المؤلف: مناع بن خليل القطان (ت ١٤٢٠هـ)
الناشر: مكتبة المعارف للنشر والتوزيع
لطبعة: الطبعة الثالثة ١٤٢١هـ- ٢٠٠٠م
عدد الصفحات: ٤٠٧
عدد الأجزاء 1
الموضوع: علوم القرأن، علوم التفسير
فهرس الموضوعات
- القواعد التي يحتاج إليها المفسر
- مدخل
- الضمائر
- التعريف والتنكير
- الإفراد والجمع
- مقابلة الجمع بالجمع أو بالمفرد
- ما يظن أنه مترادف وليس من المترادف
- السؤال والجواب
- الخطاب بالاسم والخطاب بالفعل
- العطف
- الفرق بين الإيتاء والإعطاء
- ألفاظ
- لفظ "فعل"
- لفظ "كان"
- لفظ "كاد"
- لفظ "جعل"
- "لعل" و"عسى"
- الفرق بين المحكم والمتشابه
- مدخل
- الإحكام العام والتشابه العام
- الإحكام الخاص والتشابه الخاص
- الاختلاف في معرفة المتشابه
- التوفيق بين الرأيين بفهم معنى التأويل
- التأويل المذموم
- العام والخاص
- مدخل
- تعريف العام وصيغ العموم
- أقسام العام
- الفرق بين العام المراد به الخصوص والعام المخصوص
- تعريف الخاص وبيان المخصص
- تخصيص السنة بالقرآن
- صحة الاحتجاج بالعام بعد تخصيصه فيما بقى
- ما يشمله الخطاب
- الناسخ والمنسوخ
- مدخل
- تعريف النسخ وشروطه
- ما يقع فيه النسخ
- ما به يعرف النسخ وأهميته
- الآراء في النسخ وأدلة ثبوته
- أقسام النسخ
- أنواع النسخ في القرآن
- حكمة النسخ
- النسخ إلى بدل وإلى غير بدل
- شبه النسخ
- أمثلة للنسخ
- المطلق والمقيد
- مدخل
- تعريف المطلق والمقيد
- أقسام المطلق والمقيد وحكم كل منها
- المنطوق والمفهوم
- مدخل
- تعريف المنطوق وأقسامه
- دلالة الاقتضاء ودلالة الإشارة
- تعريف المفهوم وأقسامه
- الاختلاف في الاحتجاج به
- إعجاز القرآن
- مدخل
- تعريف الإعجاز وإثباته
- وجوه إعجاز القرآن
- القدر المعجز من القرآن
- الإعجاز اللغوي
- الإعجاز العلمي
- الإعجاز التشريعي
- أمثال القرآن
- مدخل
- تعريف المثل
- أنواع الأمثال في القرآن
- فوائد الأمثال
- ضرب الأمثال بالقرآن
- أقسام القرآن
- مدخل
- تعريف القسم وصيغته
- فائدة القسم في القرآن
- المقسم به في القرآن
- أنواع القسم
- أحوال المقسم عليه
- القسم والشرط
- جدل القرآن
- مدخل
- تعريف الجدل
- طريقة القرآن في المناظرة
- أنواع من مناظرات القرآن وأدلته
- قصص القرآن
- مدخل
- معنى القصص
- أنواع القصص في القرآن
- فوائد قصص القرآن
- تكرار القصص وحكمته
- القصة في القرآن حقيقة لا خيال
- أثر القصص القرآني في التربية والتهذيب
- ترجمة القرآن
- مدخل
- معنى الترجمة
- حكم الترجمة الحرفية
- الترجمة المعنوية
- مدخل
- حكم الترجمة المعنوية
- الترجمة التفسيرية
- القراءة في الصلاة بغير العربية
- مدخل
- قوة الأمة الإسلامية هي سبيل انتصار الإسلام وسيادة لغة القرآن
- العودة إلي كتاب مباحث في علوم القرآن
القواعد التي يحتاج إليها المفسر
مدخل
11- القواعد التي يحتاج إليها المفسر:
لا بد في تناول
أي علم من العلوم من معرفة أسسه العامة ومميزاته الخاصة حتى يكون الطالب له على
بصيرة، وبقدر ما يتمكن الإنسان من آلة العلم بقدر ما يحرز من نصر فيه، حيث يلج
فصوله من أبوابها وقد أعطي مفاتيحها، وإذا كان القرآن الكريم قد نزل بلسان عربي
مبين: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} 1،
فإن القواعد التي يحتاج إليها المفسِّر في فهم القرآن ترتكز على قواعد العربية،
وفهم أسسها، وتذوق أسلوبها، وإدراك أسرارها، ولذلك كله فصول متناثرة، ومباحث
مستفيضة في فروع العربية وعلومها، إلا أننا نستطيع أن نجمع موجزًا لأهم ما يجب
معرفته في الأمور الآتية:
1 يوسف: 2.
1- الضمائر:
للضمائر
قواعدها اللغوية التي استنبطها علماء اللغة، من القرآن الكريم، ومن مصادر العربية
الأصيلة، ومن الحديث النبوي، ومن كلام العرب الذين يُستشهد بكلامهم نظمًا ونثرًا،
وقد ألَّف ابن الأنباري1 في بيان الضمائر الواقعة في القرآن مجلدين2.
وأصل
وضع الضمير للاختصار، فهو يُغني عن ذكر ألفاظ كثيرة، ويحل محلها مع سلامة المعنى
وعدم التكرار، فقد قام في قوله تعالى: {أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً
وَأَجْرًا عَظِيمًا} 3, مقام عشرين كلمة لو أُتِيَ بها مُظهَرة، هي
1
هو أبو بكر محمد بن القاسم الأنباري، كان له عناية باللغة وبعلوم القرآن، توفي
سنة 328 هجرية.
2 انظر "الإتقان" جـ1 ص186.
3 الأحزاب:
35.
المذكورة في صدر الآية: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ
وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ
وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ
وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ
وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ
وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ
مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} 1.
والأصل تقديم مفسر لضمير الغائب..
ويعلل النحاة هذا الأصل بأن ضمير المتكلم والمخاطب يفسرهما المشاهدة، وضمير
الغائب عار عن هذا الوجه من التفسير، فكان الأصل تقديم معاده ليعلم المراد
بالضمير قبل ذكره. ولذلك قالوا: يمتنع عود الضمير على متأخر لفظًا ورتبة،
واستثنوا من هذه القاعدة مسائل يرجع فيها الضمير إلى ما استغني عن ذكره بما يدل
عليه من قرائن في نفس اللفظ، أو أحوال أخرى تحف بمقام الخطاب2، قال ابن مالك في
"التسهيل" : "الأصل تقديم مفسر ضمير الغائب، ولا يكون غير الأقرب إلا بدليل، وهو
إما مصرح به بلفظه، أو مستغنى عنه بحضور مدلوله حسًّا أو علمًا، أو بذكر ما هو له
جزء أو كل أو نظير أو مصاحب بوجه ما" .
وعلى هذا فالمرجع الذي يعود
إليه ضمير الغيبة. يكون ملفوظًا به سابقًا عليه مطابقًا له -وهذا هو الكثير
الغالب- كقوله تعالى: {وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ} 3, أو يكون ما سبق متضمنًا له،
كقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ
بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا
اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} 4.
1 الأحزاب: 35.
2
ألقى الدكتور طه حسين في مؤتمر المستشرقين السابع عشر بجامعة أكسفورد سنة 1347
هجرية محاضرة عنوانها "ضمير الغائب واستعماله اسم إشارة في القرآن" نشرتها مجلة
الرابطة الشرقية جاء فيها: إن ضمير الغائب يجب أن يعود إلى مذكور يتقدمه لفظًا
ورتبة، يطابق هذا المذكور في التذكير والتأنيث وفي الإفراد والتثنية والجمع، وأن
ما ورد على خلاف ذلك تأولوه بتكلف, وأوضح هذا بأمثلة من القرآن، وقد رد عليه
الأستاذ محمد الخضر حسين. انظر "بلاغة القرآن" ص64 وما بعدها.
3 هود:
42.
4 المائدة: 8.
فإن ضمير "هو" يعود على العدل الذي
يتضمنه لفظ "اعدلوا" أي إن العدل أقرب للتقوى, أو دالًّا عليه بالتزام كقوله:
{فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ
إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} 1, فالضمير في "إليه" يعود على العافي الذي يستلزمه
"عُفِيَ" .
وقد يكون المرجع متأخرًا لفظًا لا رتبة كقوله: {فَأَوْجَسَ
فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى} 2، أو لفظًا ورتبة كما في باب ضمير الشأن والقصة
ونعم وبئس كقوله: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} 3، وقوله: {فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ}
4, وقوله: {بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا} 5، وقوله: {سَاءَ مَثَلًا الْقَوْمُ}
6، أو متأخرًا دالًّا عليه كقوله: {فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ} 7,
فضمير الرفع مضمر يدل عليه "الحلقوم" ، والتقدير: فلولا إذا بلغت الروح الحلقوم,
أو مفهومًا من السياق كقوله: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} 8, أي على الأرض،
وقوله: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} 9, أي القرآن، وقوله:
{عَبَسَ وتَوَلَّى} 10, أي النبي -صلى الله عليه وسلم- وقوله: {أَمْ يَقُولُونَ
افتْرَاهُ} 11, فالواو في "يقولون" للمشركين، وفاعل "افترى" للنبي -صلى الله عليه
وسلم- ومفعوله للقرآن.
وربما عاد الضمير على اللفظ دون المعنى كقوله:
{وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي
كِتَابٍ} 12, فالضمير في "عمره" المراد به عمر معمر آخر، قال الفراء: يريد آخر
غير الأول، فكنى عنه بالضمير كأنه الأول، لأن لفظ الثاني لو ظهر كان كالأول، كأنه
قال: ولا ينقص من عمر معمر، فالكناية في عمره ترجع إلى آخر غير الأول، ومثله
قولك: عندي درهم ونصفه، أي نصف آخر "13."
1 البقرة: 178.
2
طه: 67.
3 الإخلاص: 1.
4 الأنبياء: 97.
5
الكهف: 5.
6 الأعراف: 177.
7 الواقعة: 83.
8
الرحمن: 26.
9 القدر: 1.
10 عبس: 1.
11 هود:
13.
12 فاطر: 11.
13 راجع كتب التفسير في ذلك.
وربما
عاد الضمير على المعنى فقط كقوله: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي
الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا
نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ
كَانَتَا اثْنَتَيْنِ} 1, فالضمير في "كانتا" لم يتقدم لفظ تثنية يعود عليه، لأن
الكلالة تقع على الواحد والاثنين والجمع، فثنى الضمير الراجع إليها حملًا على
المعنى، وقوله {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ
عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا} 2, فالضمير في "منه" يعود على معنى الصدقات، لأنه في
معنى الصداق، أو ما أصدق كأنه قيل: وآتوا النساء، صداقهن، وما أصدقتموهن.
وقد
يؤتى بالضمير أولًا ثم يخبر عنه بما يفسره، كقوله: {إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا
الدُّنْيَا} 3.
وقد يثنى الضمير ويعود على أحد المذكورين كقوله:
{يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} 4, وإنما يخرج من أحدهما. وهو
الملح دون العذب، لأنه إذا خرج من أحدهما فقد خرج منهما. وبهذا قال الزجاج
وغيره.
وقد يعود على ملابس ما هو له كقوله: {لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا
عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا} 5, أي ضحى يومها لا ضحى العشية، لأن العشية لا ضحى
لها.
وقد يراعى في الضمير اللفظ أولًا، ثم يراعى المعنى ثانيًا،
كقوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ
وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} 6, أفرد الضمير في "يقول" باعتبار لفظ "من" ثم جمع في
"وما هم" باعتبار معناه.
1 النساء: 176.
2 النساء: 4.
3
الأنعام: 29.
4 الرحمن: 22.
5 النازعات: 46.
6
البقرة: 8.
2- التعريف والتنكير:
للتنكير مقامات: منها:
إرادة الوحدة كقوله: {وََجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى} 1, أي
رجل واحد - أو إرادة النوع كقوله: {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى
حَيَاةٍ} 2, أي نوع من الحياة، وهو طلب الزيادة في المستقبل، لأن الحرص لا يكون
على الماضي ولا على الحاضر - أو هما معًا كقوله: {وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ
دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ} 3, أي كل نوع من أنواع الدواب من أنواع الماء، وكل فرد من
أفراد الدواب من فرد من أفراد النطف - أو التعظيم كقوله: {فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ
مِنَ اللَّهِ} 4, أي حرب عظيمة - أو التكثير كقوله: {إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا} 5,
أي أجرًا وافرًا - أو هما معًا كقوله: {وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ
رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ} 6, أي رسل عظام ذوو عدد كثير - أو التحقير كقوله: {مِنْ
أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ} 7, أي من شيء هين حقير مهين - أو التقليل كقوله: {وَعَدَ
اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا
الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ
وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ} 8, أي رضوان قليل منه أكبر من الجنات لأنه
رأس كل سعادة.
وأما التعريف فله مقامات تختلف باختلاف كل نوع من أنواع
التعريف.
ويكون بالإضمار لأن المقام مقام المتكلم، أو الخطاب، أو
الغيبة وبالعلمية لإحضاره بعينه في ذهن السامع ابتداء باسم يخصه - أو لتعظيمه
كقوله: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ} 9، أو إهانته كقوله: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي
لَهَبٍ وَتَبَّ} 10، وبالإشارة لبيان حاله في القرب كقوله: {هَذَا خَلْقُ اللَّهِ
فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ} 11، أو لبيان حاله في العبد
كقوله: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} 12،
1 القصص: 20.
2
البقرة: 96.
3 النور: 45.
4 البقرة: 279.
5
الشعراء: 41.
6 فاطر: 4.
7 عبس: 18.
8 التوبة:
72.
9 الفتح: 29.
10 المسد: 1.
11 لقمان:
11.
12 البقرة: 5.
أو لقصد تحقيره بالقرب كقوله: {وَمَا
هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ} 1، أو لقصد تعظيمه بالبعد
كقوله: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ} 2، أو التنبيه على أن المشار إليه
المعقب بأوصاف جدير بما يرد بعده من أجلها كقوله: {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ,
الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاة وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ
يُنفِقُونَ, وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ
مِنْ قَبْلِكَ وَبِالآخرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ, أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ
رَبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} 3، وبالموصول لكراهة ذكره باسمه
سترًا عليه، أو غير ذلك كقوله: {وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا} 4،
وقوله: {وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ} 5، أو لإرادة
العموم كقوله: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} 6، أو
الاختصار كقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ
آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا} 7، إذ لو عدد أسماء القائلين
لطال الكلام - وبالألف واللام للإشارة إلى معهود ذكرى، كقوله: {اللَّهُ نُورُ
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ
الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ} 8، أو
معهود ذهني كقوله: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ
يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} 9، أو معهود حضوري كقوله: {الْيَوْمَ
أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} 10، أو لاستغراق الإفراد كقوله: {إِنَّ
الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} 11, بدليل الاستثناء - أو لاستغراق خصائص الإفراد
كقوله: {ذَلِكَ الْكِتَابُ} 12، أي الكتاب الكامل في الهداية الجامع لجميع صفات
الكتب المنزلة بخصائصها، أو لتعريف الماهية والحقيقة والجنس، كقوله: {وَجَعَلْنَا
مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} 13.
1 العنكبوت: 64.
2
البقرة: 2.
3 البقرة: 2- 5.
4 الأحقاف: 17.
5
يوسف: 23.
6 العنكبوت: 69.
7 الأحزاب: 69.
8
النور: 35.
9 الفتح: 18.
10 المائدة: 3.
11
العصر: 3.
12 البقرة: 2.
13 الأنبياء: 30.
وإذا
ذُكر الاسم مرتين فله أربع أحوال: لأنه إما أن يكونا معرفتين، أو نكرتين، أو
الأول نكرة والثاني معرفة، أو بالعكس.
1- فإن كانا معرفتين فالثاني هو
الأول غالبًا كقوله: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ, صِرَاطَ الَّذِينَ
أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} 1.
2- وإن كانا نكرتين فالثاني غير الأول
غالبًا كقوله: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ
ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً} 2, فإن
المراد بالضعف الأول النطفة، وبالثاني الطفولية، وبالثالث الشيخوخة، وقد اجتمع
القسمان في قوله تعالى: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا, إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ
يُسْرًا} 3, ولذلك رُوِي عن ابن عباس: "لن يغلب عُسر يُسرين" لأن العسر الثاني
أعاده بـ "الـ" ، فكان عين الأول، ولما كان اليُسر الثاني غير الأول لم يعده بـ
"الـ" .
3- وإن كان الأول نكرة، والثاني معرفة، فالثاني هو الأول
حملًا على العهد. كقوله: {كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا, فَعَصَى
فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ} 4.
4- وإن كان الأول معرفة، والثاني نكرة،
توقف المراد على القرائن، فتارة تقوم قرينة على التغاير. كقوله: {وَيَوْمَ
تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ} 5,
وتارة تقوم قرينة على الاتحاد، كقوله: {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا
الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ, قُرْآنًا عَرَبِيًّا}
6.
1 الفاتحة: 6، 7.
2 الروم: 54.
3 الشرح: 5،
6.
4 المزمل: 15، 16.
5 الروم: 55.
6 الزمر:
27، 28.
3- الإفراد والجمع:
بعض ألفاظ القرآن يكون إفراده
لمعنى خاص، وجمعه لإشارة معينة، أو يؤثر جمعه على إفراده أو العكس.
فمن
ذلك أننا نرى بعض الألفاظ لم يأت في القرآن إلا مجموعًا، وعند الاحتياج إلى صيغة
المفرد، يستعمل مرادفه كلفظة "اللُّب" فإنها لم ترد إلا مجموعة كقوله: {إِنَّ فِي
ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ} 1, ولم يجئ في القرآن مفرده، بل جاء
مكانه "القلب" كقوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ} 2،
ولفظة "الكوب" لم تأت مفردة وقد أتى الجمع: {وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ} 3.
وعكس
هذا النوع ألفاظ لم تأت إلا مفردة في كل موضع من مواضع القرآن. ولما أريد جمعها
جُمعت في صورة من الروعة ليس لها مثال، كقوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ
سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} 4, ولم يقل سبحانه: "وسبع
أرضين" لما في ذلك من الخشونة واختلال النظم.
ومن ذلك لفظة "السماء"
ذكرت تارة بصيغة الجمع وتارة بصيغة الإفراد، لنكت مناسبة، فحيث أريد العدد، أُتِي
بصيغة الجمع الدالة على سعة العظمة والكثرة، كقوله: {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي
السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} 5، وحيث أريد الجهة أُتِي بصيغة الإفراد
كقوله: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ} 6.
ومن
ذلك "الريح" ذُكرت مجموعة ومفردة، فتُذكر مجموعة في سياق الرحمة وتُفرد في سياق
العذاب، وذكر في حكمة ذلك أن رياح الرحمة مختلفة الصفات والمنافع، ويقابل بعضها
الآخر أحيانًا. لينشأ ريح لطيفة تنفع الحيوان
1 الزمر: 21.
2
سورة ق: 37.
3 الغاشية: 14.
4 الطلاق: 12.
5
الحشر: 1.
6 الملك: 16.
والنبات. فكانت في الرحمة رياحًا.
وأما في العذاب فإنها تأتي من وجه واحد، ولا معارض لها ولا دافع، وقد أخرج ابن
أبي حاتم وغيره عن أُبَيِّ بن كعب قال: كل شيء في القرآن من الرياح فهو رحمة، وكل
شيء من الريح فهو عذاب. ولهذا ورد في الحديث: "اللهم اجعلها رياحًا ولا تجعلها
ريحًا" وما عرج عن ذلك فهو لنكتة أخرى1.
ومن ذلك إفراد "النور" وجمع
"الظلمات" ، وإفراد "سبيل الحق" وجمع "سبل الباطل" لأن طريق الحق واحدة، وطرق
الباطل متشعبة متعددة. ولهذا وحَّد "ولي المؤمنين" وجمع "أولياء الكافرين"
لتعددهم كما في قوله تعالى: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ
مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ
الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ} 2, وقوله:
{وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ
فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} 3.
ومن ذلك "المشرق والمغرب"
بالإفراد والتثنية والجمع. فالإفراد باعتبار الجهة والإشارة إلى ناحيتي الشرق
والغرب كقوله: {رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ} 4, والتثنية باعتبار مطلعي
ومغربى الشتاء والصيف كقوله: {رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ} 5.
والجمع باعتبار مطلع كل يوم ومغربه، أو مطلع كل فصل ومغربه كقوله: {فَلا أُقْسِمُ
بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ} 6.
1 فقد أفردت في قوله تعالى:
{وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ} [يونس: 22] بوجهين: لفظي، وهو المقابلة في
قوله: {جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ} ، ومعنوي وهو أن تمام الرحمة هنا، إنما يحصل
بوحدة الريح لا باختلافها، فإن السفينة لا تسير إلا بريح واحدة من وجه واحد وإلا
تعرضت للهلاك.
2 البقرة: 257.
3 الأنعام: 153.
4
المزمل: 9.
5 الرحمن: 17.
6 ألَّف أبو الحسين الأخفش
كتابًا في الإفراد والجمع، ذكر فيه جميع ما وقع في القرآن مفردًا، ومفرد ما وقع
جمعًا، انظر "الإتقان" جـ1 ص193, [والآية من سورة المعارج: 40] .
4-
مقابلة الجمع بالجمع أو بالمفرد:
مقابلة الجمع بالجمع تارة تقتضي
مقابلة كل فرد من هذا، بكل فرد من هذا, كقوله: {وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ
لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا
ثِيَابَهُمْ} 1, أي استغشى كل منهم ثوبه. وقوله: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ
أَوْلادَهُنَّ} 2, أي كل واحدة ترضع ولدها. وتارة يقتضي ثبوت الجميع لكل فرد من
أفراد المحكوم عليه كقوله: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ
يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} 3, أي
اجلدوا كل واحد منهم ذلك العدد. وتارة يحتمل الأمرين فيحتاج إلى دليل يُعيِّن
أحدهما.
أما مقابلة الجمع بالمفرد. فالغالب ألا يقتضي تعميم المفرد
وقد يقتضيه كما في قوله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ
مِسْكِينٍ} 4, أي على كل واحد لكل يوم طعام مسكين.
1 نوح: 7.
2
البقرة: 233.
3 النور: 4.
4 البقرة: 184.
5- ما
يُظَن أنه مترادف وليس من المترادف:
من ذلك "الخوف والخشية" فالخشية
أعلى من الخوف. وهي أشد منه لأنها مأخوذة من قولهم: شجرة خشية: أي يابسة، وهو
فوات الكلية. والخوف من قولهم: ناقة خوفاء: أي بها داء. وهو نقص وليس بفوات. كما
أن الخشية تكون من عظم المخشي وإن كان الخاشي قويًّا. فهي خوف يشوبه تعظيم.
والخوف من ضعف الخائف، وإن كان المخوف أمرًا يسيرًا. ومادة الخشية: الخاء والشين
والياء، في تصاريفها تدل على العظمة، فالشيخ: السيد الكبير، والخيش: الغليظ من
اللباس، ولذا وردت الخشية غالبًا في حق الله تعالى، كقوله: {إِنَّمَا يَخْشَى
اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} 1، وقوله:
1 فاطر: 28.
{الَّذِينَ
يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا
اللَّهَ} 1، وأما قوله تعالى: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} 2, فقد جاء
في وصف الملائكة بعد ذكر قوتهم وشدة خلقهم، فالتعبير عنهم بالخوف لبيان أنهم وإن
كانوا غلاظًا شدادًا فهم بين يديه تعالى ضعفاء، ثم أردفه بالفوقية الدالة على
العظمة، فجمع بين الأمرين اللذين تتضمنهما الخشية دون إخلال بقوة بأسهم، وهما
خوفهم من ربهم مع تعظيمه سبحانه.
ومن ذلك "الشُّح والبخل" فالشح أشد
من البخل لأنه بخل مع حرص، وذلك فيما يكون عادة.
ومن ذلك "السبيل
والطريق" فالسبيل أغلب وقوعًا في الخير، أما الطريق فلا يكاد يُراد به الخير إلا
مقترنًا بما يدل على ذلك من وصف أو إضافة كقوله: {يَهْدَي إِلَى الْحَقِ وَإَلَى
طَرِيْقٍ مُسْتَقِيْم} 3, قال الراغب في مفرداته: السبيل: الطريق الذي فيه سهولة
فهو أخص.
ومن ذلك "مد وأمد" قال الراغب: أكثر ما جاء الإمداد في
المحبوب كقوله: {وَأَمْدَدْنَاهُمْ بِفَاكِهَةٍ} 4, والمد في المكروه كقوله:
{وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا} 5.
1 الأحزاب: 39.
2
النحل: 50.
3 الأحقاف: 30.
4 الطور: 22.
5
مريم: 79.
6- السؤال والجواب:
الأصل في الجواب أن يكون
مطابقًا للسؤال، وقد يعدل في الجواب عما يقتضيه السؤال تنبيهًا على أنه كان من حق
السؤال أن يكون كذلك، وهو المسمى بأسلوب الحكيم، ويمثلون له بقوله تعالى:
{يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجّ} 1,
فقد سألوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن الهلال:
1 البقرة:
189.
لم يبدو دقيقًا مثل الخيط ثم يزيد قليلًا حتى يمتلئ، ثم لا يزال
ينقص حتى يعود كما بدأ؟ فأجيبوا ببيان حكمة ذلك تنبيهًا على أن الأهم السؤال عن
ذلك لا ما سألوا عنه.
وقد يجيء الجواب أعم من السؤال للحاجة إليه
كقوله تعالى: {قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ} 1, في
جواب: {مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْر} 2.
وقد
يجيء أنقص لاقتضاء الحال ذلك كقوله تعالى: {قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ
أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي} 3, في جواب: {ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا
أَوْ بَدِّلْهُ} 4؛ لأن التبديل أسهل من الاختراع، وقد نفى إمكانه فالاختراع
أولى.
والسؤال إذا كان لطلب معرفة تعدى إلى المفعول الثاني تارة بنفسه
وتارة بـ "عن" وهو أكثر كقوله: {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ} 5، وإذا كان
لاستدعاء مال ونحوه فإنه يتعدى بنفسه أو بـ "من" وبنفسه أكثر كقوله: {وَاسْأَلُوا
مَا أَنْفَقْتُمْ} 6، وقوله: {وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ} 7.
1
الأنعام: 64.
2 الأنعام: 63.
3 يونس: 15.
4
يونس: 15.
5 الإسراء: 85.
6 الممتحنة: 10.
7
النساء: 32.
7- الخطاب بالاسم والخطاب بالفعل:
الاسم يدل
على الثبوت والاستمرار. والفعل يدل على التجدد والحدوث، ولكل منهما موضعه الذي لا
يصلح له الآخر، فيأتي التعبير مثلًا في النفقة بالفعل كقوله: {الَّذِينَ
يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ} 1, ولم يقل "المنفقون" ويأتي التعبير
في الإيمان بالاسم كقوله: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ
وَرَسُولِهِ} 2؛ لأن النفقة أمر فعلي شأنه الحدوث والتجدد بخلاف
1 آل
عمران: 134.
2 الحجرات: 15.
الإيمان فإنه له حقيقة تقوم
بدوام مقتضاها، والمراد بالتجدد في الماضي الحصول مرة بعد أخرى, وفي المضارع أن
من شأنه أن يتكرر ويقع مرة بعد أخرى، ومضمر الفعل في ذلك كمظهره ولهذا قالوا: إن
سلام إبراهيم عليه السلام أبلغ من سلام الملائكة في قوله تعالى: {إِذْ دَخَلُوا
عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلامًا} 1, فالنصب على أنه مصدر سد مسد الفعل، وأصله: نسلم
عليك سلامًا، وهذه العبارة مؤذنة بحدوث التسليم منهم، بخلاف رده: {قَالَ سَلامٌ}
2, فإنه معدول به إلى الرفع على الابتداء، وخبره محذوف والمعنى: عليكم سلام.
للدلالة على إثبات السلام، كأنه قصد أن يحييهم بأحسن مما حيوه به، أخذًا بأدب
الله تعالى3 وهو أيضًا من إكرامه لهم.
1 الذاريات: 25.
2
الذاريات: 25.
3 في قوله تعالى: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ
فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} [النساء: 86] .
8-
العطف:
وهو ثلاثة أقسام:
1- عطف على اللفظ: وهو الأصل.
2-
وعطف على المحل: وجعل منه الكسائي قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا
وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِونَ} 1, فجعل "الصابئون" عطفًا على محل "إن"
واسمها، ومحلها الرفع بالابتداء.
3- وعطف على المعنى: ومنه قوله
تعالى: {لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ} 2, في
قراءة غير أبي عمرو بجزم "أكن" وخرَّجه
1 المائدة: 69.
2
المنافقون: 10.
في قراءة غير الخليل وسيبويه على أنه عطف على التوهم1،
لأن معنى "لولا أخرتني فأصَّدَّق" ومعنى "أخرني أصَّدَّق" واحد، كأنه قيل: إن
أخرتني أصَّدَّق وأكن، كما خرَّج الفارسي عليه قراءة قنبل: {إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ
وَيَصْبِرْ} 2, بسكون الراء؛ لأن "مَن" الموصولة فيها معنى الشرط.
واختُلِف
في جواز عطف الخبر على الإنشاء وعكسه، فمنعه الأكثرون، وأجازه جماعة مستدلين
بقوله تعالى: {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} 3, عطف على "تؤمنون" في الآية: {يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ
عَذَابٍ أَلِيمٍ, تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} 4, وخرَّجه الآخرون على أن
"تؤمنون" بمعنى آمنوا، فهو خبر بمعنى الإنشاء، فصح عطف الإنشاء عليه، و "بشِّر"
كأنه قيل: آمنوا وجاهدوا يثبتكم الله وينصركم، وبشِّر يا رسول الله المؤمنين
بذلك، وفائدة التعبير بالخبر في موضع الأمر الإيذان بوجوب الامتثال، أي كأنه
امتثل فهو يُخبر عن إيمان وجهاد موجودين.
واختُلِف أيضًا في جواز
العطف على معمولي عاملين، واستدل المجيزون بقوله تعالى: {إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ
وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ, وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ
دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ, وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا
أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ
مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} 5، فقوله:
{وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} ، {آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} من العطف
على معمولي عاملين سواء نصبت أو رفعت، فالعاملان إذا نصبت "إن" و "في" أقيمت
الواو مقامهما، فعملت
1 هذه العبارة هي التي حكاها سيبويه عن الخليل،
وهي المنقولة في كتب التفسير: إنه جزم على توهم الشرط الذي يدل عليه التمني, ولفظ
"التوهم" غير لائق في تفسير القرآن والأَوْلَى أن يقال: عطف على المعنى، كما هو
صريح العبارة بعد.
2 يوسف: 90.
3 الصف: 13.
4
الصف: 10، 11.
5 الجاثية: 3- 5.
الواو الجر في:
{وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} والنصب في "آيات" وإذا رفعت فالعاملان
"الابتداء" و "في" عملت الواو الرفع في "آيات" والجر في "اختلاف" ذكر هذا
الزمخشري1.
واختُلِف أيضًا في جواز العطف على الضمير المجرور من غير
إعادة الجار، وخرَّج عليه المجيزون قراءة حمزة: {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي
تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ} 2, بجر الأرحام عطفًا على الضمير، وجعلوا منه
قوله تعالى: {وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ
الْحَرَام} 3, على أن "المسجد" معطوف على ضمير "به" .
1 انظر تفسير
الآية في "الكشاف" للزمخشري.
2 النساء: 1.
3 البقرة:
217.
الفرق بين الإيتاء والإعطاء
وهناك فرق بين الإيتاء
والإعطاء في القرآن، قال الجويني1: "إن الإيتاء أقوى من الإعطاء في إثبات مفعوله،
لأن الإعطاء له مطاوع، يقال: أعطاني فعطوت، ولا يقال في الإيتاء: آتاني فأتيت،
وإنما يقال: آتاني فأخذت, والفعل الذي له مطاوع أضعف في إثبات مفعوله من الذي لا
مطاوع له، لأنك تقول: قطعته فانقطع، فيدل على أن فعل الفاعل كان موقوفًا على قبول
المحل، لولاه لما ثبت المفعول، ولهذا يصح: قطعته فما انقطع، ولا يصح فيما لا
مطاوع له ذلك، فلا يجوز أن يقال: ضربته فانضرب أو ما انضرب، ولا قتلته فانقتل أو
ما انقتل، لأن هذه أفعال إذا صدرت من الفاعل ثبت لها المفعول في المحل، والفاعل
مستقل بالأفعال التي لا مطاوع لها، فالإيتاء إذن أقوى من الإعطاء" .
1
انظر "البرهان" للزركشي جـ4 ص85.
ولهذا شواهده، فقد قال تعالى:
{يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ
خَيْرًا كَثِيرًا} 1, لأن الحكمة إذا ثبتت في المحل دامت، وهي عظيمة الشأن، وقال:
{آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ} 2، وقال: {إِنَّا
أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} 3؛ لأن بعد الكوثر منازل أعلى، حيث يكون الانتقال إلى
ما هو أعظم منه في الجنة، وقال: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ
صَاغِرُونَ} 4؛ لأن الجزية موقوفة على قبول منا، وهم لا يؤتونها إيتاء عن طيب
قلب، وإنما عن كره، وقد عبر بالإيتاء في جانب المسلمين بالنسبة إلى الزكاة، وفي
ذلك: إشارة إلى أن المؤمن ينبغي أن يكون إعطاؤه للزكاة بقوة، لا يكون كإعطاء
الجزية.
1 البقرة: 269.
2 الحجر: 87.
3 الكوثر:
1.
4 التوبة: 29.
ألفاظ
لفظ "فعل" :
يجيء
لفظ "فعل" كناية عن أفعال متعددة لا للدلالة على فعل واحد. فيفيد بهذا الاختصار،
كقوله تعالى: {لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} 1, فإنها تشمل كل منكر لا
يتناهون عنه، وقوله: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا} 2, أي فإن لم
تأتوا بسورة من مثله ولن تأتوا بسورة من مثله.
وحيث أطلقت في كلام
الله فهي محمولة على الوعيد الشديد كقوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ
رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ} 3، وقوله: {وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا
بِهِمْ} 4.
1 المائدة: 79.
2 البقرة: 24.
3
الفيل: 1.
4 إبراهيم: 45.
لفظ "كان" : 1
وردت
"كان" في الإخبار عن ذات الله وصفاته بالقرآن كثيرًا وقد اختلف النحاة وغيرهم في
أنها تدل على الانقطاع، على مذاهب:
أحدها: أنها تفيد الانقطاع لأنها
فعل يُشعر بالتجديد.
والثاني: لا تفيده، بل تقتضي الدوام والاستمرار،
وبه جزم ابن معطى2 في ألفيته، حيث قال:
وكان للماضي الذي ما انقطعا
وقال
الراغب في قوله تعالى: {وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا} 3, نبه بقوله:
"كان" على أنه لم يزل منذ أوجد منطويًا على الكفر.
والثالث: أنه عبارة
عن وجود شيء في زمان ماض على سبيل الإبهام. وليس فيه دليل على عدم سابق، ولا على
انقطاع طارئ، ومنه قوله تعالى: {وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} 4, قاله
الزمخشري في قوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} 5, عند
تفسيره للآية في "الكشاف" .
وذكر ابن عطية في سورة الفتح أنها حيث
وقعت في صفات الله فهي مسلوبة الدلالة على الزمان.
والصواب من هذه
المقالات مقالة الزمخشري، وإنها تفيد اقتران معنى الجملة
1 انظر
"البرهان" جـ4 ص121.
2 هو الشيخ زين الدين يحيى بن عبد المعطي المتوفى
سنة 628 هجرية، سماها "الدرة الأليفة" وأولها:
يقول راجي ربه الغفور
... يحيى بن معط بن عبد النور
وإليها أشار ابن مالك بقوله: فائقة
ألفية ابن معطي.
3 الإسراء: 27.
4 الأحزاب: 50.
5
آل عمران:110.
التي تليها بالزمن الماضي لا غير، ولا دلالة لها نفسها
على انقطاع ذلك المعنى ولا بقائه، بل إن أفاد الكلام شيئًا من ذلك كان لدليل
آخر.
وعلى هذا يُحمل معناها فيما وقع في القرآن من إخبار الله تعالى
عن صفاته وغيرها بلفظ "كان" كثيرًا. مثل قوله تعالى: {وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا
عَلِيمًا} 1، {وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا} 2، {وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا
رَحِيمًا} 3، {وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ} 4، {وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ
شَاهِدِينَ} 5.
وحيث أخبر الله بها عن صفات الآدميين فالمراد التنبيه
على أنها فيهم غريزة وطبيعة مركوزة في النفس كقوله تعالى: {وَكَانَ الْإِنْسَانُ
عَجُولًا} 6، وقوله: {إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً} 7.
وقد تتبع
أبو بكر الرازي استعمال "كان" في القرآن، واستنبط وجوه استعمالها فقال: "كان" في
القرآن على خمسة أوجه:
بمعنى الأزل والأبد، كقوله تعالى: {وَكَانَ
اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} 8.
وبمعنى المعنى المنقطع, كقوله تعالى:
{وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ} 9, وهو الأصل في معاني "كان" كما
تقول: كان زيد صالحًا أو فقيرًا أو مريضًا أو نحوه.
وبمعنى الحال،
كقوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ} 10، وقوله: {إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ
عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} 11، وبمعنى الاستقبال، كقوله تعالى:
{وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا} 12.
1 النساء:
148.
2 النساء: 130.
3 الأحزاب: 59.
4
الأنبياء: 81.
5 الأنبياء: 78.
6 الإسراء: 11.
7
الأحزاب: 72.
8 النساء: 170.
9 النمل: 48.
10
آل عمران: 110.
11 النساء: 103.
12 الإنسان: 7.
وبمعنى
"صار" كقوله: {وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} 1.
وتأتي "كان" في النفي
ويكون المراد بها نفي صحة الخبر لا نفي وقوعه ولذا تؤول بمعنى "ما صح وما استقام"
كقوله تعالى: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ
فِي الْأَرْضِ} 2، وقوله: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ
اللَّهِ} 3، وقوله: {وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا
أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا} 4.
1 "البرهان" للزركشي جـ4 ص127 - [والآية
من سورة البقرة: 34] .
2 الأنفال: 67.
3 التوبة: 17.
4
النور: 16.
لفظ "كاد" :
وللعلماء في "كاد" مذاهب:
أحدها:
أنها كسائر الأفعال نفيًا وإثباتًا، فإثباتها إثبات ونفيها نفي، لأن معناها
المقاربة، فمعنى كاد يفعل: قارب الفعل، ومعنى ما كاد يفعل: لم يقاربه، فخبرها
منفي دائمًا، ولكن النفي في الإثبات مستفاد من معناها، لأن الإخبار بقرب الشيء
يقتضي عرفًا عدم حصوله، وإلا لم يتجه الإخبار بقربه, أما إذا كانت منفية فلأنه
إذا انتفت مقاربة الفعل اقتضى عقلًا عدم حصوله، ويدل له قوله تعالى: {إِذَا
أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا} 1, ولهذا كان أبلغ من قوله: "لم يرها" لأن
من لم ير قد يقارب الرؤية.
والثاني: أنها تختلف عن سائر الأفعال
إثباتًا ونفيًا، فإثباتها نفي، ونفيها إثبات، ولذا قالوا: إنها إذا أثبتت نفت،
وإذا نفت أثبتت، فإذا قيل: كاد يفعل، فمعناه أنه لم يفعله بدليل قوله تعالى:
{وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ} 2,
1 النور: 40.
2
الإسراء: 73.
لأنهم لم يفتنوه، وإذا قيل: لم يكد يفعل، فمعناه أنه
فعله بدليل قوله تعالى: {فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ} 1, لأنهم فعلوا
الذبح.
والثالث: أنها في النفي تدل على وقوع الفعل بعسر وشدة كقوله:
{فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ} .
والرابع: التفصيل في
النفي بين المضارع والماضي، فنفي المضارع نفي، ونفي الماضي إثبات، يدل على الأول
قوله: {لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا} مع أنه لم ير شيئًا، ويدل على الثاني قوله:
{فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُون} مع أنهم فعلوا.
والخامس:
أنها في النفي تكون للإثبات إذا كان ما بعدها متصلًا بما قبلها ومتعلقًا به،
كقولك: ما كدت أصل إلى مكة حتى طفت بالبيت الحرام، ومنه قوله تعالى:
{فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ} .
1 البقرة: 71.
لفظ
"جعل" :
تأتي "جعل" في القرآن لعدة معان:
أحدها: بمعنى
"سمى" كقوله تعالى: {الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ} 1, أي سموه كذبًا،
وقوله: {وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا}
2, على قول، ويشهد له قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ
لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثَى} 3.
الثاني: بمعنى
"أوجد" وتتعدى إلى مفعول واحد، والفرق بينها وبين الخلق، أن الخلق فيه معنى
التقدير، ويكون عن عدم سابق حيث لا يتقدم مادة ولا سبب محسوس، بخلاف الجعل بمعنى
الإيجاد، قال تعالى:
1 الحجر: 91.
2 الزخرف: 19.
3
النجم: 27.
{الحَمْدُ للهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ
وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} 1. وإنما الظلمات والنور تنشأ عن أجرام توجد
بوجودها، وتعدم بعدمها.
الثالث: بمعنى النقل من حال إلى حال والتصيير،
فتتعدى إلى مفعولين: إما حسًّا كقوله تعالى: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ
فِرَاش} 2، وإما عقلًا كقوله: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا} 3.
الرابع:
بمعنى الاعتقاد، كقوله تعالى: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ} 4.
الخامس:
بمعنى الحكم بالشيء على الشيء، حقًّا كان أوباطلًا، فالحق، كقوله تعالى: {إِنَّا
رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} 5، والباطل، كقوله:
{وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا}
6.
1 الأنعام: 1.
2 البقرة: 22.
3 سورة ص:
5.
4 الأنعام: 100.
5 القصص: 7.
6 الأنعام:
136.
"لعل" و "عسى" :
تستعمل "لعل" و "عسى" للرجاء والطمع
في كلام المخلوقين حيث يشك الخلق في الأمور الممكنة ولا يقطعون على الكائن منها،
أما بالنسبة إلى الله تعالى:
أ- فقيل: هما يدلان على الحصول والوجوب،
لأن نسبة الأمور إلى الله نسبة قطع ويقين.
ب- وقيل إنهما للترجي على
بابهما، ولكن الترجي يكون بالنسبة إلى المخاطبين.
جـ- وقيل: إن "عسى"
و "لعل" في كثير من المواضع تكون للتعليل.
قال تعالى: {عَسَى أَنْ
يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} 1، وقال سبحانه: {فَاتَّقُوا اللَّهَ
يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} 2.
1 الإسراء:
79.
2 المائدة: 100.
الفرق بين المحكم والمتشابه
مدخل
12- الفرق بين المُحكم والمتشابه: 1
أنزل الله
الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرًا، فرسم للخلق العقيدة السليمة والمبادئ
القويمة في آيات بينات واضحة المعالم، وذلك من فضل الله على الناس حيث أحكم لهم
أصول الدين لتسلم لهم عقائدهم ويتبين لهم الصراط المستقيم، وتلك الآيات هي أم
الكتاب التي لا يقع الاختلاف في فهمها سلامة لوحدة الأمة الإسلامية وصيانة
لكيانها {كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ}
2.
وقد تأتي هذه الأصول الدينية في أكثر من موضع بالقرآن مع اختلاف
اللفظ والعبارة والأسلوب إلا أن معناها يكون واحدًا، فيشبه بعضها الآخر ويوافقه
معنى دون تناقض، أما ما عدا تلك الأصول من فروع الدين فإن في آياتها من العموم
والاشتباه ما يُفسح المجال أمام المجتهدين الراسخين في العلم، حتى يردوها إلى
المُحكم ببناء الفروع على الأصول، والجزئيات على الكليات وإن زاغت بها قلوب أصحاب
الهوى وبهذا الإحكام في الأصول والعموم في الفروع كان الإسلام دين الإنسانية
الخالد الذي يكفل لها خير الدنيا والآخرة على مر العصور والأزمان.
1
راجع هذا الفصل فيما كتبه شيخ الإسلام ابن تيمية عن المُحْكم والمتشابه، والتأويل
في التدمرية وغيرها من رسائله.
2 فصلت: 3.
الإحكام العام
والتشابه العام
المُحكم لغة: مأخوذ من حكمت الدابة وأحكمت: بمعنى
منعت، والحكم: هو الفصل بين الشيئين، فالحاكم يمنع الظالم ويفصل بين الخصمين،
ويميز بين الحق والباطل، والصدق والكذب، ويقال: حكمت السفيه وأحكمته: إذا
أخذت
على يديه، وحكمت الدابة وأحكمتها: إذا جعلت لها حكمة: وهي ما أحاط بالحنك من
اللجام لأنها تمنع الكرس عن الاضطراب، ومنه الحكمة: لأنها تمنع صاحبها عما لا
يليق، وإحكام الشيء: إتقانه، والمحكم: المتقن.
فإحكام الكلام: إتقانه
بتمييز الصدق من الكذب في أخباره، والرشد من الغي في أوامره، والمُحكم منه: ما
كان كذلك.
وقد وصف الله القرآن كله بأنه مُحكم على هذا المعنى فقال:
{الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ}
1, وقال: {الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ} 2, فالقرآن كله محكم: أي إنه
كلام متقن فصيح يميز بين الحق والباطل، والصدق والكذب. وهذا هو الإحكام العام.
والمتشابه
لغة: مأخوذ من التشابه: وهو أن يشبه أحد الشيئين الآخر، والشبهة: هي ألا يتميز
أحد الشيئين من الآخر لما بينهما من التشابه عينًا كان أو معنى، قال تعالى:
{وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهاً} 3, أي يشبه بعضه بعضًا لونًا لا طعمًا وحقيقة،
وقيل: متماثلًا في الكلام والجودة.
وتشابه الكلام: هو تماثله وتناسبه
بحيث يُصدِّق بعضه بعضًا، وقد وصف الله القرآن كله بأنه متشابه على هذا المعنى
فقال: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِي} 4,
فالقرآن كله متشابه: أي إنه يشبه بعضه بعضًا في الكمال والجودة، ويُصدِّق بعضه
بعضًا في المعنى ويماثله، وهذا هو التشابه العام.
وكل من المُحكم
والمتشابه بمعناه المطلق المتقدم لا ينافي الآخر، فالقرآن كله مُحكم بمعنى
الإتقان، وهو متماثل يُصدِّق بعضه بعضًا، فإن الكلام المُحكم المتقن تتفق معانيه
وإن اختلفت ألفاظه، فإذا أمر القرآن بأمر لم يأمر بنقيضه
1 هود: 1.
2
يونس: 1.
3 البقرة: 25.
4 الزمر: 23.
في موضع
آخر، وإنما يأمر به أو بنظيره، وكذلك الشأن في نواهيه وأخباره، فلا تضاد فيه ولا
اختلاف: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً
كَثِيراً} 1.
1 النساء: 82.
الإحكام الخاص والتشابه
الخاص
وهناك إحكام خاص وتشابه خاص ذكرهما الله في قوله: {هُوَ الَّذِي
أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ
وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ
فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ
تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي
الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} 1, وفي معناهما
وقع الاختلاف على أقوال أهمها:
أ- المحكم: ما عُرِف المراد منه.
والمتشابه: ما استأثر الله بعلمه.
ب- المحكم: ما لا يحتمل إلا وجهًا
واحدًا. والمتشابه: ما احتمل أوجهًا.
جـ- المحكم: ما استقل بنفسه ولم
يحتج إلى بيان. والمتشابه: ما لا يستقل بنفسه واحتاج إلى بيان برده إلى غيره.
ويمثلون
للمحكم في القرآن بناسخه وحلاله وحرامه وحدوده وفرائضه ووعده ووعيده. وللمتشابه:
بمنسوخه وكيفيات أسماء الله وصفاته التي في قوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ
اسْتَوَى} 2، وقوله: {هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} 3, وقوله:
{يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} 4، وقوله:
1 آل عمران: 7.
2
طه: 5.
3 القصص: 88.
4 الفتح: 10.
{وَهُوَ
الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} 1، وقوله: {وَجَاءَ رَبُّكَ} 2، وقوله: {وَغَضِبَ
اللَّهُ عَلَيْهِمْ} 3، وقوله: {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ} 4, وقوله:
{فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} 5، إلى غير ذلك، وأوائل السور المفتتحة
بحروف المعجم وحقائق اليوم الآخر وعلم الساعة.
1 الأنعام: 18.
2
الفجر: 22.
3 الفتح: 6.
4 البينة: 8.
5 آل
عمران: 31.
الاختلاف في معرفة المتشابه
وكما وقع الاختلاف
في معنى كل من المُحكم والمتشابه الخاصين وقع الاختلاف في إمكان معرفة المتشابه،
ومنشأ هذا الاختلاف اختلافهم في الوقف في قوله تعالى: {وَالرَّاسِخُونَ فِي
الْعِلْمِ} هل هو مبتدأ خبره {يقولن} والواو للاستئناف، والوقف على قوله: {وَمَا
يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّه} ؟ , أو هو معطوف و {يَقُولُونَ} حال، والوقف
على قوله: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} .
فذهب إلى الأول
"الاستئناف" طائفة منهم أُبَيُّ بن كعب وابن مسعود وابن عباس وغيرهم من الصحابة
والتابعين ومن بعدهم، مستدلين بمثل ما رواه الحاكم في مستدركه عن ابن عباس أنه
كان يقرأ: "وما يعلم تأويله إلا الله ويقول الراسخون في العلم آمنا به" .
وبقراءة
ابن مسعود: "وإن تأويله إلا عند الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به" .
وبما
دلت عليه الآية من ذم متبعي المتشابه ووصفهم بالزيغ وابتغاء الفتنة.
وعن
عائشة قالت: تلا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هذه الآية: {هُوَ الَّذِي
أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ} 1 ... إلى قوله تعالى: {أُولُو الْأَلْبَابِ} 2,
قال رسول الله, صلى الله عليه وسلم: "فإذا رأيت الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك
الذين سمى الله فاحذرهم" 3.
وذهب إلى الرأي الثاني "العطف" طائفة على
رأسهم مجاهد، فقد أخرج عبد بن حميد عن مجاهد في قوله: {وَالرَّاسِخُونَ فِي
الْعِلْمِ} قال: "يعلمون تأويله ويقولون: آمنا به" . واختار هذا القول النووي،
فقال في شرح مسلم: إنه الأصح لأنه يبعد أن يخاطب الله عباده، بما لا سبيل لأحد من
الخلق إلى معرفته4.
1 آل عمران: 7.
2 آل عمران: 7.
3
أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما.
4 الإتقان جـ2 ص3.
التوفيق
بين الرأيين بفهم معنى التأويل
بالرجوع إلى معنى "التأويل" يتبين أنه
لا منافاة بين الرأيين، فإن لفظ التأويل ورد لثلاثة معان:
الأول: صرف
اللفظ عن الاحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح لدليل يقترن به، وهذا هو اصطلاح
أكثر المتأخرين.
الثاني: التأويل بمعنى التفسير، فهو الكلام الذي
يفسَّر به اللفظ حتى يُفهم معناه.
الثالث: التأويل: هو الحقيقة التي
يؤول إليها الكلام، فتأويل ما أخبر الله به عن ذاته وصفاته هو حقيقة ذاته المقدسة
وما لها من حقائق الصفات، وتأويل ما أخبر الله به عن اليوم الآخر هو نفسه ما يكون
في اليوم الآخر. وعلى هذا المعنى جاء قول عائشة: "كان رسول الله -صلى الله عليه
وسلم- يقول في ركوعه"
وسجوده: "سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر
لي" يتأول القرآن ". تعني قوله تعالى: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ
وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} 1."
فالذين يقولون بالوقف
على قوله: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} 2, ويجعلون:
{وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} 2, استئنافًا، إنما عنوا بذلك التأويل بالمعنى
الثالث، أي الحقيقة التي يؤول إليها الكلام، فحقيقة ذات الله وكنهها وكيفية
أسمائه وصفاته وحقيقة المعاد لا يعلمها إلا الله.
والذين يقولون
بالوقف على قوله: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} على أن الواو للعطف وليست
للاستئناف، إنما عنوا بذلك التأويل بالمعنى الثاني أي التفسير، ومجاهد إمام
المفسرين، قال الثوري فيه: إذا جاءك التفسير عن مجاهد فحسبك به، فإذا ذُكِر أنه
يعلم تأويل المتشابه فالمراد به أنه يعرف تفسيره.
وبهذا يتضح أنه لا
منافاة بين المذهبين في النهاية، وإنما الأمر يرجع إلى الاختلاف في معنى
التأويل.
ففي القرآن ألفاظ متشابهة تشبه معانيها ما نعلمه في الدنيا،
ولكن الحقيقة ليست كالحقيقة، فأسماء الله وصفاته وإن كان بينها وبين أسماء العباد
وصفاتهم تشابه في اللفظ والمعنى الكلي إلا أن حقيقة الخالق وصفاته ليست كحقيقة
المخلوق وصفاته، والعلماء المحققون يفهمون معانيها ويميزون الفرق بينها، وأما نفس
الحقيقة فهي من التأويل الذي لا يعلمه إلا الله. ولهذا لما سُئِل مالك وغيره من
السلف عن قوله تعالى: {لرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} 3, قالوا: "الاستواء
معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة" ، وكذلك قال ربيعة بن
عبد الرحمن شيخ مالك قبله: "الاستواء معلوم، والكيف مجهول، ومن الله البيان، وعلى
الرسول البلاغ، وعلينا الإيمان" .
فبيَّن أن الاستواء معلوم، وأن
كيفية ذلك مجهولة.
وكذلك الشأن بالنسبة إلى إخبار الله عن اليوم
الآخر، ففيها ألفاظ تشبه معانيها ما هو معروف لدينا إلا أن الحقيقة غير الحقيقة.
ففي الآخرة ميزان،
1 رواه البخاري ومسلم - [والآية من سورة النصر: 3]
.
2 آل عمران: 7.
3 طه: 5.
وجنة ونار. وفي
الجنة: {أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ
يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ
وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى} 1. {فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ, وَأَكْوَابٌ
مَوْضُوعَةٌ, وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ, وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ} 2.. وذلك نعلمه
ونؤمن به، وندرك أن الغائب أعظم من الشاهد, وما في الآخرة يمتاز عما في الدنيا,
ولكن حقيقة هذا الامتياز غير معلومة لنا، وهي من التأويل الذي لا يعلمه إلا
الله.
1 محمد: 15.
2 الغاشية: 13، 16.
التأويل
المذموم
والتأويل المذموم بمعنى: صرف اللفظ عن الاحتمال الراجح إلى
الاحتمال المرجوح لدليل يقترن به, إنما لجأ إليه كثير من المتأخرين مبالغة منهم
في تنزيه الله تعالى عن مماثلته للمخلوقين كما يزعمون. وهذا زعم باطل أوقعهم في
مثل ما هربوا منه أو أشد، فهم حين يؤولون اليد بالقدرة مثلًا إنما قصدوا الفرار
من أن يثبتوا للخالق يدًا لأن للمخلوقين يدًا، فاشتبه عليهم لفظ اليد فأولوها
بالقدرة. وذلك تناقض منهم. لأنهم يلزمهم في المعنى الذي أثبتوه نظير ما زعموا أنه
يلزم في المعنى الذي نفوه، لأن العباد لهم قدرة أيضًا. فإن كان ما أثبتوه من
القدرة حقُّا ممكنًا كان إثبات اليد لله حقُّا ممكنًا أيضًا، وإن كان إثبات اليد
باطلًا ممتنعًا لما يلزمه من التشبيه في زعمهم كان إثبات القدرة باطلًا ممتنعًا
كذلك. فلا يجوز أن يقال: إن هذا اللفظ مؤول بمعنى أنه مصروف عن الاحتمال الراجح
إلى الاحتمال المرجوح.
وما جاء عن أئمة السلف وغيرهم من ذم للمتأولين
إنما هو لمثل هؤلاء الذين تأولوا ما يشتبه عليهم معناه على غير تأويله وإن كان لا
يشتبه على غيرهم.
العام والخاص
مدخل
13- العام والخاص:
للنظم التشريعية والأحكام الدينية
مقاصد تهدف إليها، وقد يجتمع للحكم التشريعي خصائص تجعله عامًّا يشمل كل الأفراد،
أو ينطبق على جميع الحالات، وقد يكون لذلك القصد غاية خاصة فالتعبير عنه يتناول
بعمومه الحكم ثم يأتي ما يبين حده أو يحصر نطاقه، والبيان العربي في تلوين الخطاب
وبيان المقاصد والغايات مظهر من مظاهر قوة اللغة واتساع مادتها. فإذا ورد هذا في
كلام الله المعجز كان وقعه في النفس عنوان إعجاز تشريعي مع الإعجاز اللغوي.
تعريف
العام وصيغ العموم
العام: هواللفظ المستغرق لما يصلح له من غير
حصر1
وقد اختلف العلماء في معنى العموم، أله في اللغة صيغة موضوعة له
خاصة به تدل عليه أم لا؟
فذهب أكثر العلماء إلى أن هناك صيغًا وُضِعت
في اللغة للدلالة حقيقة على العموم، وتُستعمل مجازًا فيما عداه، واستدلوا على ذلك
بأدلة نصية، وإجماعية ومعنوية.
أ- فمن الأدلة النصية قوله تعالى:
{وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ
وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ, قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ
لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ} 2, ووجه الدلالة أن نوحًا عليه السلام توجه بهذا النداء
1
انتقد الآمدي هذا التعريف - ولم أجد تعريفًا أتم منه، كما انتقد تعريف الخاص الذي
سيأتي - انظر "الإحكام في أصول الأحكام" جـ2 ص181ط. الحلبي.
2 هود:
45، 46.
تمسكًا منه بقوله تعالى: {قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ
زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ} 1, وأقرَّه الله تعالى على هذا النداء، وأجابه
بما دل على أنه ليس من أهله، ولولا أن إضافة الأهل إلى نوح للعموم لما صح ذلك.
ومنها
قوله تعالى: {وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا
إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ,
قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطًا قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا
لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ} 2,
ووجه الدلالة أن إبراهيم فهم من قول الملائكة: {أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ}
العموم، حيث ذكر "لوطًا" فأقرَّه الملائكة على ذلك، وأجابوه بتخصيص لوط وأهله
بالاستثناء، واستثناء امرأته من الناجين، وذلك كله يدل على العموم.
ب-
ومن الأدلة الإجماعية إجماع الصحابة على إجراء قوله تعالى: {الزَّانِيَةُ
وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} 3، وقوله:
{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} 4, ونحو ذلك على العموم
في كل زان وسارق.
جـ- ومن الأدلة المعنوية، أن العموم يُفهم من
استعمال ألفاظه، ولو لم تكن هذه الألفاظ موضوعة له لما تبادر إلى الذهن فهمه
منها، كألفاظ الشرط والاستفهام والموصول.
وإننا ندرك الفرق بين "كل" و
"بعض" ولو كان "كل" غير مفيد للعموم لما تحقق الفرق.
1 هود: 40.
2
العنكبوت: 31، 32.
3 تخصيص الآية بغير المحصن جاء بأدلة مخصصة هي التي
وردت في رجم المحصن الحر - [والآية من سورة النور: 2] .
4 تخصيص الآية
باعتبار الحزر ومقدار المسروق جاء بأدلة مخصصة كذلك - [والآية من سورة المائدة:
38] .
ولو قال قائل في النكرة المنفية "لا رجل في الدار" فإنه يعد
كاذبًا إذا قدر أنه رأى رجلًا ما، كما ورد قوله تعالى: {قُلْ مَنْ أَنْزَلَ
الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى} 1. تكذيبًا لما قال: {مَا أَنْزَلَ
اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ} 2, وهذا يدل على أن النكرة بعد النفي للعموم،
ولو لم تكن للعموم لما كان قولنا: "لا إله إلا الله" توحيدًا لعدم دلالته على نفي
كل إله سوى الله تعالى "3."
وبناء على هذا فللعموم صيغة التي تدل
عليه.
منها "كل" كقوله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} 4،
وقوله: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} 5, ومثلها "جميع" .
ومنها:
المعرف بـ "ال" التي ليست للعهد كقوله: {وَالْعَصْرِ, إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي
خُسْرٍ} 6, أي كل إنسان، بدليل قوله بعد: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا} 7.
وقوله:
{وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} 8.
وقوله: {وَالسَّارِقُ
وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} 9.
ومنها: النكرة في سياق
النفي والنهي كقوله: {فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ}
10.
وقوله: {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَ} 11.
أو
في سياق الشرط كقوله: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ
فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} 12.
1 الأنعام: 91.
2
الأنعام: 91.
3 أغفلنا آراء الآخرين فلم نذكرها حيث لا نرى حاجة
إليها.
4 آل عمران: 185.
5 الرعد: 16، الزمر: 62.
6
العصر: 1، 2.
7 العصر: 3.
8 البقرة: 275.
9
المائدة: 38.
10 البقرة: 197.
11 الإسراء: 23.
12
التوبة: 6.
ومنها: "الذي" و "التي" وفروعهما كقوله: {وَالَّذِي قَالَ
لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا} 1. أي كل من قال ذلك بدليل قوله بعد بصيغة الجمع:
{أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ القَولُ} 2.
وقوله:
{وَالَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا} 3.
وقوله:
{وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ
فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولاتُ
الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُن} 4.
وأسماء الشرط
كقوله تعالى: {فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ
يَطَّوَّفَ بِهِمَا} 5, للعموم في العاقل.
وقوله: {وَمَا تَفْعَلُوا
مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ} 6, للعموم في غير العاقل.
وقوله:
{وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَه} 7, للعموم في المكان.
وقوله:
{أَيّاً مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} 8, للعموم في الأسماء.
ومنها: اسم الجنس المضاف إلى معرفة كقوله: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ
عَنْ أَمْرِهِ} 9, أي كل أمر لله، وقوله: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ}
10.
1 الأحقاف: 17.
2 الأحقاف: 18.
3 النساء:
16.
4 الطلاق: 4.
5 البقرة: 158.
6 البقرة:
197.
7 البقرة: 150.
8 الإسراء: 110.
9 النور:
63.
10 النساء: 11.
أقسام العام
والعام على
ثلاثة أقسام:
الأول: الباقي على عمومه، وقد قال القاضي جلال الدين
البلقيني1:
1 هو عبد الرحمن بن رسلان، أبو الفضل جلال الدين البلقيني،
كان عالمًا بارعًا في الفقه والتفسير وأصول العربية، وله تعليق على البخاري سماه:
"الإفهام لما في صحيح البخاري من الإبهام" تولى القضاء في مصر، وتوفي سنة 824
هجرية، وانظر الإتقان، جـ2 ص16.
ومثاله عزيز، إذ ما من عام إلا ويتخيل
فيه التخصيص، وذكر الزركشي في "البرهان" أنه كثير في القرآن. وأورد منه قوله
تعالى: {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ} 1.
وقوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ
أُمَّهَاتُكُمْ} 3. فإنه لا خصوص فيها.
الثاني: العام المراد به
الخصوص - كقوله تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ
جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ} 4, فالمراد بالناس الأولى نعيم بن مسعود، والمراد
بالناس الثانية أبو سفيان لا العموم في كل منهما، يدل على هذا قوله تعالى:
{إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ} 5, فوقعت الإشارة بقوله: {ذَلِكُمُ} إلى واحد
بعينه، ولو كان المعنى به جمعًا لقال: "إنما أولئكم الشيطان" وكقوله تعالى:
{فَنَادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ} 6,
والمنادى جبرائيل كما في قراءة ابن مسعود، وقوله: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ
أَفَاضَ النَّاسُ} 7, والمراد بالناس إبراهيم، أو سائر العرب غير قريش.
الثالث:
العام المخصوص - وأمثلته في القرآن كثيرة وستأتي.
ومنه قوله تعالى:
{وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ
الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} 8.
وقوله: {وَلِلَّهِ عَلَى
النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} 9.
1
النساء: 176.
2 الكهف: 49.
3 النساء: 23.
4 آل
عمران: 173.
5 آل عمران: 175.
6 آل عمران: 39.
7
البقرة: 199.
8 البقرة: 187.
9 آل عمران: 97.
الفرق
بين العام المراد به الخصوص والعام المخصوص
الفرق بين العام المراد به
الخصوص والعام المخصوص من وجوه، أهمها:
1- أن العام المراد به الخصوص
لا يراد شموله لجميع الأفراد من أول الأمر، لا من جهة تناول اللفظ، ولا من جهة
الحكم، بل هو ذو أفراد استعمل في فرد واحد منها أو أكثر.
أما العام
المخصوص فأريد عمومه وشموله لجميع الأفراد من جهة تناول اللفظ لا من جهة الحكم،
فالناس في قوله: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ} وإن كان عامًّا إلا أنه لم
يرد به لفظًا وحكمًا سوى فرد واحد، أما لفظ الناس في قوله: {وَلِلَّهِ عَلَى
النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} 1, فهو عام أريد به ما يتناوله اللفظ من الأفراد. وإن
كان حكم وجوب الحج لا يتناول إلا المستطيع منهم خاصة.
2- والأول مجاز
قطعًا، لنقل اللفظ عن موضوعه الأصلي واستعماله في بعض أفراده، بخلاف الثاني
فالأصح فيه أنه حقيقة، وعليه أكثر الشافعية، وكثير من الحنفية، وجميع الحنابلة،
ونقله إمام الحرمين2 عن جميع الفقهاء، وقال الشيخ أبو حامد الغزالي: إنه مذهب
الشافعي وأصحابه، وصححه السبكي، لأن تناول اللفظ للبعض الباقي بعد التخصيص
كتناوله له بلا تخصيص، وذلك التناول حقيقي اتفاقًا، فليكن هذا التناول حقيقيًّا
أيضًا.
3- وقرينة الأول عقلية غالبًا ولا تنفك عنه، وقرينة الثاني
لفظية وقد تنفك.
1 آل عمران: 97.
2 إمام الحرمين، هو عبد
الملك بن أبي عبد الله بن يوسف بن محمد الجويني الشافعي العراقي، وأبو المعالي،
كان شيخ الإمام الغزالي، ومن أعلم أصحاب الشافعي، توفي سنة 478 هجرية.
تعريف
الخاص وبيان المخصص
والخاص: يقابل العام، فهو الذي لا يستغرق الصالح
له من غير حصر. والتخصيص: هو إخراج بعض ما تناوله اللفظ العام، والمخصص: إما
متصل: وهو الذي لم يُفصل فيه بين العام والمخصص له بفاصل، وإما منفصل: وهو
بخلافه: والمتصل خمسة: أحدها: الاستثناء، كقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ
الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ
ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمُ
الْفَاسِقُونَ، إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا} 1.
وقوله: {إِنَّمَا
جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ
فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ
وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ
فِي الدُّنيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ، عَظِيمٌ, إِلاَّ الَّذِينَ
تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} 2.
الثاني: الصفة:
كقوله تعالى: {وَرَبَائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ
اللاَّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} 3، فقوله: {اللاَّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} صفة لـ
"نسائكم" والمعنى: أن الربيبة من المرأة المدخول بها محرمة على الرجل حلال له إذا
لم يدخل بها.
الثالث: الشرط: كقوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ
أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ
وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} 4، فقوله: {إِنْ
تَرَكَ خَيْرًا} أي مالًا، شرط في الوصية.
وقوله: {وَالَّذِينَ
يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ
عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} 5 أي قدرة على الأداء، أو أمانة وكسبًا.
الرابع:
الغاية: كقوله: {وَلا تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ
مَحِلَّهُ} 6.
1 النور: 4، 5.
2 المائدة: 33، 34.
3
النساء: 23.
4 البقرة: 180.
5 النور: 33.
6
البقرة: 196.
وقوله: {وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} 1.
الخامس:
بدل البعض من الكل: كقوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ
اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} 2, فقوله: {مَنِ اسْتَطَاعَ} بدل من "الناس" فيكون
وجوب الحج خاصًّا بالمستطيع.
والمخصص المنفصل: ما كان في موضع آخر من
آية أو حديث أو إجماع أو قياس. فما خُصَّ بالقرآن كقوله تعالى:
{وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ} 3, فهو عام في كل
مطلقة حاملًا كانت أو غير حامل، مدخولًا بها أو غير مدخول بها، خُصَّ بقوله:
{وَأُولاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} 4، وبقوله:
{إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ
تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ} 5.
وما خُصَّ
بالحديث كقوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا} 6, خص من
البيع البيوع الفاسدة التي ذكرت في الحديث، كما في البخاري عن ابن عمر -رضي الله
عنه- قال: "نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن عسب الفحل" ، وفي الصحيحين عن
ابن عمر: "أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نهى عن بيع حبل الحبلة" وكان بيعًا
تبتاعه الجاهلية، كان الرجل يبتاع الجزور إلى أن تنتج الناقة ثم تنتج التي في
بطنها - واللفظ للبخاري، إلى غير ذلك من الأحاديث.
ورخص من الربا
العرايا الثابتة بالسٌّنَّة فإنها مباحة، فعن أبي هريرة, رضي الله عنه: "أن رسول
الله -صلى الله عليه وسلم- رخَّص في بيع العرايا بخرصها فيما دون خمسة أوسق أو في
خمسة أوسق" 7.
وما خُص بالإجماع آية المواريث: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ
فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} 8, خص منها بالإجماع
الرقيق لأن الرق مانع من الإرث.
1 البقرة: 222.
2 آل
عمران: 97.
3 البقرة: 228.
4 الطلاق: 4.
5
الأحزاب: 49.
6 البقرة: 275.
7 متفق عليه.
8
النساء: 11.
وما خُص بالقياس آية الزنا: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي
فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} 1, خُص منها العبد
بالقياس على الأمة التي نص على تخصيصها عموم الآية في قوله تعالى: {فَعَلَيْهِنَّ
نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} 2.
1 النور: 2.
2
النساء: 25.
تخصيص السٌّنَّة بالقرآن:
وقد يخصص القرآن
السٌّنَّة، ويمثلون لذلك بما رُوي عن أبي واقد الليثي -رضي الله عنه- قال: قال
النبي, صلى الله عليه وسلم: "ما قُطِع من البهيمة وهي حية فهو ميت" 1 فهذا الحديث
خُص بقوله تعالى: {وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثاً
وَمَتَاعاً إِلَى حِينٍ} 2.
1 أخرجه أبو داود، والترمذي، وحسنه واللفظ
له.
2 النحل: 80.
صحة الاحتجاج بالعام بعد تخصيصه فيما
بقي:
اختلف العلماء في صحة الاحتجاج بالعام بعد تخصيصه فيما بقي،
والمختار عند المحققين صحة الاحتجاج به فيما وراء صور التخصيص1. واستدلوا على ذلك
بأدلة إجماعية، وأدلة عقلية.
أ- فمن أدلة الإجماع: أن فاطمة -رضي الله
عنها- احتجت على أبي بكر -رضي الله عنه- في ميراثها من أبيها بعموم قوله تعالى:
{يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ}
2, مع أنه مخصص بالكافر والقاتل،
1 أنكر الاحتجاج به عيسى بن أبان
وأبو ثور مطلقًا، وقال البلخي: إن خُص بدليل متصل كالشرط والصفة والاستثناء فهو
حجة، وإن خُص بدليل منفصل فليس بحجة - انظر الآمدي، جـ2 ص213.
2
النساء: 11.
ولم ينكر أحد من الصحابة صحة احتجاجها مع ظهوره وشهرته،
فكان إجماعًا على صحة احتجاجها، ولذا عدل أبو بكر -رضي الله عنه- في حرمانها إلى
الاحتجاج بقوله, صلى الله عليه وسلم: "نحن معاشر الأنبياء لا نُورَّث ... ما
تركناه صدقة" 1.
ب- ومن الأدلة العقلية: أن العام قبل التخصيص حُجة في
كل واحد من أقسامه إجماعًا، والأصل بقاء ما كان قبل التخصيص بعده، إلا أن يوجد له
معارض، وليس هناك معارض فيما وراء صور التخصيص، فيظل العام بعد التخصيص حُجة فيما
بقي.
1 الحديث في الصحيحين وغيرهما.
ما يشمله الخطاب
اختُلِف
في الخطاب الخاص بالرسول -صلى الله عليه وسلم- كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا
النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ} 1.
وقوله:
{يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْر} 2,
هل يشمل الأمة أم لا يشملها؟
أ- فذهب قوم إلى أنه يشملها باعتباره
قدوة لها.
ب- وذهب آخرون إلى أنه لا يشملها؛ لأن الصيغة تدل على
اختصاصه بها.
واختلفوا أيضًا في الخطاب من الله تعالى بـ "يَا
أَيُّهَا النَّاسُ" كقوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي
خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} 3, هل يشمل الرسول أم لا؟ والصحيح في ذلك أنه
يشمله لعمومه وإن كان الخطاب قد ورد على لسانه ليُبلِّغ غيره.
1
الأحزاب: 1.
2 المائدة: 41.
3 النساء: 1.
وقد
فصل بعضهم فقال: إن اقترن الخطاب بـ "قل" لم يشمله لأن ظاهره البلاغ كقوله: {قُلْ
يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} 1, وإلا
شمله.
وما ورد في الخطاب مضافًا إلى الناس أو المؤمنين كقوله: {يَا
أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ
شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا} 2، وقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ
عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ} 3.
فالمختار في الأول: أنه يشمل
الكافر والعبد والأنثى.
والمختار في الثاني: أنه يشمل الأخيرين فقط
لمراعاة التكليف بالنسبة إلى الجميع، وخروج العبد عن بعض الأحكام كوجوب الحج
والجهاد إنما هو لأمر عارض كفقره واشتغاله بخدمة سيده.
ومتى اجتمع
المذكر والمؤنث غلب التذكير. وأكثر خطاب الله تعالى في القرآن بلفظ التذكير،
والنساء يدخلن في جملته. وقد يأتي ذكرهن بلفظ مفرد تبيينًا وإيضاحًا. وهذا لا
يمنع دخولهن في اللفظ العام الصالح لهن، كما جاء في قوله تعالى: {وَمَنْ يَعْمَلْ
مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى} 4.
1 الأعراف: 158.
2
الحجرات: 13.
3 المائدة: 90.
4 النساء: 124.
الناسخ والمنسوخ
مدخل
14- الناسخ والمنسوخ: 1
تنزل التشريعات السماوية من
الله تعالى على رسله لإصلاح الناس في العقيدة والعبادة والمعاملة. وحيث كانت
العقيدة واحدة لا يطرأ عليها تغيير لقيامها على توحيد الألوهية والربوبية فقد
اتفقت دعوة الرسل جميعًا إليها: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ
إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} 2، أما
العبادات والمعاملات فإنها تتفق في الأسس العامة التي تهدف إلى تهذيب النفس
والمحافظة على سلامة المجتمع وربطه برباط التعاون والإخاء، إلا أن مطالب كل أمة
قد تختلف عن مطالب أختها، وما يلائم قومًا في عصر قد لا يلائمهم في آخر، ومسلك
الدعوة في طور النشأة والتأسيس يختلف عن شرعتها بعد التكوين والبناء، فحكمة
التشريع في هذه غيرها في تلك، ولا شك أن المشرِّع سبحانه وتعالى يسع كل شيء رحمة
وعلمًا، ولله الأمر والنهي {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} 3,
فلا غرابة في أن يرفع تشريع بآخر مراعاة لمصلحة العباد عن علم سابق بالأول
والآخر.
1 أفرده بالتصنيف خلائق لا يحصون: منهم أبو عبيد القاسم بن
سلام، وأبو داود السجستاني، وأبو جعفر النحاس، وابن الأنباري، ومكي، وابن العربي،
وآخرون، انظر الإتقان جـ2 ص20. ومن المعاصرين: الدكتور مصطفى زيد "النسخ في
القرآن" .
2 الأنبياء: 25.
3 الأنبياء: 23.
تعريف
النسخ وشروطه
والنسخ لغة: يُطلق بمعنى الإزالة، ومنه يقال: نسخت الشمس
الظل: أي أزالته. ونسخت الريح أثر المشي - ويطلق بمعنى نقل الشيء من موضع إلى
موضع، ومنه نسخت الكتاب: إذا نقلت ما فيه. وفي القرآن: {إِنَّا كُنَّا
نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} 1, والمراد به نقل الأعمال إلى الصحف.
1
الجاثية: 29.
والنسخ في الاصطلاح: رفع الحكم الشرعي بخطاب شرعي - فخرج
بالحكم رفع البراءة الأصلية، وخرج بقولنا: "بخطاب شرعي" رفع الحكم بموت أو جنون
أو إجماع أو قياس.
ويطلق الناسخ على الله تعالى كقوله: {مَا نَنْسَخْ
مِنْ آيَةٍ} 1، وعلى الآية وما يُعرف به النسخ، فيقال: هذه الآية ناسخة لآية كذا،
وعلى الحكم الناسخ لحكم آخر.
والمنسوخ هو الحكم المرتفع، فآية
المواريث مثلًا أو ما فيها من حكم ناسخ لحكم الوصية للوالدين والأقربين كما
سيأتي, ومقتضى ما سبق أنه يُشترط في النسخ:
1- أن يكون الحكم المنسوخ
شرعيًّا.
2- أن يكون الدليل على ارتفاع الحكم خطابًا شرعيًّا متراخيًا
عن الخطاب المنسوخ حكمه.
3- وألا يكون الخطاب المرفوع حكمه مقيدًا
بوقت معين. وإلا فالحكم ينتهي بانتهاء وقته ولا يُعَد هذا نسخًا. قال "مكي" 2:
"ذكر
جماعة أن ما ورد من الخطاب مشعرًا بالتوقيت والغاية مثل قوله في البقرة:
{فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} 3, مُحكم غير منسوخ،
لأنه مؤجل بأجل، والمؤجل بأجل لا نسخ فيه."
1 البقرة: 106.
2
هو مكي بن أبي طالب حموش بن محمد بن مختار القيسي المقرئ يكنى أبا محمد، وأصله من
القيروان، كثير التأليف في علوم القرآن والعربية، له كتاب في "الناسخ والمنسوخ"
سكن قرطبة، ورحل إلى مصر مرتين، توفي سنة 437 هجرية.
3 البقرة:
109.
ما يقع فيه النسخ
ومِن هنا يُعلم أن النسخ لا يكون
إلا في الأوامر والنواهي - سواء أكانت صريحة في الطلب أو كانت بلفظ الخبر الذي
بمعنى الأمر أو النهي، على أن يكون ذلك غير متعلق بالاعتقادات التي ترجع إلى ذات
الله تعالى وصفاته وكتبه ورسله واليوم الآخر، أو الآداب الخُلُقية، أو أصول
العبادات والمعاملات لأن الشرائع كلها لا تخلو عن هذه الأصول. وهي متفقة فيها،
قال تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي
أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ
أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} 1.
وقال: {يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ
مِنْ قَبْلِكُمْ} 2.
وقال: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ
يَأْتُوكَ رِجَالًا} 3.
وقال في القِصاص: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ
فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ
بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ
قِصَاصٌ} 4.
وقال في الجهاد: {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ
مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِير} 5.
وفي الأخلاق: {وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ
لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا} 6.
كما لا يدخل النسخ
الخبر الصريح الذي ليس بمعنى الطلب كالوعد والوعيد.
1 الشورى: 13.
2
البقرة: 183.
3 الحج: 27.
4 المائدة: 45.
5 آل
عمران: 146.
6 لقمان: 18.
ما به يُعرف النسخ وأهميته:
ولمعرفة
الناسخ والمنسوخ أهمية كبيرة عند أهل العلم من الفقهاء والأصوليين والمفسرين حتى
لا تختلط الأحكام، ولذلك وردت آثار كثيرة في الحث على معرفته، فقد رُوِي أن
عليًّا -رضي الله عنه- مرَّ على قاض فقال له: أتعرف
الناسخ من
المنسوخ؟ قال: لا، فقال: هلكت وأهلكت. وعن ابن عباس أنه قال في قوله تعالى:
{وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً} 1, قال: "ناسخه
ومنسوخه ومحكمه ومتشابهه ومقدمه ومؤخره، وحرامه وحلاله" 2.
ولمعرفة
الناسخ والمنسوخ طرق:
1- النقل الصريح عن النبي -صلى الله عليه وسلم-
أو عن صحابي كحديث: "كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها" "رواه الحاكم" .
وقول أنس في قصة أصحاب بئر معونة كما سيأتي: "ونزل فيهم قرآن قرأناه حتى رُفِع"
3.
2- إجماع الأمة على أن هذا ناسخ وهذا منسوخ.
3- معرفة
المتقدم من المتأخر في التاريخ.
ولا يعتمد في النسخ على الاجتهاد، أو
قول المفسرين، أو التعارض بين الأدلة ظاهرًا، أو تأخر إسلام أحد الراويين.
1
البقرة: 269.
2 أخرجه ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن
عباس.
3 هم بعث من أصحاب رسول الله بعثهم إلى أهل نجد، فساروا حتى
نزلوا ببئر معونة، فاستصرخ عليهم عامر بن الطفيل قبائل من بني سليم من عصية ورعل
وذكوان - وأحاطوا بهم وقاتلوهم حتى قُتِلوا عن آخرهم.
الآراء في النسخ
وأدلة ثبوته
والناس في النسخ على أربعة أقسام:
1- اليهود:
وهؤلاء ينكرونه لأنه يستلزم في زعمهم البَدَاء، وهو الظهور بعد الخفاء، وهم يعنون
بذلك: أن النسخ إما أن يكون لغير حكمة، وهذا عبث محال على الله، وإما أن يكون
لحكمة ظهرت ولم تكن ظاهرة من قبل، وهذا يستلزم البَدَاء وسبق الجهل، وهو محال على
الله تعالى.
واستدلالهم هذا فاسد؛ لأن كُلًّا من حكمة الناسخ وحكمة
المنسوخ معلوم لله تعالى من قبل، فلم يتجدد علمه بها. وهو سبحانه ينقل العباد من
حكم إلى حكم لمصلحة معلومة له من قبل بمقتضى حكمته وتصرفه المطلق في ملكه.
واليهود
أنفسهم يعترفون بأن شريعة موسى ناسخة لما قبلها. وجاء في نصوص التوراة النسخ،
كتحريم كثير من الحيوان على بني إسرائيل بعد حِلِّه قال تعالى في إخباره عنهم:
{كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلاًّ لِبَنِي إِسْرائيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ
إِسْرائيلُ عَلَى نَفْسِهِ} 1.
وقال: {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا
حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي} 2 ... الآية.
وثبت في التوراة أن آدم كان يزوج
من الأخت. وقد حرم الله ذلك على موسى، وأن موسى أمر بني إسرائيل أن يقتلوا مَن
عبد منهم العجل ثم أمرهم برفع السيف عنهم.
2- الروافض: وهؤلاء غلوا في
إثبات النسخ وتوسعوا فيه، وأجازوا البَدَاء على الله تعالى، فهم مع اليهود على
طرفي نقيض، واستدلوا على ذلك بأقوال نسبوها إلى علي -رضي الله عنه- زورًا
وبهتانًا، وبقوله تعالى: {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ} 3, على معنى
أنه يظهر له المحو والإثبات.
وذلك إغراق في الضلال. وتحريف للقرآن.
فإن معنى الآية: ينسخ الله ما يستصوب نسخه ويثبت بدله ما يرى المصلحة في إثباته،
وكل من المحو والإثبات موجود في كثير من الحالات، كمحو السيئات بالحسنات: {إِنَّ
الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} 4، ومحو كفر التائبين ومعاصيهم بالتوبة
وإثبات إيمانهم وطاعتهم، ولا يلزم من ذلك الظهور بعد الخفاء، بل يفعل الله هذا مع
علمه به قبل كونه.
1 آل عمران: 93.
2 الأنعام: 146.
3
الرعد: 39.
4 هود: 114.
3- أبو مسلم الأصفهاني 1: وهو
يجوِّز النسخ عقلًا ويمنع وقوعه شرعًا، وقيل يمنعه في القرآن خاصة محتجًّا بقوله
تعالى: {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ
تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} 2, على معنى أن أحكامه لا تبطل أبدًا. ويحمل
آيات النسخ على التخصيص.
ورد عليه بأن معنى الآية أن القرآن لم يتقدمه
ما يبطله من الكتب ولا يأتي بعده ما يبطله.
4- وجمهور العلماء: على
جواز النسخ عقلًا ووقوعه شرعًا لأدلة:
1- لأن أفعال الله لا تُعلَّل
بالأغراض، فله أن يأمر بالشئ في وقت وينسخه بالنهي عنه في وقت، وهو أعلم بمصالح
العباد.
2- ولأن نصوص الكتاب والسٌّنَّة دالة على جواز النسخ
ووقوعه:
أ- قال تعالى: {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ}
3.
وقال: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ
مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} 4.
ب- وفي الصحيح عن ابن عباس -رضي الله عنه-
قال: قال عمر, رضي الله عنه: أقرؤنا أُبَيٌّ، وأقضانا، وإنا لندع من قول أُبَيٍّ،
وذاك أن أُبَيًّا يقول: لا أدع شيئًا سمعته من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
وقد قال الله عز وجل: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا} .
1
هو محمد بن بحر، المشهور بأبي مسلم الأصفهاني، معتزلي، من كبار المفسرين. أَهَمُّ
كتبه: "جامع التأويل في التفسير" ، توفي سنة 322 هجرية.
2 فصلت:
42.
3 النحل: 101.
4 البقرة: 106.
أقسام
النسخ
والنسخ أربعة أقسام:
القسم الأول: نسخ القرآن
بالقرآن: وهذا القسم متفق على جوازه ووقوعه من القائلين بالنسخ، فآية الاعتداد
بالحول مثلًا نُسِخَت بآية الاعتداد بأربعة أشهر وعشرٍ، كما سيأتي في الأمثلة.
القسم
الثاني: نسخ القرآن بالسٌّنَّة: وتحت هذا نوعان:
أ- نسخ القرآن
بالسٌّنَّة الآحادية. والجمهور على عدم جوازه. لأن القرآن متواتر يفيد اليقين،
والآحادي مظنون، ولا يصح رفع المعلوم بالمظنون.
ب- ونسخ القرآن
بالسٌّنَّة المتواترة. وقد أجازه مالك وأبو حنيفة وأحمد في رواية، لأن الكل وحي.
قال تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} 1.
وقال:
{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ
إِلَيْهِمْ} 2, والنسخ نوع من البيان - ومنعه الشافعي وأهل الظاهر وأحمد في
الرواية الأخرى، لقوله تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ
بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} 3, والسٌّنَّة ليست خيرًا من القرآن ولا
مثله.
القسم الثالث: نسخ السٌّنَّة بالقرآن , ويجيزه الجمهور، فالتوجه
إلى بيت المقدس كان ثابتًا بالسٌّنَّة، وليس في القرآن ما يدل عليه، وقد نُسِخَ
بالقرآن في قوله: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} 4, ووجوب صوم
يوم عاشوراء كان ثابتًا بالسٌّنَّة ونُسِخ بقوله: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ
الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} 5.
1 النجم: 3، 4.
2 النحل:
44.
3 البقرة: 106.
4 البقرة: 144.
5 أخرج
البخاري ومسلم عن عائشة قالت: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أمر بصيام يوم
عاشوراء فلما فُرِضَ رمضان كان مَن شاء صام ومَن شاء أفطر" - [والآية من سورة
البقرة: 185] .
ومنع هذا القسم الشافعي في إحدى روايتيه، وقال: "وحيث
وقع بالسٌّنَّة فمعها قرآن، أو بالقرآن فمعه سُنة عاضدة تبيِّن توافق الكتاب
والسٌّنَّة" 1.
القسم الرابع: نسخ السٌّنَّة بالسٌّنَّة، وتحت هذا
أربعة أنواع:
1- نسخ متواترة بمتواترة، 2- ونسخ آحاد بآحاد، 3- ونسخ
آحاد بمتواترة، 4- ونسخ متواترة بآحاد - والثلاثة الأولى جائزة - أما النوع
الرابع ففيه الخلاف الوارد في نسخ القرآن بالسٌّنَّة الآحادية، والجمهور على عدم
جوازه.
أما نسخ كل من الإجماع والقياس والنسخ بهما فالصحيح عدم
جوازه.
1 انظر الإتقان جـ2 ص21.
أنواع النسخ في القرآن
والنسخ
في القرآن ثلاثة أنواع:
النوع الأول: نسخ التلاوة والحكم معًا،
ومثاله: ما رواه مسلم وغيره عن عائشة قالت: "كان فيما أُنزل: عشر رضعات معلومات
يُحرِّمن، فنسخن بخمس معلومات، فتوفي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهن مما
يُقرأ من القرآن" , وقولها: "وهن مما يُقرأ من القرآن" ظاهره بقاء التلاوة، وليس
كذلك، فإنه غير موجود في المصحف العثماني. وأجيب بأن المراد: قارَبَ الوفاة1.
والأظهر
أن التلاوة نُسِخَت ولم يبلغ ذلك كل الناس إلا بعد وفاة رسول الله -صلى الله عليه
وسلم- فتوفي وبعض الناس يقرؤها.
وحكى القاضي أبو بكر في "الانتصار" عن
قوم إنكار هذا القسم؛ لأن الأخبار فيه أخبار آحاد، ولا يجوز القطع على إنزال
القرآن ونسخه بأخبار آحاد لا حُجة فيها تفيد القطع، ولكنها ظنية.
1
رواه البخاري تعليقًا عن عمر.
ويُجاب على ذلك بأن ثبوت النسخ شيء،
وثبوت نزول القرآن شيء آخر، فثبوت النسخ يكفي فيه الدليل الظني بخبر الآحاد، أما
ثبوت نزول القرآن فهو الذي يُشترط فيه الدليل القطعي بالخبر المتواتر، والذي معنا
ثبوت النسخ لا ثبوت القرآن فيكفي فيه أخبار الآحاد. ولو قيل إن هذه القراءة لم
تثبت بالتواتر لصح ذلك.
النوع الثاني: نسخ الحكم وبقاء التلاوة،
ومثاله: نسخ حكم آية العِدَّة بالحول مع بقاء تلاوتها - وهذا النوع هو الذي
أُلِّفت فيه الكتب وذكر المؤلفون فيه الآيات المتعددة. والتحقيق أنها قليلة، كما
بيَّن ذلك القاضي أبو بكر ابن العربي1.
وقد يقال: ما الحكمة في رفع
الحكم وبقاء التلاوة؟
والجواب من وجهين..
أحدهما: أن
القرآن كما يُتلى ليُعرف الحكم منه، والعمل به، فإنه يُتلى كذلك لكونه كلام الله
تعالى فيُثاب عليه، فتُرِكت التلاوة لهذه الحكمة.
وثانيهما: أن النسخ
غالبًا يكون للتخفيف, فأُبقيت التلاوة تذكيرًا بالنعمة في رفع المشقة.
وأما
حكمة النسخ قبل العمل، كالصدقة عند النجوى، فيُثاب على الإيمان به، وعلى نية طاعة
الأمر.
النوع الثالث: نسخ التلاوة مع بقاء الحكم، وقد ذكروا له أمثلة
كثيرة، منها آية الرجم: "الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالًا من الله،
والله عزيز حكيم" ومنها ما رُوِي في الصحيحين عن أنس في قصة أصحاب بئر معونة
الذين قُتِلوا وقَنَتَ الرسول يدعو على قاتليهم، قال أنس: ونزل فيهم
1
هو أبو بكر محمد بن عبد الله بن محمد بن عبد الله المعافري، أحد فقهاء أشبيلية
وعلمائها، رحل إلى الشرق، ثم عاد إلى المغرب، وتوفي سنة 544 هجرية.
قرآن
قرأناه حتى رُفِع: "أن بلِّغوا عنا قومنا أنَّا لقينا ربنا فرضي عنا وأرضانا" ثم
نُسِخَت تلاوته - وبعض أهل العلم يُنكر هذا النوع من النسخ. لأن الأخبار فيه
أخبار آحاد، ولا يجوز القطع على إنزال قرآن ونسخه بأخبار آحاد، قال ابن الحصَّار:
"إنما يُرجع في النسخ إلى نقل صريح عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أو عن
صحابي يقول: آية كذا نسخت كذا، قال: وقد يُحكم به عند وجود التعارض المقطوع به مع
علم التاريخ ليُعرف المتقدم والمتأخر، قال: ولا يُعْتمد في النسخ على قول عوام
المفسرين، بل ولا اجتهاد المجتهدين من غير نقل صريح، ولا معارضة بيِّنة، لأن
النسخ يتضمن رفع حكم وإثبات حكم تقرَّر في عهده -صلى الله عليه وسلم- والمعتمد
فيه النقل والتاريخ دون الرأي والاجتهاد، قال: والناس في هذا بين طرفي نقيض، فمِن
قائل: لا يُقبل في النسخ أخبار الآحاد العدول، ومِن متساهل يكتفي فيه بقول مفسر
أو مجتهد، والصواب خلاف قولهما" 1.
وقد يقال: إن الآية والحكم
المستفاد منها متلازمان؛ لأن الآية دليل على الحكم. فإذا نُسِخَت الآية نُسِخ
حكمها. وإلا وقع الناس في لَبْس.
ويُجاب عن ذلك بأن هذا التلازم يسلم
لو لم ينصب الشارع دليلًا على نسخ التلاوة، وعلى إبقاء الحكم، أما وقد نصب الدليل
على نسخ التلاوة وحدها، وعلى إبقاء الحكم واستمراره فإن التلازم يكون باطلًا،
وينتفي اللَّبْس بهذا الدليل الشرعي الذي يدل على نسخ التلاوة مع بقاء الحكم.
1
انظر الإتقان، جـ1 ص24.
حكمة النسخ
1- مراعاة مصالح
العباد.
2- تطور التشريع إلى مرتبة الكمال حسب تطور الدعوة وتطور حال
الناس.
3- ابتلاء المكلَّف واختباره بالامتثال وعدمه.
4-
إرادة الخير للأمة والتيسير عليها؛ لأن النسخ إن كان إلى أشقَّ ففيه زيادة
الثواب، وإن كان إلى أخف ففيه سهولة ويُسر
النسخ إلى بدل وإلى غير
بدل
والنسخ يكون إلى بدل وإلى غير بدل - والنسخ إلى بدل: إما إلى بدل
أخف، وإما إلى بدل مماثل، وإما إلى بدل أثقل:
1- فالنسخ إلى غير بدل:
كنسخ الصدقة بين يدي نجوى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في قوله تعالى: {يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ
يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً} 1، نُسِخَت بقوله: {أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ
تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ
اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} 2.
وأنكر
بعض المعتزلة والظاهرية ذلك، وقالوا: إن النسخ بغير بدل لا يجوز شرعًا، لأن الله
تعالى يقول: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا
أَوْ مِثْلِهَا} 3, حيث أفادت الآية أنه لا بد أن يؤتى مكان الحكم المنسوخ بحكم
آخر خير منه مثله.
ويُجاب عن ذلك: بأن الله تعالى إذا نسخ حكم الآية
بغير بدل فإن هذا يكون بمقتضى حكمته، رعاية لمصلحة عباده، فيكون عدم الحكم خيرًا
من ذلك الحكم المنسوخ في نفعه للناس، ويصح حينئذ أن يُقال: إن الله نسخ حكم الآية
السابقة بما هو خير منها حيث كان عدم الحكم خيرًا للناس.
2- والنسخ
إلى بدل أخف: يمثلون له بقوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ
الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} 4.. الآية - فهي ناسخة لقوله: {كَمَا كُتِبَ عَلَى
الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} 5؛ لأن مقتضاها الموافقة لما كان عليه
1
المجادلة: 12.
2 المجادلة: 13.
3 البقرة: 106.
4
البقرة: 187.
5 البقرة: 183.
السابقون من تحريم الأكل
والشرب والوطء إذا صلُّوا العتمة أو ناموا إلى الليلة التالية, كما ذكروا ذلك،
فقد رَوى ابن أبي حاتم عن ابن عمر قال: أُنْزِلت: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ
قَبْلِكُمْ} كتب عليهم إذا صلَّى أحدهم العتمة أو نام حرم عليه الطعام والشراب
والنساء إلى مثلها، ورَوَى مثله أحمد والحاكم وغيرهما، وفيه: "فأنزل الله عز وجل:
{أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} ... الآية"
.
3- النسخ إلى بدل مماثل: كنسخ التوجه إلى بيت المقدس بالتوجه إلى
الكعبة في قوله: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} 1.
4-
والنسخ إلى بدل أثقل: كنسخ الحبس في البيوت في قوله: {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ
الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ
فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ} 2 ... الآية، بالجلد في قوله:
{الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي} 3 ... الآية.
أو الرجم في قوله: "الشيخ
والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة" ..4.
1 البقرة: 144.
2
النساء: 15.
3 النور: 2.
4 اعترض بعض العلماء على هذا
النوع محتجين بقوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ
بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185] ، وقوله: {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ
عَنْكُمْ} [النساء: 28] ، ويُجاب عن ذلك بأن البدل إلى أثقل يكون ميسرًا على
المكلَّفين دون مشقة أو إرهاق مع ما فيه من زيادة النفع وعظيم الثواب، وثقله وصف
له بالنسبة إلى ما قبله.
شُبَهُ النسخ:
وللناسخ والمنسوخ
أمثلة كثيرة، إلا أن العلماء في هذا:
1- منهم المكثر الذي اشتبه عليه
الأمر فأدخل في النسخ ما ليس منه.
2- ومنهم المتحري الذي يعتمد على
النقل الصحيح في النسخ.
ومنشأ الاشتباه عند المكثرين أُمور أهمها:
1-
اعتبار التخصيص نسخًا "انظر مبحث العام والخاص" .
2- اعتبار البيان
نسخًا "انظر مبحث المطلق والمقيد الآتي" .
3- اعتبار ما شُرِعَ لسبب
ثم زال السبب من المنسوخ، كالحث على الصبر وتحمل أذى الكفار في مبدأ الدعوة حين
الضعف والقلة، قالوا إنه منسوخ بآيات القتال، والحقيقة أن الأول - وهو وجوب الصبر
والتحمل - كان ويكون لحالة الضعف والقلة. وإذا وُجِدَت الكثرة والقوة وجب الدفاع
عن العقيدة بالقتال، وهو الحكم الثاني.
4- اعتبار ما أبطله الإسلام من
أمر الجاهلية أو من شرائع الأمم السابقة نسخًا: كتحديد عدد الزوجات بأربع،
ومشروعية القِصاص والدِّيَة، وقد كان عند بني إسرائيل القِصاص فقط كما قال ابن
عباس ورواه البخاري1، ومثل هذا ليس نسخًا، وإنما هو رفع للبراءة الأصلية.
1
أخرج البخاري وغيره عن ابن عباس قال: كان في بني إسرائيل القِصاص ولم تكن
الدِّيَة فيهم، فقال الله لهذه الأمة: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي
الْقَتْلَى} ... إلى قوله: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} فالعفو أن
تُقبل الدِّيَة في العمد: {فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ
بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ} مما كُتِب على مَن كان
قبلكم {فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ} قيل بعد قبول الدِّيَة {فَلَهُ عَذَابٌ
أَلِيمٌ} [البقرة: 178] .
أمثلة للنسخ
وقد ذكر السيوطي في
الإتقان إحدى وعشرين آية اعتبرها من قبيل النسخ نذكر منها ما يأتي ونُعَلِّق
عليه.
1- قوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ
فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ} 1, منسوخة بقوله: {فَوَلِّ وَجْهَكَ
شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} 2, وقد
1 البقرة: 115.
2
البقرة: 144.
قيل -وهو الحق- إن الأُولى غير منسوخة؛ لأنها في صلاة
التطوع في السفر على الراحلة وكذا في حال الخوف والاضطرار، وحكمها باق، كما في
الصحيحين، والثانية في الصلوات الخمس، والصحيح أنها ناسخة لما ثبت في السٌّنَّة
من استقبال بيت المقدس.
2- قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا
حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ
وَالْأَقْرَبِينَ} 1, قيل منسوخة بآية المواريث، وقيل بحديث: "إن الله قد أعطى كل
ذي حق حقه، فلا وصية لوارث" 2.
3- قوله: {وَعَلَى الَّذِينَ
يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ} 3, نُسِخت بقوله: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ
فَلْيَصُمْهُ} 4, لما في الصحيحين من حديث سلمة بن الأكوع أنه قال: لما نزلت
{وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} كان من أراد أن
يُفطر يفتدي، حتى نزلت الآية التي بعدها فنسختها.
وذهب ابن عباس إلى
أنها مُحكمة غير منسوخة: روى البخاري عن عطاء أنه سمع ابن عباس -رضي الله عنهما-
يقرأ: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} قال ابن
عباس: "ليست بمنسوخة. هي للشيخ الكبير والمرأة الكبيرة لا يستطيعان أن يصوما
فيُطعمان كل يوم مسكينًا" - وليس معنى "يطيقونه" على هذا: يستطيعونه، وإنما معناه
يتحملونه بمشقة وكلفة.
وبعضهم جعل الكلام على تقدير "لا" النافية، أي:
وعلى الذين لا يطيقونه.
4- قوله: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الشَّهْرِ
الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ} 5, نُسِخت بقوله:
{وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً} 6, وقيل:
يُحمل عموم الأمر بالقتال على غير الأشهُر الحُرُم فلا نسخ.
1 البقرة:
180.
2 رواه أبو داود والترمذي، وقال: حسن صحيح.
3 البقرة:
184.
4 البقرة: 185.
5 البقرة: 217.
6 التوبة:
36.
5- قوله: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ
أَزْوَاجاً وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ
إِخْرَاجٍ} 1, نُسِخت بقوله: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ
أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً} 2.
وقيل
إن الآية الأولى مُحكمة؛ لأنها في مقام الوصية للزوجة إذا لم تخرج ولم تتزوج، أما
الثانية فهي لبيان العدَّة، ولا تنافي بينهما.
6- قوله: {وَإِنْ
تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} 3,
نُسِخت بقوله: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} 4.
7-
قوله: {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُوْلُوا الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى
وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ} 5, نُسِخت بآية المواريث وقيل -وهو
الصواب- إنها غير منسوخة وحكمها باق على الندب.
8- قوله: {وَاللاَّتِي
يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً
مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى
يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا وَاللَّذَانِ
يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا
عَنْهُمَا} 6. نُسِختا بآية الجلد للبِكْر في سورة النور: {الزَّانِيَةُ
وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} 7, وبالجلد
للبِكْر وبالرجم للثيِّب الوارد في السٌّنَّة: "... البِكْر بالبِكْر جلد مائة
ونفي سنة، والثيِّب بالثيِّب جلد مائة والرجم" 8.
1 البقرة: 240.
2
البقرة: 234.
3 البقرة: 284.
4 البقرة: 286.
5
النساء: 8.
6 النساء: 15، 16.
7 النور: 2.
8
رواه مسلم من حديث عبادة بن الصامت.
9- قوله: {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ
عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} 1, نُسِخت بقوله: {الْآنَ خَفَّفَ
اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ
صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} 2.
10- قوله: {انْفِرُوا خِفَافاً
وَثِقَالاً} 3, نُسِخَت بقوله: {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى
الْمَرْضَى} 4 ... الآية، وبقوله: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا
كَافَّةً} 5.. الآية.
وقيل إنه من باب التخصيص لا النسخ. وقد مر ذكر
أمثلة أخرى.
1 الأنفال: 65.
2 الأنفال: 66.
3
التوبة: 41.
4 التوبة: 91.
5 التوبة: 122.
المطلق والمقيد
مدخل
15- المطلق والمقيد: 1
بعض الأحكام التشريعية يرد
تارة مطلقًا في فرد شائع لا يتقيد بصفة أو شرط، ويرد تارة أخرى متناولًا له مع
أمر زائد على حقيقته الشاملة لجنسه من صفة أو شرط، وإطلاق اللفظ مرة وتقييده أخرى
من البيان العربي، وهو ما يُعرف في كتاب الله المعجز بـ "مطلق القرآن ومقيده"
.
1 انظر "الإتقان" جـ2 ص31.
تعريف المطلق والمقيد
والمطلق:
هو ما دل على الحقيقة بلا قيد، فهو يتناول واحدًا لا بعينه من الحقيقة، وأكثر
مواضعه النكرة في الإثبات كلفظ "رقبة" في مثل: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} فإنه
يتناول عتق إنسان مملوك -وهو شائع في جنس العبيد مؤمنهم وكافرهم على السواء وهو
نكرة في الإثبات؛ لأن المعنى: فعليه تحرير رقبة، وكقوله عليه الصلاة والسلام: "لا
نكاح إلا بولي" "رواه أحمد والأربعة" . وهو مطلق في جنس الأولياء سواء أكان
رشيدًا أو غير رشيد. ولهذا عرَّفه بعض الأصوليين بأنه عبارة عن النكرة في سياق
الإثبات، فقولنا: "نكرة" احتراز عن أسماء المعارف وما مدلوله واحد معين، وقولنا:
"في سياق الإثبات" احتراز عن النكرة في سياق النفي فإنها تعم جميع ما هو من
جنسها.
والمقيَّد: هو ما دل على الحقيقة بقيد. كالرقبة المقيَّدة
بالإيمان في قوله: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} 2.
1 النساء:
92.
أقسام المطلق والمقيَّد وحكم كل منها:
وللمطلق والمقيد
صور عقلية نذكر منها الأقسام الواقعية فيما يلي:
1- أن يتحد السبب
والحكم: كالصيام في كفارة اليمين: جاء مطلقًا في
القراءة المتواترة
بالمصحف: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ
أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ} 1، ومقيدًا بالتتابع في قراءة ابن مسعود: "فصيام
ثلاثة أيام متتابعات" - فمثل هذا يحمل المطلق فيه على المقيد؛ لأن السبب الواحد
لا يوجب المتنافيين - ولهذا قال قوم بالتتابع2، وخالفهم من يرى أن القراءة غير
المتواترة -وإن كانت مشهورة- ليست حُجة، فليس هنا مقيد حتى يُحمل عليه المطلق.
2-
أن يتحد السبب ويختلف الحكم: كالأيدي في الوضوء والتيمم. قيَّد غسل الأيدي في
الوضوء بأنه إلى المرافق، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا
قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى
الْمَرَافِقِ} 3، وأطلق المسح في التيمم قال تعالى: {َتَيَمَّمُوا صَعِيداً
طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} 4, فقيل: لا يُحمل
المطلق على المقيد لاختلاف الحكم. ونقل الغزالي عن أكثر الشافعية حمل المطلق على
المقيد هنا لاتحاد السبب وإن اختلف الحكم.
3- أن يختلف السبب ويتحد
الحكم، وفي هذا صورتان:
أ- الأولى: أن يكون التقييد واحدًا. كعتق
الرقبة في الكفارة، ورد اشتراط الإيمان في الرقبة بتقييدها بالرقبة المؤمنة في
كفارة القتل الخطأ، قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً
إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ}
5، وأطلقت في كفارة الظهار، قال تعالى: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ
نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ
أَنْ يَتَمَاسَّا} 6، وفي كفارة اليمين، قال تعالى: {لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ
بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ
الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا
تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} 7, فقال
جماعة منهم المالكية وكثير من الشافعية: يُحمل
1 المائدة: 89.
2
وبه قال أبو حنيفة والثوري، وهو أحد قولي الشافعي.
3 المائدة: 6.
4
المائدة: 6.
5 النساء: 92.
6 المجادلة: 92.
7
المائدة: 89.
المطلق على المقيد من غير دليل، فلا تُجزئ الرقبة
الكافرة في كفارة الظِّهار واليمين، وقال آخرون -وهو مذهب الأحناف- لا يُحمل
المطلق على المقيد إلا بدليل، فيجوز إعتاق الكافرة في كفارة الظِّهار واليمين.
وحُجة
أصحاب الرأي الأول أن كلام الله تعالى متحد في ذاته، لا تعدد فيه فإذا نص على
اشتراط الإيمان في كفارة القتل، كان ذلك تنصيصًا على اشتراطه في كفارة الظِّهار،
ولهذا حُمِل قوله تعالى: {وَالذَّاكِرَاتِ} على قوله في أول الآية:
{وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً} 1, من غير دليل خارج، أي: والذاكرات الله
كثيرًا، والعرب من مذهبها استحباب الإطلاق اكتفاء بالقيد وطلبًا للإيجاز
والاختصار. وقد قال تعالى: {عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ} 2,
والمراد: "عن اليمين قعيد" ، ولكن حُذِف لدلالة الثاني عليه3.
وأما
حُجة أصحاب أبي حنيفة فإنهم قالوا: إن حمل {وَالذَّاكِرَِاتِ} على:
{وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرا} جاء بدليل. ودليله أن قوله: {وَالذَّاكِرِينَ
اللَّهَ كَثِيرا} ولا استقلال له بنفسه، فوجب رده إلى ما هو معطوف عليه ومشارك له
في حكمه، ومثله العطف في قوله تعالى: {عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ
قَعِيدٌ} وإذا امتنع التقيد من غير دليل، فلا بد من دليل، ولا نص من كتاب أو سُنة
يدل على ذلك. والقياس يلزم منه رفع ما اقتضاه المطلق من الخروج عن العهدة بأي شيء
كان، مما هو داخل تحت اللفظ المطلق، فيكون نسخًا، ونسخ النص لا يكون بالقياس.
ويُجاب
عن ذلك من أصحاب الرأي الأول بأننا لا نُسلِّم أنه يلزم من قياس المطلق على
المقيد نسخ النص المطلق، بل تقييده ببعض مسمياته، فتُقيَّد "الرقبة" بأن تكون
مؤمنة، فيكون الإيمان شرطًا في الخروج عن العهدة.
كما أنكم تشترطون
فيها صفة السلامة ولم يدل على ذلك نص من كتاب أو سُنة.
1 الأحزاب:
35.
2 سورة ق: 17.
3 انظر "الأحكام" للآمدي جـ3 ص5, و
"البرهان" للزركشي، جـ2 ص16.
ب- الثانية: أن يكون التقييد مختلفًا،
كالكفارة بالصوم، قيَّد الصوم بالتتابع في كفارة القتل، قال تعالى: {فَمَنْ لَمْ
يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ} 1، وفي
كفارة الظِّهار، قال تعالى: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ
مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} 2، وجاء تقييده بالتفريق في صوم
المتمتع بالحج. قال تعالى: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي
الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} 3، ثم جاء الصوم مطلقًا دون تقييد
بالتتابع أو التفريق في كفارة اليمين قال تعالى: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ
ثَلاثَةِ أَيَّامٍ} 4، وفي قضاء رمضان قال تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ
مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} 5, فالمطلق في هذا
لا يُحمل على المقيد؛ لأن القيد مختلف. فحمل المطلق على أحدهما ترجيح بلا
مرجح.
4- أن يختلف السبب ويختلف الحكم: كاليد في الوضوء, والسرقة،
قُيدت في الوضوء إلى المرافق، وأطلقت في السرقة. قال تعالى: {وَالسَّارِقُ
وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} 6, فلا يُحمل المطلق على المقيد
للاختلاف سببًا وحكمًا، وليس في هذا شيء من التعارض.
قال صاحب
البرهان7: "إن وُجِد دليل على تقييد المطلق صير إليه، وإلا فلا والمطلق على
إطلاقه، والمقيد على تقييده؛ لأن الله تعالى خاطبنا بلغة العرب، والضابط أن الله
تعالى إذا حكم في شيء بصفة أو شرط ثم ورد حكم آخر مطلقًا نُظِر، فإن لم يكن له
أصل يرد إليه إلا ذلك الحكم المقيد وجب تقييده به، وإن كان له أصل غيره لم يكن
رده إلى أحدهما بأولى من الآخر."
1 النساء: 92.
2
المجادلة: 4.
3 البقرة: 196.
4 المائدة: 89.
5
البقرة: 184.
6 المائدة: 38.
7 الجزء الثاني ص15.
المنطوق والمفهوم
مدخل
16- المنطوق والمفهوم: 1
دلالة الألفاظ على المعاني
قد يكون مأخذها من منطوق الكلام الملفوظ به نصًّا أو احتمالًا بتقدير أو غير
تقدير، وقد يكون مأخذها من مفهوم الكلام سواء وافق حكمها حكم المنطوق أو خالفه -
وهذا هو ما يسمى: بالمنطوق والمفهوم.
1 انظر "الإتقان" جـ2 ص31.
تعريف
المنطوق وأقسامه
المنطوق: هو ما دل عليه اللفظ في محل النطق أي إن
دلالته تكون من مادة الحروف التي يُنطق بها.
ومنه: النص، والظاهر،
والمؤول.
فالنص: هو ما يفيد بنفسه معنى صريحًا لا يحتمل غيره. كقوله
تعالى: {فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ
تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} 1, فإن وصف عشرة ب "كاملة" قطع احتمال العشرة لما
دونها مجازًا، وهذا هو الغرض من النص - وقد نُقِل عن قوم أنهم قالوا بندرة النص
جدًّا في الكتاب والسٌّنَّة، وبالغ إمام الحرمين في الرد عليهم فقال: "لأن الغرض
من النص الاستقلال بإفادة المعنى على القطع مع انحسام جهات التأويل والاحتمال،
وهذا وإن عز حصوله بوضع الصيغ ردًّا إلى اللغة، فما أكثره مع القرائن الحالية
والمقالية" .
والظاهر: هو ما يسبق إلى الفهم منه عند الإطلاق معنى مع
احتمال غيره احتمالًا مرجوحًا، فهو يشترك مع النص في أن دلالته في محل النطق،
ويختلف عنه في أن النص يفيد معنى لا يحتمل غيره، والظاهر يفيد معنى عند
1
البقرة: 196.
الإطلاق مع احتمال غيره احتمالًا مرجوحًا كقوله تعالى:
{فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ} 1, فإن الباغي يُطلق على الجاهل.
ويُطلق على الظالم، ولكن إطلاقه على الظالم أظهر وأغلب فهو إطلاق راجح، والأول
مرجوح، وكقوله: {وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} 2, فانقطاع الحيض يقال
فيه طهر، والوضوء والغسل يقال فيهما طهر، ودلالة الطهر على الثاني أظهر، فهي
دلالة راجحة، والأولى مرجوحة.
والمؤول: هو ما حُمل لفظه على المعنى
المرجوح لدليل يمنع من إرادة المعنى الراجح، فهو يخالف الظاهر في أن الظاهر يُحمل
على المعنى الراجح حيث لا دليل يصرفه إلى المعنى المرجوح، أما المؤول فإنه يُحمل
على المعنى المرجوح لوجود الدليل الصارف عن إرادة المعنى الراجح. وإن كان كل
منهما يدل عليه اللفظ في محل النطق، كقوله تعالى: {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ
الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ} 3, فإنه محمول على الخضوع والتواضع وحسن معاملة
الوالدين. لاستحالة أن يكون للإنسان أجنحة.
1 البقرة: 173.
2
البقرة: 222.
3 الإسراء: 24.
دلالة الاقتضاء ودلالة
الإشارة
قد تتوقف صحة دلالة اللفظ على إضمار، وتسمى بدلالة الاقتضاء،
وقد لا تتوقف على إضمار ويدل اللفظ على ما لم يُقصد به قصدًا أوليًّا، وتسمى:
دلالة الإشارة.
فالأول: كقوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً
أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} 1, أي: فأفطر فعدة؛ لأن قضاء
الصوم على المسافر إنما يجب إذا أفطر في سفر، أما إذا صام في سفره فلا موجب
للقضاء خلافًا للظاهرية، وكقوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُم} 2,
فإنه يتضمن إضمار الوطء
1 البقرة: 184.
2 النساء: 23.
ويقتضيه،
أي وطء أمهاتكم؛ لأن التحريم لا يضاف إلى الأعيان، فوجب لذلك إضمار فعل يتعلق به
التحريم وهو الوطء، وهذا النوع يقرب من حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه، وهو
من باب إيجاز القصر في البلاغة - وسمي "اقتضاء" لاقتضاء الكلام شيئًا زائدًا على
اللفظ.
والثاني: وهو دلالة الإشارة - كقوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ
لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ
وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ
أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ
وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ
لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} 1,
فإنه يدل على صحة صوم من أصبح جنبًا - لأنه يبيح الوطء إلى طلوع الفجر بحيث لا
يتسع الوقت للغسل، وهذا يستلزم الإصباح على جنابة، وإباحة سبب الشيء إباحة للشيء
نفسه، فإباحة الجِماع إلى آخر جزء من الليل لا يتسع معه الغسل قبل الفجر إباحة
للإصباح على جنابة.
وهاتان الدلالتان -الاقتضاء والإشارة- أُخِذَا من
المنطوق أيضًا, فهما من أقسام المنطوق، فالمنطوق على هذا يشمل: 1- النص، 2-
والظاهر، 3- والمؤول، 4- والاقتضاء، 5- والإشارة.
1 البقرة: 187.
تعريف
المفهوم وأقسامه
المفهوم: هو مادل عليه اللفظ لا في محل النطق وهو
قسمان:
1- مفهوم موافقة. 2- مفهوم مخالفة.
1- فمفهوم
الموافقة: هو ما يوافق حكمه المنطوق - وهو نوعان:
أ- النوع الأول،
فحوى الخطاب: وهو ما كان المفهوم فيه أولى بالحكم من المنطوق، كفهم تحريم الشتم
والضرب من قوله تعالى: {فَلا تَقُلْ لَّهُمَا أفٍّ} 1؛ لأن منطوق الآية تحريم
التأفيف، فيكون تحريم الشتم والضرب أولى لأنهما أشد.
1 الإسراء:
23.
ب- النوع الثاني: لحن الخطاب: وهو ما ثبت الحكم فيه للمفهوم
كثبوته للمنطوق على السواء - كدلالة قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ
أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً} 1,
على تحريم إحراق أموال اليتامى أو إضاعتها بأي نوع من أنواع التلف؛ لأن هذا مساوٍ
للأكل في الإتلاف.
وتسمية هذين بمفهوم الموافقة؛ لأن المسكوت عنه
يوافق المنطوق به في الحكم وإن زاد عليه في النوع الأول, وساواه في الثاني
والدلالة فيه من قبيل التنبيه بالأدنى على الأعلى، أو بالأعلى على الأدنى، وقد
اجتمعا في قوله تعالى: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ
بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لا
يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ} 2، فالجملة الأولى: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ
تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ} من التنبيه على أنه يؤدي إليك
الدينار وما تحته، والجملة الثانية: {وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ
لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ} من التنبيه على أنك لا تأمنه بقنطار.
2- مفهوم
المخالفة: هو ما يخالف حكمه المنطوق - وهو أنواع:
أ- مفهوم صفة:
والمراد بها الصفة المعنوية، كالمشتق: في قوله تعالى: {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ
بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} 3, فمفهوم التعبير بـ "فاسق" أن غير الفاسق لا يجب
التثبت في خبره، ومعنى هذا أنه يجب قبول خبر الواحد العدل. وقوله تعالى: {وَمَنْ
قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} 4,
فهو يدل على انتفاء الحكم في المخطئ؛ لأن تخصيص العمد بوجوب الجزاء به يدل على
نفي وجوب الجزاء في قتل الصيد خطأ. وكالعدد في قوله: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ
مَعْلُومَاتٌ} 5, مفهومه أن الإحرام بالحج في غير أشهره لا يصح, وقوله:
{فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} 6, مفهومه ألا يجلد أقل أو أكثر.
1
النساء:10.
2 آل عمران: 75.
3 الحجرات: 6.
4
المائدة: 95.
5 البقرة: 197.
6 النور: 4.
ب-
مفهوم شرط، كقوله تعالى: {وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ}
1, فمعناه أن غير الحوامل لا يجب الإنفاق عليهن.
جـ- مفهوم غاية،
كقوله تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ
زَوْجاً غَيْرَهُ} 2, فمفهوم هذا أنها تحل للأول إذا نكحت غيره بشروط النكاح.
د-
مفهوم حصر، كقوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} 3, مفهومه
أن غيره سبحانه لا يُعبد ولا يُستعان به، ولذلك كانت دالة على إفراده تعالى
بالعبادة والاستعانة.
1 الطلاق: 6.
2 البقرة: 230.
3
الفاتحة: 5.
الاختلاف في الاحتجاج به
اختُلِف في الاحتجاج
بهذه المفاهيم، والأصح في ذلك أنها حُجة بشروط، منها:
أ- ألا يكون
المذكور خرج مخرج الغالب - فلا مفهوم للحجور في قوله تعالى: {وَرَبَائِبُكُمُ
اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ} 1؛ لأن الغالب كون الربائب في حجور الأزواج.
ب-
ومنها ألا يكون المذكور لبيان الواقع - فلا مفهوم لقوله: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ
اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ} 2؛ لأن الواقع أن أي إله لا برهان
عليه، وقوله: {لا بُرْهَانَ لَهُ بِه} صفة لازمة جيء بها للتوكيد والتهكم بمدعي
إلهٍ مع الله لا أن يكون في الآلهة ما يجوز أن يقوم عليه برهان - ومثله قوله
تعالى: {وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ
تَحَصُّناً} 3,
1 النساء: 23.
2 المؤمنون: 117.
3
النور: 33.
فلا مفهوم له يدل على إباحة إكراه السيد لأمته على البغاء
إن لم تُرد التحصن، وإنما قال: {إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً} ؛ لأن الإكراه لا
يتأتى إلا مع إرادة التحصن. وعن جابر بن عبد الله قال: "كان عبد الله بن أُبَيٍّ
يقول لجارية له: اذهبي فأبغينا شيئًا، وكانت كارهة، فأنزل الله: {وَلا تُكْرِهُوا
فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِتَبْتَغُوا عَرَضَ
الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ
إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ} 1، وعن جابر أيضًا:" أن جارية لعبد الله بن
أُبَيٍّ، يقال لها "مُسيكة" وأخرى يقال لها "أميمة" . فكان يريدهما على الزنا.
فشكتا ذلك إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فأنزل الله: {وَلا تُكْرِهُوا
فَتَيَاتِكُمْ} ... الآية2.
والأمر في الاحتجاج بمفهوم الموافقة أيسر،
فقد اتفق العلماء على صحة الاحتجاج به سوى الظاهرية. أما الاحتجاج بمفهوم
المخالفة فقد أثبته مالك والشافعي وأحمد، ونفاه أبو حنيفة وأصحابه.
واحتج
المثبتون بحجج نقلية وعقلية.
فمن الحجج النقلية: ما رُوِي أنه لما نزل
قوله تعالى: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ
لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} 3, قال النبي, صلى
الله عليه وسلم: "قد خيرني ربي، فوالله لأزيدنه على السبعين" .. ففهم النبي -صلى
الله عليه وسلم- أن ما زاد على السبعين بخلاف السبعين4.
ومنها: ما ذهب
إليه ابن عباس -رضي الله عنهما- من منع توريث الأخت مع البنت5 استدلالًا بقوله
تعالى: {إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ
مَا تَرَكَ} 6, حيث إنه فهم من توريث الأخت مع عدم الولد امتناع توريثها مع
البنت؛ لأنها ولد، وهو من فصحاء العرب، وترجمان القرآن.
1 النور:
33.
2 أخرجهما مسلم وغيره.
3 التوبة: 80.
4
نقله ابن جرير بأسانيد كثيرة.
5 نقله ابن جرير وغيره عن ابن عباس.
6
النساء: 176.
ومنها: ما رُوِي: "أن يعلى بن أمية" قال لعمر: ما بالنا
نقصر وقد أمنا: وقد قال الله تعالى: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ
تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ} 1, ووجه الاحتجاج به أنه فهم من تخصيص
القَصر عند الخوف عدم القَصر عند الأمن، ولم يُنكر عليه عمر، بل قال: "لقد عجبتُ
مما عجبتَ منه، فسألت النبي -صلى الله عليه وسلم- عن ذلك، فقال لي:" هي صدقة تصدق
الله بها عليكم فاقبلوا صدقته "2, ويعلى بن أمية وعمر من فصحاء العرب، وقد فهما
ذلك، والنبي -صلى الله عليه وسلم- أقرهما عليه."
ومن الحجج العقلية:
أنه لو كان حكم الفاسق وغير الفاسق سواء في قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} 3, في وجوب التثبت في
الخبر لما كان لتخصيص الفاسق بالذكر فائدة. وقس على ذلك سائر الأمثلة.
1
النساء: 101.
2 رواه الإمام أحمد, ورواه مسلم وأهل السنن.
3
الحجرات: 6.
إعجاز القرآن
مدخل
17- إعجاز القرآن:
هذا الكون الفسيح الذي يعج
بمخلوقات الله تضاءلت جباله الشامخة، وبحاره الزاخرة، ومهاده الواسعة، أمام مخلوق
ضعيف هو الإنسان، ذلك لِما جمع الله فيه من خصائص، وما منحه من قوة التفكير التي
تشع في الأرجاء لتسخر عناصر القوى الكونية، وتجعلها في خدمة الإنسانية. وما كان
الله ليذر هذا الإنسان دون أن يمده بقبس من الوحي بين فترة وأخرى يقوده إلى معالم
الهدى ليسلك دروب الحياة على بينة وبصيرة، إلا أن غلواءه الفطري يأبى عليه الخضوع
لقرينه من بني الإنسان ما لم يأت له بما لا يستطيع حتى يعترف ويخضع ويؤمن بقدرة
عليا فوق قدرته، فكان رسل الله الذين يتنزل عليهم الوحي ويؤيدهم الله بخوارق
العادات التي تقيم الحجة على الناس فيعترفون أمامها بالعجز، ويدينون لها بالولاء
والطاعة، ولكن العقل البشري كان في أطوار نموه الأولى لا يرى شيئًا يأخذ بلبه
أقوى من المعجزات الكونية الحسية حيث لا يرقى عقله إلى السمو في المعرفة
والتفكير، فناسب هذا أن يُبعث كل رسول إلى قومه خاصة، وأن تكون معجزته فيما نبغ
فيه قومه خارقة لما ألفوه ليتحقق بعجزهم عنها إيمانهم بأنها من قُوى السماء، فلما
اكتمل العقل البشري أذن الله بفجر الرسالة المحمدية الخالدة إلى الناس كافة،
وكانت معجزتها معجزة العقل البشري في أرقى تطورات نضجه ونموه، فحيث كان تأييد
الله لرسله السابقين بآيات كونية تبهر الأبصار ولا سبيل للعقل في معارضتها.
كمعجزة اليد والعصا لموسى، وإبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى بإذن الله لعيسى،
كانت معجزة محمد -صلى الله عليه وسلم- في عصر مشرف على العلم معجزة عقلية تحاج
العقل البشري وتتحداه إلى الأبد، وهي معجزة القرآن بعلومه ومعارفه, وأخباره
الماضية والمستقبلة، فالعقل الإنساني على تقدمه لا يعجز عن معارضته لأنه آية
كونية لا قِبل له بها. ولكن عجزه لقصوره الذاتي. فيكون هذا اعترافًا منه
بأنه
وحي الله إلى رسوله، وأن حاجته إلى الاهتداء به ماسة ليستقيم عوجه، وترقى مواهبه.
وهذا المعنى, هو ما يشير إليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في قوله: "ما من
الأنبياء نبي إلا أُعْطِي ما مثله آمن عليه البشر, وإنما كان الذي أوتيته وحيًا
أوحاه الله إليَّ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعًا" 1.
وهكذا كتب الله
لمعجزة الإسلام الخلود، فضعفت القدرة الإنسانية مع تراخي الزمن وتقدم العلم عن
معارضتها.
والحديث عن إعجاز القرآن ضرب من الإعجاز لا يصل الباحث فيه
إلى سر جانب منه حتى يجد وراءه جوانب أخرى يكشف عن سر إعجازها الزمن. فهو كما
يقول الرافعي: "ما أشبه القرآن الكريم في تركيب إعجازه وإعجاز تركيبه بصورة
كلامية من نظام هذا الكون الذي اكتنفه العلماء من كل جهة، وتعاوروه من كل ناحية،
وأخلقوا جوانبه بحثًا وتفتيشًا، ثم هو بعدُ لا يزال عندهم على كل ذلك خلقًا
جديدًا، ومرامًا بعيدًا" .
1 رواه البخاري.
تعريف الإعجاز
وإثباته
الإعجاز: إثبات العجز. والعجز في التعارف: اسم للقصور عن فعل
الشيء. وهو ضد القدرة، وإذا ثبت الإعجاز ظهرت قدرة المعجز، والمراد بالإعجاز هنا:
إظهار صدق النبي -صلى الله عليه وسلم- في دعوى الرسالة بإظهار عجز العرب عن
معارضته في معجزته الخالدة -وهي القرآن- وعجز الأجيال بعدهم.
والمعجزة:
أمر خارق للعادة مقرون بالتحدي سالم عن المعارضة.
والقرآن الكريم تحدى
به النبي -صلى الله عليه وسلم- العرب، وقد عجزوا عن معارضته مع طول باعهم في
الفصاحة والبلاغة، ومثل هذا لا يكون إلا معجزًا.
فقد ثبت أن الرسول
-صلى الله عليه وسلم- تحدى العرب بالقرآن على مراحل ثلاث:
أ- تحداهم
بالقرآن كله في أسلوب عام يتناولهم ويتناول غيرهم من الإنس والجن تحديًّا يظهر
على طاقتهم مجتمعين، بقوله تعالى: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ
عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ
كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً} 1.
ب- ثم تحداهم بعشر سور منه في
قوله تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ
مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ
صَادِقِين َفَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ
بِعِلْمِ اللَّهِ} 2.
جـ- ثم تحداهم بسورة واحدة منه في قوله: {أَمْ
يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ} 3، وكرر هذا التحدي في
قوله: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا
بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِه} 4.
ومن عنده إلمام قليل بتاريخ العرب وأدب
لغتهم يدرك العوامل السابقة لبعثة الرسول -صلى الله عليه وسلم- التي رقت بلغة
العرب وهذبت لسانها وجمعت خير ما في لهجاتها من أسواق الأدب والمفاخرة بالشعر
والنثر، حتى انتهى مصب جداول الفصاحة وإدارة الكلام بالبيان في لغة قريش التي نزل
بها القرآن، وما كان عليه العرب من صَلَف يعلو بأحدهم على أبناء عمومته أنفًا
وكبرًا مضرب مثل في التاريخ الذي سجل لهم أيامًا نُسِبت إليهم لما أحدثوه فيها من
معارك وحروب طاحنة أشعلها شرر من الكبرياء والأنفة.
ومثل هؤلاء مع
توفر دواعي اللسان وقوة البيان التي يوقدها حماس القبيل
1 التحدي إنما
وقع للإنس دون الجن؛ لأن الجن ليسوا من أهل اللسان العربي الذي جاء القرآن على
أساليبه، وإنما ذُكروا في قوله تعالى: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ
وَالْجِنُّ} تعظيمًا لإعجازه؛ لأنه إذا فُرض اجتماع الإنس والجن وظاهر بعضهم
بعضًا وعجزوا عن المعارضة كان الفريق الواحد أعجز - [والآية من سورة الإسراء: 88]
.
2 هود: 13، 14.
3 يونس: 38.
4 البقرة: 23.
ويؤججها
أتون الحميَّة لو تسنى لهم معارضة القرآن الكريم لأُثِرَ هذا عنهم, وتطاير خبره
في الأجيال، فالقوم قد تصفحوا آيات الكتاب وقلبوها على وجوه ما نبغوا فيه من شعر
ونثر فلم يجدوا مسلكًا لمحاكاته، أو منفذًا لمعارضته، بل جرى على ألسنتهم الحق
الذي أخرسهم عفو الخاطر عندما زلزلت آيات القرآن الكريم قلوبهم كما أُثِرَ ذلك عن
الوليد بن المغيرة، وعندما عجزت حيلتهم رموه بقول باهت فقالوا: سحر يُؤثر, أو
شاعر مجنون، أو أساطير الأولين. ولم يكن لهم بد أمام العجز والمكابرة إلا أن
يعرِّضوا رقابهم للسيوف، وكأن اليأس القاتل ينقل بنيه من نظرتهم للحياة الطويلة
والعمر المديد إلى ساعة الاحتضار فيستسلمون للموت الزؤام - وبهذا ثبت إعجاز
القرآن بلا مراء.
وكان سماعه حجة ملزمة: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ
الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} 1، وكان
ما يحتويه من نواحي الإعجاز يفوق كل معجزة كونية سابقة ويُغني عنها جميعًا:
{وَقَالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ
عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا
أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ} 2.
وعجز العرب
عن معارضة القرآن مع توفر الدواعي عجز للغة العربية في ريعان شبابها وعنفوان
قوتها.
والإعجاز لسائر الأمم على مر العصور ظل ولا يزال في موقف
التحدي شامخ الأنف، فأسرار الكون التي يكشف عنها العلم الحديث ما هي إلا مظاهر
للحقائق العليا التي ينطوي عليها سر هذا الوجود في خالقه ومدبره, وهو ما أجمله
القرآن أو أشار إليه - فصار القرآن بهذا مُعجزًا للإنسانية كافة.
1
التوبة: 6.
2 العنكبوت: 50، 51.
وجوه إعجاز القرآن: 1
لقد
كان لنشأة علم الكلام في الإسلام أثر أصدق ما يقال فيه: إنه كلام في كلام، وما
فيه من وميض التفكير يجر متتبعه إلى مجاهل من القول بعضها فوق بعض. وقد بدأت
مأساة علماء الكلام في القول بخلق القرآن، ثم اختلفت آراؤهم وتضاربت في وجوه
إعجازه:
أ- فذهب أبو إسحاق إبراهيم النظام2 ومن تابعه - كالمرتضى من
الشيعة - إلى أن إعجاز القرآن كان بالصرفة، ومعنى الصرفة في نظر النظام: أن الله
صرف العرب عن معارضة القرآن مع قدرتهم عليها، فكان هذا الصرف خارقًا للعادة،
ومعناها في نظر المرتضى: أن الله سلبهم العلوم التي يُحتاج إليها في المعارضة،
ليجيئوا بمثل القرآن - وهو قول يدل على عجز ذويه، فلا يقال فيمن سُلِب القدرة على
شيء أن الشيء أعجزه ما دام في مقدوره أن يأتي به في وقت ما، وإنما المعجز حينئذ
هو قدر الله، فلا يكون القرآن معجزًا، وحديثنا عن إعجاز مضاف إلى القرآن سوف يظل
ثابتًا له في كل عصر، لا عن إعجاز الله.
قال القاضي أبو بكر
الباقلاني: "ومما يُبطل القول بالصرفة، أنه لو كانت المعارضة ممكنة، وإنما منع
منها الصرفة، لم يكن الكلام معجزًا، وإنما يكون المنع معجزًا، فلا يتضمن الكلام
فضلًا على غيره في نفسه" .
والقول بالصرفة قول فاسد يرد عليه القرآن
الكريم في قوله تعالى: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ
يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ
بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً} 3, فإنه يدل على عجزهم مع بقاء
1 ذكر
العلماء في وجوه الإعجاز ما يربو على عشرة أوجه، وسنقتصر على أهمها.
2
هو أبو إسحاق إبراهيم بن سيار النظام شيخ الجاحظ، وأحد رءوس المعتزلة، وإليه تنسب
الفرقة النظامية، توفي في خلافة المعتصم سنة بضع وعشرين ومائتين.
3
الإسراء: 88.
قدرتهم، ولو سُلبوا القدرة لم يبق فائدة لاجتماعهم،
لمنزلته منزلة اجتماع الموتى، وليس عجز الموتى بكبير يُحتفل بذكره.
ب-
وذهب قوم إلى أن القرآن مُعجز ببلاغته التي وصلت إلى مرتبة لم يُعهد لها مثيل -
وهذه النظرة نظرة أهل العربية الذين يولعون بصور المعاني الحية في النسج المحكم،
والبيان الرائع.
جـ- وبعضهم يقول: إن وجه إعجازه في تضمنه البديع
الغريب المخالف لما عُهِد في كلام العرب من الفواصل والمقاطع.
د-
ويقول آخرون: بل إعجازه في الإخبار عن المغيبات المستقبلة التي لا يُطَّلع عليها
إلا الوحي. أو الإخبار عن الأمور التي تقدمت منذ بدء الخلق بما لا يمكن صدوره من
أمي لم يتصل بأهل الكتاب.
كقوله تعالى في أهل بدر: {سَيُهْزَمُ
الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} 1.
وقوله: {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ
رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ} 2.
وقوله: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ
آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ}
3.
وقوله: {الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ
بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ} 4.
وقوله: {تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ
الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ
قَبْلِ هَذَا} 5. وسائر قصص الأولين.
وهذا قول مردود؛ لأنه يستلزم أن
الآيات التي لا خبر فيها عن المغيبات المستقبلة والماضية لا إعجاز فيها، وهو
باطل، فقد جعل الله كل سورة معجزة بنفسها6.
1 القمر: 45.
2
الفتح: 27.
3 النور: 55.
4 الروم: 1-3.
5 هود:
49.
6 انظر "البرهان" للزركشي جـ2 ص95، 96.
هـ- وذهب جماعة
إلى أن القرآن مُعجز لما تضمنه من العلوم المختلفة، والحِكَم البليغة.
وهناك
وجوه أخرى للإعجاز تدور في هذا الفلك جمعها بعضهم في عشرة أو أكثر.
والحقيقة
أن القرآن معجز بكل ما يتحمله هذا اللفظ من معنى:
فهو مُعْجز في
ألفاظه وأسلوبه، والحرف الواحد منه في موضعه من الإعجاز الذي لا يغني عنه غيره في
تماسك الكلمة، والكلمة في موضعها من الإعجاز في تماسك الجملة، والجملة في موضعها
من الإعجاز في تماسك الآية.
وهو مُعْجز في بيانه ونظمه، يجد فيه
القارئ صورة حية للحياة والكون والإنسان.
وهو مُعجز في معانيه التي
كشفت الستار عن الحقيقة الإنسانية ورسالتها في الوجود.
وهو مُعجز
بعلومه ومعارفه التي أثبت العلم الحديث كثيرًا من حقائقها المغيبة.
وهو
مُعجز في تشريعه وصيانته لحقوق الإنسان وتكوين مجتمع مثالي تسعد الدنيا على
يديه.
والقرآن -أولًا وآخرًا- هو الذي صير العرب رعاة الشاء والغنم
ساسة شعوب وقادة أمم، وهذا وحده إعجاز.
قال الخطابي في كتابه1: "فخرج
من هذا أن القرآن إنما صار معجزًا؛ لأنه جاء بأفصح الألفاظ، في أحسن نظوم
التأليف، مضمنًا أصح المعاني، من توحيد الله وتنزيهه في صفاته، ودعاء إلى طاعته،
وبيان لمنهاج عبادته، في"
1 هو أبو سليمان حمد بن محمد بن إبراهيم
الخطابي، في كتابه "بيان إعجاز القرآن" طبع ضمن ثلاثة رسائل بمطبعة المعارف
بتحقيق محمد خلف الله ومحمد زغلول سلام، وانظر "البرهان" للزركشي جـ2 ص101 وما
بعدها.
تحليل وتحريم، وحظر وإباحة، ومن وعظ وتقويم، وأمر بمعروف ونهي
عن منكر، وإرشاد إلى محاسن الأخلاق، وزجر عن مساويها، واضعًا كل شيء منها موضعه
الذي لا يُرى شيء أولى منه، ولا يُتوهم في صورة العقل أمر أليق به منه، مودعًا
أخبار القرون الماضية وما نزل من مثلات الله بمن عصى وعاند منهم، منبئًا عن
الكوائن المستقبلة في الأعصار الماضية من الزمان - جامعًا في ذلك بين الحجة
والمحتج له، والدليل والمدلول عليه، ليكون ذلك أوكد للزوم ما دعا إليه، وإنباء عن
وجوب ما أمر به ونهى عنه.
ومعلوم أن الإتيان بمثل هذه الأمور, والجمع
بين شتاتها حتى تنتظم وتتسق، أمر تعجز عنه قوى البشر, ولا تبلغه قدرتهم، فانقطع
الخلق دونه، وعجزوا عن معارضته بمثله "."
القدر المعجز من القرآن
أ-
يذهب المعتزلة إلى أن الإعجاز يتعلق بجميع القرآن لا ببعضه، أو بكل سورة
برأسها.
ب- ويذهب بعضهم إلى أن المُعْجز منه القليل والكثير دون تقييد
بالسورة لقوله تعالى: {فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ} 1.
جـ- ويذهب
آخرون إلى أن الإعجاز يتعلق بسورة تامة ولو قصيرة، أو قدرها من الكلام كآية واحدة
أو آيات.
ولقد وقع التحدي بالقرآن كله: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ
الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا
يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ} 2.
وبعشر سور: {فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ
مِثْلِهِ} 3.
1 الطور: 34.
2 الإسراء: 88.
3
هود: 13.
وبسورة واحدة: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ} 1.
وبحديث
مثله: {فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ} 2.
ونحن لا نرى الإعجاز في
قدر معين؛ لأننا نجده في أصوات حروفه ووقع كلماته، كما نجده في الآية والسورة،
فالقرآن كلام الله وكفى.
وأيًّا كان وجه الإعجاز، أو القدر المعجز.
فإن الباحث المنصف الذي يطلب الحق إذا نظر في القرآن من أي النواحي أحب: من ناحية
أسلوبه، أو من ناحية علومه، أو من ناحية الأثر الذي أحدثه في العالم وغير به وجه
التاريخ، أو من تلك النواحي مجتمعة, وجد الإعجاز واضحًا جليًّا, ويجدر بنا أن
نأتي بكلمة في هذه النواحي الثلاثة من الإعجاز القرآني: ناحية الإعجاز اللغوي،
وناحية الإعجاز العلمي، وناحية الإعجاز التشريعي.
1 يونس: 38.
2
الطور: 34.
الإعجاز اللغوي
لقد مارس أهل العربية فنونها
منذ نشأت لغتهم حتى شبت وترعرعت، وأصبحت في عنفوان شبابها عملاقًا معطاء،
واستظهروا شعرها ونثرها، وحكمها وأمثالها، وطاوعهم البيان في أساليب ساحرة، حقيقة
ومجازًا، إيجازًا وإطنابًا، حديثًا ومقالًا، وكلما ارتفعت اللغة وتسامت، وقفت على
أعتاب لغة القرآن في إعجازه اللغوي كَسِيرة صاغرة، تنحني أمام أسلوبه إجلالًا
وخشية، وما عهد تاريخ العربية حقبة من أحقاب التاريخ. ازدهرت فيها اللغة إلا
وتطامن أعلامها وأساتذتها أمام البيان القرآني اعترافًا بسموه، وإدراكًا لأسراره،
ولا عجب "فتلك سُنة الله في آياته التي يصنعها بيديه، لا يزيدك العلم بها والوقوف
على أسرارها إلا إذعانًا لعظمتها، وثقة بالعجز عنها، ولا كذلك صناعات الخلق، فإن
فضل العلم بها يمكنك منها ويفتح لك الطريق"
إلى الزيادة عليها، ومن
هنا كان سحرة فرعون هم أول المؤمنين برب موسى وهارون "1."
والذين
تملكهم الغرور، وأصابتهم لوثة الإعجاب بالنفس، وحاولوا التطاول على أسلوب القرآن،
حاكوه بكلام فارغ، أشبه بالسخف والتفاهة والهذيان والعبث. وارتدوا على أعقابهم
خاسرين، كالمتنبئين وأشباه المتنبئين، من الدجالين والمغرورين.
وقد
شهد التاريخ فرسانًا للعربية خاضوا غمارها وأحرزوا قصب السبق فيها، فما استطاع
أحد منهم أن تحدثه نفسه بمعارضة القرآن، إلا باء بالخزي والهوان، بل إن التاريخ
سجل هذا العجز على اللغة، في أزهى عصورها، وأرقى أدوارها، حين نزل هذا القرآن،
وقد بلغت العربية أشدها، وتوافرت لها عناصر الكمال والتهذيب في المجامع العربية
وأسواقها، ووقف القرآن من أصحاب هذه اللغة موقف التحدي. في صور شتى، متنزلًا معهم
إلى الأخف من عشر سور إلى سورة إلى حديث مثله، فما استطاع أحد أن يباريه أو
يجاريه منهم، وهم أهل الأنفة والعزة والإباء. ولو وجدوا قدرة على محاكاة شيء منه،
أو وجدوا ثغرة فيه. لما ركبوا المركب الصعب أمام هذا التحدي، بإشهار السيوف، بعد
أن عجز البيان، وتحطمت الأقلام.
وتتابعت القرون لدى أهل العربية، وظل
الإعجاز القرآني اللغوي راسخًا كالطود الشامخ، تذل أمامه الأعناق خاضعة، لا تفكر
في أن تدانيه، فضلًا عن أن تساميه؛ لأنها أشد عجزًا وأقل طمعًا في هذا المطلب
العزيز. وسيظل الأمر كذلك إلى يوم الدين.
ولا يستطيع أحد أن يدعي عدم
الحاجة إلى معارضة القرآن، وإن كان ذلك ممكنًا، فإن التاريخ يشهد بأنه قد توافرت
الدواعي الملحة لدى القوم لمعارضة
1 النبأ العظيم ص81.
القرآن،
حيث وقفوا من الرسالة وصاحبها موقف الجحود والنكران، واستثار القرآن حميَّتهم،
وسفَّه أحلامهم، وتحداهم تحديًا سافرًا يثير حفيظة الجبان الرعديد مع ما كانوا
عليه من أنفة وعزة. فسلكوا مع الرسول -صلى الله عليه وسلم- مسالك شتى، ساوموه
بالمال والمُلك ليكف عن دعوته، وقاطعوه ومن معه حتى يموتوا جوعًا. واتهموه بالسحر
والجنون، وتآمروا على حبسه، أو قتله أو إخراجه. وقد دلهم على الطريق الوحيد
لإسكاته وهو أن يجيئوه بكلام مثل الذي جاءهم به، "ألم يكن ذلك أقرب إليهم وأبقى
عليهم لو كان أمره في يدهم؟ ولكنهم طرقوا الأبواب كلها إلا هذا الباب، وكان القتل
والأسر والفقر والذل وكل أولئك أهون عليهم من ركوب هذا الطريق الوعر الذي دلهم
عليه، فأي شيء يكون العجز إن لم يكن هذا هو العجز" ؟
والقرآن الذي عجز
العرب عن معارضته لم يخرج عن سُنن كلامهم. ألفاظًا وحروفًا، تركيبًا وأسلوبًا،
ولكنه في اتساق حروفه، وطلاوة عبارته، وحلاوة أسلوبه، وجرس آياته، ومراعاة
مقتضيات الحال في ألوان البيان، في الجمل الاسمية والفعلية، وفي النفي والإثبات،
وفي الذكر والحذف، وفي التعريف والتنكير، وفي التقديم والتأخير، وفي الحقيقة
والمجاز، وفي الإطناب والإيجاز. وفي العموم والخصوص، وفي الإطلاق والتقييد، وفي
النص والفحوى، وهلم جرًّا، ولكن القرآن في هذا ونظائره بلغ الذروة التي تعجز
أمامها القدرة اللغوية لدى البشر.
عن ابن عباس: "أن الوليد بن المغيرة
جاء إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقرأ عليه القرآن، فكأنه رَقَّ له، فبلغ ذلك
أبا جهل، فأتاه فقال له: يا عم: إن قومك يريدون أن يجمعوا لك مالًَا ليعطوكه،
فإنك أتيت محمدًا لتتعرض لما قِبَلِه. قال: قد علمت قريش أني من أكثرها مالًا،
قال: فقل فيه قولًا يبلغ قومك أنك منكر له وكاره، قال: وماذا أقول؟ فوالله ما
فيكم رجل أعلم بالشعر مني لا برجزه ولا بقصيده ولا بأشعار الجن، والله ما يشبه
الذي يقوله شيئًا من هذا، ووالله إن لقوله الذي يقول لحلاوة، وإن عليه لطلاوة،
وإنه لمثمر أعلاه، مغدق أسفله،"
وإنه ليعلو وما يُعلى، وإنه ليحطم ما
تحته، قال: والله لا يرضى قومك حتى تقول فيه، قال: فدعني حتى أفكر، فلما فكر قال:
هذا سحر يؤثر، يأثره عن غيره، فنزلت: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً} 1.
وحيثما
قلَّب الإنسان نظره في القرآن وجد أسرارًا من الإعجاز اللغوي.
يجد ذلك
في نظامه الصوتي البديع بجرس حروفه، حين يسمع حركاتها وسكناتها، ومدَّاتها
وغُنَّائها، وفواصلها ومقاطعها، فلا تمل أذنه السماع، بل لا تفتأ تطلب منه
المزيد.
ويجد ذلك في ألفاظه التي تفي بحق كل معنى في موضعه، لا ينبو
منها لفظ يقال إنه زائد، ولا يعثر الباحث على موضع يقول إنه يحتاج إلى إثبات لفظ
ناقص.
ويجد ذلك في ضروب الخطاب التي يتقارب فيها أصناف الناس في الفهم
بما تطيقه عقولهم، فيراها كل واحد منهم مقدرة على مقياس عقله ووفق حاجته، من
العامة والخاصة {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ
مُدَّكِرٍ} 2.
ويجد ذلك في إقناع العقل وإمتاع العاطفة، بما يفي بحاجة
النفس البشرية تفكيرًا ووجدانًا في تكافؤ واتزان، فلا تطغى قوة التفكير على قوة
الوجدان، ولا قوة الوجدان على قوة التفكير.
وهكذا حيثما قلَّب النظر
قامت أمامه حجة القرآن في التحدي والإعجاز3.
قال القاضي أبو بكر
الباقلاني4: "والذي يشتمل عليه بديع نظمه"
1 أخرجه الحاكم وصححه،
والبيهقي في الدلائل - [والآية من سورة المدثر: 11] .
2 القمر: 17.
3
راجع الإعجاز اللغوي في "النبأ العظيم" بتوسع.
4 هو القاضي أبو بكر
محمد بن الطيب الباقلاني صاحب كتاب "إعجاز القرآن" وكتاب "التقريب والإرشاد" في
أصول الفقه، توفي سنة 403 هجرية.
المتضمن للإعجاز وجوه: منها ما يرجع
إلى الجملة، وذلك أن نظم القرآن على تصرف وجوهه واختلاف مذاهبه خارج عن المعهود
من نظام جميع كلامهم، ومباين للمألوف من ترتيب خطابهم، وله أسلوب يختص به ويتميز
في تصرفه عن أساليب الكلام المعتاد، وذلك أن الطرق التي يتقيد بها الكلام البديع
المنظوم، تنقسم إلى أعاريض الشعر على اختلاف أنواعه، ثم إلى أنواع الكلام الموزون
غير المقفى، ثم إلى أصناف الكلام المعدل المسجع، ثم إلى معدل موزون غير مسجع، ثم
إلى ما يرسل إرسالًا فتطلب فيه الإصابة والإفادة وإفهام المعاني المعترضة على وجه
البديع، وترتيب لطيف، وإن لم يكن معتدلًا في وزنه، وذلك شبيه بجملة الكلام الذي
لا يتعمل يتصنع له، وقد علمنا أن القرآن خارج عن هذه الوجوه، ومباين لهذه الطرق،
فليس من باب السجع، وليس من قبيل الشعر، وتبين بخروجه عن أصناف كلامهم، وأساليب
خطابهم أنه خارج عن العادة. وأنه مُعجز، وهذه خصوصية ترجع إلى جملة القرآن، وتميز
حاصل في جميعه..
وليس للعرب كلام مشتمل على هذه الفصاحة والغرابة
والتصرف البديع, والمعاني اللطيفة، والفوائد الغزيرة، والحِكَم الكثيرة، والتناسب
في البلاغة، والتشابه في البراعة على هذا الطول - وعلى هذا القدر، وإنما تُنسب
إلى حكيمهم كلمات معدودة، وألفاظ قليلة، وإلى شاعرهم قصائد محصورة يقع فيها
الاختلال والاختلاف، والتكلف والتعسف، وقد جاء القرآن على كثرته وطوله متناسبًا
في الفصاحة على ما وصفه الله عز من قائل: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ
كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ
يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ
اللَّهِ} 1، {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ
اخْتِلافًا كَثِيرًا} 2. فأخبر أن كلام الآدمي إن امتد وقع فيه التفاوت وبان عليه
الاختلال.
1 الزمر: 23.
2 النساء: 82.
الإعجاز
العلمي
وعجيب نظم القرآن وبديع تأليفه لا يتفاوت ولا يتباين على ما
يتصرف إليه من الوجوه التي يتصرف فيها - من ذكر قصص ومواعظ، واحتجاج وحِكَم
وأحكام، وإعذار وإنذار، ووعد ووعيد، وتبشير وتخويف، وأخلاق كريمة، وشيم رفيعة،
وسِيَر مأثورة، وغير ذلك من الوجوه التي يشتمل عليها، ونجد كلام البليغ الكامل،
والشاعر المفلق، والخطيب المصقع يختلف على حسب اختلاف هذه الأمور، فمن الشعراء من
يجود في المدح دون الهجو، ومنهم من يبرز في الهجو دون المدح, ومنهم من يسبق في
التقريظ دون التأبين، ومنهم من يقرب في وصف الإبل والخيل، أو سير الليل، أو وصف
الحرب، أو وصف الروض، أو وصف الخمر، أو الغزل أو غير ذلك مما يشتمل عليه الشعر
ويتداوله الكلام. ولذلك ضُرِبَ المثل بامرئ القيس إذا ركب. والنابغة إذا رهب،
وبزهير إذا رغب، ومثل ذلك يختلف في الخطب والرسائل وسائر أجناس الكلام..
وقد
تأملنا نظم القرآن فوجدنا جميع ما يتصرف فيه من الوجوه التي قدمنا ذكرها على حد
واحد في حسن النَّظْم، وبديع التأليف والوصف، لا تفارت فيه ولا انحطاط عن المنزلة
العليا.. فعلمنا بذلك أنه مما لا يقدر عليه البشر "1."
وإذا عجز
المتناهون في الفصاحة، ومعرفة وجوه الخطاب، وطرق البلاغة، وفنون القول، وقامت
الحجة عليهم، فقد لزمت الحجة من دونهم من العرب، ولزمت غيرهم من الأعاجم؛ لأن
تحقق عجز من استكمل معرفة تصاريف الخطاب، ووجوه الكلام، وأساليب البيان؛ يقطع
بعجز من دونه من باب أولى.
1 إعجاز القرآن بتصرف.
بحال من
الأحوال، وقد تقدمت العلوم وكثرت مسائلها ولم يتعارض شيء ثابت منها مع آية من
آيات القرآن، وهذا وحده إعجاز.
والقرآن الكريم يجعل التفكير السديد
والنظر الصائب في الكون وما فيه أعظم وسيلة من وسائل الإيمان بالله.
إنه
يحث المسلم على التفكير في مخلوقات الله في السماء والأرض: {إِنَّ فِي خَلْقِ
السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُولِي
الأَلْبَابِ، الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى
جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا
خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} 1.
ويحثه
على التفكير في نفسه، وفي الأرض التي يعمرها، وفي الطبيعة التي تحيط به:
{أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ
وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى} 2.
{وَفِي
الأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} 3.
{أَفَلا
يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ،
وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ وَإِلَى الأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ} 4.
ويثير
فيه الحس العلمي للتفكير والفهم والتعقل: {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ
الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ} 5.
{وَتِلْكَ الأَمْثَالُ
نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} 6.
{كَذَلِكَ
نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} 7.
{إِنَّ فِي ذَلِكَ
لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} 8.
1 آل عمران: 190، 191.
2
الروم: 8.
3 الذاريات: 20، 21.
4 الغاشية: 17-20.
5
البقرة: 219.
6 الحشر: 21.
7 يونس: 24.
8
الرعد: 3.
{كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} 1.
{قَدْ
فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} 2.
{انْظُرْ كَيْفَ
نُصَرِّفُ الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ} 3.
{قَدْ فَصَّلْنَا
الْآياتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ} 4.
ويرفع القرآن مكانة المسلم بفضيلة
العلم: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا
الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} 5.
ولا يسوِّي بين عالم وجاهل: {قُلْ هَلْ
يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} 6.
ويأمر
المسلم أن يسأل ربه نعمة العلم: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً} 7.
ويجمع
الله علوم الفلك والنبات وطبقات الأرض والحيوان ويجعل ذلك من بواعث خشيته:
{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ
ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ
مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ، وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ
وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ
عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} 8.
وهكذا فإن إعجاز القرآن العلمي في أنه يحث
المسلمين على التفكير، ويفتح لهم أبواب المعرفة، ويدعوهم إلى ولوجها، والتقدم
فيها، وقبول كل جديد راسخ من العلوم.
وفي القرآن مع هذا إشارات علمية
سيقت مساق الهداية، فالتلقيح في النبات: ذاتي وخلطي، والذاتي: ما اشتملت زهرته
على عضوي التذكير والتأنيث، والخلطي: هو ما كان عضو التذكير فيه منفصلًا عن عضو
التأنيث
1 الأعراف: 32.
2 الأنعام: 97.
3
الأنعام: 65.
4 الأنعام: 98.
5 المجادلة: 11.
6
الزمر: 9.
7 طه: 114.
8 فاطر: 27-28.
كالنخيل،
فيكون التلقيح بالنقل. ومن وسائل ذلك الرياح، وجاء في هذا قول الله تعالى:
{وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ} 1.
"والأوكسجين" ضروري لتنفس
الإنسان، ويقل في طبقات الجو العليا, فكلما ارتفع الإنسان في أجواء السماء أحس
بضيق الصدر وصعوبة التنفس، والله تعالى يقول: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ
يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ
صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} 2.
وقد
ساد الاعتقاد بأن الذرة هي الجزء الذي لا يقبل التجزئة، وفي القرآن: {وَمَا
يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ
وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} 3, ولا
أصغر من الذرة سوى تحطيم الذرة.
وفي علم الأجنة جاء قوله تعالى:
{فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ، خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ يَخْرُجُ
مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ} 4.
وقوله: {خَلَقَ
الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ} 5.
وقوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ
كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ
مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ
مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى
أَجَلٍ مُسَمّىً ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً} 6.
وفي وحدة الكون وحاجة
الحياة إلى عنصر الماء يقول تعالى: {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ
الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ} 7.
تلك الإشارات
العلمية ونظائرها في القرآن جاءت في سياق الهداية الإلهية، وللعقل البشري أن يبحث
فيها ويتدبر.
1 الحجر: 22.
2 الأنعام: 125.
3
يونس: 61.
4 الطارق: 5-7.
5 العلق: 2.
6 الحج:
5.
7 الأنبياء: 30.
يقول الأستاذ سيد قطب في تفسير قوله
تعالى: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ
وَالْحَجِّ} 1: "اتجه الجواب إلى واقع حياتهم العملي لا إلى مجرد العلم النظري،
وحدثهم عن وظيفة الأهلة في واقعهم وفي حياتهم ولم يحدثهم عن الدورة الفلكية
للقمر، وكيف تتم؟ وهي داخلة في مدلول السؤال.. إن القرآن قد جاء لما هو أكبر من
تلك المعلومات الجزئية، ولم يجئ ليكون كتاب علم فلكي، أو كيماوي أو طبي.. كما
يحاول بعض المتحمسين له أن يلتمسوا فيه هذه العلوم، أو كما يحاول بعض الطاعنين
فيه أن يلتمسوا مخالفاته لهذه العلوم."
إن كلتا المحاولتين دليل على
سوء الإدراك لطبيعة هذا الكتاب ووظيفته ومجال عمله. إن مجاله هو النفس الإنسانية
والحياة الإنسانية، وإن وظيفته أن ينشئ تصورًا عامًّا للوجود وارتباطه بخالقه،
ولوضع الإنسان في هذا الوجود وارتباطه بربه، وأن يقيم على أساس هذا التصور نظامًا
للحياة يسمح للإنسان أن يستخدم كل طاقاته ومن بينها طاقته العقلية، التي تقوم هي
بعد تنشئتها على استقامة، وإطلاق المجال لها لتعمل -بالبحث العلمي- في الحدود
المتاحة للإنسان، وبالتجريب والتطبيق، وتصل إلى ما تصل إليه من نتائج، ليست
نهائية ولا مطلقة بطبيعة الحال..
وإني لأعجب لسذاجة المتحمسين لهذا
القرآن الذين يحاولون أن يضيفوا إليه ما ليس منه، وأن يحملوا عليه ما لم يقصد
إليه، وأن يستخرجوا منه جزئيات في علوم الطب والكيمياء والفلك وما إليها.. كأنما
ليعظموه بهذا ويكبروه..
إن الحقائق القرآنية حقائق نهائية قاطعة
مطلقة.. أما ما يصل إليه البحث الإنساني - أيًّا كانت الأدوات المتاحة له- فهي
حقائق غير نهائية ولا قاطعة، وهي مقيدة بحدود تجاربه وظروف هذه التجارب وأدواتها،
فمن الخطأ المنهجي -بحكم المنهج العلمي الإنساني ذاته- أن نعلق الحقائق النهائية
القرآنية بحقائق غير نهائية، وهي كل ما يصل إليه العلم البشري.
1
البقرة: 189.
هذا بالقياس إلى الحقائق العلمية، والأمر أوضح بالقياس
إلى النظريات والفروض التي تسمى "علمية" .. فهي قابلة دائمًا للتغيير والتعديل
والنقص والإضافة، بل قابلة لأن تنقلب رأسًا على عقب، بظهور أداة كشف جديدة، أو
بتفسير جديد لمجموعة الملاحظات القديمة.
وكل محاولة لتعليق الإشارات
القرآنية العامة بما يصل إليه العلم من نظريات متجددة متغيرة -أو حتى بحقائق
علمية ليست مطلقة كما أسلفنا- تحتوي أولًًا على خطأ منهجي أساسي، كما أنها تنطوي
على معان ثلاثة، كلها لا يليق بجلال القرآن الكريم.
الأولى: هي
الهزيمة الداخلية التي تخيل لبعض الناس، أن العلم هو المهيمن والقرآن تابع، ومن
هنا يحاولون تثبيت القرآن بالعلم، أو الاستدلال له من العلم، على حين أن القرآن
كتاب كامل في موضوعه، ونهائي في حقائقه، والعلم لا يزال في موضوعه ينقض اليوم ما
أثبته بالأمس، وكل ما يصل إليه غير نهائي ولا مطلق؛ لأنه مقيد بوسط الإنسان وعقله
وأدواته، وكلها ليس من طبيعتها أن تُعطي حقيقة واحدة نهائية مطلقة.
والثانية:
سوء فهم طبيعة القرآن ووظيفته. وهي أنه حقيقة نهائية مطلقة تعالج بناء الإنسان
بناء يتفق -بقدر ما تسمح طبيعة الإنسان النسبية- مع طبيعة هذا الوجود وناموسه
الإلهي، حتى لا يصطدم الإنسان بالكون من حوله، بل يصادقه ويعرف بعض أسراره،
ويستخدم بعض نواميسه من خلافته، نواميسه التي تكشف له بالنظر والبحث والتجريب
والتطبيق، وفق ما يهديه إليه عقله الموهوب له ليعمل لا ليتسلم المعلومات المادية
جاهزة.
والثالثة: هي التأويل المستمر -مع التمحل والتكلف- لنصوص
القرآن كي نحملها ونلهث بها وراء الفروض والنظريات التي لا تثبت ولا تستقر، وكل
يوم يجد فيها جديد "1."
1 اقتبسنا هذه الفقرات من كتاب "في ظلال
القرآن" بتصرف.
الإعجاز التشريعي
أودع الله في الإنسان
كثيرًا من الغرائز التي تعتمل في النفس وتؤثر عليها في اتجاهات الحياة، ولئن كان
العقل الرشيد يعصم صاحبه من الزلل فإن النزعات النفسية المنحرفة تطغى على سلطان
العقل، ولا يستطيع العقل أن يكبح جماحها في كل حال. لهذا كان لا بد لاستقامة
الإنسان من تربية خاصة لغرائزه، تهذبها وتنميها، وتقودها إلى الخير والفلاح.
والإنسان
مدني بالطبع، فهو في حاجة إلى غيره، وغيره في حاجة إليه، وتعاون الإنسان مع أخيه
الإنسان ضرورة اجتماعية يفرضها العمران البشري. وكثيرًا ما يظلم الإنسان أخاه
بدافع الأثرة وحب السيطرة، فلو تُرِك أمر الناس دون ضابط يحدد علاقاتهم، وينظم
أحوال معاشهم، ويصون حقوقهم، ويحفظ حرماتهم لصار أمرهم فوضى، ولذا كان لا بد لأي
مجتمع بشري من نظام يحكم زمامه، ويحقق العدل بين أفراده.
وبين تربية
الفرد وصلاح الجماعة وشائج قوية لا تنفصم عراها، فإن هذا يقوم على تلك، فصلاح
الفرد من صلاح الجماعة، وصلاح الجماعة بصلاح الفرد..
وقد عرفت البشرية
في عصور التاريخ ألوانًا مختلفة من المذاهب والنظريات والنظم والتشريعات التي
تستهدف سعادة الفرد في مجتمع فاضل، ولكن واحدًا منها لم يبلغ من الروعة والإجلال
مبلغ القرآن في إعجازه التشريعي.
إن القرآن يبدأ بتربية الفرد؛ لأنه
لبنة المجتمع ويقيم تربيته على تحرير وجدانه، وتحمله التبعة.
يحرر
القرآن وجدان المسلم بعقيدة التوحيد الذي تُخَلِّصه من سلطان الخرافة والوهم،
وتفك أسره من عبودية الأهواء والشهوات، حتى يكون عبدًا خالصًا لله، يتجرد للإله
الخالق المعبود، ويستعلي بنفسه عما سواه، فلا حاجة للمخلوق إلا لدى خالقه، الذي
له الكمال المطلق، ومنه يمنح الخير للخلائق كلها.
إنه خالق واحد وإله
واحد. لا أول له ولا آخر، قدير على كل شيء، عليم بكل شيء, محيط بكل شيء، وليس
كمثله شيء.
عالَم مخلوق خلقه الله، ويرجع إلى الله، ويفنى كما يوجد
بمشيئة الله، وهذه أكمل عقيدة في العقل وأكمل عقيدة في الدين.
{قُلْ
هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ
لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} 1.
{هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ
وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} 2.
{كُلُّ شَيْءٍ
هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} 3.
{ذَلِكُمُ
اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ}
4.
{وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً} 5.
{وَاللَّهُ
بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} 6.
{أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ}
7.
{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} 8.
{لا
تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ
الْخَبِيرُ} 9.
ويؤكد القرآن الكريم وحدانية الله بالحجج القاطعة التي
تقوم على المنطق العقلي السليم. فلا تقبل الجدال والمراء: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا
آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} 10.
1 سورة الإخلاص.
2
الحديد: 3.
3 القصص: 88.
4 الأنعام: 102.
5
الأحزاب: 27.
6 البقرة: 96.
7 فصلت: 54.
8
الشورى: 11.
9 الأنعام: 103.
10 الأنبياء: 22.
{قُلْ
لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذاً لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي
الْعَرْشِ سَبِيلاً} 1.
وإذا صحت عقيدة المسلم كان عليه أن يأخذ
بشرائع القرآن في الفرائض والعبادات، وكل عبادة مفروضة يراد بها صلاح الفرد
ولكنها مع ذلك ذات علاقة بصلاح الجماعة.
فالصلاة تنهى عن الفحشاء
والمنكر، والجماعة واجبة على الرأي الراجح إلا لعذر، وهي شرط في الجمعة والعيدين،
والذي يُصلِّى منفردًا لا يغيب عن شعوره آصرة القربى بينه وبين الجماعة الإسلامية
في أقطار الأرض، من شمال إلى جنوب، ومن مشرق إلى مغرب؛ لأنه يعلم أنه في تلك
اللحظة يتجه وجهة واحدة مع كل مسلم على ظهر الأرض، يؤدي فريضة الصلاة، ويستقبل
معه قِبلة واحدة، ويدعو بدعاء واحد، وإن تباعدت بينهم الديار.
وحسب
المسلم في تربيته أن يقف بين يدي الله خمس مرات في اليوم الواحد تمتزج حياته بشرع
الله، ويتمثل الوازع الأعلى نصب عينيه ما بين كل صلاة وصلاة: {إِنَّ الصَّلاةَ
تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} 2.
والزكاة تقتلع من النفس
جذور الشح، وعبادة المال، والحرص على الدنيا، وهي مصلحة للجماعة، فتقيم دعائم
التعاون بين المجدودين والمحرومين، وتشعر النفس بتكامل الجماعة شعورًا يخرجها من
ضيق الأثرة والانفراد.
والحج سياحة تروِّض النفس على المشقة، وتفتح
بصيرتها على أسرار الله في خلقه، وهو مؤتمر عالمي يجتمع فيه المسلمون على صعيد
واحد، فيتعارفون ويتشاورون.
والصيام ضبط للنفس، وشحذ لعزيمتها، وتقوية
للإرادة، وحبس للشهوات، وهو مظهر اجتماعي يعيش فيه المسلمون شهرًا كاملًا على
نظام واحد في طعامهم. كما تعيش الأسرة في البيت الواحد.
1 الإسراء:
42.
2 العنكبوت: 45.
والقيام بهذه العبادات المفروضة يربي
المسلم على الشعور بالتبعية الفردية التي يقررها القرآن وينوط بها كل تكليف من
تكاليف الدين، وكل فضيلة من فضائل الأخلاق: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ
رَهِينَةٌ} 1.
{كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} 2.
{لَهَا
مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} 3.
وحض القرآن على الفضائل
المثلى التي تروض النفس على الوازع الديني، كالصبر والصدق والعدل والإحسان والحلم
والعفو والتواضع.
ومن تربية الفرد ينتقل الإسلام إلى بناء الأسرة؛
لأنها نواة المجتمع، فشرع القرآن الزواج استجابة لغريزة الجنس وإبقاء على النوع
الإنساني في تناسل طاهر نظيف.
ويقوم رباط الأسرة في الزواج على الود
والرحمة والسكن النفسي والعِشْرة بالمعروف، ومراعاة خصائص الرجل وخصائص المرأة،
والوظيفة الملائمة لكل منهما: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ
أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً
وَرَحْمَةً} 4.
{عَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} 5.
{الرِّجَالُ
قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ
وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} 6.
ثم يأتي نظام الحكم الذي
يسود المجتمع المسلم، وقد قرَّر القرآن قواعد الحكومة الإسلامية في أصلح
أوضاعها.
1 المدثر: 38.
2 الطور: 21.
3 البقرة:
286.
4 الروم: 21.
5 النساء: 19.
6 النساء:
34.
فهي حكومة الشورى والمساواة ومنع السيطرة الفردية: {وَشَاوِرْهُمْ
فِي الْأَمْرِ} 1.
{وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} 2.
{إِنَّمَا
الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} 3.
{قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا
إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ
وَلا نُشْرِكَ بِهِ شيئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ
دُونِ اللَّهِ} 4.
وهي حكومة تقوم على العدل المطلق الذي لا يتأثر بحب
الذات، أو عاطفة القرابة، أو العوامل الاجتماعية في الغِنَى والفقر: {يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ
وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ
غَنِيّاً أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى
أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا
تَعْمَلُونَ خَبِيراً} 5.
كما لا تؤثر في هذا العدل شهوة الانتقام من
الأعداء المبغوضين: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ
شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا
تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} 6.
{إِنَّ اللَّهَ
يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ
بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} 7.
والتشريع في الحكومة
الإسلامية ليس متروكًا للناس، فقد قرره القرآن، والخروج عنه كفر وظلم وفسق:
{وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ}
8.
1 آل عمران: 159.
2 الشورى: 38.
3 الحجرات:
10.
4 آل عمران: 64.
5 النساء: 135.
6 المائدة:
8.
7 النساء: 58.
8 المائدة: 44.
{وَمَنْ لَمْ
يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} 1.
{وَمَنْ
لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} 2.
{أَفَحُكْمَ
الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ
يُوقِنُونَ} 3.
وقرر القرآن صيانة الكليات الخمسة الضرورية للحياة
الإنسانية: النفس، والدين، والعِرض، والمال، والعقل, ورتب عليها العقوبات
المنصوصة، التي تُعرف في الفقه الإسلامي بالجنايات والحدود: {وَلَكُمْ فِي
الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ} 4.
{الزَّانِيَةُ
وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} 5.
{وَالَّذِينَ
يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ
فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ} 6.
{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ
فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} 7.
وقرر القرآن العلاقات الدولية في الحرب
والسلم بين المسلمين وجيرانهم أو معاهديهم، وهي أرفع معاملة عرفت في عصور الحضارة
الإنسانية.
وخلاصة القول: إن القرآن دستور تشريعي كامل يقيم الحياة
الإنسانية على أفضل صورة وأرقى مثال، وسيظل إعجازه التشريعي قرينًا لإعجازه
العلمي وإعجازه اللغوي إلى الأبد. ولا يستطيع أحد أن ينكر أنه أحدث في العالَم
أثرًا غيَّر وجه التاريخ.
1 المائدة: 45.
2 المائدة:
47.
3 المائدة: 50.
4 البقرة: 179.
5 النور:
2.
6 النور: 4.
7 المائدة: 38.
أمثال القرآن
مدخل
18- أمثال القرآن:
الحقائق السامية في معانيها
وأهدافها تأخذ صورتها الرائعة إذا صيغت في قالب حسي يقربها إلى الأفهام بقياسها
على المعلوم اليقيني, والتمثيل هو القالب الذي يبرز المعاني في صورة حية تستقر في
الأذهان، بتشبيه الغائب بالحاضر، والمعقول بالمحسوس. وقياس النظير على النظير،
وكم من معنى جميل أكسبه التمثيل روعة وجمالًا، فكان ذلك أدعى لتقبل النفس له،
واقتناع العقل به، وهو من أساليب القرآن الكريم في ضروب بيانه ونواحي إعجازه.
ومن
العلماء من أفرد الأمثال في القرآن بالتأليف، ومنهم من عقد لها بابًا في كتاب من
كتبه، فأفردها بالتأليف أبو الحسن الماوردي1، وعقد لها بابًا السيوطي في الإتقان2
وابن القيم في كتاب أعلام الموقعين. حيث تتبع أمثال القرآن التي تضمنت تشبيه
الشيء بنظيره, والتسوية بينهما في الحكم - فبلغت بضعة وأربعين مثلًا.
وذكر
الله في كتابه العزيز أنه يضرب الأمثال: {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا
لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} 3، {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا
لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} 4، {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا
لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ}
5, وعن علي رضي الله عنه أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن الله أنزل
القرآن آمرًا وزاجرًا، وسُنة خالية، ومثلًا مضروبًا" 6.
1 هو أبو
الحسن علي بن حبيب الشافعي، صاحب كتاب "أدب الدنيا والدين" وكتاب "الأحكام
السلطانية" توفي سنة 450 هجرية.
2 انظر "الإتقان" جـ2 ص131.
3
الحشر: 21.
4 العنكبوت: 43.
5 الزمر: 27.
6
رواه الترمذي.
وكما عُني العلماء بأمثال القرآن فإنهم عنوا كذلك
بالأمثال النبوية. وعقد لها أبو عيسى الترمذي بابًا في جامعه أورد فيه أربعين
حديثًا. وقال القاضي أبو بكر بن العربي: "لم أر من أهل الحديث من صنف فأفرد
للأمثال بابًا غير أبي عيسى، ولله دره، لقد فتح بابًا، وبنى قصرًا أو دارًا،
ولكنه اختط خطًّا صغيرًا. فنحن نقنع به، ونشكره عليه" .
تعريف
المثل
والأمثال: جمع مثل، والمَثل والمِثل1 والمثيل: كالشَّبه
والشِّبه والشبيه لفظًا ومعنى.
والمثل في الأدب: قول محكي سائر يقصد
به تشبيه حال الذي حُكِي فيه بحال الذي قيل لأجله، أي يشبه مضربه بمورده، مثل:
"رُب رمية من غير رام" أي رُب رمية مصيبة حصلت من رام شأنه أن يخطئ، وأول من قال
هذا الحكم بن يغوث النقري، يضرب للمخطئ يصيب أحيانًا، وعلى هذا فلا بد له من مورد
يشبه مضربه به.
ويطلق المثل على الحال والقصة العجيبة الشأن. وبهذا
المعنى فُسر لفظ المثل في كثير من آيات. كقوله تعالى: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي
وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ} 2: أي قصتها
وصفتها التي يُتعجب منها.
وأشار الزمخشري إلى هذه المعاني الثلاثة في
كشافه فقال: "والمثل في أصل كلامهم بمعنى المِثل والنظير، ثم قيل للقول السائر
الممثَّل مضربه بمورده: مثل، ولم يضربوا مثلًَا ولا رأوه أهلًا للتسيير ولا
جديرًا بالتداول والقبول إلا قولًا فيه غرابة من بعض الوجوه" . ثم قال: "وقد
استعير المثل للحال أو الصفة أو القصة إذا كان لها شأن وفيها غرابة" .
1
المَثل والمِثل: الأولى بفتح الميم والثانية بكسرها.
2 انظر "بلاغة
القرآن" للأستاذ محمد الخضر حسين ص26 - [والآية من سورة محمد: 15] .
وهناك
معنى رابع ذهب إليه علماء البيان في تعريف المثل فهو عندهم: المجاز المركب الذي
تكون علاقته المتشابهة متى فشا استعماله. وأصله الاستعارة التمثيلية. كقولك
للمتردد في فعل أمر: "ما لي أراك تُقدِّم رجلًا وتؤخر أخرى" .
وقيل في
ضابط المثل كذلك: إنه إبراز المعنى في صورة حسية تكسبه روعة وجمالًا. والمثل بهذا
المعنى لا يشترط أن يكون له مورد، كما لا يُشترط أن يكون مجازًا مركبًا.
وإذا
نظرنا إلى أمثال القرآن التي يذكرها المؤلفون وجدنا أنهم يوردون الآيات المشتملة
على تمثيل حال أمر بحال أمر آخر، سواء أورد هذا التمثيل بطريق الاستعارة، أم
بطريق التشبيه الصريح، أو الآيات الدالة على معنى رائع بإيجاز، أو التي يصح
استعمالها فيما يشبه ما وردت فيه، فإن الله تعالى ابتدأها دون أن يكون لها مورد
من قبل.
فأمثال القرآن لا يستقيم حملها على أصل المعنى اللغوي الذي هو
الشبيه والنظير، ولا يستقيم حملها على ما يذكر في كتب اللغة لدى من ألَّفوا في
الأمثال، إذ ليست أمثال القرآن أقوالًا استعملت على وجه تشبيه مضربها بموردها،
ولا يستقيم حملها على معنى الأمثال عند علماء البيان فمن أمثال القرآن ما ليس
باستعارة وما لم يفش استعماله. ولذا كان الضابط الأخير أليق بتعريف المثل في
القرآن: فهو إبراز المعنى في صورة رائعة موجزة لها وقعها في النفس، سواء أكانت
تشبيهًا أو قولًا مرسلًا.
فابن القيم يقول في أمثال القرآن: تشبيه شيء
بشيء في حكمه، وتقريب المعقول من المحسوس، أو أحد المحسوسين من الآخر واعتبار
أحدهما بالآخر. ويسوق الأمثلة: فتجد أكثرها على طريقة التشبيه الصريح كقوله
تعالى: {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ
السَّمَاءِ} 1، ومنها ما يجيء على
1 يونس: 24.
طريقة
التشبيه الضمني، كقوله تعالى: {وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ
أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ} 1, إذ ليس فيه
تشبيه صريح. ومنها ما لم يشتمل على تشبيه ولا استعارة، كقوله تعالى: {يَا
أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ
مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ
يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شيئًا لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ
وَالْمَطْلُوبُ} 2, فقوله: {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ
يَخْلُقُوا ذُبَاباً} .. قد سماه الله مثلًا وليس فيه استعارة ولا تشبيه.
1
الحجرات: 12.
2 الحج: 73.
أنواع الأمثال في القرآن
الأمثال
في القرآن ثلاثة أنواع:
1- الأمثال المصرحة.
2- والأمثال
الكامنة.
3- والأمثال المرسلة.
النوع الأول: الأمثال
المصرَّحة: وهي ما صرح فيها بلفظ المثل، أو ما يدل على التشبيه، وهي كثيرة في
القرآن نورد منها ما يأتي:
أ- قوله تعالى في حق المنافقين:
{مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا
حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ،
صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ، أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ
فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ} 1 إلى قوله: {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ
شَيْءٍ قَدِيرٌ} 2.
ففي هذه الآيات ضرب الله للمنافقين مثلين: مثلًا
ناريًّا في قوله: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً} لما في النار
من مادة النور، ومثلًا مائيًّا في قوله:
1 البقرة: 17-19.
2
البقرة: 20.
{أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ} .. لما في الماء من
مادة الحياة، وقد نزل الوحي من السماء متضمنًا لاستنارة القلوب وحياتها. وذكر
الله حظ المنافقين في الحالين. فهم بمنزلة من استوقد نارًا للإضاءة والنفع حيث
انتفعوا ماديًّا بالدخول في الإسلام, ولكن لم يكن له أثر نوري في قلوبهم، فذهب
الله به في النار من الإضاءة: {ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ} وأبقى ما فيها من
الإحراق، وهذا مثلهم الناري.
وذكر مثلهم المائي فشبههم بحال من أصابه
مطر فيه ظلمة ورعد وبرق فخارت قواه ووضع أصبعيه في أذنيه وأغمض عينيه خوفًا من
صاعقة تصيبه؛ لأن القرآن بزواجره وأوامره ونواهيه وخطابه نزل عليهم نزول
الصواعق.
ب- وذكر الله المثلين: المائي والناري - في سورة الرعد للحق
والباطل. فقال تعالى: {أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ
بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رَابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ
عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ
كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ
جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ
يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ} 1.
شبه الوحي الذي أنزله من السماء
لحياة القلوب بالماء الذي أنزله لحياة الأرض بالنبات، وشبه القلوب بالأودية,
والسيل إذا جرى في الأودية احتمل زبدًا وغثاء، فكذلك الهُدى والعلم إذا سرى في
القلوب أثار ما فيها من الشهوات ليذهب بها، وهذا هو المثل المائي في قوله:
{أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً} وهكذا يضرب الله الحق والباطل.
وذكر
المثل الناري في قوله: {وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ} .. فالمعادن
من ذهب أو فضة أو نحاس أو حديد عند سبكها تخرج النار ما فيها من الخبث وتفصله عن
الجوهر الذي ينتفع به فيذهب جفاء. فكذلك الشهوات يطرحها قلب المؤمن ويجفوها كما
يطرح السيل والنار ذلك الزبد وهذا الخبث.
1 الرعد: 17.
النوع
الثاني من الأمثال: الأمثال الكامنة - وهي التي لم يصرح فيها بلفظ التمثيل،
ولكنها تدل على معان رائعة في إيجاز: يكون لها وقعها إذا نقلت إلى ما يشبهها،
ويمثلون لهذا النوع بأمثلة منها:
1- ما في معنى قولهم: "خير الأمور
الوسط" :
أ- قوله تعالى في البقرة: {لا فَارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوَانٌ
بَيْنَ ذَلِكَ} 1.
ب- قوله تعالى في النفقة: {وَالَّذِينَ إِذَا
أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً}
2.
جـ- قوله تعالى في الصلاة: {وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا
تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً} 3.
د- قوله تعالى
في الإنفاق: {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا
كُلَّ الْبَسْطِ} 4.
2- ما في معنى قولهم: "ليس الخبر كالمعاينة" :
قوله
تعالى في إبراهيم عليه السلام: {قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ
لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} 5.
3- ما في معنى قولهم: "كما تدين تُدان"
:
قوله تعالى: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ} 6.
4-
ما في معنى: "لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين" :
قوله تعالى على لسان
يعقوب: {قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ
مِنْ قَبْل} 7.
1 البقرة: 68.
2 الفرقان: 67.
3
الإسراء: 110.
4 الإسراء: 29.
5 البقرة: 260.
6
النساء: 123.
7 يوسف: 64.
النوع الثالث: الأمثال المرسلة
في القرآن: وهي جمل أرسلت إرسالًا من غير تصريح بلفظ التشبيه. فهي آيات جارية
مجرى الأمثال.
ومن أمثلة ذلك ما يأتي:
1- {الْآنَ حَصْحَصَ
الْحَقُّ} 1.
2- {لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ} 2.
3-
{قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ} 3.
4- {أَلَيْسَ
الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ} 4.
5- {لِكُلِّ نَبَأٍ مُسْتَقَرٌّ} 5.
6-
{وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ} 6.
7- {قُلْ
كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ} 7.
8- {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا
شيئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ}
9- {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ
رَهِينَةٌ} 9.
10- {هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ}
10.
11- {كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} 11.
12-
{ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ} 12.
13- {لِمِثْلِ هَذَا
فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ} 13.
1 يوسف: 51.
2 النجم:
58.
3 يوسف: 41.
4 هود: 81.
5 الأنعام: 67.
6
فاطر: 43.
7 الإسراء: 84.
8 البقرة: 216.
9
المدثر: 38.
10 الرحمن: 60.
11 المؤمنون: 53.
12
الحج: 73.
13 الصافات: 61.
14- {لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ
وَالطَّيِّبُ} 1.
15- {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً
كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ} 2.
16- {تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً
وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى} 3.
واختلفوا في هذا النوع من الآيات الذي
يسمونه إرسال المثل، ما حكم استعماله استعمال الأمثال؟
فرآه بعض أهل
العلم خروجًا عن أدب القرآن، قال الرازي في تفسير قوله تعالى: {لَكُمْ دِينُكُمْ
وَلِيَ دِينِ} 4: "جرت عادة الناس بأن يتمثلوا بهذه الآية عند المتاركة، وذلك غير
جائز؛ لأنه تعالى ما أنزل القرآن ليتمثل به، بل يتدبر فيه، ثم يعمل بموجبه" .
ورأى
آخرون أنه لا حرج فيما يظهر أن يتمثل الرجل بالقرآن في مقام الجد، كأن يأسف أسفًا
شديدًا لنزول كارثة قد تقطعت أسباب كشفها عن الناس فيقول: {لَيْسَ لَهَا مِنْ
دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ} 5، أو يحاوره صاحب مذهب فاسد يحاول استهواءه إلى باطله
فيقول: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} والإثم الكبير في أن يقصد الرجل إلى
التظاهر بالبراعة فيتمثل بالقرآن حتى في مقام الهزل والمزاح6.
1
المائدة: 100.
2 البقرة: 249.
3 الحشر: 14.
4
الكافرون: 6.
5 النجم: 58.
6 بلاغة القرآن ص33.
فوائد
الأمثال
1- الأمثال تبرز المعقول في صورة المحسوس الذي يلمسه الناس،
فيتقبله العقل؛ لأن المعانى المعقولة لا تستقر في الذهن إلا إذا صيغت في صورة
حسية قريبة الفهم، كما ضرب الله مثلًا لحال المنفق رياء، حيث لا يحصل من
إنفاقه
على شيء من الثواب, فقال تعالى: {فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ
صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لا
يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا} 1.
2- وتكشف الأمثال عن
الحقائق، وتعرض الغائب في معرض الحاضر كقوله تعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ
الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ
مِنَ الْمَسِّ} 2.
3- وتجمع الأمثال المعنى الرائع في عبارة موجزة
كالأمثال الكامنة والأمثال المرسلة في الآيات الآنفة الذكر.
4- ويضرب
المثل للترغيب في الممثَّل حيث يكون الممثَّل به مما ترغب فيه النفوس، كما ضرب
الله مثلًا لحال المنفق في سبيل الله حيث يعود عليه الإنفاق بخير كثير، فقال
تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ
كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ
حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} 3.
5-
ويضرب المثل للتنكير حيث يكون الممثَّل به مما تكرهه النفوس، كقوله تعالى في
النهي عن الغيبة: {وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ
يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ} 4.
6- ويضرب المثل
لمدح الممثَّل كقوله تعالى في الصحابة: {ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ
وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ
فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ
الْكُفَّارَ} 5. وكذلك حال الصحابة فإنهم كانوا في بدء الأمر قليلًا. ثم أخذوا في
النمو حتى استحكم أمرهم. وامتلأت القلوب إعجابًا بعظمتهم.
7- ويضرب
المثل حيث يكون للمثَّل به صفة يستقبحها الناس، كما ضرب الله مثلًا لحال من آتاه
الله كتابه، فتنكب الطريق عن العمل به، وانحدر في
1 البقرة: 264.
2
البقرة: 275.
3 البقرة: 261.
4 الحجرات: 12.
5
الفتح: 29.
الدنايا منغمسًا. فقال تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ
الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ
فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ، وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ
أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ
تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ
الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا} 1.
8- والأمثال أوقع في النفس، وأبلغ
في الوعظ، وأقوى في الزجر، وأقوم في الإقناع، وقد أكثر الله تعالى الأمثال في
القرآن للتذكرة والعبرة، قال تعالى: {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا
الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} 2. وقال: {وَتِلْكَ
الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} 3،
وضربها النبي -صلى الله عليه وسلم- في حديثه، واستعان بها الداعون إلى الله في كل
عصر لنصرة الحق وإقامة الحجة، ويستعين بها المربون ويتخذونها من وسائل الإيضاح
والتشويق، ووسائل التربية في الترغيب أو التنفير، في المدح أو الذم.
1
الأعراف: 175، 176.
2 الزمر: 27.
3 العنكبوت: 43.
ضرب
الأمثال بالقرآن
جرت عادة أهل الأدب أن يسوقوا الأمثلة في مواطن تشبه
الأحوال التي قيلت فيها، وإذا صح هذا في أقوال الناس التي جرت مجرى المثل، فإن
العلماء يكرهون ضرب الأمثال بالقرآن، ولا يرون أن يتلو الإنسان آية من آيات
الأمثال في كتاب الله عند شيء يعرض من أمور الدنيا، حفاظًا على روعة القرآن،
ومكانته في نفوس المؤمنين، قال أبو عبيد: "وكذلك الرجل يريد لقاء صاحبه أو يهم
بحاجته، فيأتيه من غير طلب فيقول كالمازح: {جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى} 1,
فهذا من الاستخفاف بالقرآن" ، ومنه قول ابن شهاب الزهري: "لا تناظر بكتاب الله
ولا بسُنة رسول الله, صلى الله عليه وسلم" ، قال أبو عبيد: "يقول: لا تجعل لها
نظيرًا من القول ولا الفعل" .
1 طه: 40.
أقسام القرآن
مدخل
19- أقسام القرآن: 1
يختلف الاستعداد النفسي
عند الفرد في تقبله للحق وانقياده لنوره، فالنفس الصافية التي لم تدنس فطرتها
بالرجس تستجيب للهدى، وتفتح قلبها لإشعاعه، ويكفيها في الانصياع إليه اللمحة
والإشارة. أما النفس التي رانت عليها سحابة الجهل، وغشيتها ظلمة الباطل فلا يهتز
قلبها إلا بمطارق الزجر، وصيغ التأكيد، حتى يتزعزع نكيرها، والقسم في الخطاب من
أساليب التأكيد التي يتخللها البرهان المفحم، والاستدراج بالخصم إلى الاعتراف بما
يجحد.
1 أفرد هذا الفصل بالبحث العلامة ابن القيم في كتابه "أقسام
القرآن" المسمى بـ "التبيان" وهو كتاب فريد في بابه اختصرنا منه هذا البحث.
تعريف
القَسَم وصيغته:
والأقسام: جمع قَسَم - بفتح السين- بمعنى الحلف
واليمين, والصيغة الأصلية للقسم أن يؤتى بالفعل "أقسم" أو "أحلف" متعديًا بالباء
إلى المُقسم به. ثم يأتي المُقسم عليه، وهو المسمى بجواب القسم، كقوله تعالى:
{وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ}
1.
فأجزاء صيغة القسم ثلاثة:
1- الفعل الذي يتعدى
بالباء.
2- والمُقسم به.
3- والمُقسم عليه.
1
النحل: 38.
ولما كان القسم يكثر في الكلام، اختصر فصار فعل القسم يحذف
ويكتفى بالباء1 ثم عُوِّض عن الباء بالواو في الأسماء الظاهرة كقوله تعالى:
{وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} 2, وبالتاء في لفظ الجلالة كقوله: {وَتَاللَّهِ
لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ} 3, وهذا قليل، أما الواو فكثيرة.
والقسم
واليمين واحد: ويعرف بأنه: ربط النفس، بالامتناع عن شيء أو الإقدام عليه، بمعنى
معظم عند الحالف حقيقة أو اعتقادًا. وسُمي الحلف يمينًا؛ لأن العرب كان أحدهم
يأخذ بيمين صاحبه عند التحالف.
1 والباء لم ترد في القرآن إلا مع فعل
القسم، كقوله تعالى: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} [النور: 53]
.
2 الليل: 1.
3 الأنبياء: 57.
فائدة القسم في
القرآن
تمتاز اللغة العربية بدقة التعبير واختلاف الأساليب بتنوع
الأغراض، وللمخاطب حالات مختلفة، هي المسماة في المعاني بأضرب الخبر الثلاثة:
الابتدائي، والطلبي، والإنكاري.
فقد يكون المخاطَب خالي الذهن من
الحكم فيُلقى إليه الكلام غفلًا من التأكيد، ويُسمى هذا الضرب: ابتدائيًّا.
وقد
يكون مترددًا في ثبوت الحكم وعدمه، فيحسن تقوية الحكم له بمؤكد ليزيل تردده،
ويُسمى هذا الضرب: طلبيًّا.
وقد يكون منكرًا للحكم، فيجب أن يؤكد له
الكلام بقدر إنكاره قوة وضعفًا، ويُسمى هذا الضرب: إنكاريًّا.
والقسم
من المؤكدات المشهورة التي تمكن الشيء في النفس وتقويه، وقد نزل القرآن الكريم
للناس كافة، ووقف الناس منه مواقف متباينة، فمنهم الشاك،
ومنهم
المنكر، ومنهم الخصم الألد. فالقسم في كلام الله يزيل الشكوك، ويحبط الشبهات،
ويقيم الحجة، ويؤكد الأخبار، ويقرر الحكم في أكمل صورة.
المُقسم به في
القرآن:
يقسم الله تعالى بنفسه المقدسة الموصوفة بصفاته، أو بآياته
المستلزمة لذاته وصفاته، وإقسامه ببعض مخلوقاته دليل على أنه من عظيم آياته. وقد
أقسم الله تعالى بنفسه في القرآن في سبعة مواضع:
1- في قوله: {زَعَمَ
الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ}
1.
2- وقوله: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ
قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ} 2.
3- وقوله:
{وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ} 3.
وفي
هذه الثلاثة أمر الله نبيه -صلى الله عليه وسلم- أن يقسم به.
4-
وقوله: {فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ} 4.
5- وقوله:
{فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} 5.
6- وقوله: {فَلا
وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} 6.
7-
وقوله: {فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ} 7.
1
التغابن: 7.
2 سبأ: 3.
3 يونس: 53.
4 مريم:
68.
5 الحجر: 92.
6 النساء: 65.
7 المعارج:
40.
وسائر القسم في القرآن بمخلوقاته سبحانه، كقوله: {وَالشَّمْسِ
وَضُحَاهَا، وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا} 1.
وقوله: {وَاللَّيْلِ إِذَا
يَغْشَى، وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى، وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى}
2.
وقوله: {وَالْفَجْرِ، وَلَيَالٍ عَشْر} 3.
وقوله: {فَلا
أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ} 4.
وقوله: {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ،
وَطُورِ سِينِينَ} 5. وهذا هو الكثير في القرآن.
ولله أن يحلف بماء
شاء، أما حلف العباد بغير الله فهو ضرب من الشرك، فعن عمر بن الخطاب, رضي الله
عنه أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "من حلف بغير الله فقد كفر - أو
أشرك" 6. وإنما أقسم الله بمخلوقاته؛ لأنها تدل على بارئها، وهو الله تعالى،
وللإشارة إلى فضيلتها ومنفعتها ليعتبر الناس بها وعن الحسن قال: "إن الله يقسم
بما شاء من خلقه وليس لأحد أن يقسم إلا بالله" 7.
1 الشمس: 1، 2.
2
الليل: 1-3.
3 الفجر: 1، 2.
4 التكوير: 15.
5
التين: 1، 2.
6 رواه الترمذي وحسنه، وصححه الحاكم.
7 أخرجه
ابن أبي حاتم.
أنواع القسم
القسم إما ظاهر، وإما مضمر.
1-
فالظاهر: هو ما صُرح فيه بفعل القسم, وصرح فيه بالمُقسم به، ومنه ما حذف فيه فعل
القسم كما هو الغائب اكتفاء بالجار من الياء أو الواو أو التاء.
وقد
أدخلت "لا" النافية على فعل القسم في بعض المواضع. كقوله تعالى: {لا أُقْسِمُ
بِيَوْمِ، الْقِيَامَةِ وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ} 1, فقيل: "لا"
في الموضعين نافية لمحذوف يناسب المقام، والتقدير مثلًا: لا صحة لما تزعمون أنه
لا حساب ولا عقاب، ثم استأنف فقال: أقسم بيوم القيامة، وبالنفس اللوامة، أنكم
ستبعثون. وقيل: "لا" لنفي القسم كأنه قال: لا أقسم عليك بذلك اليوم وتلك النفس،
ولكني أسألك غير مقسِم، أتحسب أنَّا لا نجمع عظامك إذا تفرقت بالموت؟ إن الأمر من
الظهور بحيث لا يحتاج إلى قسم. وقيل: "لا" زائدة - وجواب القسم في الآية المذكورة
محذوف دل عليه قوله بعد: {أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ} ... إلخ، والتقدير: لتبعثن
ولتحاسبن.
2- والقسم المضمر هو ما لم يصرِّح فيه بفعل القسم، ولا
بالمقسَم به، وإنما تدل عليه اللام المؤكدة التي تدخل على جواب القسم كقوله
تعالى: {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ} 2, أي والله لتبلون.
1
القيامة: 1، 2.
2 آل عمران: 186.
أحوال المقسَم عليه:
1-
المقسَم عليه يُراد بالقسم توكيده وتحقيقه، فلا بد أن يكون مما يحسن فيه ذلك،
كالأمور الغائبة والخفية إذا أقسم على ثبوتها.
2- وجواب القسم يُذكر
تارة -وهو الغالب- وتارة يحذف، كما يحذف جواب "لو" كثيرًا، كقوله: {كَلَّا لَوْ
تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ} 1, وحذف مثل هذا من أحسن الأساليب؛ لأنه يدل على
التفخيم والتعظيم، فالتقدير مثلًا: لو تعلمون ما بين أيديكم علم الأمر اليقين
لفعلتم ما لا يوصف من الخير، فحذف جواب القسم كقوله: {وَالْفَجْرِ، وَلَيَالٍ
عَشْرٍ، وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ، وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ، هَلْ فِي ذَلِكَ
قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ} 2, فالمراد بالقسم أن
1 التكاثر: 5.
2
الفجر: 1-5.
الزمان المتضمن لمثل هذه الأعمال أهل أن يقسِم الرب عز
وجل به. فلا يحتاج إلى جواب، وقيل: الجواب محذوف، أي: لتعذبن يا كفار مكة، وقيل:
مذكور، وهو قوله: {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَاد} 1, والصحيح المناسب أنه لا
يحتاج إلى جواب.
وقد يحذف الجواب لدلالة المذكور عليه، كقوله تعالى:
{لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ}
2, فجواب القسم محذوف دل عليه قوله بعد: {أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ
نَجْمَعَ عِظَامَهُ} 3 ... إلخ، والتقدير، لتبعثن ولتحاسبن.
3-
والماضي المثبت المتصرف الذي لم يتقدم معموله إذا وقع جوابًا للقسم تلزمه اللام و
"قد" ، ولا يجوز الاقتصار على إحداهما إلا عند طول الكلام. كقوله تعالى:
{وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا، وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا، وَالنَّهَارِ إِذَا
جَلاَّهَا، وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا، وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا،
وَالأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا، وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا، فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا
وَتَقْوَاهَا، قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا} 4, فجواب القسم: {قَدْ أَفْلَحَ
مَنْ زَكَّاهَا} حذفت من اللام لطول الكلام.
ولذلك قالوا في قوله
تعالى: {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ وَشَاهِدٍ
وَمَشْهُودٍ قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ} 5: إن الأحسن أن يكون هذا القسم
مستغنيًا عن الجواب؛ لأن القصد التنبيه على المقسَم به، وأنه من آيات الرب
العظيمة، وقيل: الجواب محذوف دل عليه: {قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ} أي إنهم
ملعونون، يعني كفار مكة كما لعن أصحاب الأخدود، وقيل: حذف صدره، وتقديره: لقد
قتل؛ لأن الفعل الماضي إذا وقع جوابًا للقسم تلزمه اللام و "قد" ، ولا يجوز
الاقتصار على إحداهما إلا عند طول الكلام، كما سبق في قوله تعالى: {وَالشَّمْسِ
وَضُحَاهَا} ، {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا} .
1 الفجر: 14.
2
القيامة: 1، 2.
3 القيامة: 3.
4 الشمس: 1-9.
5
البروج: 1-4.
4- ويقسم الله على أصول الإيمان التي يجب على الخلق
معرفتها فتارة يقسم على التوحيد كقوله: {وَالصَّافَّاتِ صَفًّا، فَالزَّاجِرَاتِ
زَجْرًا، فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا، إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ} 1.
وتارة
يقسم على أن القرآن حق كقوله تعالى: {فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ،
وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ، إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ} 2.
وتارة
على أن الرسول حق كقوله: {يس، وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ، إِنَّكَ لَمِنَ
الْمُرْسَلِينَ} 3.
وتارة على الجزاء والوعد والوعيد: كقوله:
{وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا، فَالْحَامِلاتِ وِقْرًا، فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا،
فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا، إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ، وَإِنَّ الدِّينَ
لَوَاقِعٌ} 4.
وتارة على حال الإنسان، كقوله: {وَاللَّيْلِ إِذَا
يَغْشَى، وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى، وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى،
إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى} 5.
والمتتبع لأقسام القرآن يستخلص الفنون
الكثيرة.
5- والقسم إما على جملة خبرية -وهو الغالب- كقوله تعالى:
{فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ} 6، وإما على جملة طلبية في
المعنى كقوله تعالى: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ، عَمَّا كَانُوا
يَعْمَلُونَ} 7.. لأن المراد التهديد والوعيد.
1 الصافات: 1-4.
2
الواقعة: 75-77.
3 يس: 1-3.
4 الذاريات: 1-6.
5
الليل: 1-4.
6 الذاريات: 23.
7 الحجر: 92، 93.
القسم
والشرط
يجتمع القسم والشرط فيدخل كل منهما على الآخر فيكون الجواب
للمتقدم منهما -قسمًا كان أو شرطًا- ويُغني عن جواب الآخر.
فإنْ تقدم
القسم على الشرط كان الجواب للقسم وأغنى عن جواب الشرط، كقوله تعالى: {لَئِنْ
لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ} 1, إذ التقدير: والله لئن لم تنته.
واللام
الداخلة على الشرط ليست بلام جواب القسم كالتي في مثل قوله تعالى: {وَتَاللَّهِ
لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ} 2, ولكنها اللام الداخلة على أداة شرط للإيذان بأن
الجواب بعدها مبني على قسم قبلها لا على الشرط، وتسمى اللام المؤذنة، وتسمى كذلك
الموطئة؛ لأنها وطأت الجواب للقسم، أي مهدئة له، ومنه قوله تعالى: {لَئِنْ
أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ
وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ} 3، وأكثر
ما تدخل اللام الموطئة على "إن" الشرطية، وقد تدخل على غيرها.
ولا
يقال: إن الجملة الشرطية هي جواب القسم المقدر، فإن الشرط لا يصلح أن يكون
جوابًا؛ لأن الجواب لا يكون إلا خبرًا، والشرط إنشاء، وعلى هذا فإن قوله تعالى في
المثال الأول: {لَأرْجُمَنَّكَ} يكون جوابًا للقسم المقدر أغنى عن جواب الشرط.
ودخول
اللام الموطئة للقسم على الشرط ليس واجبًا، فقد تحذف مع كون القسم مقدرًا قبل
الشرط. كقوله تعالى: {وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ
الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} 4.
والذي يدل على أن
الجواب للقسم لا للشرط دخول اللام فيه وأنه ليس بمجزوم، بدليل قوله تعالى: {قُلْ
لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا
الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ} 5, ولو كانت جملة {لا يَأْتُونَ} جوابًا
للشرط لجزم الفعل.
وأما قوله تعالى: {وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ
قُتِلْتُمْ لإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ} 6، فاللام في: {وَلَئِنْ} هي الموطئة
للقسم، واللام في: {لإِلَى اللَّهِ} هي لام
1 مريم: 46.
2
الأنبياء: 57.
3 الحشر: 12.
4 المائدة: 73.
5
الإسراء: 88.
6 آل عمران: 158.
القسم، أي الواقعة في
الجواب، ولم تدخل نون التوكيد على الفعل1 للفصل بينه وبين اللام بالجار والمجرور،
والأصل: لئن متم أو قتلتم لتحشرون إلى الله.
إجراء بعض الأفعال مجرى
القسم:
إذا كان القسم يأتي لتأكيد المُقسم عليه فإن بعض الأفعال يجري
مجراه إذا كان سياق الكلام في معناه، كقوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ
مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ} 2، فاللام في
قوله: {لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ} لام القسم، والجملة بعدها جواب القسم؛ لأن
أخذ الميثاق بمعنى الاستحلاف.
وحمل المفسرون على هذا قوله تعالى:
{وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ} 3.
وقوله:
{وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ} 4.
وقوله:
{وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ
لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ
قَبْلِهِمْ} 5.
1 يجب توكيد الفعل إذا كان مثبتًا مستقبلًا، جوابًا
لقسم، غير مفصول من لامه بفاصل، وجواب القسم هنا وإن كان مثبتًا مستقبلًا فإنه قد
فُصل بينه وبين اللام بالجار والمجرور.
2 آل عمران: 187.
3
البقرة: 83.
4 البقرة: 84.
5 النور: 55.
جدل القرآن
مدخل
20- جدل القرآن: 1
الحقائق الظاهرة الجلية يلمسها
الإنسان وتنطق بها شواهد الكون ولا يحتاج إلى برهان على ثبوتها، أو دليل على
صحتها. ولكن المكابرة كثيرًا ما تحمل أصحابها على إثارة الشكوك وتمويه الحقائق
بشُبَه تلبسها لباس الحق، وترينها في مرآة العقل، فهي في حاجة إلى مقارعتها
بالحجة، واستدراجها إلى ما يلزمها بالاعتراف آمنت أو كفرت. والقرآن الكريم -وهو
دعوة الله إلى الإنسانية كافة- وقف أمام نزعات مختلفة حاولت بالباطل إنكار حقائقه
ومجادلة أصوله. فألجم خصومتهم بالحس والعيان، وعارضهم في أسلوب مقنع، واستدلال
ملزم، وجدل محكم.
1 أفرده من المتأخرين بالتصنيف العلامة سليمان بن
عبد القوي بن عبد الكريم المعروف بابن أبي العباس الحنبلي نجم الدين الطوفي
المتوفى سنة 716 هجرية.
تعريف الجدل
والجدل والجدال:
المفاوضة على سبيل المنازعة والمغالبة لإلزام الخصم، أصله من جدلت الحبل: أي
أحكمت فتله، فكأن المتجادلين يفتل كل واحد الآخر عن رأيه.
وقد ذكره
الله في القرآن على أنه من طبيعة الإنسان في قوله: {وَكَانَ الْإِنْسَانُ
أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً} 1, أي خصومة ومنازعة.
وأمر رسول الله -صلى
الله عليه وسلم- أن يجادل المشركين بالطريقة الحسنة التي تلين عريكتهم في قوله:
{ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ
وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} 2.
1 الكهف: 54.
2
النحل: 125.
وأباح مناظرة أهل الكتاب بتلك الطريقة في قوله: {وَلا
تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} 1.
ومثل
هذا من قبيل المناظرة التي تهدف إلى إظهار الحق، وإقامة البرهان على صحته، وهي
الطريقة التي يشتمل عليها جدل القرآن في هداية الكافرين وإلزام المعاندين، بخلاف
مجادلة أهل الأهواء فإنها منازعة باطلة، قال تعالى: {وَيُجَادِلُ الَّذِينَ
كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ} 2.
1 العنكبوت: 46.
2 الكهف:
56.
طريقة القرآن في المناظرة
والقرآن الكريم تناول كثيرًا
من الأدلة والبراهين التي حاج بها خصومه في صورة واضحة جلية يفهمها العامة
والخاصة، وأبطل كل شبهة فاسدة ونقضها بالمعارضة والمنع في أسلوب واضح النتائج،
سليم التركيب، لا يحتاج إلى إعمال عقل أو كثير بحث.
ولم يسلك القرآن
في الجدل طريقة المتكلمين الاصطلاحية في المقدمات والنتائج التي يعتمدون عليها،
من الاستدلال بالكلي على الجزئي في قياس الشمول، أو الاستدلال بأحد الجزأين على
الآخر في قياس التمثيل، أو الاستدلال بالجزئي على الكلي في قياس الاستقراء.
أ-
لأن القرآن جاء بلسان العرب، وخاطبهم بما يعرفون.
ب- ولأن الاعتماد في
الاستدلال على ما فطرت عليه النفس من الإيمان بما تشاهد وتحس دون عمل فكري عميق
أقوى أثرًا وأبلغ حجة.
جـ- ولأن ترك الجلي من الكلام والالتجاء إلى
الدقيق الخفي نوع من الغموض والإلغاز لا يفهمه إلا الخاصة، وهو على طريقة
المناطقة ليس سليمًا من كل وجه، فأدلة التوحيد والمعاد المذكورة في القرآن من نوع
الدلالة المعينة
المستلزمة لمدلولها بنفسها من غير احتياج إلى
اندراجها تحت قضية كلية، قال شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه "الرد على
المنطقيين" : "وما يذكره النُّظار من الأدلة القياسية التي يسمونها براهين على
إثبات الصانع سبحانه وتعالى لا يدل شيء منها على عينه، وإنما يدل على أمر مطلق
كلي لا يمنع تصوره من وقوع الشركة فيه، فإنَّا إذا قلنا: هذا محدث، وكل محدث فلا
بد له من محدث، أو ممكن، والممكن لا بد له من واجب، إنما يدل هذا على محدث مطلق،
أو واجب مطلق.. لا يمنع تصوره من وقوع الشركة فيه" .. وقال: "فبرهانهم لا يدل على
شيء معين بخصوصه، لا واجب الوجود ولا غيره، وإنما يدل على أمر كلي، والكلي لا
يمنع تصوره من وقوع الشركة فيه، وواجب الوجود يمنع العلم به من وقوع الشركة فيه,
ومن لم يتصور ما يمنع الشركة فيه لم يكن قد أعرف الله" ، وقال: "وهذا بخلاف ما
يذكر الله من الآيات في كتابه, كقوله: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي
الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ
مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ
دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ
وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} 1، وقوله: {فِي ذَلِكَ لَآياتٍ
لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} 2، {لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} 3, وغير ذلك، فإنه يدل على
المعين كالشمس التي هي آية النهار.. وقال تعالى: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ
وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ
النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا
عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ} 4, فالآيات تدل على نفس الخالق سبحانه لا على
قدر مشترك بينه وبين غيره، فإن كل ما سواه مفتقر إليه نفسه، فيلزم من وجوده وجود
عين الخالق نفسه" .
فأدلة الله على توحيده وما أخبر به من المعاد, وما
نصبه من البراهين لصدق رسله لا تفتقر إلى قياس شمولي أو تمثيلي، بل هي مستلزمة
لمدلولها عينًا،
1 البقرة: 164.
2 الرعد: 4.
3
يونس: 24، وسور أخرى.
4 الإسراء: 12.
والعلم بها مستلزم
للعلم بالمدلول، وانتقال الذهن منها إلى المدلول بيِّن واضح كانتقال الذهن من
رؤية شعاع الشمس إلى العلم بطلوعها، وهذا النوع من الاستدلال بدهي يستوي في
إدراكه كل العقول.
قال الزركشي1: "اعلم أن القرآن العظيم قد اشتمل على
جميع أنواع البراهين والأدلة، وما بين برهان ودلالة وتقسيم وتحديد شيء من كليات
المعلومات العقلية والسمعية إلا وكتاب الله تعالى قد نطق به، لكن أورده تعالى على
عادة العرب دون دقائق طرق أحكام المتكلمين لأمرين."
أحدهما: بسبب ما
قاله: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ
لَهُمْ} .. الآية2.
والثاني: أن المائل إلى دقيق المحاجة هو العاجز عن
إقامة الحجة بالجليل من الكلام، فإن من استطاع أن يفهم بالأوضح الذي يفهمه
الأكثرون لم يتخط إلى الأغمض الذي لا يعرفه إلا الأقلون ولم يكن ملغزًا، فأخرج
تعالى مخاطباته في محاجة خلقه من أجل صورة تشتمل على أدق دقيق، لتفهم العامة من
جليلها ما يقنعهم ويلزمهم الحجة، وتفهم الخواص من أثنائها ما يوفى على ما أدركه
فهم الخطباء.
وعلى هذا حُمِل الحديث المروي: "إن لكل آية ظهرًا وبطنًا
ولك حرف حدًّا ومطلعًا" لا على ما ذهب إليه الباطنية، ومن هذا الوجه كل من كان
حظه في العلوم أوفر كان نصيبه من علم القرآن أكثر، ولذلك إذا ذكر تعالى حجة على
ربوبيته ووحدانيته أتبعها مرة بإضافته إلى أولي العقل، ومرة إلى السامعين، ومرة
إلى المفكرين، ومرة إلى المتذكرين، تنبيهًا أن بكل قوة من هذه القوى يمكن إدراك
حقيقة منها، وذلك نحو قوله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ
يَعْقِلُونَ} 3, وغيرها من الآيات.
1 انظر "البرهان" جـ2 ص24 وما
بعدها، بتصرف.
2 إبراهيم: 4.
3 الرعد: 4.
واعلم
أنه قد يظهر منه بدقيق الفكر استنباط البراهين العقلية على طرق المتكلمين.... ومن
ذلك الاستدلال على أن صانع العالَم واحد، بدلالة التمانع المشار إليه في قوله
تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} 1؛ لأنه لو كان
للعالَم صانعان لكان لا يجري تدبيرهما على نظام، ولا يتسق على إحكام، ولكان العجز
يلحقهما أو أحدهما، وذلك لو أراد أحدهما إحياء جسم، وأراد الآخر إماتته، فإما أن
تنفذ إرادتهما فتتناقض لاستحالة تجزؤ الفعل إن فرض الاتفاق، أو لامتناع اجتماع
الضدين إن فرض الاختلاف، وإما لا تنفذ إرادتهما فيؤدي إلى عجزهما، أو لا تنفذ
إرادة أحدهما فيؤدي إلى عجزه، والإله لا يكون عاجزًا "."
1 الأنبياء:
22.
أنواع من مناظرات القرآن وأدلته
أ- ما يذكره تعالى من
الآيات الكونية المقرونة بالنظر والتدبر للاستدلال على أصول العقائد كتوحيده
سبحانه في ألوهيته، والإيمان بملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وهذا النوع كثير
في القرآن.
فمنه قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا
رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ
تَتَّقُونَ، الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً
وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا
لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} 1.
وقوله
تعالى: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ، لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ} إلى
قوله: {لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} 2.
ب- ما يرد به على الخصوم
ويلزم أهل العناد، ولهذا صور مختلفة:
1- منها تقرير المخاطب بطريق
الاستفهام عن الأمور التي يسلم بها الخصم
1 البقرة: 21، 22.
2
البقرة: 163، 164.
وتسلم بها العقول حتى يعترف بما ينكره، كالاستدلال
بالخلق على وجود خالق في مثل قوله تعالى: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ
هُمُ الْخَالِقُونَ، أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لا
يُوقِنُونَ، أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُسَيْطِرُونَ، أَمْ
لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطَانٍ
مُبِينٍ، أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ، أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا
فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ، أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ
يَكْتُبُونَ، أَمْ يُرِيدُونَ كَيْدًا فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ،
أَمْ لَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ} 1.
2-
الاستدلال بالمبدأ على المعاد. كقوله تعالى: {أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ
الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ} 2، وقوله: {أَيَحْسَبُ
الإِنسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى، أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ، يُمْنَى
ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى، فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ
الذَّكَرَ وَالأُنثَى، أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ
الْمَوْتَى} 3، وقوله: {فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ، خُلِقَ مِنْ مَاءٍ
دَافِقٍ، يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ، إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ
لَقَادِرٌ} 4، ومثله الاستدلال بحياة الأرض بعد موتها بالإنبات على الحياة بعد
الموت للحساب كقوله: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا
أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا
لَمُحْيِي الْمَوْتَى} 5.
3- إبطال دعوى الخصم بإثبات نقيضها كقوله
تعالى: {قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُوراً وَهُدىً
لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيراً
وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ
ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ} 6, ردًّا على اليهود فيما حكاه الله عنهم
بقوله: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ
اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْء} 7.
1 الطور: 35-43.
2
سورة ق: 15.
3 القيامة: 36-40.
4 الطارق: 5-8.
5
فصلت: 39.
6 الأنعام: 91.
7 الأنعام: 91.
4-
السبر والتقسيم - بحصر الأوصاف، وإبطال أن يكون واحد منها علة للحكم، كقوله
تعالى: {ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ
اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ
عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ
صَادِقِينَ، وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ
آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ
أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ
بِهَذَا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً لِيُضِلَّ
النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}
1.
5- إفحام الخصم وإلزامه ببيان أن مدعاه يلزمه القول بما لا يعترف
به أحد، كقوله تعالى: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ
وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى
عَمَّا يَصِفُونَ، بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ
وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ
عَلِيمٌ} 2, فنفى التولد عنه لامتناع التولد من شيء واحد، وأن التولد إنما يكون
من اثنين، وهو سبحانه لا صاحبة له، وأيضًا فإنه خلق كل شيء، وخلقه لكل شيء يناقض
أن يتولد عنه شيء، وهو بكل شيء عليم، وعلمه بكل شيء يستلزم أن يكون فاعلًا
بإرادته، فإن الشعور فارق بين الفاعل بالإرادة والفاعل بالطبع فيمتنع مع كونه
عالِمًا أن يكون كالأمور الطبيعية التي يتولد عنها الأشياء بلا شعور -كالحار
والبارد- فلا يجوز إضافة الولد إليه3.
وهناك أنواع أخرى من الجدل
كثيرة، كمناظرة الأنبياء مع أممهم، أو فريق المؤمنين مع المنافقين، وما شابه
ذلك.
1 الأنعام: 143، 144.
2 الأنعام: 100، 101.
3
هذه الفقرة من كتاب "الرد على المنطقيين" لشيخ الإسلام ابن تيمية، وهي رائعة في
الاستدلال.
قصص القرآن
مدخل
21- قصص القرآن:
الحادثة المرتبطة بالأسباب
والنتائج يهفو إليها السمع، فإذا تخللتها مواطن العبرة في أخبار الماضين كان حب
الاستطلاع لمعرفتها من أقوى العوامل على رسوخ عبرتها في النفس، والموعظة الخطابية
تسرد سردًا لا يجمع العقل أطرافها ولا يعي جميع ما يلقى فيها، ولكنها حين تأخذ
صورة من واقع الحياة في أحداثها تتضح أهدافها، ويرتاح المرء لسماعها، ويصغي إليها
بشوق ولهفة، ويتأثر بما فيها من عبر وعظات، وقد أصبح أدب القصة اليوم فنًّا
خاصًّا من فنون اللغة وآدابها، والقصص الصادق يمثل هذا الدور في الأسلوب العربي
أقوى تمثيل، ويصوره في أبلغ صورة: قصص القرآن الكريم.
معنى القصص
القص:
تتبع الأثر. يقال: قصصت أثره: أي تتبعته، والقصص مصدر، قال تعالى: {ارْتَدَّا
عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصاً} 1, أي رجعا يقصان الأثر الذي جاءا به. وقال على لسان
أم موسى: {وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ} 2, أي تتبعي أثره حتى تنظري من يأخذه.
والقصص كذلك: الأخبار المتتبعة, قال تعالى: {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ
الْحَقُّ} 3، وقال: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي
الْأَلْبَابِ} 4, والقصة: الأمر, والخبر، والشأن، والحال.
وقصص
القرآن: أخباره عن أحوال الأمم الماضية، والنبوات السابقة، والحوادث الواقعة -
وقد اشتمل القرآن على كثير من وقائع الماضي، وتاريخ
1 الكهف: 64.
2
القصص: 11.
3 آل عمران: 62.
4 يوسف: 111.
الأمم،
وذكر البلاد والديار، وتتبع آثار كل قوم، وحكى عنهم صورة ناطقة لما كانوا
عليه.
أنواع القصص في القرآن
والقصص في القرآن ثلاثة
أنواع:
النوع الأول: قصص الأنبياء، وقد تضمن دعوتهم إلى قومهم،
والمعجزات التي أيدهم الله بها، وموقف المعاندين منهم، ومراحل الدعوة وتطورها
وعاقبة المؤمنين والمكذبين، كقصص نوح، وإبراهيم، وموسى، وهارون، وعيسى، ومحمد،
وغيرهم من الأنبياء والمرسلين، عليهم جميعًا أفضل الصلاة والسلام.
النوع
الثاني: قصص قرآني يتعلق بحوادث غابرة، وأشخاص لم تثبت ثبوتهم، كقصة الذين أخرجوا
من ديارهم وهم ألوف حذر الموت. وطالوت وجالوت، وابني آدم، وأهل الكهف، وذي
القرنين، وقارون، وأصحاب السبت، ومريم، وأصحاب الأخدود، وأصحاب الفيل ونحوهم.
النوع
الثالث: قصص يتعلق بالحوادث التي وقعت في زمن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
كغزوة بدر وأحد في سورة آل عمران، وغزوة حنين وتبوك في التوبة، وغزوة الأحزاب في
سورة الأحزاب، والهجرة، والإسراء، ونحو ذلك.
فوائد قصص القرآن
وللقصص
القرآني فوائد نجمل أهمها فيما يأتي:
1- إيضاح أسس الدعوة إلى الله،
وبيان أصول الشرائع التي بعث بها كل نبي: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ
رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ}
1.
1 الأنبياء: 25.
2- تثبيت قلب رسول الله -صلى الله عليه
وسلم- وقلوب الأمة المحمدية على دين الله وتقوية ثقة المؤمنين بنُصرة الحق وجنده،
وخذلان الباطل وأهله: {وَكُلّاً نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا
نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى
لِلْمُؤْمِنِينَ} 1.
3- تصديق الأنبياء السابقين وإحياء ذكراهم وتخليد
آثارهم.
4- إظهار صدق محمد -صلى الله عليه وسلم- في دعوته بما أخبر به
عن أحوال الماضين عبر القرون والأجيال.
5- مقارعته أهل الكتاب بالحجة
فيما كتموه من البينات والهُدى، وتحديه لهم بما كان في كتبهم قبل التحريف
والتبديل، كقوله تعالى: {كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلاًّ لِبَنِي إِسْرائيلَ
إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرائيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ
التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ
صَادِقِينَ} 2.
6- والقصص ضرب من ضروب الأدب، يصغي إليه السمع، وترسخ
عبره في النفس: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ}
3.
1 هود: 120.
2 آل عمران: 93.
3 يوسف:
111.
تكرار القصص وحكمته
يشتمل القرآن الكريم على كثير من
القصص الذي تكرر في غير موضع، فالقصة الواحدة يتعدد ذكرها في القرآن , وتُعرض في
صور مختلفة في التقديم والتأخير، والإيجاز والإطناب، وما شابه ذلك. ومن حكمة
هذا:
1- بيان بلاغة القرآن في أعلى مراتبها. فمن خصائص البلاغة إبراز
المعنى الواحد في صور مختلفة، والقصة المتكررة ترد في كل موضع بأسلوب يتمايز عن
الآخر، وتُصاغ في قالب غير القالب، ولا يمل الإنسان من تكرارها، بل تتجدد في نفسه
معان لا تحصل له بقراءتها في المواضع الأخرى.
2- قوة الإعجاز: فإيراد
المعنى الواحد في صور متعددة مع عجز العرب عن الإتيان بصورة منها أبلغ في
التحدي.
3- الاهتمام بشأن القصة لتمكين عبرها في النفس، فإن التكرار
من طرق التأكيد وأمارات الاهتمام. كما هو الحال في قصة موسى مع فرعون؛ لأنها تمثل
الصراع بين الحق والباطل أتم تمثيل مع أن القصة لا تكرر في السورة الواحدة مهما
كثر تكرارها.
4- اختلاف الغاية التي تساق من أجلها القصة فتذكر بعض
معانيها الوافية بالغرض في مقام، وتبرز معان أخرى في سائر المقامات حسب اختلاف
مقتضيات الأحوال.
أسوق بعض أمثلة، توضح مرامي كاتب هذه الرسالة وكيفية
بنائها "ثم أورد الأستاذ" أحمد أمين "أمثلة منتزعة من الرسالة تشهد بما وصفها به
من هذه العبارة المجملة1. كادعاء صاحب الرسالة أن القصة في القرآن لا تلتزم الصدق
التاريخي. وإنما تتجه كما يتجه الأديب في تصوير الحادثة تصويرًا فنيًّا، وزعمه أن
القرآن يختلق بعض القصص وأن الأقدمين أخطئوا في عد القصص القرآني تاريخًَا يعتمد
عليه."
والمسلم الحق هو الذي يؤمن بأن القرآن كلام الله، وأنه منزه عن
ذلك التصوير الفني الذي لا يعنى فيه بالواقع التاريخي، وليس قصص القرآن إلا
الحقائق التاريخية تصاغ في صور بديعة من الألفاظ المنتقاة، والأساليب الرائعة.
ولعل
صاحب الرسالة درس فن القصة في الأدب, وأدرك من عناصرها الأساسية الخيال الذي
يعتمد على التصور، وأنه كلما ارتقى خيالها ونأى عن الواقع كثر الشوق إليها، ورغبت
النفس فيها، واستمتعت بقراءتها، ثم قاس القصص القرآني على القصة الأدبية.
وليس
القرآن كذلك، فإنه تنزيل من عليم حكيم، ولا يرد في أخباره إلا ما يكون موافقًا
للواقع، وإذا كان الفضلاء من الناس يتورعون من أن يقولوا زورًا ويعدونه من أقبح
الرذائل المزرية بالإنسانية، فكيف يسوغ لعاقل أن يلصق الزور بكلام ذي العزة
والجلال؟
والله تعالى هو الحق: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ
وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ} 2.
وأرسل رسوله
بالحق: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً} 3.
1
انظر نقد كتاب "الفن القصصي في القرآن" - للأستاذ محمد الخضر حسين- بلاغة القرآن
ص94.
2 الحج: 62.
3 فاطر: 24.
{وَالَّذِي
أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ} 1.
{يَا
أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ} 2.
{وَأَنْزَلْنَا
إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ} 3.
{وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ
مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ} 4.
وما قصه الله تعالى في القرآن هو الحق:
{نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ} 5.
{نَتْلُو
عَلَيْكَ مِنْ نَبَأِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ} 6.
1 فاطر:
31.
2 النساء: 170.
3 المائدة: 48.
4 الرعد:
1.
5 الكهف: 13.
6 القصص: 3.
القصة في القرآن
حقيقة لا خيال
ومن الجدير بالذكر أن أحد الطلاب الجامعيين في مصر قدم
رسالة لنيل درجة "الدكتوراه" كان موضوعها: "الفن القصصي في القرآن" 1, أثارت
جدلًا طويلًا سنة 1367 هجرية، وكتب عنها أحد أعضاء اللجنة الذين اشتركوا في
مناقشة الرسالة -وهو الأستاذ أحمد أمين- تقريرًا بعث به إلى عميد كلية الآداب،
ونشر في مجلة "الرسالة" وقد تضمن التقرير نقدًا لاذعًا لما كتبه الطالب الجامعي،
وإن كان أستاذه المشرف قد دافع عنه. وصدر الأستاذ "أحمد أمين" تقريره بالعبارة
الآتية:
"وقد وجدتها رسالة ليست عادية، بل هي رسالة خطيرة، أساسها أن
القصص في القرآن عمل فني خاضع لما يخضع له الفن من خلق وابتكار من غير التزام
لصدق التاريخ. والواقع أن محمدًا فنان بهذا المعنى" ، ثم قال: "وعلى هذا الأساس
كتب كل الرسالة من أولها إلى آخرها، وإني أرى من الواجب أن"
1 هو
الدكتور محمد أحمد خلف الله.
أثر القصص القرآني في التربية
والتهذيب
مما لا شك فيه أن القصة المحكمة الدقيقة تطرق المسامع بشغف -
وتنفذ إلى النفس البشرية بسهولة ويسر، وتسترسل مع سياقها المشاعر لا تمل ولا تكل،
ويرتاد العقل عناصرها فيجني من حقولها الأزاهير والثمار.
والدروس
التلقينية والإلقائية تورث الملل، ولا تستطيع الناشئة أن تتابعها وتستوعب عناصرها
إلا بصعوبة وشدة. وإلى أمد قصير. ولذا كان الأسلوب القصصي أجدى نفعًا، وأكثر
فائدة.
والمعهود -حتى في حياة الطفولة- أن يميل الطفل إلى سماع
الحكاية، ويصغي إلى رواية القصة، وتعي ذاكرته ما يُروى له، فيحاكيه ويقصه.
هذه
الظاهرة الفطرية النفسية ينبغي للمربين أن يفيدوا منها في مجالات التعليم، لا
سيما التهذيب الديني، الذي هو لب التعليم، وقوام التوجيه فيه.
وفي
القصص القرآني تربة خصبة تساعد المربين على النجاح في مهمتهم، وتمدهم بزاد
تهذيبي، من سيرة النبيين، وأخبار الماضين وسُنة الله في حياة المجتمعات، وأحوال
الأمم. ولا تقول في ذلك إلا حقًّا وصدقًا.
ويستطيع المربي أن يصوغ
القصة القرآنية بالأسلوب الذي يلائم المستوى الفكري للمتعلمين، في كل مرحلة من
مراحل التعليم. وقد نجحت مجموعة القصص الديني للأستاذين "سيد قطب، والسحار" في
تقديم زاد مفيد نافع لصغارنا نجاحًا معدوم النظير، كما قدم "الجارم" القصص
القرآني في أسلوب أدبي بليغ أعلى مستوى، وأكثر تحليلًا وعمقًا، وحبذا لو نهج
آخرون هذا النهج التربوي السديد.
ترجمة القرآن
مدخل
22- ترجمة القرآن:
يتوقف نجاح الدعوة إلى حد
كبير على التقارب بين الداعية وأمته. فالداعية الذي ينبت من صميم البيئة يكون على
دراية كاملة بمسالك الغواية ودروب الجهالة التي يغشاها قومه. يعرف نفوسهم
والأبواب التي يطرقها منها حتى تتفتح لتعاليم دعوته، وتهتدي بهداها، والتخاطب
بينهما بلسان واحد رمز للتجانس الاجتماعي في جميع صوره، وفي هذا يقول الله تعالى:
{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ}
1.
وقد نزل القرآن الكريم على الرسول العربي بلسان عربي مبين، فكانت
هذه الظاهرة ضرورة اجتماعية لنجاح رسالة الإسلام، ومنذ ذلك الحين أصبحت اللغة
العربية جزءًا من كيان الإسلام، وأساسًا للتخاطب في إبلاغ دعوته. وكانت بعثة
رسولنا -صلى الله عليه وسلم- إلى الإنسانية كلها. وأعلن ذلك القرآن في غير موضع:
{قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً} 2.
{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً} 3.
ونشأت
نواة الدولة الإسلامية في جزيرة العرب، ولا شك أن اللغة تحيا بحياة أمتها وتموت
بموتها، فكانت نشأة الدولة الإسلامية على هذا النحو حياة للغة العرب، فالقرآن وحي
الإسلام، والإسلام دين الله المفروض، ولن يتأتى معرفة أصوله وأسسه إلا إذا فُهِمَ
القرآن بلغته، فأخذت موجة الفتح الإسلامي تمتد إلى الألسنة الأخرى الأعجمية،
فتعربها بالإسلام، وصار لزامًا على كل
1 إبراهيم: 4.
2
الأعراف: 158.
3 سبأ: 28.
من يدخل في حوزة هذا الدين
الجديد أن يستجيب له في لغة كتابه باطنًا وظاهرًا، حتى يستطيع القيام بواجباته،
ولم يكن هناك حاجة إلى ترجمة القرآن له ما دام القرآن قد ترجم لسانه وعربه
إيمانًا وتسليمًا.
معنى الترجمة
والترجمة تطلق على
معنيين:
أولهما: الترجمة الحرفية: وهي نقل ألفاظ من لغة إلى نظائرها
من اللغة الأخرى بحيث يكون النظم موافقًا للنظم، والترتيب موافقًا للترتيب.
ثانيهما:
الترجمة التفسيرية أو المعنوية: وهي بيان معنى الكلام بلغة أخرى من غير تقييد
بترتيب كلمات الأصل أو مراعاة لنظمه.
والذين على بصر باللغات يعرفون
أن الترجمة الحرفية بالمعنى المذكور لا يمكن حصولها مع المحافظة على سياق الأصل
والإحاطة بجميع معناه. فإن خواص كل لغة تختلف عن الأخرى في ترتيب أجزاء الجملة.
فالجملة الفعلية في اللغة العربية تبدأ بالفعل فالفاعل في الاستفهام وغيره،
والمضاف مقدم على المضاف إليه، والموصوف مقدم على الصفة، إلا إذا أريد الإضافة
على وجه التشبيه مثلًا: كـ "لجين الماء" ، أو كان الكلام من إضافة الصفة إلى
معمولها: كـ "عظيم الأمل" وليس الشأن كذلك في سائر اللغات.
والتعبير
العربي يحمل في طياته من أسرار اللغة ما لا يمكن أن يحل محله تعبير آخر بلغة
أخرى، فإن الألفاظ في الترجمة لا تكون متساوية المعنى من كل وجه فضلًا عن
التراكيب.
والقرآن الكريم في قمة العربية فصاحة وبلاغة، وله من خواص
التراكيب وأسرار الأساليب ولطائف المعاني، وسائر آيات إعجازه ما لا يستقل بأدائه
لسان.
حكم الترجمة الحرفية
ولهذا لا يجد المرء أدنى شبهة
في حرمة ترجمة القرآن ترجمة حرفية. فالقرآن كلام الله المنزل على رسوله المُعْجز
بألفاظه ومعانيه المتعبد بتلاوته، ولا يقول أحد من الناس إن الكلمة من القرآن إذا
ترجمت يقال فيها إنها كلام الله، فإن الله لم يتكلم إلا بما تتلوه بالعربية، ولن
يتأتى الإعجاز بالترجمة؛ لأن الإعجاز خاص بما أنزل باللغة العربية - والذي يتعبد
بتلاوته هو ذلك القرآن العربي المبين بألفاظه وحروفه وترتيب كلماته.
فترجمة
القرآن الحرفية على هذا مهما كان المترجم على دراية باللغات وأساليبها وتراكيبها
تخرج القرآن عن أن يكون قرآنًا.
الترجمة المعنوية
مدخل
الترجمة
المعنوية
القرآن الكريم -وكذا كل كلام عربي بليغ- له معان أصليه،
ومعان ثانوية.
والمراد بالمعاني الأصلية المعاني التي يستوي في فهمها
كل من عرف مدلولات الألفاظ المفردة وعرف وجوه تراكيبها معرفة إجمالية.
والمراد
بالمعاني الثانوية خواص النظم التي يرتفع بها شأن الكلام، وبها كان القرآن
معجزًا.
فالمعنى الأصلي لبعض الآيات قد يوافق فيه منثور كلام العرب أو
منظومه، ولا تمس هذه الموافقة إعجاز القرآن، فإن إعجازه ببديع نظمه وروعة بيانه،
أي بالمعنى الثانوي. وإياه عني الزمخشري في كشافه بقوله: "إن في كلام العرب
-خصوصًا القرآن- من لطائف المعاني ما لا يستقل بأدائه لسان" .
حكم
الترجمة المعنوية
وترجمة معاني القرآن الثانوية أمر غير ميسور، إذ إنه
لا توجد لغة توافق اللغة العربية في دلالة ألفاظها على هذه المعاني المسماة عند
علماء البيان خواص التراكيب، وذلك ما لا يسهل على أحد ادعاؤه. وهو ما يقصده
الزمخشري من عبارته السابقة. فوجوه البلاغة القرآنية في اللفظ أو التركيب.
تنكيرًا وتعريفًا، أو تقديمًا وتأخيرًا، أو ذِِكرًا وحذفًا، إلى غير ذلك مما
تسامت به لغة القرآن، وكان له وقعه في النفوس - هذه الوجوه في بلاغة القرآن لا
يفي بحقها في أداء معناها لغة أخرى، لأي أي لغة لا تحمل تلك الخواص.
أما
المعاني الأصلية فهي التي يمكن نقلها إلى لغة أخرى. وقد ذكر الشاطبي في الموافقات
المعاني الأصلية والمعاني الثانوية ثم قال: "إن ترجمة القرآن على الوجه الأول
-يعني النظر إلى معانيه الأصلية- ممكن، ومن جهته صح تفسير القرآن وبيان معانيه
للعامة ومن ليس لهم فهم يقوى على تحصيل معانيه. وكان ذلك جائزًا باتفاق أهل
الإسلام، فصار هذا الإنفاق حجة في صحة الترجمة على المعنى الأصلي" .
ومع
هذا فإن ترجمة المعاني الأصلية لا تخلو من فساد، فإن اللفظ الواحد في القرآن قد
يكون له معنيان أو معان تحتملها الآية فيضع المترجم لفظًا يدل على معنى واحد حيث
لا يجد لفظًا يشاكل اللفظ العربي في احتمال تلك المعاني المتعددة.
وقد
يستعمل القرآن اللفظ في معنى مجازي فيأتي المترجم بلفظ يرادف اللفظ العربي في
معناه الحقيقي. ولهذا ونحوه وقعت أخطاء كثيرة فيما تُرجم لمعاني القرآن.
وما
ذهب إليه الشاطبي واعتبره حجة في صحة الترجمة على المعنى الأصلي ليس على إطلاقه.
فإن بعض العلماء يخص هذا بمقدار الضرورة في إبلاغ الدعوة. بالتوحيد وأركان
العبادات، ولا يتعرض لما سوى ذلك، ويؤمر من أراد الزيادة بتعلم اللسان العربي.
الترجمة
التفسيرية
ويحق لنا أن نقول: إن علماء الإسلام إذا قاموا بتفسير
للقرآن، يتوخى فيه أداء المعنى القريب الميسور الراجح، ثم يترجم هذا التفسير
بأمانة وبراعة، فإن هذا يقال فيه: "ترجمة تفسير القرآن" أو "ترجمة تفسيرية" بمعنى
شرح الكلام وبيان معناه بلغة أخرى. ولا بأس بذلك. فإن الله تعالى بعث محمدًا -صلى
الله عليه وسلم- برسالة الإسلام إلى البشرية كافة على اختلاف أجناسها وألوانها:
"وكان النبي يُبعث إلى قومه خاصة وبُعثت إلى الناس كافة" 1, وشرط لزوم الرسالة
البلاغ - والقرآن الذي نزل بلغة العرب صار إبلاغه للأمة العربية ملزمًا لها، ولكن
سائر الأمم التي لا تُحسن العربية، أو لا تعرفها يتوقف إبلاغها الدعوة على
ترجمتها بلسانها. وقد عرفنا قبل استحالة الترجمة الحرفية وحرمتها. واستحالة ترجمة
المعاني الثانوية، ومشقة ترجمة المعاني الأصلية وما فيها من أخطار، فلم يبق إلا
أن يترجم تفسير القرآن الذي يتضمن أسس دعوته بما يتفق مع نصوص الكتاب وصريح
السٌّنَّة إلى لسان كل قبيل حتى تبلغهم الدعوة وتلزمهم الحجة. وترجمة تفسير
للقرآن على نحو ما ذكرنا يصح أن نسميها بالترجمة التفسيرية. وهي تختلف عن الترجمة
المعنوية وإن كان الباحثون لا يفرقون بينهما، فإن الترجمة المعنوية توهم أن
المترجم أخذ معاني القرآن من أطرافها ونقلها إلى اللغة الأجنبية، كما يقال في
ترجمة غيره: ترجمة طبق الأصل. فالمفسِّر يتكلم بلهجة المبيِّن لمعنى الكلام على
حسب فهمه، فكأنه يقول للناس: هذا ما أفهمه من الآية، والمترجم يتكلم بلهجة من
أحاط بمعنى الكلام وصبَّه في ألفاظ لغة أخرى. وشتان بين الأمرين. فالمفسِّر يقول
في تفسير الآية: يعني كذا، ويذكر فهمه الخاص. والمترجم يقول: معنى هذا الكلام هو
عين معنى الآية، وقد عرفنا ما في ذلك.
وينبغي أن يؤكَّد في الترجمة
التفسيرية أنها ترجمة لفهم شخصي خاص، لا تتضمن وجوه التأويل المحتملة لمعاني
القرآن، وإنما تتضمن ما أدركه المفسر
1 من حديث: "أعطيت خمسًا لم
يعطهن أحد قبلي ..." . في الصحيحين وغيرهما.
منها، وبهذا تكون ترجمة
للعقيدة الإسلامية ومبادئ الشريعة كما تُفهم من القرآن.
وإذا كان
إبلاغ الدعوة من واجبات الإسلام فإن ما يتوقف على هذا البلاغ من دراسة اللغات
ونقل أصول الإسلام إليها واجب كذلك. كما أن معرفتنا لهذه اللغات بالقدر الضروري
تمكننا من دراسة كتبها للرد على المبشرين والمستشرقين الذين غمزوا عود الإسلام من
بعيد أو قريب، وهذا هو ما عناه شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه "العقل والنقل"
عندما قال: "وأما مخاطبة أهل الاصطلاح باصطلاحهم ولغتهم فليس بمكروه إذا احتيج
إلى ذلك، وكانت المعاني صحيحة - كمخاطبة العجم من الروم والفرس والترك بلغتهم
وعرفهم، فإن هذا جائز حسن للحاجة، وإنما كرهه الأئمة إذا لم يحتج إليه" ثم قال:
"ولذلك يترجم القرآن والحديث لمن يحتاج إلى تفهمه إياه بالترجمة، وكذلك يقرأ
المسلم ما يحتاج إليه من كتب الأمم وكلامهم بلغتهم، ويترجم بالعربية، كما أمر
النبي -صلى الله عليه وسلم- زيد بن ثابت أن يتعلم كتاب اليهود ليقرأ له ويكتب له
ذلك. حيث لم يأتمن اليهود عليه" .
وإذا كانت الترجمة بمعناها الحقيقي
ولو للمعاني الأصلية لا تتيسر في جميع آيات القرآن. وإنما المتيسر الترجمة على
معنى التفسير, كان من الضروري إشعار القارئ بذلك، ومن وسائله كتابة جمل في حواشي
الصحائف يبيِّن بها أن هذا أحد وجوه -أو أرجح وجوه- تحتملها الآية "ولو قامت
جماعة ذات نيات صالحة وعقول راجحة. وتولت نقل تفسير القرآن إلى بعض اللغات
الأجنبية، وهي على بينة من مقاصده - وعلى رسوخ في معرفة تلك اللغات، وتحامت
الوجوه التي دخل منها الخلل في التراجم السائرة اليوم في أوروبا لفتحت لدعوة الحق
سبيلًا كانت مقفلة. ونشرت الحنيفية السمحة في بلاد طافحة بالغواية قاتمة" 1.
1
"بلاغة القرآن" ص21.
القراءة في الصلاة بغير العربية
مدخل
القراءة
في الصلاة بغير العربية
يختلف العلماء في القراءة في الصلاة بغير
العربية إلى مذهبين:
أحدهما: الجواز مطلقًا أو عند العجز عن النطق
بالعربية.
وثانيهما: أن ذلك محظور، والصلاة بهذه القراءة غير
صحيحة.
والمذهب الأول هو مذهب الأحناف، فإنه يُروى عن أبي حنيفة أنه
كان يرى جواز القراءة في الصلاة باللغة الفارسية، وبنى على هذا بعض أصحابه جوازها
بالتركية والهندية وغيرها من الألسنة، ولعلهم يرون في ذلك أن القرآن اسم للمعاني
التي تدل عليها الألفاظ العربية. والمعاني لا تختلف باختلاف ما قد يتعاقب عليها
من الألفاظ واللغات.
وقيد الصاحبان: أبو يوسف ومحمد بن الحسن. هذا بما
تدعو إليه الضرورة. فأجازا للعاجز عن العربية القراءة في الصلاة باللسان الأعجمي
دون القادر على القراءة بها، قال في "معراج الدراية" : "إنما جوزنا القراءة
بترجمة القرآن للعاجز إذا لم يخل بالمعنى؛ لأنه قرآن من وجه باعتبار اشتماله على
المعنى، فالإتيان به أولى من الترك مطلقًا، إذ التكليف بحسب الوسع" .
ويُروى
أن أبا حنيفة رجع عن الإطلاق الذي نُقِل عنه.
والمذهب الثاني هو ما
عليه الجمهور، فقد منع المالكية والشافعية والحنابلة القراءة بترجمة القرآن في
الصلاة، سواء أكان المصلي قادرًا على العربية أم عاجزًا؛ لأن ترجمة القرآن ليست
قرآنًا، إذ القرآن هو النظم المُعجز الذي هو كلام الله، والذي وصفه تعالى بكونه
عربيًّا، وبالترجمة يزول الإعجاز، وليست الترجمة كلام الله.
قال
القاضي أبو بكر بن العربي -وهو من فقهاء المالكية- في تفسير قوله تعالى: {وَلَوْ
جَعَلْنَاهُ قُرْآناً أَعْجَمِيّاً لَقَالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ
أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ} 1. قال علماؤنا: هذا يُبطل قول أبي حنيفة رضي الله
تعالى عنه،
1 فصلت: 44.
إن ترجمة القرآن بإبدال اللغة
العربية منه بالفارسية جائز؛ لأن الله تعالى قال: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآناً
أَعْجَمِيّاً لَقَالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيّ} ؟
نفى أن يكون للعجمة إليه طريق - فكيف يُصرف إلى ما نفى الله عنه؟ ثم قال: إن
التبيان والإعجاز إنما يكون بلغة العرب، فلو قُلب إلى غير هذا لما كان قرآنًا ولا
بيانًا ولا اقتضى إعجازًا "."
وقال الحافظ ابن حجر -وهو من فقهاء
الشافعية- في "فتح الباري" : "إن كان القارئ قادرًا على تلاوته باللسان العربي
فلا يجوز له العدول عنه، ولا تُجزئ صلاته -أي بقراءة ترجمته- وإن كان عاجزًا" ثم
ذكر أن الشارع قد جعل للعاجز عن القراءة بالعربية بدلًا وهو الذِّكر.
وقال
شيخ الإسلام ابن تيمية -وهو من فقهاء الحنابلة- وإن كانت له اجتهاداته: "وأما
الإتيان بلفظ يبيِّن المعنى كبيان لفظ القرآن فهذا غير ممكن أصلًا، ولهذا كان
أئمة الدين على أنه لا يجوز أن يُقرأ بغير العربية، لا مع القدرة عليها ولا مع
العجز عنها؛ لأن ذلك يخرجه عن أن يكون هو القرآن المنزل" 1.
ويقول ابن
تيمية في كتاب "اقتضاء الصراط المستقيم" عند الحديث عن اختلاف الفقهاء في أذكار
الصلاة، أتقال بغير العربية أم لا؟: "فأما القرآن فلا يقرؤه بغير العربية سواء
قدر عليها أو لم يقدر عند الجمهور، وهذا هو الصواب الذي لا ريب فيه، بل قد قال
غير واحد أنه يمتنع أن يترجم سورة أو مما يقوم به الإعجاز" وقد خص السورة أو ما
يقوم به الإعجاز إشارة إلى أقل ما وقع به التحدي.
والدين يوجب على
معتنقيه تعلم العربية؛ لأنها لغة القرآن ومفتاح فهمه. قال ابن تيمية كذلك في
"الاقتضاء" : "وأيضًا فإن نفس اللغة العربية من الدين"
1 "بلاغة
القرآن" ص15.
- ومعرفتها فرض واجب، فإن فهم الكتاب والسٌّنَّة فرض،
ولا يفهمان إلا بفهم اللغة العربية، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب "."
أما
اختلاف الأحناف في جواز الصلاة بترجمة القرآن، فالمجيزون يرون إباحة هذا عند
العجز على أنه رخصة، وهم متفقون على أن الترجمة لا تسمى قرآنًا، فهي لمجرد
الإجزاء في الصلاة، ومثلها مثل ذِكر الله عند غير الحنفية.
والذكر في
الصلاة مُخْتَلَف فيه، سواء أكان واجبًا كتكبيرة الإحرام أم غير واجب؟ فقد منع
ترجمة الأذكار الواجبة مالك وإسحاق وأحمد في أصح الروايتين. وأباحها أبو يوسف
ومحمد والشافعي، وسائر الأذكار لا تترجم عند مالك وإسحاق وبعض أصحاب الشافعي،
ومتى فصل بالترجمة بطلت صلاته "ونص الشافعي على الكراهة وهو قول أصحاب أحمد إذا
لم يحسن العربية."
قوة الأمة الإسلامية هي سبيل انتصار الإسلام وسيادة
لغة القرآن
وننتهي من هذا البحث إلى أن القرآن لا يمكن ولا يجوز أن
يترجم ترجمة حرفية، وأن ترجمة المعاني الأصلية وإن كانت ممكنة في بعض الآيات
الواضحة المعنى فإنها لا تخلو من فساد. وأن ترجمة المعاني الثانوية غير ممكنة؛
لأن وجوه البلاغة القرآنية لا تؤديها ألفاظ بأي لغة أخرى.
بقي أن
يُفسر القرآن، وأن يُترجم تفسيره لإبلاغ دعوته. قال القفال -من كبار علماء
الشافعية-: "عندي أنه لا يقدر أحد على أن يأتي بالقرآن بالفارسية. قيل له: فإذن
لا يقدر أحد أن يُفسِّر القرآن، قال: ليس كذلك؛ لأنه هناك يجوز أن يأتي ببعض مراد
الله ويعجز عن بعضه، أما إذا أراد أن يقرأها بالفارسية فلا يمكن أن يأتي بجميع
مراد الله" .
وترجمة التفسير تكون ضرورة بقدر الحاجة إلى إبلاغ دعوة
الإسلام إلى الشعوب غير الإسلامية، قال الحافظ ابن حجر: "فمن دخل الإسلام أو أراد
الدخول فيه فقرئ عليه القرآن فلم يفهمه فلا بأس أن يُعرَّب له لتعريف أحكامه. أو
لتقوم عليه الحجة فيدخل فيه" 1.
ولقد كان المسلمون فيما سَلَف يقتحمون
للسيادة كل وعر ويركبون لإظهار دين الله كل خطر، ويلبسون من برود البطولة والعدل
وكرم الأخلاق ما يملأ عيون مخالفيهم مهابة وإكبارًا، وكانت اللغة العربية تجر
رداءها أينما رفعوا رايتهم، وتنتشر في كل واد وطئته أقدامهم، فلم يشعروا في
دعوتهم إلى الإسلام بالحاجة إلى نقل معاني القرآن إلى اللغات الأجنبية، وربما كان
عدم نقلها إلى غير العربية وهم في تلك العزة والسلطان من أسباب إقبال غير العرب
على معرفة لسان العرب، حتى صارت أوطان أعجمية إلى النطق بالعربية "2."
والظاهرة
التي نشاهدها الآن في ضرورة تعلم اللغات الأجنبية للأمة العربية حتى تتمكن من
إرسال بعثاتها العلمية إلى جامعات الدول الأخرى، أو دراسة أمهات الكتب للعلوم
الكونية في جامعاتها؛ لأنها بلغة أجنبية لمؤلفين أجانب - هذه الظاهرة دعت إليها
الحاجة إلى العلم والثقافة، ونحن نراها تنشر سيطرتها على تفكير الكثير وتحدد
اتجاهه في الحياة، وتصل إلى درجة الولوع بها والشغف والتوسع في فنونها، وقد كان
لها الأثر البالغ في الأخلاق والعادات والتقاليد مما جعل حياتنا العامة في شتى
صورها تخرج عن سَمت الإسلام وطابع فضائله، ولم تكن الأمم الأخرى في حاجة إلى
ترجمة كتبها إلى اللغة العربية لما لها من المكانة العلمية فلو ظلت دولة الإسلام
في طريق نهضتها الأولى علمًا وثقافة وسياسة وخُلُقًا وقوة وسلطانًا ومهابة لرمقها
العالَم من جميع أطراف
1 "فتح الباري" باب: ما يجوز من تفسير التوراة
وكتب الله بالعربية.
2 "بلاغة القرآن" ص18.
المعمورة،
وتطلع إلى دراسة اللغة العربية لينهل من معين نتاج الإسلام الفكري، ويروي ظمأه من
معارفه، ويستظل بسلطانه، ويحتمي في سيادته، ولرأى في هذا حاجته بمثل ما نرى نحن
اليوم حاجتنا إلى لغته.
فالحديث عن ترجمة القرآن من مظاهر ضعف دولته،
وحري بنا أن يتجه نظرنا إلى بذل جهودنا في تكوين دولة القرآن وتوطيد دعائم نهضتها
على أساس من الإيمان والعلم والمعرفة، فهي وحدها الكفيلة بالسيطرة الروحية على
أجناس البشر وتعريب ألسنتهم. وإذا كان الإسلام هو دين الإنسانية كافة، فالشأن في
لغته حين نعمل على تحقيق ما كتبه الله له ولأمته من العزة أن تكون كذلك.[]