أفضلُ
أقرانهِ، ولا أُحاشي أحداً" ، أي لا استثني، ومنه قول الشاعر [النابغة - من
البسيط]
ولا أرَى فاعلاً في النَّاس يُشْبِهُهُ ... وَلا أُحاشِي
منَ الأَقوامِ مِنْ أحدِ
وإن قلت "حاشاك أن تكذب. وحاشى زهيراً أن
يُهملَ" ، فحاشى فعلٌ ماضٍ بمعنى "جانبَ" وتقولُ أيضاً "حاشى لك أن تُهملَ" ،
فتكون اللام حرفَ جرّ زائداً في المفعول به للتقوية.
وإن قلتَ
"أُحاشيك أن تقول غير الحقِّ" ، فالمعنى أُنزِّهُك.
7- حُكْمُ
المُستثْنى بِلَيْسَ ولا يَكُون
ليس ولا يكونُ من الأفعال الناقصةِ
الرَّافعة للاسم الناصبةِ للخبر. وقد يكونان بمعنى "إلا" الاستثنائية؛ فَيستثنى
بهما، كما يُستثنى بها. والمستثنى بعدَهما واجبُ النصبِ، لأنه خبرٌ لهما، نحو
"جاءَ القومُ ليس خالداً، أو لا يكون خالداً" . والمعنى جاءُوا إلا خالداً.
واسمُهما ضميرٌ مستتر يعود على المستثنى منه. والخلاف في مرجع الضمير فيهما
كالخلاف في مرجعه في "خلا وعدا وحاشا" فراجِعهُ.
(هكذا قال النحاة.
أما ما تطمئن إليه النفس فان يجعلا فعلين لا مرفوع
لهما ولا منصوب،
لتضمنهما معنى "إلا" أو يجعلا حرفين للاستثناء، نقلاً لهما عن الفعلية إلى
الحرفية، لتضمنهما معنى "إلا" كما جعل الكوفيون "ليس" حرف عطف إذا وقعت موقع
"لا" النافية العاطفة، نحو: خذ "الكتابَ ليس القلمَ" ، وكما قال الشاعر:
"والأشرمُ المطلوبُ ليس الطالبُ" . برفع "الطالب" عطفاً بليس على "المطلوب" أي:
(الأشرمُ الطالب لا المطلوب) .
8- شِبْهُ الاستِثناء
شبهُ
الاستثناء يكون بكلمتين "لا سِيَّما" و "بيدَ"
فلا سِيّما كلمةٌ
مُركَّبةٌ من "سِيّ" بمعنى مثلٍ، ومُثناها سِيّانِ، ومن "لا" النافيةِ للجنس،
وتُستعمل لترجيح ما بعدَها على ما قبلها. فإذا قلتَ "اجتهدَ التلاميذُ، ولا
سِيّما خالدٍ" ، فقد رَجَّحْتَ اجتهادَ خالدٍ على غيرهِ من التلاميذ.
وتشديد
يائها وسَبقُها بالواوِ و "لا" ، كلُّ ذلك واجب. وقد تُخففُ ياؤها. وقد تُحذَف
الواو قبلها نادراً. وقد تُحذفُ (ما) بعدَها قليلاً. أما حذفُ (لا) فلم يَرد في
كلام من يُحتج بكلامهِ.
والمُستثنى بها، إن كان نكرةً جازَ جَرُّهُ
ورَفعُه ونَصبُهُ. تقول "كلُّ مجتهدٍ يُحَبُّ، ولا سيّما تِلميذٍ مثلِكَ" أو
"ولا سيّما تلميذٌ مِثلَك" ، أو "ولا سِيّما تلميذاً مثلَك" . وجرُّهُ أَولى
وأكثرُ وأشهرُ.
(فالجر بالإضافة إلى "سيّ" وما زائدة. والرفع على
أنه خبرا لمبتدأ محذوف تقديره هو. وتكون "ما" اسم موصول محلها الجر بالإضافة
إلى (سي) . وجملة المبتدأ والخبر صلة الموصول. ويكون تقدير الكلام "يجب كل
مجتهد لا مثل محبة الذي هو تلميذٌ مثلك، لأنك مُفصَّلٌ على كل تلميذ" والنصب
على التمييز لسي، وما زائدة) .
وإن كان المُستثنى بها معرفةً جازَ
جَرُّه، وهو الأولى، وجاز رفعهُ، نحو "نجحَ التلاميذُ ولا سِيّما خليلٍ" أو
"ولا سِيّما خليلٌ" . ولا يجوزُ نصبُهُ، لأن شرطَ التّمييز أن يكونَ نكرةً.
وحكمُ
"سِيّ" أنها، أن أُضيفت (كما في صورَتي جرَّ الاسم ورفعه بعدَها) فيه مُعرَبةٌ
منصوبةٌ بلا النافية للجنس، كما يعرَبُ اسم (لا) في نحو "لا رجلَ سوءٍ في
الدار" . وإن لم تُضَف فهي مبنيّةٌ على الفتح كما يُبنى اسم (لا) في نحو "لا
رجلَ في الدار" .
وقد تستعمل "لا سِيّما" بمعنى "خُصوصاً" ، فيُؤتى
بعدَها بحالٍ مُفردَةٍ، أو بحالٍ جُملةٍ، أو بالجملة الشرطية واقعةً موقعَ
الحال. فالأول نحو "أُحِبُّ المطالعةَ، ولا سِيّما منفرداً" . والثاني نحو
"أُحبُّها، ولا سِيّما وأنا منفردٌ" . والثالثُ نحو "أُحبُّها، ولا سِيّما إن
كنتُ منفرداً" .
وقد يَليها الظَّرفُ، نحو "أُحبُّ الجلوسَ بين
الغِياضِ، ولا سِيّما عند الماءِ الجاري" ، ونحو "يَطيبُ ليَ الاشتغالُ بالعلم،
ولا سِيّما ليلاً" ، أو "ولا سِيّما إذا أَوَى الناسُ إلى مضاجعهم" .
أمّا
"بَيدَ فهو اسمٌ ملازمٌ للنّصب على الاستثناءِ" . ولا يكون إلا في استثناءٍ
منقطع. وهو يَلزَمُ الإضافةَ إلى المصدر المؤوَّلِ بأنَّ التي تنصبُ الاسمَ
وترفُ الخبرَ، نحو "إنهُ لكثيرُ المال، بيدَ أنه بخيل" . ومنه حديثُ "أنا
أفصَحُ من نطقَ بالضادِ، بَيدَ أني من قُرَيشٍ، واستُرضِعتُ في بَني سَعدِ بنِ
بَكرٍ" .
(المنادى)
المنادَى اس مٌ وقعَ بعدَ حرفٍ من
أَحرف النداءِ، نحو "يا عبدَ الله" . وفي هذا البحث أربعةَ عشرَ مبحثاً
1-
أَحرُفُ النِّداءِ
أحرفُ النداءَ سبعة، وهيَ "أَ، أَيْ، يا، آ،
أَيا، هَيا، وَا" .
فـ "أَيْ وأَ" للمنادَى القريب. و "أيا وهَيا
وآ" للمنادى البعيد. و "يا" لكلّ مُنادًى، قريباً كان، أو بعيداً، أو مُتوسطاً.
و "وا" للنُّدبة، وهي التي يُنادَى بها المندوبُ المُتفجَّعُ عليه، نحو
"واكبدِي!. واحَسرتي!" .
وتَتعيَّنُ "يا" في نداءِ اسمِ اللهِ
تعالى، فلا يُنادَى بغيرها، وفي الاستغاثة، فلا يُستغاثُ بغيرِها. وتتعيَّنُ
هيَ و "وَا" في النُّدبة، فلا يُندَُ بغيرهما، إلا أنَّ "وا" - في النُّدبة -
أكثرُ استعمالاً منها، لأنَّ "يا" تُستعمل للنُّدبة إذا أُمِنَ الالتباسُ
بالنداءِ الحقيقيِّ، كقوله [من البسيط]
حُمِّلْتَ أَمراً عَظيماً،
فاصطَبَرْتَ لَهُ ... وقُمْتَ فيهِ بِأَمْرِ اللهِ يا عُمَرَا!
2-
أَقسامُ المُنادى وأَحكامُهُ
المنادَى خمسةُ أقسامٍ المفردُ
المعرفةُ، والنكرةُ المقصودة، والنكرةُ غيرُ المقصودة، والمضافُ، والشبيهُ
بالمضافِ.
(والمراد بالمفرد والمضاف والشبيه به ما أريد به في باب
"لا" النافية للجنس، فراجعه في الجزء الثاني من هذا الكتاب. والمراد بالنكرة
المقصودة كل اسم نكرة وقع بعد حرف من أحرف النداء وقُصد تعيينه، وبذلك يصير
معرفة. لدلالته حينئذ على مُعّين. راجع مبحث المعرفة والنكرة
في
الجزء الأول من هذا الكتاب) .
وحكمُ المنادَى أنهُ منصوبٌ، إمّا
لفظاً، وإمّا مَحَلاً.
وعاملُ النَّصب فيه، إمّا فعلٌ محذوفٌ
وجوباً، تقديرُهُ "أَدعو" ، نابَ حرفُ النداءِ منَابَهُ، وإمّا حرفُ النداءِ
نفسُهُ لتَضمنهِ معنى "أَدعو" ، وعلى الأول فهو مفعولٌ به للفعل المحذوف، وعلى
الثاني فهو منصوب بـ "يا" نفسِها.
فيُنصَبُ لفظاً (بمعنى أنهُ يكونُ
مُعرَباً منصوباً كما تُنصب الأسماءُ المُعربَةُ) إذا كان نكرةً غيرَ مقصودةٍ،
أو مُضافاً، أو شبيهاً به، فالأول نحو "يا غافلاً تنبّهْ" ، والثاني نحو "يا
عبدَ اللهِ" ، والثالثُ نحو "يا حسناً خُلُقُهُ" .
ويُنصبُ محلاً
(بمعنى أنهُ يكونُ مبنياً في محلِّ نصب) إذا كان مفرداً معرفةً أو نكرةً
مقصودةً، فالأولُ نحو "يا زُهيرُ" ، والثاني نحو "يا رجلُ" . وبناؤه على ما
يُرفَعُ بهِ من ضمَّةٍ أو ألفٍ أو واوٍ، نحو "يا علي. يا موسى. يا رجلُ. يا
فَتى. يا رجلانِ. يا مجتهدونَ."
بعض أحكام للمنادى المبني المستحق
البناء
1- إذا كان المنادَى، المُستحقُّ للبناء، مبنيّاً قبلَ
النداءِ، فإنهُ يبقى على حركة بنائهِ. ويقالُ فيه إنهُ مبنيٌّ على ضمَّةٍ
مُقدَّرةٍ، منعَ من ظهورها حركةُ البناءِ الأصليَّةُ، نحو "يا سيبويهِ. يا
حَذامِ. يا خَباث. يا"
هذا. يا هؤلاء ". ويظهر أثرُ ضمِّ البناءِ
المقدَّر في تابعه، نحو" يا سيبويهِ الفاضلُ. يا حذامِ الفاضلةُ. يا هذا
المتجهِدُ. يا هؤلاءِ المجتهدون "."
2- إذا كان المنادَى مفرداً
علماً موصوفاً بابنٍ، ولا فاصلَ بينهما، والابنُ مضافٌ إلى علَمٍ، جاز في
المُنادى وجهانِ ضمُّهُ للبناءِ ونصبُهُ، نحو "يا خليلُ بنَ أحمدَ. ويا خليلَ
بنَ أحمدَ" . والفتحُ أولى. أمّا ضمُّهُ فعلى القاعدةِ، لأنه مفردٌ معرفةٌ.
وأما نصبُهُ فعلى اعتبارِ كلمة "ابن" زائدةً، فيكونَ "خليل" مضافاً و "أحمد"
مضافاً إليه. وابنُ الشخص يُضافُ إليه، لمكان المناسبة بينهما. والوصف بابنةٍ
كالوصفِ بابنٍ، نحو "يا هندَ ابنةَ خالدٍ. ويا هندُ ابنةَ خالد" .
أمّا
الوصفُ بالبنت فلا يُغيّر بناءَ المفرد العَلَم، فلا يجوزُ معَها إلا البناءُ
على الضمِّ، نحو "يا هندُ بنتَ خالدٍ" .
ويتَعيَّنُ ضَمُّ المنادى
في نحو "يا رجلُ ابنَ خالدٍ. ويا خالد ابنَ أَخينا" لانتفاءِ عَلَميَّةِ
المنادَى، في الأول، وعَلَميَّةِ المضافِ إلى ابنِ في الثاني، لأنك، إن حذفتَ
ابناً، فقلتَ "يا رجلَ خالدٍ، ويا خالدَ أخينا" ، لم يبق للاضافة معنًى. وكذا
يَتعيّنُ ضمُّهُ في نحو "يا عليٌّ الفاضلُ ابنَ سعيد" ، لوجود الفَصل، لأنه لا
يجوزُ الفصلُ بينَ المضافِ والمضاف إليه.
3- إذا كُرِّرَ المنادى
مضافاً، فلك نصب الاسمينِ معاً، نحو "يا سعدَ سعدَ الأوس" ، ولكَ بناءُ الأول
على الضم، نحو "يا سعدُ سعدَ"
الأوس ". أما الثاني فهو منصوب
أبداً."
(أما نصب الأول، فعلى أنه مضاف إلى ما بعد الثاني، والثاني
زائد للتوكيد، لا أثر له في حفض ما بعده. أو على أنه مضاف لمحذوف مماثل لما
أضيف اليه الثاني. وأما بناؤه (أي بناء الأول) على الضم، فعلى اعتباره مفرداً
غير مضاف. وأما نصب الثاني، فلأنه على الوجه الأول توكيد لما قبله، وعلى الوجه
الثاني بدلٌ من محل أو عطف بيان) .
4- المنادَى المُستحقُّ البناءِ
على الضمّ، إذا اضطُرَّ الشاعر إلى تنوينه جازَ تنوينُهُ مضموناً أو منصوباً.
ويكونُ في الحالة الأولى مَبنيّاً، وفي الثانيةِ مُعرباً منصوباً كالعلم
المضاف، فمن الأول قول الشاعر [من الوافر]
سَلامُ الله يا مَطَرٌ
عَلَيْها ... وَلَيْس عَلَيْكَ يا مَطَرُ السَّلامُ
وقولُ الآخر
يخاطب جَمَله [من البسيط]
حَيَّيْتكَ عَزَّةُ بَعْدَ الهَجْرِ
وَانصَرَفَتْ ... فَحَيّ، وَيْحَكَ، مَنْ حَيَّاكَ، يا جَمَلُ
لَيْتَ
التَّحِيَّةَ كانَتْ لِي، فَأَشْكرَها، ... مَكانَ يا جَمَلٌ حُيِّيتَ يا
رَجُلُ
ومن الثاني قول الشاعر [من الخفيف]
ضَرَبَتْ
صَدْرَها إليَّ وقالتْ ... يا عَيدِيّاً، لَقَدْ وَقَتْكَ الأَواقي
ومن
العلماءِ من اختارَ البناءَ، ومنهم من اختارَ النصبَ، ومنهم من اختارَ البناءَ
مع العَلَمِ، والنصبَ مع اسم الجنس.
فوائد
إذا وقعَ
"ابنٌ" أو "ابنةٌ" بينَ علَمينِ - في غير النداء - وأُريدَ بهما وصفُ العَلَم،
فسبيلُ ذلكَ أن لا يُنوَّنَ العلَمُ قبلهما في رفع ولا نصبٍ ولا جرّ، تخفيفاً،
وتُحذَفُ همزةُ "ابن" تقولُ "قالُ عليٌّ بنُ أبي طالب. أُحب عليَّ بنَ أبي
طالب. رَضي اللهُ عن عليٍّ بن أبي طالب" . وتقولُ "هذهِ هِندٌ ابنةُ خالدٍ.
رأيتُ هندَ ابنةَ خالد. مررت بهندِ ابنةِ خالد" . وقد جَوَّزوا - في ضرورة
الشعر - تنوينَ العلم الموصوف بهما، وعليه قول الشاعر [من الرجز]
جَارِيةٌ
مِنْ قَيْسٍ بنِ ثَعْلَبَهْ ... كَأَنَّما حِليَةُ سَيْفٍ مُذْهَبَهْ
أما
إن لم يُرَدْ بهما الوصفُ، بل أُريدَ بهما الإخبارُ عن العلَم، نُوّنَ العلمُ
وجوباً، وثبتت همزةُ "ابن" ، تقولُ "خالدٌ ابنُ سعيدٍ. إنَّ خالداً ابنُ سعيدٍ.
ظننت خالداً ابنَ سعيدٍ" .
فإن وقعا بينَ علَمٍ وغيرِ علَم، فسبيلُ
العلَم قبلَها التَّنوينُ مطلقاً، وإنْ وقعا صفةً للعلَم أو خبراً عنه. فالأول
"هذا خالدٌ ابنُ أخينا. وهذه هندٌ ابنةُ أخينا" . والثاني نحو "خالدٌ ابنُ
أخينا. إنَّ هنداً ابنةُ أُختنا" .
وهمزةُ "ابن" ثابتةٌ هنا على كل
حال، كما رأيت.
3- نِداءُ الضَّمير
نداءُ الضمير شاذ
نادرُ الوقوع في كلامهم. وقصَرَهُ ابنُ عُصفور على الشعر. واختار أبو حيّانَ
أنهُ لا ينادَى البَتَّةَ. والخلاف إنما هو في نداءِ ضمير الخطاب. أمّا نداءُ
ضميريِ التكلم والغَيبة، فاتفقوا على أنهُ لا يجوز نداؤهما بَتَّةً، فلا يُقال
"يا أنا. يا إيّايَ. يا هُوَ. يا إيّاهُ" .
وإذا ناديتَ الضمير،
فأنتَ بالخيار إن شئتَ أتيتَ به ضميرَ رفعٍ أو ضمير نصبٍ، فتقولُ "يا أنت. يا
إياك" . وفي كِلتا الحالتينِ، فالضميرُ مبني على ضم مُقدَّر، وهو في محل نصب،
مِثلَه في "يا هذا، ويا هذهِ، ويا سِيبَويهِ" ، لأنه مُفَردٌ معرفة.
4-
نِداءُ ما فيهِ "أَلْ"
إذا أريْدَ نداءُ ما فيه "أَلْ" ، يُؤتى
قبلَهُ بكلمةِ "أيُّها" للمذكر، و "أَيّتُها" للمؤنث. وتَبقيانِ معَ التثنيةِ
والجمع بلفظ واحدٍ، مراعىً فيهما التذكيرُ والتأنيث، أو يؤتى باسم الإشارة.
فالأول كقوله تعالى {يا أيُّها الإنسانُ ما غَرَّكَ بربّكَ الكريم؟} وقوله {يا
أيتُها النفسُ المُطمَئِنّةُ، ارجعي إلى ربكِ راضيةً مرضِيّةً} وقوله {يا
أيُّها الناسُ اتَّقوا ربَّكم} . والثاني نحو "يا هذا الرجل. يا هذهِ المرأةُ"
إلا إذا كان المنادى لفظَ الجلالة.
لكن تبقى "ألْ" وتُقطَعُ همزتُها
وُجوباً، نحو "يا ألله" . والأكثر معَهُ حذفُ حرفِ النداءِ والتعويضُ منه بميمٍ
مُشدَّدةٍ مفتوحةٍ، للدلالةِ على التعظيم نحو "اللهمَّ ارحمنا" . ولا يجوز أن
تُوصَفَ "اللهمَّ" ، على على اللفظ ولا على المحلِّ، عل الصحيح، لأنهُ لم
يُسمَع. وأما قولهُ تعالى "قُلِ اللهمَّ، فاطرَ السمواتِ والأرض" ، فهو على أنه
نداءٌ آخرُ، قُل اللهمَّ، يا فاطرَ السمواتِ.
وإذا ناديتَ علماً
مُقترِناً بألْ وَضعاً حذفتَها وُجوباً فتقولُ في نداء العبّاسِ والفضلِ
والسّموأَلِ "يا عبّاسُ. يا فضلُ. يا سَمَوأَلُ" .
فائدة
تستعمل
"اللهمَّ" على ثلاثة أنحاء
(الأول) أن تكون للنداء المحض، نحو
"اللهمَّ اغفر لي" .
(الثاني) أن يذكرها المجيب تمكيناً للجواب في
نفس السامع، كأن يقال لك "أخالد فعل هذا؟" ، فتقول "اللهم نعم" .
(الثالث)
أن تستعمل للدلالة على الندرة وقلة وقوع المذكور معها، كقولك للبخيل "إن الأمة
تعظمك، اللهم ان بذلت شطراً من مالك في سبيلها" .
5- أَحكامُ
تَوابعِ المُنادَى
إن كن المنادى مبنياً فتابعُهُ على أربعة
أضرُبٍ
1- ما يجبُ رفعُهُ معرَباً تَبَعاً لِلَفظِ المنادى. وهو
تابعُ (أيّ وأيَة واسمِ
الإشارة) ، نحو "يا أيها الرَّجلُ. يا أيتها
المرأة. يا هذا الرجلُ. يا هذهِ المرأةُ" .
ولا يُتبَعُ اسمُ
الإشارةِ أبداً إلا بما فيهِ "ألْ" . ولا تُتبَعُ "أيُّ وأيّةٌ" في باب
النداءِ، إلا بما فيه "أَلْ" - كما مُثِّلَ - أو باسم الإشارة، نحو "يا أيُّهذا
الرجلُ" .
2- ما يجبُ ضَمهُ للبناءِ، وهوَ البدَلُ، والمعطوفُ
المجرَّدُ من "أَلْ" اللَّذانِ لم يضافا، نحو "يا سعيدُ خليلُ. يا سعيدُ
وخليلُ" .
3- ما يجبُ نصبُهُ تبعاً لمحلِّ المنادَى، وهو كلُّ تابعٍ
اضيف مُجرَّداً من "أَل" ، نحو "يا علي أبا الحسن. يا علي وابا سعيد. يا خليلُ
صاحبَ خالدٍ. يا تلاميذُ كلَّهُمْ، أو كلَّكُم. يا رجلُ أبا خليلٍ" .
4-
ما يجوز فيه الوجهان الرفعُ مُعرَباً للفظِ المنادَى، والنصبُ تبعاً لمحلِه وهو
نوعان
الأول النعتُ المضافُ المقترنُ بألْ، وذلك يكون في الصفاتِ
المُشتقَّةِ المضافة الى معمولها، نحو "يا خالدُ الحسنُ الخلُقِ، أو الحسنَ
الخلق. يا خليلُ الخادمُ الأمةِ، أَو الخادمَ الأمة" .
الثاني ما
كان مُفرَداً من نعتٍ، أو توكيدٍ، أو عطفِ بيانٍ، أو
معطوفٍ مُقترنٍ
بألْ، نحو "يا عليّ الكريمُ، أو الكريمَ. يا خالدٌ خالدٌ، أو خالداً. يا رجلُ
خليلٌ، أو خليلاً. يا عليّ والضيفُ، أو والضيفَ، ومن العطفِ بالنصبِ تبعاً
لمحلِّ المنادى قوله تعالى {يا جبالُ أَوّبي معهُ والطّيرَ} ، وقُريءَ في غيرِ
السبعةِ" والطيرُ "، بالرفع عطفاً على اللفظ."
وان كان المنادَى
مُعرَباً منصوباً فتابعُهُ أبداً منصوبٌ مُعرباً، نحو "يا أَبا الحسنِ صاحبَنا.
يا ذا الفضل وذا العلم. يا أبا خالدٍ والضيفَ" ، إلا إذا كان بدَلاً، أو
معطوفاً مجرداً من "ألْ" غيرَ مضافين، فهما مَبنيّان، نحو "يا أبا الحسن عليٌّ.
يا عبدَ الله وخالدُ" .
6- حَذْفُ حَرْفِ النِّداءِ
يجوزُ
حذفُ حرفِ النداءِ بكثرةٍ، إذا كان "يا" دونَ غيرِها، كقولهِ تعالى "يوسفُ،
أَعرِضْ عن هذا" ، وقولهِ "رَبِّ أَرِني أَنظُرْ إليكَ" ونحو "مَنْ لا يزالُ
مُحسناً أحسنْ إليَّ، واعظَ القومِ عِظهُمْ. أَيُّها التلاميذُ اجتهدوا.
أَيتُها التلميذاتُ اجتهِدْنَ" .
ولا يجوزُ حذفُهُ من المنادى
المندوبِ والمنادَى المُستغاث والمنادى المتعجَّبِ منه والمنادى البعيد، لأنَّ
القصدَ إطالةُ الصوتِ، والحذفُ يُنافيهِ.
وقلَّ حذفُهُ من اسم
الإشارة، كقول الشاعر [من الطويل]
إذا هَمَلَتْ عَيْني لَها قالَ
صاحبي ... بِمثْلِكَ، هذا، لَوْعَةٌ وغَرامُ؟!
ومن النكرة المقصودة
بالنداءِ كقولهم "إفتَد مخنوقُ. أصبح ليلُ ومنه قول الشاعر [من الرجز] "
جَارِيَ،
لا تَسْتَنْكري عَذِيري ... سَيْرِي وإِشْفاقِي على بَعيري
وقولُ
الآخر [من الرجز]
أَطرِقْ كرا، أَطرِقْ كرا ... إنَّ النَّعَامَ في
الْقُرَى
وأقل من ذلك حذفُهُ من النكرة غير المقصودة ومن المشبّه
بالمضاف.
7- حَذْفُ المُنادى
قد يُحذّف المنادى بعد "يا"
كقوله تعالى {يا ليتني كنت معَهم، فأفوزَ فوزاً عظيماً} ، وقولِكَ "يا نَصَرَ
اللهُ من يَنصُرُ المظلومَ" ، وقول الشاعر [من الطويل]
أَلاَ يا
اسْلَمي يا دارَ مَيَّ، عَلى الْبَلى ... وَلا زالَ مُنْهَلاً بِجَرْعائِكِ
الْقَطْرُ
(والتقدير يكون على حسب المقام. فتقديره في الآية الأولى
"يا قوم" ، وفي الثانية "يا عبادي" ، وفي المثالث الثالث، "يا قوم" ، وفي الشعر
"يا دار" ) .
والحقُّ أن "يا" أَصلُها حرفُ نداءٍ، فإن لم يكن
مُنادَى بعدها كانت حرفاً يُقصَدُ به تنبيهُ السامع إلى ما بعدَها. وقيلَ إن
جاءَ بعدها فعلُ أَمر فهيَ حرفُ نداءٍ، والمنادَى محذوف، نحو "ألا يا اسجدوا" .
والتقدير ألا يا قومُ. ونحو "أَلا يا اسلمي" والتقدير أَلا يا عَبْلةُ....
وإلاّ فهيَ حرفُ تنبيهٍ، كقولهِ
تعالى "يا ليتَ قومي يَعلمونَ" .
8-
المُنادى المَضافُ إِلى ياءِ المُتَكلِّم
المنادى المضافُ إلى ياءِ
المتكلمِ على ثلاثة أنواعٍ اسمٍ صحيحِ الآخرِ، واسمٍ مُعتلٍّ الآخرِ، وصفةٍ.
والمُرادُ
هنا اسمُ الفاعل واسمُ المفعولِ ومبالغةُ اسمِ الفاعل.
فإن كان
المضافُ إلى الياءِ اسماً صحيحَ الآخر، غيرَ أب ولا أُم، فالأكثرُ حذف ياءِ
المتكلمِ والاكتفاءُ بالكسرةِ التي قبلَها، كقوله تعالى {يا عبادِ فاتَّقُون} .
ويجوز إثباتها ساكنةً أو مفتوحةً، كقولهِ عزَّ وجلَّ "يا عبادِي لا خوفٌ عليكم"
وقوله "يا عباديَ الذينَ أَسرفوا على أَنفسهم" . ويجوزُ قلبُ الكسرةِ فتحةً
والياءِ أَلفاً، كقوله تعالى {يا حَسرتا على ما فرَّطتُ في جَنبِ الله} .
وإن
كانَ المضافُ إلى (الياءِ) معتلَّ الآخرِ، وجبَ إثباتُ الياءِ مفتوحةً لا غيرُ،
نحو "يا فتاي. يا حامِيَّ" .
وإن كان المضافُ إليها صفةً صحيحةَ
الآخر، وجبَ إثباتُها ساكنةً أو مفتوحةً، نحو "يا مكرميْ. يا مُكرمِيَ" .
وإن
كان المضافُ إليها أباً أَو أُمّاً، جاز فيهِ ما جازَ في المنادَى الصحيح
الآخر، فتقول "يا أَبِ ويا أُمِّ. يا أَبي ويا أُمي. يا أَبيَ ويا أُميَ. يا
أبا ويا أُمّا" ويجوزُ فيه أَيضاً حذفُ ياءِ المتكلم والتَّعويضُ عنها بتاءِ
التأنيثِ مكسورةً أَو مفتوحةً، نحو "يا أَبَتِ ويا أُمَّتِ. يا أَبَتَ يا
أُمَّتَ" . ويجوزُ إبدالُ هذهِ التاءِ هاء في الوقفِ، نحو "يا أَبَهْ ويا
أُمَّهْ" .
وإن كان المنادَى مضافاً إلى مضافٍ إلى ياءِ المتكلم،
فالياءُ ثابتةٌ لا غيرُ، نحو "يا ابنَ أَخي. يا ابنَ خالي" إلاّ إذا كان "ابنَ
أُمّ" أو "ابن عمّ" فيجوزُ إثباتُها، والأكثر حذفُها والاجتزاءُ عنها بفتحةٍ
أَو كسرةٍ. وقد قُريءَ قوله تعالى {قال يا ابنَ أمَّ، إنَّ القومَ استضعفوني} ،
وقوله {قال يا ابنَ أُمَّ لا تأخذْ بِلحيتي ولا برأسي} ، بالفتح والكسر. فالكسر
على نيّةِ الياءِ المحذوفة، والفتحُ على نيّةِ الألفِ المحذوفةِ التي أَسلُها
ياءُ المتكلم. ومثلُ ذلكَ يُقال في "يا ابنَ عمَّ" قال الراجز [من الرجز]
كُنْ
لِيَ لاَ عَليَّ، يا ابنَ عَمَّا ... نَعشْ عَزِيزَينِ، ونُكْفَى الهَمّا
ويجري
هذا أيضاً مع "ابنةِ أُمِّ" و "ابنةِ عَم" .
واعلم أنهم لا يكادون
يُثبتون ياءَ المتكلم، ولا الألفَ المنقلبةَ عنها، إلا في الضرورةِ، فإثباتُ
الياء كقوله [من الخفيف]
يا ابنَ أُمِّي، ويا شُقَيِّقَ نَفْسِي ...
أَنتَ خَلَّقْتَني لِدَهرٍ شَديدِ
وإثباتُ الألف المنقلبة عنها،
كقول الآخر [من الرجز]
يا ابنةَ عَمَّا، لا تَلُومِي واهجَعي ... لا
يَخْرُقُ اللَّوْمُ حِجابَ مِسْمَعي
9- المُنادى المُسْتَعاثُ
الاستغاثةُ
هي نداءُ من يُعينُ من دفع بلاءٍ أو شدَّة، نحو "يا للأَقوياءِ لِلضُّعفاءِ" .
والمطلوبُ منه الإعانةُ يسمّى "مُستغاثاً" ، والمطلوبُ له الإعانةُ يُسمّى
"مُستغاثاً لهُ" .
ولا يُستعملُ للستغاثةِ من أحرف النداءِ إلا (يا)
. ولا يجوزُ حذفُها، ولا حذفُ المُستغاث. أما المستغاث له فحذفه جائز، نحو "يا
للهِ" .
وللمستغاث ثلاثةُ أوجهِ
1- أن يُجرَّ بلامٍ
زائدةٍ واجبةِ الفتحِ، كقول الشاعر [من البسيط]
يا لَقَوْمي، ويا
لأَمثالِ قَوْمي ... لأُناسٍ عُتُوُّهُمُ في ازدِيادِ!
وقول الآخر
[من الوافر]
تَكَنَّفَني الوُشاةُ فأَزْعَجُوني ... فَيا لَلنَّاسِ
لِلْواشي المُطَاع!
وقولِ غيره [من الخفيف]
يا لَقَوْمي!
مَنْ لِلْعُلاَ والْمَساعِي؟ ... يا لَقَوْمي! مَنْ لِلنَّدَى والسَّماحِ؟
يا
لَعَطَّافِنا! ويَا لَرِياح ... وَأَبي الحَشْرَجِ الْفَتَى النَّفَّاحِ!
ولا
تُكسر هذه اللامُ إذا تكرَرَ المستغاثُ غيرَ مقترنٍ بـ "يا" كقول الشاعر [من
البسيط]
يَبْكيكَ ناءٍ، بَعِيدُ الدَّارِ، مُغْتَرِبٌ ... يا
لَلْكهُولِ وَلِلشُّبَّانِ لِلْعَجَبِ!
2- أن يُختَم بألفٍ زائدةٍ
لتوكيد الاستغاثة، كقول الشاعر [من الخفيف]
يا يَزِيدا لآمِلٍ
نَيْلَ عِزٍّ ... وَغِنًى بَعْدَ فاقَةٍ وهَوَانٍ!
3- أن يبقى على
حاله، كقول الآخر [من الوافر]
أَلا يا قَوْمُ لِلعَجَبِ الْعَجيبِ!
... ولِلْغَفَلاتِ تَعْرِضُ لِلأَديبِ!
أمّا المُستغاثَ له، فإن
ذُكِرَ في الكلام، وجبَ جرُّهُ بلامٍ مكسورة دائماً، نحو "يا لَقومي لِلعلمِ!"
. وقد يجر بِـ "مِنْ" ، كقول الشاعر [من البسيط]
يَا لَلرِّجالِ
ذَوي الأَلبابِ مِنْ نَفَرٍ ... لا يَبْرَحُ السَّفَهُ المُرْدِي لَهُمْ
دِيناً!
10- المُنادى المُتَعَجَّبُ مِنهُ
المُنادى
المُتعجَّبَ منه، هو كالمُنادَى المُستغاثِ في أحكامهِ، فتقولُ في التعجّب من
كثرةِ الماءِ "يالَلماءِ!. يا ماءَا!. يا ماءُ!" . وتقولُ "يالَلطربِ!. يا
طرَبا. يا طَرَبُ!" .
11- المُنادَى الْمَنْدوب
النُّدبةُ
هي نداءُ المُتفجَّعِ عليه أو المُتوجَّعِ منه، نحو "واسَيّداه!. واكَبِداه!"
.
ولا تُستعملُ لنداءِ المندوب من الأدواتِ إلا "وَا" . وقد
تُستعملُ "يا" ، إذا لم يَحصُلِ التباسٌ بالنداء الحقيقي.
ولا يجوز
في النُّدبةِ حذفُ المنادَى ولا حذفُ أداتهِ.
وللمنادَى المندوب
ثلاثةُ أوجه
1- أن يُختَم بألفٍ زائدةٍ لتأكيد التَّفجُّعِ أو
التوجُّع، نحو "واكَبِدَا!" .
2- أن يُختَم بالألفِ الزائدة وهاءِ
السَّكتِ، نحو "واحُسَيناه" .
(وأكثر ما تزاد الهاء في الوقف فان
وصلت حذفتها، إلا في الضرورة، كقول المتنبي [من البسيط] "واحرّ قلباهُ ممن قلبه
شبِمُ" .
ولك حينئذ ان تضمها، تشبيهاً
لها بهاء الضمير.
وان تكسرها على أصل التقاء الساكنين. وأجاز الفرّاء إثباتها في الوصل مضمومة أو
مكسورة من غير ما ضرورة) .
3- أن يبقى على حاله، نحو "واحُسينُ!"
.
ولا يكونُ المنادى المندوبُ إلا معرفةً غيرَ مبهَمةٍ. فلا يندَبُ
الاسمُ النكرةُ، فلا يقال "وَارجلُ!" ، ولا المعرفةُ المُبهمَة - كالأسماءِ
الموصولة وأسماءِ الإشارة - فلا يقال "وامَنْ ذهبَ شهيدَ الوفاءِ!" ، إلا إذا
كان المُبهمُ اسمَ موصولٍ مُشتهرِاً بالصّلة، فيجوزُ، نحو "وامَنْ حَفرَ بِئرَ
زمزمَ" .
12- المُنَادى المُرَخَّم
التَّرخيمُ هو حذفُ
آخرِ المنادى تخفيفاً،، نحو "يا فاطمَ" . والأصلُ "يا فاطمةُ" . والمنادى الذي
يُحذفُ آخرُهُ يُسمّى "مُرَخمّاً" .
ولا يُرخَّمُ من الأسماءِ إلا
اثنان
1- ما كان مختوماً بتاءِ التأنيث، سواءٌ أكان عَلَماً أو غيرَ
عَلَم، نحو "يا عائشَ. يا ثِقَ. يا عالِمَ" ، في "عائشةَ وثِقَةٍ وعالمةٍ" .
2-
العَلمُ لمذكَّرٍ أو مؤنثٍ على شرط أن يكونَ غيرَ مركَّبٍ، وأن يكون زائداً على
ثلاثة أحرفٍ، نحو "يا جَعفَ. يا سُعا" ، في "جعفرٍ وسعادَ" .
(فلا
ترخم النكرة، ولا ما كان على ثلاثة أحرف ولم يكن مختوماً بالتاء، ولا المركب.
فلا يقال "يا انسا" ، في "انسان" ، لأنه غير علم، ولا "يا حسَ" ، في "يا حسن" ،
لأنه على ثلاثة أحرف، ولا مثل "يا عبدَ الرحمن" . لأنه مركب. وأما ترخيم "صاحب"
في قولهم "يا صاحِ" ، مع كونه غير علم، فهو شاذّ لا يقاس عليه) .
ويُحذَفُ
للتَّرخيم إمّا حرفٌ واحدٌ، وهو الأكثر، كما تقدّم، وإمّا حرفانِ، وهو قليل.
فتقول "يا عُثَم. يا مَنْصُ" ، في "عُثمانَ ومنصورٍ" .
ولك في
المنادى المرخَّمِ لغتانِ
1- أن تُبقيَ آخرَهُ بعدَ الحذفِ على ما
كان عليه قبلَ الحذف - من ضَمَّةٍ أو فتحةٍ أو كسرةٍ - نحو "يا منصُ. يا جعفَ.
يا جارِ" . وهذهِ اللغةُ هي الأولى والأشهرُ.
2- أن تُحرّكهُ بحركة
الحرف المحذوف، نحو "يا جَعفُ. يا جارُ" .
(وتسمى اللغة الأولى "لغة
من ينتظر" ، أي من ينتظر الحرف المحذوف ويعتبره كأنه موجود. ويقال في المنادى
حينئذ أنه مبني على ضم الحرف المحذوف للترخيم. وتسمى اللغة الأخرى "لغة من لا
ينتظر" ، أي من لا ينتظر الحرف المحذوف، بل يعتبر ما في آخر الكلمة هو الآخر
فيبنيه على الضم) .
13- أَسْماءُ لازَمَتِ النِّداءَ
منها
"يا فُلُ، ويا فُلَةُ" ، بمعنى. يا رجل، ويا امرأةُ، و "يا لُؤمانُ" أي يا
كثيرَ اللؤم، و "يا نَوْمانُ" ، أي يا كثيرَ النَّومِ. وقالوا "يا مَخبَثانُ،
ويا مَلأمانُ، ويا مَلكَعانُ، ويا مَكذَبانُ، ويا مَطيَبانُ، ويا مَكرَمانُ" .
والأنثى بالتاءِ. وقالوا في شتم المذكَّرِ "يا خُبَثُ، ويا فُسَقُ، ويا غُدَرُ،
ويا لُكَعُ" . وكلُّ ما تقدَّم سَماعيٌّ لا يقاسُ عليهِ. وقاسهُ بعضُ
العلماء
فيما كان على وزنِ "مَفعَلان" . وقالوا في شتم المؤنث "يا لَكاعِ، ويا فَساقِ،
ويا خَباثِ" . ووزنُ "فَعالِ" هذا قياسيٌّ من كل فعلٍ ثلاثيٍّ.
وما
ذُكرَ من هذه الأسماءِ كلّها لا يستعملُ إلا في النداءِ، كما رأيتَ. وأما قولُ
الشاعر [من الوافر]
أُطَوِّفُ ما أُطَوِّفُ، ثُمَّ آوِي ... إِلى
بَيْتٍ قَعِيدَتُهُ لَكاعِ
فضرورةٌ، لاستعمالهِ "لكاعِ" خَبراً، وهي
لا تُستعملُ إلا في النداءِ.
14- تَتمَّةٌ
في كلامِ
العربِ ما هو على طريقةِ النداءِ ويُقصَدُ به الاختصاصُ لا النداءُ، وذلك
كقولهم "أمّا أنا فأفعلُ كذا أيّها الرجلُ" ، وقولهم "نحن نفعلُ كذا أيُّها
القومُ" ، وقولهم "اللهمَّ اغفرْ لنا أيَّتُها العِصابة" . فقد جعلوا "أيّا"
معَ تابعها دليلاً على الاختصاص والتوضيح. ولم يُريدوا بالرجل والقوم إلا
أنفسَهم. فكأنهم قالوا "أما أنا فأفعلُ كذا متخصّصاً بذلك من بين الرجال، ونحن
نفعلُ كذا متخصّصينَ من بين الأقوام. واغفر لنا اللهمَّ مخصوصينَ من بينِ
العصائب" .
وقد تقدَّمت الإشارة إلى ذلك في بحث الاختصاص.
(مجرورات الأسماء)
(حروف الجر)
حروفُ الجرِّ عشرون حرفاً، وهي "الباء ومِن وإلى
وعن وعلى وفي والكافُ واللاَّمُ وواوُ القَسَمِ وتاؤهُ ومُذْ ومُنذُ ورُبَّ
وحتى وخَلا وَعدَا وحاشا وكي ومتى - لي لُغَةِ هُذَيل - ولَعَلَّ في لغة
عُقَيل" .
وهذهِ الحروف منها ما يختصّ بالدخولِ على الاسمِ الظاهر،
وهو "رُبَّ ومُذْ ومُنذُ وحتى والكافُ وواوُ القسمِ وتاؤهُ ومتى" . ومنها ما
يدخلُ على الظاهر والمَضمَر، وهي البواقي.
واعلم أنَّ من حروفِ
الجرِّ ما لفظُهُ مُشترَكٌ بينَ الحرفيّةِ والاسميّة، وهو خمسةٌ "الكافُ وعن
وعلى ومُذْ ومُنذُ" . ومنها ما لفظُهُ مُشتركٌ بينَ الحرفيّة والفعليّةِ، وهو
"خلا وعدا وحاشا" . ومنها ما هو ملازم للحرفيّة، وهو ما بقي. وسيأتي بَيانُ ذلك
في مواضعهِ.
وسُمّيت حروف الجرّ، لأنها تَجرُّ معنى الفعل قبلَها
إلى الاسم بعدَها، أو لأنها تجرُّ ما بعدَها من الأسماءِ، أي تَخفِضُه. وتسمّى
"حروفَ الخفض" أيضاً، لذلك. وتُسمّى أيضاً "حروف الإضافة" ، لأنها تُضيفُ
معانيَ الأفعال قبلها إلى الأسماء بعدها. وذلك أنَّ من الأفعال ما لا يَقوَى
على الوصول إلى المفعول به، فَقوَّوه بهذه الحروف، نحو "عجبتُ من خالدٍ، ومررتُ
بسعيدٍ" . ولو قلتَ "عجبتُ خالداً. ومررتُ سعيداً" ، لم يُجُز، لضعف الفعل
اللازم وقُصورهِ عن الوصول إلى المفعول به، إلا أن يَستعينَ بحروف الإضافة.
وفي
هذا المبحث تسعةُ مَباحث.
1- شرْحُ حُرُوفِ الجَرِّ
1-
الباءُ
الباءُ لها ثلاثةَ عشرَ معنًى
1- الإلصاقُ وهو
المعنى الأصليُّ لها. وهذا المعنى لا يُفارقُها في جميع معانيها. ولهذا اقتصرَ
عليه سِيبويهِ.
والإلصاقُ إمّا حقيقيّ، نحو "أمسكتُ بيدِكَ. ومسحتُ
رأسي بيدي" ، وإمّا مجازيٌّ، نحو "مررتُ بدارِكَ، أو بكَ" ، أي بمكانٍ يَقرُبُ
منها أو منكَ.
2- الاستعانةُ، وهي الداخلةُ على المستعانِ به - أي
الواسطة التي بها حصلَ الفعلُ - نحو "كتبتُ بالقلم. وبَرَيتُ القلمَ بالسكينِ"
. ونحو "بدأتُ عملي باسمِ الله، فنجحتُ بتوفيقهِ" .
3- السّببيةُ
والتَّعليلُ، وهي الداخلةُ على سبب الفعل وعِلَّتهِ التي من أجلها حصلَ، نحو
"ماتَ بالجوعِ" ، ونحو "عُرِفنا بفلانِ" . ومنه قولهُ تعالى {فَكُلاُّ أخَذْنا
بذنبه} ، وقولهُ {فبِما نقضِهم ميثاقَهمْ لَعنّاهم} .
4- التّعديةُ،
وتُسمّى باءَ النّقلِ، فهي كالهمزةِ في تصييرها الفعلَ اللازمَ مُتعدِّياً،
فيصيرُ بذلك الفاعلُ مفعولاً، كقوله تعالى {ذهبَ الله بِنُورهم} ، أي أذهبهُ،
وقولهُ {وآتيناهُ من الكُنوزِ ما إنَّ مَفاتِحَهُ لتَنُوءُ بالعُصبة أُولي
القوّة} ، أي لَتُنيءُ العُصبةَ وتُثقلُها. وهذا كما تقول "ناءَ به الحملُ،
بمعنى أثقلهُ" . ومن باءِ التّعدية قولهُ تعالى {سُبحانَ الذي أسرَى بعبدهِ
ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى} . أي سيّرهُ ليلاً.
5-
القسمُ، وهي أصلُ أحرُفهِ. ويجوز ذكرُ فعلِ القسمِ معها؛ نحو "أُقسم بالله" .
ويجوزُ حذفُهُ، نحو "باللهِ لأجتهدَنَّ" . وتدخلُ على الظاهرِ، كما رأيتَ، وعلى
المُضَمرِ، نحو "بكَ لأفعلنَّ" .
6- العَوَضُ، وتسمى باءَ المقابلةِ
أيضاً، وهي التي تَدُلُّ على تعويض شيءٍ من شيءٍ في مُقابلةِ شيءٍ آخرَ، نحو
"بِعتُكَ هذا بهذا. وخُذِ الدارَ بالفرسِ" .
7- البدَلُ، وهي التي
تدلَّ على اختيار أحدِ الشيئينِ على الآخرِ، بلا عِوَضٍ ولا مقابلةٍ، كحديث "ما
يَسُرُّني بها حُمْرُ النّعَم" ، وقولِ بعضهم "ما يَسُرُّني أني شَهِدتُ
بَدْراً بالعقبة" أي بَدَلها، وقول الشاعر [من البسيط]
فَلَيْتَ لِي
بِهِمِ قَوْماً إذا رَكِبُوا ... شَنُّوا الإِغارةَ فُرْساناً ورُكْبانا
8-
الظرفيّةُ - أي معنى (في) - كقوله تعالى {لَقَد نَصرَكمُ اللهُ بِبَدْرٍ. وما
كنتَ بجانبِ الغربي. نجّيناهم بِسَحر. وإنَّكم لَتَمُرون عليهم مصبِحينَ
وباللّيلِ} .
9- المصاحبةُ، أي معنى "معَ" ، نحو "بعتُكَ الفَرَسَ
بسرجهِ،"
والدارَ بأثاثها "، ومنه قولهُ تعالى" إهبِطْ بسلام "."
10-
معنى "مِن" التَّبعيضيّةِ، كقولهِ تعالى "عَيناً يشربُ بها عبادُ اللهِ" ، أي
منها.
11- معنى "عن" ، كقولهِ تعالى {فاسأل به خبيراً} ، أي عنهُ،
وقولهِ {سأل سائلٌ بعذابٍ واقعٍ} ، وقوله {يَسعى نورُهم بينَ أيديهم
وبأيمانِهم} .
12- الاستعلاءُ، أي معنى "على" كقوله تعالى "ومن أهلِ
الكتابِ مَن إن تَأمَنهُ بِقِنطارٍ يُؤدَّهِ إليكَ" ، إي على قنطار، وقولِ
الشاعر [من الطويل]
أَرَبٌّ يَبُولُ الثُّعلُبانُ بِرَأْسِهِ ...
لَقَدْ ذَلَّ مَنْ بالتْ عَلَيْهِ الثَّعالِبُ
13- التأكيدُ، وهي
الزائدةُ لفظاً، أي في الإعراب، نحو "بِحَسبِكَ ما فعلتَ" ، أي حَسبُك ما
فعلتَ. ومنهُ قوله تعالى {وكفى باللهِ شهيداً} ، وقولهُ {أَلم يعلم بأنَّ اللهَ
يرى} ، وقولهُ {ولا تُلقوا بأيديكم إلى التّهلُكة} ، وقولهُ {أَليس الله بأحكمِ
الحاكمين؟} وسيأتي لهذه الباء فضلُ شرح.
2- مِنْ
مِنْ
لها ثمانيةُ مَعانٍ
1- الابتداءُ، أَي ابتداءُ الغايةِ المكانيّةِ
أو الزمانيّةِ. فالأول كقوله
ِ تعالى {سبحانَ الذي أسرى بعبدهِ
ليلاً من المسجد الحرامِ إلى المسجد الأقصى} . والثاني كقوله {لَمَسجدٌ أُسسَ
على التّقوى من أوَّلِ يوم أَحَقُّ أَن تقومَ فيهِ} . وتَرِدُ أَيضاً لابتداء
الغاية في الأحداث والأشخاص. فالأول كقولك "عَجبتُ من إقدامك على هذا العمل" ،
والثاني كقولك "رأيتُ من زهير ما أُحبُّ" .
2- التّبعيضُ، أي معنى
"بعض" ، كقولهِ تعالى {لن تنالوا البرَّ حتى تُنفقوا ممّا تُحبُّونَ} أي
بعضَهُ، وقولهِ "منهم من كلّمَ اللهَ" ، أَب بعضُهم. وعلامتُها أَن يَخلُفَها
لَفظُ "بعضٍ" .
3- البيانُ، أي بيانُ الجنس، كقوله تعالى {واجتنبوا
الرجسَ من الأوثانِ} . قولهِ {يُحَلَّونَ فيها من أَساورَ من ذهبٍ} . وعلامتُها
أَن يصحَّ الإخبارُ بما بعدَها عمّا قبلها، فتقول الرجس هي الأوثانُ، والأساورُ
هي ذهب.
واعلم أَن "من" البيانيّةَ ومجرورَها في موضعِ الحال مما
قبلَها، إن كان معرفةً، كالآية الأولى، وفي موضع النّعتِ له إن كان نكرة،
كالآية الثانية. وكثيراً ما تَقَعُ "من البيانيّةُ" هذهِ بعد "ما ومهما" ،
كقوله تعالى {ما يَفتَحِ اللهُ للناسِ من رحمةٍ فلا مُمسِكَ لها} ، وقولهِ {ما
ننْسَخْ من آيةٍ} ، وقولهِ {مهما تأتِنا به من آية} .
4- التأكيدُ،
وهي الزائدة لفظاً، أي في الإعراب، كقوله تعالى {ما جاءنا من بشيرٍ} ، وقوله
{هل تحس منهم من أحد} وقوله {هل من خالق غير الله} [فاطر: 3] . وسيأتي لـ
"مِنْ" هذه فضلُ شرح
5- البدل: كقوله تعالى {أرضيتم بالحياة الدنيا
من الآخرة} أي
بدلها وقولهِ {لجعَلَ منكم ملائكةً في الأرضِ
يَخلُفون} أي "بَدَلكم" ، وقولهِ {لن تُغنيَ عنهم أموالُهم ولا أولادُهم من
الله شيئاً} ، أي بَدَلَ الله، والمعنى بَدَلَ طاعتهِ أو رحمتهِ. وقد تقدَّم
معنى البدل في الكلام على الباءِ.
6- الظَّرفيّة، أَي معنى (في) ،
كقوله سبحانهُ {ماذا خَلقوا من الأرض} ، أي فيها، وقولهِ {إذا نُوديَ للصّلاة
من يومِ الجمعة} ، أي في يومها.
7- السّببيّةُ والتّعليلُ، كقوله
تعالى {مِمّل خطيئاتِهم أُغرِقوا} ، قال الشاعر [من البسيط]
يُغْضِي
حَياءً، وَبُغْضَى مِنْ مَهابَتهِ ... فَما يُكَلَّمَ إِلاَّ حِينَ
يَبْتَسِم
8- معنى "عن" ، كقولهِ تعالى: {فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ
قُلُوبُهُمْ مِّن ذِكْرِ الله} [الزمر: 22] ، وقولهِ: {يا ويلنا قَدْ كُنَّا
فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هذا} [الأنبياء: 97] .
3- إِلى
إلى
لها ثلاثة معانٍ
1- الانتهاءُ، أي انتهاءُ الغايةِ الزمانيّة أو
المكانيّة. فالأولُ كقولهِ تعالى {ثُمَّ أَتِمُّوا الصيامَ إلى الليل} ،
والثاني كقولهِ {من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى} .
وترِدُ
أيضاً لانتهاء الغاية في الأشخاص والأحداث. فالأولُ نحو ""
جئتُ
إليك "، والثاني نحو" صِلْ بالتّقوى إلى رضا الله "."
ومعنى كونها
للانتهاءِ أنها تكونُ منتهًى لابتداء الغاية.
أمّا ما بعدَها فجائزٌ
أن يكون داخلاً جُزءٌ منه أو كلُّهُ فيما قبلَها، وجائزٌ أن يكونَ غيرَ داخل.
فإذا قلتَ "سرتُ من بيروتَ إلى دمَشقَ" ، فجائزٌ أن تكون قد دخلتَها، وجائزٌ
أنك لم تدخلها، لأنَّ النهايةَ تشملُ أولَ الحدّ وآخرَهُ. وإنما تمتنعُ
مجاوزتُهُ. ومن دخول ما بعدَها فيما قبلَها قولهُ تعالى {إذا قُمتُم إلى
الصَّلاة فاغسِلوا وُجوهكُم وأيديَكُم إلى المَرافِق} . فالمَرافق داخلةٌ في
مفهوم الغسل. ومن عدم دُخولهِ قولهُ عَزَّ وجلَّ {ثمَّ أَتِمُّوا الصيامَ إلى
الليل} . فالجزءُ من الليل غيرُ داخلٍ في مفهوم الصيام. وقالت الشيعةُ
الجعفريةُ إنه داخل. والآية - بظاهرها - مُحتملة للأمرينِ.
فإن كان
هناك قرينةٌ تدلُّ على دخول ما بعدَها فيما قبلَها، دخل، أو على عدم دخوله لم
يدخل. فإن لم تكن قرينةٌ تدلُّ على دخوله أو خورجهِ، فإن كان من جنس ما قبلها
جاز أن يدخل وأن لا يدخل، نحو "سرتُ في النهار إلى العصر" وإلا فالكثير الغالبُ
أنه لا يدخل. نحو "سرتُ في النهار إلى الليل" . وقال قوم يدخل مطلقاً، سواءٌ
أكان من الجنس أم لا. وقال قومٌ لا يدخل مطلقاً. والحقّ ما ذكرناه.
2-
المصاحبةُ، أي معنى "معَ" كقوله تعالى {قال مَن أنصاري إلى الله؟} أي معهُ،
وقولهُ {ولا تأكلوا أموالَهم إلى أموالكم} ، ومنهُ قولهم "الذَّوْدُ إلى
الذَّوْدِ إبلٌ" ، وتقولُ "فلانٌ حليمٌ إلى أدبٍ وعلمٍ" .
3- معنى
"عند" ، وتُسَمّى المُبَيّنَة، لأنها تُبينُ أن مصحوبها فاعلٌ لما
قبلها.
وهي التي تقعُ بعدَ ما يفيدُ حُباً أو بُغضاً من فعل تعجّبٍ أو اسمِ تفضيلٍ،
كقوله تعالى "قال رب السّجنُ أحَب إليَّ مِمّا يدعونني إليه" [يوسف: 33] ، أي
أحبُّ عندي. فالمُتكلم هو المُحِبُّ. وقولِ الشاعر [من الكامل]
أَمْ
لا سَبيلَ إلى الشَّباب، وذِكْرُهُ ... أَشهى إِلَيَّ مِنَ الرَّحيقِ
السَّلْسَلِ
4- حَتَّى
حتى للانتهاء كإلى، كقوله تعالى
{سلامٌ هيَ حتى مَطلَعِ الفجر} . وقد يدخلُ ما بعدَها فيما قبلها، نحو "بَذَلتُ
ما لي في سبيل أُمَّتي، حتى آخر دِرهمٍ عندي" . وقد يكون غيرَ داخلٍ، كقوله
تعالى {كلوا واشربوا حتى يَتبيّن لكمُ الخيطُ الأبيضُ من الخيط الأسود من
الفجر} ، فالصائم لا يُباحُ له الأكلُ متى بدا الفجر.
ويَزعُمُ بعضُ
النحاةِ أنّ ما بعدَ "حتى" داخلٌ فيما قبلها على كل حال. ويَزعُمُ بعضهم أنه
ليس بداخلٍ على كل حال. والحقُّ أنه يدخلُ، إن كان جزءًا مما قبلها، نحو "سِرتُ
هذا النهارَ حتى العصرِ" ، ومنه قولهم "أكلتُ السمكة حتى رأسِها" . وإن لم يكن
جزءًا ممّا قبلها لم يدخلْ، نحو "قرأتُ الليلةَ حتى الصَّباحِ" ومنه قولهُ
تعالى {سلامٌ هيَ حتى مَطلَعِ الفجر} .
واعلم أن هذا الخلافَ إنما
هو في "حتى" الخافضة. وأما "حتى" العاطفة، فلا خلاف في أن ما بعدَها يجبُ أن
يدخلَ في حكم ما قبلها، كما ستعلم ذلك في مبحث أحرف العطف.
والفرق
بينَ غلى وحتى أنَّ "إلى" تجرُّ ما كان أخراً لِما قبله، أو مُتّصلاً
بآخره،
وما لم يكن آخراً ولا متصلاً به. فالأولُ نحو "سرتُ ليلةَ أمسِ إلى آخرها"
والثاني نحو "سهرتُ اليلةَ إلى الفجر" ، والثالثُ نحو "سرتُ النهارَ إلى العصر"
.
ولا تجرُّ "حتى" إلا ما كان آخراً لِما قبلها، أو متّصلاً بآخره،
فالأول نحو "سرتُ ليلةَ امسِ حتى آخرِها" ، والثاني كقوله تعالى {سلامٌ هيَ حتى
مَطلَعِ الفجر} . ولا تجرُّ، ما لم يكن آخراً ولا متصلاً به، فلا يقال "سرتُ
الليلةَ حتى نصفها" .
وقد تكونُ حتى للتَّعليل بمعنى اللام، نحو
{إتَّقِ اللهَ حتى تفوزَ برضاهُ} ، أي لتفوز.
5- عَنْ
عن
لها ستة معانٍ
1- المجاوزةُ والبُغدُ، وهذا أصلُها، نحو "سرتُ عن
البلدِ. رَغِبتُ عن الأمر. رَمَيت السهمَ عن القوس" .
2- معنى
"بَعد" ، نحو عن قريبٍ أزُورُكَ "، قال تعالى {عمّا قليلٍ لَتُصبحُنَّ نادمين}
، وقال {لَتركبُنَّ طَبَقاً عن طبَقٍ} ، أي حالاً بعدَ حالٍ."
3-
معنى "على" كقولهِ تعالى "ومَن يَبخَلْ فإنما بَبخَلُ عن نفسه" ،أي عليها، ومنه
قول الشاعر [من البسيط]
لاَهِ ابنُ عَمِّكَ! لاَ أُفْضِلْتَ في
حَسَبٍ ... عَنِّي. وَلا أَنتَ دَيَّاني فَتَخُزُوني
4- التَّعليلُ،
كقولهِ سبحانه {وما نحنُ بتاركي آلهتِنا عن قولك} ، أي من أجل قولك، وقولهِ
{وما كان استغفارُ إبراهيمَ لأبيهِ إلا عن مَوعِدةٍ وعَدَها إيّاهُ} .
5-
معنى "مِن" كقوله سبحانه: {وَهُوَ الذي يَقْبَلُ التوبة عَنْ عِبَادِهِ}
[الشورى: 25] ، وقولهِ: {أولئك الذين نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا
عَمِلُواْ} [الأحقاف: 16] ، أَي: منهم.
6- معنى البَدَل كقولهِ
تعالى {واتَّقوا يوماً لا تجزي نَفسٌ عن نَفسٍ شيئاً} ، أَي بَدل نفس، وكحديثِ
"صومي عن أُمك" ، وتقولُ "قُمْ عني بهذا الأمر" ، أَي بَدَلي.
واعلم
أنَّ "عن" قد تكونُ اسماً بمعنى "جانِبٍ" ، وذلك إذا سُبقت بِمن، كقول الشاعر
[من الكامل]
فَلَقَدْ أَراني لِلرِّماحِ دَريئَةً ... مِنْ عَنْ
يَميني تارَةً وِشمالي
وقول الآخر [من الطويل]
وَقُلْتُ
اجعَلي ضَوْءَ الفَراقِدِ كُلِّها ... يَميناً. وَمَهْوى النَّجْمِ مِنْ عَنْ
شِمالِكِ
6- عَلَى
على لها ثمانيةُ مَعانٍ
1-
الاستعلاءُ، حقيقةً كان، كقولهِ تعالى وعليها وعلى الفُلكِ
تُحمَلونَ
، أو مجازاً، كقولهِ {وفَضّلناهم بعضَهم على بعض} ، ونحو "لفلانٍ عليَّ دَينٌ"
. والاستعلاءُ أصلُ معناها.
2- معنى "في" ، كقوله تعالى "ودخلَ
المدينةَ على حين غَفلةٍ من أهلها" [القصص: 15] أي في حين غفلة.
3-
معنى "عن" ، كقول الشاعر: [من الوافر]
إذا رَضِيَتْ عَلَيَّ بَنُو
قُشَيْرٍ ... لَعَمْرُ اللهِ أَعْجَبَني رِضَاها
أي إذا رضِيت
عني.
4- معنى اللام، التي للتعليل، كقوله تعالى {ولتُكَبّروا اللهَ
على ما هداكم} ، أي "لهِدايتهِ إيّاكم" ، وقولِ الشاعر [من الطويل]
عَلامَ
تَقولُ الرُّمْحُ يُثْقِلُ عاتِقي ... إِذا أَنا لَمْ أَطعنْ، إذا الخَيْلُ
كَرَّتِ
أي لِمَ تقول؟
5- معنى "مَعَ" ، كقولهِ تعالى
{وآتَى المالض على حُبّهِ} ، أي معَ حُبهِ، وقولهِ {وإنَّ رَبَّكَ لَذُو
مَغفرةٍ للناسِ على ظُلمهم} ، مع ظُلمهم.
6- معنى "من" ، كقولهِ
سبحانَهُ {إذا اكتالوا على الناسِ يَستَوفونَ} أي اكتالوا منهم.
7-
معنى الباءِ، كقولهِ تعالى {حَقيقٌ عليَّ أن لا أقولَ إلاّ الحق} ، أي حقيقٌ
بي، ونحو "رمَيتُ على القوس" ، أي رميتُ مستعيناً بها، ونحو "اركبْ على اسمِ
الله" ، أي مستعيناً به.
8- الاستدراكُ، كقولكَ "فلانٌ لا يدخلُ
الجنةَ لِسوءِ صنيعهِ، على أنهُ لا يَيأسُ من رحمة اللهِ" ، أي لكنَّهُ لا
ييأسُ. ومنه قولُ الشاعر [من الطويل]
بِكُلِّ تَداوَينا. فَلَمْ
يَشْفِ ما بِنا ... عَلى أَنَّ قُرْبَ الدَّارِ خَيْرٌ مِنَ الْبُعْدِ
عَلى
أَنَّ قُرْبَ الدَّارِ لَيْسَ بِنافعٍ ... إِذا كانَ مَنْ تَهْواهُ لَيْسَ بِذي
وُدِّ
وقولُ الآخر [من الطويل]
فَوَاللهِ لا أَنسى
قَتيلاً رُزِئتُهُ ... بِجانِبِ قَوْسى ما بَقيتُ عَلى الأَرضِ
عَلى
أنَّها تَعْفو الْكُلومُ، وإِنَّما ... نُوَكَّلُ بالأَدنى، وَإِنْ جَلَّ ما
يَمْضِي
وإذا كانت للاستدراك، كانت كحرف الجر الشبيهِ بالزائد، غيرَ
متعلقة بشيءٍ، على ما جنحَ إليه بعضُ المحقّقينَ.
واعلم أنَّ "على"
قد تكونُ اسماً للاستعلاء بمعنى "فَوْق" ، وذلك إذا سُبِقتْ بِمِنْ كقوله [من
الطويل]
"غَدَتْ مِنْ عَلَيْهِ ... بَعْدَ ما تَمَّ ظِمْؤُها"
أي
من فوقه، وتقولُ "سقطَ من على الجبل" .
7- في
في لها
سبعةُ مَعانٍ
1- الظرفيّةُ، حقيقيّةً كانت، نحو "الماءُ في الكوز.
سرتُ في النّهار" . وقد اجتمعت الظرفيّتانِ الزمانيّة والمكانيّةُ في قولهِ
تعالى {غُلبتِ الرُّومُ في أَدنى الأرض. وهم مِن بَعْدِ غَلَبِهمَ سَيَغلِبونَ
في بِضعِ سنينَ} ، أَو مجازيَّةً، كقوله سبحانه {ولَكُم في رسول اللهِ أُسوةٌ
حسنةٌ} ، وقولهِ {ولَكُم في القصاصِ حياةٌ} .
2- السببيّة
والتّعليلُ، كقولهِ تعالى {لَمَسّكم فيما أَفضتُم فيه عذابٌ عظيم} أي بسبب ما
أَفضتم فيه. ومنه الحديثُ "دخلتِ امرأَةٌ النارَ في هِرَّةٍ حَبَستها" أي بسبب
هِرَّةٍ.
3- معنى "معَ" كقولهِ تعالى {قال ادخلوا في أمَمٍ قد خَلَت
من قبلكم} أي مَعَهم.
4- الاستعلاءُ - بمعنى "عَلى" - كقولهِ تعالى
{لأصلبنّكُم في جُذوعِ النّخلِ} ، أي عليها.
5- المُقايَسةُ - وهيَ
الواقعةُ بينَ مفضولٍ سابقٍ وفاضلٍ لاحقٍ، كقولهِ تعالى {فما مَتاعُ الدنيا في
الآخرةِ إلا قليلٌ} ، أي بالقياس على الآخرة والنسبة إليها.
6- معنى
الباءِ، التي للالصاقِ، كقول الشاعر [من الطويل]
ويَرْكَبُ يَوْمَ
الرَّوْعِ مِنَّا فَوارِسٌ ... بَصيرُونَ في طَعْنِ الأَباهِرِ والْكُلى
أي
بصيرونَ بطعنِ الأباهر.
7- معنى "إلى" كقولهِ تعالى {فَرَدُّوا
أيديَهم في أفواههم} .
8- الكاف
الكافُ لها أَربعةُ
معانٍ
1- التشبيهُ، وهو الأصلُ فيها، نحو "عليٌّ كالأسد" .
2-
التّعليلُ، كقوله تعالى {واذكرُوهُ كما هداكم} ، أَي لهدايتهِ إيّاكم. وجعلوا
منه قوله تعالى {وَيْ كأنّهُ لا يُفلحُ الكافرون!} . أَي أعجبُ أَو تَعجّبْ
لعَدم فلاحهم. فالكافُ حرف جر بمعنى اللام، وأنَّ هي الناصبةُ الرافعة.
3-
معنى "على" نحو "كُنْ كما أَنتَ" ، أَي كُن ثابتاً على ما أنت عليه.
4-
التّوكيدُ - وهي الزائدةُ في الإعراب - كقولهِ تعالى {ليس كمِثلهِ شيءٌ} ، أي
ليس مِثلهُ شيءٌ، وقولِ الرَّاجز يَصفُ خيلاً ضوامرَ "لَواحِقُ الأقرابِ، فيها
كالمقَق" .
واعلم أَنَّ الكاف قد تأتي اسماً بمعنى "مِثلٍ" ، كقول
الشاعر [من البسيط]
أَتَنتَهونَ؟ وَلَنْ يَنْهى ذّوي شَطَطٍ ...
كَالطَّعْنِ يَذْهَبُ فيهِ الزَّيتُ والفُتُلُ
وقول الراجز [من
الرجز]
"يّضْحَكْنَ عَنْ أسنان كَالبَرَدِ المُنْهَمِّ"
ومنهُ
قول المُتنبي [من الطويل]
وَما قَتَلَ الأَحرارَ كَالْعَفْوِ
عَيْنُهمْ ... ومَنْ لَكَ بالحُرِّ الَّذِي يَحْفَظُ الْيَدا
ومن
العلماءِ من خصَّ ورودَ اسماً بضرورة الشعر. ومنهم من أَجازهُ في الشعر
والنثرِ، كالأخفش وأبي علي الفارسي وابن مالكٍ وغيرهم. ويشهدُ لهم قولهُ تعالى،
عن لسان المسيح، عليه السلام، في سُورة آل عمرانَ {أني أخلُقُ لَكم من الطّين
كهيئةِ الطير، فأنفُخُ فيه فيكونُ طيراً بإذنِ اللهِ} أي مثلَ هيئةِ الطير.
فالكاف اسمٌ بمعنى "مثل" ، وهي في محلّ نصبٍ على أنها مفعولٌ به لأخلُقُ.
والضميرُ في "فيه" يعود على هذه الكاف الاسميّة، لأنَّ مدلولها مُذكَّرٌ وهو
"مِثل" . ولو لم تُجعل الكاف هنا بمعنى "مِثل" .... الضميرُ بلا مرجع، لأنهُ لا
يجوزُ أن يعود إلى "الطير" ، لأن النفخ ليس في الطير نفسه، وإنما هو فيما
يُشبهُهُ، ولا على هيئة، لأنها مؤنثة. وقد
أعاد الضمير على الهيئة،
في سورة المائدة، وهو قولهُ تعالى {وإذْ تَخلُقُ من الطين كهيئة الطير بإذني،
فتنفخُ فيها فتكونُ طيراً بإذني} .
9- اللاَّم
اللامُ
لها خمسةَ عشرَ معنى
1- الملِكُ - وهي الداخلة بين ذاتينِ،
ومصحوبُها يَملِكُ - كقوله تعالى {للهِ ما في السَّمواتِ والأرضِ} ، ونحو
"الدارُ لسعيدٍ" .
2- الاختصاصُ، وتُسمَّى لامَ الاختصاصِ، ولامَ
الاستحقاقِ - وهي الداخلة بين معنًى وذات - نحو "الحمدُ للهِ" والنجاحُ
للعاملين, ومنه قولهم "الفصاحةُ لِقُرَيشٍ، والصبّاحةُ لِبَني هاشمٍ" .
3-
شِبهُ المِلك. وتُسمّى لامَ النسبة - وهي الدَّاخلة بينَ ذاتينِ، ومصحوبُها لا
يملِكُ - نحو "اللجامُ للفرَس" .
4- التّبيينُ، وتُسمّى "اللاّمَ
المُبيّنة" ، لأنها تُبيِّنُ "أن مصحوبَها مفعولٌ لما قبلَها" ، من فعل
تعَجُّبٍ أو اسمِ تفضيل، نحو "خالدٌ أحب لي من سعيدٍ. ما أحبّني للعلم!. ما
أحملَ عليّاً للمصائب!" . فما بعدَ اللام هو المفعول به. وإنما تقول "خالدٌ أحب
لي من سعيد" ، إذا كان هو المُحبَّ وأنت المحبوب. فإذا أردت العكسَ قلت "خالدٌ
أحبُّ إليَّ من سعيد" ، كما قال تعالى {ربِّ السجنُ أحبُّ إليَّ} وقد سبقَ هذا
في "إلى" .
5- التّعليلُ والسببيَّةُ، كقوله تعالى {إنَّا أنزلنا
إليكَ الكتابَ بالحقِّ لتحكُمَ بينَ الناسِ بما أراكَ الله} ، وقولِ الشاعر [من
الطويل]
وإِنِّي لَتَعْروني لِذِكْراكِ هزَّةٌ ... كما انْتَفَضَ
الْعُصْفورُ بَلَّلَهُ القَطْرُ
ومنهُ اللامُ الثانيةُ في قولكَ
"يالَلنَّاسِ لِلمظلوم!" .
6- التوكيدُ - وهي الزائدة في الإعراب
لمُجرَّد توكيد الكلام - كقول الشاعر [من الكامل]
وَمَلَكْتَ ما
بَيْنَ الْعِراقِ ويَثْرِبٍ ... مُلْكاً أَجارَ لُمسْلِمٍ ومُعاهِدِ
ونحو
"يا بُؤسَ لِلحرب!" . ومنهُ لامُ المُستغاث، نحو "يا لَلفضيلة!" ويه لا
تَتعلَّق بشيءٍ، لأنَّ زيادتها لمجرَّد التوكيد.
7- التّقويةُ -
وهيَ التي يُجاءُ بها زائدةً لتقويةِ عاملٍ ضَعُف بالتأخيرِ، بكونه غيرَ فعلٍ.
فالأول كقولهِ تعالى {الذينَ هم لربهم يَرهبُون} وقوله {إن كنتم للرُّؤْيا
تَعبُرونَ} . والثاني كقوله سبحانه {مُصَدِّقاً لِما مَعَهمْ} وقولهِ {فعّالٌ
لِما يُريدُ} . وهي - معَ كونها زائدةً - مُتعلّقةٌ بالعامل الذي قوَّتهُ،
لأنها - مع زيادتها - أفادته التَّقوية، فليست زائدةً مَحضة. وقيل هي كالزائدة
المحضة، فلا تتعلَّق بشيء.
8- انتهاءُ الغاية - أي معنى "إلى" -
كقوله سبحانه {كلٌّ يجري لأجل مُسمًّى} ، أي إليه، وقولهِ {ولو رُدُّوا لعادوا
لِما نُهُوا عنه} ، وقولهِ {بأنّ ربكَ أوحى لها} .
9- الاستغاثةُ
وتُستعمَلُ مفتوحةً معَ المستغاث، ومكسورةً معَ المُستغاثِ لهُ، نحو "يا
لَخالِدٍ لِبَكر!" .
10- التعجبُ وتُستعملُ مفتوحةً بعد "يا" في
نداءِ المُتعجَّب منه،
نحو "يا لَلفرَحِ!" ، ومنهُ قول الشاعر [امرئ
القيس - من الطويل]
فَيا لَكَ مِنْ لَيْلٍ! كأنَّ نُجُومَهُ ...
بِكُلِّ مُغارِ الْفَتْل شُدَّتْ بِيَذْبُلِ
وتُستعملُ في غير
النداءِ مكسورةٌ، نحو "للهِ دَرُّهُ رجلاً!" ، ونحو "للهِ ما يفعلُ الجهلُ
بالأممِ!" . 11- الصّيرورةُ (وتُسمَّى لامَ العاقبةِ ولامَ المآلِ أيضاً) وهي
التي تدلُّ على أنَّ ما بعدَها يكونُ عاقبةً لِمَا قبلها ونتيجةً له، عِلةَّةً
في حصوله. وتخالفُ لامَ التَّعليل في أنّ ما قبلها لم يكن لأجل ما بعدها، ومنه
قوله تعالى {فالتقطهُ آلُ فِرعونَ ليكونَ لهم عدواً وحَزَناً} ، فَهُم لم
يلتقطوهُ لذلك، وإنما التقطوهُ فكانتِ العاقبةُ ذلك. قال الشاعر [من الوافر]
لِدُوا
لِلْمَوْتِ، وَابنُوا لِلْخرابِ ... فَكُلُّكُمء يَصيرُ إِلى الذَّهابِ
فالإنسان
لا يَلِدُ للموت، ولا يبني للخراب، وإنما تكونُ العاقبةُ كذلك.
12-
الاستعلاءُ - أي معنى "على" - إما حقيقةً كقوله تعالى {يَخِرُّونَ للأذقانِ
سُجَّداً} ، وقولِ الشاعر [من الطويل]
ضَمَمْتُ إِليهِ بالسِّنانِ
قميصَهُ ... فَخَرَّ صَريعاً لِلْيَدَيْنِ ولِلفَم
وإمّا مجازاً
كقوله تعالى {إن أسأتُم فَلَها} ، أي فعليها إساءتُها، كما قال في آية أخرى
{وإن أسأتُم فعليها} .
13- الوقتُ (وتُسمَّى لامَ الوقت ولامَ
التاريخ) نحو "هذا الغلامُ لِسنةٍ" ، أي مرَّت عليه سَنةٌ. وهي عندَ الإطلاق
تدلُّ على الوقت الحاضر، نحو "كتبتُهُ لِغُرَّةِ شهر كذا" ، أي عند غُرّتِهِ،
أو في غُرَّتهِ. وعندَ القرينة تدلُّ على المُضيِّ أو الاستقبال، فتكونُ بمعنى
"قبَلٍ" أو "بَعدٍ" ، فالأولُ كقولك "كتبتُهُ لستٍّ بَقينَ من شهر كذا" ، أي
قبلها، والثاني كقولك "كتبتُهُ لخمسٍ خَلَوْن من شهر كذا" ، أي بعدها. ومنهُ
قولهُ تعالى {أقمِ الصّلاةَ لِدلوكِ الشمس} ، أي بعدَ دلُوكها. ومنه حديثُ
"صُوموا لِرُؤيتهِ وأفطِروا لِرؤيته" ، أي بعد رؤيته.
14- معنى
"معَ" ، كقول الشاعر [من الطويل]
فَلَمَّا تَفَرَّقْنا كأَنِّي
ومالِكاً ... - لِطولِ اجتماعٍ - لم نَبِتْ ليْلَةً مَعا
15- معنى
"في" ، كقوله تعالى {ويَضَعُ الموازينَ القسطَ ليومِ القِيامة} ، أي فيها،
وقولهِ {لا يُجلّيها لوقتها إلاّ هُو} ، أي في وقتها. ومنه قولهم "مضى لسبيله"
، أي في سبيلهِ.
10 و11- الواوُ والتَّاءُ
والواوُ
والتاءُ تكونان للقسم، كقوله تعالى {والفجرِ وليالٍ عَشرٍ} ، وقولهِ {تاللهِ
لأكيدَنَّ أصنامَكم} . والتاءُ لا تدخُلُ إلا على لفظ الجلالة. والواوُ تدخلُ
على كل مقسم به.
12 و13- مُذ ومُنْذُ
مُذْ ومُنذُ تكونان
حرفيْ جَرّ بمعنى "منْ" ، لابتداءِ الغاية، إن كان الزمانُ ماضياً، نحو "ما
رأيتكَ مُذْ أو منذُ يومِ الجمعة" ، وبمعنى "في" ، التي للظرفيّة، إن كان
الزمان حاضراً، نحو "ما رأيتهُ مُنذُ يومنا أو شهرِنا" أي فيهما. وحينئذٍ
تُفيدان استغراقَ المدَّة، وبمعنى "من وإلى" معاً، إذا كان مجرورهما نكرةً
معدودةً لفظاً أو معنى. فالأول نحو "ما رأيتكَ مُذ ثلاثةِ أيام" ، أي من بَدئها
إلى نهايتها. والثاني نحو "ما رأيتكَ مذ أمدٍ، أو مُنذُ دَهرٍ" . فالأمدُ
والدهرُ كِلاهما مُتعدِّدٌ معنًى، لأنه يقالْ لكل جزءٍ منها أمدٌ ودهرٌ. لهذا
لا يقالُ "ما رأيتُهُ مُنذ يومٍ أو شهرٍ" ، بمعنى ما رأيتهُ من بدئهما إلى
نهايتهما، لأنهما نكرتانِ غيرَ معدودتينِ، لأنهُ لا يقالُ الجزءِ اليومِ يومٌ،
ولا لجزءِ الشهر شهرٌ.
واعلم أَنهُ يشترطُ في مجرورهما أن يكون
ماضياً أو حاضراً، كما رأيتَ. ويشترطُ في الفعل قبلَهما أن يكون ماضياً
منفيّاً، فلا يقالُ "رأيتهُ منذُ يومِ الخميس" ، أَو ماضياً فيه معنى
التَّطاوُلِ والامتدادِ، نحو "سِرتُ مُذْ طلوعِ الشمسِ" .
وتكونُ
"مُذ ومُنذُ" ظرفينِ منصوبينِ مَحلاً، فَيُرفعُ ما بعدَهما. ويُشترَطُ فيهما
أَيضاً ما اشتُرطَ فيهما وهما حرفان. وقد سبقَ الكلامُ عليهما في المفعول فيهِ،
عندَ الكلامِ على شرحِ الظروف المبنية فراجعهُ.
ومُذ أصلُها "منذُ"
فَخُفّفت، بدليل رجوعهم إلى ضم الذَّال عند ملاقاتها ساكناً، نحو "انتظرتكَ مذُ
الصباح" . ومُنذُ أصلُها "من" الجارَّةُ و "إذ" الظرفيّة، فَجُعلتا كلمةً
واحدةً. ولذا كسرت مِيمُها - في بعض اللُّغات - باعتبار الأصل.
14-
رُبَّ
رُبَّ تكونُ للتّقليلِ وللتّكثير، والقرينةُ هي التي تُعيّنُ
المرادَ. فمن التقليل قولُ الشاعر [من الطويل]
أَلا رُبَّ مَوْلودٍ،
وَلَيْسَ لَهُ أَبٌ ... وذي وَلَدٍ لَمْ يَلْدَهُ أَبَوانٍ
يُريدُ
بالأول عيسى، وبالثاني آدمَ، عليهما السلامُ. ومن التكثيرِ حديثُ "يا رُب
كاسِيةٍ في الدنيا عاريةٌ يومَ القيامةِ" ، وقولُ بعضِ العرب عند انقضاءِ
رَمضانَ "يا رُبَّ صائمهِ لن يَصومَهُ ويا رُبَّ قائمهِ لن يَقومهُ" .
واعلم
أنهُ يُقالُ "رُبَّ ورُبَّةَ ورُبّما ورُبَّتما" . والتاءُ زائدة لتأنيث
الكلمة، و "ما" زائدةٌ للتوكيد. وهي كافةٌ لها عن العمل.
وقد
تُخَفّفُ الباءُ. ومنه قوله تعالى {رُبَما يَودُّ الذين كفروا لو كانوا
مُسلمينَ} .
ولا تَجُرُّ "رُبَّ" إلا النكرات، فلا تُباشِرُ
المعارفَ. وأمّا قولهُ "يا رُبَّ صائمهِ، ويا رُبَّ قائمهِ" المتقدَّمُ، فإضافة
صائم وقائم إلى الضمير لم تُفدهما التعريفَ، لأنَّ إضافةَ الوصف إلى معمولهِ
غير محضةٍ، فهي لا تُفيدُ تعريفَ المضاف ولا تخصيصَهُ، لأنها على نيّة
الانفصال، ألا ترى أنك تقول "يا رُبَّ صائم فيه، ويا ربَّ قائم فيه" .
والأكثر
أن تكون هذه النكرة موصوفة بمفردٍ أو جملة. فالأول نحو "رُبَّ رجلٍ كريمٍ
لقيته" . والثاني نحو "رُبَّ رجلٍ يفعل الخيرَ أكرمته" . وقد تكونُ غيرَ
موصوفة، نحو "رُبَّ كريم جبانٌ" .
وقد تُجُرُّ ضميراً مُنكَّراً
مُميّزاً بنكرةٍ. ولا يكونُ هذا الضميرُ إلا مُفرداً مُذَكَّراً. أما مُميّزُهُ
فيكونُ على حسب مُراد المتكلم مفرداً أو مُثَنَّى أو جمعاً أو مذكراً أو
مؤنثاً، تقول "رُبّهُ رجلاً. رُبّهُ رَجلَينِ. رُبّهُ رجالاً. رُبّهُ امرأةً.
رُبَّهُ امرأتينِ. رُبّهُ نساءً" . قال الشاعر [من الخفيف]
رُبَّهُ
فِتَيَةً دَعَوْتُ إلى ما ... يُورِثُ الْحَمَدَ دائباً، فأَجابُوا
وسيأتي
الكلامُ على محل مجرور "رُبَّ" من الإعراب، في الكلام على موضع المجرور بحرف
الجر.
15 و16 و17- خَلاَ وَعَدا وحَاشا
خَلا وعدا وحاشا
تكون أَحرف جرٍّ للاستثناء، إذا لم يتقدَّمهنَّ "ما" . وقد سبق الكلام عليهنَّ
في مبحث الاستثناء. فراجعه.
18- كَيْ
كي حرفُ جرَّ
للتعليل بمعنى اللام. وإنما تَجُرُّ "ما" الاستفهامية، نحو "كيْمَهْ؟" ، نقولُ
"كيمَ فعلتَ هذا؟" ، كما تقولُ "لمَ فعلته؟" . والأكثرُ استعمالُ "لمهْ؟"
وتُحذَفُ أَلِفُ "ما" بعدَها كما تُحذَفُ بعدَ كلِّ جارٍّ، نحو "مِمّهْ
وعَلامهْ وإلامَهْ" . وإذا وقَفُوا ألحقوا بها هاء
السكت، كما
رأيتَ. وإذا وصلوا حذفوها، لعدم الحاجة إليها في الوصل.
وقد تَجرُّ
المصدرَ المؤوّلَ بما المصدرية كقول الشاعر [من الطويل]
إِذا أَنتَ
لَم تَنْفَعْ فَضُرَّ، فإنَّما ... يُرادُ الْفَتَى كيْما يَضُرُّ
وَيَنْفَعُ
(فكي حرف جر. وما مصدرية، فما بعدها في تأويل مصدر مجرور
بكي. أي يراد الفتى للضر والنفع. ويجوز أن تكون "كي" هنا هي المصدرية الناصبة
للمضارع. فما. بعدها. زائدة كافةٌ لها عن العمل) .
19- مَتَى
مَتى
تكونُ حرفَ جرٍّ - بمعنى "مِنْ" - في لُغةِ "هُذَيلٍ" ، ومنهُ قولهُ [من
الطويل]
شَرِبْنَ بِماءٍ البَحْرِ، ثُمَّ تَرَفَّعْتْ ... مَتَى
لُجَج خُضْرٍ لَهُنَّ نَئيجُ
20- لعَلَّ
لَعَلَّ تكونُ
حرفَ جرٍّ في لغة "عُقَيلٍ" وهي مبنيّةٌ على الفتح أو الكسر، قال الشاعر [من
الطويل]
فَقُلْتُ ادْعُ أُخرَى وارفَعِ الصَّوْتَ جَهْرَةً ...
لَعَلَّ أَبي المِغْوارِ منْكَ قَريبُ
وقد يُقال فيها "عَلَّ" بحذف
لامِها الأولى.
وهي حرفُ جرّ شبيهٌ بالزائد، فلا تتعلَّقُ بشيءٍ.
ومجرورها في موضع
رفعٍ على أَنه مبتدأ. خبرهُ ما بعدَه.
وهي
عندَ غير "عُقَيل" ناصبةٌ للاسم رافعةٌ للخبر، كما تقدَّم.
2- مَا
الزَّائدَةُ بعْدَ الجارِّ
قد تُزادُ "ما" بعدَ "من وعن والباء" ،
فلا تَكفُّهنَّ عن العمل، كقوله تعالى {مِمّا خَطيئاتهم أُغرِقوا} ، وقولهِ
{عَمّا قَليلٍ ليُصبحنَّ نادمينَ} ، وقولهِ {فَبما رَحمةٍ من الله لِنتَ لَهُم}
.
وقد تُزادُ بعدَ "رُبَّ والكافِ" فيبقى ما بعدَهما مجروراً، وذلك
قليلٌ، كقول الشاعر [من الخفيف]
رُبَّما ضَرْبَةٍ بِسَيْفٍ صَقيلٍ
... بَيْنَ بُصْرى وَطَعْنَةٍ نَجْلاءُ
وقولِ غيره [من الطويل]
وَنَنْصُرُ
مَوْلانا، ونَعْلَمُ أَنَّهُ ... كمَا النَّاسِ، مَجْرومٌ عَلَيْهِ وجارِمُ
وإنما
وجبَ أَن تكونا هنا عاملتينِ، غيرَ مكفوفتينِ، لأنهما لم تُباشِرا الجملة،
وإنما باشرتا الاسم.
والاكثرُ أن تُكُفّهما "ما" عن العملِ،
فيدخلانش حينئذٍ على الجُمَلِ الاسميّة والفعليّة كقول الشاعر [من الطويل]
أَخٌ
ماجِدٌ لَمْ يُخْزِني يَومَ مَشْهَدٍ ... كمَا سَيْفُ عَمْرٍ ولَمْ تَخُنْهُ
مَضارِبُهْ
وقولِ الآخر [من المديد]
رُبَّما أَوْفَيتُ
في عَلَمٍ ... تَرْفَعَنْ ثَوْبي شَمَالاتُ
والغالب على "رُبَّ"
المكفوفةِ أَن تدخلَ على فعلٍ ماضٍ، كهذا البيت. وقد تدخلُ على فعلٍ مضارع،
بشرط أن يكونَ مُتَحققَ الوقوع، فيُنزّلُ منزلة الماضي للقطع بحصولهِ، كقولهِ
تعالى {رُبَما يَودُّ الذينَ كفروا لو كانوا مُسلمينَ} . ونَدَرَ دخولها على
الجملة الاسميّة، كقول الشاعر [من الخفيف]
رُبَّما الْجَامِلُ
المُؤَبَّلُ فيهِمْ ... وعَناجيجُ بَيْنَهُنَّ المِهارُ
3- واوُ
رُبَّ وفاؤُها
قد تُحذَف "ربَّ" ، ويبقى عملُها بعد الواو كثيراً،
وبعد الفاء قليلاً، كقول الشاعر وهو امرئ القيس: [من الطويل]
وَلَيْلٍ
كَمَوْجِ الْبَحْرِ، أَرْخى سُدُولَهُ ... عَلَيَّ. بِأَنْواعِ الهُمومِ،
لِيَبتَلي
وقولهِ [من الطويل]
فَمِثْلِكِ حُبْلى قَدْ
طَرَقْتُ وَمُرْضِعٍ ... فَألْهيْتُها عَنْ ذي تَمائِمَ مُحْوِلِ
4-
حَذْفُ حَرْفِ الجَرِّ قِياساً
يُحذَفُ حرفُ الجَرِّ قِياساً في
ستَّة مواضع
1- قبلَ أنْ، كقوله تعالى {وعَجِبوا أن جاءَهم مُنذرٌ
منهم} ، أي لأنْ جاءهم، وقولهِ {أوَ عَجِبتُمْ أنْ جاءكم ذِكرٌ من ربكم على
رجلٍ منكم} ، وقولِ الشاعر [من البسيط]
اللهُ يَعْلَمُ أَنَّا لا
نُحِبُّكُمُ ... وَلا نَلومُكُمُ أَن لا تُحِبُّونا
أي على أن لا
تُحبُّونا.
2- قبلَ أنَّ، كقولهِ تعالى {شهِدَ اللهُ انهُ لا إِله
إلا هو} ، أي شَهِدَ بأنهُ.
واعلم أنهُ إنما يجوزُ حذفُ الجارِّ
قبلَ "أن وأنَّ" ، إن يُؤمَنِ اللَّبسُ بحذفهِ. فإن لم يُؤمَن لم يَجز حذفهُ،
فلا يقالُ "رغِبتُ أن أفعلَ" ،
لإشكالِ المراد بعدَ الحذفِ، فلا
يَفهمُ السامعُ ماذا أردتَ أرَغبَتك في الفعلِ، أم رغبَتَكَ عنه؟ فيجبُ ذكرُ
الحرف ليتعيَّن المرادُ، إلا إذا كان الإبهامُ مقصوداً من السامع.
3-
قبلَ "كي" الناصبةِ للمضارع، كقولهِ تعالى {فرَددناهُ إلى أمهِ كي تَقرَّ
عينُها} ، أي لكي تَقرَّ.
واعلم أن المصدرَ المؤوَّل بعد "أنْ وأنَّ
وكيْ" في موضع جرَّ بالحرف المحذوف، على الأصحَّ. وقال بعض العلماءِ هو في
موضعِ النصب بنزعِ الخافض.
4- قبلَ لفظِ الجلالة في القسم، نحو
"اللهِ لأخدمنَّ الأمةَ خدمةً صادقةً" ، أي والله.
5- قبلَ مُميّز
"كم" الاستفهامية، إذا دخل عليها حرفُ الجرِّ، نحو "بكم درهم اشتريتَ هذا
الكتابَ؟" أي بكم من درهم؟ والفصيحُ نصبُهُ، كما تقدَّم في باب التمييز، نحو
"بكم درهماً اشتريته؟" .
6- بعدَ كلامٍ مُشتملٍ على حرف جرّ مثله،
وذلك في خمس صُوَر
الأولى بعد جوابِ استفهامٍ، تقول "مِمَّنْ أخذتَ
الكتاب؟" ، فيقالُ لك "خالدٍ" ، أي من خالد.
الثانية بعد همزةِ
الاستفهام، تقولُ "مررتُ بخالدٍ" ، فيقالُ "أخالدِ ابنِ سعيدٍ؟" أي أبخالدِ بنِ
سعيد؟.
الثالثة بعدَ "إن" الشرطّيةِ، تقولُ "إذهبْ بِمنْ شئتَ، إنْ
خليلٍ،"
وإنْ حسَنٍ "أي إن بخليلٍ، وإن بحسنٍ."
الرابعةُ
بعدَ "هَلاَ" ، تقولُ "تصدَّقتُ بدرهمٍ" ، فيقالُ "هَلاّ دينار" ، أي هلاّ
تَصدَّقتَ بدينار.
الخامسة بعد حرف عطفٍ مَتْلُوٍّ بما يصحُّ أن
يكونَ جملةً، لو ذُكرَ الحرفُ المحذوفُ، كقولك "لخالدٍ دارٌ، وسعيدٍ بُستانٌ" ،
أي ولسعيد بستانٌ، وقولِ الشاعر [من الرجز]
ما لِمحُبٍّ جَلَدٍ أَنْ
يَهْجُرا ... وَلا حَبيبٍ رَأْفةٌ فَيَجْبُرَا
وقولِ الآخر [من
البسيط]
أَخْلِقْ بِذي الصَّبْرِ أَنْ يَحْظى بِحاجتِهِ ...
ومُدْمِنِ الْقَرْعِ لِلأَبوابِ أَنْ يَلِجا
أي وبِمُدمنِ القرع.
ومنهُ قولهُ تعالى {وفي خَلقكم وما يَبُثُّ من دآبَّةٍ آياتٌ لقومٍ يُوقنونَ،
واختلافِ الليلِ والنهار وما أنزلَ اللهُ من السماءِ من رزقٍ، فأحيا به الأرضَ
بعد موتها، وتصريفِ الرِّياح، آياتٌ لقومٍ يعقلون} .
5- حَذْفُ
حَرْفِ الجَرِّ سَمَاعاً
قد يُحذَف الجَرِّ سَمَاعاً، فينتصبُ
المجرورُ بعدَ حذفهِ تشبيهاً لهُ بالمفعول به. ويُسمى أيضاً المنصوب على نزعِ
الخافض، أي الاسمَ
الذي نُصبَ بسبب حذفِ حرفِ الجرِّ، كقولهِ تعالى
{ألا إنَّ ثمودَ كفروا ربَّهم} ، أي بربهم، وقولهِ {واختارَ موسى قومَهُ
أربعينَ رجلاً} أي من قومه، وقولِ الشاعر [من الوافر]
تَمُرُّونَ
الدِّيارَ وَلَمْ تَعُوجُوا ... كَلامُكُمُ عَلَيَّ إذاً حَرامُ
أي
تَمُرُّونَ بالديار، وقولِ الآخر [من البسيط]
أَمَرْتُكَ الخَيْرَ
فافْعَلْ مَا أُمرْتَ بهِ ... فَقَدْ تَرْكْتُكَ ذا مَالٍ وَذا نَشَبِ
أي
أمرتُك بالخير، وقولِ غيرهِ [من البسيط]
أَسْتَغْفِرُ اللهَ ذَنباً
لَسْتُ مُحْصِيَهُ ... رَبَّ الْعِبادِ، إِلَيهِ الْوَجْهُ والعَمَلُ
أي
أستغفرُ اللهَ من ذنب.
ويُسمّى هذا الصنيعُ بالحذف والإيصال، أي
حذفِ الجارَّ وإيصالِ الفعل غلى المفعول بنفسهِ بلا واسطة. وقال قومٌ إنهُ
قياسي. والجمهورُ على انهُ سماعيٌّ.
ونَدَرَ بقاءُ الاسمِ مجروراً
بعد حذف الجارِّ، في غير مواضع حذفهِ قياساً. ومن ذلك قولُ بعضِ العربِ، وقد
سُئلَ "كيف أصبحتَ؟" فقال "خيرٍ، إن شاءَ اللهُ" ، أي "على خير" ، وقولُ الشاعر
[من الطويل]
إذا قيلَ أَيُّ النَّاسِ شَرٌّ قَبيلَةً ... أَشارَتْ
كُلَيْبٍ بالأَكُفِّ الأَصابِعُ
أي إلى كليب. ومثلُ هذا شُذوذٌ لا
يُلتفتُ إليه.
6- أَقسامُ حَرفِ الجَرِّ
حرفُ الجرَّ على
ثلاثة أقسام أصليٍّ وزائدٍ وشبيه بالزائد.
فالأصليُّ ما يحتاجُ غلى
مُتعلَّق. وهو لا يُستغنى عنه معنًى ولا إعراباً، نحو "كتبتُ بالقلم" .
والزائدُ
ما يُستغنى عنه إعراباً، ولا يحتاجُ إلى مُتعلّق. ولا يُستغنى عنه معنًى، لأنهُ
إنما جيءَ به لتوكيد مضمونِ الكلام، نحو "ما جاءَنا من أحدٍ" ونحو "ليسَ سعيدٌ
بمسافرٍ" .
والشِّبيهُ بالزائدِ ما لا يُمكن الاستغناءُ عنهُ لفظاً
ولا معنى، غيرَ أنهُ لا يحتاجُ إلى مُتعلّق.
وهو خمسةُ أحرفٍ "رُبَّ
وخَلاَ وعدا وحاشا ولَعَلَّ" .
(وسمي شبيهاً بالزائد لأنه لا يحتاج
إلى متعلّق. وهو أيضاً شبيهٌ بالأصلي من حيث أنه لا يستغنى عنه لفظاً ولا معنى.
والقول بالزائد هو من باب الاكتفاء، على حد قوله تعالى {سرابيل تقيكم الحرّ} ،
أي وتقيكم البرد أيضاً) .
7- مَواضِعُ زِيادَةِ الجارِّ
لا
يُزادُ من حروفِ الجرّ إلا "من والباءُ والكافُ واللام" .
وزيادتها
إنما هي في الإعراب، وليستْ في المعنى، لأنها إنما يُؤتى بها للتَّوكيدِ.
أمّا
الكافُ، فزيادتها قليلةٌ جداً. وقد سُمعت زيادتها في خبر "ليس" ، كقوله تعالى
{ليسَ كمثلهِ شيءٌ} ، أي "ليس مثلَه"
شيءٌ "، وفي المبتدأ، كقول
الراجل" لَواحِق الأقرابِ فيها كالمَقَقْ ". وزيادتها سماعيّة."
وأمّا
اللامُ فتُزادُ سماعاً بينَ الفعل ومفعوله. وزيادتها في ذلك رديئةٌ.
قال
الشاعر [من الكامل]
وَمَلَكْتَ ما بَيْنَ الْعِراقِ ويَثْرِبٍ ...
مُلْكاً أَجارَ لِمُسْلِمٍ وَمُعاهِدِ
أي أجار مسلماً ومعاهداً.
وتُزادُ
قياساً في مفعولٍ تأخَّرَ عنه فِعلُهُ تقويةً للفعل المتأخر لضَعفهِ بالتأخُّر،
كقولهِ تعالى {الذينَ هم لربهم يَرهبون} ، أي ربهم يَرهبون، وفي مفعول المشتقِّ
من الفعل تقويةً لهُ أيضاً، لأنَّ عملَهُ فَرعٌ عن عملِ فعلهِ المشتقَّ هو منه،
كقوله تعالى {مُصَدِّقاً لِما مَعَهم} ، أي مصدقاً لما معهم، وقولهِ {فَعَالٌ
لما يُريد} ، أي فَعّالٌ ما يريد وقد سبق الكلام عليها.
وأمّا "مِن"
فلا تُزادُ إلا في الفاعل والمفعول به والمبتدأ، بشرط أن تُسبَقَ بنفيٍ أو نهي
أو استفهامٍ بهَلْ، وأن يكون مجرروها نكرةً. وزيادتها فيهنَّ قياسيّةٌ. ولم
يشترط الأخفش تَقدُّمَ نفي أو شبههِ، وجعل من ذلك قولهُ تعالى {ويكفّر عنكم من
سيئاتكم} ، وقولهُ {فَكلُوا مِمّا أمسكنَ عليكم} . و "من" في هاتين الآيتين
تحتملُ معنى التبعيض أيضاً. وبذلك قال جمهور النُّحاة. وأقوى من هذا الاستشهاد
الاستدلالُ بقوله تعالى
{ويُنَزِّلُ من السماء، من جبال فيها، من
بَرَدٍ} . فمن في قوله "من برد" لا ريب في زيادتها، وإن قالوا إنها تحتمل غيرَ
ذلك، لأنَّ المعنى أن يُنزَّل بَرَداً من جبالٍ في السماءِ.
فزيادتها
في الفاعل، كقوله تعالى {ما جاءَنا من بشير} .
وزيادتها في المفعول،
كقوله {تَحِسُّ منهم من أحد} .
وزيادتها في المبتدأ، كقوله {هل من
خالقٍ غيرُ اللهِ يَرزُقُكم!} .
وأما الباءُ فهي أكثر أخواتها
زيادةً. وهي تزادُ في الإثباتِ والنفي. وتزاد في خمسةِ مواضعَ
1- في
فاعل "كفى" ، كقوله تعالى {وكفى بالله وليّاً، وكفى بالله نصيراً} .
2-
في المفعول به، سماعاً نحو "أخذتُ بزمامِ الفَرَس" ، ومنه قولهُ تعالى {ولا
تُلقوا بأيديكم إلى التّهلُكةِ} ، وقولهُ {وهُزِّي إليكِ بِجِذعِ النَّخلة} ،
وقوله {ومَنْ يُرِدْ فيه بإِلحادٍ} ، وقولُهُ {فَطفِقَ مَسحاً بالسُّوقِ
والأعناقِ} .
ومنهُ زيادتُها في مفعولِ "كفى" المُتعدَّيةِ إلى
واحدٍ، كحديثِ "كفى بالمرءِ إثماً أن يُحدِّثَ بكلِّ ما سَمِعَ" .
وتُزادُ
في مفعولِ "عَرَف وعَلِمَ - التي بمعناها - ودَرَى وجَهِلَ وسَمِعَ وأحسَّ"
.
ومعنى زيادتها في المفعول به سَماعاً أنها لا تُزادُ إلا في مفعول
الأفعال التي سُمعت زيادتها في مفاعيلها، فلا يُقاسُ عليها غيرها من الأفعال.
وأمّا ما وَرَد، فلك أن تَزيدَ الباءَ في مفعوله في كل تركيب.
3- في
المبتدأ، إذا كان لفظَ "حَسْب" نحو "بِحَسبِكَ درهمٌ" ، أو كان بعدَ لفظِ
"ناهيكَ" ، نحو "ناهيكَ بخالدٍ شجاعاً" ، أو كان بعدَ "إذا الفُجائيّةِ، نحو"
خرجتُ فإذا بالأستاذِ "، أو بعدَ" كيفَ "، نحو" كيفَ بِكَ، أو بخليل، إذا كان
كذا وكذا؟ "."
4- ي الحال المنفيّ عاملَها. وزيادتها فيها
سَماعيّةٌ، كقولِ الشاعر [من الوافر]
فَما رَجعَتْ بِخائِبَةٍ
رِكابٌ ... حَكيمُ بْنُ المسيِّبِ مُنْتَهاها
وقولِ الآخر [من
البسيط]
كائِنْ دُعيتُ إلى بَأْساءَ داهِمَةٍ ... فَما انبَعَثْتُ
بِمَزءُودٍ وَلا وَكَلِ
وجعلَ بعضهُم زيادَتها فيها مَقيسةً،
والذوقُ العربيُّ لا يأبى زيادَتها فيها.
5- في خبر "ليسَ وما"
كثيراً، وزيادتها هنا قياسيّةٌ. فالأولُ كقوله تعالى {أَليسَ اللهُ بِكافٍ
عبدَه} ، وقولهِ {أَليسَ اللهُ بأحكمِ الحاكمين} . والثاني كقوله سبحانهُ {وما
رَبُّكَ بِظلاّمٍ للعبيد} ، وقولهِ {وما اللهُ بغافلٍ عمّا تعملونَ} .
وإنما
دخلت الباءُ في خبر "إنَّ" في قوله تعالى أَوَ لَمْ يَرَوا أنَّ اللهَ
الذي
خَلَقَ السّمواتِ والأرضَ، ولم يَعيَ بخلقهنَّ، بقادرٍ على أنْ يُحييَ المَوتى،
بَلَى، إنهُ على كلِّ شيءٍ قديرٌ ، لأنه في معنى "أَوَلَيسَ" بدليلِ أَنهُ
مُصَرحٌ بهِ في قولهِ عز وجلّ {أَوَلَيس الذي خلقَ السمواتِ والأرضَ بقادرٍ على
أن يَخلُقَ مِثلَهم، بَلَى، وهو الخلاّقُ العليمَ} [يس: 81] .
فائدتان
1-
قد يَتوهَّمُ الشاعرُ أنه زاد الباء في خبر "ليس" أو خبرِ "ما" العاملةِ
عملَها، فيعطفُ عليه بالجرِّ تَوَهُّماً، وحقُّهُ أن ينصبَهُ، كقوله [من
الطويل]
بَدا لِيَ أَني لَسْتُ مُدْرِكَ ما مَضَى ... وَلا سابقٍ
شَيْئاً، إذا كانَ جَائِيا
وقولِ الآخر [من الطويل]
أَحَقًّا،
عِبادَ اللهِ، أَنْ لَسْتُ صاعِداً ... وَلا هابِطاً إِلاَّ عَلَيَّ رَقيبُ
وَلا
سالِكٍ وَحْدي، وَلا في جَماعَةٍ ... مِنَ النَّاسِ، إِلاَّ قيلَ أَنتَ
مُريبُ!
وقولِ غيره [من الطويل]
مَشَائيمُ لَيْسُوا
مُصْلِحينَ عَشيرَةً ... وَلا ناعِبٍ إِلاَّ بِبَيْنٍ غُرابُها
فالخفضُ
في "سابق وسالك وناعب" على تَوهم وجود الباءِ في "مدرك"
وصاعد
ومصلحين "."
والجرُّ على التوهم سماعي لا يُقاس عليه.
2-
وقد يُجرُّ ما حقهُ الرفعُ أو النصبُ، لمجاورتهِ المجرورَ، كقولهم "هذا جُحرُ
ضَبٍّ خَرِبٍ" ، ومنه قولُ امرئ القيس [من الطويل]
كَأَنَّ ثَبيراً،
في عَرانِينِ وَبْلِهِ ... كَبيرُ أُناسٍ في بِجادٍ مُزَمَّلِ
ويُسمّى
الجرَّ بالمُجاورة. وهو سَماعيٌّ أيضاً.
8- مُتَعَلَّقُ حَرْفِ
الجَرِّ الأَصلِيِّ
مُتعلًَّقُ حرفِ الجرِّ الأصليِّ هو ما كانَ
مُرتبطاً به من فعلٍ أو شَبهِهِ أو معناهُ. فالفعلُ نحو "وقفتُ على المِنبرِ" .
وشِبهُ الفعلِ، نحو "أَنا كاتبٌ بالقلم" . ومعنى الفعل نحو "أُفٍّ للكُسالى"
.
وقد يَتعلَّقُ باسمٍ مُؤوَّلٍ بما يُشبهُ الفعلَ، كقولهِ تعالى
{وهو اللهُ في السّموات وفي الأرض} ، فحرفُ الجرِّ متعلقٌ بلفظ الجلاة لأنه
مُؤوَّلٌ بالمعبود، أي وهو المعبودُ في السموات وفي الأرض، أو وهو المُسمّى
بهذا الاسم فيهما. ومثلُ ذلك أَن تقولَ "أَنتَ عبدُ اللهِ في كلِّ مكان" و
"خالدٌ لَيثٌ في كل موقعةٍ" . ومن ذلك قول الشاعر [من الطويل]
وَإن
لِساني شُهْدَةٌ يُشْفى بِها ... وَهُوَّ عَلى مَنْ صَبَّهُ اللهُ عَلْقَمُ
فحرفُ
الجرّ "على" متعلق بعلقم، لأنه بمعنى "مُرّ" ، وأراد به أَنه صعب أو شديد،
وقولُ الآخر [من مخلع البسيط]
ما أُمُّكَ اجتاحَت الْمَنايا ...
كَلُّ فُؤَادٍ عَلَيْكَ أُمُّ
فحرف الجر متعلق بأم، لأنها بمعنى
"مُشفِق" .
وقد يَتعلقُ بما يُشيرُ إلى معنى الفعلِ، كأداةِ النفي،
كقوله تعالى {ما أَنتَ بنعمةِ ربكَ بمجنونٍ} . فحرفُ الجر في "بنعمة" مُتعلقٌ
بما، لأنهُ بمعنى "انتفى" .
وقد يُحذَفُ المتعلَّقُ. وذلك على ضربين
جائزٍ وواجبٍ.
فالجائزُ أَن يكون كوناً خاصاً، بشرطِ أن لا يضيعَ
الفهم بحذفه، نحو "بالله" ، جواباً لمن قال لك "بِمَن تَستعينُ؟" .
والواجبُ
أَن يكون كوناً عاماً، نحو "العلمُ في الصُّدورِ. الكتابُ لخليلْ, نظرتُ نورَ
القمر في الماءِ. مررت برجلٍ في الطريق" .
9- محَلُّ الْمَجُرورِ
مِنَ الإِعرابِ
حكمُ المجرور بحرف جرّ زائدٍ أَنهُ مرفوعُ المحلِّ
أَو منصوبهُ، حَسبَ ما يَطلبهُ العاملُ قبلهُ.
(فيكون مرفوع الموضع
على أنه فاعل في نحو "ما جاءنا من أحد" . والأصل ما جاءنا أحدٌ. وعلى أنه نائب
فاعل في نحو "ما قيل من شيء" . والأصل ما قيل شيءٌ. وعلى أنه مبتدأ في نحو
"بحسبك الله" ؛ والأصل حسبُك الله. ويكون منصوب الموضع على أنه مفعول به في نحو
"ما رأيت من أحد" ، والأصل: ما رأيت أحداً. وعلى أنه مفعول مطلق في نحو: "ما
سعى فلان من سعي يُحمد عليه" . والأصل: ما سعى سعياً يُحمد عليه. وعلى أنه خَبر
"ليس" في نحو {أليس الله بأحكم الحاكمين} . والأصل أليس الله أحكم الحاكمين)
.
أمَّا المجرورُ بحرفِ جرٍّ شبيهٍ بالزائد، فإن كان الجارُّ "خَلا
وعَدا وحاشا" ، فهو منصوب محلاً على الاستثناءِ.
وإن كان الجارُّ
"ربَّ" فهوَ مرفوعٌ محلاً على الابتداءِ، نحو "رُبَّ غَنيٍّ اليومَ فقيرٌ غداً.
رُبَّ رجلٍ كريمٍ أكرمتُهُ" . إلاّ إذا كان بعدها فعلٌ مُتعدٍّ لم يَأخذ
مفعولهُ، فهو منصوبٌ محلاًّ على أَنهُ مفعولٌ به للفعل بعدَهُ، نحو "ربَّ رجلٍ
كريمٍ أَكرمتُ" . فإن كان بعدَها فعلٌ لازم، أَو فعلٌ متعدّ ناصبٌ للضمير
العائدِ على مجرورها فهو مبتدأ، والجملةُ بعدَهُ خبرهُ، نحو "رُبَّ عاملٍ
مجتهدٍ نَجَحَ. ربَّ تلميذٍ مجتهدٍ أكرمتُهُ" .
وأمّا المجرورُ
بحرفِ جَرّ أصليّ فهو مرفوعٌ محلاًّ، إن ناب عن الفاعل بعد حذفهِ، نحو "يؤخذُ
بِيَدِ العاثرِ. جيءَ بالمُجرم الفارِّ" أو كان في موضع خبرِ المبتدأ، أو خبرِ
"إنَّ" أو إحدى أخواتها، أَو خبر "لا" النافية
للجنسِ، نحو "العلمُ
كالنور. إن الفَلاَحَ في العمل الصالحِ لا حَسَبَ كحُسنِ الخُلُقِ" .
وهو
منصوب محلاًّ على أَنهُ مفعولٌ فيه، إن كان ظرفاً، نحو "جلستُ في الدار. سرتُ
في الليل" . وعلى أنه مفعولٌ لأجله غيرُ صريحٍ، إن كان الجارّ حرفاً يُفيد
التّعليلَ والسببيّة، نحو "سافرتُ للعلم، ونَصِبتُ من أَجلهِ، واغتربتُ فيه" .
وعلى أنه مفعولُ مُطلَق، إن ناب عن المصدر، نحو "جرى الفرسُ كالرِّيح" . وعلى
أنه خبرٌ للفعل الناقص، إن كان في موضع خبرهِ. نحو "كنت في دِمَشقَ" .
وإن
وقعَ تابعاً لِمَا قبلهُ كان محلُّهُ من الإعراب على حسَب متبوعهِ، نحو "هذا
عالمٌ من أَهل مِصرَ. رأَيتُ عالماً من أَهل مَصر. أَخذتُ عن عالمٍ من أَهل
مَصر" .
فإن لم يكن، أي المجرور، شيئاً ممّا تقدَّمَ كان في محلِّ
نصبٍ على أنهُ مفعولٌ به غيرُ صريحٍ، نحو "مررتُ بالقومِ، وَقفتُ على المِنبر.
سافرتُ من بيروت إلى دِمشقَ" .
(الإضافة)
الإضافةُ نِسبةٌ بينَ اسمين، على تقديرِ حرفِ الجر،
توجِبُ جرَّ الثاني أبداً، نحو "هذا كتابُ التلميذِ. لَبِستُ خاتمَ فِضَّة. لا
يُقبلُ صِيامُ النهارِ ولا قيامُ اللَّيلِ إلا من المُخلِصينَ" .
ويُسمّى
الأوَّلُ مضافاً، والثاني مضافاً إليهِ. فالمضافُ والمضافُ إليه اسمانِ بينهما
حرفُ جَرّ مُقدَّرٌ.
وعاملُ الجرِّ في المضاف إليه هو المضافُ، لا
حرفُ الجرّ المقدَّرُ بينهما على الصحيح.
وفي هذا المبحث سبعةُ
مَباحثَ
1- أَنواعُ الإِضافةِ
الإضافةُ أَربعةُ أنواع
لاميّةٌ وبَيانيّةٌ وظرفيةٌ وتَشبيهيَةٌ.
فاللاميّةُ ما كانت على
تقدير "اللام" . وتُفيدُ المِلكَ أَو الاختصاصَ. فالأولُ نحو "هذا حصان عليٍّ"
. والثاني نحو {أخذتُ بلِجامِ الفرس} .
والبَيانيّة ما كانت على
تقدير "مِن" . وضابطُها أَن يكون المضاف إليه جنساً للمضاف، بحيثُ يكونُ
المضافُ بعضاً من المضافِ إليه، نحو "هذا بابُ خشبٍ. ذاك سِوارُ ذَهبٍ. هذه
أثوابُ صوفٍ" .
(فجنس الباب هو الخشب., وجنس السوار هو الذهب. وجنس
الأثواب هو الصوف. والباب بعض من الخشب. والسوار بعض من الذهب. والأثواب بعض من
الصوف. والخشبُ بيَّن جنس الباب. والذهب بَيَّن جنسِ السوار. والصوف بَيَّن جنس
الأثواب. والإضافة البيانية يصح فيها الإخبار بالمضاف إليه عن المضاف. ألا ترى
أنك إن قلت "هذا البابُ خشبٌ، وهذا السوارُ ذهبٌ، وهذه الأثوابُ صوفٌ" صحّ)
.
والظَّرفيةُ ما كانت على تقدير "في" . وضابطُها أن يكون المضاف
إليه
ظرفاً للمضاف. وتفيدُ زمانَ المضافِ أَو مكانَهُ، نحو "سَهَرُ
الليلِ مَضنٍ وقُعودُ الدارِ مُخْمِلٌ" . ومن ذلك أَن تقول "كان فلانٌ رفيقَ
المدرسةِ، وإلفَ الصّبا، وصديقَ الأيام الغابرة" . قال تعالى {يا صاحبَي
السّجنِ} .
والتشبيهيّةُ ما كانت على تقدير "كاف التَّشبيهِ" .
وضابطُها أن يَضافَ المُشبَّهُ بهِ إلى المشبَّه، نحو "انتثرَ لُؤْلؤُ الدمعِ
على وَردِ الْخدودِ" ومنه قول الشاعر [من الكامل]
وَالرِّيحُ
تَعبَثُ بِالْغُصُونِ، وقَدْ جَرَى ... ذَهَبُ الأَصيلِ عَلى لُجَيْنِ
الْمَاءِ
2- الإِضافةُ الْمَعنَويَّةُ وَالإِضافةُ اللَّفْظيَّة
تنقسمُ
الإضافة أَيضاً إلى معنويَّةٍ ولظفيّة.
فالمعنويّةُ ما تُفيدُ
تَعريفَ المضافِ أَو تخصيصهُ. وضابطُها أَن يكون المضافُ غيرَ وَصفٍ مَضافٍ إلى
معمولهِ. بأن يكون غيرَ وصف أَصلاً كمفتاحِ الدَّارِ، أو يكونَ وصفاً مضافاً
إلى غير معمولهِ ككاتبِ القاضي، ومأكولِ الناس، ومشربهم وملبوسهم.
وتفيدُ
تعريفَ المضافِ إن كان المضافُ إليهِ معرفةً، نحو "هذا كتابُ سعيدٍ" ،
وتخصيصَهُ، إن كان نكرةً، نحو "هذا كتابُ جلٍ" . إلاّ
إذا كان
المضافُ مُتَوغِّلاً في الإبهام والتّنكير، فلا تُفيدُهُ إضافتُهُ إلى المعرفة
تعريفاً، وذلك مثل صغيرٍ ومِثلٍ وشِبهٍ ونظيرٍ "، نحو" جاءَ رجلٌ غيرُك، أَو
مثل سليمٍ، أو شبهُ خليلٍ، أَو نظيرُ سعيدٍ "، أَلا ترى أَنها وقعت صفةً لرجلٍ،
وهو نكرةٌ، ولو عُرِّفت بالإضافة لَمَا جاز أَن تُوصفَ بها النكرةُ، وكذا
المضافُ إلى ضمير يعودُ إلى نكرة، فلا يتعرَّف بالإضافة إليه، نحو" جاءني رجلٌ
وأخوه. رُبَّ رجلٍ وولدهِ. كم رجلٍ وأَولادهِ "."
وتُسمّى الإضافةُ
المعنويةُ أَيضاً "الإضافةَ الحقيقيّةَ" و "الإضافةَ المحضةَ" . (وقد سُميت
معنوية لأنَّ فائدتها راجعة إلى المعنى، من حيث أنها تفيد تعريف المضاف أو
تخصيصه. وسميت حقيقية لأنّ الغرض منها نسبة المضاف إلى المضاف إليه. وهذا هو
الغرض الحقيقي من الإضافة. وسميت محضة لأنها خالصة من تقدير انفصال نسبة المضاف
من المضاف إليه. فهي على عكس الإضافة اللفظية، كما سترى) .
والإضافةُ
اللفظيّةُ ما لا تُفيدُ تعريف المضاف ولا تخصيصَهُ وإنما الغرَضُ منها
التّخفيفُ في اللفظ، بحذفِ التنوينِ أَو نوني التّثنيةِ والجمع.
وضابطُها
أَن يكون المضاف اسمَ فاعلٍ أو مُبالغةَ اسمِ فاعلٍ، أو اسمَ مفعولٍ، أو صفةً
مُشبّهةً، بشرط أن تضافَ هذهِ الصفاتُ إلى فاعلها أو مفعولها في المعنى، نحو
"هذا الرجلُ طالبُ علمٍ. رأَيتُ رجلاً نَصّارَ المظلومِ. أنصرْ رجلاً مهضومَ
الحقِّ. عاشِرْ رجلاً حسَنَ الخُلُق" .
والدليلُ على بقاءِ المضافِ
فيها على تنكيرهِ أنهُ قد وُصفت به النكرةُ،
كما رأَيت، وأنهُ يقعُ
حالاً، والحالُ لا تكون إلا نكرةً، كقولك "جاءَ خالدٌ باسمَ الثَّغرِ، وقولِ
الشاعر [من الكامل] "
فَأتَتْ بِهِ حُوشُ الفُؤَادِ مُبَطَّناً ...
سُهُداً إذا ما نامَ لَيْلُ الهَوْجَلِ
وأنه تُباشرُهُ "رُبّ" ، وهي
لا تُباشرُ إلا النَّكراتِ، كقول بعضِ العرب، وقد انقضى رمضانُ "يا رُبَّ صائمه
لن يَصومَهُ، ويا رُبَّ قائمهِ لن يَقومَهُ" .
وتُسمّى هذه الإضافةُ
أيضاً "الإضافةَ المجازيَّةَ" و "الإضافةَ غيرَ المحضة" .
(أما
تسميتها باللفظية فلانّ فائدتها راجعة إلى اللفظ فقط، وهو التخفيف اللفظي، بحذف
التنوين ونوني التثنية والجمع. وأما تسميتها بالمجازية فلانها لغير الغرض
الأصلي من الإضافة. وانما هي للتخفيف، كما علمت. وأما تسميتها بغير المحضة
فلانها ليست اضافة خالصة بالمعنى المراد من الإضافة بل هي على تقدير الانفصال،
ألا ترى أنك تقول فيما تقدَّم "هذا الرجل طالبٌ علماً. رأيت رجلاً نصاراً
للمظلوم. انصر رجلاً مهضوماً حقّه. عاشر رجلاً حسناً خلقُه" ) .
3-
أَحكامُ المُضافِ
يجبُ فيما تُراد إضَافتهُ شيئانِ
1-
تجريدُهُ من التَّنوين ونونيِ التَّثنيةِ وجمعِ المذكرِ السّالم ككتابٍ
الأستاذٍ،
وكتابَيِ الأستاذِ، وكاتِبي الدَّرسِ.
2- تجريدُهُ من "ألْ" إذا
كانت الإضافةُ معنويَّة، فلا يُقالُ "الكتابُ الأستاذِ" . وأمّا في الإضافةِ
اللفظيَّة. فيجوز دخولُ "أل" على المضافِ، بشرطِ أن يكونَ مُثنّى، "المُكرما
سليمٍ" ، أو جمعَ مذكرٍ سالماً، نحو "المُكرمو عليٍّ" ، أو مضافاً إلى ما فيه
"أل" ، نحو "الكاتبُ الدَّرسِ" ، أو لاسمٍ مضافٍ إلى ما فيه "أل" نحو "الكاتبُ
درسِ النَّحوِ" ، أو لاسمٍ مضافٍ إلى ضمير ما فيه "أل" ، كقول الشاعر [من
الكامل]
الوُدُّ، أَنتِ المُسْتَحِقَّةُ صَفْوِهِ ... مِنّي وإنْ
لَمْ أَرْجُ مِنْكش نَوالا
(ولا يقال "المكرم سليم، والمكرمات سليم،
والكاتب درس" ، لأن المضاف هنا ليس مثنى، ولا جمعَ مذكر سالماً، ولا مضافاً الى
ما فيه "ألى" أو الى اسم مضاف الى ما فيه "أل" . بل يقال "مكرم سليم، ومكرمات
سليم، وكاتب درس" . بتجريد المضاف من "أل" ) .
وجوَّزَ الفَرّاءُ
إضافةَ الوصفِ المقترنِ بأل إلى كل اسمِ معرفةٍ، بلا قيدٍ ولا شرطٍ. والذوقُ
العربيُّ لا يأبى ذلك.
3- بَعْضُ أَحكامٍ للإِضافة
1- قد
يكتسبُ المضافُ التأنيثَ أو التذكيرَ من المضاف إليه، فيُعامَلُ معاملةَ
المؤنثِ، وبالعكس، بشرطِ أن يكون المضافَ صالحاً للاستغناءِ عنه، وإقامةِ
المضافِ إليه مُقامَهُ، نحو "قُطعتْ بعضُ أصابعهِ" ، ونحو "شمسُ العقلِ مكسوفٌ
بِطَوعِ الهَوى" ، قال الشاعر [من الوافر]
أَمُرُّ عَلى الدِّيارِ،
دِيارِ لَيْلى ... أُقَبِّلُ ذا الجِدارَ وذَا الجِدارا
وما حُبُّ
الدِّيارِ شَغَفْنَ قَلْبي ... وَلكِنْ حُبُّ مَنْ سَكَنَ الدِّيارا
والأولى
مُراعاةُ المضاف، فتقولُ "قُطعَ بعضُ أصابعهِ. وشمسُ العقل مكسوفةٌ بِطَوع
الهوى. وما حبُّ الديار شغفَ قلبي" . إلا إذا كان المضافُ لفظَ "كُلّ"
فالأصلحُّ التأنيث، كقوله تعالى "يومَ تَجِدُ كلُّ نفسٍ ما عَمِلتْ من خير
مُحضَراً" ، وقولِ الشاعر [عنترة - من الكامل]
جادَتْ عَلَيْهِ
كُلُّ عَيْنٍ ثَرَّةٍ ... فَتَرَكْنَ كُلَّ حَديقَةٍ كَالدِّرْهَمِ
أما
إذا لم يصحَّ الاستغناءُ عن المضاف، بحيثُ لو حُذفَ لَفَسدَ المعنى، فمُراعاةُ
تأنيثِ المضاف أو تذكيرِهِ واجبةٌ، نحو "جاءَ غُلامُ فاطمةَ، وسافرتْ غلامةُ
خليلٍ" ، فلا يقالُ "جاءَت غلامُ فاطمةَ" ، ولا "سافر غلامةُ خليل" ، إذ لو
حُذف المضافُ في المثالين، لفسدَ المعنى.
3- لا يَضافُ الاسمُ إلى
مرادِفه، فلا يقالُ "ليثُ أسدِ" ، إِلا إِذا كانا عَلمينِ فيجوزُ، مثل "محمدُ
خالدٍ" ، ولا موصوفٌ إلى صفتهِ، فلا يقال "رجلُ فاضلٍ" . وأما قولهم "صلاةُ
الأولى، ومَسجدُ الجامعِ، وحَبَّةُ الحَمقاءِ، ودارُ الآخرةِ، وجانبُ الغربي،
فهو على تقدير حذفِ المضافِ إليه وإقامةِ صفتهِ مُقامَهُ. والتأويلُ" صلاةُ
الساعةِ الأولى، ومسجدُ
المكان الجامع، وحبةُ البَقلة الحمقاءِ،
ودارُ الحياة الآخرة، وجانبُ المكانِ الغربي "."
وأمّا إضافةُ
الصفةِ إلى الموصوف فجائزةٌ، بشرط ان يصحَّ تقديرُ "مِن" بين المضافِ والمضافِ
إليه، نحو "كرامُ الناسِ، وجائبةُ خبرٍ، ومُغَرِّبةُ خَبرٍ، وأخلاقُ ثياب،
وعظائمُ الأمورِ، وكبيرُ أمرٍ" . والتقديرُ "الكرام من الناس، وجائبةٌ من خبر
الخ" . أمّا إذا لم يصحْ "مِن" فهيَ ممتنعةٌ، فلا يقالُ "فاضلُ رجلٍ، وعظيمُ
أمير" .
3- يجوز أن يُضافَ العامُّ إلى الخاصّ. كيوم الجُمعة، وشهر
رمضانَ. ولا يجوزُ العكسُ، لعدم الفائدة، فلا يقالُ "جُمعة اليوم، ورمضان
الشهر" .
4- قد يضافُ الشيءُ إلى الشيءُ لأدنى سَببٍ بينَهما
(ويُسمُّونَ ذلك بالإضافةِ لأدنى مُلابَسةٍ) ، وذلكَ أنك تقولُ لرجلٍ كنتَ قد
أجتمعتَ به بالأمسِ في مكان "انتظرني مكانَكَ أمسِ" ، فأضفتَ المكانَ إليه
لأقلَّ سببٍ، وهو اتفاقُ وُجوده فيه، وليس المكانُ ملكاً لهُ ولا خاصاً به،
ومنه قول الشاعر [من الطويل]
إذا كَوْكَبُ الخَرْقاءِ لاحَ
بِسُحْرَةٍ ... سُهَيْلٌ، أَذاعَتْ غَزْلَها في القَرائِبِ
5- إذا
أمِنوا الالتباسَ والإبهامَ حذفوا المضافَ وأقاموا المضافَ إليه
مُقامَهُ،
وأعربوهُ بإِعرابهِ، ومنه قولهُ تعالى {واسألِ القريةَ التي كنّا فيها والعِيرَ
التي أقبلنا فيها} ، والتقديرُ واسألْ أهل القريةَ وأصحابَ العِيرِ. أما إن
حصلَ بحذفه إبهامٌ والتباسٌ فلا يجوزُ، فلا يُقالُ "رأيتُ عليّاً" ، وأنتَ
تُريدُ "رأيتُ غلامَ عليّ" .
6- قد يكونُ في الكلام مضافانِ اثنانِ،
فيُحذَفَ المضافُ الثاني استغناءً عنهُ بالأوَّل، كقولهم "ما كلُّ سَوداءَ
تَمرةً، ولا بيضاءَ شَحمةً" ، فكأنَّكَ قلتَ "ولا كلُّ بيضاءَ شحمة" . فبيضاء
مُضافٌ إلى مضافٍ محذوف. ومثلُهُ قولُهم "ما مثلُ عبد اللهِ يقولُ ذلك، ولا
أخيهِ" ، وقولُهم "ما مثلُ أبيكَ، ولا أخيكَ يقولان ذلك" .
7- قد
يكونُ في الكلام اسمانِ مضافٌ إليهما فيُحذَفُ المضاف إليه الأول استغناءً عنه
بالثاني، نحو "جاءَ غلامُ وأخو عليّ" . والأصلُ "جاءَ غلامُ عليَّ وأخوهُ" .
فلمّا حُذِفَ المضافُ إليه الأول جعلتَ المضافَ إليه الثاني اسماً ظاهراً،
فيكون "غلام" مضافاً، والمضافُ إليه محذوف تقديرُه "علي" ، ومنه قول الشاعر [من
المنسرح]
يا مَنْ رَأَى عارِضاً أُسَرُّ بهِ ... بَيْنَ ذِراعَيْ
وَجَبْهَةِ الأَسَدِ
والتقديرُ "بينَ ذراعيِ الأسد وجبهتهِ" . وليس
مثلُ هذا بالقويِّ والأفضلُ ذكرُ الاسمين المضاف إليهما معاً.
5-
الأَسماءِ المُلاَزِمةُ للإِضافة
من الأسماءِ ما تمتنعُ إضافتُه،
كالضمائرِ وأسماءِ الإشارةِ والأسماءِ الموصولةِ وأسماءِ الشرط وأسماءِ
الاستفهام، إلاّ "أيّاً" ، فهي تُضافُ.
ومنها ما هو صالحُ للاضافة
والإفراد (أي عدمِ الإضافة) ، كغلامٍ وكتابٍ وحصانٍ ونحوهما.
ومنها
ما هو واجبُ الإضافة فلا ينفكُّ عنها.
وما يُلازِمُ الإضافة على
نوعين نوعٍ يلازِمُ الإضافةَ إلى المفرد. ونوعٍ يُلازمُ الإضافةً إلى
الجملة.
6- المُلازِمُ الإِضافةِ إلى المُفْرَد
إنَّ ما
يُلازمُ الإضافةَ إلى المفرد نوعان نوعٌ لا يجوزُ قطعُه عن الإضافة، ونوعٌ لا
يجوزُ قطعهُ عنها لفظاً لا معنًى، أي يكونُ المضافُ إليه مَنوِياً في
الذِّهن.
فما يلازمُ الاضافةَ إلى المفردِ، غيرَ مقطوعٍ عنها، هو
"عِند وَلدَى وَلدُن وبين ووَسط (وهي ظروف) وشِبْهٌ وقابٌ وكِلاَ وكِلتا وسوَى
وذُو وذاتٌ وذَوَا وذَوَاتا وذَوُو وذواتِ وأُولُو وأَولات وقُصارَى وسُبحان
ومَعاذ وسائر"
ووَحْد ولبَّيْك وسَعدَيكَ وحَنانَيكَ ودَواليكَ
"(وهي غيرُ ظروف) ."
وأمّا ما يُلازم الإضافةَ إلى المفرد، تارةً
لفظاً وتارةً معنًى، فهو "أوَّل ودون وفَوق وتحت ويمين وشِمال وأمام وقُدَّام
وخَلف وورَاء وتِلقاء وتجاه وإزاء وحِذاء وقبل وبعد ومَع (وهي ظروف) وكلٌّ
وبعضٌ وغير وجميعٌ وحَسْبٌ وأيُّ" (وهي غيرُ ظروف) .
أحكام ما يلازم
الاضافة إلى المفرد
1- ما يُلازمُ الاضافةَ إلى المفرد لفظاً، منه
ما يضافُ إلى الظاهر والضميرِ، وهوَ "كِلاَ وكِلتا ولَدى وَلدُنْ وعند وسوى
وبين وقُصارَى ووسَط ومِثل وذَوُو ومَع وسُبحان وسائر وشِبه" .
ومنه
ما لا يُضافُ إلا إلى الظاهر، وهو "أُولو وأُولات وذُو وذات وذَوَا وذَوَاتا
وقاب ومَعاذ" .
ومنه ما لا يضافُ إلا إلى الضميرِ، وهو "وَحْد" ،
ويضافُ إلى كلِّ مَضمَرٍ فتقولُ "وحدَهُ ووحدَكَ ووحدَها ووحدَهما ووحدَكم"
الخ، و "لبَّيكَ وسَعدَيكَ وحنانيكَ ودَواليكَ" ولا تُضاف إلا إلى ضمير الخطاب،
فتقول "لبَيَّكَ ولَبيّكما وَسعدَيكمُ" الخ.
(وهي مصادر مثناة
لفظاً، ومعناها التكرار، فمعنى "لبيك" اجابة لك بعد اجابة. ومعنى "سعديك"
اسعاداً لك بعد اسعاد. وهي لا تُستعمل الا بعد "لبيك" . ومعنى "حنانيك" تحنّناً
عليك بعد تحنن. ومعنى "دواليك" تداولاً بعد تداول. وهذه المصادر منصوبة على
أنها مفعول مطلق لفعل محذوف، اذ التقدير "ألبيك تلبيةً بعد تلبيةٍ. وأسعدك
إسعاداً"
بعد اسعاد "الخ. وعلامة نصبها الياء لأنها تثنية) ."
2-
كِلا وكلتا إن أُضيفتا إلى الضمير أُعربتا إعرابَ المُثنّى، بالألف رفعاً،
وبالياءِ نصباً وجراً، نحو "جاءَ الرجلانِ كلاهما. رأيتُ الرجلين كليهما. مررتُ
بالرجلين كليهما" . وإن أُضيفتا إلى اسمٍ غيرِ ضمير أُعربتا إِعرابَ الاسم
المقصور، بحركاتٍ مُقدَّرةٍ على الألف للتعذُّر، رفعاً ونصباً وجراً. نحو "جاءَ
كِلا الرجلين. رأيتُ كلا الرجلين. مررتُ بكلا الرجلين" .
وحُكمُهُما
أنهما يَصحُّ الإخبارُ عنهما بصفةٍ تحملُ ضميرَ المفرد، باعتبار اللفظِ، وضميرَ
المثنّى، باعتبار المعنى، فتقول "كِلا الرجلين عالم" و "كلا الرجلين عالمان" .
ومراعاةُ اللفظ أكثر.
وهما لا تُضافان إلا إلى المعرفة، وإلى كلمةٍ
واحدة تدُلُّ على اثنين، فلا يُقال "كِلا رجلينِ" ، لأن "رجلين" نكرة، ولا
"كِلا عليٍّ وخالدٍ" ، لأنها مضافةٌ إلى المفرد.
3- أيُّ. على خمسة
أنواعٍ موصوليّةٍ ووصفيّةٍ وحاليّةٍ واستفهاميّةٍ وشرطيّة.
فإن كانت
اسماً موصولاً فلا تُضاف إلا إلى معرفةٍ، كقولهِ تعالى {ثُمَّ لَنَنزِعنَّ من
كلِّ شيعةٍ أيُّهم أشدُّ على الرَّحمنِ عِتِياً} .
وإن كانت منعوتاً
بها، او واقعةً حالاً، فلا تُضافُ إلا إلى النكرةِ، نحو "رأيتُ تلميذاً أيَّ
تلميذٍ" ، ونحو "سرَّني سليمٌ أيَّ مجتهدٍ" .
وإن كانت استفهاميّةً،
أو شرطيّةً، فهي تُضافُ إلى النكرة والمعرفة، فتقولُ في الاستفهاميّة "أي رجلٍ
جاءَ؟ وأيُّكم جاءَ؟" ، وتقولُ في الشرطيّة "ايُّ تلميذٍ يجتهدْ أكرمْهُ. وأيكم
يجتهدْ أُعطهِ" .
وقد تُقطَعُ "أيُّ" ، الموصوليّةُ والاستفهاميّة
والشرطيّةُ، عن الاضافة لفظاً، ويكونُ المضافُ إليه مَنوياً، فالشرطيّةُ كقولهِ
تعالى {أيّاً ما تَدعُوا فلَهُ الأسماءُ الحُسنى} . والتقديرُ "أيَّ اسمٍ تدعو"
، والاستفهاميّةُ نحو "أيٌّ جاءَ؟ وأيّاً أكرمتَ؟" ، والموصوليّةُ نحو "أيٌّ
هوَ مجتهدٌ يفوزُ. وأكرمْ ايّاً هو مجتهدٌ" .
أما "أيُّ" الوصفيّةُ
والحاليّةُ فملازمةٌ للاضافة لفظاً ومعنًى.
4- مَعَ وَقبل وبَعد
وأوَّل ودون والجهاتُ الستُّ وغيرُها من الظُّروف، قد سبقَ الكلامُ عليها
مُفصلاً في مبحث الأسماءِ المبنية، وفي مبحث أحكام الظروف المبنيةِ، في باب
المفعول فيه. فراجع ذلك.
5- غير اسمٌ دال على مخالفةِ ما بعدَه
لحقيقةِ ما قبلَهُ. وهو ملازمٌ للاضافةِ.
وإذا وقعَ بعدَ "ليس" أو
"لا" جازَ بقاؤه مضافاً، نحو "قبضتُ عشرة ليس غيرها، أو لا غيرها" وجازَ قطعهُه
عن الاضافة لفظاً وبناؤه على
الضمَّ، على شرط أن يُعلَمَ المضاف
إليهِ، فتقول "ليس غيرُ أو لا غيرُ" .
6- حَسب بمعنى "كافٍ" . ويكون
مضافاً، فيعرَبُ بالرفع والنصب والجر. وهو لا يكون إلا مبتدأ، مثل "حسبُكَ
اللهُ" ، أو خبراً نحو "اللهَ حَسبي" ، أو حالاً نحو "هذا عبدُ اللهِ حسبَكَ من
رجلٍ" ، أو نعتاً نحو "مررتُ برجلٍ حَسبِكَ من رجلٍ. رأيتُ رجلاً حَسبَكَ من
رجلٍ. هذا رجلٌ حَسبُكَ من رجل" .
ويكونُ مقطوعاً عن الاضافة، فيكون
بمنزلةِ "لا غيرُ" فيُبنى على الضمِّ، ويكونُ إعرابهُ محليّاً، نحو "رأيتُ
رجلاً حسبُ. رأيت علياً حسبُ. هذا حسبُ" . فحسبُ، في المثالِ الأول، منصوبٌ
محلاً، لأنه نعتٌ لرجلاً، وفي المثال الثاني منصوبٌ محلاً، لأنه حالٌ من "عليّ"
وفي المثالث الثالث مرفوعٌ محلاً لأنه خبر المبتدأ.
وقد تَدخلُه
الفاءُ الزائدةُ تزييناً لِلَّفظِ، نحو "أخذت عشرةً فحسبُ" .
7-
كلٌّ وبعضٌ يكونان مُضافينِ، نحو "جاءَ كلُّ القومِ أو بعضُهم" ومقطوعينِ عن
الاضافة لفظاً، فيكون المضافُ إليه مَنوياً، كقوله تعالى {وكُلاًّ وعدَ اللهُ
الحُسنى} ، أي كلاًّ من المجاهدينَ والقاعدينَ، أي كلَّ فريق منهم، وقولهِ
{وفضّلنا بعض النّبيينَ على بعضٍ} ، أي على بعضهم.
8- جميعٌ يكونُ
مضافاً، نحو "جاءَ القومُ جميعُهم" . ويكون مقطوعاً عن الاضافةِ منصوباً على
الحال، نحو "جاءَ القومُ جميعاً" ، أي مجتمعينَ.
7- المُلاَزِمُ
الإضافة إِلى الجُمْلَةِ
ما يلازمُ الاضافةَ إلى الجملة هو "إذْ
وحيثُ وإذا ولمّا ومذ ومُنذ" .
فإذْ وحيثُ تُضافانِ إلى الجُملِ
الفعليّة والاسميّة، على تأويلها بالمصدر. فالأولُ كقوله تعالى {واذكروا إذْ
كُنتم قليلاً} ، وقولهِ {فأتوهنَّ من حيثُ أمرَكمَ اللهُ} ، والثاني كقوله عزَّ
وجلَّ {واذكروا إذْ أنتم قليلٌ} ، وقولِكَ "اجلِسْ حيث العلمُ موجودٌ" .
و
"إذا ولمّا" . تُضافانِ إلى الجملِ الفعليةِ خاصةً، غير أن "لمّا" يجبُ أن
تكونَ الجملةُ المضافةُ إليها ماضيّةً، نحو "إذا جاءَ عليٌّ أكرمتُه" و "لمّا
جاءَ خالدٌ أعطيته" .
ومُذْ ومنذُ "إن كانتا ظرفينِ؛ أُضيفتا إلى
الجمل الفعليّةِ والاسميّة، نحو" ما رأَيتُكَ مُذْ سافرَ سعيدٌ. وما اجتمعنا
منذُ سعيدٌ مسافرٌ ". وإن كانتا حرفيْ جرٍّ، فما بعدَهما اسمٌ مجرورٌ بهما. كما
سبق الكلام عليهما في مبحث حروف الجرّ."
واعلم أنَّ "حيثُ" لا تكون
إلا ظرفاً. ومن الخطأ استعمالُهما للتعليلِ، بمعنى "لأن" ، فلا يُقالُ "أكرمتُه
حيث إنه مجتهدٌ" ، بل يُقالُ "لأنه مجتهدٌ" .
وما كان بمنزلةِ "إذْ"
أَو إذا "، في كونه اسمَ زمانٍ مُبهماً لِمَا مضَى أَو لما يأتي، فإنهُ يُضافُ
إلى الجمل، نحو" جئتك زمنَ عليٌّ والٍ "، أَو" زمنَ كان عليٌّ والياً "، ومنه
قوله تعالى {يومَ لا ينفعُ مالٌ ولا بَنونَ، إلا من أتى اللهَ بقلبٍ سليم} ،
وقوله {هذا يومُ ينفعُ الصادقينَ صِدقُهُم} ."
(التوابع
وإعرابها)
(النعت)
النّعتُ (ويُسمّى الصَّفَةَ أَيضاً) هو ما
يُذكرُ بعدَ اسمٍ ليُبيَّنَ بعض أَحوالهِ
أَو أَحوال ما يَتعلَّقُ
به. فالأوَّلُ نحو "جاءَ التلميذُ المجتهدُ" ، والثاني نحو "جاءَ الرجلُ
المجتهدُ غلامُهُ" .
(فالصفة في المثال الأول بينت حال الموصوف
نفسه. وفي المثال الثاني لم تبين حال الموصوف، وهو الرجل، وإنما بينت ما يتعلق
به، وهو الغلام) .
وفائدةُ النَّعتِ التَّفرقةُ بينَ المشتركينَ في
الاسم.
ثمَّ إن كان الموصوفُ معرفةً ففائدةُ النّعتِ التَّوضيح. وإن
كانَ نكرةً ففائدتهُ التّخصيصُ.
(فان قلت "جاء عليّ المجتهد" فقد
أوضحت من هو الجائي من بين المشتركين في هذا الاسم. وإن قلت "صاحب رجلاً
عاقلاً" ، فقد خصصت هذا الرجل من بين المشاركين له في صفة الرجولية) .
وفي
هذا المبحث خمسةُ مباحثَ
1- شَرْطُ النَّعْتِ
الأصلُ في
النعتِ أن يكونَ اسماً مُشتقاً، كاسم الفاعل واسمِ المفعول والصفةِ المُشبّهة
واسم التّفضيل. نحو "جاء التلميذُ المجتهدُ. أكرِمْ خالداً المحبوبَ. هذا رجلٌ
حسنٌ خُلقُهُ. سعيدٌ تلميذٌ أعقلُ من غيره" .
وقد يكونُ جملةً
فعليّةً، أو جملةً اسميةً على ما سيأتي.
وقد يكون اسماً جامداً
مُؤوَّلاً بمشتقٍّ. وذلك في تسعِ صُوَرٍ
1- المصدرُ، نحو "هو رجلٌ
ثِقةٌ" ، أي موثوقٌ بهِ، و "أنتَ رجلٌ عَدلٌ" ، أي عادلٌ.
2- اسمُ
الاشارةِ، نحو "أكرِمْ عليّاً هذا" ، أي المشارُ إليه.
3- "ذُو" ،
التي بمعنى صاحب، و "ذات" ، التي بمعنى صاحبة، نحو "جاءَ رجلٌ ذُو علمٍ،
وامرأةٌ ذاتُ فَضلٍ، أي صاحبُ علمٍ، وصاحبة فضلٍ."
4- الاسمُ
الموصولُ المقترنُ بألْ، نحو "جاءَ الرجلُ الذي اجتهدَ" ، أي المجتهدُ.
5-
ما دلَّ على عَدَد المنعوتِ، نحو "جاءَ رجالٌ أربعةُ" ، أي مَعْدُودُونَ بهذا
العَدَد.
6- الاسمُ الذي لحقتهُ ياءُ النسبة، نحو "رأيتُ رجلاً
دِمَشقيّاً، منسوباً إلى دِمَشق."
7- ما دلَّ على تشبيهٍ، نحو
"رأيتُ رجلاً أسداً، أي شجاعاً، و" فلانٌ رجلٌ ثَعلبٌ "، أي محتالٌ. والثعلبُ
يُوصفُ بالاحتيالِ."
8- "ما" النكرةُ التي يُرادُ بها الابهامُ، نحو
"أُكرِمُ رجلاً ما" أي رجلاً مُطلقاً غيرَ مُقيّدٍ بصفةٍ ما. وقد يُرادُ بها
معَ الابهامِ التهويلُ، ومنهُ المثلُ "لأمرٍ ماجَدَعَ قَصيرٌ أنفَهُ" ، أي
لأمرٍ عظيمٍ.
9- كَلِمتا "كلٍّ وأيٍّ" ، الدَّالتينِ على استكمال
الموصوفِ للصفةِ، نحو "أنتَ رجلٌ كلُّ الرجلِ" ، أي الكاملُ في الرُّجوليّةِ، و
"جاءَني رجلٌ أيُّ رجلٍ" ، أي كاملٌ في الرجوليّةِ. ويقال أيضاً "جاءَني رجلٌ
أيُّما رجلٍ" ، بزيادةِ "ما" .
2- النَّعْتُ الحَقيقِيُّ
وَالنَّعْتُ السَّبَبِيُّ
ينقسمُ النعتُ إلى حقيقيٍّ وسببيٍّ.
فالحقيقيُّ
ما يُبيِّنُ صفةً من صفاتِ مَتبوعهِ، نحو "جاءَ خالدٌ الأديبُ" .
والسَّببيُّ
ما يُبيِّنُ صفةً من صفاتِ ما لهُ تَعلقٌ بمتبوعهِ وارتباطٌ به نحو "جاءَ
الرجلُ الحسنُ خطُّهُ" .
(فالأديب بين صفة مبتوعه، وهو خالد. أما
الحسن فلم يبين صفة الرجل، إذ ليس القصد وصفة بالحسن، وإنما بين صفة الخط الذي
له ارتباط بالرجل، لأنه صاحبه المنسوب إليه) .
والنعتُ يجبُ أن
يَتْبعَ منعوتَهُ في الاعراب والافرادِ والتَّثنية والجمعِ والتذكيرِ والتأنيث
والتعريفِ والتنكير. إلا إذا كان النَّعتُ سببيّاً غيرَ مُتحمّلٍ لضميرٍ
المنعوتِ، فيَتبعُهُ حينئذٍ وجوباً في الاعراب والتعريف والتنكير فقط. ويراعَى
في تأنيثهِ وتذكيره ما بعدَهُ. ويكونُ مُفرَداً دائماً.
فتقولُ في
النَّعت الحقيقي "جاءَ الرجلُ العاقلُ. رأيتُ الرجلَ العاقلَ. مررتُ بالرجلِ
العاقلِ. جاءَت فاطمةُ العاقلةُ. رأيت فاطمةَ العاقلةَ. مررت بفاطمةَ العاقلةِ.
جاءَ الرجلانِ العاقلانِ. رأَيتُ الرجلين العاقلين. جاءَ الرجالُ العُقلاءُ.
رأيتُ الرجالَ العُقلاءَ. مررتُ بالرجالِ العقلاءِ. جاءَت الفاطماتُ العاقلاتُ.
رأيت الفاطماتِ العاقلاتِ. مررتُ بالفاطماتِ العاقلاتِ" .
وتقولُ في
النعتِ السّببيِّ، الذي لم يَتحمّل ضميرَ المنعوت "جاءَ الرجلُ الكريمُ أَبوه،
والرجلانِ الكريمُ أَبوهما، والرجالُ الكريمُ أَبوهم، والرجلُ الكريمة أُمُّهُ.
والرجلانِ الكريمةُ أُمُّهما، والرجالُ الكريمةُ. أُمُّهم،"
والمرأةُ
الكريمُ أبوها، والمرأتانِ الكريمُ أَبوهما، والنساءُ الكريمُ أبوهنَّ،
والمرأَة الكريمةُ أُمُّها، والمرأَتانِ الكريمةُ أُمُّهما، والنساءُ الكريمةُ
أُمُّهنَّ "."
أَمَّا النّعتُ السبَبيُّ، الذي يَتحمّلُ ضميرَ
المنعوتِ، فيطابقُ منعوتَهُ إفراداً وتثنيةً وجمعاً وتذكيراً وتأنيثاً، كما
يُطابقهُ إعراباً وتعريفاً وتنكيراً، فتقولُ "جاءَ الرجلانِ الكريما الأبِ،
والمرأتانِ الكريمتا الأبِ، والرجالُ الكرامُ الأبِ، والنساءُ الكريماتُ الأبِ"
.
واعلم أنهُ يُستثنى من ذلكَ أربعةُ أشياء
1- الصفاتُ
التي على وزنِ "فَعُول" - بمعنى "فاعل" نحو "صَبُورٍ وغَيورٍ وفَخُورٍ وشكُورٍ"
، أو على وزن "فَعِيل" - بمعنى "مفعول" - نحو "جريح وقَتيل وخَضيبٍ" ، أو على
وزن "مفعالٍ" ، نحو "مِهذار ومِكسال ومِبسامٍ" ، أو على وزن "مِفعيلٍ" نحو
"مِعطيرٍ ومِسكينٍ" ، أو على وزن "مِفعَلٍ" ، نحو "مِغشَمٍ ومِدعسٍ ومِهذَرٍ" .
فهذه الأوزان الخمسةُ يَستوي في الوصفِ بها المذكرُ والمؤنثُ، فتقولُ "رجلٌ
غيورٌ، وامرأةٌ غيورٌ، ورجلٌ جريحٌ، وارمأة جريح" الخ.
2- المصدرُ
الموصوفُ به، فغنه يبقى بصورةٍ واحدةٍ للمفردِ والمثنّى والجمع والمذكّرِ
والمؤنث، فتقولُ "رجلٌ عدلٌ، وامرأة عدلٌ. ورجلانِ عَدلٌ. وامرأتانِ عدلٌ.
ورجالٌ عَدلٌ. ونساءٌ عَدلٌ" .
3- ما كان نعتاً لجمعِ ما لا يَعقلُ،
فإنهُ يجوز فيه وجهان أن يُعاملَ مُعاملةَ الجمعِ، وأن يُعامَلَ مُعاملةَ
المفردِ المؤنث، فتقولُ "عندي خيولٌ"
سابقاتٌ، وخيولٌ سابقة ". وقد
يوصفُ الجمعُ العاقلُ، إن لم يكن جمعٌ مُذكرٍ سالماً، بصفة المفردة المؤنثة
كالأمم الغابرة."
4- ما كان نعتاً لاسمِ الجمع، فيجوزُ فيه
الإفرادُ، باعتبارِ لفظِ المنعوتِ والجمعُ، باعتبارِ معناهُ، فتقولُ "إنَّ بَني
فلان قومٌ صالحٌ وقومٌ صالحون" .
3- النَّعْتُ المُفْرَدُ
والجُمْلَةُ وشِبْهُ الجُمْلَة
ينقسم النّعتُ أيضاً إلى ثلاثةِ
أقسامٍ مُفرَدٍ وجملةٍ وشِبهِ جُملة.
فالمفردُ ما كانَ غيرَ جملةٍ
ولا شِبهَها، وإن كان مُثنًى أو جمعاً، نحو "جاءَ الرجلُ العاقلُ، والرجلان
العاقلانِ، والرجالُ العُقلاءُ" .
والنّعتُ الجملةُ أن تقعَ الجملةُ
الفعليّةُ أو الاسميّة منعوتاً بها، نحو "جاءَ رجلٌ يَحملُ كتاباً" و "جاءَ
رجلٌ أبوهُ كريمٌ" .
ولا تقعُ الجملةُ نعتاً للمعرفة، وإنما تقعُ
نعتاً للنكرةِ كما رأيتَ. فإن وقعت بعد المعرفة كانت في موضع الحال منها، نحو
"جاءَ عليٌّ يحملُ كتاباً" . إلاّ إذا وقعت بعد المعرَّفِ بأل الجنسيّةِ، فيصح
أن تُجعَلَ نعتاً له، باعتبار المعنى، لأنهُ في المعنى نكرةٌ، وأن تُجعل حالاً
منهُ، باعتبار اللفظ، لأنهُ مُعرَّفٌ لفظاً بألْ، نحو "لا تُخالطِ الرجلَ
يَعملُ عملَ السُّفهاءِ" ، ومنه قولُ الشاعر [من الكامل]
وَلَقَدْ
أَمُرُّ عَلَى اللَّئيمِ يَسُبُّني ... فَمَضَيْتُ ثُمَّتَ قُلْتُ لا
يَعنيني
وقولِ الآخر [من الطويل]
وَإني لَتَعروني
لِذِكْراكِ هَزَّةٌ ... كمَا انْتَفَضَ العُصفورُ بَلَّلَهُ القَطْرُ
(فليس
القصد رجلاً مخصوصاً، ولا لئيماً مخصوصاً، ولا عصفوراً، مخصوصاً، لأنك ان قلت
"لا تخالط رجلاً يعمل عمل السفهاء. لقد أمرّ على لئيم يسبني. كما انتفض عصفورٌ
بلله القطر" صح) .
ومثلُ المعرَّفِ بألِ الجنسيّةِ ما أُضيفَ إلى
المُعرَّف بِها، كقولِ الشاعر [من الكامل]
وَتُضِيءُ في وَجْهِ
الظَّلاَمِ مُنيرَةً ... كَجُمانَةِ الْبَحْرِيِّ سُلَّ نِظامُها
أي
كجُمانة بحرِيٍّ سُل نظامها.
وشرطُ الجملةِ النعتيّة (كالجملة
الحاليّة والجملة الواقعةِ خبراً) أن تكونَ جملةً خبريَّةً (أي غيرَ طلبيّة) ،
وان تشتملَ على ضمير يَربِطُها بالمنعوت، سواءُ أكان الضميرُ مذكوراً نحو
"جاءَني رجلٌ يَحملُهُ غلامُهُ" ، أم مستتراً، نحو "جاءَ رجلٌ يحملُ عَصاً، أو
مُقدَّراً، كقولهِ تعالى {واتَّقوا يوماً لا تُجزَى نفسٌ عن نفسٍ شيئاً} ،
والتقديرُ" لا تُجزَى فيه "."
(ولا يقال "جاءَ رجل أكرمهُ" على أن
جملة "أكرمْه" نعت لرجل. ولا يقال "جاء رجلٌ هل رأيت مثله، أو ليته كريم" لأن
الجملة هنا طلبية. وما ورد من ذلك فهو على حذف النعت؛ كقوله "جاءوا بمذقٍ هل
رأيت الذئب قط" . والتقدير "جاءوا بمذقٍ مقولٍ فيه هل رأيت الذئب" . والمذق
بفتح الميم وسكون الذال اللبن المخلوط بالماء فيشابه لونُه لونَ الذئب) .
والنعتُ
الشبيهُ بالجملة أن يقعَ الظرفُ أو الجارُّ والمجرورُ في موضع النعت، كما
يَقَعانِ في موضع الخبر والحال، على ما تَقدَّمَ، نحو "في الدار رجلٌ أمامَ
الكُرسيّ" ، "ورأيتُ رجلاً على حصانهِ" . والنعتُ في الحقيقة
إنما
هو مُتعلِّقُ الظرفِ أو حرفِ الجرّ المحذوفُ.
(والأصل في الدار رجل
كائن، أو موجود، أمام الكرسي. رأيت رجلاً كائناً، أو موجوداً، على حصانه) .
واعلم
أنه إذا نُعتَ بمفردٍ وظرفٍ ومجرور وجملةٍ، فالغالب تَأخيرُ الجملة، كقولهِ
تعالى "وقالَ رجلٌ من آلِ فرعون يَكتُمُ إيمانَهُ" وقد تُقدَّمُ الجملة، كقولهِ
سبحانهُ "فسوفَ يأتي اللهُ بقومٍ يُحبّهم ويُحبُّونهُ، أذلَّةٍ على المؤمنينَ،
أعزَّةٍ على الكافرين" .
4- النَّعْتُ الْمَقْطوع
قد
يُقطعُ النعت، عن كونهِ تابعاً لِما قبلهُ في الإعراب، إلى كونه خبراً لمبتدأ
محذوف، أو مفعولاً به لفعل محذوف. والغالبُ أن يُفعلَ ذلك بالنعت الذي يُؤتى به
لمجرَّدِ المدح، أو الذَّمِّ، أو التَّرحُّمِ، نحو "الحمدُ للهِ العظيمُ، أو
العظيمَ" . ومنهُ قولهُ تعالى {وامرَأتُهُ حَمّالةَ الحطب} . وتقولُ "أحسنتُ
إلى فلانٍ المِسكينُ، أو المسكينَ" .
وقد يُقطَعُ غيرُهُ مما لم
يُؤتَ بهِ لذلك، نحو "مررتُ بخالد النجارُ أو النجارَ" .
وتقديرُ
الفعل، إن نصبتَ، وأَمدَحُ، فيما أريدَ به المدحُ، "وأَذمُّ" ، فيما
أُريدَ
به الذمُّ، و "أَرحَمُ" ، فيما أُريدَ به التُّرحُّمُ، و "أَعني" فيما لم يُرَد
به مدحٌ ولا ذمٌّ ولا ترحُّمٌ.
وحذفُ المبتدأ والفعل، في المقطوع
المراد به المدحُ أو الذمُّ أو الترحم، واجبٌ، فلا يجوزُ إظهارُهما.
ولا
يُقطَعُ النعتُ عن المنعوت إلا بشرط أن لا يكونَ مُتمّماً لمعناهُ، بحيثُ
يستقلُّ الموصوف عن الصفة. فإن كانت الصفة مُتمّمةً معنى الموصوف، بحيثُ لا
يَتَّضِحُ إلاّ بها، لم يَجُز قطعُهُ عنها، نحو "مررتُ بسليمٍ التاجرِ" ، إذا
كان سليم لا يُعرَفُ إلا بذكر صفته.
وإذا تكرّرتِ الصفاتُ، فإن كان
الموصوفُ لا يتعيَّنُ إلاّ بها كلّها، وجبَ إتباعها كلّها له، نحو "مررتُ
بخالدٍ الكاتبش الشاعرِ الخطيبِ" ، إذا كان هذا الموصوف (وهو خالدٌ) يُشاركهُ
في اسمه ثلاثةٌ أحدهم كاتبٌ شاعر، وثانيهم كاتبٌ خطيب. وثالثهم شاعر خطيب. وإن
تعيّنَ ببعضها دونَ بعضٍ وجبَ إتباعُ ما يَتعَيَّن بهِ، وجاز فيما عداهُ
الإتباعُ والقطعُ.
وإن تكرَّرَ النّعتُ، الذي لمجرَّد المدح أو
الذمِّ أو الترحُّم، فالأوْلى إما قطعُ الصفاِ كلّها، وإما إتباعها كلّها. وكذا
إن تكرَّرَ ولم يكن للمدح أو الَّم. غيرَ أن الاتباع في هذا أولى على كل حال،
سواءٌ أتكرَّرت الصفةُ أم لم تكرَّر.
5- تَتمَّةٌ
1-
الاسمُ العلمُ لا يكونُ صفةً، وإنما يكونُ موصوفاً. ويُوصفُ بأربعةِ أَشياءَ
بالمعرَفِ بألْ، نحو "جاءَ خليلٌ المجتهدُ" وبالمضاف إلى معرفةٍ،
نحو
"جاءَ علي صديقُ خالدٍ" ، وباسمِ الاشارةِ، نحو "أُكرِمُ علياً هذا" ، وبالاسم
الموصولِ المُصدَّرِ بأل، نحو "جاءَ عليٌّ الذي اجتهد" .
2-
المعرَّف بألْ يُوصفُ بما فيه "أَلْ" ، وبالمضاف إلى ما فيه "أَلْ" ، نحو "جاءَ
الغلامُ المجتهدُ" و "جاءَ الرجلُ صديقُ القومِ" .
3- المضافُ إلى
العَلمِ يُوصفُ بما يُوصفُ به العلَمُ، نحو "جاءَ تِلميذُ عليٍّ المجتهدُ. جاءَ
تِلميذُ عليٍّ صديقُ خالدٍ. جاءَ تلميذ عليٍّ هذا. جاء تلميذُ عليٍّ الذي
اجتهدَ" .
4- اسمُ الاشارة و "أيُّ" يُوصفانِ بما فيه "ألْ" مثلُ
"جاءَ هذا الرجل" ، ونحو "يا أيُّها الانسانُ" . وتوصفُ "أَيُّ" أَيضاً باسم
الاشارةِ، نحو "يا أَيُّها الرَّجلُ" .
5- قال الجمهورُ من حقِّ
الموصوفِ أن يكون أخصَّ من الصفة وأعرفَ منها أو مساوياً لها. لذلك امتنعَ وصفُ
المعرَّف بألْ باسم الاشارة وبالمضاف إلى ما كان مُعرَّفاً بغيرِ "أَلْ" . فإن
جاءَ بعده معرفةٌ غيرُ هذين فليست نعتاً له، بل هي بدل منه أو عطفُ بيانٍ، نحو
"جاءَ الرجلُ هذا، أو الذين كان عندنا، أو صديق علي، أَو صديقُنا" .
والصحيحُ
أَنه يجوزُ أَن يُنعَتَ الأعمُّ بالأخصّ، كما يجوزُ العكسُ، فتوصفُ كلُّ معرفةٍ
بكلّ معرفة، كما تُوصفُ كلُّ نكرةٍ بكل نكرة.
6- حقُّ الصفةِ أَن
تَصحَبَ الموصوفَ. وقد يُحذَفُ الموصوف إذا ظهرَ أَمرُهُ ظُهوراً يُستغنى معه
عن ذكره. فحينئذٍ تقومُ الصفةُ مَقامَهُ كقوله تعالى
{أَنِ اعمَلْ
سابغاتٍ} ، أَي "دُروعاً سابغاتٍ" ، ونحو "نحنُ فريقانِ منّا ظَعَنَ ومنا
أَقامَ" ، والتقدير "منا فريقٌ ظعنَ، ومنّا فريقٌ أَقامَ" . ومنه قولهُ تعالى
أَيضاً {وعندهم قاصراتُ الطرفِ عينٌ} ، والتقديرُ "نساءٌ قاصراتُ الطّرفِ" ،
وقولُ الشاعر [من الوافر]
أَنا ابْنُ جَلاَ وَطَلاَّعُ الثَّنَايا
... مَتى أَضَعِ الْعِمامَةَ تَعرِفوني
والتقدير "أَنا ابنُ رجلٍ
جلاَ" ، أَي جلا الأمور بأعماله وكشفها.
وقد تُحذَفُ الصفةُ، إن
كانت معلومةً، كقوله تعالى {يأخذُ كلَّ سفينة غَصباً} ، والتقدير {يأخذُ كلَّ
سفينةٍ صالحةٍ} .
7- إذا تكرَّرت الصفاتُ، وكانت واحدةً، يُستغنى
بالتثنية أو الجمع عن التفريق، نحو "جاءَ عليٌّ وخالدٌ الشاعرانِ، أو عليٌّ
وخالدٌ وسعيدٌ الشعراءُ، أو الرجلان الفاضلان. أَو الرجالُ الفضَلاءُ" . وان
اختلفت وجبَ التفريقُ فيها بالعطفِ بالواو، نحو "جاءَني رجلانِ كاتبٌ وشاعرٌ،
أَو رجالٌ كاتب وشاعرٌ وفقيهٌ" .
8- الأصلُ في الصفة أَن تكونَ
لبيانِ الموصوفِ. وقد تكونُ لمجرَّدِ الثناءِ والتعظيمِ، كالصفاتِ الجاريةِ على
اللهِ سبحانهُ، أو لمجرَّد الذّم والتّحقيرِ نحو "أعوذُ باللهِ من الشيطانِ
الرجيمِ" أو للتأكيدِ نحو "أمسِ الدابرُ لا يعودُ" ، ومنه قولهُ تعالى {فإذا
نُفِخَ في الصور نَفخةٌ واحدةٌ} .
(التَّوكيد)
التَّوكيدُ
(أو التأكيدُ) تكريرٌ يُرادُ به تثبيتُ أمرِ المُكرَّر في نفس السامعِ، نحو
"جاءَ عليٌّ نفسُهُ" ، ونحو "جاءَ عليٌّ عليٌّ" .
وفي التّوكيدِ
ثلاثةُ مباحث
1- التَّوْكيدُ اللَّفْظيُّ
التّوكيدُ
قسمانِ لفظيٌّ ومعنويٌّ.
فاللفظي يكونُ بإعادةِ المُؤكّدِ بلفظهِ أو
بمرادفه، سواءٌ أكان اسماً ظاهراً، أم ضميراً، أم فعلاً، أم حرفاً، أم جملةً.
فالظاهرُ نحو "جاءَ عليٌّ عليٌّ" . والضمير نحو "جئتَ أنتَ. وقُمنا نحنُ" .
ومنه قوله تعالى {يا آدمُ اسكُنْ أنتَ وزَوجُكَ الجنّةَ} والفعلُ نحو "جاءَ
جاءَ عليٌّ" . والحرفُ نحو "لا، لا أبوحُ بالسرّ. والجملةُ نحو" جاءَ عليٌّ،
جاءَ عليٌّ، وعليٌّ مجتهدٌ، عليّلإ مجتهدٌ ". والمرادفُ نحو" أتى جاءَ عليٌّ
"."
وفائدةُ التوكيدِ اللفظيِّ تقريرُ المؤكدِ في نفسِ السامعِ
وتمكينُهُ في قلبِهِ، وإزالةُ ما في نفسهِ من الشُّبهة فيه.
(فانك
ان قلت "جاءَ علي" ، فان اعتقدَ المخاطب أن الجائي هو لا غيره ادميت بذلك وأن
أنكرَ، أو ظهرت عليه دلائل الانكار، كرّرت لفظ "علي" دفعاً لإنكاره، أو ازالة
للشبهة التي عرضت له. وان قلت "جاءَ علي، جاء علي" ، فانما تقول ذلك اذا أنكر
السامع مجيئه، أو لاحت عليه شبهةٌ فيه، فتثبت ذلك في قلبه وتُميط عنه الشبهة)
.
2- التَّوْكيدُ الْمَعنَوِيُّ
التّوكيدُ المعنوي يكونُ
بذكرِ "النّفسِ أو العينِ أو جميع أو عامّةٍ أو كلاَ أو كلتا، على شرطِ أن
تُضاف هذه المؤكّداتُ إلى ضميرٍ يُناسِبُ المؤكّدَ،"
نحو "جاءَ
الرجلُ عينُه، والرجلانِ أنفُسهُما. رأيتُ القومَ كلّهم. أحسنتُ إلى فُقراءِ
القريةِ عامَّتِهم. جاءَ الرجلانِ كلاهما، والمرأتانِ كلتاهما" .
وفائدةُ
التوكيدِ بالنفس والعينِ رفعُ احتمالِ أن يكون في الكلام مجازٌ أو سهوٌ أو
نسيانٌ.
(فان قلت "جاء الأميرُ" فربما يتوهم السامع أن اسناد المجيء
إليه، هو على سبيل التجوّز أو النسيان أو السهو، فتؤكده بذكر النفس أو العين،
رفعاً لهذا الاحتمال، فيعتقد السامع حينئذ أن الجائي هو لا جيشه ولا خدمه ولا
حاشيته ولا شيء من الأشياء المتعلقة به) .
وفائدةُ التوكيد بكلٍّ
وجميعٍ وعامَّةٍ الدلالةُ على الاحاطة والشُّمول.
(فاذا قلت "جاء
القوم" ، فربما يتوهم السامع أن بعضهم قد جاء، والبعض الآخر قد تخلّف عن
المجيء. فتقول "جاء القوم كلهم" ، دفعاً لهذا التوهم. لذلك لا يقال "جاء علي
كله" ، لأنه لا يتجزأ. فاذا قلت "اشتريت الفر كله" صح، لأنه يتجزأ من حيث
المبيع) .
وفائدةُ التوكيد بكِلا وكِلتا اثباتُ الحُكم للاثنين
المُؤكّدينِ معاً.
(فاذا قلت "جاء الرجلان" ، وأنكر السامع أن الحكم
ثابت للاثنين معاً، أو توهم ذلك، فتقول "جاء الرجلان كلاهما" ، دفعاً لإنكاره،
أو دفعاً لتوهمه أن الجائي أحدهما لا كلاهما. لذلك يمتنع أن يقال "اختصم
الرجلان كلاهما، وتعاهد سليم وخالد كلاهما" ، بل يجب أن تحذف كلمة "كلاهما" ،
لأن فعل المخاصمة والمعاهدة لا يقع إلا من اثنين فأكثر، فلا حاجة الى توكيد
ذلك، لأنّ السامع لا يعتقد ولا يتوهم أنه حاصل من أحدهما دون الآخر) .
3-
تتِمَّةٌ
1- إذا أُريدَ تقوية التوكيدِ يُؤتى بعدَ كلمة "كله" بكلمة
"أجمع" ، وبعدَ كلمةِ "كلها" بكلمة "جمعاء" ، وبعدَ كلمة "كلهم" بكلمة
"أجمعينَ" ، وبعدَ كلمة "كلهنَّ" بكلمة "جُمَع" ، تقولُ "جاءَ الصفُّ كلُّهُ
أجمعُ" و "جاءَت القبيلةُ كلُّها جمعاءُ" ، قال تعالى {فسجدَ الملائكةُ كلُّهُم
أجمعونَ} وتقولُ "جاءَ النساءُ كلُّهنَّ جُمَعُ" .
وقد يُؤكدُ
بأجمعَ وجمعاءَ وأجمعينَ وجُمَعَ، وإن لم يَتقدَّمهنَّ لفظ "كلّ" ومنه قوله
تعالى {لأغوينَّهُم أجمعينَ} .
2- لا يجوزُ تثنيةُ "أجمع وجمعاءَ" ،
استغناءً عن ذلك بِلَفظيْ "كِلا وكلتا" فيقالُ "جاءا جمعانِ" ولا "جاءَتا
جمعاوانِ" كما استَغنوا بتثنيةِ "سِيٍّ" عن تثنية "سواءٍ" ، فقالوا "زيدٌ
وعمرٌو سِيّانِ في الفضيلة" ، ولم يقولوا "سواءَانِ" .
3- لا يجوزُ
توكيدُ النكرة، إلا إذا كان توكيدُها مفيداً، بحيثُ تكونَ النكرةُ المؤكَّدةَ
محدودةً، والتوكيدُ من ألفاظ الإحاطة والشُّمول نحو "اعتكفتُ أُسبوعاً كلَّهُ"
. ولا يقالُ "صُمتُ دهراًَ كلَّهُ" ، ولا "سِرتُ شهراً نفسَهُ" ، لأنّ الأول
مُبهَمٌ، والثاني مؤكدٌ بما لا يفيدُ الشُّمولَ.
4- إذا أُريدَ
توكيدُ الضميرِ المرفوعِ، المُتَّصلِ أو المستتر، بالنفس أو العين؛ وجبَ
توكيدُهُ أوَّلاً بالضميرِ المنفصلِ، نحو "جئتُ أنا نفسي. ذهبوا هم أنفسُهم.
عليٌّ سافرَ نفسُهُ" . أما إن كان الضميرُ منصوباً أو مجروراً، فلا يجبُ فيه
ذلكَ، نحو "أكرمتُهم أنفسَهم، ومررتُ بهم أَنفسِهم" . "وكذا إن كان التوكيدُ
غيرَ النّفس والعين" ، نحو "قاموا كلُّهم. وسافرنا كلُّنا" .
5-
الضميرُ المرفوعُ المنفصلُ يُؤكد به كل ضميرٍ مُتّصل، مرفوعاً كان، نحو "قمتَ
أنت" ، أَو منصوباً، نحو "أَكرمتكَ أَنتَ" ، أَو مجروراً، نحو "مررتُ بكَ أنتَ"
. ويكون في محلِّ رفع، إن أُكِّدَ به الضميرُ المرفوعُ، وفي محلِّ نصبٍ، إن
أُكِّدَ به الضميرُ المنصوب، وفي محلِّ جرٍّ، إن أُكِّدَ به الضميرُ
المجرورُ.
6- يُؤكدُ المُظهَرُ بمثلهِ، لا بالضمير، فيقال "جاءَ
عليٌّ نفسُهُ" . ولا يُقالُ "جاءَ عليُّ هوُ" . والمُضمَرُ يُؤكدُ بمثله
وبالمُظهَر أيضاً. فالأوَّلُ نحو "جئتَ أنتَ نَفسُكَ" ، والثاني نحو "أحسنتُ
إليهم أنفسِهم" .
7- إن كان المؤكَّدُ بالنَّفسِ أو العين مجموعاً
جمعتَهما، فتقولُ "جاءَ التلاميذُ أَنفسُهم، أَو أَعينُهم" . وإن كان مثنًّى
فالأحسنُ أن تجمعهما، نحو "جاءَ الرجلانِ أَنفسُهما، أَو أَعينهما" . وقد يجوزُ
أَن يُثنيَّا تَبعاً لِلَفظِ المؤكدِ، فتقولُ "جاءَ الرَّجلانِ نَفساهما أو
عيناهما" وهذا أُسلوبٌ ضعيفٌ في العربيّة.
8- يجوزُ أَن تُجرَّ
"النفسُ" أَو "العينُ" بالباءِ الزائدةِ، نحو "جاءَ عليٌّ بنفسهِ" . والأصلُ
"جاءَ عليٌّ نفسُهُ" ، فتكونُ "النفس" مجرورة لفظاً بالباءِ الزائدة، مرفوعةً
محلاً، لأنها توكيد للمرفوع، وهو "عليٌّ" .
(البدل)
البَدَلُ
هو التّابعُ المقصودُ بالحُكمِ بلا واسطةٍ بينهُ وبينَ متبوعهِ نحو "واضعُ
النحوِ الإمامُ عليٌّ" .
(فعليٌّ تابع للامام في إعرابه. وهو
المقصود بحكم نسبة وضع النحو اليه. والإمام انما ذكر توطئة وتمهيداً له،
ليستفاد بمجموعهما فضلُ توكيد وبيان، لا يكون في ذرك أحدهما دون الآخر. فالإمام
غير مقصود بالذات،
لأنك لو حذفته لاستقلّ "عليٌّ" بالذكر منفرداً،
فلو قلت "واضع النحو عليٌّ" ، كان كلاماً مستقلاً. ولا واسطة بين التابع
والمتبوع.
أما ان كان التابع مقصوداً بالحكم، بواسطة حرف من أحرف
العطف، فلا يكون بدلاً بل هو معطوف، نحو "جاء علي وخالد" وقد خرج عن هذا
التعريف النعت والتوكيد أيضاً، لأنهما غير مقصودين بالذات وانما المقصود هو
المنعوت والمؤكد) .
وفي البدل مبحثهان
1- أَقْسامُ
الْبَدَل
البَدلُ أربعةُ أقسامٍ البدلُ المطابِقُ (ويُسمّى أيضاً
بَدَلَ الكُل من الكل) ، وبَدلُ البعضِ من الكلِّ، وبدلُ الاشتمالِ، والبدلُ
المُبايِنُ.
فالبدلُ المُطابقُ (أو بَدَلُ الكل من الكُلِّ) هو
بَدَلُ الشيءِ مِمّا كان طَبقَ معناهُ، كقولهِ تعالى {إهدنِا الصراطَ
المستقيمَ، صِراطَ الذينَ أنعمت عليهم} . فالصراطُ المُستقيم وصِراطُ المُنعَمِ
عليهم مُتطابقانِ معنًى، لأنهما، كلَيهما، بدلانِ على معنًى واحدٍ.
وبدلُ
البعضِ من الكُل هو بدل الجزء من كُلِّهِ، قليلاً كان ذلكَ الزءُ، أو مُساوياً
للنّصفِ، أو أكثرَ منهُ، نحو "جاءتِ القبيلةُ رُبعُها. أو نصفُها، أو ثُلُثاها"
، ونحو "الكلمةُ ثلاثة أقسامٍ اسمٌ وفعلٌ وحرف" ، ونحو "جاءَ التلاميذُ عشرونَ
منهم" .
وبدلُ الاشتمالِ هو بدلُ الشيءِ مِمّا يشتملُ عليه، على شرط
أن لا يكونَ جزءاً منه، نحو "نفعني المُعلِّمُ عِلمُهُ. أحببتُ خالداً
شجاعتَهُ. أُعجِبتُ بعليٍّ خُلقهِ الكريمِ" . فالمعلِّمُ يشتملُ على العلم،
وخالدٌ يشتملُ على
الشجاعة، وعليٌّ يشتملُ على الخُلُق. وكلٌّ من
العلم والشجاعة والخُلق، ليس جزءاً مِمّن يشتملُ عليه.
ولا بُدَّ
لبدلِ البعضِ وبدلِ الاشتمالِ من ضميرٍ يربطُهما بالبدل، مذكوراً، كان، كقوله
تعالى {ثمَّ عَمُوا وصَمُّوا، كثيرٌ منهم} ، وقولهِ {يَسألونكَ عن الشّهرِ
الحرامِ. قِتالٍ فيه} ، أو مُقدَّراً، كقوله سبحانهُ {وللهِ على النّاس حِجُّ
البيت من استطاعَ إليه سبيلاً} ، وقولهِ {قُتِلَ أصحابُ الأخدودِ، النّارِ ذاتِ
الوَقود} .
والبَدَلُ المباينُ هو بدلُ الشيءِ مِمّا يُباينُهُ،
بحيثُ لا يكون مطابقاً لهُ، ولا بعضاً منه، ولا يكونُ المُبدَلُ منه مُشتملاً
عليه. وهو ثلاثةُ أنواعٍ بدَلُ الغَلَطِ، وبَدلُ النسيان، وبدلُ الاضراب.
فبَدَلُ
الغلطِ ما ذكرَ ليكونَ بدلاً من اللفظ الذي سبقَ إليه اللسانُ، فذكرَ غلطاً،
نحو "جاءَ المعلِّمُ، التلميذُ" ، أردتَ أن تذكرَ التلميذ، فسبقَ لسانُكَ،
فذكرتَ المعلمَ غلطاً، فتَذكَّرتَ غَلَطَكَ، فأبدلتَ منه التلميذَ.
وبدلُ
النسيان ما ذُكرَ ليكونَ بدلاً من لفظٍ تَبيَّنَ لكَ بعدَ ذكرهِ فسادُ قصدهِ،
نحو "سافرَ عليٌّ إلى دِمَشقَ، بَعلبكَّ" ، توهمتَ أنه سافرَ إلى دمشقَ،
فأدرككَ فسادُ رأيك، فأبدلتَ بعلبكَّ من دمشقَ.
فبدلُ الغلطِ
يتعلَّقُ باللسانِ، وبدلُ النسيانِ يَتعلَّق بالجَنان.
وبَدلُ
الاضراب ما كان في جملةٍ، قصدُ كلٍّ من البلد والمُبدَل منه فيها صحيحٌ، غيرَ
أنَّ المتكلم عدلَ عن قصد المُبدَلِ منه إلى قصدِ البدل، نحو "خُذِ القلمَ،
الوَرَقةَ" ، أمرتَهُ بأخذ القلم، ثم أضربتَ عن الأمر بأخذهِ إلى أمرهِ بأخذ
الورقة، وجعلتَ الأوَّل في حكم المترُوك.
والبَدَلُ المُباينُ
بأقسامهِ لا يقعُ في كلامِ البُلغَاءِ. والبليغُ إن وقع في شيءٍ منها، أتى بين
البدل والمبدَل منه بكلمةِ "بَلْ" ، دلالةً على غلطهِ أو نسيانهِ أو
إِضرابه.
2- أَحكامٌ تَتَعَلَّقُ بالْبَدَل
1- ليسَ
بمشروطٍ أن يتطابَقَ البدلُ والمُبدَل منه تعريفاً وتنكيراً. بل لكَ أن تُبدِلَ
أيَّ النوعينِ شئتَ من الآخر، قال تعالى {إلى صراط مُستقيم، صراطِ الله} ،
فأبدلَ "صراط الله" ، وهو معرفةٌ، من "صراطٍ مُستقيم" ، وهو نكرة، وقالَ
"لنفسعاً بالناصيةِ، ناصيةٍ كاذبةٍ خاطئةٍ" ، فأبدلَ "ناصية" ، وهي نكرةٌ، منَ
"الناصية" ، وهي معرفةٌ. غيرَ أنه لا يَحسُنُ إِبدالُ النكرة من المعرفة إلا
إذا كانت موصوفةً كما رأيتَ في الآية الثانية.
2- يُبدَلُ الظاهرُ
من الظاهرِ، كما تقدَّمَ. ولا يُبدَلُ المُضمَر من المُضمَر. وأما مثلُ "قُمتَ
أنتَ. ومررتُ بكَ أنت" ، فهو توكيد كما تقدَّم.
ولا يُبدلُ المضمرُ
من الظاهر على الصحيح. قال ابنُ هشام وأمّا قولهم "رأيتُ زيداً أياهُ" ، فمِنْ
وضعِ النحويينَ، وليس بمسموع.
ويجوز إبدالُ الظاهر من ضميرِ الغائبِ
كقولهِ تعالى {وأسَرُّوا النّجوى، الذينَ ظلموا} فأبدلَ "الذينَ" من "الواو" ،
التي هي ضميرُ الفاعلِ. ومن ضمير المخاطبِ والمتكّلم، على شرط أن يكونَ بدلَ
بعضٍ من كلٍّ، أو بدلَ اشتمالٍ، فالأول كقوله تعالى {لَقد كانَ لكم في رسول
الله أسوةٌ حسنةٌ، لِمَنْ كان يَرجو اللهَ واليومَ الآخرَ} فأبدلَ الجارَّ
والمجرورَ، وهما "لِمن" من الجارّ والمجرورِ المُضمر وهما "لكم" وهو بدلُ بعضٍ
من كلٍّ، لأنَّ الأسوةَ الحسنةَ في رسولِ اللهِ ليست لكلِّ المخاطبين، بل هيَ
لمن كان يرجو اللهَ واليومَ الآخرَ منهم. والثاني كقولك "أعجبتني، علمُكَ" ،
فعلمُك بدلٌ من "التاءِ" ، التي هي ضميرُ الفاعل، وهو بدلُ اشتمال، ومنه قول
الشاعر [من الطويل]
بَلَغْنا السَّماءَ مَجْدُنا وسَناوُّنا ...
وإِنَّا لَنَرْجُو فَوْقَ ذلِكَ مَظْهرا
فأبدلَ "مجدنا" من "نا" ،
التي هي ضمير الفاعلِ، وهو بدلُ اشتمال أيضاً.
3- يُبدَلُ كلٌّ من
الاسمِ والفعلِ والجملة من مثله.
فإبدالُ الاسمِ من الاسمِ قد
تقدَّم.
وإبدالُ الفعل من الفعل كقوله تعالى {ومَنْ يفعلْ ذلكَ يَلق
أثاماً، يُضاعفْ له العذابُ} ، أبدل "يُضاعف" من "يلقَ" .
وإبدالُ
الجملة من الجملة كقوله تعالى أمَدَّكم بما تَعلمونَ، أمدَّكم
بأنعامٍ
وبنينَ ، فأبدل جملة "أمدَّكم بأنعامٍ وبَنينَ" من جملة "أمدَّكم بما تَعلمون"
.
وقد تُبدَلُ الجملةُ من المُفرَدِ، كقول الشاعر [من الطويل]
إِلى
اللهِ أَشْكُو بِالْمَدينَةِ حاجةً ... وبالشَّامِ أُخْرى، كَيْفَ
يَلْتَقِيانِ؟!
أبدلَ "كيفَ يَلتقيانِ" من حاجةٍ وأخرى، والتقديرُ
الإعرابيُّ "أشكون هاتينِ الحاجتينِ، تَعذُّرَ التقائهما" . والتقديرُ
المعنويُّ "أشكو إلى الله تَعَذُّرَ التقاءِ هاتينِ الحاجتينِ" .
4-
إذا أُبدِلَ اسمٌ من اسم استفهام، أو اسم شرط، وجب ذكرُ همزةِ الاستفهام، أو
"إن" الشرطيّةِ معَ البدلِ، فالأولُ نحو "كم مالُكَ؟ أعشرونَ أم ثلاثون؟. من
جاءَك؟ أعليٌّ أم خالد؟. ما صنعتَ؟ أخيراً أم شرًّا؟" . والثاني نحو "مَنْ
يَجتهدْ، إنْ عليٌّ، وإن خالدٌ، فأكرمهُ. ما تَصنعْ، إنْ خيراً، وإنْ شرًّا،
تُجزَ بهِ. حيثما تنتظرني، إنْ في المدرسة، وإن في الدَّار أُوافِك" .
(عَطفُ
البيانِ)
عطفُ البيانِ هو تابعٌ جامدٌ، يُشبهُ النّعتَ في كونه
يكشفُ عن المراد كما يكشفُ النّعتُ. ويُنزّلُ من المتبوع مَنزلةَ الكلمةِ
الموضّحة لكلمةٍ غريبةٍ قبلها، كقول الراجز "أقسمَ باللهِ أبو حَفصٍ عُمَر"
.
(فعمر عطف بيان على "أبو حفص" ، ذُكر لتوضيحه والكشف عن المراد
به، وهو تفسير له وبيان، وأراد به سيدنا عمر بن الخطاب، رضي الله عنه) .
وفائدته
إيضاحُ متبوعهِ، إن كان المتبوعُ معرفةً، كالمثال السابق، وتخصيصه إن كان
نكرةً، نحو "اشتريتُ حُلِيّاً سِواراً" . ومنه قولهُ تعالى "أو كفّارةٌ طَعامُ
مَساكينَ" .
ويجبُ أن يُطابقَ متبوعَهُ في الإعرابِ والإفرادِ
والتّثنيةِ والجمع والتّذكير والتأنيث والتعريفِ والتنكير.
ومن عطفِ
البيان ما يقعُ بعد "أَيْ وأنْ" التّفسيريتينِ. غيرَ أنَّ "أَيْ" تُفسّرُ بها
المُفرداتُ والجُمَلُ، و "أَنْ" لا يفسَّر بها إلا الجُمل المشتملةُ على معنى
القول دونَ أحرفهِ. تقول "رأيتُ ليثاً، أي أَسداً" و "أشرتُ إليهِ، أي اذهبْ" .
وتقولُ "كتبتُ إليهِ، أنْ عَجَّلْ بالحضور."
وإذا تضمّنتْ "إذا"
معنى "أي" التفسيريَّةِ، كانت حرفَ تفسيرٍ مثلها،
نحو "تقولُ
امتطيتُ الفرسَ إذا ركبتَه" . وسيأتي لهذا البحث فضلُ بيانٍ في باب الحروف.
أَحكامٌ
تَتَعَلَّقُ بِعَطْفِ البَيَان
1- يجبُ أن يكون عطفُ البيان أوضح من
متبوعهِ وأشهر، وإلا فهو بدلٌ نحو "جاءَ هذا الرجل" ، فالرجلُ. بدلٌ من اسم
الإشارة، وليس عطفَ بيان، لأنَّ اسمَ الإشارةِ أوضح من المعرَّف بأل. وأجازَ
بعضُ النّحويين أن يكونَ عطفَ بيان، لأنهم لا يشترطون فيه أن يكون أوضعَ من
المتبوع. وما هو بالرأي السديد، لأنه إنما يُؤتى به للبيان والمبيِّنُ يجبُ أن
يكونَ أوضحَ من المُبيَّن.
2- الفرقُ بين البدلِ وعطف البيان أنَّ
البدلَ يكونُ هو المقصودَ بالحكم دُون المُبدلِ منه. وأمّا عطفُ البيان فليس هو
المقصودَ، بل إنَّ المقصود بالحُكم هو المتبوعُ، وإنما جيءَ بالتابع (أي عطف
البيان) تَوضيحاً له وكشفاً عن المراد منه.
3- كلُّ ما جازَ أن
يكونَ عَطفَ بيانٍ جازَ أن يكونَ بدلَ الكلِّ من الكلِّ، إذا لم يُمكن
الاستغناءُ عنه أو عن متبوعهِ، فيجبُ حينئذٍ أن يكون عطفَ بيان. فمثالُ عدمِ
جواز الاستغناء عن التابع قولكَ "فاطمةُ جاء حسينٌ أخوها" ، لأنكَ لو حذفتَ
"أخوها" من الكلام لفسد التركيبُ. ومثالُ عدَم جواز الاستغناءِ عن المتبوعِ
قولُ الشاعر [من الوافر]
أَنا بانُ التَّارِكِ الْبَكْرِيِّ بِشْرٍ
... عَلَيْهِ الطَّيْرُ تَرْقُبُهُ وقُوعا
فبشر عطفُ بيانٍ على
"البكري" ، لا بدلٌ منه، لأنكَ لو حذفت
المتبوعَ، وهو "البكري" لوجب
أن تضيفَ "التّارك" إلى "بشر" ، وهو ممتنعٌ، لأنّ إضافةَ ما فيه "ألْ" إذا كان
ليس مُثنى أو مجموعاً جمعَ مذكرٍ سالماً، إلى ما كان مُجرَّداً عنها غيرُ
جائزة، كما علمتَ في مبحث الإضافة.
ومن ذلك قول الآخر [من
الطويل]
أَيا أَخَوَيْنا، عَبْدَ شَمْسٍ ونَوْفَلاً ... أُعِيذُ
كُما بِاللهِ أَنْ تُحْدِثا حَربا
فعبدَ شمس معطوفٌ على "أخوينا"
عطفَ بيان، و "نوفلاً" معطوف بالواو على "عبد شمس" ، فهو مثله عطف بيان. ولا
تجوزُ البدليَّةُ هنا، لأنه لا يُستغنى عن المتبوع، إذ لا يصحُّ أن يقال "أيا
عبدَ شمسٍ ونوفلاً" ، بل يجبُ أن يقال "ونوفلُ" بالنباءِ على الضم، لأن المنادى
إذا عُطف عليه اسمٌ مُجرَّد من "ألْ" والإضافة، وجبَ بناؤه، لأنك إن ناديتَهُ
كان كذلك، نحو "يا نوفلُ" . كما عرفتَ ذلك في مبحث "أحكام توابع المنادى" .
ومن
ذلكَ أن تقول "يا زيدُ الحارث" . فالحارث عطفُ بيان على "زيد" . ولا يجوز أن
يكون بدلاً منه، لأنك لو حذفتَ المتبوع، وأحللتَ التابعَ محلَّهُ، لقلتَ "يا
الحارثُ" . وذلك لا يجوز، لأنَّ "يا" و "أل" لا يجتمعان إلا في لفظ الجلالة.
4-
يكونُ عطفُ البيان جملةً، كقوله تعالى فَوَسوسَ إليه الشيطانُ
قال
يا آدمُ هل أدُلُّك على شجرةِ الخُلدِ ومُلكٍ لا يَبلَى ، فجملةُ "قال يا آدمُ
هل أدُلُّك" عطفُ بيان على جملة "فوسوَس إليه الشيطان" . وقد منعَ النُّحاة
عطفَ البيانِ في الجُمل، وجعلوه من باب البدل. وأثبتهُ علماء المعاني، وهو
الحقُّ. ومنه قولهُ تعالى أيضاً {ونُودُوا أن تِلكُمُ الجنةُ} ، فجملة "أن
تلكُمُ الجنةُ" عطف بيانٍ على جملة "نُودوا" .
(المعطوفُ بالحرف)
المعطوفُ
بالحرف هو تابعٌ يتوسّط بينه وبينَ متبوعه حرفٌ من أحرف العطفِ، نحو "جاءَ
عليٌّ وخالدٌ. أكرمتُ سعيداً ثم سليماً" . ويُسمّى العطفُ بالحرف "عَطفَ
النَّسَقِ" أيضاً.
وفيه ثلاثةُ مباحث
1- أَحْرُفُ
العَطْفِ
احرفُ العَطفِ تسعةٌ. وهي "الواو والفاءُ وثُمَّ وحتى وأَو
وأَم وبَلْ ولا ولكنْ" .
فالواوُ والفاءُ وثمَّ وحتَّى تُفيدُ
مشاركةَ المعطوفِ للمعطوف عليه في الحُكم والإعرابِ دائماً.
وأَو،
وأَمْ، إن كانتا لغير الإضراب على المعطوفِ عليه إلى المعطوف، فكذلك، نحو "خُذ
القلمَ أو الورقةَ" ، ونحو "أخالدٌ جاءَ أم سعيدٌ؟" . وإن كانتا للاضرابِ فلا
تفيدانِ المشاركةَ بينهما في المعنى، وإنما هما التَّشريك في الإعراب فقطْ، نحو
"لا يَذهبْ سعيدٌ أو لا يَذهبْ"
خالدٌ "، ونحو" أذهبَ سعيدٌ؟! أم
أذهبَ خالدٌ؟ "."
وبَل تُفيدُ الاضرابَ والعدولَ عن المعطوف عليه
إلى المعطوف، نحو "جاءَ خالدٌ، بَل عليٌّ" .
ولكنْ تُفيدُ
الاستدراكَ، نحو "ما جاءَ القومُ، لكنْ سعيدٌ" .
ولا تفيدُ معَ
العطفِ نفيَ الحكم عمّا قبلها وإثباتَهُ لِمَا بعدَها نحو "جاءَ عليٌّ لا
خالدٌ" .
2- مَعاني أَحرُفِ الْعَطْفِ
1- الواو تكونُ
للجمع بين المعطوفِ والمعطوف عليه في الحُكم والاعرابِ جمعاً مطلقاً، فلا
تُفيدُ ترتيباً ولا تعقيباً. فإذا قلتَ "جاءَ عليٌّ وخالدٌ" ، فالمعنى أنهما
اشتركا في حكم المجيء، سواءٌ أكان عليٌّ قد جاءَ قبل خالد، أم بالعكس، أم جاءَا
معاً، وسواءٌ أكان هناك مُهلةٌ بين مجيئهما أم لم يكن.
2- الفاءُ
تكونُ للترتيب والتعقيب. فإذا قلتَ "جاء عليّ فسعيدٌ" . فالمعنى أنَّ عليّاً
جاءَ أوَّلُ، وسعيداً جاءَ بعدَهُ بلا مُهلةٍ بينَ مجيئهما.
3- ثمَّ
تكون للتَّرتيبِ والتَّراخي. فإذا قلتَ "جاءَ عليٌّ ثمَّ سعيدٌ" ، فالمعنى أن
"عليّاً" جاءَ أولُ، وسعيداً جاءَ بعدهُ، وكان بينَ مجيئهما مُهلة.
4-
حتى العطفُ بها قليلٌ. وشرطُ العطفِ بها أن يكونَ المعطوفُ اسماً ظاهراً، وأن
يكون جزءاً من المعطوف عليهِ أو كالجزء منه، وأن يكون أشرفَ من المعطوف عليه أو
أخسَّ منه، وأن يكونَ مفرداً لا جملةً، نحو
"يموتُ الناسُ حتى
الأنبياءُ. غلبكَ الناسُ حتى الصبيانُ. أعجبني عليٌّ حتى ثوبُهُ" .
واعلم
أنَّ "حتى" تكونُ أيضاً حرف جرّ، كما تقدم. وتكون حرف ابتداء، فما بعدها جملةٌ
مُستأنفة، كقول الشاعر [من الطويل]
فَما زالَت الْقَتْلى تَمُجُّ
دِماءَها ... بِدِجْلَةَ، حَتَّى ماءُ دِجْلَةَ أَشْكَلُ
5- أو إن
وقعت بعدَ الطَّلب، فهي إمّا للتَّخيير، نحو "تَزوَّجْ هنداً أو أختها" ، وإما
للاباحة، نحو "جالس العلماءَ أو الزُهّادَ" . وإما للاضراب، نحو "إذهبْ إلى
دِمَشقَ، أو دَع ذلكَ، فلا تَذهب اليومَ" ، أي بَلْ دَعْ ذلك، أُمرتَهُ
بالذهاب، ثمَّ عدلتَ عن ذلك.
والفرق بينَ الإباحة والتَّخيير، أن
الاباحةَ يجوز فيها الجمعُ بين الشيئين، فإذا قلتَ "جالس العلماءَ أو
الزُّهّادَ" ، جاز لك الجمعُ بين مجالسةِ الفريقينِ، وجاز أن تُجالسَ فريقاً
دُون فريق. وأما التّخييرُ فلا يجوزُ فيه الجمعُ بينهما، لأن الجمعَ بينَ
الأختين في عقد النكاح غير جائز.
وإن وقعت "أو" بعد كلامٍ خبريٍّ،
فهي إمّا للشّك، كقوله تعالى {قالوا لبِثنا يوماً أو بعَض يومٍ} ، وإمّا
للابهام، كقوله عزَّ وجل {وإنا وإياكم لَعلَى هُدًى أو في ضلالٍ مُبين} . ومنه
قولُ الشاعر [من الخفيف]
نَحْنُ أَوْ أَنْتُمُ الأُلى أَلِفُوا
الحَقَّ ... فُبُعْداً لِلمُبْطِلينَ وَسُحْقا
وإما للتقسيم، نحو
"الكلمةُ أسمٌ أَو فعلٌ أو حرفٌ" ، وإِمّا للتّفصيل
بعدَ الإجمال،
نحو "اختلفَ القومُ فيمن ذهب، فقالوا ذهب سعيدٌ أَو خالدٌ أو عليٌّ" . ومنه
قولهُ تعالى {قالوا ساحرٌ أو مجنونٌ} أي بعضُهم قال كذا، وبعضهم قال كذا. وإمّا
للاضراب بمعنى "بل" ، كقوله تعالى {وأرسلناهُ إلى مِئَة ألفٍ، أو يزيدونَ} . أي
بل يزيدون، ونحو "ما جاءَ سعيد، أو ما جاء خالدٌ" .
6- أم على نوعين
مُتّصلةٍ ومنقطعة.
فالمتصلةُ هي التي يكونُ ما بعدَها متّصلاً بما
قبلَها، ومشاركاً له في الحكم وهي التي تقعُ بعدَ همزةِ الاستفهام أو همزةِ
التسويةِ، فالأولُ كقولك "أَعليٌّ في الدار أم خالدٌ؟" ، والثاني كقوله تعالى
{سواءٌ عليهم أَأَنذَرتَهُم أَم لم تُنذِرهم} . وإنما سُميت متصلةً لأنَّ ما
قبلَها وما بعدَها لا يستغنى بأحدهما عن الآخر.
و "أم" المنقطعةُ هي
التي تكونُ لقطعِ الكلام الأول واستئناف ما بعدَه. ومعناها الإضرابُ، كقوله
تعالى {هل يستوي الأعمى والبصيرُ؟ أم هل تستوي الظُّلماتُ والنُّورُ؟ أم جعلوا
للهِ شُرَكاء} . والمعنى "بل جعلوا لله شركاء" ، قال الفرَّاءُ "يقولون هل لكَ
قِبَلنا حقٌّ؟ أم أنتَ رجلٌ ظالمٌ" يريدون "بل أنت رجلٌ ظالمٌ" وتارة تَتضمَّنُ
معَ الإضراب استفهاماً إنكاريّاً، كقوله تعالى {أَم لهُ البناتُ ولكمُ
البَنون؟} . ولو قَدَّرت "أم" في هذه الآية للاضراب المحضِ، من غير تَضَمُّنِ
معنى الانكار، لزمَ المُحال.
7- بَل تكونُ للاضراب والعُدول عن شيءٍ
إلى آخرَ، إن وقعت بعدَ كلام مُثبَتٍ، خبراً أَو أَمراً، وللاستدراك بمنزلة
"لكنْ" ، إن وقعت بعدَ نفيٍ أو نهي.
ولا يُعطَفُ بها إلا بشرط أَن
يكونَ معطوفُها مفرداً غيرَ جملةٍ.
وهي، إن وقعت بعدَ الإيجاب أو
الأمرِ، كان معناها سَلبَ الحكم عما قبلَها، حتى كأنهُ مسكوتٌ عنه، وجعلَهُ
لِمَا بعدَها، نحو "قام سليمٌ، بل خالدٌ" ونحو "لِيَقُمْ عليٌّ. بل سعيدٌ" .
وإن
وقعت بعد النفي أو النهي، كان معناها إثباتَ النفي أو النّهي لِمَا قبلها وجعلَ
هذه لِمَا بعدَها، نحو "ما قام سعيدٌ بل خليلٌ" ، ونحو "لا يَذهبْ سعيدٌ بل
خليلٌ" .
فإن تلاها جملةٌ لم تكن للعطفِ، بل تكونُ حرفَ ابتداءٍ
مُفيداً للاضراب الإبطالي أو الإضراب الانتقالي. فالأولُ كقولهِ تعالى {وقالوا
اتَّخذَ الرحمنُ ولداً، سبحانَهُ، بَل عِبادٌ مُكرَمُون} ، أي بل هُم عبادٌ،
وقولهِ {أو يقولونَ بهِ جِنَّةٌ، بل جاءهم بالحق} . والثاني كقولهِ تعالى {قد
أَفلحَ من تَزكّى، وذكرَ اسمَ رَبهِ فَصَلَّى، بل تُؤثرونَ الحياةَ الدُّنيا} ،
وقولهِ {وَلدَينا كتابٌ يَنطِقُ بالحق وهُم لا يُظلمونَ، بل قُلُوبهم في غَمرة}
.
وقد تُزادُ قبلها "لا" ، بعد إثباتٍ أَو نفيٍ، فالأولُ كقول
الشاعر [من الخفيف]
وَجْهُكِ الْبَدْرُ، لا، بل الشَّمْسُ، لوْ لَمْ
... يُقْضَ لِلشَّمْسِ كَسْفَةٌ أو أُفولُ
والثاني كقول الآخر [من
البسيط]
وَما هَجَرْتُكِ، لا، بَلْ زادَني شَغَفاً ... هَجَرٌ
وبُعْدُ تُراخٍ لا إِلى أجلِ
8- لكن تكونُ للاستدراكِ، بشرطِ أَن
يكون معطوفُها مُفرداً، أي
غيرَ جُملة، وأن تكونَ مسبوقةً بنفي أو
نهي، وأن لا تقترنَ بالواو، نحو "ما مررتُ برجلٍ طالحٍ، لكنْ صالحٍ" ، ونحو لا
يَقُمْ خليلُ، لكنْ سعيدٌ ". فإن وقعت بعدَها جملةٌ، أو وقعت هي بعدَ الواو،
فهي حرفُ ابتداءٍ، فالأول كقول الشاعر [زهير بن أبي سلمى - من البسيط] "
إنَّ
ابنَ وَرْقاءَ لا تُخْشى بَوادِرُهُ ... لكِنْ وَقائِعُهُ في الحَرْبِ
تُنتَظَرُ
والثاني كقولهِ تعالى {ما كانَ محمد أبا أحدٍ من رجالكم،
ولكن رسولَ اللهِ وخاتمَ النّبيينَ} ، أي لكنْ كان رسولَ الله. فرسول منصوبٌ
لأنه خبر "كان" المحذوفة، وليس معطوفاً على "أبا" . وكذلك إن وقعت بعد الإيجاب،
فهيَ حرفُ ابتداءٍ أيضاً، مثلُ "قامَ خليلٌ، لكنْ عليٌّ" ، فعليٌّ مبتدأ محذوفُ
الخبر، والتقديرُ "لكنْ عليٌّ لم يَقُم" .
وهيَ بعدَ النفي والنهي
مثلُ "بَلْ" معناها إثباتُ النفي أَو النهي لِمَا قبلَها وجَعلُ ضِدّهِ لِما
بعدَها.
9- لا تُفيدُ معَ النفي العطفَ. وهيَ تُفيدُ إثباتَ الحُكمِ
لِما قبلَها ونَفيَهُ عمّا بعدَها. وشرطُ معطوفها أن يكون مفرداً، أي غيرَ
جملة، وأَن يكون بعدَ الإِيجابِ أو الأمرِ، نحو "جاءَ سعيدٌ لا خالدٌ" ، ونحو
خذِ الكتاب لا القلمَ "."
وأثبتَ الكوفيُونَ العطفَ بليس، إن وقعت
موقعَ "لا" ، نحو "حُذ الكتابَ ليس القلمَ" . وعليه قولُ الشاعر [من الرجز]
أينَ
المَفرُّ؟ وَالإِلهُ الطَّالِبُ ... وَالأَشْرَمُ الْمَغْلُوبُ لَيْسَ
الْغالِبُ
(فليس هنا حرف عطف. والغالب معطوف على المغلوب. ولو كانت
هنا فعلاً ناقصاً لنصب الغالب على أنه خبرٌ لها) .
3- أحكامٌ
تَتَعَلَّقُ بِعَطْفِ النَّسَق
1- يُعطَفُ الظاهرُ على الظاهر، نحو
"جاءَ زُهيرٌ وأُسامةُ" والمُضمَرُ على المُضمَر؛ نحو "أنا وأنتَ صديقان" ،
ونحو "أَكرمتُهم وإيّاكم" ، والمَضمَرُ على الظاهر، نحو "جاءَني علىٌّ وأَنتَ"
، ونحو "أكرمتُ سليماً وإيّاك" ، والظاهرُ على المُضمر، نحو "ما جاءَني إلا
أنتَ وعلي" ونحو "ما رأيتُ إلا إياك وعليّاً" . غيرَ أنَّ الضميرَ المتّصِل
المرفوعَ، والضميرَ المستترَ، لا يَحسُنُ أن يُعطَف عليهما إلا بعد توكيدهما
بالمضير المنفصل، نحو "جئتُ أنا وعليٌّ" ، ومنه قوله تعالى {إذهب أنتَ
ورَبُّكَ} . ويجوزُ العطفُ عليهما أيضاً إذا كان بينَهما فاصلٌ أيُّ فاصلٍ،
كقوله تعالى {يَدخلونها ومَنْ صَلَحَ} ، وقولهِ {ما أشركنا ولا آباؤنا} ، فقد
عطفَ "مَنْ" ، في الآية الأولى، على الواو في "يدخلونها" ، لوجود الفاصل، وهو
"ها" ، التي هيَ ضميرُ المفعول به، وعطفَ "آباء" ، في الآية الثانية، على "نا"
في "أشركنا" ، لوجود الفاصل، وهو "لا" ، وذلك جائز.
أمّا العطفُ على
الضميرِ المجرور، فالحقُّ أنه جائزٌ، ومنه قوله تعالى {وكفرٌ بهِ والمسجدِ
الحرام} . وقُريءَ في بعض القراءَات السّبعِ {واتَّقُوا الله لاذي تساءَلونَ به
والأرحامِ} ، بالجرِّ عطفاً على الهاء. والكثيرُ إعادةُ الجارِّ كقوله تعالى
{فقال لها وللأرض ائتِيا طَوْعاً وكَرْهاً} ، ونحو "أحسنت إليكَ وإلى عليٍّ" ،
ونحو "أكرمتُ غلامَكَ وغلامَ سعيدٍ" .
2- يُعطَفُ الفعلُ على الفعل،
بشرطِ أن يَتّحدا زماناً، سواءٌ اتحدا نوعاً، كقوله تعالى {وإن تُؤْمنوا
وتتّقوا يُؤتِكُمُ أُجُورَكم} ، أم اختلفا، نحو "إن تَجيء أكرمتُك وأُعطِك ما
تريد" .
3- يجوزُ حذفُ الواو والفاء مع معطوفهما إذا كان هناك
دليلٌ، كقوله تعالى {أن اضرِبْ بعصاكَ الحجَر، فانبجستْ} ، أي فضرَبَ فانبجست،
وقولِ الشاعر [من الطويل]
فَما كانَ بَيْنَ الخَيْرِ، لَوْ جاءَ
سالِماً ... أبو حَجَرٍ، إِلاَّ لَيالٍ قَلائِلُ
أي "بين الخير
وبيني" .
4- تختصُّ "الواوُ" من بينِ سائر أخواتها بأنها تَعطفُ
اسماً على اسم لا يكتفي به الكلامُ، نحو "اختصمَ زيدٌ وعمرٌو. اشتركَ خالدٌ
وبكرٌ. جلست بينَ سعيدٍ وسليمٍ" ، فإنَّ الاختصامَ والاشتراكَ والبَينيّة من
المعاني التي لا تقومُ إلا باثنينِ فصاعداً. ولا يجوزُ أن تقعَ الفاء ولا
غيرُها من أحرف العطف في مثل هذا المَوقع، فلا يقالث "اختصمَ زيدٌ فعمرٌو.
اشتركَ خالدٌ ثمَّ بكرٌ. جلستُ بينَ سعيدٍ أو سليمٍ" .
5- كثيراً ما
تقتضي الفاءُ معَ العطف معنى السّببيّة، إن كان المعطوف بها جملةً، كقوله تعالى
{فوَكزَهُ موسى، فقضَى عليهِ} [القصص: 15] .
(حروف المعاني)
الحرف
على ضربين: حرف مبنى، وحرف معنى.
فحرف المبنى: ما كان من بنية
الكلمة. ولا شأن لنا فيه.
وحرف المعنى: ما كان له معنى لا يظهر إلا
إذا انتظم في الجملة: كحروف الجر والاستفهام والعطف، وغيرها.
وهو
قسمان: عامل وعاطل.
فالحرف العامل: ما يحدث إعراباً (أي تغيراً) في
آخر غيره من الكلمات.
والحروف العاملة هي: حروف الجر، ونواصب
المضارع، والأحرف التي تجزم فعلاً واحداً، وإن وإذ ما (اللتان تجزمان فعلين) ،
والأحرف المشبهة بالفعل (التي تنصب الاسم وترفع الخبر) ولا النافية للجنس (التي
تعمل عمل "إن" ، فتنصب الاسم وترفع الخبر) وما ولا ولات وإن (المشبهات بليس في
العمل، فترفع الاسم وتنصب الخبر) . وقد سبق الكلام عليها.
والحرف
العاطل (ويسمى غير العامل أيضاً) : ما لا يحدث إعراباً في آخر غيره من الكلمات،
كهل وهلا ونعم ولولا، وغيرها.
(أنواع الحروف)
الحروفُ بحسب معناها، سواءٌ أكانت عاملةً أم عاطلةً، واحد وثلاثون
نوعاً. وهي
1- أحرُفُ النَّفْي
وهي "لم ولمَّا" ،
اللَّتانِ تجزمانِ فعلاً مضارعاً واحداً، و "لن" ، التي تنصب الفعل المضارع، و
"ما وإنْ ولا ولاتَ" .
فما وإنْ تنفيانِ الماضي، نحو "ما جئتُ. إن
جاءَ إلا أنا" والحالِ نحو "ما أجلسُ. إن يجلس إلا أنا" .
وتدخلانِ
على الفعل، كما رأيتَ، وعلى الاسمِ، نحو "ما هذا بشراً. إن أحدٌ خيراً من أحدٍ
إلا بالعافية" .
و "لا" تنفي الماضي، كقوله تعالى {فلا صدَّقَ ولا
صَلّى} ، والمُستقبلَ كقوله {قُلْ لا أسألُكم عليهِ أجراً} .
و
"لاتَ" . خاصّةٌ بالدُّخولِ على "حين" وما أشبهَهُ من ظُروف الزمانِ، نحو
{ولاتَ حينَ مناصٍ} ، وكقول الشاعر "نَدِمَ البُغاةُ ولاتَ ساعةَ مَندَمٍ" وهي
بمعنى "ليسَ" .
2- أحرُفُ الجَواب
وهيَ "نَعَمْ وبَلى
وإي وأَجلْ وجَيرِ وإنَّ ولا وكلاَّ" .
ويُؤتى بها للدلالةِ على
جملة الجواب المحذوفة، قائمةً مَقامها. فإن قيلَ لكَ "أَتذهبُ؟" ، فقلتَ
"نَعَمْ" ، فالمعنى نَعَمْ أذهبُ. فنَعَمْ سادَّةٌ مَسَدَّ الجواب، وهو
"أَذهبُ" .
و "أَجلْ" بمعنى "نعَمْ" وهي مثلُها تكونُ تصديقاً
للمُخبر في أخبارهِ كأن يقولَ قائلٌ حضرَ الاستاذُ، فتقولُ نعَمْ، تُصدِّقُ
كلامهُ. وتكونُ لإعلامِ المُستخبر، كأن يُقالَ هلْ حضرَ الأستاذُ؟ فتقولُ
نَعَم. وتكونُ لِوَعدِ الطالبِ بما يَطلُبُ، كأن يقولَ لكَ الأستاذُ "اجتهِدْ
في دروسكَ" فتقول "نَعَم" ، تَعِدُهُ بما طلبَ منك.
و "أي" لا
تُستعمَلُ إلا قبل القسمِ، كقوله تعالى {قُلْ إي ورَبي إنَّهُ لَحَقٌّ} . "أي"
توكيد للقسم، والمعنى نعم وربي.
وبينَ "بَلى ونَعمْ وأَجل" فرقٌ.
فَبلى. تختصُّ بوقوعها بعدَ النّفي فتجعلُهُ إثباتاً، كقوله تعالى {زَعَمَ
الذينَ كفروا أَنْ لن يُبعَثوا، قُل بَلى ورَبي لَتُبعَثُنَّ} ، وقولهِ {أَلستُ
بِرَبّكُم، قالوا "بَلى" } ، أي بَلى أنتَ ربُّنا. بخلاف "نَعَمْ وأجلْ" فإنَّ
الجوابَ بهما يَتبعُ ما قبلَهما في إثباتهِ ونفيهِ، فإن قلتَ لرجلٍ "أَليسَ لي
عليكَ الفُ دِرهَمٍ؟" فإن قالَ "بَلَى" لزِمَهُ ذلكَ، لأنَّ المعنى "بَلى لَكَ
عليَّ ذلكَ" وإن قال "نَعَمْ" أَو "أَجلْ" لم يَلزمهُ، لأنَّ المعنى "نَعَم ليس
لكَ عليَّ ذلك" .
و "جَيْرِ" حرفُ جوابٍ، بمعنى "نَعَمْ" . وهو
مبنيٌّ على الكسر. وقد يُبنى على الفتح. والأكثرُ أن يقعَ قبلَ القَسم، نحو
"جيرِ لأفعلنَّ" ، أي
"نَعَم واللهِ لأفعلنَّ" . ومنهم من يجعله
اسماً، بمعنى "حقاً" قال الجوهريُّ في صَحاحه "قولهم جيرِ لآتينَّك، بكسر
الراءِ يمينٌ للعرب" بمعنى "حقاً" .
و "إنَّ" حرفُ جوابٍ، بمعنى
"نَعَمْ" ، يقال لك "هل جاءَ زُهَيرٌ؟" فتقولُ "إنَّهُ" ، قال الشاعر [من مجزوء
الكامل]
بَكَرَ العَواذلُ، في الصَّبُو ... حِ، يَلُمْنَني
وَأَلومُهُنَّهْ
وَيَقُلْنَ شَيْبٌ قَدْ عَلاَ ... كَ، وَقَدْ
كَبِرْتَ، فَقُلْتُ إِنَّهُ
والهاءُ، التي تلحقه، هي هاءُ السَّكت،
التي تُزادُ في الوقف، لا هاءُ الضمير ولو كانت هاءَ الضمير لثبتت في الوصل،
كما تثبتُ في الوقف. وليس الأمرُ كذلك، لأنك تحذفها إن وصلتَ، يقال لك "هل رجعَ
أُسامةُ؟" فتقولُ "إنّ" يا هذا، أي نعم، يا هذا قد رجع. وأيضاً قد يكون الكلام
على الخطاب أو التكلم، والهاءُ هذه على حالها، نحو "هل رجعتم؟" ، فتقولُ
"إنَّهُ" ، وتقولُ "هل نمشي؟" فتقول "إنَّهْ" . ولو كانت هذه الهاءُ هاءَ
الضمير، وهي للغيبة، لكان الكلامُ فاسداً.
و "إنَّ" ، الجوابيّةُ
هذه، منقولةٌ عن "إنَّ" المؤكدة، التي تنصبُ الاسمَ وترفع الخبر، لأن الجوابَ
تصديقٌ وتحقيق، وهما والتأكيد من باب واحد.
و "لا وكَلاَّ" تكونانِ
لنفي الجواب. وتُفيدُ "كَلاَّ" ، مع النفي، رَدعَ المُخاطبِ وزجرَهُ. تقولُ
لِمنْ يُزَيَّنُ لك السوء ويُغريكَ بإتيانهِ "كَلاَّ" ، أي لا أُجيبُكَ إلى
ذلك، فارتدعْ عن طلبك.
وقد تكونُ "كَلاَّ" بمعنى "حَقاً" ، كقولهِ
تعالى "كلاَّ، إنَّ الإنسانَ لَيَطغى أنْ رآه استغنى" .
3- حرفا
التفسير
وهُما "أيْ وأن" . وهُما موضوعانِ لتفسيرِ ما قبلهما، غيرَ
أنَّ "أيْ" تُفسَّرُ بها المُفرداتُ، نحو "رأيتُ ليثاً، أي أسداً" ، والجُمَلُ،
كقول الشاعر [من الطويل]
وَتَرْمينَني بالطَّرْفِ، أَيْ، أَنتَ
مُذْنِبٌ ... وَتَقْلينني، لكِنَّ إِيَّاكِ لا أَقلي
وأمّا "أنْ"
فتختصُّ بتفسير الجُمَلِ. وهي تقعُ بينَ جملتينِ، تتضمَّنُ الأولى منهما معنى
القولِ دونَ أحرفهِ، كقوله تعالى {فأوحينا إليه، ان اصنَعِ الفُلكَ} ، ونحو
"كتبتُ إليه، أنِ تحضرْ" .
4- أحرُفُ الشَّرْطِ
وهي "إنْ
وإذْ ما" الجازمتانِ، و "لَوْ ولولا ولوما وأمّا ولمَّا" . و "لَوْ" على
نوعين
1- أن تكونَ حرفَ شرطٍ لِمَا مضى، فتُفيدُ امتناعَ شيءٍ
لامتناعِ غيرهِ وتُسمّى حرفَ امتناع لامتناع، أو حرفاً لِما كانَ سيقعُ لوقوعِ
غيره. فإن قلتَ "لو جئتَ لأكرمتُكَ" ، فالمعنى قد امتنعَ إكرامي إياكَ لامتناع
مجيئك، لأنَّ الإكرامَ مشروطٌ بالمجيءِ ومُعلَّقٌ عليه. ولا يَليها إلا الفعلُ
الماضي صيغةً وزماناً، كقوله تعالى {ولو شاءَ رَبُّكَ لجعلَ الناس أُمةً
واحدةً} .
2- أن تكونَ حرفَ شرطٍ للمستقبل، بمعنى "إنْ" . وهي
حينئذٍ لا تُفيدُ الامتناع، وإنما تكون لمجرَّد ربطِ الجوابِ بالشرط، كإنْ،
إلاّ أنها غيرُ جازمةٍ مثلَها، فلا عملَ لها، والأكثرُ أن يَليها فعلٌ مُستقبلٌ
معنًى لا صيغةً، كقوله تعالى {وليَخشَ الذينَ لو تركوا من خلفهم ذُرِّيَّةً
ضعافاً خافوا عليهم} ، أي "إنْ يَتركوا" وقد يَليها فعلٌ مستقبلٌ معنًى وصيغةً
"لو تزورُنا لسُرِرنا بِلقائكَ" ، أي "إن تَزُرْنا" .
وتحتاجُ "لو"
بنوعيها إلى جواب، كجميع أجواتِ الشرطِ. ويجوزُ في جوابها أن يقترنَ باللام،
كقوله تعالى {لو كانَ فيهما آلهةٌ إلا اللهُ لفَسدَتا} ، وأن يتجرَّدَ منها،
كقوله تعالى {ولو نشاءُ جعلناهُ أُجاجاً} ، وقولهِ "ولو شاءَ رَبُّكَ ما
فعَلوهُ" . إلا أن يكون مضارعاً منفيّاً، فلا يجوزَ اقترانهُ بها، نحو "لو
اجتهدتَ لم تَندَم" .
و "لولا ولوما" ، حرفا شرطٍ بَدلانِ على
امتناعِ شيءٍ لوُجودِ غيرهِ. فإن قلتَ "لولا رحمةُ اللهِ لَهلَكَ الناسُ" و
"لَوما الكتابةُ لَضاعَ أكثرُ العلمِ" ، فالمعنى أنهُ امتنعَ هَلاكُ الناسِ
لوجودِ رحمةِ اللهِ تعالى، وامتنعَ ضياعُ أكثرِ العلم لوجود الكتابةِ.
وهما
تَلزَمانِ الدخولَ على المبتدأ والخبر، كما رأيتَ. غيرَ أَنَّ الخبرَ بعدهما
يُحذَفُ وجوباً في أكثرِ التراكيبِ. والتقديرُ "لولا رحمةُ اللهِ حاصلةٌ أو
موجودةٌ" و "لولا الكتابة حاصلة أو موجودة" .
وتحتاجانِ إلى جوابٍ،
كما تحتاجُ إليه "لو" . وحكمُ جوابهما كحكم جوابها، فيقترنُ باللام، كما رأيتَ،
أو يُجرَّدُ منها، نحو "لولا كرمُ أخلاقِكَ ما عَلَوَتَ" ، ويمتنعُ من اللام في
نحو
"لولا حُبُّ العلمِ لم أغتربْ" لأنهُ مضارع منفيٌّ.
و
"أمّا" بالفتح والتشديدَ، حرفُ شرطٍ يكونُ للتّفصيل أو التوكيد. وهي قائمةٌ
مَقامَ أَداةِ الشرط وفعلِ الشرط. والمذكورُ بعدَها جوابُ الشرط، فلذلك
تَلزَمُه فاءُ الجواب للرَّبط. فإن قلتَ "أمّا أنا فلا أقولُ غيرَ الحقِّ"
فالمعنى "مهما يكنْ من شيءٍ فلا أقولُ غيرَ الحقِّ" .
أمّا كونُها
للتفصيلِ فهو الأصلُ فيها، كقوله تعالى {فأمّا اليتيم فلا تقهَرْ، وأمّا السائل
فَلا تَنهَرْ، وأمّا بنعمةِ رَبِّكَ فحدِّثْ} .
وأمّا كونُها
للتأكيد، فنحوُ أن تقولَ "خالدٌ شجاعٌ" ، فإن أردتَ توكيدّ ذلكَ، وأنهُ لا
محالةَ واقعٌ، قلتَ "أمّا خالدٌ فشجاعٌ" . والأصلُ "مهما يكن من شيءٍ فخالدٌ
شجاع" .
و "لمّا" حرفُ شرطٍ، موضوعٌ للدلالةِ على وجودِ شيءٍ لوجودِ
غيرهِ. ولذلك تُسمّى حرفَ وُجودٍ لوجودٍ. وهي تختصُّ بالدخول على الفعل الماضي.
وتقتضي جُملتينِ، وُجِدَتْ أُخراهما عند وجود أولاهما. والأولى هي الشرطُ،
والأخرى هي الجوابُ، نحو "لمَّا جاءَ أكرمتُهُ" .
وتحتاج إلى جوابٍ،
لأنها في معنى أدواتِ الشرط. ويكونُ جوابها فعلاً ماضياً، كما رأيتَ، أو جملةً
اسميّةً مقرونةً بإذ الفجائيّة، كقوله تعالى {فلمّا نجّاهم إلى البَرِّ إذا هم
يشركونَ} ، أو بالفاءِ، كقوله تعالى {فلمّا نجاهم إلى البرِّ فمنهم مُقتصدٌ}
.
ومن العلماءِ من يجعلها ظرفاً للزمان بمعنى "حين" ، ويضيفها إلى
جُملةِ الشرطِ وهو المشهورُ بينَ المُغرِبينَ، والمحقِّقُونَ على أنها حرفٌ
للرَّبط.
5- أَحرُفُ التَّخْضيضِ وَالتَّنْديمِ
وهي
"هَلاّ وأَلاّ ولوما ولولا وألا" .
والفرقُ بينَ التحضيضِ
والتّنديمِ، أنَّ هذه الأحرفَ، إن دخلت على المضارع فهيَ للحضِّ على العملِ
وتركِ التهاوُنِ به، نحو "هَلاّ يرتدعُ فلانٌ عن غيِّه. أَلاَّ تَتُوبُ من
ذنبِك. لولا تستغفرونَ اللهَ. لوما تأتينا بالملائكة. {ألا تُحبُّون أن يغفرَ
اللهُ لكم} " . وإن دخلت على الماضي كانت لجعلِ الفاعلِ يندَمُ على فواتِ الأمر
وعلى التّهاون به، نحو "هلاّ اجتهدتَ" ، تُقرِّعهُ على إهمالهِ، وتُوبِّخهُ على
عدَم الاجتهاد، فتجعلُهُ يندَمُ على ما فَرَّطَ وضيَّع. ومنهُ قوله تعالى
{فلولا نَصَرَهمُ الذينَ اتخذوا من دُونِ اللهِ قُرَناءَ آلهةً} .
6-
أحرُفُ العَرْضِ
العَرضُ الطَّلبُ بلينٍ ورفقٍ، فهو عكسُ التّحضيض،
لأنَّ هذا هو الطلبُ بشدَّةٍ وَحثٍّ وإزعاجٍ.
وأحرفهُ هيَ "ألا
وأمَا ولوْ" ، نحو "ألا تَزُورُنا فنَأنس بكَ. أما تَضِيفُنا فتلقى فينا أهلاً.
لو تُقيم بيننا فتُصيبَ خيراً" .
وقد تكونُ "أمَا" تحقيقاً للكلام
الذي يَتلوها، فتكونُ بمعنى "حَقاً" ، "أمَا إنَّهُ رجلٌ عاقلٌ" تعني أنهُ
عاقلٌ حقاً.
7- أحرُفُ التَّنبيهِ
وهيَ "أَلا وأمَا وها
ويا" .
فـ "ألا وأمَا" يُستفتَحُ بهما الكلامُ، وتُفيدانِ تنبيهَ
السامع إلى ما
يُلقى إليه من الكلامِ. وتُفيدُ "ألا" ، معَ التنبيه،
تَحقُّقَ ما بعدَها، كقوله تعالى {أَلا إِنَّ أَولياءَ اللهِ لا خوفٌ عليهم ولا
هم يحزنون} .
واعلم أنَّ "أَلا وأَمَا" . معناهما التنبيهُ،
ومكانُهما مُفتتَحُ الكلام.
و "ها" حرفٌ موضوعٌ لتنبيهِ المُخاطَب.
وهو يدخلُ على أربعة أشياء
1- على أسماءِ الإشارةِ الدَّالةِ على
القريب، نحو "هذا وهذه وهذَين وهاتَينِ وهؤلاء" ، أو على المتوسطِ، إن كان
مُفرداً، نحو "هذاكَ" . أمّا على البعيدِ فلا.
ويجوزُ الفصلُ بينهما
بكافِ التشبيهِ، كقوله تعالى {فلمّا جاءَت قيل أهكذا عَرشُكِ؟} ، وبالضميرِ
المرفوعِ، كقولهِ {ها أنتم أُولاءِ} ، ونحو "ها أنا ذا. ها أنتما ذانِ. ها أنتِ
ذي" .
2- على ضميرِ الرفع، وإن لم يكن بعدَهُ اسمُ إشارةٍ، كقول
الشاعر [من الطويل]
فَها أَنا تائِبٌ مِن حُبِّ لَيْلى ... فَما
لَكَ كُلَّما ذُكِرَتْ تَذوبُ؟!
غيرَ أنها، إن دخلت على ضمير الرفع،
فالأكثرُ أن يَليَهُ اسمُ الاشارةِ، نحو "ها أنا ذا. ها نحنُ أُولاءِ. ها أنتم
أُولاءِ. ها هو ذا. ها هما ذانِ. ها هم أُولاءِ. ها أنتما تانِ يا امرأتانِ"
.
3- على الماضي المقرون بِقد، نحو "ها قد رجعتُ" .
4-
على ما بعدَ "أيٍّ" في النداءِ، كقوله تعالى يا أيُّها الإنسانُ ما غَرَّكَ
بربكَ الكريم. يا أيّتُها النفسُ المُطمئنَةُ ارجعي إلى ربكِ راضيةً
مرضيّةً
وهي تلزمُ في هذا الموضع وجوباً، للتبيهِ على أنَّ ما بعدَها هو المقصودُ
بالنداءِ.
و "يا" أصلُها حرفُ نداءٍ. فإن لم يكن بعدَها مُنادىً،
كانت حرفاً يُقصَدُ بهِ تنبيهُ السامع إلى ما بعدها. وقيلَ إن جاءَ بعدها فعلُ
أمرٍ فهي حرفُ نداءٍ، والمنادَى محذوفٌ، كقولهِ تعالى {أَلا يا اسجُدوا} ،
والتقديرُ "ألا يا قومُ اسجدوا" .وإلا فهيَ حرفُ تنبيه، كقوله {يا ليتَ قومي
يعلمون} ، وكحديث "يارُبَّ كاسيةٍ في الدنيا عاريةٌ يوم القيامَةِ" . ومنه قول
الشاعر [من البسيط]
يا لَعْنَةُ اللهِ وَالأَقْوامِ كُلِّهِمِ ...
وَالصَّالحِينَ عَلى سَمْعانَ مِنْ جارِ
والحقُّ أنها حرفُ تنبيهٍ
في كلِّ ذلك.
8- الأَحْرُفُ الْمَصْدَرِيَّةُ
وتسمّى
الموصولاتِ الحرفيّة أَيضاً وهي التي تجعلُ ما بعدَها في تأويل مصدر. وهي "أَنْ
وأَنًَّ وكي وما ولو وهمزةُ التّسوية" ، نحو "سرَّني أَن تُلازمَ الفضيلةَ.
أُحِبُّ أنكَ تجتنبُ الرَّذيلةَ. إرحمْ لكي تُرحَمَ. أَوَدُّ لو تجتهدُ.
{واللهُ خلقكُم وما تعملون} . {سواءٌ عليهم أَأَنذرتهم أم لم تُنذِرهم} " .
والمصدر
المؤولُ بعدها يكونُ مرفوعاً أَو منصوباً أَو مجروراً، بحسب العاملِ قبلَهُ.
(ففي
المثال الأول مرفوع، لأنه فاعل. وفي المثال الثاني منصوب،
لأنه
مفعول به. وفي المثال الثالث مجرور باللام. وفي المثال الرابع منصوب أيضاً،
لأنه مفعول به. وفي المثال الخامس منصوب أيضاً، لأنه معطوف على كاف الضمير في
"خلقكم" المنصوبة محلاً، لأنها مفعول به. وفي المثال السادس مرفوع، لأنه مبتدأ
خبره مقدَّم عليه، وهو سواء) .
وتكونُ "ما" مصدريةً مجرَّدةً عن
معنى الظرفيّةِ، نحو "عَدِبتُ مما تقولُ غيرَ الحقِّ" ، أَي "من قولك غيرَ
الحقِّ" . وتكون مصدريةً ظرفيّةً، كقوله تعالى {وأَوصاني بالصلاةِ والزَّكاةِ
ما دُمتُ حيّا} ، أَي "مُدَّةَ دَوامي حَيّاً" . فَحُذِفَ الظَّرفُ وخَلَفتهُ
"ما" وصِلَتُها. ويكونُ المصدرُ المؤوَّلُ بعدها منصوباً على الظَّرفيّة،
لقيامهِ مقامَ المُدَّةِ المحذوفةِ (وهوَ الأحسنُ) ، أَو يكون في موضع جَرٍّ
بالإضافة إلى الظّرف المحذوفِ.
وأَكثرُ ما تقعُ "لو" بعدَ "وَدَّ
وَيوَدُّ" ، كقوله تعالى {وَدُّوا لو تُدهِنُ فَيُدهنونَ} . {يَوَدُّ أحدُهم لو
يُعمّرُ أَلفَ سنةٍ} . وقد تقعُ بعد غيرهما كقول قُتَيلةَ [من الكامل]
ما
كانَ ضَرَّكَ لَوْ مَنَنتَ، وَرُبَّما ... مَنَّ الْفَتى وَهُوَ المَغِيظُ
المُخْنَقُ
أَي ما كان ضَرَّكَ مَنُّكَ عليه بالعفو.
9-
أَحرُفُ الاستِقْبال
وهي "السينُ، وسوفَ، ونواصبُ المضارعِ، ولامُ
الأَمرِ، ولا الناهية وإنْ، وإِذْ ما الجازمتان" .
فالسينُ وسوفَ
تختصّانِ بالمضارعِ وتَمحضانهِ الاستقبالَ، بعدَ أن كان يحتملُ الحالَ
والاستقبالَ، كما أَنَّ لامَ التأكيدِ تُخلِصُهُ للحالِ، نحو "إنَّ سعيداً
لَيَكتبُ" .
والسينُ تُسمّى حرفَ استقبال، وحرفَ تنفيسٍ (أَي
توسيعٍ) ، لأنها تَنقُلُ المضارعَ من الزمان الضيّقِ، وهو الحالُ؛ إلى الزمانِ
الواسعِ وهو الاستبقال. وكذلك "سوفَ" ، إلا أَنها أَطولُ زماناً من السين،
ولذلك يُسمُّونها "حرفَ تسويفٍ" ، فتقولُ "سَيَشِبُّ الغلامُ، وسوفَ يَشيخُ
الفتى" ، لِقُربِ زمان الشبابِ من الغلام وبُعدِ زمان الشيخوخةِ من الفتى.
ويجبُ
التصاقُهما بالفعلِ، فلا يجوزُ أن يَفصلَ بَينَهما وبينه شيءٌ.
وإذا
أردتَ نفيَ الاستبقالِ أَتيتَ بِلا، في مُقابلة "السين" ، وبِلَنْ، في مقابلة
"سوف" ، نحو "لا أفعلُ" ، تَنفي المستقبل القريب، ونحو "لن أَفعلَ" ، تنفي
المستقبلَ البعيد.
ولا يجوزُ أن يُؤتى بسوفَ و "لا" معاً، ولا بسوفَ
و "لن" معاً، فلا يُقالُ "سوفَ لا أفعلُ" ولا "سوف لن أفعلَ" كما يقولُ كثيرٌ
من الناسِ، وبينهم جَمهَرةٌ من كتّابِ العصر.
10- أحْرُفُ
التَّوْكيد
وهي "إنَّ، وأَنَّ، ولامُ الابتداءِ، ونونا التوكيدِ،
واللامُ التي تقع في جواب القسَم، وقد" .
و "نونا التوكيد" إحداهما
ثقيلةٌ والأخرى خفيفةٌ. وقد اجتمعتا في قوله تعالى {ليُسجَننْ وَليَكُوناً من
الصّاغرين} .
ولا يُوكّدُ بهما إلا فعلُ الأمر، نحو "تَعلّمَنَّ" ،
والمضارعُ المُستقبلُ الواقعُ بعدَ أداةٍ من أَدواتِ الطلبِ، ونحو "لِنجتهدَنَّ
ولا نكسلَنَّ" ، والمضارعُ الواقعُ شرطاً بعدَ "إن" المؤكّدةِ بما الزائدة،
كقوله تعالى {فإمَّا يَنزَغَنَّكَ من الشيطانِ نزغٌ فاستعِذْ باللهِ} ،
والمضارعُ المنفيُّ بلا. كقوله {واتّقُوا فِتنةً لا تُصيبنَّ الذينَ ظَلموا
منكم خاصّةً} ، والمُضارعُ المُثبتُ المستقبلُ الواقعُ جواباً لقسمٍ "كقوله
{تاللهِ لأكيدَنَّ أصنامكم} . وتأكيدُهُ في هذهِ الحالِ واجبٌ، وفي غيرها، ممّا
تقدَّمَ، جائزٌ."
و "لامُ القسم" هي التي تقعُ في جواب القسمِ
تأكيداً له، كقوله تعالى {تاللهِ لقد آثرَك اللهُ علينا} . والجملةُ بعدَها
جوابُ القسم وقد يكونُ القسمُ مُقدَّراً، كقوله سبحانه {لقد كان لكم في رسولِ
الله أُسوةٌ حَسنةٌ} .
وتختصُّ "قد" بالفعل الماضي والمضارع
المتصرِّفينِ المُثبَتينِ ويشترَطُ في المضارع أن يَتجرَّدَ من النواصب
والجوازم والسينِ وسوف. ويُخطىءُ من يقولُ "قد لا يذهب، وقد لن يذهب" .
(وقد
شاع على ألسنة كثير من أدباء هذا العصر وعلمائه وأقلامهم دخول "قد" على "لا" .
ولم يسلم من ذلك بعض قدماء الكتاب وعلمائهم. وإنَّ "ربما" تقوم مقام "لا" في
مثل هذا المقام، فبدل أن يقال "قد لا يكون" مثلاً، يقال "ربما لا يكون" ) .
ولا
يجوزُ أن يُفصَلَ بينَها وبينَ الفعل بفاصلٍ غيرِ القسم، لأنها كالجُزءِ منه،
أَمَّا بالقسم فجائزٌ، نحو "قد واللهِ فعلتُ" .
وهي، إن دخلت على
الماضي أفادت تحقيقَ معناهُ. وإن دخلت على المضارع أَفادت تقليل وقوعه، نحو "قد
يَصدُقُ الكذوبُ. وقد يجودُ البخيل" . وقد تُفيدُ التحقيقَ مع المضارع، إن دلَّ
عليه دليلٌ، كقوله تعالى {قد يَعلم اللهُ ما أَنتم عليه} .
ومن
معانيها التّوقُّعُ، أَي تَوَقُّعُ حصولِ ما بعدها، أَي انتظارُ حصولهِ، تقولُ
"قد جاءَ الأستاذُ" ، إِذا كان مجيئُهُ مُنتظراً وقريباً، وإن لم يجىء فعلاً،
وتقولُ "قد يقدُمُ الغائبُ" . إذا كنتَ تَترَقّبُ قُدومَهُ وتَتوَقعُهُ قريباً.
ومن ذلك "قد قامت الصلاةُ" ، لأنَّ الجماعة يَتوَقعونَ قيامَها قريباً.
ومنها
التقريبُ، أَي تقريبُ الماضي من الحالِ، تقولُ "قد قُمتُ بالأمر" ، لِتدُل على
أنَّ قيامك بهِ ليسَ ببعيدٍ من الزمانِ الذي أنتَ فيه.
ومنها
الكثيرُ، نحو {قد نَرى تَقلُّبَ وَجهِك في السماءِ} .
وتُسمَّى "قد"
حرفَ تحقيقٍ، أو تقليلٍ، أو تَوقعٍ، أو تقريبٍ، أو تكثير، حَسَبَ معناها في
الجملة التي هي فيها.
11- حَرْفا الاستِفْهام
وهما
"الهمزة وهل" .
فالهمزةُ يُستفهَمُ بها عن المُفرَدِ وعن الجملةِ.
فالأول نحو "أخالدٌ"
شجاعٌ أم سعيدٌ؟ ". والثاني نحو" اجتهدَ خليلٌ؟
"، تستفهمُ عن نسبة الاجتهاد إِليه. ويُستفهَمُ بها في الإثباتِ، كما ذُكرَ،
وفي النَّفي، نحو" ألم يسافر أخوك؟ "."
و "هل" لا يُستفهمُ بها إلا
عن الجملة في الإثبات، نحو "هلْ قرأتَ النَّحوَ؟" ، ولا يُقال "هَل لم تقرأهُ؟"
. وأكثرُ ما يَليها الفعلُ، كما ذُكرَ، وقلَّ أن يَليها الاسمُ، نحو "هل عليٌّ
مجتهدٌ؟" .
وإذا دخلت على المضارع خَصّصتهُ بالاستقبال؛ لذلكَ لا
يُقالُ "هل تسافرُ الآن؟" . ولا تدخل على جملة الشرط، وتدخُل على جملة الجواب،
نحو "إن يَقُم سعيدٌ فهل تقومُ؟" . ولا تدخلُ على "إنَّ" ونحوها لأنها للتوكيد
وتقرير الواقع، والاستفهامُ ينافي ذلك.
12- أحرُفُ التَّمنِّي
وهي
"ليتَ ولو وهل" .
فليتَ موضوعةٌ للتّمني. وهو طلبُ ما لا طمعَ فيه
(أي المستحيل) أو ما فيه عُسرٌ (أي ما كان عَسِرَ الحصولِ) . فالأولُ نحو "ليت
الشبابَ يعودُ" والثاني نحو "ليتَ الجاهلَ عالم" .
و "لو وهل" قد
تُفيدانِ التمني، لا بأصلِ الوضع، لأنَّ الأولى شرطية والثانيةَ استفهاميةٌ.
فمثالُ "لو" ، في التمني، قولهُ تعالى {لو أنَّ لنا كَرَّةً فنكونَ من
المؤمنينَ} ومثالُ "هل" فيه قوله سبحانهُ {هل لنا من شُفعاءَ فيشفعوا لنا} .
13-
حَرْفُ التَّرَجِّي وَالإِشْفاقِ
وهو "لعلَّ" . وهي موضوعةٌ للترجي
والإشفاقِ.
فالترجي طلبُ الممكنِ المرغوب فيه، كقوله تعالى {لعلَّ
اللهَ يُحدِثُ بعد ذلك أمراً} .
الإشفاقُ هو توقُّع الأمر المكروهِ،
والتخوُّفُ من حدوثهِ، كقوله تعالى {لعلَّكَ باخعٌ نفسَكَ على آثارهم} .
14-
حَرْفا التَّشْبيهِ
وهما "الكافُ وكأنَّ" فالكافُ نحو "العلمُ
كالنور" .
وقد تخرُج عن معنى التشبيه، فتكونُ زائدةً للتوكيدِ، نحو
{ليسَ كمثلهِ شيءٌ} ، أي ليس مثلَهُ شيءٌ. وتكونُ بمعنى "على" ، نحو "كن كما
أنتَ" ، أي على ما أنتَ عليه. وتَكونُ اسماً بمعنى "مِثلٍ" . وقد تقدَّمتْ
أمثلتُها في حروف الجر.
وكأنَّ، نحو "كأنَّ العلمَ نورٌ" . وإنما
تتعيّنُ للتشبيهِ إن كن خبرُها اسماً جامداً، كما مُثِّلَ. فإن كان غيرَ ذلكَ،
فهي للشّك، نحو "كأَنَّ الأمرَ واقعٌ أو وَقعَ" ، أو للظّنِّ، نحو "كأنَّ في
نفسكَ كلاماً" ، أو التّهكُّمِ، نحو "كأنكَ فاهمٌ!" ، وكأن تَقولَ لقبيحِ
المنظر "كأنك البدرُ!" ، أو للتّقريب، نحو "كأنَّ المسافرَ قادمٌ" ، ونحو
"كأنكَ بالشتاءِ مُقبِلٌ" .
15- أحرُفُ الصلَة
المرادُ
بحرف الصلة هي حرفُ المعنى الذي يُزادُ للتأكيد.
وأحرفُ الصلة هي
"إنْ وأنْ وما ومن والباء" ، نحو "ما إنْ فعلتُ ما تكرهُ. لمّان أن جاءَ
البشير. أكرمتُكَ من غيرِ ما مَعرفة. ما جاءَنا من أحدٍ. ما أنا بمُهملٍ" .
وتزادُ
"من" في النَّفي خاصّةً، لتأكيدهِ وتعميمهِ، كقوله سبحانه {ما جاءَنا من بشيرٍ
ولا نذيرٍ} . والاستفهامُ كالنفي، كقوله سبحانه {هل من خالقٍ غيرُ اللهِ} ،
وقولهِ {هل من مَزيدٍ} .
وتُزادُ الباءُ لتأكيد النفي، كقوله تعالى
{أليسَ اللهُ بأحكمِ الحاكمين؟} ، ولتأكيد الإيجاب، نحو "بحَسبكَ الاعتمادُ على
النّفس" ، ونحو {كفى بالله شهيداً} ، أي "حَسبُكَ الاعتمادُ على النَّفس، وكفى
اللهُ شهيداً" .
16- حَرْفُ التَّعْليلِ
الحرفُ الموضوع
للتعليل هو "كي" ، يقولُ القائلُ "إني أطلُبُ العلمَ" فتقولُ "كيَمَهْ؟" أي
لِمَ تَطلبُهُ؟ فيقولُ "كي أخدمَ بهِ الأمةَ" ، أي "لأجلِ أن أخدمها به" .
وقد
تأتي "اللامُ وفي ومن" للتعليل، نحو "فيمَ الخصامُ؟. سافرتُ للعمل. {مِمّا
خطيئاتِهم أُغرِقوا} " .
17- حَرْفُ الرَّدْعِ والزَّجْرِ
وهوَ
"كَلاَّ" . ويُفيدُ، معَ الرَّدعِ والزَّجرِ، النّفيَ والتّنبيهَ على الخطأ،
يقولُ القائلُ "فلانٌ يُبغضُكَ" ، فتقولُ "كلاَّ" تنفي كلامَهُ، وتَردعهُ عن
مثل هذا القول؛ وتنبهُهُ على خَطَئِهِ فيه. وقد سبقَ الكلامُ عليه في أحرف
الجواب. فراجعه.
18- اللاَّمات
هي لامُ الجرِّ، نحو
"الحمدُ للهِ" .
ولامُ الأمر، كقوله تعالى {لِيُنفقْ ذو سَعةٍ من
سَعتهِ} .
ولامُ الابتداءِ، نحو "لَدِرهمٌ حَلالٌ خيرٌ من ألفِ
دِرهمٍ حرامٍ" .
ولامُ البُعد، وهي التي تلحقُ أسماءَ الإشارةِ،
للدَّلالةِ على البُعد أو توكيدهِ نحو "ذلكَ وذلِكُما وذلكم وذلكُنَّ" .
ولامُ
الجواب، وهي التي تقعُ في جواب "لو ولولا" ، نحو "لو اجتهدتَ لأكرمتُكَ. لولا
الدينُ لهَلكَ النّاسُ" ، أو في جواب القَسم، كقوله تعالى {تاللهِ لأكيدَنَّ
أصنامكم} .
واللام المُوَطَّئَةُ للقسم، وهي التي تدخلُ على أداةِ
شرطٍ للدلالة على أن الجوابَ بعدَها إنما هو جوابٌ لقسمٍ مُقدَّرٍ قبلَها، لا
جواب الشرطِ، نحو "" لَئِنْ قُمتَ بواجباتِكَ لأكرمتُكَ ". وجوابُ القسم قائمٌ
مَقامَ جوابِ الشرط ومُغنٍ عنهُ."
19- تاءُ التَّأنيثِ
السَّاكِنَةُ
وهي التاءُ في نحو "قامت وقعدّت" . وتلحَقُ الماضي،
للايذان من
أوَّلِ الأمرِ بأنَّ الفاعلَ مُؤنث. وهي ساكنةٌ، وتحرّكُ
بالكسر إن وَلِيها ساكنٌ، كقوله تعالى {قالتِ امرأةُ عمرانَ} وقولهِ {قالتِ
الأعرابُ آمنّا} ، وبالفتح، إن اتصلَ بها ضمير الاثنينِ، نحو "قالتا" .
20-
هاءُ السَّكْتِ
وهي هاءٌ ساكنةٌ تلحقُ طائفةً من الكلمات عندَ
الوقفِ، نحو {ما أغنى عني ماليَهْ، هلَكَ عني سُلطانيهْ} ، ونحو "لِمَهْ؟
كَيمَهْ؟ كيفَهْ؟" ونحوها. فإن وصَلتَ ولم تَقِفْ لم تُثبتِ الهاءَ، نحو "لِمَ
جئتَ، كيمَ عصَيتَ أمري؟ كيف كان ذلك؟" .
ولا تزادُ "هاءُ السكت" ،
للوقف عليها، إلا في المضارع المعتلّ الآخر، المجزومِ بحذف آخره، وفي الأمر
المبنيِّ على حذف آخره، وفي "ما" الاستفهاميَّةِ، وفي الحرف المبنيِّ على
حركةٍ، وفي الاسم المبنيِّ على حركةِ بناءً أصليّاً. ولا يوقفُ بهاء السكت في
غير ذلك، إلا شذوذاً. وقد سبق شرحُ ذلكَ في الكلام على "الوقف" في الجزءِ
الثاني.
21- أَحرُفُ الطَّلَب
وهي "لامُ الأمرِ، ولا
الناهيةُ، وحرفا الاستفهام، وأحرفُ التحضيض والتَّنديم، وأحرفُ العرض، وأحرف
التمني، وحرفُ الترجي" . وقد سبقَ الكلام عليها.
22- حَرْفُ
التَّنْوينِ
حرفُ التَّنوينِ هو نونٌ ساكنةٌ زائدةٌ، تلحقُ أواخرَ
الأسماءِ لفظاً،
وتفارقها خطّاً ووقفاً. وقد سبق الكلامُ عليه، في
أوائل الجزءِ الأول.
بَقِيَّةُ الحروفِ
(23) أحرفُ
النّداءِ (24) أحرفُ العَطفِ (25) أحرف نصبِ المضارع (26) أحرفُ جزمه (27) حرفُ
الأمر (28) حرفُ النَّهي (29) الأحرفُ المُشبّهةُ بالفعل، الناصبةُ للاسم
الرافعةُ للخبر (30) الأحرف المشبهةُ بليسَ، الرافعةُ للاسم الناصبةُ للخبر
(31) حروف الجر.
وقد سبقَ الكلامُ عليها في مواضعها من هذا
الكتاب.
(الخاتمة: مباحث إعرابية متفرقة)
(العامل والمعمول والعمل)
وهذا الفصل يشتملُ على أربعة مباحث
1- مَعْنى العامِلِ
وَالْمَعْمولِ وَالْعَمَلِ
متى انتظمتِ الكلماتُ في الجملة.
فمنها
ما يُؤثر فيما يَليهِ، فيرفعُ ما بعدَهُ، أو ينصِبُهُ أو يجزمهُ، أو يجُرُّهُ،
كالفعل، يرفعُ الفاعلَ وينصِبُ المفعولَ بهِ، وكالمبتدأ، يرفعُ الخبر، وكأدوات
الجزم، تجزمُ الفعلَ المضارع، وكحروف الجرِّ، تخفضُ
ما يَليها من
الأسماء. فهاذ هو المُؤَثِّرُ، أو العاملُ.
ومنها ما يُؤثرُ فيه ما
قبلَهُ، فيرفعُهُ، أو ينصبُهُ، أو يَجُرُّهُ، أو يجزمهُ، كالفاعل، والمفعول،
والمضاف إليه، والمسبوق بحرف جرّ، والفعلِ المضارعِ وغيرِها. فهذا هو المتأثرُ
أو المعمولُ.
ومنها ما لا يُؤَثِّرُ ولا يَتأثرُ، كبعض الحروف، نحو
"هل وبل وقد وسوف وهلاَّ" ، وغيرِها من حروف المعاني.
والنتيجةُ
الحاصلةُ من فعل المؤثر وانفعالِ المتأثر، هي الأثرُ، كعلامات الإعراب
الدالَّةِ على الرفعِ أو النصب أو الجر أو الجزم، فهي نتيجةٌ لتأثيرِ العوامل
الداخلةِ على الكلمات ولتأثُّرِ الكلمات بهذه العوامل.
فما يُحدِثُ
تَغيُّراً في غيرِه، فهو العاملُ.
وما يَتغيَّرُ آخرُهُ بالعاملِ،
فهو المعمولُ.
وما لا يُؤثر ولا يَتأثرُ، فهو العاطلُ، أي ما ليسَ
بمعمولٍ ولا عامل.
والأثرُ الحاصلُ، من رفع، أو نصبٍ، أو جزمٍ، أو
خفض، يُسمّى "العملَ" ، أي الإعرابَ.
2- العامل
العاملُ ما
يُحدِثُ الرفعَ، أو النصب، أو الجزمَ، أو الخفضَ، فيما يَليهِ.
والعواملُ
هي الفعلُ وشِبهُه، والأدواتُ التي تنصبُ المُضارع أو تجزمُهُ، والأحرفُ التي
تنصبُ المبتدأ وترفعُ الخبرَ، والأحرفُ التي ترفع المبتدأ وتنصب الخبر، وحروف
الجرِّ، والمُضافُ، والمبتدأ.
وقد سبقَ الكلامُ عليها، إلا شِبهَ
الفعل، فسيأتي الكلامُ عليه.
وهي قسمان: لفظيّةٌ ومعنويَّةٌ.
فالعاملُ
اللفظيَّ: هوَ المؤثرُ الملفوظُ، كالذي ذكرناه.
والعاملُ المعنوي:
هو تَجرُّدُ الاسم والمضارعِ من مؤثرٍ فيهما ملفوظٍ بالتجرُّدُ هو من عوامل
الرفع.
(فتجرّدُ المبتدأ من عامل لفظي كان سبب رفعه. وتجرّدُ
المضارع من عوامل النصب والجزم كان سببَ رفعه أيضاً.
فالتجرّد. هو
عدم ذكر العامل. وهو سبب معنوي في رفعه ما تجرَّد من عامل لفظي كالمبتدأ
والمضارع الذي لم يسبقه ناصب أو جازم) .
3- الْمَعْمول
المعمولُ
هو ما يَتغيَّرُ آخرُهُ برفعٍ، أو نصبٍ، أو جزمٍ، أو خفضٍ بتأثير العامل
فيه.
والمعمولاتُ هي الأسماءُ، والفعلُ المضارعُ.
والمعمولُ
على ضربين معمولٍ بالأصالة، ومعمولٍ بالتَّبعيّة.
فالمعمولُ
بالأصالةِ هو ما يُؤثَرُ فيه العاملُ مباشرةً، كالفاعل ونائبهِ، والمبتدأ
وخبرهِ، واسم الفعل الناقص وخبره، واسمِ إنَّ وأَخواتها وأَخبارها، والمفاعيلِ،
والحال، والتمييز، والمستثنى، والمضافِ إليهِ، والفعلِ المضارع.
والمبتدأ
يكونُ عاملاً، لرفعهِ الخبرَ. ويكونُ معمولاً، لتجرُّدهِ من العوامل اللفظيةِ
للابتداء، فهو الذي يرفعُه.
والمضافُ يكون عاملاً، لجرِّهِ المضافَ
إليه، ويكونُ معمولاً، لأنه يكون مرفوعاً أو منصوباً أو مجروراً، حسبَ العواملِ
الداخلةِ عليه.
والمضارعُ وشِبهُهُ (ما عدا اسمَ الفعلِ) عاملانِ
فيما يَليهما، معمولانِ لما يَسبقُهما من العوامل.
والمعمولُ
بالتّبعيّة هو ما يُؤثرُ فيه العاملُ بواسطة متبوعه، كالنَّعت والعَطفِ
والتوكيدِ والبدل، فإنها تُرفعُ أَو تُنصَبُ أو تُجرُّ أو تُحزَمُ، لأنها
تابعةٌ لمرفوع أو منصوب أو مجرور أو مجزوم. والعاملُ فيها هو العاملُ في
متبوعها الذي يَتقدّمها.
وقد سبقَ الكلام على ذلك كلهِ مُفصّلاً.
4-
العَمَل
العملُ (ويُسمّى الإعرابَ أيضاً) هو الأثرُ الحاصلُ بتأثير
العامل،
من رفعٍ أو نصبٍ أو خفض أو جزم.
وقد تقدَّمَ
الكلامُ عليه مُفصلاً في أَوائل الجزء الأول من هذا الكتاب.
(عمل المصدر والصفات التي تُشْبِهُ الفِعْل)
وهذا الفصل يشتملُ على خمسة مباحث
1- عَمَلُ
الْمَصْدَرِ وَاسمِ الْمَصْدَرِ
يعملُ المصدرُ عَمَلَ فعلهِ
تَعدِّياً ولزوماً.
فإن كان فعلهُ لازماً، احتاجَ إلى الفاعلِ فقط،
نحو "يُعجبُني اجتهادُ سعيدٍ" .
وإن كان مُتعدِّياً احتاجَ إلى
فاعلٍ ومفعولٍ بهِ. فهو يتعدَّى إلى ما يتعدَّى إليه فعلُه، إمّا بنفسهِ، نحو
"ساءَني عصيانُك أباكَ" ، وإمّا بحرف الجرِّ، نحو "ساءَني مُرورُكَ بمواضعِ
الشُّبهةِ" . واعلم أن المصدرَ لا يعملُ عملَ الفعلِ لشبههِ به، بل لأنهُ
أَصلُهُ.
ويجوزُ حذفُ فاعلهِ من غيرِ أن يتحمّلَ ضميرَهُ، نحو
"سرَّني تكريم"
العاملينَ ". ولا يجوزُ ذلكَ في الفعل، لأنهُ إن لم
يَبرُز فاعلُهُ كان ضميراً مستتراً، كما تقدَّم في باب الفاعل."
ويجوزُ
حذفُ مفعوله، كقوله تعالى {وما كان استغفارُ إبراهيمَ لأبيه إلا عن موعِدةٍ
وَعدَها إياهُ} ، أَي استغفار إبراهيمَ رَبّهُ لأبيه.
وهو يعملُ
عملَ فعلهِ مضافاً، أو مجرَّداً من "أَلْ" والإضافةِ، أو مُعرَّفاً بأل،
فالأولُ كقوله تعالى {ولولا دفعُ اللهِ الناسَ بعضَهم ببعضِ} . والثاني كقوله
عزَّ وجلَّ {أو إطعامٌ في يومٍ ذي مسبغةٍ يَتيماً ذا مقربةٍ أو مِسكيناً ذا
مَترَبَةٍ} . والثالثُ إِعمالُه قليلٌ، كقولِ الشاعر [من الطويل]
لَقَدْ
عَلِمَتْ أُولَى المُغيرَةِ أَنَّني ... كَرَرْتُ، فَلَمْ أَنْكُلْ عَنِ
الضَّرْبِ مِسْمَعا
وَشُرِط لإعمال المصدر أن يكون نائباً عن فعلهِ،
نحو "ضرباً اللصَّ" ، أو أن يصحَّ حُلولُ الفعل مصحوباً بأنْ أو "ما"
المصدريتين مَحلَّهُ. فإذا قلتَ "سرَّني فَهمُكَ الدَّرسَ" ، صحَّ أن تقول
"سرَّني أن تفهمَ الدرسَ" . وإذا قلتَ "يَسرُّني عملُكَ الخيرَ" ، صحَّ أن تقول
"يَسُرُّني أن تعملَ الخيرَ" . وإذا قلتَ "يُعجبُني قولكَ الحقَّ الآن" ، صحَّ
أن تقولَ "يعجبني ما تقولُ الحقَّ الآن" . غيرَ أنهُ إذا أُريدَ به المُضيُّ أو
الاستقبالُ قُدِّرَ بأنْ، وإذا أريدَ به الحالُ قُدِّرَ بِمَا، كما رأيتَ.
لذلك
لا يعملُ المصدرُ المؤكّدُ، ولا المُبيّنُ للنوع، ولا المُصغّرُ، ولا ما لم
يُرَدْ به الحَدَثُ. فلا يُقالُ "علَّمتُهُ تعليماً المسألةَ" ، على أنَّ
"المسألة منصوبةٌ بتعليماً" بل بعلَّمتُ، ولا "ضربتُ ضربةً وضربتينِ اللصَّ" ،
على نصب اللص بضربة أوضربتينِ، بل بضربتُ، ولا "يُعجبني ضُرَيْبكَ اللصَّ" ،
ولا "لسعيدٍ صَوْتٌ صوْتَ حَمامٍ" ، على نصب "صوت" الثاني بصوت الأول بل يفعل
محذوف، أو يُصَوتُ صوتَ حمام، أي يُصَوِّتُ تصويتَهُ. ويجوز أن يكونَ مفعولاً
به لفعلٍ محذوف، أي يُشبهُ صوتَ حمامٍ.
ولا يجوز تقديمُ معمولِ
المصدر عليه، إلا إذا كانَ المصدرُ بدلاً من فعلهِ نائباً عنه، نحو "عملَكَ
إتقاناً" ، أو كان معمولهُ ظرفاً أو مجروراً بالحرف، كقوله تعالى {فلمّا بلغَ
معهُ السَّعيَ} ، وقولهِ {ولا تأخذكم به رأفةٌ} .
ويُشترطُ في
إعمالهِ أن لا يُنعتَ قبلَ تمامِ عملهِ، فلا يُقالُ "سرَّني إكرامُكَ العظيمُ
خالداً" ، بل يجبُ تأخيرُ النَّعتِ، فتقولُ "سرَّني إكرامُكَ خالداً العظيمُ" ،
كما قال الشاعر [من الخفيف]
إنَّ وَجْدي بِكِ الشَّديدَ أَراني ...
عاذراً مَنْ عَهِدْتُ فيكِ عَذولاً
وإذا أُضيفَ المصدرُ إلى فاعله
جَرَّهُ لفظاً، وكان مرفوعاً حكماً (أي في محلِّ رَفعٍ) ، ثمَّ يَنصبُ المفعولَ
به، نحو "سرَّني فهمُ زُهيرٍ الدرسَ" .
وإذا أُضيفَ إلى مفعولهِ
جَرَّهُ لفظاً، وكان منصوباً حُكماً (أي في محلِّ نصبٍ) ، ثم يَرفعُ الفاعلَ،
نحو "سرَّني فَهمُ الدرسِ زُهيرٌ" .
وإذا لحقَ الفاعلَ المضافَ إلى
المصدرِ، أو المفعولَ المضافَ إليهِ، أحدُ التوابعِ جازَ في التابعِ الجرُّ
مراعاةً للَّفظِ، والرفعُ أو النصبُ مراعاةً للمحلِ، فتقولُ في تابعِ الفاعلِ
"سَرَّني اجتهادُ زُهيرٍ الصغيرِ، أو الصغيرُ" و "ساءَني إهمالُ سعيدٍ وخالدٍ،
أو خالدٌ" . وتقولُ في تابعِ المفعول "يُعجبُني إكرامُ الأستاذِ المُخلصِ، أو
المُخلصَ، تلاميذُهُ" و "ساءَني ضرب خالد وسعيدٍ، أو وسعيداً، خليلٌ" .
والمصدرُ
الميميُّ كغير الميميّ، في كونهِ يعملُ عملَ فعلهِ، نحو مُحتمَلُك المصائبَ
خيرٌ من مَركبِكَ الجَزَعَ ". ومنه قول الشاعر [من الكامل] "
أَظَلومُ،
إنَّ مَصابَكُمْ رَجُلاً ... أَهدَى السَّلامَ تَحِيَّةً، ظُلْمُ!
واسمُ
المصدرِ يعملُ عملَ المصدرِ الذي هو بمعناهُ، وبِشروطهِ، غيرَ أنّ عملَهُ
قليلٌ، ومنه قولُ الشاعر [من الوافر]
أَكُفْراً بَعْدَ رَدِّ
الْمَوْتِ عَنِّي ... وَبَعْدَ عَطائِكَ الْمِئَةَ الرِّتاعا
وقولُ
الآخر [من الطويل]
إذا صَحَّ عَوْنُ الخَالِقِ الْمَرْءَ، لَمْ
يَجِدْ ... عَسيراً مِنَ الآمالِ إِلاَّ مُيَسَّرا
وقولُ غيره [من
الوافر]
بِعِشْرَتِكَ الْكِرامَ تُعَدُّ مِنْهُمْ ... فَلاَ
تُرَيَنْ لِغَيْرِهِمِ أَلوفا
ومنه الحديثُ "من قُبلَةِ الرجلِ
امرأتَهُ الوُضوءُ" .
2- عَمَلُ اسمِ الْفاعِلِ
يعملُ
اسمُ الفاعلِ عملَ الفعلِ المُشتق منه، إنْ متعدياً، وإنْ لازماً. فالمتعدّي
نحو "هل مُكرِمٌ سعيدٌ ضُيوفَه؟" . واللازمُ، نحو "خالدٌ مجتهدٌ أولادُهُ" .
ولا
تجوزُ إضافتُهُ إلى فاعلهِ، كما يجوز ذلك في المصدر، فلا يقالُ "هلْ مُكرِمُ
سعيدٍ ضُيوفَهُ" .
وشرطُ عمله أن يقترنَ بألْ. فإن اقترنَ بها، لم
يحتج إلى شرطٍ غيره. فهو يعملُ ماضياً أو حالاً أو مستقبلاً، مُعتمداً على شيءٍ
أو غيرَ معتمدٍ، نحو "جاء المعطي المساكينَ أمسِ أو الآن أو غداً" .
فإن
لم يقترن بها، فشرطُ عملهِ أن يكون بمعنى الحال أو الاستقبال،
وأن
يكون مسبوقاً بنفيٍ، أو استفهام، أو اسمٍ مُخبَرٍ عنه بهِ، أو موصوفٍ، أو باسمٍ
يكون هوَ حالاً منه، فالأولُ، نحو "ما طالبٌ صديقُكَ رفعَ الخلافِ" . والثاني
نحو "هلْ عارفٌ أخوك قدرَ الإنصافِ؟" . والثالث نحو "خالدٌ مسافرٌ أبواهُ" .
والرابعُ نحو "هذا رجلٌ مجتهدٌ أبناؤُهُ" . والخامسُ نحو "يَخطُبُ عليٌّ رافعاً
صوتَهُ" .
وقد يكونُ الاستفهامُ والموصوفُ مُقدَّرَينِ. فالأولُ نحو
"مُقيمٌ سعيدٌ أم مُنصرفٌ؟" والتقديرُ أمقيمٌ أم منصرفٌ؟ والثاني كقول الشاعر
[من البسيط]
كناطِحٍ صَخْرَةً يَوْماً لِيوهِنَها ... فَلَمْ
يَضِرْها، وَأَوَهى قَرْنَهُ الْوَعِلُ
أي كوعلٍ ناطحٍ صخرةً. ونحو
"يا فاعلاً الخيرَ لا تنقطع عنه، أي يا رجلاً فاعلاً."
واعلم أنَّ
مبالغةَ اسم الفاعل تعملُ عملَ الفعلِ، كاسم الفاعل، بالشروطِ السابقةِ، نحو
"أنتَ حَمُولٌ النائبةَ، وحَلاَّلٌ عُقَدَ المشكلاتِ" .
والمثنّى
والجمعُ، من اسمِ الفاعل وصيَغ المُبالغة، يعملان كالمُفرد منهما، كقوله تعالى
{والذاكرينَ اللهَ كثيراً} ، وقولهِ {خُشَّعاً أبصارُهم يخرجون من الأجداث}
.
وإذا جُرَّ مفعولُ اسم الفاعل بالإضافةِ إليه، جازَ في تابعهِ
الجرُّ مراعاةً للِفظه، والنصبُ مراعاةً لمحلهِ، نحو "هذا مُدرَّسُ النحوِ
والبيانِ، أوِ البيانَ" ونحو "أنت مُعينُ العاجزِ المسكينِ، أو المسكينَ" .
ويجوزُ
تقديمُ معمولهِ عليه، نحو "أنتَ الخيرَ فاعلٌ" ، إلاّ أن يكونَ مقترناً بأل
"هذا المُكرمُ سعيداً" ، أو مجروراً بالإضافةِ، نحو "هذا وَلد"
مُكرمٍ
خالداً "، أو مجروراً بحرفِ جرٍّ أصليٍّ، نحو" أحسنتُ إلى مُكرمٍ عليّاً "، فلا
يجوزُ تقديمهُ في هذه الصُّوَر. أمّ إن كان مجروراً بحرفِ جرٍّ زائد فيجوزُ
تقيمُ معمولهِ عليه، نحو" ليسَ سعيدٌ بسابقٍ خالداً "، فتقولُ" ليس سعيدٌ
خالداً بسابقٍ "، لأنَّ حرفَ الجرّ الزائدِ في حكم الساقط."
3-
عَمَلُ اسْمِ الْمَفْعولِ
يعملُ اسمُ المفعول عمَلَ الفعلِ المجهول،
فيرفعُ نائبَ الفاعلِ، نحو "عزَّ من كان مُكرَماً جارُهُ، محموداً جِوراُهُ" .
وتجوزُ إضافتُهُ إلى معمولهِ، نحو "عَزَّ من كان محمودَ الجوارِ، مُكرَمَ
الجارِ" .
وشروطُ إعمالهِ كما مرَّ في اسمِ الفاعل تماماً.
4-
عَمَلُ الصِّفَةِ المُشَبَّهَةِ
تعملُ الصفةُ المشبهةُ عملَ اسم
الفاعلِ المتَعدِّي إلى واحدٍ، لأنها مُشبَّهةٌ به ويُستحسَنُ فيها أن تُضافَ
إلى ما هوَ فاعلٌ لها في المعنى، نحو "أنتَ حَسَنُ الخُلُقِ، نَقِيُّ النفسِ،
طاهرُ الذَّيلِ" .
ولكَ في معمولها أربعةُ أوجُهٍ
1- أن
ترفعهُ على الفاعليّة، نحو "عليٌّ حسَنٌ خُلقُهُ، أو حسَنٌ الخُلُقُ أو الحسنُ
خُلقُهٌ، أو الحسنُ خُلُقُ الأبِ" .
2- أن تنصبهُ على التّشبيهِ
بالمفعولِ به، إن كان معرفةً، نحو "عليٌّ حسنٌ خُلقَهُ، أو حَسَنٌ الخُلُقَ، أو
الحسنُ الخُلُقَ، أو الحسَنُ خُلُقَ الأبِ" .
3- أن تنصبهُ على
التمييز، إن كانَ نكرةً، نحو "عليٌّ حسنٌ خُلقاً، أو الحسَنُ خُلقاً" .
4-
أن تَجرَّهُ بالإضافة، نحو "عليٌّ حسَنُ الخُلُقِ، أو الحسنُ الخُلُقِ، أو حسنُ
خُلُقهِ، أو حسَنُ خُلقِ الأبِ، أو الحسن خُلُقِ الأبِ" .
واعلم
أنهُ تمتنعُ إضافةُ الصفة إذا اقترنتْ بألْ، ومعمولها مُجرَّدٌ منها ومنَ
الإضافة إلى ما فيه "أَلْ" ، فلا يُقالُ "عليٌّ الحسنُ خُلقهِ، ولا العظيمُ
شدَّة بأسٍ" . ويقال "الحسنُ الخُلُقِ، والعظيمُ شدَّةِ البأسِ" .
5-
عَمَلُ اسْمِ التَّفْضِيلِ
يرفعُ اسمُ التفضيلِ الفاعلَ. وأكثرُ ما
يرفعُ الضميرَ المستترَ، نحو "خالد أشجعُ من سعيدٍ" . ولا يرفعُ الاسمَ الظاهرَ
إلا إذا صَلَحَ وقوعُ فعلٍ بمعناهُ مَوقعَهُ، نحو "ما رأيتُ رجلاً أوقع في نفسه
النصيحةُ منها في نفس زهير" ، ونحو "ما رأيتُ رجلاً أوقعَ في نفسهِ النصيحةُ
كزهير" . ونحو "ما رأيتُ كنفس زهيرٍ أوقعَ فيها النصيحةُ" . وتقولُ "ما رجلٌ
أحسنَ به الجميلُ كعليٍّ" ومن ذلك قولُ الشاعر [من الخفيف]
ما
رَأَيْتُ امرَأً أَحَبَّ إِلَيْهِ ... البَذْلُ مِنْهُ إِلَيْكَ يا ابْنَ
سِنانٍ
فإن قلت فيما تقدَم "ما رأيتُ رجلاً تقعُ النصيحةُ في نفسه
كزهير، ما رجلٌ يحسنُ به الجميلُ كعليٍّ. ما رأيتُ أمرأ يحبُّ البذلَ كابنِ
سنان" صحَّ.
وقد يرفعُ الاسمَ الظاهرَ، وإن لم يَصلُح وقوعُ فعلٍ
مَوقعَهُ، وذلك في لغةٍ قليلةٍ، نحو مررتُ برجلٍ أكرمَ منهُ أبوهُ ".والأفضلُ
أن يُرفعَ" أكرم "على"
أنهُ خبرٌ مُقدَّمٌ، و "أبوهُ" . مبتدأ
مؤخرٌ. وتكون جملة المبتدأ والخبر صفةً لرجلٍ.
(الجمل وأنواعها)
الجملةُ قولٌ مُؤلفٌ من مُسنَدٍ ومُسندٍ إليه. فهي والمركَّبُ
الاسناديُّ شيءٌ واحدٌ. مثلُ "جاءَ الحقُّ، وزهقَ الباطلُ، إنَّ الباطلَ كانَ
زَهوقاً" .
ولا يُشترط فيما نُسميه جملةً، أو مركَّباً إسنادياً، أن
يُفيدَ معنًى تاماً مكتفياً بنفسهِ، كما يُشترطُ ذلك فيما نُسميهِ كلاماً. فهو
قد يكون تامَّ الفائدةٍ نحو {قد أفلحَ المؤمنون} ، فيُسمّى كلاماً أَيضاً. وقد
يكون ناقصَها، نحو "مهما تفعلْ من خير أَو شرٍّ" ، فلا يُسمّى كلاماً. ويجوزُ
أن يُسمّى جملةً أَو مُركباً إسنادياً. فإن ذُكر جوابُ الشرط، فقيلَ "مهما
تفعلْ من خير أَو شرٍّ تُلاقهِ" ، سُميَ كلاماً أيضاً، لحصول الفائدة
التامّة.
والجملةُ أَربعةُ أَقسامٍ فعليّةٌ، واسميَّةٌ، وجملةٌ لها
محلٌّ من الإعراب، وجُملةٌ لا محلَّ لها من الإعراب.
1- الجُملَةُ
الفِعْلِيَّة
الجملة الفعليّة ما تألفت من الفعل والفاعل، نحو "سبقَ
السيفُ العذَلَ" ، أو الفعل ونائبِ الفاعل، نحو "يُنصَر المظلومُ" ، أَو الفعلِ
الناقصِ واسمه وخبره نحو "يكون المجتهدُ سعيداً" .
2- الْجُمْلَةُ
الاسمِيَّةُ
الجملةُ الاسميّةُ ما كانت مؤلفةً من المبتدأ والخبر،
نحو "الحقُّ منصورٌ" أَو مِمّا أَصلُه مبتدأ وخبرٌ، نحو "إن الباطل مخذولٌ. لا
ريبَ فيه."
ما أَحدٌ مسافراً. لا رجلٌ قائماً. أن أَحدٌ خيراً من
أَحد إلا بالعافيةِ. لاتَ حينَ مناصٍ "."
3- الجُمَلُ الَّتي لَها
مَحَلٌّ مِنَ الإِعْراب
الجملةُ، إن صحَّ تأويلُها بمُفرَدٍ، كان
لها محلٌّ من الإعراب، الرفعُ أَو النصبُ أَو الجرُّ، كالمفرد الذي تُؤَوَّلُ
بهِ، ويكونُ إعرابُها كإعرابه.
فإن أُوِّلت بمفردٍ مرفوعٍ، كان
محلُّها الرفعَ، نحو "خالدٌ يعملُ الخيرَ" ، فِإن التأويل "خالدٌ عاملٌ للخير"
.
وإن أُوِّلت بمفردٍ منصوبٍ، كان محلُّها النصبَ، نحو "كان خالدٌ
يعملُ الخيرَ" ، فإنَّ التأويلَ "كان خالدٌ عاملاً للخير" .
وإن
أُوِّلت بمفردٍ مجرورٍ، كانت في محلِّ جرٍّ، نحو "مررتُ برجلٍ يعملُ الخيرَ" ،
فإن التأويلَ "مررتُ برجلٍ عاملٍ للخيرِ" .
وإن لم يصحَّ تأويلُ
الجملةِ بمفردٍ، لأنها غيرُ واقعةٍ مَوْقِعَهُ، لم يكن لها محلٌّ من الإعراب،
نحو "جاءَ الذي كتبَ" ، إذ لا يَصح أَن تقول "جاءَ الذي كاتبٌ" .
والجُمَلُ
التي لها محلٌّ من الإعرابِ سبعٌ
1- الواقعةُ خبراً. ومحلُّها من
الإعراب الرفعُ، إن كانت خبراً للمبتدأ، أَو الأحرفِ المشبهةِ بالفعلِ، أو "لا"
النافية للجنس، نحو "العلمُ يرفعُ قدرَ صاحبه. إن الفضيلةَ تُحَبُّ. لا كسولَ
سِيرتُهُ ممدوحةٌ" . والنصبُ إن كانت خبراً عن الفعلِ الناقصِ، كقولهِ تعالى
{أَنفسَهم كانوا يظلمون} ، وقولهِ {فذبحوها وما كادوا يفعلون} .
2-
الواقعة حالاً. ومحلُّها النصب، نحو "جاءُوا أَباهم عشاءً يَبكون ."
3-
الواقعةُ مفعولاً به. ومحلها النصبُ أيضاً، كقولهِ تعالى {قالَ إني عبدُ الله}
، ونحو "أَظنُّ الأمةَ تجتمعُ بعدَ التفرُّق" .
4- الواقعةُ مضافاً
إليها. ومحلُّها الجرُّ، كقوله تعالى {هذا يومُ ينفعُ الصادقينَ صدقُهم} .
5-
الواقعةُ جواباً لشرطٍ جازمٍ، إن اقترنت بالفاءِ أَو بإذا الفجائية. ومحلها
الجزمُ، كقوله تعالى {ومن يُضللِ اللهُ فما لهُ من هادٍ} ، وقولهِ {وإن تصِبهم
سيِّئةٌ بما قدَّمت أَيديهم إذا همْ يَقنَطون} .
6- الواقعةُ صفةً،
ومحلُّها بحسَبِ الموصوفِ، إمّا الرفعُ، كقولهِ تعالى {وجاءَ من أَقصى المدينةِ
رجلٌ يسعى} . وإمّا النصبُ، نحو "لا تحترمْ رجلاً يَخونُ بلادَهُ" . وإمّا
الجرُّ، نحو "سَقياً لرجلٍ يَخدمُ أُمتَهُ" .
7- التابعةُ لجملةٍ
لها محلٌّ من الإعراب. ومحلُّها بحسب المتبوع. إمّا الرَّفعُ، نحو "عليٌّ يقرأ
ويكتبُ" ، وإمّا النصبُ، نحو "كانت الشمسُ تبدو وتخفى" ، وإمّا الجرُّ، نحو "لا
تعبأ برجلٍ لا خيرَ فيهِ لنفسهِ وأمتهِ، لا خيرَ فيه لنفسهِ وأمتهِ" .
4-
الجُملُ الَّتي لا مَحَلَّ لَها مِنَ الإعراب
الجملُ التي لا محلَّ
لها من الإعراب تسعٌ
1- الابتدائيةُ، وهي التي تكونُ في مُفتَتحِ
الكلامِ، كقوله تعالى {إنا أعطيناك الكوثرَ} ، وقولهِ {اللهُ نور السَّمواتِ
والأرض} .
2- الاستئنافيّةُ، وهي التي تقعُ في أثناءِ الكلامِ،
منقطعةً عمّا قبلَها، لاستئنافِ كلامٍ جديدٍ، كقوله تعالى {خلق السَّمواتِ
والأرضَ بالحقِّ، تعالى عمَّا يُشركونَ} . وقد تقترنَ بالفاءِ أو الواو
الاستئنافيَّتين. فالأولُ كقوله تعالى {فلمَّا آتاهما صالحاً جعلا لهُ شركاءَ
فيما آتاهما، فتعالى الله عمّا يُشركون} . والثاني كقولهِ {قالت ربِّ إني
وضعتُها أُنثى، والله أعلمُ بما وضعتْ، وليس الذكر كالأنثى} .
3-
التَّعليليَّة، وهي التي تقعُ في اثناءش الكلامِ تعليلاً لِما قبلَها، كقوله
تعالى {وصلِّ عليهم، إنَّ صلاتَكَ سَكنٌ لهم} . وقد تقترنُ بفاءِ التَّعليل،
نحو "تمسَّك بالفضيلةِ، فإنها زينةُ العُقلاءِ" .
4- الاعتراضيّةُ،
وهي التي تَعترضُ بين شيئينِ مُتلازمين، لإفادة الكلام تَقويةً وتسديداً
وتحسيناً، كالمبتدأ والخبر، والفعلِ ومرفوعهِ، والفعلِ ومنصوبهِ، والشرطٍ
والجوابِ، والحالِ وصاحبها، والصفةِ والموصوفِ، وحرفِ الجر ومُتعلِّقه والقسمِ
وجوابهِ. فالأول كقول الشاعر [من الطويل]
وَفِيَهِنَّ، وَالأَيامُ
يَعْثُرْنَ بِالْفَتَى ... نَوادِبُ لا يَمْلَلْنَهُ، ونَوائحُ
والثاني
كقول الآخر [من الطويل]
وَقَدْ أَدْرَكَتْني، وَالحَوادِثُ جَمَّةٌ
... أَسِنَّةُ قَوْمٍ لا ضِعافٍ، وَلا عُزْل
والثالثُ كقولِ غيره
[من الرجز]
وَبُدِّلَتْ، وَالدَّهْرُ ذُو تَبَدُّلِ ... هَيْفاً
دَبُوراً بِالصَّبا، وَالشَّمْأَلِ
والرابعُ، كقولهِ تعالى {فإن لم
تفعلوا، ولن تفعلوا، فاتَّقُوا النارَ التي وَقُودُها الناسُ والحجارةُ} .
والخامس، نحو "سعيتُ، وربَّ الكعبةِ، مجتهداً" . والسادسُ، كقوله تعالى
{وانَّهُ لَقَسمٌ، لو تعلمونَ عظيم} . والسابعُ، نحو "اعتصِمْ، اصلحكَ اللهُ،
بالفضيلة" . والثامن كقول الشاعر [من الطويل]
لَعَمْري، ومَا عَمْري
عَلَيَّ بِهَيِّنٍ ... لَقَدْ نَطَقَتْ بُطْلاً عَلَيَّ الأَقارِعُ
5-
الواقعة صِلةً للموصولِ الاسميّ، كقوله تعالى {قد أفلحَ من تَزَكَّى} ، أو
الحرفيِّ، كقولهِ {نخشى أن تُصيبنا دائرةٌ} .
والمراد بالموصولِ
الحرفيِّ الحرفُ المصدريُّ، وهو يُؤوَّلُ وما بعدَه بمصدرٍ وهو ستةُ أحرفٍ "أنْ
وأنَّ وكيْ وما ولوْ وهمزة التسوية" . وقد سبقَ الكلامُ عليه في أقسام الفاعل
"، وفي" حروف المعاني "."
6- التّفسيريةُ، كقوله تعالى " {وأَسرُّوا
النّجوَى} ، {الذين ظلموا} ، {هل هذا إلا بشرٌ مثلُكمْ} " وقولهِ هل ادُلُّكم
على تجارةٍ تُنجيكم من عذابٍ
أليمٍ، تُؤمِنونَ بالله ورسوله .
والتّفسيريّةُ
ثلاثةُ أقسامٍ مجرَّدةٌ من حرف التفسيرِ، كما رأيتَ، ومقورنةٌ بأي، نحو "أشرتُ
إليه، أي أذهبْ" ، ومقورنةٌ بأنْ، نحو "كتبتُ إليهِ أن وافِنا" ، ومنه قولهُ
تعالى {فأوحينا إليه أن اصنَعِ الفُلكَ} .
7- الواقعةُ جواباً
للقسمِ، كقوله تعالى {والقرآنِ الحكيمِ انّكَ لَمِنَ المُرْسَلين} ، وقولهِ
{تاللهِ لأكيدَنَّ أصنامَكم} .
8- الواقعةُ جواباً لشرطٍ غيرِ جازمٍ
"كإذا ولو ولوا" ، كقوله تعالى {إذا جاءَ نصرُ اللهِ والفتحُ، ورأيتَ الناسَ
يَدخلون في دينِ اللهِ أفواجاً، فسَبِّحْ بِحَمْدِ ربك} ، وقوله {لو أنزلنا هذا
القرآن على جبلٍ، لَرأَيتهُ خاشعاً مُتصدِّعاً من خشيةِ اللهِ} وقولهِ {ولولا
دَفعُ اللهِ الناسَ بعضَهم ببعضٍ، لَفَسدتِ الأرضُ} .
9- التابعةُ
لجملةٍ لا محلَّ لها من الإعراب، نحو "إذا نَهضَتِ الأمةُ، بَلغت من المجد
الغايةَ، وادركت من السُّؤْدَدِ النهايةَ" . []