الناشر: مكتبة المعارف للنشر والتوزيع
لطبعة: الطبعة الثالثة ١٤٢١هـ- ٢٠٠٠م
عدد الصفحات: ٤٠٧
عدد الأجزاء 1
الموضوع: علوم القرأن، علوم التفسير
فهرس الموضوعات
- القرآن
- مدخل
- تعريف القرآن
- أسماؤه وأوصافه
- الفرق بين القرآن والحديث القدسي
- الفرق بين الحديث القدسي والحديث النبوي
- الوحي
- إمكانية الوحي ووقوعه
- معنى الوحي
- كيفية وحي الله إلى ملائكتة
- كيفية وحي اللله إلى رسله
- كيفية وحي الملك إلى الرسول
- شبه الجاحدين على الوحي
- متاهات المتكلمين
- المكي والمدني
- مدخل
- عناية العلماء بالمكي والمدني وأمثلة ذلك وفوائده
- مدخل
- أمثلة
- فوائد العلم بالمكي والمدني
- معرفة المكي والمدني وبيان الفرق بينهما
- الفرق بين المكي والمدني
- مميزات المكي والمدني
- مدخل
- ضوابط المكي ومميزاته الموضوعية
- ضوابط المدني ومميزاته الموضوعية
- معرفة أول ما نزل وآخر ما نزل
- مدخل
- أول ما نزل
- آخر ما نزل
- أوائل موضوعية
- فوائد هذا المبحث
- أسباب النزول
- مدخل
- عناية العلماء به
- ما يعتمد عليه في معرفة سبب النزول
- تعريف السبب
- فوائد معرفة سبب النزول
- العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب
- صيغة سبب النزول
- تعدد الروايات في سبب النزول
- تعدد النزول مع وحدة السبب
- تقدم نزول الآية على الحكم
- تعدد ما نزل في شخص واحد
- الاستفادة من معرفة أسباب النزول في مجال التربية والتعليم
- المناسبات بين الآيات والسور
- نزول القرآن
- مدخل
- نزول القرآن جملة
- نزول القرآن منجما
- حكمة نزول القرآن منجما
- مدخل
- الحكمة الأولى: تثبيت فؤاد رسول الله صلى الله عليه وسلم
- الحكمة الثانية: التحدي والإعجاز
- الحكمة الثالثة: تيسير حفظه وفهمه
- الحكمة الرابعة: مسايرة الحوادث والتدرج في التشريع
- الحكمة الخامسة: الدلالة القاطعة على أن القرآن الكريم تنزيل من حكيم حميد
- الاستفادة من نزول القرآن منجما في التربية والتعليم
- جمع القرآن وترتيبه
- مدخل
- جمع القرآن بمعنى حفظه على عهد النبي صلى الله عليه وسلم
- جمع القرآن بمعنى كتابته على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم
- جمع القرآن في عهد أبي بكر رضي الله عنه
- جمع القرآن في عهد عثمان رضي الله عنه
- الفرق بين جمع أبي بكر وجمع عثمان
- شبه مردودة
- ترتيب الآيات والسور
- ترتيب الآيات
- ترتيب السور
- سور القرآن وآياته
- الرسم العثماني
- تحسين الرسم العثماني
- الفواصل ورءوس الآي
- نزول القرآن على سبعة أحرف
- مدخل
- اختلاف العلماء في المراد بها الترجيح بينها
- حكمة نزول القرآن على سبعة أحرف
- القراءات والقراء
- مدخل
- كثرة القراء والسبب في الاقتصار على السبعة
- أنواع القراءات وحكمها وضوابطها
- فوائد الاختلاف في القراءات الصحيحة
- مدخل
- الوقف والإبتداء
- أقسام الوقف
- التجويد وآداب التلاوة
- مدخل
- آداب التلاوة
- تعلم القرآن والأجرة عليه
-
العودة إلي كتاب مباحث في علوم القرآن
القرآن
مدخل
القرآن
من فضل الله على الإنسان أنه لم يتركه في الحياة
يستهدي بما أودعه الله فيه من فطرة سليمة، تقوده إلى الخير، وترشده إلى البر
فحسب، بل بعث إليه بين فترة وأخرى رسولًا يحمل من الله كتابًا يدعوه إلى عبادة
الله وحده، ويبشر وينذر، لتقوم عليه الحجة: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ
وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ
الرُّسُلِ} 1.
وظلت الإنسانية -في تطورها ورقيها الفكري- والوحي
يعاودها بما يناسبها ويحل مشكلاتها الوقتية في نطاق قوم كل رسول، حتى اكتمل
نضجها، وأراد الله لرسالة محمد -صلى الله عليه وسلم- أن تشرق على الوجود، فبعثه
على فترة من الرسل. ليكمل صرح إخوانه الرسل السابقين بشريعته العامة الخالدة،
وكتابه المنزَّل عليه، وهو القرآن الكريم ... "مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل
رجل بنى بيتًا فأحسنه وأجمله إلا موضع لبنة من زاوية، فجعل الناس يطوفون به،
ويعجبون منه، ويقولون: لولا هذه اللبنة، فأنا اللبنة، وأنا خاتم النبيين" 2.
فالقرآن
رسالة الله إلى الإنسانية كافة وقد تواترت النصوص الدالة على ذلك في الكتاب
والسٌّنَّة: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ
جَمِيعًا} 3.. {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ
لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} 4، "وكان كل نبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت
إلى الناس كافة" 5، ولن يأتي بعده رسالة أخرى {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا
أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ}
6.
1 النساء: 165.
2 متفق عليه.
3 الأعراف:
158.
4 الفرقان: 1.
5 في الصحيحين من حديث: "أُعطِيتُ
خمسًا لم يُعْطَهُنَّ أحد قبلي" .
6 الأحزاب: 40.
فلا
غرو من أن يأتي القرآن وافيًا بجميع مطالب الحياة الإنسانية على الأسس الأولى
للأديان السماوية: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا
وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى
وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} 1..
وتحدى
رسول الله -صلى الله عليه وسلم- العرب بالقرآن، وقد نزل بلسانهم، وهم أرباب
الفصاحة والبيان، فعجزوا عن أن يأتوا بمثله، أو بعشر سور مثله، أو بسورة من
مثله، فثبت له الإعجاز، وبإعجازه ثبتت الرسالة.
وكتب الله له الحفظ
والنقل المتواتر دون تحريف أو تبديل، فمن أوصاف جبريل الذي نزل به: {نَزَلَ
بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ} 2, ومن أوصافه وأوصاف المنزل عليه: {إِنَّهُ لَقَوْلُ
رَسُولٍ كَرِيمٍ, ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ, مُطَاعٍ ثَمَّ
أَمِينٍ, ومَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ, وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ
الْمُبِينِ, وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ} 3، {إَنَّهُ لَقُرْآنٌ
كَرِيمٍ, فيِ كِتَابٍ مَّكَنُونٍ, لاَ يَمَسُّهُ إلاَّ المُطَهَّروَنَ} 4..
ولم
تكن هذه الميزة لكتاب آخر من الكتب السابقة لأنها جاءت موقوتة بزمن خاص، وصدق
الله إذ يقول: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ
لَحَافِظُونَ} 5.
وتجاوزت رسالة القرآن الإنس إلى الجن: {وَإِذْ
صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا
حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ
مُنْذِرِينَ, قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ
بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ
وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ, يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ
وَآمِنُوا بِهِ} 6..
والقرآن بتلك الخصائص يعالج المشكلات الإنسانية
في شتى مرافق الحياة، الروحية والعقلية والبدنية والاجتماعية والاقتصادية
والسياسية علاجًا حكيمًا، لأنه تنزيل الحكيم الحميد، ويضع لكل مشكلة بَلْسَمَها
الشافي في أسس عامة،
1 الشورى: 13.
2 الشعراء: 193.
3
التكوير: 19، 24.
4 الواقعة: 77-79.
5 الحجر: 9.
6
الأحقاف: 29-31.
تترسم الإنسانية خُطاها، وتبني عليها في كل عصر ما
يلائمها، فاكتسب بذلك صلاحيته لكل زمان ومكان، فهو دين الخلود، وما أروع ما
قاله داعية الإسلام في القرن الرابع عشر: "الإسلام نظام شامل، يتناول مظاهر
الحياة جميعًا، فهو دولة ووطن، أو حكومة وأمة، وهو خُلُقٌ وقوة، أو رحمة
وعدالة، وهو ثقافة وقانون، أو علم وقضاء، وهو مادة وثروة، أو كسب وغِنَى، وهو
جهاد ودعوة، أو جيش وفكرة، كما هو عقيدة صادقة، وعبادة صحيحة سواء بسواء" 1.
والإنسانية
المعذَّبة اليوم في ضميرها، المضطربة في أنظمتها، المتداعية في أخلاقها، لا
عاصم لها من الهاوية التي تتردى فيها إلا القرآن: {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ
فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى, وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ
مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} 2.
والمسلمون
هم وحدهم الذين يحملون المشعل وسط دياجير النظم والمبادئ الأخرى، فحري بهم أن
ينفضوا أيديهم من كل بهرج زائف، وأن يقودوا الإنسانية الحائرة بالقرآن الكريم
حتى يأخذوا بيدها إلى شاطئ السلام. وكما كانت لهم الدولة بالقرآن في الماضي.
فإنها كذلك لن تكون لهم إلا به في الحاضر.
1 من رسالة التعاليم:
للإمام الشهيد حسن البنا.
2 طه: 123، 124.
تعريف
القرآن
"قرأ" : تأتي بمعنى الجمع والضم، والقراءة: ضم الحروف
والكلمات بعضها إلى بعض في الترتيل، والقرآن في الأصل كالقراءة: مصدر قرأ قراءة
وقرآنًا. قال تعالى: {إنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وقَرُآنَهُ, فَإِذَا قَرَأْنَاهُ
فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} 1. أي قراءته، فهو مصدر على وزن "فُعلان" بالضم:
1
القيامة: 17، 18.
كالغفران والشكران، تقول: قرأته قرءًا وقراءة
وقرآنًا، بمعنى واحد. سمي به المقروء تسمية للمفعول بالمصدر.
وقد خص
القرآن بالكتاب المنزل على محمد -صلى الله عليه وسلم- فصار له كالعلم
الشخصي.
ويطلق بالاشتراك اللفظي على مجموع القرآن، وعلى كل آية من
آياته، فإذا سمعت من يتلو آية من القرآن صح أن تقول إنه يقرأ القرآن: {وَإِذَا
قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} 1..
وذكر بعض
العلماء أن تسمية هذا الكتاب قرآنًا من بين كتب الله لكونه جامعًا لثمرة كتبه،
بل لجمعه ثمرة جميع العلوم. كما أشار تعالى إلى ذلك بقوله: {وَنَزَّلْنَا
عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} 2، وقوله: {مَا فَرَّطْنَا فِي
الكِتَابِ مِنْ شَيءٍ} 3..
وذهب بعض العلماء إلى أن لفظ القرآن غير
مهموز الأصل في الاشتقاق، إما لأنه وضع علمًا مرتجلًا على الكلام المنزل على
النبي -صلى الله عليه وسلم- وليس مشتقًا من "قرأ" ، وإما لأنه من قرن الشيء
بالشيء إذا ضمه إليه، أو من القرائن لأن آياته يشبه بعضها بعضًا فالنون أصلية،
وهذا رأي مرجوح، والصواب الأول.
والقرآن الكريم يتعذر تحديده
بالتعاريف المنطقية ذات الأجناس والفصول والخواص. بحيث يكون تعريفه حدًّا
حقيقيًّا، والحد الحقيقي له هو استحضاره معهودًا في الذهن أو مُشاهدًا بالحس
كأن تشير إليه مكتوبًا في المصحف أو مقروءًا باللسان فتقول: هو ما بين هاتين
الدفتين، أو تقول: هو من {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ, الحَمْدُ
للَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ} 4 ... إلى قوله: {مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ}
5..
1 الأعراف: 204.
2 النحل: 89.
3 سياق
الآية يدل على أن المراد بالكتاب هنا اللوح المحفوظ. ولكن القرآن ثبت في اللوح
المحفوظ، "والآية من سورة الأنعام: 38" .
4 الفاتحة: 1، 2.
5
الناس: 6.
ويذكر العلماء تعريفًا له يُقَرِّبُ معناه ويميزه عن
غيره، فيُعَرِّفُونَهُ بأنه: "كلام الله، المنزل على محمد -صلى الله عليه وسلم-
المتعبد بتلاوته" . فـ "الكلام" جنس في التعريف، يشمل كل كلام، وإضافته إلى
"الله" يُخْرِجُ كلام غيره من الإنس والجن والملائكة.
و "المنزَّل"
يُخْرِج كلام الله الذي استأثر به سبحانه: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا
لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي
وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا} 1، {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ
شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا
نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّه} 2.
وتقييد المنزَّل بكونه "على محمد,
صلى الله عليه وسلم" يُخرج ما أُنْزِلَ على الأنبياء قبله كالتوراة والإنجيل
وغيرهما.
و "المتعبد بتلاوته" يُخرج قراءات الآحاد، والأحاديث
القدسية -إن قلنا إنها منزَّلة من عند الله بألفاظها- لأن التعبد بتلاوته معناه
الأمر بقراءته في الصلاة وغيرها على وجه العبادة، وليست قراءة الآحاد والأحاديث
القدسية كذلك.
1 الكهف: 109.
2 لقمان: 27.
أسماؤه
وأوصافه
وقد سماه الله بأسماء كثيرة:
منها "القرآن" .
{إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} 1.
و
"الكتاب" . {لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ} 2.
و
"الفرقان" . {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ
لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} 3.
1 الإسراء: 9.
2 الأنبياء:
10.
3 الفرقان: 1.
و "الذكر" .. {إِنَّا نَحْنُ
نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} 1..
و "التنزيل"
.. {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ} 2.. إلى غير ذلك مما ورد في
القرآن.
وقد غلب من أسمائه: "القرآن" و "الكتاب" ، قال الدكتور محمد
عبد الله دراز:
"رُوعِيَ في تسميته" قرآنًا "كونه متلوًّا بالألسن،
كما رُوعِيَ في تسميته" كتابًا "كونه مدوَّنًا بالأقلام، فكلتا التسميتين من
تسمية شيء بالمعنى الواقع عليه" .
وفي تسميته بهذين الاسمين إشارة
إلى أن من حقه العناية بحفظه في موضعين لا في موضع واحد، أعني أنه يجب حفظه في
الصدور والسطور جميعًا، أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى، فلا ثقة لنا بحفظ
حافظ حتى يوافق الرسم المجمع عليه من الأصحاب، المنقول إلينا جيلًا بعد جيل على
هيئته التي وُضِعَ عليها أول مرة، ولا ثقة لنا بكتابة كاتب حتى يوافق ما هو عند
الحفَّاظ بالإسناد الصحيح المتواتر.
وبهذه العناية المزدوجة التي
بعثها الله في نفوس الأمة المحمدية اقتداء بنبيها. بقي القرآن محفوظًا في حرز
حريز، إنجازًا لوعد الله الذي تكفَّل بحفظه حيث يقول: {إِنَّا نَحْنُ
نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} ولم يصبه ما أصاب الكتب
الماضية من التحريف والتبديل وانقطاع السند "3."
وبيَّن سر هذه
التفرقة بأن سائر الكتب السماوية جِيء بها على التوقيت لا التأبيد، وأن هذا
القرآن جِيء به مُصَدِّقًا لما بين يديه من الكتب ومهيمنًا عليها، فكان جامعًا
لما فيها من الحقائق الثابتة زائدًا عليها بما شاء الله زيادته، وكان سائرًا
مسيرها، ولم يكن شيء منها ليسد مسده، فقضى الله أن يبقى حجة إلى
1
الحجر: 9.
2 الشعراء: 192.
3 النبأ العظيم: ص12، 13- ط.
دار القلم بالكويت.
قيام الساعة، وإذا قضى الله أمرًا يَسَّر له
أسبابه -وهو الحكيم العليم- وهذا تعليل جيد.
ووصف الله القرآن
بأوصاف كثيرة كذلك:
منها "نور" .. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ
جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا}
1..
و "هدى" و "شفاء" و "رحمة" و "موعظة" .. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ
قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ
وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} 2.
و "مبارك" .. {وَهَذَا
كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْه} 3.
و
"مبين" .. {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ} 4.
و
"بشرى" .. {مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدىً وَبُشْرَى
لِلْمُؤْمِنِينَ} 5.
و "عزيز" .. {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا
بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ} 6.
و
"مجيد" .. {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ} 7.
و "بشير" و "نذير" ..
{كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ,
بَشِيرًا وَنَذِيرًا} 8.
وكل تسمية أو وصف فهو باعتبار معنى من
معاني القرآن.
1 النساء: 174.
2 يونس: 57.
3
الأنعام: 92.
4 المائدة: 15.
5 البقرة: 97.
6
فصلت: 15.
7 البروج: 21.
8 فصلت: 3، 4.
الفرق
بين القرآن والحديث القدسي والحديث النبوي
سبق تعريف القرآن، ولكي
نعرف الفرق بينه وبين الحديث القدسي والحديث النبوي نعطي التعريفين الآتيين:
الحديث
النبوي:
الحديث في اللغة: ضد القديم، ويُطلق ويراد به كلام يُتحدث
به ويُنقل ويَبلغ الإنسان من جهة السمع أو الوحي في يقظته أو منامه، وبهذا
المعنى سُمِّيَ القرآن حديثًا: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا} 1،
وسُمِّيَ ما يُحَدَّثُ به الإنسان في نومه: {وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ
الْأَحَادِيثِ} 2..
والحديث في الاصطلاح: ما أُضِيفَ إلى النبي -صلى
الله عليه وسلم- من قول أو فعل أو تقرير أو صفة.
فالقول: كقوله, صلى
الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى.." 3.
والفعل:
كالذي ثبت من تعليمه لأصحابه كيفية الصلاة ثم قال: "صَلُّوا كما رأيتموني
أُصَلِّي" 4، وما ثبت من كيفية حجه، وقد قال: "خذوا عني مناسككم" 5.
والإقرار:
كأن يُقِرَّ أمرًا عَلِمَهُ عن أحد الصحابة من قول أو فعل. سواء أكان ذلك في
حضرته -صلى الله عليه وسلم- أما في غيبته ثم بلغه، ومن أمثلته: "أكل الضب على
مائدته, صلى الله عليه وسلم" ، "وما رُوِي من أن رسول الله -صلى الله عليه
وسلم- بعث رجلًا على سرية، وكان يقرأ لأصحابه في صلاته فيختم بـ {قُلْ هُوَ
اللَّهُ أحَدٌ} 6, فلما رجعوا ذكروا ذلك له عليه الصلاة والسلام، فقال: سلوه
لأي شيء يصنع ذلك؟ فسألوه، فقال: لأنها صفة الرحمن وأنا أحب أن أقرأ بها، فقال
النبي, صلى الله عليه وسلم:" أخبروه أن الله يحبه "7."
1 النساء:
87.
2 يوسف: 101.
3 من حديث طويل رواه البخاري ومسلم عن
عمر بن الخطاب.
4 رواه البخاري.
5 أخرجه مسلم وأحمد
والنَّسائي.
6 الإخلاص: 1.
7 رواه البخاري ومسلم.
والصفة:
كما رُوِيَ: "من أنه -صلى الله عليه وسلم- كان دائم البِشر، سهل الخُلُق،
لَيِّنَ الجانب، ليس بفظٍّ ولا غليظٍ ولا صخَّاب ولا فحَّاش ولا عيَّاب ..."
.
الحديث القدسي:
عرَّفنا معنى الحديث لغة, والقدسي:
نسبة إلى القدس، وهي نسبة تدل على التعظيم، لأن مادة الكلمة دالة على التنزيه
والتطهير في اللغة، فالتقديس: تنزيه الله تعالى، والتقديس: التطهير، وتقدَّس:
تطهَّر، قال الله تعالى على لسان ملائكته: {وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ
وَنُقَدِّسُ لَكَ} 1, أي نُطَهِّرُ أنفسنا لك.
والحديث القدسي في
الاصطلاح: هو ما يضيفه النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى الله تعالى، أي إن النبي
-صلى الله عليه وسلم- يرويه على أنه من كلام الله، فالرسول راوٍ لكلام الله
بلفظ من عنده، وإذا رواه أحد رواه عن رسول الله مُسْنَدًا إلى الله عز وجل،
فيقول: "قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيما يرويه عن ربه عز وجل...."
.
أو يقول: "قال رسول الله, صلى الله عليه وسلم: قال الله تعالى -
أو يقول الله تعالى ..." .
ومثال الأول: عن أبي هريرة رضي الله عنه
عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيما يرويه عن ربه عز وجل: "يد الله ملأى لا
يغيضها نفقة، سحَّاء الليل والنهار ..." 2.
ومثال الثاني: عن أبي
هريرة رضي الله عنه أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: يقول الله تعالى
"أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي،
وإن ذكرني في ملأٍ ذكرته في ملأٍ خير منه ..." 3.
1 البقرة: 30.
2
أخرجه البخاري.
3 أخرجه البخاري ومسلم.
الفرق بين القرآن
والحديث القدسي
هناك عدة فروق بين القرآن الكريم والحديث القدسي
أهمها:
1- أن القرآن الكريم كلام الله أَوْحَى به إلى رسول الله
بلفظه، وتحدى به العرب، فعجزوا عن أن يأتوا بمثله، أو بعشر سور مثله، أو بسورة
من مثله، ولا يزال التحدي به قائمًا، فهو معجزة خالدة إلى يوم الدين.
والحديث
القدسي لم يقع به التحدي والإعجاز.
2- والقرآن الكريم لا يُنْسَب
إلا إلى الله تعالى، فيقال: قال الله تعالى.
والحديث القدسي -كما
سبق- قد يُرْوَى مضافًا إلى الله وتكون النسبة إليه حينئذ نسبة إنشاء فيقال:
قال الله تعالى، أو: يقول الله تعالى، وقد يُرْوَى مضافًا إلى رسول الله -صلى
الله عليه وسلم- وتكون النسبة حينئذ نسبة إخبار لأنه عليه الصلاة والسلام هو
المُخْبِرُ به عن الله، فيقال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيما يرويه
عن ربه عز وجل.
3- والقرآن الكريم جميعه منقول بالتواتر، فهو قطعي
الثبوت، والأحاديث القدسية أكثرها أخبار آحاد، فهي ظنية الثبوت. وقد يكون
الحديث القدسي صحيحًا، وقد يكون حسنًا، وقد يكون ضعيفًا.
4- والقرآن
الكريم من عند الله لفظًا ومعنًى، فهو وحي باللفظ والمعنى.
والحديث
القدسي معناه من عند الله، ولفظه من عند الرسول -صلى الله عليه وسلم- على
الصحيح فهو وحي بالمعنى دون اللفظ، ولذا تجوز روايته بالمعنى عند جمهور
المحدِّثين.
5- والقرآن الكريم مُتَعَبَّدٌ بتلاوته، فهو الذي تتعين
القراءة به في الصلاة: {فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} 1, وقراءته
عبادة يُثيب الله عليها بما جاء في الحديث: "من قرأ حرفًا من كتاب الله تعالى
فله حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول" ألم "حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف،
وميم حرف" 2.
1 المزمل: 20.
2 رواه الترمذي عن ابن مسعود
وقال: حديث حسن صحيح.
والحديث القدسي لا يجزئ في الصلاة، ويثيب الله
على قراءته ثوابًا عامًّا، فلا يصدق فيه الثواب الذي ورد ذكره في الحديث على
قراءة القرآن، بكل حرف عشر حسنات.
الفرق بين الحديث القدسي والحديث
النبوي
الحديث النبوي قسمان:
"قسم توقيفي" وهو الذي تلقى
الرسول -صلى الله عليه وسلم- مضمونه من الوحي فبيَّنه للناس بكلامه، وهذا القسم
وإن كان مضمونه منسوبًا إلى الله فإنه -من حيث هو كلام- حَرِي بأن يُنسب إلى
الرسول -صلى الله عليه وسلم- لأن الكلام إنما يُنسب إلى قائله وإن كان ما فيه
من المعنى قد تلقاه عن غيره.
و "قسم توفيقي" وهو الذي استنبطه
الرسول -صلى الله عليه وسلم- من فهمه للقرآن، لأنه مبيِّن له، أو استنبطه
بالتأمل والاجتهاد. وهذا القسم الاستنباطي الاجتهادي يقره الوحي إذا كان
صوابًا، وإذا وقع فيه خطأ جزئي نزل الوحي بما فيه الصواب1 وليس هذا القسم كلام
الله قطعًا.
ويتبين من ذلك: أن الأحاديث النبوية بقسميها: التوقيفي،
والتوفيقي الاجتهادي الذي أقره الوحي، يمكن أن يقال فيها إن مردها جميعًا
بجملتها إلى الوحي، وهذا معنى قوله تعالى في رسولنا, صلى الله عليه وسلم:
{وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى, إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} 2..
والحديث
القدسي معناه من عند الله عز وجل، يُلْقَى إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم-
بكيفية من كيفيات الوحي -لا على التعيين- أما ألفاظه فمن عند الرسول -صلى الله
عليه وسلم- على
1 ومثاله ما كان في أسرى بدر، فإن رسول الله -صلى
الله عليه وسلم- أخذ برأي أبي بكر وقبل منهم الفداء، فنزل القرآن الكريم
معاتبًا له: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى} [الأنفال: 67]
.
2 النجم: 3، 4.
الراجح ونسبته إلى الله تعالى نسبة
لمضمونه لا نسبة لألفاظه، ولو كان لفظه من عند الله لما كان هناك فرق بينه وبين
القرآن، ولوقع التحدي بأسلوبه والتعبد بتلاوته.
ويرد على هذا
شبهتان!
الشبهة الأولى: أن الحديث النبوي وحي بالمعنى كذلك، واللفظ
من الرسول -صلى الله عليه وسلم- فلماذا لا نسميه قدسيًّا أيضًا؟
والجواب:
أننا نقطع في الحديث القدسي بنزول معناه من عند الله لورود النص الشرعي على
نسبته إلى الله بقوله, صلى الله عليه وسلم: "قال الله تعالى، أو يقول الله
تعالى" ولذا سميناه قدسيًّا، بخلاف الأحاديث النبوية فإنها لم يرد فيها مثل هذا
النص، ويجوز في كل واحد منها أن يكون مضمونه معلَّمًا بالوحي "أي توقيفيًّا"
وأن يكون مستنبطًا بالاجتهاد "أي توفيقيًّا" ولذا سمينا الكل نبويًّا وقوفًا
بالتسمية عند الحد المقطوع به، ولو كان لدينا ما يميز الوحي التوقيفي لسميناه
قدسيًّا كذلك.
الشبهة الثانية: أنه إذا كان لفظ الحديث القدسي من
الرسول -صلى الله عليه وسلم- فما وجه نسبته إلى الله بقوله, صلى الله عليه
وسلم: "قال الله تعالى، أو يقول الله تعالى" .
والجواب: أن هذا سائغ
في العربية، حيث ينسب الكلام باعتبار مضمونه لا باعتبار ألفاظه، فأنت تقول
حينما تنثر بيتًا من الشعر: يقول الشاعر كذا، وحينما تحكي ما سمعته من شخص:
يقول فلان كذا، وقد حكى القرآن الكريم عن موسى وفرعون وغيرهما مضمون كلامهم
بألفاظ غير ألفاظهم، وأسلوب غير أسلوبهم، ونسب ذلك إليهم: وَإِذْ نَادَى
رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ, قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلا
يَتَّقُونَ, قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ, وَيَضِيقُ صَدْرِي
وَلا يَنْطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ, وَلَهُمْ عَلَيَّ
ذَنْبٌ
فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ, قَالَ كَلَّا فَاذْهَبَا
بِآياتِنَا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ, فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولا
إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ, أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرائيلَ,
قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ
سِنِينَ, وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ,
قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ, فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ
لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ
الْمُرْسَلِينَ, وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي
إِسْرائيلَ, قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ, قَالَ رَبُّ
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ 1.
1
من ذهب إلى أن الحديث القدسي وحي باللفظ كذلك يجعل هذا فرقًا أساسيًّا بينه
وبين الحديث النبوي، ويبقى الفرق بينه وبين القرآن الكريم في عدم التحدي وعدم
الإعجاز وعدم التعبد بتلاوته وعدم التواتر في معظمه "والآيات من سورة الشعراء:
10، 24" .
3- الوحي:
إمكانية الوحي ووقوعه
ازدهرت الحياة العلمية وبددت أشعتها كل ريبة
كانت تساور الناس إلى عهد قريب فيما وراء المادة من روح، وآمن العلم المادي
الذي وضع جل الكائنات تحت التجربة والاختبار بأن هناك عالمًا غيبيًّا وراء هذا
العالمَ المشاهَد، وأن عالَم الغيب أدق وأعمق من عالَم الشهادة، وأكثر
المخترعات الحديثة التي أخذت بألباب الناس تحجب وراءها هذا السر الخفي الذي عجز
العلم عن إدراك كنهه وإن لاحظ آثاره ومظاهره، وقَرَّبَ هذا بُعْدَ الشقة بين
التنكر للأديان والإيمان بها مصداقًا لقوله تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي
الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} 1،
وقوله: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} 2..
فالبحوث
النفسية الروحية لها في مضمار العلم الآن مكانتها، ويساندها ويُقرِّبها إلى
الأفهام تفاوت الناس في مداركهم وميولهم وغرائزهم، فمن العقولِ العبقريُّ الفذ
الذي يبتكر كل جديد، ومنها الغبي الذي يستعصي عليه إدراك بديهي الأمور، وبين
المنزلتين درجات. والنفوس كذلك، منها الصافي المشرق، والخبيث المعتم.
وجسم
الإنسان يطوي وراءه روحًا هي سر حياته، وإذا كان الجسم تبلى ذرَّاته وتفنى
أنسجته وخلاياه ما لم يتناول قسطه من الغذاء، فجدير بالروح أن يكون لها غذاء
يمدها بالطاقة الروحية كي تحتفظ بمقوماتها وقيمها.
وليس ببعيد على
الله تعالى أن يختار من عباده نفوسًا لها من نقاء الجوهر وسلامة الفطرة ما
يعدها للفيض الإلهي، والوحي السماوي، والاتصال بالملأ
1 فصلت:
53.
2 الإسراء: 85.
الأعلى، ليُلقي إليها برسالاته التي
تسد حاجة البشر في رقي وجدانه، وسمو أخلاقه، واستقامة نظامه، وهؤلاء هم رسله
وأنبياؤه.
ولا غرابة في أن يكون هذا الاتصال بالوحي السماوي.
فالناس
اليوم يشاهدون التنويم المغناطيسي، وهو يوضح لهم أن اتصال النفس الإنسانية بقوة
أعلى منها يُحدث أثرًا يُقرِّب إلى الأفهام ظاهرة الوحي؛ حيث يستطيع الرجل
القوي الإرادة أن يتسلط بإرادته على من هو أضعف منه فينام نومًا عميقًا، ويكون
رهن إشارته، ويُلَقِّنه ما يريد فيجري على قلبه ولسانه، وإذا كان هذا فعل
الإنسان بالإنسان فما ظنك بمن هو أشد منه قوة؟ 1.
ويسمع الناس
الأحاديث المسجلة التي تحملها اليوم موجات الأثير، عابرة الوهاد والنجاد،
والسهول والبحار، دون رؤية ذويها، بل بعد وفاتهم.
وأصبح الرجلان
يتخاطبان في الهاتف، أحدهما في أقصى المشرق، والآخر في أقصى المغرب، وقد
يتراءيان مع هذا التخاطب، ولا يسمع الجالسون بجانبهما شيئًا سوى أزيز كدوي
النحل الذي في صفة الوحي.
ومَن منا ليس له حديث نفس في يقظته أو
منامه يدور في خلده دون أن يرى متكلمًا أمامه؟
هذه وغيرها أمثلة
تفسر لعقولنا حقيقة الوحي.
وقد شاهد الوحي معاصروه، ونُقِلَ
بالتواتر المستوفي لشروطه بما يفيد العلم القطعي إلى الأجيال اللاحقة، ولمست
الإنسانية أثره في حضارة أمته، وقوة أتباعه، وعزتهم ما استمسكوا به وانهيار
كيانهم وخذلانهم ما فرَّطوا في جنبه، مما لا يدع مجالًا للشك في إمكان الوحي
وثبوته. وضرورة العودة إلى الاهتداء به إطفاء للظمأ النفسي بِمُثُلِهِ العليا،
وقيمه الروحية.
1 انظر النبأ العظيم ص75.
ولم يكن رسولنا
-صلى الله عليه وسلم- أول رسول أُوحِيَ إليه، بل أَوْحَى الله تعالى إلى الرسل
قبله بمثل ما أَوْحَى إليه: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا
إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ
وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ
وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا, وَرُسُلًا
قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ
وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} 1..
فليس هناك في نزول الوحي
على محمد -صلى الله عليه وسلم- ما يدعو إلى العجب، ولذا أنكر الله على العقلاء
هذا في قوله: {أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ
مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ
قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ
مُبِينٌ} 2..
1 النساء: 163، 164.
2 يونس: 2.
معنى
الوحي
يقال: وحيت إليه وأوحيت: إذا كلَّمته بما تخفيه عن غيره،
والوحي: الإشارة السريعة، وذلك يكون بالكلام على سبيل الرمز والتعريض، وقد يكون
بصوت مجرد، وبإشارة ببعض الجوارح.
والوحي مصدر، ومادة الكلمة تدل
على معنيين أصليين، هما: الخفاء والسرعة، ولذا قيل في معناه: الإعلام الخفي
السريع الخاص بمن يوجَّه إليه بحيث يخفى على غيره، وهذا معنى المصدر، ويُطلق
ويُراد به الوحي، أي بمعنى اسم المفعول. والوحي بمعناه اللغوي يتناول:
1-
الإلهام الفطري للإنسان، كالوحي إلى أُم موسى {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ
مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ} 1..
1 القصص: 7.
2- والإلهام
الغريزي للحيوان، كالوحي إلى النحل {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ
اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ}
1.
3- والإشارة السريعة على سبيل الرمز والإيحاء كإيحاء زكريا فيما
حكاه القرآن عنه: {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى
إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا} 2..
4- ووسوسة
الشيطان وتزيينه الشر في نفس الإنسان: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى
أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ} 3، {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ
عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ
زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا} 4..
5- وما يُلقيه الله إلى ملائكته
من أمر ليفعلوه: {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ
فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا} 5..
ولغة القرآن الفاشية "أوحى"
بالألف -ولم يستعمل مصدرها- وإنما جاء فيه مصدر الثلاثي: {إِنْ هُوَ إِلَّا
وَحْيٌ يُوحَى} 6..
ووحي الله إلى أنبيائه قد عرَّفوه شرعًا بأنه:
كلام الله تعالى المُنَزَّلُ على نبي من أنبيائه. وهو تعريف له بمعنى اسم
المفعول أي الموحى.
والوحي بالمعنى المصدري اصطلاحًا: هو إعلام الله
تعالى مَن يصطفيه من عباده ما أراد من هداية بطريقة خفية سريعة.
وعرَّفه
الأستاذ محمد عبده في رسالة التوحيد بأنه:
"عرفان يجده الشخص من
نفسه مع اليقين بأنه من قِبَلِ الله بواسطة أو بغير واسطة، والأول بصوت يتمثل
لسمعه أو بغير صوت. ويُفَرَّقُ بينه وبين الإلهام"
1 النحل: 68.
2
مريم: 11.
3 الأنعام: 121.
4 الأنعام: 112.
5
الأنفال: 12.
6 النجم: 4.
بأن الإلهام: وجدان تستيقنه
النفس فتنساق إلى ما يُطلب على غير شعور منها من أين أتى؟ وهو أشبه بوجدان
الجوع والعطش والحزن والسرور "1."
وهو تعريف للوحي بالمعنى المصدري،
وبدايته وإن كانت توهم شبهه بحديث النفس أو الكشف، إلا أن الفرق بينه وبين
الإلهام الذي جاء في عجز التعريف ينفي هذا.
1 انظر كتاب: الوحي
المحمدي، للشيخ محمد رشيد رضا، ص44.
كيفية وحي الله إلى ملائكته:
1-
جاء في القرآن الكريم ما ينص على كلام الله لملائكته: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ
لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ
فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا} 1.
وعلى إيحائه إليهم: {إِذْ يُوحِي
رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا}
2.
وعلى قيامهم بتدبير شئون الكون حسب أمره: {فَالْمُقَسِّمَاتِ
أَمْرًا} 3، {فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا} 4.
وهذه النصوص متآزرة تدل
على أن الله يُكَلِّمُ الملائكة دون واسطة بكلام يفهمونه.
ويؤيد هذا
ما جاء في الحديث عن النوَّاس بن سمعان رضي الله عنه قال: قال رسول الله, صلى
الله عليه وسلم: "إذا أراد الله تعالى أن يوحي بالأمر تكلم بالوحي، أخذت
السموات منه رجفة -أو قال: رعدة- شديدة خوفًا من الله عز وجل، فإذا سمع ذلك أهل
السموات صعقوا وخرُّوا لله سجَّدًا، فيكون أول من يرفع رأسه جبريل،
فيُكَلِّمُهُ الله من وحيه بما أراد، ثم يمر جبريل على الملائكة، كلما مر"
1
البقرة: 30.
2 الأنفال: 12.
3 الذاريات: 4.
4
النازعات: 5.
بسماء سأله ملائكتها: ماذا قال ربنا يا جبريل؟ فيقول
جبريل: "قال الحق وهو العلي الكبير" فيقولون كلهم مثل ما قال جبريل، فينتهي
جبريل بالوحي إلى حيث أمره الله عز وجل "1."
فهذا الحديث يبين أن
كيفية الوحي تكلم من الله، وسماع من الملائكة، وهول شديد لأثره، وإذا كان ظاهره
-في مرور جبريل وانتهائه بالوحي- يدل على أن ذلك خاص بالقرآن فإن صدره يبين
كيفية عامة، وأصله في الصحيح: "إذا قضى الله الأمر في السماء ضرب الملائكة
بأجنحتها خضعانا لقوله كأنه سلسلة على صفوان" ..
2- وثبت أن القرآن
الكريم كُتِبَ في اللَّوح المحفوظ لقوله تعالى: {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ,
فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} 2.
كما ثبت إنزاله جملة إلى بيت العزة من
السماء الدنيا في ليلة القدر من شهر رمضان: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ
الْقَدْرِ} 3، {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ} 4، {شَهْرُ
رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} 5..
وفي السٌّنَّة ما
يوضح هذا النزول، ويدل على أنه غير النزول الذي كان على قلب رسول الله -صلى
الله عليه وسلم- فعن ابن عباس موقوفًا: "أُنزل القرآن جملة واحدة إلى السماء
الدنيا ليلة القدر، ثم أُنزل بعد ذلك بعشرين سنة ثم قرأ: {وَلا يَأْتُونَكَ
بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا} 6، {وَقُرْآنًا
فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ
تَنْزِيلًا} 7، 8، وفي رواية:" فُصِلَ القرآن من الذكر فوُضِعَ في بيت العزة من
السماء الدنيا فجعل جبريل ينزل به على النبي, صلى الله عليه وسلم "9."
1
أخرجه الطبراني.
2 البروج: 21، 22.
3 القدر: 1.
4
الدخان: 3.
5 البقرة: 185.
6 الفرقان: 33.
7
الإسراء: 106.
8 أخرجه الحاكم والبيهقي والنَّسائي.
9
أخرجه الحاكم وابن أبي شيبة.
ولذلك ذهب العلماء في كيفية وحي الله
إلى جبريل بالقرآن إلى المذاهب الآتية:
أ- أن جبريل تلقفه سماعًا من
الله بلفظه المخصوص.
ب- أن جبريل حفظه من اللَّوح المحفوظ.
جـ-
أن جبريل أُلقي إليه المعنى - والألفاظ لجبريل، أو لمحمد, صلى الله عليه
وسلم.
والرأي الأول هو الصواب، وهو ما عليه أهل السٌّنَّة والجماعة،
ويؤيده حديث النوَّاس بن سمعان السابق.
ونسبة القرآن إلى الله في
أكثر من آية: {وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ}
1..
{وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ
حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} 2.. {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا
بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ
هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ
نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ} 3.
فالقرآن
الكريم كلام الله بألفاظه لا كلام جبريل أو محمد.
أما الرأي الثاني
فلا اعتبار له، إذ إن ثبوت القرآن في اللَّّوح المحفوظ كثبوت سائر المغيبات
التي لا يخرج القرآن عن أن يكون من جملتها.
والرأي الثالث أنسب
بالسٌّنَّة لأنها وحي من الله أُوحي إلى جبريل، ثم إلى محمد -صلى الله عليه
وسلم- بالمعنى، فعبَّر عنه رسول الله بعبارته: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى,
إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} 4.. ولذا جازت رواية السٌّنَّة بالمعنى لعارف
بما لا يحيل المعاني دون القرآن..
1 النمل: 6.
2 التوبة:
6.
3 يونس: 15.
4 النجم: 3، 4.
ويُجاب على من
قال: إنه كلام جبريل، بأن هذا قول فاسد لوجوه:
أحدها: أن المسلمين
أجمعين إذا تلوا آية قالوا: قال الله تعالى، ولو كان هذا قول جبريل لقالوا: قال
جبريل.
الثاني: أن هذا الذي بين دفتي المصحف بإجماع المسلمين هو
كتاب الله، وعلى قولهم فإنه يكون كتاب جبريل.
الثالث: أن الله تعالى
قال: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} 1. وعلى قولهم،
ما نزَّله من ربك، إنما نزَّله من كلام نفسه.
الرابع: أن الله تعالى
قال: {فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ} 2، وقال: {وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ
مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ} 3.. وعلى قولهم لا يكون هذا صحيحًا،
وإنما يكون المسموع كلام جبريل.
ويُجاب على من قال: إنه كلام محمد
بأن هذا باطل لتلك الوجوه الآنفة الذكر كلها. ومن وجه آخر، فإنهم وافقوا الوليد
بن المغيرة في قوله: {إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ} 4.. فدخلوا معه في
الوعيد بقوله تعالى: {سَاُصْلِيهِ سَقَرَ} 5..
ويرد عليهم من الجواب
ما أجاب الله تعالى به المشركين بقوله سبحانه: {أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ
بَلْ لَا يُؤْمِنُونَ, فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا
صَادِقِينَ} 6..
وسبق أن ذكرنا الفرق بين القرآن والحديث القدسي
والحديث النبوي.
فمن خصائص القرآن:
1- أنه مُعْجِز.
2-
قطعي الثبوت.
3- يُتَعَبَّدُ بتلاوته.
4- ويجب أداؤه
بلفظه، والحديث القدسي -على القول بنزول لفظه- ليس كذلك.
1 النحل:
102.
2 التوبة: 6.
3 البقرة: 75.
4 المدثر:
25.
5 المدثر: 26.
6 الطور: 33، 34.
والحديث
النبوي قسمان: الأول: ما اجتهد فيه الرسول -صلى الله عليه وسلم- وهذا ليس وحيًا
ويكون إقرار الوحي له بسكوته إذا كان صوابًا.
والثاني: ما أُوحِيَ
إليه بمعناه واللَّفظ لرسول الله، ولذا يجوز روايته بالمعنى. والحديث القدسي
-على القول الراجح بنزول معناه دون لفظه- يكون من هذا القسم ونسبته إلى الله في
الرواية لورود النص الشرعي على ذلك دون الأحاديث النبوية.
كيفية وحي
اللله إلى رسله
كيفية وحي الله إلى رسله
يوحي الله إلى
رسله بواسطة وبغير واسطة.
فالأول: بواسطة جبريل مَلك الوحي وسيأتي
بيانه.
والثاني: هو الذي لا واسطة فيه.
أ- منه الرؤيا
الصالحة في المنام: فعن عائشة رضي الله عنها قالت: "أول ما بُدِئَ به -صلى الله
عليه وسلم- الرؤيا الصالحة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح"
1. وكان ذلك تهيئة لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى ينزل عليه الوحي يقظة
وليس في القرآن شيء من هذا النوع لأنه نزل جميعه يقظة، خلافًا لمن ادَّعى نزول
سورة "الكوثر" منامًا للحديث الوارد فيها، ففي صحيح مسلم عن أنس, رضي الله عنه:
"بينما رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ذات يوم بين أظهرنا في المسجد إذ أغفى
إغفاءة ثم رفع رأسه مبتسمًا فقلت: ما أضحكك يا رسول الله؟ فقال:" نزلت عليَّ
آنفًا سورة "، فقرأ: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ, إِنَّا
أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ, فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ, إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ
الْأَبْتَرُ} 2.. فلعل الإغفاء هذه هي الحالة التي كانت تعتريه عند الوحي."
1
متفق عليه.
2 سورة الكوثر.
ومما يدل على أن الرؤية
الصالحة للأنبياء في المنام وحي يجب اتباعه ما جاء في قصة إبراهيم من رؤيا ذبحه
لولده إسماعيل1: {فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ, فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ
السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ
فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي
إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ, فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ
لِلْجَبِينِ, وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ, قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا
إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ, إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ
الْمُبِينُ, وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ, وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي
الْآخِرِينَ, سَلامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ, كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ,
إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ, وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا
مِنَ الصَّالِحِينَ} 2.. ولو لم تكن هذه الرؤيا وحيًا يجب اتباعه لما أقدم
إبراهيم عليه السلام على ذبح ولده لولا أن منَّ الله عليه بالفداء.
الرؤيا
الصالحة ليست خاصة بالرسول، فهي باقية للمؤمنين، وإن لم تكن وحيًا، قال عليه
الصلاة والسلام: "انقطع الوحي وبقيت المبشرات، رؤيا المؤمن" 3.
والرؤيا
الصالحة في المنام للأنبياء هي القسم الأول من أقسام التكليم الإلهي المذكور في
قوله تعالى:
{وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا
وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ
بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ} 4.
ب- ومنه الكلام
الإلهي من وراء حجاب بدون واسطة يقظة، وهو ثابت لموسى عليه السلام {وَلَمَّا
جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ
إِلَيْكَ} 5، {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} 6.
1 هذا هو
الصواب، خلافًا لمن ذهب إلى أنه إسحاق، فإن البشارة كانت أولًا بإسماعيل قبل
إسحاق، وإسماعيل هو الذي نشأ في الجزيرة العربية حيث كانت قصة الذبح، وهو الحري
بأن يوصف بالحلم، وقد ذهب اليهود إلى أنه "إسحاق" حقدًا وحسدًا، لأنه أبوهم،
وإسماعيل أبو العرب، والقرآن يرده لأنه لما ذكر البشارة بغلام حليم ذكر أنه
الذبيح ثم قال بعد ذلك: {وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ
الصَّالِحِينَ} [الصافات: 112] .
2 الصافات: 101، 122.
3
أصل الحديث في الصحيحين وغيرهما، ولفظ البخاري: "لم يبق من النبوة إلا
المبشرات" قالوا: وما المبشرات؟ قال: "الرؤيا الصالحة" .
4 الشورى:
51.
5 الأعراف: 143.
6 النساء: 164.
كما ثبت
التكلم على الأصح لرسولنا -صلى الله عليه وسلم- ليلة الإسراء والمعراج.
وهذا
النوع هو القسم الثاني المذكور في الآية: {أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} وليس في
القرآن شيء منه كذلك.
كيفية وحي المَلَكِ إلى الرسول:
وحي
الله إلى أنبيائه إما أن يكون بغير واسطة، وهو ما ذكرناه آنفًا. وكان منه
الرؤيا الصالحة في المنام، والكلام الإلهي من وراء حجاب يقظة، وإما أن يكون
بواسطة مَلَك الوحي وهو الذي يعنينا في هذا الموضوع لأن القرآن الكريم نزل
به.
ولا تخلو كيفية وحي المَلَكِ إلى الرسول من إحدى حالتين:
الحالة
الأولى: وهي أشد على الرسول، أن يأتيه مثل صلصلة الجرس، والصوت القوي يثير
عوامل الانتباه فتُهَيَّأ النفس بكل قواها لقبول أثره، فإذا نزل الوحي بهذه
الصورة على الرسول -صلى الله عليه وسلم- نزل عليه وهو مستجمع القوى الإدراكية
لتلقيه وحفظه وفهمه، وقد يكون هذا الصوت حفيف أجنحة الملائكة المشار إليه في
الحديث: "إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانًا لقوله
كالسلسلة على صفوان" 1 وقد يكون صوت المَلَكِ نفسه في أول سماع الرسول له.
والحالة
الثانية: أن يتمثل له المَلَكُ رجلًا ويأتيه في صورة بشر، وهذه الحالة أخف من
سابقتها، حيث يكون التناسب بين المتكلم والسامع، ويأنس رسول النبوَّة عند سماعه
من رسول الوحي، ويطمئن إليه اطمئنان الإنسان لأخيه الإنسان.
والهيئة
التي يظهر فيها جبريل بصورة رجل لا يتحتم فيها أن يتجرد من
1 رواه
البخاري.
روحانيته، ولا يعني أن ذاته انقلبت رجلًا، بل المراد أنه
يظهر بتلك الصورة البشرية أُنْسًا للرسول البشري، ولا شك أن الحالة الأولى
-حالة الصلصلة- لا يوجد فيها هذا الإيناس، وهي تحتاج إلى سمو روحي من رسول الله
يتناسب مع روحانية المَلَكِ فكانت أشد الحالتين عليه، لأنها كما قال ابن خلدون:
"انسلاخ من البشرية الجسمانية واتصال بالمَلَكِيَّةِ الروحانية، والحالة الأخرى
عكسها لأنها انتقال المَلَكِ من الروحانية المحضة إلى البشرية الجسمانية" .
وكلتا
الحالتين مذكور فيما رُوِيَ عن عائشة أم المؤمنين -رضي الله عنها- أن الحارث بن
هشام رضي الله عنه سأل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: "يا رسول الله..
كيف يأتيك الوحي؟ فقال رسول الله, صلى الله عليه وسلم:" أحيانًا يأتيني مثل
صلصلة الجرس، وهو أشد عليَّ، فيفصم عني وقد وعيت عنه ما قال، وأحيانًا يتمثل لي
المَلَكُ رجلًا فيكلمني فأعي ما يقول "."
وروت عائشة رضي الله عنها
ما كان يصيب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من شدة فقالت: "ولقد رأيته ينزل
عليه الوحي في اليوم الشديد البرد فيفصم عنه وإن جبينه ليتفصد عرقًا" 1.
والحالتان
هما القسم الثالث من أقسام التكليم الإلهي المشار إليه في الآية: وَمَا كَانَ
لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ
1- إِلَّا وَحْيًا
2-
أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ
3- أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ
بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ 2..
أما النفث في
الرُّوع -أي القلب- فقد ذُكِرَ في قول الرسول, صلى الله عليه وسلم: "إن روح
القدس نفث في روعي أنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها وأجلها، فاتقوا الله
وأجمِلوا في الطلب" 3. والحديث لا يدل على أنه حالة مستقلة,
1 رواه
البخاري.
2 الشورى: 51.
3 رواه أبو نعيم في الحلية بسند
صحيح.
فيحتمل أن يرجع إلى إحدى الحالتين المذكورتين في حديث عائشة،
فيأتيه المَلَكُ في مثل الصلصلة وينفث في روعه، أو يتمثل له رجلًا وينفث في
روعه، وربما كانت حالة النفث فيما سوى القرآن الكريم.
شُبَهُ
الجاحدين على الوحي:
وقد حرص الجاهليون قديمًا وحديثًا على إثارة
الشُّبَهِ في الوحي عتوًّا واستكبارًا، وهي شُبَهٌ واهية مردودة.
1-
زعموا أن القرآن الكريم من عند محمد صلى الله عليه وسلم ابتكر معانيه، وصاغ
أسلوبه، وليس وحيًا يُوحَى.
وهذا زعم باطل، فإنه عليه الصلاة
والسلام إذا كان يدَّعي لنفسه الزعامة ويتحدى الناس بالمعجزات لتأييد زعامته
فلا مصلحة له في أن ينسب ما يتحدى به الناس إلى غيره، وكان في استطاعته أن ينسب
القرآن لنفسه، ويكون ذلك كافيًا لرفعة شأنه، والتسليم بزعامته، ما دام العرب
جميعًا على فصاحتهم قد عجزوا عن معارضته، بل ربما كان هذا أدعى للتسليم المطلق
بزعامته لأنه واحد منهم أتى بمالم يستطيعوه.
ولا يقال إنه أراد
بنسبة القرآن إلى الوحي الإلهي أن يجعل لكلامه حرمة تفوق كلامه حتى يستعين بهذا
على استجابة الناس لطاعته وإنفاذ أوامره، فإنه صدر عنه كلام نسبه لنفسه فيما
يسمى بالحديث النبوي ولم ينقص ذلك من لزوم طاعته شيئًا، ولو كان الأمر كما
يتوهمون لجعل كل أقواله من كلام الله تعالى.
وهذا الادعاء يفترض في
رسول الله أنه كان من أولئك الزعماء الذين يعبرون الطريق في الوصول إلى غايتهم
على قنطرة من الكذب والتمويه، وهو افتراض يأباه الواقع التاريخي في سيرته عليه
الصلاة والسلام، وما اشتهر به من صدق وأمانة شهد له بهما أعداؤه قبل
أصدقائه.
لقد اتهم المنافقون زوجه عائشة بحديث الإفك، وهي أحب
زوجاته إليه، واتهامها يمس كرامته وشرفه، وأبطأ الوحي، وتحرَّج الرسول -صلى
الله عليه وسلم- وتحرَّج صحابته معه حتى بلغت القلوب الحناجر، وبذل جهده في
التحري والاستشارة، ومضى شهر بأكمله، ولم يزد على أنه قال لها آخر الأمر: "أما
إنه بلغني كذا وكذا، فإن كنتِ بريئة فيسيبرِّئك الله، وإن كنت ألممت بذنب
فاستغفري الله" 1, وظل هكذا إلى أن نزل الوحي ببراءتها، فماذا كان يمنعه لو أن
القرآن كلامه من أن يقول كلامًا يقطع به ألسنة المتخرصين، ويحمي عرضه؟ ولكنه ما
كان ليذر الكذب على الناس، ويكذب على الله: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ
الْأَقَاوِيلِ, لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ, ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ
الْوَتِينَ, فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} 2.
واستأذن
جماعة في التخلف عن غزوة تبوك وأبدوا أعذارًا، وكان منهم مَن انتحل هذه الأعذار
من المنافقين وأذن لهم، فنزل القرآن الكريم معاتبًا له لخطأ رأيه: {عَفَا
اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ
صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ} 3. ولو كان هذا العتاب صادرًا عن وجدانه
تعبيرًا عن ندمه حين تبين له فساد رأيه لما أعلنه عن نفسه بهذا التعنيف الشديد
والعتاب القاسي.
ونظير هذا معاتبته -صلى الله عليه وسلم- في قبول
الفداء من أسرى بدر: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى
يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ
الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ, لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ
لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} 4. ومعاتبته في توليه عن عبد
الله بن أم مكتوم الأعمى -رضي الله عنه- اهتمامًا بنفر من أكابر قريش في دعوتهم
إلى الإسلام: عَبَسَ وَتَوَلَّى, أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى, وَمَا يُدْرِيكَ
لَعَلَّهُ يَزَّكَّى, أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ
1 راجع حديث
الإفك في الصحيحين وفي غيرهما، وتفسير القصة في سورة النور.
2
الحاقة: 44-47.
3 التوبة: 43.
4 الأنفال: 67، 68.
الذِّكْرَى,
أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى, فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى, وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا
يَزَّكَّى, وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى, وَهُوَ يَخْشَى, فَأَنْتَ عَنْهُ
تَلَهَّى, كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ 1..
والمعهود في سيرته -صلى
الله عليه وسلم- أنه كان منذ نعومة أظفاره مثلًا فريدًا في حسن الخُلُق، وكريم
السجايا، وصدق اللَّهجة، وإخلاص القول والعمل، وقد شهد له بهذا قومه عندما
دعاهم في مطلع الدعوة وقال لهم: "أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلًا بظهر هذا الوادي
تريد أن تُغير عليكم أكنتم مُصَدِّقِيَّ؟" قالوا: نعم، ما جرَّبنا عليك كذبًا
"2. وكانت سيرته العطرة مهوى أفئدة الناس إليه للدخول في الإسلام، عن عبد الله
بن سلام رضي الله عنه قال:" لما قَدِمَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
المدينة، انجفل الناس إليه، وقيل: قَدِمَ رسول الله، قَدِمَ رسول الله، فجئتُ
في الناس لأنظر إليه فلما استثبت وجه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عرفت أن
وجهه ليس بوجه كذَّاب "3."
وصاحب هذه الصفات العظيمة التي
يُتَوِّجها الصدق ما ينبغي لأحد أن يمتري في قوله حينما أعلن نفسه بأنه ليس
واضع ذلك الكتاب: {قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ
نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ} 4.
2- وزعم
الجاهليون قديمًا وحديثًا أنه عليه الصلاة والسلام كان له من حدة الذكاء، ونفاذ
البصيرة، وقوة الفراسة، وشدة الفطنة، وصفاء النفس، وصدق التأمل، ما يجعله يدرك
مقاييس الخير والشر، والحق والباطل، بالإلهام، ويتعرف على خفايا الأمور بالكشف
والوحي النفسي، ولا يخرج القرآن عن أن يكون أثرًا للاستنباط العقلي، والإدراك
الوجداني عبر عنه محمد بأسلوبه وبيانه.
وأي شيء في القرآن يعتمد على
الذكاء والاستنباط والشعور؟
فالجانب الإخباري -وهو قسم كبير من
القرآن- لا يماري عاقل في أنه لا يعتمد إلا على التلقي والتعلم.
1
عبس: 1-11.
2 رواه البخاري ومسلم.
3 رواه الترمذي بسند
صحيح.
4 يونس: 15.
لقد ذكر القرآن أنباء من سبق من الأمم
والجماعات والأنبياء والأحداث التاريخية بوقائعها الصحيحة الدقيقة كما يذكر
شاهد العيان مع طول الزمن الذي يضرب في أغوار التاريخ إلى نشأة الكون الأولى
بما لا يدع مجالًا لإعمال الفكر ودقة الفراسة، ولم يعاصر محمد -صلى الله عليه
وسلم- تلك الأمم وهذه الأحداث في قرونها المختلفة حتى يشهد وقائعها وينقل
أنباءها، كما لم يتوارث كتبها ليدرس دقائقها ويروي أخبارها: {وَمَا كُنْتَ
بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ وَمَا كُنْتَ
مِنَ الشَّاهِدِينَ, وَلَكِنَّا أَنْشَأْنَا قُرُونًا فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ
الْعُمُرُ وَمَا كُنْتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ
آيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ} 1.. {تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ
الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ
مِنْ قَبْلِ هَذَا} 2.. {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا
أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ
الْغَافِلِينَ} 3.. {وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ
أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ} 4..
ومنها أنباء دقيقة تتناول الأرقام
الحسابية التي لا يعلمها إلا الدارس البصير، ففي قصة نوح: {وَلَقَدْ
أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا
خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ} 5. وهذا موافق
لما جاء في سفر التكوين من التوراة. وفي قصة أصحاب الكهف: {وَلَبِثُوا فِي
كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا} 6.. وهي عند أهل
الكتاب ثلاثمائة سنة شمسية، والسنون التسع هي فرق ما بين عدد السنين الشمسية
والقمرية.
فمن أين أتى محمد -صلى الله عليه وسلم- بهذه الدقائق
الصحيحة لو لم يكن يُوحى إليه وهو الرجل الأمي الذي عاش في أمة أمية لا تكتب
ولا تحسب؟
وقد كان أهل الجاهلية الأولى أذكى من ملاحدة الجاهلية
المعاصرة، فإن
1 القصص: 44، 45.
2 هود: 49.
3
يوسف: 3.
4 آل عمران: 44.
5 العنكبوت: 14.
6
الكهف: 25.
أولئك لم يقولوا إن محمدًا استقى هذه الأخبار من وحي
نفسه كما يقول هؤلاء، بل قالوا إنه درسها وأُمليت عليه {وَقَالُوا أَسَاطِيرُ
الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} 1.
ولم يتلق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- درسًا على معلم قط -كما سيأتي- فمن
أين جاءته هذه الأنباء فجأة بعد أن بلغ الأربعين؟ {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ
يُوحَى} 2..
هذا في الجانب الإخباري.
أما في سائر العلوم
التي تضمنها القرآن فإن قسم العقائد يتناول كذلك أمورًا تفصيلية عن بدء الخلق
ونهايته، والحياة الآخرة وما فيها من الجنة ونعيمها، والنار وعذابها، وما يتبع
ذلك من الملائكة وأوصافهم ووظائفهم - وهذه معلومات لا مجال فيها لذكاء العقل
وقوة الفراسة البتة: {وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً
وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا
لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا
إِيمَانًا} 3.. {وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ
اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لا
رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} 4..
ناهيك بما تضمنه القرآن
من أحكام قاطعة عن أخبار المستقبل التي تجري على سُنن الله الاجتماعية، في
القوة والضعف، والصعود والهبوط، والعزة والذلة، والبناء والدمار: {وَعَدَ
اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ
لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ
قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ
وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا
يُشْرِكُونَ بِي شيئًا} 5، {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ
اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ, الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ
أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا
عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} 6
1 الفرقان:
5.
2 النجم: 4.
3 المدثر: 31.
4 يونس: 37.
5
النور: 55.
6 الحج: 40، 41.
{ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ
لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا
مَا بِأَنْفُسِهِمْ} 1..
أضف إلى هذا أن القرآن الكريم قد حكى عن
رسول الله اتباعه للوحي: {وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قَالُوا لَوْلا
اجْتَبَيْتَهَا قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي} 2.
وأنه بشر لا يعلم الغيب ولا يملك من أمر نفسه شيئًا {قُلْ إِنَّمَا أَنَا
بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} 3.
{قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ
وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا
مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ} 4.
وقد
كان عليه الصلاة والسلام عاجزًا عن إدراك حقيقة ما وقع بين خصمين شاهدين أمامه
ليقضي بينهما وهو يسمع أقوالهما فهو بلا شك أشد عجزًا عن إدراك ما فات وما هو
آت: سمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خصومة بباب حجرته فخرج إليهم فقال:
"إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إلي، فلعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فأحسب
أنه صدق، فأقضي له بذلك، فمن قضيت له بحق مسلم فإنما هي قطعة من النار،
فليأخذها أو ليتركها" 5.
قال الدكتور محمد عبد الله دراز: "هذا
الرأي هو الذي يروجه الملحدون اليوم باسم" الوحي النفسي "زاعمين أنهم بهذه
التسمية قد جاءونا برأي علمي جديد، وما هو بجديد، وإنما هو الرأي الجاهلي
القديم، لا يختلف عنه في جملته ولا في تفصيله، فقد صوَّروا النبي -صلى الله
عليه وسلم- رجلًا ذا خيال واسع وإحساس عميق فهو إذن شاعر، ثم زادوا فجعلوا
وجدانه يطغى كثيرًا على حواسه حتى يُخيل إليه أنه يرى ويسمع شخصًا يكلمه، وما
ذاك الذي يراه ويسمعه إلا صورة أخيلته ووجداناته فهو إذن الجنون أو أضغاث
الأحلام، على أنهم لم"
1 الأنفال: 53.
2 الأعراف:
203.
3 الكهف: 110.
4 الأعراف: 188.
5 رواه
البخاري ومسلم وأصحاب السُّنَن.
يطيقوا الثبات طويلًا على هذه
التعليلات، فقد اضطروا أن يهجروا كلمة "الوحي النفسي" حينما بدا لهم في القرآن
جانب الأخبار الماضية والمستقبلة، فقالوا: لعله تلقفها من أفواه العلماء في
أسفاره للتجارة، فهو إذن قد علمه بشر, فأي جديد ترى في هذا كله؟ أليس كله
حديثًا معادًا يضاهون به قول جهال قريش؟ وهكذا كان الإلحاد في ثوبه الجديد صورة
منتسخة، بل ممسوخة منه في أقدم أثوابه، وكان غذاء هذه الأفكار المتحضرة في
العصر الحديث مستمدًا من فتات الموائد التي تركتها تلك القلوب المتحجرة في عصور
الجاهلية الأولى: {كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ
تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ} 1..
وإن تعجب فعجب قولهم مع هذا كله إنه
كان صادقًا أميناً، وإنه كان معذورًا في نسبة رؤاه إلى الوحي الإلهي، لأن
أحلامه القوية صورتها له وحيًا إلهيًّا، فما شهد إلا بما علم، وهكذا حكى الله
لنا عن أسلافهم حيث يقول: {فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ
الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} 2.. فإن كان هذا عذره في تصوير
رؤاه وسماعه فما عذره في دعواه أنه لم يكن يعلم تلك الأنباء لا هو ولا قومه من
قبل هذا، بينما هو قد سمعها -بزعمهم من قبل- فليقولوا إذن إنه افتراه ليتم لهم
بذلك محاكاة كل الأقاويل، ولكنهم لا يريدون أن يقولوا هذه الكلمة لأنهم يدعون
الإنصاف والتعقل، ألا فقد قالوها من حيث لا يشعرون "3."
3- وزعم
الجاهليون قديمًا وحديثًا أن محمدًا قد تلقى العلوم القرآنية على يد معلم.
وهذا
حق، إلا أن المعلم الذي تلقى عنه القرآن هو مَلَك الوحي، أما أن يكون له معلم
آخر من قومه، أو من غير قومه فلا.
إنه عليه الصلاة والسلام قد نشأ
أميًّا وعاش أميًّا، في أمة أمية لم
1 البقرة: 118.
2
الأنعام: 33.
3 راجع: النبأ العظيم.
يُعرف فيها أحد يحمل
وسام العلم والتعليم، وهذا واقع يشهد به التاريخ، ولا مرية فيه.
أما
أن يكون له معلم من غير قومه فإن الباحث لا يستطيع أن يقع في التاريخ على كلمة
واحدة تشهد بأنه لقي أحدًا من العلماء حدثه عن الدين قبل إعلان نبوته.
حقيقة
إنه رأى في طفولته بحيرى الراهب في سوق بصرى بالشام، ولقي في مكة ورقة بن نوفل
إثر مجيء الوحي، ولقي بعد الهجرة علماء من اليهود والنصارى، لكن المقطوع به أنه
لم يتلق عن أحد من هؤلاء شيئًا من الأحاديث قبل نبوته، أما بعد النبوة، فقد
كانوا يسألونه مجادلين فيستفيدون منه ويأخذون عنه، ولو كان رسول الله -صلى الله
عليه وسلم- أخذ شيئًا عن واحد منهم لما سكت التاريخ عنه، لأنه ليس من الهنات
الهينات التي يتغاضى عنها الناس، لا سيما الذين يقفون للإسلام بالمرصاد،
والكلمات التي ذكرها التاريخ عن راهب الشام أو ورقة بن نوفل كانت بشارة بنبوته
عليه الصلاة والسلام1 أو اعترافًا بها2.
ونقول لهؤلاء الذين يزعمون
أن محمدًا كان يعلمه بشر: ما اسم هذا المعلم؟ وعندئذ نرى الجواب المتهافت
المتداعي في "حدَّاد رومي" 3 ينسبون إليه ذلك، فكيف يستساغ عقلًا أن تكون
العلوم القرآنية صادرة من رجل لم تعرفه
1 قال بحيرى عندما رأى في
رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سيما النبوة: "إن هذا الغلام سيكون له شأن
عظيم" .
2 قال ورقة عندما سمع قصة النبي -صلى الله عليه وسلم- من
صفة الوحي وقد أخذته خديجة إليه يرجف فؤاده: "هذا هو الناموس الذي أنزله الله
على موسى، ليتني أكون حيًّا إذ يخرجك قومك، قال:" أومخرجي هم؟ "قال: نعم، لم
يأت أحد قط بمثل ما جئت به إلا أوذي، وإن يدركني يومك أنصرك نصرًا مؤزرًا" .
3
كان غلامًا نصرانيًّا، واختلف أهل السيرة في اسمه فقيل: اسمه "سبيعة" ، وقيل:
"يعيش" وقيل: "بلعام" .
مكة عالماً متفرغًا لدراسة الكتب، بل عرفته
حدَّادًا منهمكًا في مطرقته وسندانه، عامي الفؤاد، أعجمي اللسان لا تعدو قراءته
أن تكون رطانة بالنسبة إلى العرب: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ
إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ
وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} 1.
ولقد كان العرب أحرص الناس
على دفع هذا القرآن إمعانًا في خصومة محمد -صلى الله عليه وسلم- ولكنهم عجزوا
ووجدوا السبل أمامهم مغلقة, وباءت كل محاولاتهم بالفشل, فما للملحدين اليوم
-وقد مضى أربعة عشر قرنًا على ذلك- يبحثون في قمامات التاريخ ملتمسين سبيلًا من
تلك السبل الفاشلة نفسها؟!
وبهذا يتبين أن القرآن الكريم لا يوجد له
مصدر إنساني، لا في نفس صاحبه، ولا عند أحد من البشر، فهو تنزيل الحكيم
الحميد.
ونشأة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في بيئة أمية جاهلية،
وسيرته بين قومه، من أقوى الدلائل على أن الله قد أعده لحمل رسالته، وأوحى إليه
بهذا القرآن هداية لأمته: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ
أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ
جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ
لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ, صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي
السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ} 2.
يقول الأستاذ محمد عبده في رسالة التوحيد: "من السنن المعروفة أن يتيمًا فقيرًا
أميًّا مثله تنطبع نفسه بما تراه من أول نشأته إلى زمن كهولته، ويتأثر عقله بما
يسمعه ممن يخالطه، لا سيما إن كان من ذوي قرابته، وأهل عُصبته، ولا كتاب يرشده،
ولا أستاذ ينبهه، ولا عضد إذا عزم يؤيده، فلو جرى الأمر فيه على جاري السنن
لنشأ على عقائدهم، وأخذ بمذاهبهم، إلى أن يبلغ مبلغ الرجال، ويكون للفكر والنظر
مجال، فيرجع إلى مخالفتهم، إذا قام له الدليل على خلاف ضلالاتهم، كما فعل
القليل ممن كانوا على عهده" 3.
1 النحل: 103.
2 الشورى:
52، 53.
3 كأمية بن أبي الصلت، وزيد بن عمرو بن نفيل.
ولكن
الأمر لم يجر على سننه، بل بُغِّضَت إليه الوثنية من مبدأ عمره، فعاجلته طهارة
العقيدة، كما بادره حسن الخليقة، وما جاء في الكتاب من قوله: {وَوَجَدَكَ
ضَالًا فَهَدَى} 1. لا يُفهم منه أنه كان على وثنية قبل الاهتداء إلى التوحيد،
أو على غير السبيل القويم، قبل الخُلُق العظيم، حاشى لله، إن ذلك لهو الإفك
المبين، وإنما هي الحيرة تلم بقلوب أهل الإخلاص، فيما يرجون للناس من الخلاص،
وطلب السبيل إلى ما هدوا إليه من إنقاذ الهالكين، وإرشاد الضالين، وقد هدى الله
نبيه إلى ما كانت تتلمسه بصيرته باصطفائه لرسالته، واختياره من بين خلقه لتقرير
شريعته "."
1 الضحى: 7.
متاهات المتكلمين
وقد
خاض المتكلمون في بيان كلام الله على نهج الفلاسفة فأوقعوا الناس في متاهات
أضلتهم عن سواء السبيل، حيث قسموا كلام الله تعالى إلى قسمين: نفسي قديم قائم
بذاته تعالى ليس بحرف ولا صوت ولا ترتيب ولا لغة، وكلام لفظي هو المنزل على
الأنبياء عليهم السلام، ومنه الكتب الأربعة، وأغرق علماء الكلام في خلافاتهم
الكلامية المبتدعة: أيكون القرآن بهذا المعنى الثاني مخلوقًا أم لا؟ ورجحوا أن
يكون مخلوقًا، وخرجوا بذلك عن منهج السلف الصالح فيما لم يرد به كتاب ولا سنة،
وتناولوا صفات الله بالتحليل الفلسفي الذي يؤدي إلى التشكيك في عقيدة
التوحيد.
ومذهب أهل السٌّنَّة والجماعة إثبات ما أثبته الله تعالى
لنفسه من الأسماء والصفات أو أثبته رسوله -صلى الله عليه وسلم- فيما صح عنه،
وحسبك أن تؤمن بأن الكلام صفة من صفاته تعالى، قال سبحانه: {وَكَلَّمَ اللَّهُ
مُوسَى تَكْلِيماً} 1. وأن القرآن الكريم؛ وهو الوحي المنزل على محمد -صلى الله
عليه وسلم- كلام الله؛ غير مخلوق.
1 النساء: 164.
قال
تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى
يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} 1، وإثبات هذا ونحوه مما وصف الله تعالى به نفسه أو
وصفه به رسوله وإن كان يوصف به العباد فإنه لا ينافي كمال تنزيهه تعالى عما لا
يليق به من نقائص عباده، ولا يقتضي مماثلته لهم.
إذ إن الاشتراك في
الأسماء لا يقتضي الاشتراك في المسميات، فشتان بين الخالق والمخلوق في الذات
والصفات والأفعال، فذاته تعالى أكمل، وصفاته أسمى، وأفعاله أتم وأعلى، وإذا كان
الكلام صفة كمال للمخلوق فكيف ينتفي هذا عن الخالق؟ ويسعنا ما وسع أصحاب رسول
الله -صلى الله عليه وسلم- وعلماء التابعين وأئمة الحديث والفقه في العصور
المشهود لها بالخير قبل ظهور بدعة المتكلمين من الإيمان بما جاء عن الله أو صح
عن رسوله في صفاته تعالى وأفعاله إثباتًا ونفيًا من غير تعطيل ولا تشبيه، ولا
تمثيل ولا تأويل، وليس لنا أن نحكِّم رأينا في كنه ذات الله أو كيفية صفاته:
{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} 2.
1
التوبة: 6.
2 الشورى: 11.
المكي والمدني
مدخل
4- المكي والمدني:
تُولى الأمم اهتمامها البالغ
بالمحافظة على تراثها الفكري ومقومات حضارتها، والأمة الإسلامية أحرزت قصب
السبق في عنايتها بتراث الرسالة المحمدية التي شرفت به الإنسانية جمعاء، لأنها
ليست رسالة علم أو إصلاح يحدد الاهتمام بها مدى قبول العقل لها واستجابة الناس
إليها، وإنما هي -فوق زادها الفكري وأسسها الإصلاحية- دين يخامر الألباب ويمتزج
بحبات القلوب، فنجد أعلام الهدى من الصحابة والتابعين ومن بعدهم يضبطون منازل
القرآن آية آية ضبطًا يحدد الزمان والمكان, وهذا الضبط عماد قوي في تاريخ
التشريع يستند إليه الباحث في معرفة أسلوب الدعوة، وألوان الخطاب، والتدرج في
الأحكام والتكاليف، ومما رُوِي في ذلك ما قاله ابن مسعود رضي الله عنه: "والله
الذي لا إله غيره ما نزلت سورة من كتاب الله إلا وأنا أعلم أين نزلت؟ ولا نزلت
آية من كتاب الله إلا وأنا أعلم فيم نزلت؟ ولو أعلم أن أحدًا أعلم مني بكتاب
الله تبلغه الإبل لركبتُ إليه" 1.
والدعوة إلى الله تحتاج إلى نهج
خاص في أسلوبها إزاء كل فساد في العقيدة، والتشريع والخلق والسلوك، ولا تفرض
تكاليفها إلا بعد تكوين النواة الصالحة لها وتربية اللبنات التي تأخذ على
عاتقها القيام بها، ولا تسن أسسها التشريعية ونظمها الاجتماعية إلا بعد طهارة
القلب وتحديد الغاية حتى تكون الحياة على هدًى من الله وبصيرة.
والذي
يقرأ القرآن الكريم يجد للآيات المكية خصائص ليست للآيات المدنية في وقعها
ومعانيها، وإن كانت الثانية مبنية على الأولى في الأحكام والتشريع.
1
أخرجه البخاري.
فحيث كان القوم في جاهلية تعمى وتصم، يعبدون
الأوثان، ويشركون بالله، وينكرون الوحي، ويكذبون بيوم الدين، وكانوا يقولون:
{أإِذَا مِتنا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا إَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ} 1. {مَا
هِيَ إلًَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهلِكُنَا إلَّا
الدَّهْرُ} 2. وهم ألداء في الخصومة، أهل مماراة ولجاجة في القول عن فصاحة
وبيان؛ حيث كان القوم كذلك نزل الوحي المكي قوارع زاجرة، وشهبًا منذرة، وحججًا
قاطعة، يحطم وثنيتهم في العقيدة، ويدعوهم إلى توحيد الألوهية والربوبية، ويهتك
أستار فسادهم، ويسَفِّه أحلامهم، ويقيم دلائل النبوة، ويضرب الأمثلة للحياة
الآخرة وما فيها من جنة ونار، ويتحداهم -على فصاحتهم- بأن يأتوا بمثل القرآن،
ويسوق إليهم قصص المكذبين الغابرين عبرة وذكرى، فتجد في مكي القرآن ألفاظًا
شديدة القرع على المسامع، تقذف حروفها شرر الوعيد والسٌّنَّة العذاب، فـ "كلا"
الرادعة الزاجرة، والصاخة والقارعة، والغاشية والواقعة، وألفاظ الهجاء في فواتح
السور، وآيات التحدي في ثناياها، ومصير الأمم السابقة، وإقامة الأدلة الكونية،
والبراهين العقلية - كل هذا نجده في خصائص القرآن المكي.
وحين تكونت
الجماعة المؤمنة بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره،
وامتُحنت في عقيدتها بأذى المشركين فصبرت وهاجرت بدينها مؤثرة ما عند الله على
متع الحياة -حين تكونت هذه الجماعة- نرى الآيات المدنية طويلة المقاطع، تتناول
أحكام الإسلام وحدوده، وتدعو إلى الجهاد والاستشهاد في سبيل الله، وتفصل أصول
التشريع، وتضع قواعد المجتمع، وتحدد روابط الأسرة، وصلات الأفراد، وعلاقات
الدول والأمم، كما تفضح المنافقين وتكشف دخيلتهم، وتجادل أهل الكتاب وتلجم
أفواههم -وهذا هو الطابع العام للقرآن المدني.
1 الصافات: 16.
2
الجاثية: 24.
عناية العلماء بالمكي والمدني وأمثلة ذلك وفوائده
مدخل
عناية
العلماء بالمكي والمدني وأمثلة ذلك وفوائده
وقد عَنِيَ العلماء
بتحقيق المكي والمدني عناية فائقة، فتتبعوا القرآن آية آية، وسورة سورة،
لترتيبها وفق نزولها، مراعين في ذلك الزمان والمكان والخطاب، لا يكتفون بزمن
النزول، ولا بمكانه، بل يجمعون بين الزمان والمكان والخطاب، وهو تحديد دقيق
يعطي للباحث المنصف صورة للتحقيق العلمي في علم المكي والمدني، وهو شأن علمائنا
في تناولهم لمباحث القرآن الأخرى.
إنه جهد كبير أن يتتبع الباحث
منازل الوحي في جميع مراحله، ويتناول آيات القرآن الكريم فيعيِّن وقت نزولها،
ويحدد مكانه، ويضم إلى ذلك الضوابط القياسية لأسلوب الخطاب فيها، أهو من قبيل
المكي أم من قبيل المدني؟ مستعينًا بموضوع السورة أو الآية، أهو من الموضوعات
التي ارتكزت عليها الدعوة الإسلامية في مكة أم من الموضوعات التي ارتكزت عليها
الدعوة في المدينة؟
وإذا اشتبه الأمر على الباحث لتوافر الدلائل
المختلفة رجَّح بينها فجعل بعضها شبيهًا بما نزل في مكة، وبعضها شبيهًا بما نزل
في المدينة.
وإذا كانت الآيات نزلت في مكان ثم حملها أحد من الصحابة
فور نزولها لإبلاغها في مكان آخر ضبط العلماء هذا كذلك، فقالوا: ما حُمل من مكة
إلى المدينة، وما حُمل من المدينة إلى مكة.
قال أبو القاسم الحسن بن
محمد بن حبيب النيسابوري في كتاب "التنبيه على فضل علوم القرآن" : "من أشراف
علوم القرآن علم نزوله وجهاته، وترتيب ما نزل بمكة والمدينة، وما نزل بمكة
وحكمه مدني، وما نزل بالمدينة وحكمه مكي، وما نزل بمكة في أهل المدينة، وما نزل
بالمدينة في أهل مكة، وما يشبه نزول المكي في المدني، وما يشبه نزول المدني في
المكي، وما نزل بالجُحفة، وما نزل ببيت المقدس، وما نزل بالطائف، وما نزل
بالحديبية، وما نزل ليلًا، وما نزل نهارًا،"
وما نزل مشيعًا1، وما
نزل مفردًا، والآيات المدنيات من السور المكية, والآيات المكيات في السور
المدنية، وما حُمل من مكة إلى المدينة، وما حُمل من المدينة إلى مكة، وما حُمل
من المدينة إلى أرض الحبشة، وما نزل مُجملًا، وما نزل مفسرًا، وما اختلفوا فيه،
فقال بعضهم مدني وبعضهم مكي، فهذه خمسة وعشرون وجهًا من لم يعرفها ويميز بينها
لم يحل له أن يتكلم في كتاب الله تعالى "2."
وحرص العلماء على
الدقة، فرتبوا السور حسب منازلها سورة بعد سورة، وقالوا سورة كذا نزلت بعد سورة
كذا، وازدادوا حرصًا في الاستقصاء. ففرقوا بين ما نزل ليلًا وما نزل نهارًا،
وما نزل صيفًا وما نزل شتاء، وما نزل في الحضر وما نزل في السفر.
وأهم
الأنواع التي يتدارسها العلماء في هذا المبحث:
1- ما نزل بمكة.
2-
ما نزل بالمدينة.
3- ما اختُلِفَ به.
4- الآيات المكية
في السور المدنية.
5- الآيات المدنية في السور المكية.
6-
ما نزل بمكة وحكمه مدني.
7- ما نزل بالمدينة وحكمه مكي.
8-
ما يشبه نزول المكي في المدني.
9- ما يشبه نزول المدني في المكي.
1
كالذي رُوِي في بعض السور والآيات مثل سورة الأنعام، وسورة الفاتحة، وآية
الكرسي.
2 انظر "الإتقان في علوم القرآن" للسيوطي جـ1، ص8، الطبعة
الثالثة للحلبي.
10- ما حُمل من مكة إلى المدينة.
11- ما
حُمل من المدينة إلى مكة.
12- ما نزل ليلًا وما نزل نهارًا.
13-
ما نزل صيفًا وما نزل شتاءً.
14- ما نزل في الحَضَر وما نزل في
السَّفَر.
فهذه أنواع أساسية، يرتكز محورها على المكي والمدني، ولذا
سُمِّي هذا بـ "علم المكي والمدني" .
أمثلة
1- أقرب ما
قيل في تعداد السور المكية والمدنية إلى الصحة، أن المدني عشرون سورة:
1-
البقرة. 2- آل عمران. 3- النساء.
4- المائدة. 5- الأنفال. 6-
التوبة.
7- النور. 8- الأحزاب. 9- محمد.
10- الفتح. 11-
الحجرات. 12- الحديد.
13- المجادلة. 14- الحشر. 15- الممتحنة.
16-
الجمعة. 17- المنافقون. 18- الطلاق.
19- التحريم. 20- النصر.
2-
وأن المختلف فيه اثنتا عشرة سورة:
1- الفاتحة. 2- الرعد. 3-
الرحمن.
4- الصف. 5- التغابن. 6- التطفيف.
7- القدر. 8-
البينة. 9- الزلزلة.
10- الإخلاص. 11- الفلق. 12- الناس.
3-
وأن ما سوى ذلك مكي، وهو اثنتان وثمانون سورة، فيكون مجموع سور القرآن مائة
وأربع عشرة سورة.
4- الآيات المكية في السور المدنية: لا يُقصد بوصف
السورة بأنها مكية أو مدنية أنها بأجمعها كذلك، فقد يكون في المكية بعض آيات
مدنية، وفي المدنية بعض آيات مكية، ولكنه وصف أغلبي حسب أكثر آياتها، ولذا يأتي
في التسمية: سورة كذا مكية إلا آية كذا فإنها مدنية، وسورة كذا مدنية إلا آية
كذا فإنها مكية - كما نجد ذلك في المصاحف.
ومن أمثلة الآيات المكية
في السور المدنية "سورة الأنفال" مدنية، واستثنى منها كثير من العلماء قوله
تعالى: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ
يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ
خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} 1, قال مقاتل في هذه الآية: نزلت بمكة، وظاهرها كذلك،
لأنها تضمنت ما كان من المشركين في دار الندوة عند تآمرهم على رسول الله -صلى
الله عليه وسلم- قبل الهجرة، واستثنى بعضهم كذلك: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ
حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} 2, لما أخرجه
البزَّار عن ابن عباس أنها نزلت لما أسلم عمر ابن الخطاب, رضي الله عنه.
5-
الآيات المدنية في السور المكية: ومن أمثلة الآيات المدنية في السور المكية
"سورة الأنعام" قال ابن عباس: نزلت بمكة جملة واحدة. فهي مكية إلا ثلاث آيات
منها نزلت بالمدينة: قُُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ
أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شيئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلا تَقْتُلُوا
أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا
الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ
الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ
لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ، وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي
هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ
بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا
1 الأنفال:
30.
2 الأنفال: 64.
وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ
كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ
لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ, وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ
وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ
وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ 1. و "سورة الحج" مكية سوى ثلاث آيات
نزلت بالمدينة، من أول قوله تعالى: {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي
رَبِّهِمْ} 2.
6- ما نزل بمكة وحكمه مدني: ويمثلون له بقوله تعالى:
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى
وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ
اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} 3. فإنها نزلت بمكة يوم
الفتح، وهي مدنية لأنها نزلت بعد الهجرة, والخطاب فيها عام، ومثل هذا لا يسميه
العلماء مكيًّا، كما لا يسمونه مدنيًّا على وجه التعيين، بل يقولون فيه: ما نزل
بمكة وحكمه مدني.
7- ما نزل بالمدينة وحكمه مكي، ويمثلون له بسورة
الممتحنة، فإنها نزلت بالمدينة، فهي مدنية باعتبار المكان، ولكن الخطاب في
ثناياها توجه إلى مشركي أهل مكة.. ومثل هذا صدر سورة "براءة" نزل بالمدينة،
والخطاب فيه لمشركي أهل مكة.
8- ما يشبه نزول المكي في المدني:
ويعني العلماء به ما كان في السور المدنية من آيات جاء أسلوبها في خصائصه
وطابعه العام على نمط السور المكية، ومن أمثلته قوله تعالى في سورة الأنفال -
وهي مدنية: {َإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ
عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا
بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} 4, فإن استعجال المشركين للعذاب كان بمكة.
9- ما
يُشبه نزول المدني في المكي: ويعني العلماء به ما يقابل النوع السابق، ويمثلون
له بقوله تعالى في سورة النجم: {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْأِثْمِ
وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ} 5.. قال السيوطي: فإن الفواحش كل ذنب
1
الأنعام: 152، 153.
2 الحج: 19.
3 الحجرات: 13.
4
الأنفال: 32.
5 النجم: 32.
فيه حد، والكبائر كل ذنب
عاقبته النار، واللَّمم ما بين الحدين من الذنوب، ولم يكن بمكة حد ولا
نحوه1.
10- ما حُمل من مكة إلى المدينة: ومن أمثلته سورة {سَبِّحِ
اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} 2, أخرج البخاري عن البرَّاء بن عازب قال: "أول من
قدم علينا من أصحاب النبي, صلى الله عليه وسلم: مصعب بن عمير، وابن أم مكتوم،
فجعلا يقرئاننا القرآن. ثم جاء عمار وبلال وسعد، ثم جاء عمر بن الخطاب في
عشرين. ثم جاء النبي -صلى الله عليه وسلم- فما رأيت أهل المدينة فرحوا بشيء
فرحهم به، فما جاء حتى قرأتُ: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} في سورة
مثلها" وهذا المعنى يصدق على كل ما حمله المهاجرون من القرآن وعلموه
الأنصار.
11- ما حُمل من المدينة إلى مكة: ومن أمثلته أول سورة
"براءة" ، حيث أمَّر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أبا بكر على الحج في العام
التاسع. فلما نزل صدر سورة "براءة" حمَّله رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
عليَّ بن أبي طالب ليلحق بأبي بكر حتى يبلِّغ المشركين به. فأذَّن فيهم بالآيات
وأبلغهم ألا يحج بعد العام مشرك.
12- ما نزل ليلًا وما نزل نهارًا:
أكثر القرآن نزل نهارًا، أما ما نزل بالليل فقد تتبعه القاسم الحسن بن محمد بن
حبيب النيسابوري واستخرج له أمثلة منها: أواخر آل عمران: أخرج ابن حبان في
صحيحه، وابن المنذر، وابن مردويه وابن أبي الدنيا عن عائشة رضي الله عنها: أن
بلالًا أتى النبي -صلى الله عليه وسلم- يؤذنه لصلاة الصبح فوجده يبكي، فقال: يا
رسول الله.. ما يبكيك؟ قال: "وما يمنعني أن أبكي وقد أُنزل عليَّ هذه الليلة" :
{إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ
وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُوْلِي الأَلْبَابِ} 3.. ثم قال: "ويل لمن قرأها ولم
يتفكر" .
1 الإتقان: جـ1 ص18.
2 الأعلى: 1.
3
آل عمران: 190.
ومنها: آية الثلاثة الذين خُلِّفوا، ففي الصحيحين من
حديث كعب: "فأنزل الله توبتنا حين بقي الثلث الأخير من الليل" 1.
ومنها:
أول سورة الفتح، ففي البخاري من حديث عمر: "لقد نزلت عليَّ الليلة سورة هي أحب
إليَّ مما طلعت عليه الشمس" ، فقرأ: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا}
2..
13- ما نزل صيفًا وما نزل شتاءً: ويمثل العلماء لما نزل صيفًا
بآية الكلالة التي في آخر سورة النساء، ففي صحيح مسلم عن عمر: "ما راجعتُ رسول
الله -صلى الله عليه وسلم- في شيء ما راجعته في الكلالة، وما أغلظ في شيء ما
أغلظ لي فيه، حتى طعن بأصبعه في صدري وقال:" يا عمر، ألا تكفيك آية الصيف التي
في آخر في النساء "؟ 3."
ومن أمثلته الآيات التي نزلت في غزوة تبوك،
فإنها كانت في الصيف في شدة الحر كما في القرآن نفسه4.
ويمثلون
للشتائي بآيات حديث الإفك في سورة النور: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ
عُصْبَةٌ مِنْكُمْ} 5 ... إلى قوله تعالى: {لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ
كَرِيمٌ} 6, ففي الصحيح عن عائشة: "أنها نزلت في يوم شات" .
1
{لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ
الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ
قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ
رَحِيمٌ، وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ
عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ
وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ
عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [التوبة:
117، 118] وهم الذين قبل الله عذرهم في التخلف بغزوة تبوك.
2 الفتح:
1.
3 {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ}
[النساء: 176] والكلالة كما في صريح الآية: الميت الذي لا ولد له ولا مال
يورث.
4 وقد حكى القرآن عن المنافقين قولهم: {وَقَالُوا لا
تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ} ، فأمر الله رسوله أن يجيبهم: {قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ
أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ} [التوبة: 81] .
5 النور:
11.
6 النور: 26.
ومن أمثلته الآيات التي في غزوة الخندق
من سورة الأحزاب حيث كانت في شدة البرد: أخرج البيهقي في "دلائل النبوة" عن
حذيفة قال: "تفرق الناس عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليلة الأحزاب إلا
اثني عشر رجلًا، فأتاني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال:" قم فانطلق إلى
عسكر الأحزاب "، قلت: يا رسول الله، والذي بعثك بالحق ما قمت لك إلا حياء، من
البرد، فأنزل الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ
اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا
وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا}
1.."
14- ما نزل في الحضر وما نزل في السَّفَر: أكثر القرآن نزل في
الحضر، ولكن حياة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كانت عامرة بالجهاد والغزو في
سبيل الله حيث يتنزل عليه الوحي في مسيره، وقد ذكر السيوطي لما نزل في السفر
كثيرًا من الأمثلة2.. منها أول سورة الأنفال، نزلت ببدر عقب الواقعة، كما أخرجه
أحمد عن سعد ابن أبي وقاص - وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ
وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} 3.. أخرج أحمد عن ثوبان
أنها نزلت في بعض أسفاره -صلى الله عليه وسلم- وأول سورة الحج، أخرج الترمذي
والحاكم عن عمران بن حصين قال: "لما نزلت على النبي, صلى الله عليه وسلم: {يَا
أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ، إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ
عَظِيمٌ} 4 ... إلى قوله تعالى: {وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} 5.. أنزلت
عليه هذه وهو في سفر. وسورة الفتح، أخرج الحاكم وغيره عن المسور بن مخرمة
ومروان بن الحكم قالا:" نزلت سورة الفتح بين مكة والمدينة في شأن الحديبية من
أولها إلى آخرها "."
1 الأحزاب: 9.
2 الإتقان جـ1 ص18
وما بعدها.
3 التوبة: 34.
4 الحج: 1.
5 الحج:
2.
فوائد العلم بالمكي والمدني
وللعلم بالمكي والمدني فوائد أهمها:
أ- الاستعانة به في تفسير
القرآن: فإن معرفة مواقع النزول تساعد على فهم الآية وتفسيرها تفسيرًا صحيحًا،
وإن كانت العبرة بعموم اللَّفظ لا بخصوص
السبب. ويستطيع المفسر في
ضوء ذلك عند تعارض المعنى في آيتين أن يُميز بين الناسخ والمنسوخ، فإن المتأخر
يكون ناسخًا للمتقدم.
ب- تذوق أساليب القرآن والاستفادة منها في
أسلوب الدعوة إلى الله، فإن لكل مقام مقالًا، ومراعاة مقتضى الحال من أخص معاني
البلاغة، وخصائص أسلوب المكي في القرآن والمدني منه تعطي الدارس منهجًا لطرائق
الخطاب في الدعوة إلى الله بما يلائم نفسية المخاطب، ويمتلك عليه لُبّه
ومشاعره، ويعالج فيه دخيلته بالحكمة البالغة، ولكل مرحلة من مراحل الدعوة
موضوعاتها وأساليب الخطاب فيها، كما يختلف الخطاب باختلاف أنماط الناس
ومعتقداتهم وأحوال بيئاتهم، ويبدو هذا واضحًا جليًّا بأساليب القرآن المختلفة
في مخاطبة المؤمنين والمشركين والمنافقين وأهل الكتاب.
جـ- الوقوف
على السيرة النبوية من خلال الآيات القرآنية..
فإن تتابع الوحي على
رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ساير تاريخ الدعوة بأحداثها في العهد المكي
والعهد المدني منذ بدأ الوحي حتى آخر آية نزلت، والقرآن الكريم هو المرجع
الأصيل لهذه السيرة الذي لا يدع مجالًا للشك فيما رُوِيَ عن أهل السير موافقًا
له، ويقطع دابر الخلاف عند اختلاف الروايات.
معرفة المكي والمدني
وبيان الفرق بينهما
اعتمد العلماء في معرفة المكي والمدني على
منهجين أساسيين: المنهج السماعي النقلي، والمنهج القياسي الاجتهادي.
والمنهج
السماعي النقلي يستند إلى الرواية الصحيحة عن الصحابة الذين عاصروا الوحي،
وشاهدوا نزوله، أو عن التابعين الذين تلقوا عن الصحابة وسمعوا منهم كيفية
النزول ومواقعه وأحداثه، ومعظم ما ورد في المكي والمدني من هذا القبيل، وفي
الأمثلة السابقة خير دليل على ذلك، وقد حفلت بها كتب
التفسير
بالمأثور، ومؤلفات أسباب النزول، ومباحث علوم القرآن، ولم يرد عن رسول الله
-صلى الله عليه وسلم- شيء في ذلك، حيث إنه ليس من الواجبات التي تجب على الأمة
إلا بالقدر الذي يُعرف به الناسخ والمنسوخ، قال القاضي أبو بكر محمد بن الطيب
الباقلاني في "الانتصار" : "إنما يُرجع في معرفة المكي والمدني لحفظ الصحابة
والتابعين, ولم يرد عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في ذلك قول لأنه لم يؤمر
به، ولم يجعل الله علم ذلك من فرائض الأمة، وإن وجب في بعضه على أهل العلم
ومعرفة تاريخ الناسخ والمنسوخ فقد يُعرف ذلك بغير نص الرسول" 1.
والمنهج
القياسي الاجتهادي يستند إلى خصائص المكي وخصائص المدني، فإذا ورد في السورة
المكية آية تحمل طابع التنزيل المدني أو تتضمن شيئًا من حوادثه قالوا إنها
مدنية، وإذا ورد في السورة المدنية آية تحمل طابع التنزيل المكي أو تتضمن شيئًا
من حوادثه قالوا إنها مكية، وإذا وُجِدَ في السورة خصائص المكي قالوا إنها
مكية، وإذا وُجِدَ فيها خصائص المدني قالوا إنها مدنية، وهذا قياس اجتهادي،
ولذا قالوا مثلًا: كل سورة فيها قصص الأنبياء والأمم الخالية مكية، وكل سورة
فيها فريضة أو حد مدنية، وهكذا، قال الجعبري: "لمعرفة المكي والمدني طريقان:
سماعي وقياسي" 2, ولا شك أن السماعي يعتمد على النقل، والقياسي يعتمد على
العقل, والنقل والعقل هما طريقا المعرفة السليمة والتحقيق العلمي.
1
انظر الإتقان جـ1 ص9.
2 انظر الإتقان جـ1 ص17.
الفرق بين
المكي والمدني
للعلماء في الفرق بين المكي والمدني ثلاثة آراء
اصطلاحية، كل رأي منها بُنِيَ على اعتبار خاص.
الأول: اعتبار زمن
النزول، فالمكي: ما نزل قبل الهجرة وإن كان بغير مكة، والمدني: ما نزل بعد
الهجرة وإن كان بغير المدينة، فما نزل بعد الهجرة
ولو بمكة، أو
عرفة: مدني، كالذي نزل عام الفتح، كقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ
أَنْ تُؤَدُّواْ الأمَانَات إلَى أهْلِهَا} 1, فإنها نزلت بمكة في جوف الكعبة
عام الفتح الأعظم، أو نزل بحجة الوداع كقوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ
لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ
الْإسْلامَ دِينًا} 2, وهذا الرأي أولى من الرأيين بعده لحصره واطراده.
الثاني:
اعتبار مكان النزول، فالمكي: ما نزل بمكة وما جاورها كمِنى وعرفات والحديبية.
والمدني: ما نزل بالمدينة وما جاورها كأُحد وقُباء وسلع.
ويترتب على
هذا الرأي عدم ثنائية القسمة وحصرها، فما نزل بالأسفار أو بتبوك أو ببيت المقدس
لا يدخل تحت القسمة3، فلا يسمى مكيًّا ولا مدنيًّا، كما يترتب عليه كذلك أن ما
نزل بمكة بعد الهجرة يكون مكيًّا.
الثالث: اعتبار المخاطَب، فالمكي:
ما كان خطابًا لأهل مكة، والمدني: ما كان خطابًا لأهل المدينة.
وينبني
على هذا الرأي عند أصحابه أن ما في القرآن من قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا
النَّاسُ} مكي، وما فيه من قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الذَّيِنَ آمَنُواُ}
مدني.
وبالملاحظة يتبين أن أكثر سور القرآن لم تُفْتَتَحْ بأحد
الخطابين، وأن هذا الضابط لا يطرد، فسورة البقرة مدنية، وفيها: {يَا أَيُّهَا
النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ
لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} 4.. وقوله
1 النساء: 58.
2 في
الصحيح عن عمر أنها نزلت عشية عرفة يوم الجمعة عام حجة الوداع [والآية من سورة
المائدة: 3] .
3 فسورة "الفتح" نزلت بالسفر، وقوله تعالى في سورة
التوبة: 42: {لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لَاتَّبَعُوكَ}
نزل بتبوك، وقوله: {وَاسْألْ مَنْ أرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُّسُلِنَا}
في سورة الزخرف: 45، نزل ببيت المقدس ليلة الإسراء.
4 البقرة:
21.
تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ
حَلالًا طَيِّبًا وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ
عَدُوٌّ مُبِينٌ} 1، وسورة النساء مدنية وأولها: {يَا أيُّهَا النَّاسُ} وسورة
الحج مكية، وفيها: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا
وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} 2،
والقرآن الكريم هو خطاب الله للخلق أجمعين، ويجوز أن يخاطب المؤمنون بصفتهم
وباسمهم وجنسهم، كما يجوز أن يؤمر غير المؤمنين بالعبادة كما يؤمر المؤمنون
بالاستمرار والازدياد منها.
1 البقرة: 168.
2 الحج:
77.
مميزات المكي والمدني
مدخل
مميزات المكي والمدني
استقرأ
العلماء السور المكية والسور المدنية، واستنبطوا ضوابط قياسية لكل من المكي
والمدني، تبين خصائص الأسلوب والموضوعات التي يتناولها. وخرجوا من ذلك بقواعد
ومميزات.
ضوابط المكي ومميزاته الموضوعية
1- كل سورة
فيها سجدة فهي مكية.
2- كل سورة فيها لفظ "كلا" فهي مكية، ولم ترد
إلا في النصف الأخير من القرآن. وذُكرت ثلاثًا وثلاثين مرة في خمس عشرة
سورة.
3- كل سورة فيها: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} وليس فيها: {يَا
أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواُ} فهي مكية، إلا سورة الحج ففي أواخراها: {يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} 1.. ومع هذا فإن كثيرًا من
العلماء يرى أن هذه الآية مكية كذلك.
4- كل سورة فيها قصص الأنبياء
والأمم الغابرة فهي مكية سوى البقرة.
5- كل سورة فيها آدم وإبليس
فهي مكية سوى البقرة كذلك.
1 الحج: 77.
6- كل سورة تفتح
بحروف التهجي كـ "ألم" و "الر" و "حم" ونحو ذلك فهي مكية سوى الزهراوين: وهما
البقرة وآل عمران، واختلفوا في سورة الرعد.
هذا من ناحية الضوابط،
أما من ناحية المميزات الموضوعية وخصائص الأسلوب فيمكن إجمالها فيما يأتي:
1-
الدعوة إلى التوحيد وعبادة الله وحده، وإثبات الرسالة، وإثبات البعث والجزاء،
وذكر القيامة وهولها، والنار وعذابها، والجنة ونعيمها، ومجادلة المشركين
بالبراهين العقلية، والآيات الكونية.
2- وضع الأسس العامة للتشريع
والفضائل الأخلاقية التي يقوم عليها كيان المجتمع، وفضح جرائم المشركين في سفك
الدماء، وأكل أموال اليتامى ظلمًا، ووأد البنات، وما كانوا عليه من سوء
العادات.
3- ذكر قصص الأنبياء والأمم السابقة زجرًا لهم حتى يعتبروا
بمصير المكذبين قبلهم، وتسلية لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى يصبر على
أذاهم ويطمئن إلى الانتصار عليهم.
4- قصر الفواصل مع قوة الألفاظ،
وإيجاز العبارة، بما يصخ الآذان، ويشتد قرعه على المسامع، ويصعق القلوب، ويؤكد
المعنى بكثرة القَسَم، كقصار المفصَّل إلا نادرًا.
ضوابط المدني
ومميزاته الموضوعية
1- كل سورة فيها فريضة أو حد فهي مدنية.
2-
كل سورة فيها ذكر المنافقين فهي مدنية سوى العنكبوت فإنها مكية.
3-
كل سورة فيها مجادلة أهل الكتاب فهي مدنية.
هذا من ناحية الضوابط،
أما من ناحية المميزات الموضوعية وخصائص الأسلوب فيمكن إجمالها فيما يأتي:
1-
بيان العبادات، والمعاملات، والحدود، ونظام الأسرة، والمواريث، وفضيلة الجهاد،
والصلات الاجتماعية، والعلاقات الدولية في السلم والحرب، وقواعد الحكم، ومسائل
التشريع.
2- مخاطبة أهل الكتاب من اليهود والنصارى، ودعوتهم إلى
الإسلام، وبيان تحريفهم لكتب الله، وتجنيهم على الحق، واختلافهم من بعد ما
جاءهم العلم بغيًا بينهم.
3- الكشف عن سلوك المنافقين، وتحليل
نفسيتهم، وإزاحة الستار عن خباياهم، وبيان خطرهم على الدين.
4- طول
المقاطع والآيات في أسلوب يقرر الشريعة ويوضح أهدافها ومراميها.
معرفة أول ما نزل وآخر ما نزل
مدخل
5- معرفة أول ما نزل وآخر ما نزل:
التعبير عن تلقي
رسول الله -صلى الله عليه وسلم- للقرآن بنزوله عليه يُشعر بقوة يلمسها المرء في
تصور كل هبوط من أعلى. ذلك لعلو منزلة القرآن وعظمة تعاليمه التي حولت مجرى
حياة البشرية وأحدثت فيها تغيرًا ربط السماء بالأرض، ووصل الدنيا بالآخرة،
ومعرفة تاريخ التشريع الإسلامي في مصدره الأول والأصيل -وهو القرآن- تعطي
الدارس صورة عن التدرج في الأحكام ومناسبة كل حكم للحالة التي نزل فيها دون
تعارض بين السابق واللاحق، وقد تناول هذا أول ما نزل من القرآن على الإطلاق
وآخر ما نزل على الإطلاق، كما تناول أول ما نزل وآخر ما نزل في كل تشريع من
تعاليم الإسلام، كالأطعمة، والأشربة، والقتال ... ونحو ذلك.
وللعلماء
في أول ما نزل من القرآن على الإطلاق، وآخر ما نزل كذلك أقوال، نجملها
ونُرَجِّح بينها فيما يأتي:
أول ما نزل
1- أصح الأقوال
أن أول ما نزل هو قوله تعالى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ، خَلَقَ
الْأِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ، اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ، الَّذِي عَلَّمَ
بِالْقَلَمِ، عَلَّمَ الْأِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} 1, ويدل عليه ما رواه
الشيخان وغيرهما عن عائشة رضي الله عنها قالت: "أول ما بُدِئَ به رسول الله
-صلى الله عليه وسلم- من الوحي الرؤيا الصادقة في النوم, فكان لا يرى رؤيا إلا
جاءت مثل فلق الصبح، ثم حُبِّبَ إليه الخلاء فكان يأتي حِراء فيتحنث فيه
الليالي ذوات العدد، ويتزود لذلك ثم يرجع إلى خديجة رضي الله عنها فتزوده
لمثلها حتى فاجأه الحق وهو في غار حِراء،"
1 العلق: 1-5.
فجاءه
المَلَك فيه فقال: اقرأ، قال رسول الله, صلى الله عليه وسلم: فقلت: "ما أنا
بقارئ" ، فأخذني فغطَّني حتى بلغ مني الجَهْد، ثم أرسلني فقال: اقرأ، فقلت: "ما
أنا بقارئ" ، فغطَّني الثانية حتى بلغ مني الجَهْد ثم أرسلني فقال: اقرأ، فقلت:
"ما أنا بقارئ" ، فغطَّني الثالثة حتى بلغ مني الجَهْد ثم أرسلني فقال:
{اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} . حتى بلغ: {مَا لَمْ يَعْلَمْ} ،
فرجع بها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ترجف بوادره ". الحديث1."
2-
وقيل إن أول ما نزل هو قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا المُدَّثِّرُ} .. لما رواه
الشيخان عن أبي سلمة بن عبد الرحمن قال: سألت جابر بن عبد الله: أي القرآن أنزل
قبل؟ قال: {يَا أيُّهَا المُدَّثِّرُ} ، قلت: أو {اقْرا بِاسْمِ رَبِّكَ} ؟
قال: أحدِّثكم ما حدثنا به رسول الله, صلى الله عليه وسلم: "إني جاورت بحِراء
فلما قضيت جواري نزلت فاستبطنت الوادي، فنظرت أمامي وخلفي وعن يميني وشمالي. ثم
نظرتُ إلى السماء فإذا هو -يعني جبريل- فأخذتني رجفة. فأتيتُ خديجة فأمرتهم
فدثروني" ، فأنزل الله: {يَا أيُّهُا المُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنُذِرْ} 2.
وأجيب
عن حديث جابر بأن السؤال كان عن نزول سورة كاملة، فبيِّن جابر أن سورة المدثر
نزلت بكمالها قبل نزول تمام سورة اقرأ، فإن أول ما نزل منها صدرها، ويؤيد هذا
ما في الصحيحين أيضًا عن أبي سلمة عن جابر قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه
وسلم- وهو يُحدِّث عن فترة الوحي فقال في حديثه: "بينا أنا أمشي سمعت صوتًا من
السماء فرفعت رأسي فإذا المَلَك الذي جاءني بحِراء جالس على كرسي بين السماء
والأرض، فرجعت، فقلت: زملوني، فدثروني" ، فأنزل الله: {يَا أَيُّهَا
المُدَّثِّرُ} . فهذا الحديث يدل على أن هذه القصة
1 التحنث:
التعبد، وأصله ترك الحِنث، أي الذنب. وغطَّني: أي ضمني ضمًّا شديدًا حتى كان لي
غطيط، وهو صوت من حُبِسَت أنفاسه بما يشبه الخنق، والجَهْد: بفتح الجيم، يطلق
على المشقة وعلى الوسع والطاقة، وبضمها يطلق على الوسع والطاقة لا غيره.
2
المدثر: 1، 2.
متأخرة عن قصة حِراء -أو تكون "المدثر" أول سورة نزلت
بعد فترة الوحي- وقد استخرج جابر ذلك باجتهاده فتُقَدَّم عليه رواية عائشة،
ويكون أول ما نزل من القرآن على الإطلاق: {اقْرَأ} وأول سورة نزلت كاملة، أو
أول ما نزل بعد فترة الوحي: {يَا أَيُّهَا المُدَّثِّرُ} .. أو أول ما نزل
للرسالة: {يَا أَيُّهَا المُدَّثِّرُ} .. وللنبوة {اقْرَأ} .
3-
وقيل إن أول ما نزل هو سورة "الفاتحة" ولعل المراد أول سورة كاملة.
4-
وقيل: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} والبسملة تنزل صدرًا لكل سورة.
ودليل هذين أحاديث مرسلة، والقول الأول المؤيد بحديث عائشة هو القوي الراجح
المشهور.
وقد ذكر الزركشي في "البرهان" حديث عائشة الذي نص على أن
أول ما نزل: {قْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} وحديث جابر الذي نص على
أن أول ما نزل: {َيا أَيُّهَا المُدَّثِّر، قُمْ فَأَنْذِرُ} ثم قال: "وجمع
بعضهم بينهما بأن جابرًا سمع النبي -صلى الله عليه وسلم- يذكر قصة بدء الوحي،
فسمع آخرها، ولم يسمع أولها، فتوهم أنها أول ما نزلت، وليس كذلك، نعم هي أول ما
نزل بعد سورة {اقْرَأْ} وفترة الوحي، لما ثبت في الصحيحين أيضًا عن جابر رضي
الله عنه أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يحدِّث عن فترة الوحي، قال في
حديثه:" بينما أنا أمشي، سمعت صوتًا من السماء، فرفعت رأسي، فإذا المَلَك الذي
جاءني بحِراء جالس على كرسي بين السماء والأرض، فجثثت منه فرقًا1، فرجعت فقلت:
زملوني زملوني "، فأنزل الله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا المُدَّثِّر، قُمْ
فَأَنْذِر} ."
فقد أخبر في هذا الحديث عن المَلَك الذي جاءه بحِراء
قبل هذه المرة، وأخبر في حديث عائشة أن نزول {اقْرَأْ} كان في غار حِراء، وهو
أول وحي، ثم فَتَرَ بعد ذلك، وأخبر في حديث جابر أن الوحي تتابع بعد نزول {يَا
أَيُّهَا المُدَّثِّر}
1 جثثت: فزعت، وفي صحيح البخاري: "فرعبت منه"
.
فعُلِمَ بذلك أن {اقْرَأْ} أول ما نزل مطلقًا، وأن سورة المدثر
بعده ". وكذلك قال ابن حبان في صحيحه: لا تضاد بين الحديثين، بل أول ما نزل:
{اقْرَأَ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} بغار حِراء، فلما رجع إلى خديجة -رضي
الله عنها- وصبت عليه الماء البارد، أنزل الله عليه في بيت خديجة: {َيا
أَيُّهَا المُدَّثِّر} ُ.. فظهر أنه لما نزل عليه {اقْرَأْ} رجع فتدثر، فأنزل
عليه: {َيا أَيُّهَا المُدَّثِّر} .."
وقيل: أول ما نزل سورة
الفاتحة، رُوِيَ ذلك من طريق أبي إسحاق عن أبي ميسرة قال: كان رسول الله -صلى
الله عليه وسلم- إذا سمع الصوت انطلق هاربًا، وذكر نزول المَلَك عليه وقوله: قل
{الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} ... إلى آخرها.
وقال
القاضي أبو بكر في "الانتصار" : وهذا الخبر منقطع، وأثبت الأقاويل: {اقْرَأَ
بِاسْمِ رَبِّكَ} ويليه في القوة: {يا أَيُّهَا المُدَّثِّر} .. وطريق الجمع
بين الأقاويل أن أول ما نزل من الآيات: {اقْرَأَ بِاسْمِ رَبِّكَ} وأول ما نزل
من أوامر التبليغ: {يا أَيُّهَا المُدَّثِّر} .. وأول ما نزل من السور سورة
الفاتحة، وهذا كما ورد في الحديث: "أول ما يُحاسَب به العبد الصلاة" 1, و "أول
ما يُقضى فيه الدماء" 2, وجمع بينهما بأن أول ما يُحكم فيه من المظالم التي بين
العباد الدماء. وأول ما يُحاسب به العبد من الفرائض البدنية الصلاة.
وقيل:
أول ما نزل للرسالة: {يا أَيُّهَا المُدَّثِّر} .. وللنبوة: {اقْرَأَ بِاسْمِ
رَبِّكَ} فإن العلماء قالوا: قوله تعالى: {اقْرَأَ بِاسْمِ رَبِّكَ} دال على
نبوة محمد -صلى الله عليه وسلم- لأن النبوة عبارة عن الوحي إلى الشخص على لسان
المَلَك بتكليف خاص، وقوله: {يا أَيُّهَا المُدَّثِّر، قُمْ فَأنْذٍرْ} دليل
على رسالته -صلى الله عليه وسلم- لأنها عبارة عن الوحي إلى الشخص على لسان
المَلَك بتكليف عام "3."
1 نقله السيوطي في "الجامع الصغير" عن
الطبراني، ولفظه: "أول ما يُحاسب به العبد يوم القيامة الصلاة، فإن صلحت صلح له
سائر عمله، وإن فسدت فسد سائر عمله" .
2 رواه البخاري في كتاب
"الديَات" ولفظه: "أول ما يُقْضَى بين الناس في الدماء" .
3 انظر
"البرهان في علوم القرآن" للزركشي، بتحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم جـ1 ص206 وما
بعدها.
آخر ما نزل
1- قيل: آخر ما نزل آية الربا، لما
أخرجه البخاري عن ابن عباس قال: "آخر آية نزلت آية الربا" والمراد بها قوله
تعالى: {يَاالَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ
الرِّبَا} 1.
2- وقيل: آخر ما نزل من القرآن قوله تعالى:
{وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ} 2 ... الآية, لما رواه
النسائي وغيره عن ابن عباس وسعيد بن جبير: "آخر شيء نزل من القرآن: {وَاتَّقُوا
يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ} ... الآية."
3- وقيل: آخر
ما نزل آية الدَّيْنِ، لما رُوِيَ عن سعيد بن المسيب: "أنه بلغه أن أحدث القرآن
عهدًا بالعرش آية الدَّيْنِ" والمراد بها: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً فَاكْتُبُوهُ} 3 ...
الآية.
ويجمع بين الروايات الثلاث بأن هذه الآيات نزلت دفعة واحدة
كترتيبها في المصحف، آية الربا، فآية {وَاتَّقُواْ يَوْمًا} فآية الدَّيْنِ،
لأنها في قصة واحدة. فأخبر كل راوٍ عن بعض ما نزل بأنه آخر، وذلك صحيح، وبهذا
لا يقع التنافر بينها.
4- وقيل: آخر ما نزل آية الكلالة. فقد رَوَى
الشيخان عن البرَّاء بن عازب قال: آخر آية نزلت: {بَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ
يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَة} 4 ... الآية، وحُمِلَتْ الآخرية هنا في قول البراء
على أنها مقيدة بما يتعلق بالمواريث.
5- وقيل: آخر ما نزل قوله
تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ} 5 ... إلى آخر السورة.
ففي المستدرك عن أُبِّيِّ بن كعب قال: آخر آية نزلت: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ
مِنْ أَنْفُسِكُمْ} ... إلى آخر السورة، وحُمل هذا على أنها آخر ما نزل من سورة
"براءة" .
1 البقرة: 278.
2 البقرة: 281.
3
البقرة: 282.
4 النساء: 176.
5 التوبة: 128.
ففيما
رواه عبد الله بن الإمام أحمد في زوائد المسند عن أُبَيِّ بن كعب أن رسول الله
-صلى الله عليه وسلم- أقرأه هاتين الآيتين: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ
أَنْفُسِكُمْ} ... إلى قوله: {وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} في آخر سورة
براءة.
6- وقيل: آخر ما نزل سورة المائدة، لما رواه الترمذي والحاكم
في ذلك عن عائشة -رضي الله عنها- وأجيب بأن المراد أنها آخر سورة نزلت في
الحلال والحرام، فلم تنسخ فيها أحكام.
7- وقيل: آخر ما نزل قوله
تعالى: {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ
مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ} 1.. لما أخرجه ابن
مردويه من طريق مجاهد عن أم سلمة أنها قالت: "آخر آية نزلت هذه الآية:
{فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ}
... إلى آخرها، وذلك أنها قالت: يا رسول الله.. أرى الله يذكر الرجال ولا يذكر
النساء فنزلت: {وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى
بَعْضٍ} 2، ونزلت: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ} 3, ونزلت هذه
الآية، فهي آخر الثلاثة نزولًا، وآخر ما نزل بعد ما كان ينزل في الرجال خاصة"
.
ويتضح من الرواية أن الآية المذكورة آخر الآيات الثلاث نزولًا،
وأنها آخر ما نزل بالنسبة إلى ما ذُكر فيه النساء.
8- وقيل: آخر ما
نزل آية: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ
خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا
عَظِيمًا} 4.. لما أخرجه البخاري وغيره عن ابن عباس قال: هذه الآية: {وَمَنْ
يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ} هي آخر ما نزل وما
نسخها شيء. والتعبير بقوله: "وما نسخها شيء" يدل على أنها آخر ما نزل في حكم
قتل المؤمن عمدًا.
1 آل عمران: 195.
2 النساء: 32.
3
الأحزاب: 35.
4 النساء: 93.
9- وأخرج مسلم عن ابن عباس
قال: "آخر سورة نزلت: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} 1" , وحُمل ذلك
على أن هذه السورة آخر ما نزل مُشعرًا بوفاة النبي -صلى الله عليه وسلم- كما
فهم بعض الصحابة، أو أنها آخر ما نزل من السور.
وهذه الأقوال ليس
فيها شيء مرفوع إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- وكل قال بضرب من الاجتهاد وغلبة
الظن، ويحتمل أن كلًّا منهم أخبر عن آخر ما سمعه من الرسول، أو قال ذلك باعتبار
آخر ما نزل في تشريع خاص، أو آخر سورة نزلت كاملة على النحو الذي خرجنا به كل
قول منها.
أما قوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ
وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِينًا} 2,
فإنها نزلت بعرفة عام حجة الوداع، ويدل ظاهرها على إكمال الفرائض والأحكام، وقد
سبقت الإشارة إلى ما رُوِي في نزول آية الربا، وآية الدَّيْن، آية الكَلالة،
وغيرها بعد ذلك. لذا حمل كثير من العلماء إكمال الدين في هذه الآية على أن الله
أتم عليهم نعمته بتمكينهم من البلد الحرام، وإجلاء المشركين عنه، وحجهم وحدهم
دون أن يشاركهم في البيت الحرام أحد من المشركين، وقد كان المشركون يحجون معهم
من قبل وذلك من تمام النعمة: {وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} قال القاضي
أبو بكر الباقلاني في "الانتصار" مُعلقًا على اختلاف الروايات في آخر ما نزل:
"هذه الأقوال ليس فيها شيء مرفوع إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- ويجوز أن يكون
قاله قائله بضرب من الاجتهاد وغلبة الظن، ويحتمل أن كلًّا منهم أخبر عن آخر ما
سمعه من النبي -صلى الله عليه وسلم- في اليوم الذي مات فيه أو قبل مرضه بقليل،
وغيره سمع منه بعد ذلك وإن لم يسمعه هو، ويحتمل أيضًا أن تنزل هذه الآية التي
هي آخر آية تلاها الرسول -صلى الله عليه وسلم- مع آيات نزلت معها فيؤمر برسم ما
نزل معها بعد رسم تلك، فيظن أنه آخر ما نزل في الترتيب" 3.
1 أي:
سورة النصر.
2 المائدة: 3.
3 انظر الإتقان جـ1 ص27. ونص
العبارة الأخيرة في الزركشي: "فيؤمر برسم ما نزل معها وتلاوتها عليهم بعد رسم
ما نزل آخرًا وتلاوته، فيظن سامع ذلك أنه آخر ما نزل في الترتيب" انظر البرهان
جـ1 ص210، وفي نقل "الإتقان" شيء من التحريف.
أوائل موضوعية
وتناول
العلماء, أوائل ما نزل بالنسبة إلى موضوعات خاصة، ومن ذلك:
1- أول
ما نزل في الأطعمة: أول آية نزلت بمكة آية الأنعام: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا
أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ
مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ
فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا
عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} 1.
ثم آية النحل: {فَكُلُوا
مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالاً طَيِّباً وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ
كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ, إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ
وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ
اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} 2..
ثم
آية البقرة: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ
الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ
بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} 3.
ثم
آية المائدة: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ
الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ
وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ
إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا
بِالْأَزْلامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ
دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ
دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ
دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ
اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} 4..
2- أول ما نزل في الأشربة: أول آية
نزلت في الخمر آية البقرة: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ
فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ
نَفْعِهِمَا} 5..
1 الأنعام: 145.
2 النحل: 114، 115.
3
البقرة: 173.
4 المائدة: 3.
5 البقرة: 219.
ثم
آية النساء: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ
وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} 1..
ثم آية
المائدة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ
وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ
لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ, إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ
بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ
وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ
مُنْتَهُونَ} 2.
عن ابن عمر قال: "نزل في الخمر ثلاث آيات، فأول
شيء: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ} ... الآية. فقيل:" حُرِّمت
الخمر "، فقالوا: يا رسول الله.. دعنا ننتفع بها كما قال الله، فسكت عنهم، ثم
نزلت هذه الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ
وَأَنْتُمْ سُكَارَى} فقيل:" حُرِّمت الخمر "، فقالوا: يا رسول الله.. ألا
نشربها قرب الصلاة، فسكت عنهم، ثم نزلت: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ} فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم:"
حُرِّمت الخمر "3."
3- أول ما نزل في القتال: عن ابن عباس قال: أول
آية نزلت في القتال: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا
وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} 4.
1 النساء: 43.
2
المائدة: 90، 91.
3 رواه الطيالسي في مسنده.
4 رواه
الحاكم في المستدرك [والآية من سورة الحج: 39] .
فوائد هذا
المبحث
ولمعرفة أول ما نزل وآخر ما نزل فوائد أهمها:
أ-
بيان العناية التي حظي به القرآن الكريم صيانة له وضبطًا لآياته: فقد وعى
الصحابة هذا الكتاب آية آية، فعرفوا متى نزلت؟ وأين نزلت؟ حيث كانوا يتلقون عن
رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما ينزل عليه من القرآن تلقِّي المؤمنين لأصول
دينهم، ومبعث إيمانهم، ومصدر عزهم ومجدهم، وكان من أثر
ذلك سلامة
القرآن من التغيير والتبديل: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا
لَهُ لَحَافِظُونَ} 1.
ب- إدراك أسرار التشريع الإسلامي في تاريخ
مصدره الأصيل: فإن آيات القرآن الكريم عالجت النفس البشرية بهداية السماء.
وأخذت الناس بالأساليب الحكيمة التي ترقى بنفوسهم في سلم الكمال، وتدرجت بهم في
الأحكام التي يستقيم بها منهج حياتهم على الحق، وتنتظم شئون مجتمعهم على الطريق
الأقوم.
جـ- تمييز الناسخ من المنسوخ: فقد ترد الآيتان أو الآيات في
موضوع واحد، ويختلف الحكم في إحداها عن الأخرى، فإذا عُرِفَ ما نزل أولًَا وما
نزل آخرًا كان حكم ما نزل آخرًا ناسخًا لحكم ما نزل أولًا.
1 الحجر:
9.
أسباب النزول
مدخل
6- أسباب النزول:
نزل القرآن ليهدي الإنسانية
إلى المحجة الواضحة، ويرشدها إلى الطريق المستقيم، ويقيم لها أسس الحياة
الفاضلة التي تقوم دعامتها على الإيمان بالله ورسالاته، ويقرر أحوال الماضي،
ووقائع الحاضر، وأخبار المستقبل.
وأكثر القرآن نزل ابتداء لهذه
الأهداف العامة، ولكن الصحابة رضي الله عنهم في حياتهم مع رسول الله -صلى الله
عليه وسلم- قد شاهدوا أحداث السيرة، وقد يقع بينهم حادث خاص يحتاج إلى بيان
شريعة الله فيه، أو يلتبس عليهم أمر فيسألون رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
عنه لمعرفة حكم الإسلام فيه، فيتنزل القرآن لذلك الحادث، أو لهذا السؤال
الطارئ، ومثل هذا يُعرف بأسباب النزول.
عناية العلماء به
وقد
اعتنى الباحثون في علوم القرآن بمعرفة سبب النزول، ولمسوا شدة الحاجة إليه في
تفسير القرآن فأفرده جماعة منهم بالتأليف، ومن أشهرهم: "علي بن المديني" شيخ
البخاري، ثم "الواحدي" 1, في كتابه "أسباب النزول" ، ثم "الجعبري" 2, الذي
اختصر كتاب "الواحدي" بحذف أسانيده ولم يزد عليه شيئًا، ثم شيخ الإسلام "ابن
حجر" 3, الذي ألَّف كتابًا في أسباب النزول أطلع السيوطي على جزء من مسودته ولم
يتيسر له الوقوف عليه كاملًا، ثم
1 هو أبو الحسن علي بن أحمد النحوي
المفسر، توفي سنة 427 هجرية.
2 هو برهان الدين إبراهيم بن عمر، كان
له عناية بعلوم القرآن، فألَّف "روضة الطرائف في رسم المصاحف" و "كنز المعاني"
وهو شرح للشاطبية في القراءات، توفي سنة 732 هجرية.
3 هو أبو الفضل
شهاب الدين الحافظ ابن حجر العسقلاني واسمه أحمد بن علي، ينسب إلى عسقلان
بفلسطين. كان له عناية بالحديث، واشتهر بعلومه، وكتبه عماد في هذا الفن، توفي
سنة 852 هجرية.
"السيوطي" 1, الذي قال عن نفسه: "وقد ألَّفت فيه
كتابًا حافلًا موجزًا محررًا لم يُؤلَّف مثله في هذا النوع، سميته" لُباب
المنقول في أسباب النزول "2."
1 هو جلال الدين عبد الرحمن السيوطي
المتوفى سنة 911 هجرية.
2 انظر الإتقان جـ1 ص28.
ما
يُعْتَمد عليه في معرفة سبب النزول:
والعلماء يعتمدون في معرفة سبب
النزول على صحة الرواية عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أو عن الصحابة، فإن
إخبار الصحابي عن مثل هذا إذا كان صريحًا لا يكون بالرأي، بل يكون له حكم
المرفوع، قال الواحدي: "لا يحل القول في أسباب نزول الكتاب إلا بالرواية
والسماع ممن شاهدوا التنزيل، ووقفوا على الأسباب، وبحثوا عن علمها وجدُّوا في
الطلب" وهذا هو نهج علماء السَّلف، فقد كانوا يتورعون عن أن يقولوا شيئًا في
ذلك دون تثبت، قال "محمد بن سيرين" 1: سألت "عبيدة" 2 عن آية من القرآن فقال:
اتق الله وقل سدادًا، ذهب الذين يعلمون فيما أنزل الله من القرآن، وهو يعني
الصحابة، وإذا كان هذا هو قول "ابن سيرين" من أعلام علماء التابعين تحريًّا
للرواية، ودقة في النقل، فإنه يدل على وجوب الوقوف عند أسباب النزول الصحيحة،
ولذا فإن المعتمد من ذلك فيما رُوِي من أقوال الصحابة ما كانت صيغته جارية مجرى
المسند، بحيث تكون هذه الصيغة جازمة بأنها سبب النزول.
وذهب
"السيوطي" إلى أن قول التابعي إذا كان صريحًا في سبب النزول فإنه يُقْبَل،
ويكون مُرسلًا، إذا صح المُسْنَد إليه وكان من أئمة التفسير الذين
1
تابعي من علماء البصرة، اشتهر بعلوم الحديث، وتعبير الرؤيا، وتوفي سنة 110
هجرية.
2 هو عَبيدة بالفتح- بن عمرو السلماني، أسلم قبل وفاة النبي
-صلى الله عليه وسلم- بسنتين ولم يلقه، وكان ابن سيرين من أروى الناس عنه.
أخذوا
عن الصحابة كمجاهد وعِكرمة وسعيد بن جبير، واعتضد بمرسل آخر1.
وقد
أخذ "الواحدي" على علماء عصره تساهلهم في رواية سبب النزول، ورماهم بالإفك
والكذب، وحذَّرهم من الوعيد الشديد، حيث يقول: "أما اليوم فكل أحد يخترع شيئًا،
ويختلق إفكًا وكذبًا، ملقيًا زمامه إلى الجهالة، غير مفكر في الوعيد للجاهل
بسبب الآية" .
1 انظر الإتقان جـ1 ص31.
تعريف السبب
وسبب
النزول بعد هذا التحقيق يكون قاصرًا على أمرين:
1- أن تحدث حادثة
فيتنزل القرآن الكريم بشأنها، وذلك كالذي رُوِي عن ابن عباس قال: {وَأَنْذِرْ
عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} 1.. خرج النبي -صلى الله عليه وسلم- حتى صعد
الصفا، فهتف: "يا صاحباه" ، فاجتمعوا إليه، فقال: "أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلًا
تخرج بسفح هذا الجبل أكنتم مُصَدِّقِيَّ؟" قالوا: ما جربنا عليك كذبًا، قال:
"فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد" ، فقال أبو لهب2: تبٍّا لك، إنما جمعتنا
لهذا؟ ثم قام، فنزلت هذه السورة: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} 3.
2-
أن يُسأل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن شيء فيتنزل القرآن ببيان الحكم
فيه، كالذي كان من خولة بنت ثعلبة عندما ظاهر4 منها زوجها أوس بن الصامت، فذهبت
تشتكي من ذلك، عن عائشة قالت: "تبارك الذي وسع سمعه كل شيء، إني لأسمع كلام
خولة بنت ثعلبة ويخفى علي بعضه وهي تشتكي زوجها إلى رسول الله -صلى الله عليه
وسلم- وهي تقول: يا رسول الله، أكل شبابي ونثرتُ له بطني"
1
الشعراء: 214.
2 اسمه عبد العزى بن عبد المطلب بن هاشم.
3
أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما [والآية من سورة المسد: 1] .
4
الظِّهار: أن يقول الرجل لامرأته: أنتِ عليَّ كظهر أمي، واختلفوا في غير هذه
الصيغة.
حتى إذا كبر سني وانقطع ولدي ظاهر مني! اللهم إني أشكو
إليك، قالت: فما بَرِحَتْ حتى نزل جبريل بهؤلاء الآيات: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ
قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا} وهو أوس بن الصامت "1."
ولا
يعني هذا أن يلتمس الإنسان لكل آية سببًا، فإن القرآن لم يكن نزوله وقفًا على
الحوادث والوقائع، أو على السؤال والاستفسار، بل كان القرآن يتنزل ابتداء،
بعقائد الإيمان، وواجبات الإسلام، وشرائع الله تعالى في حياة الفرد وحياة
الجماعة، قال "الجعبري" : "نزل القرآن على قسمين: قسم نزل ابتداء، وقسم نزل عقب
واقعة أو سؤال" 2.
ولذا يُعرَّف سبب النزول بما يأتي: "هو ما نزل
قرآن بشأنه وقت وقوعه كحادثة أو سؤال" .
ومن الإفراط في علم سبب
النزول أن نتوسع فيه، ونجعل منه ما هو من قبيل الإخبار عن الأحوال الماضية،
والوقائع الغابرة، قال السيوطي: "والذي يتحرر في سبب النزول أنه ما نزلت الآية
أيام وقوعه، ليخرج ما ذكره الواحدي في تفسيره في سورة الفيل من أن سببها قصة
قدوم الحبشة، فإن ذلك ليس من أسباب النزول في شيء، بل هو من باب الإخبار عن
الوقائع الماضية، كذكر قصة قوم نوح وعاد وثمود وبناء البيت ونحو ذلك، وكذلك
ذكره في قوله: {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا} 3 سبب اتخاذه
خليلًا، فليس ذلك من أسباب نزول القرآن كما لا يخفى" 4.
1 أخرجه ابن
ماجه وابن أبي حاتم، والحاكم وصححه، وابن مردويه، والبيهقي [والآية من سورة
المجادلة: 1] .
2 انظر الإتقان جـ1 ص28.
3 النساء:
125.
4 انظر الإتقان جـ1 ص31.
فوائد معرفة سبب النزول
لمعرفة
سبب النزول فوائد أهمها:
أ- بيان الحكمة التي دعت إلى تشريع حكم من
الأحكام وإدراك مراعاة الشرع للمصالح العامة في علاج الحوادث رحمة بالأمة.
ب-
تخصيص حكم ما نزل إن كان بصيغة العموم بالسبب عند من يرى أن العبرة بخصوص السبب
لا بعموم اللَّفظ، وهي مسألة خلافية سيأتي لها مزيد من الإيضاح، وقد يُمثَّل
لهذا بقوله تعالى: {لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا
وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ
بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} 1, فقد رُوِيَ أن مروان
قال لبوَّابه: اذهب يا رافع إلى ابن عباس فقل: لئن كان كل امرئ منا فرح بما
أُوتي وأحب أن يُحمد بما لم يفعل يُعذب لنعذبن أجمعون، فقال ابن عباس: ما لكم
ولهذه الآية، إنما نزلت في أهل الكتاب. ثم تلا: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ
مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} 2 ... الآية. قال ابن عباس: سألهم رسول
الله -صلى الله عليه وسلم- عن شيء فكتموه إياه وأخذوا بغيره، فخرجوا وقد أروه
أن قد أخبروه بما سألهم عنه واستحمدوا بذلك إليه وفرحوا بما أوتوا من كتمان ما
سألهم عنه "3."
جـ- إذا كان لفظ ما نزل عامًّا وورد دليل على تخصيصه
فمعرفة السبب تُقصر التخصيص على ما عدا صورته، ولا يصح إخراجها، لأن دخول صورة
السبب في اللفظ العام قطعي، فلا يجوز إخراجها بالاجتهاد لأنه ظني، وهذا هو ما
عليه الجمهور وقد يُمثَّل لهذا بقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ
الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا
وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ, يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ
أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ,
يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ
اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ} 4.. فإن هذه الآية نزلت في عائشة خاصة، أو
فيها وفي سائر أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم-
1 آل عمران:
188.
2 آل عمران: 187.
3 أخرجه البخاري ومسلم
وغيرهما.
4 النور: 23، 25.
"عن ابن عباس في قوله: {إِنَّ
الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} ... الآية: نزلت في عائشة خاصة" 1, وعن
ابن عباس في هذه الآية أيضًا: "هذه في عائشة وأزواج النبي -صلى الله عليه وسلم-
ولم يجعل الله لمن فعل ذلك توبة، وجعل لمن رمى امرأة من المؤمنات من غير أزواج
النبي -صلى الله عليه وسلم- التوبة, ثم قرأ: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ
الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ
ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُولَئِكَ
هُمُ الْفَاسِقُونَ, إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا
فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} 2. وعلى هذا فإن قبول توبة القاذف وإن كان
مخُصَصًّا لعموم قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ
الْغَافِلاتِ} 3, لا يتناول بالتخصيص مَن قذف عائشة، أو قذف سائر أزواج النبي
-صلى الله عليه وسلم- فإن هذا لا توبة له، لأن دخول صورة السبب في اللفظ العام
قطعي."
د- ومعرفة سبب النزول خير سبيل لفهم معاني القرآن، وكشف
الغموض الذي يكتنف بعض الآيات في تفسيرها ما لم يُعرف سبب نزولها، قال الواحدي:
"لا يمكن معرفة تفسير الآية دون الوقوف على قصتها وبيان نزولها" وقال ابن دقيق
العيد: "بيان سبب النزول طريق قوي في فهم معاني القرآن" وقال ابن تيمية: "معرفة
سبب النزول يعين على فهم الآية فإن العلم بالسبب يورث العلم بالمسبب" 4, ومن
أمثلة ذلك: ما أشكل على مروان بن الحكم في فهم الآية الآنفة الذكر: {لا
تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا
بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ
وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} 5 حتى أورد له ابن عباس سبب النزول.
1
أخرجه ابن أبي حاتم، والحاكم وصححه، وابن مردويه.
2 أخرجه سعيد بن
منصور وابن جرير والطبراني وابن مردويه "راجع تفسير ابن جرير وتفسير ابن كثير"
[والآيتان من سورة النور: 4، 5] .
3 النور: 23.
4 انظر
الإتقان جـ1 ص28.
5 آل عمران: 188.
ومثله آية: {إِنَّ
الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ
اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ
خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ} 1, فإن ظاهر لفظ الآية لا يقتضي أن
السعي فرض، لأن رفع الجُناح يفيد الإباحة لا الوجوب، وذهب بعضهم إلى هذا تمسكًا
بالظاهر2، وقد ردت عائشة على عروة بن الزبير في فهمه ذلك بما ورد في سبب
نزولها، وهو أن الصحابة تأثموا من السعي بينهما لأنه من عمل الجاهلية، حيث كان
على الصفا أساف، وعلى المروة نائلة، وهما صنمان، وكان أهل الجاهلية إذا سعوا
مسحوهما: "عن عائشة أن عروة قال لها: أرأيت قول الله: {إِنَّ الصَّفَا
وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ
فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} فما أرى على أحد جُناحًا أن لا
يطوف بهما؟ فقالت عائشة: بئس ما قلت يابن أختي، إنها لو كانت على ما أوَّلتها
كانت: فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما، ولكنها إنما أنزلت، أن الأنصار قبل أن
يسلموا كانوا يُهلُّون لمناة الطاغية التي كانوا يعبدونها، وكان من أهلَّ لها
يتحرج أن يطوف بالصفا والمروة في الجاهلية، فأنزل الله: {إِنَّ الصَّفَا
وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} ... الآية. قالت عائشة: ثم قد بيَّن
رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الطواف بهما، فليس لأحد أن يدع الطواف بهما"
3.
هـ- ويوضح سبب النزول مَن نزلت فيه الآية حتى لا تُحمل على غيره
بدافع الخصومة والتحامل، كالذي ذُكِرَ في قوله تعالى: {وَالَّذِي قَالَ
لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ
الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ
وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} 4,
فقد أراد "معاوية" أن يستخلف "يزيد" وكتب إلى "مروان" عامله على المدينة بذلك،
فجمع الناس وخطبهم ودعاهم إلى بيعة "يزيد" فأبى
1 البقرة: 158.
2
حكى الزمخشري في الكشاف عن أبي حنيفة أنه يقول: إن السعي واجب وليس بركن وعلى
تاركه دم - وقد ذهب إلى عدم الوجوب ابن عباس وابن الزبير وأنس بن مالك وابن
سيرين.
3 أخرجه الشيخان وغيرهما.
4 الأحقاف: 17.
عبد
الرحمن بن أبي بكر أن يبايع، فأراده "مروان" بسوء لولا أن دخل بيت عائشة، وقال
مروان: إن هذا الذي أنزل الله فيه: {وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ
لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي}
فردت عليه عائشة وبيَّنت له سبب نزولها، "عن يوسف بن ماهك قال: كان مروان على
الحجاز، استعمله معاوية بن أبي سفيان، فخطب فجعل يذكر يزيد بن معاوية لكي يبايع
له بعد أبيه، فقال عبد الرحمن بن أبي بكر شيئًا، فقال: خذوه، فدخل بيت عائشة
فلم يقدروا عليه، فقال مروان: إن هذا أنزل فيه: {وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ
أُفٍّ لَكُمَا} فقالت عائشة:" ما أنزل الله فينا شيئًا من القرآن إلا أن الله
أنزل عذري "1، وفي بعض الروايات:" إن مروان لما طلب البيعة ليزيد قال: سُنَّة
أبي بكر وعمر، فقال عبد الرحمن: سُنَّة هرقل وقيصر، فقال مروان: هذا الذي قال
الله فيه: {وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا} ... الآية، فبلغ ذلك
عائشة فقالت: كذب مروان، والله ما هو به، ولو شئت أن أسمي الذي نزلت فيه لسميته
"2."
1 أخرجه البخاري.
2 أخرجه عبد بن حميد والنسائي
وابن المنذر والحاكم وصححه وابن مردويه عن محمد بن زياد، قال: لما بلغ مروان
لابنه قال مروان.. إلخ.
العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب
إذا
اتفق ما نزل مع السبب في العموم، أو اتفق معه في الخصوص، حُمل العام على عمومه،
والخاص على خصوصه.
ومثال الأول قوله تعالى: {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ
الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا
تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ
حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ
الْمُتَطَهِّرِينَ} 1, عن أنس قال: "إن اليهود كانوا إذا حاضت المرأة منهم
أخرجوها من البيت ولم يؤاكلوها ولم يشاربوها ولم يجامعوها في البيوت، فسُئل
رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن"
1 البقرة: 222.
ذلك،
فأنزل الله: {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ} .. الآية، فقال رسول الله, صلى
الله عليه وسلم: "جامعوهن في البيوت، واصنعوا كل شيء إلا النكاح" 1.
ومثال
الثاني قوله: {وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى, الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ
يَتَزَكَّى, وَمَا لأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى, إِلاَّ ابْتِغَاءَ
وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى, وَلَسَوْفَ يَرْضَى} 2, فإنها نزلت في أبي بكر،
والأتقى: أفعل تفضيل مقرون: بـ "أل" العهدية فيختص بمن نزل فيه، وإنما تفيد
"أل" العموم إذا كانت موصولة أو معرفة في جمع على الراجح، و "أل" في "الأتقى"
ليست موصولة لأنها لا توصل بأفعل التفضيل، و "الأتقى" ليس جمعًا، بل هو مفرد،
والعهد موجود لا سيما وأن صيغة أفعل تدل على التمييز، وذلك كاف في قصر الآية
على مَن نزلت فيه، ولذا قال الواحدي: الأتقى أبو بكر الصديق في قول جميع
المفسرين: "عن عروة أن أبا بكر الصديق أعتق سبعة كلهم يُعذَّب في الله: بلال،
وعامر بن فهيرة، والنهدية وابنتها، وأم عيسى، وأمة بني الموئل، وفيه نزلت
{وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى} ... إلى آخر السورة3، ورُوِي نحوه عن عامر بن عبد
الله بن الزبير وزاد فيه:" فنزلت هذه الآية: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى}
4 ... إلى قوله: {وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى، إِلَّا
ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى، وَلَسَوْفَ يَرْضَى} 5.
أما
إذا كان السبب خاصًّا ونزلت الآية بصيغة العموم فقد اختلف الأصوليون: أتكون
العبرة بعموم اللفظ أم بخصوص السبب؟
1- فذهب الجمهور إلى أن العبرة
بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فالحكم الذي يؤخذ من اللفظ العام يتعدى صورة السبب
الخاص إلى نظائرها، كآيات اللِّعان التي نزلت في قذف هلال بن أمية زوجته: "فعن
ابن عباس: أن هلال بن أمية قذف امرأته عند النبي -صلى الله عليه وسلم- بشريك بن
سحماء. فقال النبي, صلى الله عليه وسلم:"
1 أخرجه مسلم وأهل السنن
وغيرهم.
2 الليل: 17، 21.
3 أخرجه ابن أبي حاتم.
4
الليل: 5.
5 أخرجه الحاكم وصححه.
"البيِّنَةُ وإلا حدٌّ
في ظهرك" فقال: يا رسول الله.. إذا رأى أحدنا على امرأته رجلًا ينطلق يلتمس
البيِّنَة؟ فجعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "البيِّنَة وإلا حدٌّ في
ظهرك" , فقال هلال: والذي بعثك بالحق إني لصادق، وليُنزلن الله ما يبرئ ظهري من
الحد، ونزل جبريل فأنزل عليه: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} 1 ... حتى
بلغ: {إنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ} 2، 3.. فيتناول الحكم المأخوذ من هذا
اللفظ العام: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} غير حادثة هلال دون احتياج
إلى دليل آخر.
وهذا هو الرأي الراجح والأصح، وهو الذي يتفق مع عموم
أحكام الشريعة،، والذي سار عليه الصحابة والمجتهدون من هذه الأمة فعدوا بحكم
الآيات إلى غير صورة سببها. كنزول آية الظهار في أوس بن الصامت، أو سلمة بن صخر
- على اختلاف الروايات في ذلك، والاحتجاج بعموم آيات نزلت على أسباب خاصة شائع
لدى أهل العلم، قال ابن تيمية: "قد يجيء هذا كثيرًا ومن هذا الباب قولهم: هذه
الآية نزلت في كذا، لا سيما إن كان المذكور شخصًا كقولهم: إن آية الظهار نزلت
في امرأة أوس بن الصامت، وإن آية الكلالة نزلت في جابر بن عبد الله، وأن قوله:
{وَأنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ} 4, نزلت في بني قريظة والنضير، ونظائر ذلك مما
يذكرون أنه نزل في قوم من المشركين بمكة، أو في قوم من اليهود والنصارى، أو في
قوم من المؤمنين، فالذين قالوا ذلك لم يقصدوا أن حكم الآية يختص بأولئك الأعيان
دون غيرهم، هذا لا يقوله مسلم ولا عاقل على الإطلاق، والناس وإن تنازعوا في
اللفظ العام الوارد على سبب هل يختص بسببه فلم يقل أحد إن عمومات الكتاب
والسٌّنَّة تختص بالشخص المعيَّن، وإنما غاية ما يقال: إنها تختص بنوع ذلك
الشخص، فتعم ما يشبهه، ولا يكون العموم فيها بحسب اللفظ، والآية التي لها سبب
معين إن كانت"
1 النور: 6.
2 النور: 9.
3
أخرجه البخاري والترمذي وابن ماجه.
4 المائدة: 49.
أمرًا
أو نهيًا فهي متناولة لذلك الشخص ولغيره ممن كان بمنزلته، وإن كان خبرًا يمدح
أو يذم فهي متناولة لذلك الشخص ولمن كان بمنزلته "."
2- وذهب جماعة
إلى أن العبرة بخصوص السبب لا بعموم اللفظ، فاللفظ العام دليل على صورة السبب
الخاص، ولا بد من دليل آخر لغيره من الصور كالقياس ونحوه، حتى يبقى لنقل رواية
السبب الخاص فائدة، ويتطابق السبب والمسبب تطابق السؤال والجواب.
صيغة
سبب النزول
صيغة سبب النزول إما أن تكون نصًّا صريحًا في السببية،
وإما أن تكون محتملة.
فتكون نصًّا صريحًا في السببية إذا قال
الراوي: "سبب نزول هذه الآية كذا" ، أو إذا أتى بفاء تعقيبية داخلة على مادة
النزول بعد ذكر الحادثة أو السؤال، كما إذا قال: "حدث كذا" أو "سُئِلَ رسول
الله -صلى الله عليه وسلم- عن كذا فنزلت الآية" - فهاتان صيغتان صريحتان في
السببية سيأتي لهما أمثلة1.
وتكون الصيغة محتملة للسببية ولما
تضمنته الآية من الأحكام إذا قال الراوي: "نزلت هذه الآية في كذا" فذلك يراد به
تارة سبب النزول، ويراد به تارة أنه داخل في معنى الآية.
وكذلك إذا
قال: "أحسب هذه الآية نزلت في كذا" أو "ما أحسب هذه الآية نزلت إلا في كذا" فإن
الراوي بهذه الصيغة لا يقطع بالسبب - فهاتان صيغتان تحتملان السببية وغيرها
كذلك. ومثال الصيغة الأولى ما رُوِي عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: "أُنزلت
{نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ} 2 ... الآية. في إتيان النساء في أدبارهن" 3.
1
انظر أمثلة تعدد الروايات في سبب النزول التي ستأتي بعد هذه الفقرة.
2
البقرة: 223.
3 أخرجه البخاري.
ومثال الصيغة الثانية ما
رُوِيَ عن عبد الله بن الزبير "أن الزبير خاصم رجلًا من الأنصار قد شهد بدرًا
مع النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في شراج من
الحرة، وكانا يسقيان به كلاهما النخل، فقال الأنصاري، سرِّح الماء يمر، فأبى
عليه، فقال رسول الله, صلى الله عليه وسلم:" اسق يا زبير، ثم أَرْسِل الماء إلى
جارك "فغضب الأنصاري وقال: يا رسول الله، أن كان ابن عمتك؟ فتلون وجه رسول الله
-صلى الله عليه وسلم- ثم قال:" اسق يا زبير ثم احبس الماء حتى يرجع إلى الجُدر،
ثم أَرْسِل الماء إلى جارك ". واستوعى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- للزبير
حقه، وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قبل ذلك أشار على الزبير برأي أراد
فيه سعة له وللأنصاري، فلما أحفظ رسول الله الأنصاري استرعى للزبير حقه في صريح
الحكم، فقال الزبير: ما أحسب هذه الآية إلا في ذلك: {فَلا وَرَبِّكَ لا
يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} 1, قال ابن تيمية:"
قولهم: نزلت هذه الآية في كذا يراد به تارة سبب النزول، ويراد به تارة أن ذلك
داخل في الآية وإن لم يكن السبب، وقد تنازع العلماء في قول الصحابي: "نزلت هذه
الآية في كذا" ، هل يجري مجرى المسند كما لو ذكر السبب الذي أنزلت لأجله أو
يجري مجرى التفسير منه الذي ليس بمسند؟ فالبخاري يُدخله في المسند، وغيره لا
يدخله فيه، وأكثر المسانيد على هذا الاصطلاح كمسند أحمد وغيره، بخلاف ما إذا
ذكر سببًا نزلت عقبه فإنهم كلهم يدخلون مثل هذا في المسند "2, وقال الزركشي في
البرهان:" قد عُرِفَ من عادة الصحابة والتابعين أن أحدهم إذا قال: "نزلت هذه
الآية في كذا" فإنه يريد بذلك أنها تتضمن هذا الحكم لا أن هذا كان السبب في
نزولها فهو من جنس الاستدلال على الحكم بالآية، لا من جنس النقل لما وقع
"3."
1 أخرجه البخاري ومسلم وأهل السُّنن وغيرهم [والآية من سورة
النساء: 65] .
2 المراد بالإسناد هنا أن يكون مسندًا إلى الرسول
-صلى الله عليه وسلم- بمعنى أن يكون مرفوعًا. وإن كان من قول الصحابي، لأنه لا
مجال للاجتهاد فيه.
3 انظر الإتقان جـ1 ص31.
تعدد
الروايات في سبب النزول
قد تتعدد الروايات في سبب نزول آية واحدة،
وفي مثل هذه الحالة يكون موقف المفسر منها على النحو الآتي:
أ- إذا
لم تكن الصيغ الواردة صريحة مثل: "نزلت هذه الآية في كذا" أو "أحسبها نزلت في
كذا" فلا منافاة بينها، إذ المراد التفسير، وبيان أن ذلك داخل في الآية ومستفاد
منها، وليس المراد ذكر سبب النزول، إلا إن قامت قرينة على واحدة بأن المراد بها
السببية.
ب- إذا كانت إحدى الصيغ غير صريحة كقوله: "نزلت في كذا"
وصرح آخر بذكر سبب مخالف فالمُعتمد ما هو نص في السببية، وتُحمل الأخرى على
دخولها في أحكام الآية، ومثال ذلك ما ورد في سبب نزول قوله تعالى: {نِسَاؤُكُمْ
حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} 1: "عن نافع قال: قرأت ذات
يوم: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ} فقال ابن عمر: أتدري فيم أنزلت هذه الآية؟
قلت: لا، قال: نزلت في إتيان النساء في أدبارهن" 2, فهذه الصيغة من ابن عمر غير
صريحة في السببية، وقد جاء التصريح بذكر سبب يخالفه "عن جابر قال: كانت اليهود
تقول: إذا أتى الرجل امرأته من خلفها في قُبلِها جاء الولد أحول، فنزلت:
{نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} 3" فجابر هو
المُعتمد لأن كلامه نقل صريح، وهو نص في السبب، أما كلام ابن عمر فليس بنص
فيُحمل على أنه استنباط وتفسير.
جـ- وإذا تعددت الروايات وكانت
جميعها نصًّا في السببية وكان إسناد أحدها صحيحًا دون غيره فالمُتعمد الرواية
الصحيحة، مثل: ما أخرجه الشيخان وغيرهما عن جندب البجلي قال: "اشتكى النبي -صلى
الله عليه وسلم- فلم يقم ليلتين أو ثلاثًا، فأتته امرأة فقالت: يا محمد، ما أرى
شيطانك إلا قد تركك، لم"
1 البقرة: 223.
2 أخرجه البخاري
وغيره.
3 أخرجه البخاري وأهل السُّنن وغيرهم.
يقربك
ليلتين أو ثلاثة، فأنزل الله: {وَالضُّحَى, وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى, مَا
وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} 1 "وأخرج الطبراني وابن أبي شيبة عن حفص بن
ميسرة عن أمه عن أمها -وكانت خادم رسول الله -صلى الله عليه وسلم:" أن جروًا
دخل بيت النبي -صلى الله عليه وسلم- فدخل تحت السرير، فمات، فمكث النبي -صلى
الله عليه وسلم- أربعة أيام لا ينزل عليه الوحي، فقال: يا خولة، ما حدث في بيت
رسول الله, صلى الله عليه وسلم؟ جبريل لا يأتيني! فقلت في نفسي: لو هيأت البيت
وكنسته، فأهويت بالمكنسة تحت السرير، فأخرجت الجرو، فجاء النبي -صلى الله عليه
وسلم- ترعد لحيته، وكان إذا نزل عليه أخذته الرعدة فقال: يا خولة دثريني فأنزل
الله: {وَالضُّحَى} ... إلى قوله: {فَتَرْضَى} قال ابن حجر في شرح البخاري:
"قصة إبطاء جبريل بسبب الجرو مشهورة، لكن كونها سبب نزول الآية غريب، وفي
إسناده من لا يُعرف، فالمعتمد ما في الصحيحين" 2.
د- فإذا تساوت
الروايات في الصحة ووُجِدَ وجه من وجوه الترجيح كحضور القصة مثلًا أو كون
إحداها أصح قُدِّمت الرواية الراجحة، ومثال ذلك ما أخرجه البخاري عن ابن مسعود
قال: "كنت أمشي مع النبي -صلى الله عليه وسلم- بالمدينة، وهو يتوكأ على عسيب،
فمر بنفر من اليهود، فقال بعضهم: لو سألتموه، فقالوا: حدِّثنا عن الروح، فقام
ساعة ورفع رأسه، فعرفتُ أنه يوحى إليه، حتى صعد الوحي، ثم قال: {قُلِ الرُّوحُ
مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} 3.. وقد
أخرج الترمذي وصححه عن ابن عباس قال:" قالت قريش لليهود: أعطونا شيئًا نسأل عنه
هذا الرجل، فقالوا: اسألوه عن الروح، فسألوه فأنزل الله: {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ
الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} ... الآية، فهذه الرواية تقتضي
أنها نزلت بمكة حيث كانت قريش. والرواية الأولى تقتضي أنها نزلت بالمدينة،
وتُرجَّح الرواية الأولى لحضور ابن مسعود القصة، ثم لما عليه الأمة من تلقِّي
صحيح البخاري بالقبول وترجيحه على ما صح في غيره.
1 الضحى: 1-3.
2
انظر الإتقان، جـ1ص32، وخولة: هي خادم رسول الله, صلى الله عليه وسلم.
3
الإسراء: 85.
وقد اعتبر "الزركشي" هذا المثال من باب تعدد النزول
وتكرره1، فتكون هذه الآية قد نزلت مرتين: مرة بمكة، ومرة بالمدينة، واستند في
ذلك إلى أن سورة "سبحان" مكية بالاتفاق.
وإني أرى أن كون السورة
مكية لا ينفي أن تكون آية منها أو أكثر مدنية، وما أخرجه البخاري عن ابن مسعود
يدل على أن هذه الآية: {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ
مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} مدنية، فالوجه الذي اخترناه من ترجيح رواية
ابن مسعود على رواية الترمذي عن ابن عباس أولى من حمل الآية على تعدد النزول
وتكرره. ولو صح أن الآية مكية وقد نزلت جوابًا عن سؤال فإن تكرار السؤال نفسه
بالمدينة لا يقتضي نزول الوحي بالجواب نفسه مرة أخرى, بل يقتضي أن يجيب الرسول
-صلى الله عليه وسلم- بالجواب الذي نزل عليه من قبل.
هـ- إذا تساوت
الروايات في الترجيح جُمِعَ بينها إن أمكن، فتكون الآية قد نزلت بعد السببين أو
الأسباب لتقارب الزمن بينها، كآيات اللِّعان: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ
أزْواجَهمْ} 2, فقد أخرج البخاري والترمذي وابن ماجه عن ابن عباس أنها نزلت في
هلال بن أمية، قذف امرأته عند النبي -صلى الله عليه وسلم- بشريك بن سحماء، كما
ذكرنا من قبل3.
وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن سهل بن سعد قال:
"جاء عويمر إلى عاصم بن عدي، فقال: سئل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن رجل
وجد مع امرأته رجلًا أيقتله فيُقتل به أم كيف يصنع؟ ..." فجمع بينهما بوقوع
حادثة هلال أولًا، وصادف مجيء عويمر كذلك، فنزلت في شأنهما معًا بعد حادثتيهما.
قال ابن حجر: لا مانع من تعدد الأسباب.
و إن لم يمكن الجمع لتباعد
الزمن فإنه يُحْمَل على تعدد النزول وتكرره، ومثاله: ما أخرجه الشيخان عن
المسيب قال: "لما حضر أبا طالب الوفاة دخل"
1 انظر البرهان: جـ1
ص30.
2 النور: 6- 9.
3 انظر صفحة 83، والعبرة بعموم
اللفظ لا بخصوص السبب.
عليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وعنده
أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية، فقال: "أي عم، قل: لا إله إلا الله أحاج لك بها
عند الل هـ" ، فقال أبو جهل وعبد الله: يا أبا طالب: أترغب عن ملة عبد المطلب؟
فلم يزالا يكلمانه حتى قال: هو على ملة عبد المطلب، فقال النبي, صلى الله عليه
وسلم: "لأستغفرن لك ما لم أنه عنه" ، فنزلت: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ
وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ} 1.
وأخرج
الترمذي عن عليٍّ قال: "سمعت رجلًا يستغفر لأبويه وهما مشركان فقلت: تستغفر
لأبويك وهما مشركان؟ فقال: استغفر إبراهيم لأبيه وهو مشرك، فذكرتُ ذلك لرسول
الله -صلى الله عليه وسلم- فنزلت" .
وأخرج الحاكم وغيره عن ابن
مسعود قال: "خرج النبي -صلى الله عليه وسلم- يومًا إلى المقابر، فجلس إلى قبر
منها، فناجاه طويلًا ثم بكى، فقال:" إن القبر الذي جلستُ عنده قبر أمي، وإني
استأذنت ربي في الدعاء لها فلم يأذن لي، فأنزل عليَّ: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ
وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ} . فجمع بين هذه
الروايات بتعدد النزول.
ومن أمثلته كذلك ما رُوِيَ عن أبي هريرة:
"أن النبي -صلى الله عليه وسلم- وقف على حمزة حين استُشِهد وقد مُثِّلَ به،
فقال:" لأُمَثِّلَنَّ بسبعين منهم مكانك "، فنزل جبريل والنبي -صلى الله عليه
وسلم- واقف بخواتيم سورة النحل: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا
عُوقِبْتُمْ بِهِ} 2 ... إلى آخر السورة" 3, فهذا يدل على نزولها يوم أُحد.
وجاء
في رواية أخرى أنها نزلت يوم فتح مكة4، والسورة مكية، فجمع بين ذلك، بأنها نزلت
بمكة قبل الهجرة مع السورة، ثم بأحد، ثم يوم الفتح، ولا مانع مع ذلك لما فيه من
التذكير بنعمة الله على عباده واستحضار شريعته، قال الزركشي في البرهان: "وقد
ينزل الشيء مرتين تعظيمًا لشأنه، وتذكيرًا"
1 التوبة: 113.
2
النحل: 126.
3 أخرجه البيهقي والبزار عن أبي هريرة.
4
أخرجها الترمذي والحاكم عن أُبَيِّ بن كعب.
عند حدوث سببه خوف
نسيانه، كما قيل في الفاتحة، نزلت مرتين: مرة بمكة، وأخرى بالمدينة "."
هذا
ما يذكره علماء الفن في تعدد النزول وتكرره، ولا أرى لهذا الرأي وجهًا
مستساغًا، حيث لا تتضح الحكمة من تكرار النزول. وإنما أرى أن الروايات المتعددة
في سبب النزول ولا يمكن الجمع بينها يتأتى فيها الترجيح. فالروايات الواردة في
سبب نزول قوله تعالى: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ
يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ} 1 ... الآية، ترجح فيها الرواية الأولى على
الروايتين الأخيرتين، لأنها وردت في الصحيحين دونهما، وحسبك برواية الشيخين
قوة. فالراجح أن الآية نزلت في أبي طالب. وكذلك الشأن في الروايات التي وردت في
سبب نزول خواتيم سورة النحل، فإنها ليست في درجة سواء. والأخذ بأرجحها أولى من
القول بتعدد النزول وتكرره.
والخلاصة.. أن سبب النزول إذا تعدد:
فإما أن يكون الجميع غير صريح، وإما أن يكون الجميع صريحًا، وإما أن يكون بعضه
غير صريح وبعضه صريحًا، فإن كان الجميع غير صريح في السببية فلا ضرر حيث يُحمل
على التفسير والدخول في الآية "أ" وإن كان بعضه غير صريح وبعضه الآخر صريحًا
فالمعتمد هو الصريح "ب" وإن كان الجميع صريحًا فلا يخلو، إما أن يكون أحدهما
صحيحًا أو الجميع صحيحًا, فإن كان أحدهما صحيحًا دون الآخر فالصحيح هو المعتمد
"جـ" وإن كان الجميع صحيحًا فالترجيح إن أمكن "د" وإلا فالجمع إن أمكن "هـ"
وإلا حُمِل على تعدد النزول وتكرره "و" وفي هذا القسم الأخير مقال، وفي النفس
منه شيء.
1 التوبة: 113.
تعدد النزول مع وحدة السبب
قد
يتعدد ما ينزل والسبب واحد، ولا شيء في ذلك، فقد ينزل في الواقعة الواحدة آيات
عديدة في سور شتى. ومثاله: ما أخرجه سعيد بن منصور وعبد الرزاق والترمذي وابن
جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني والحاكم وصححه عن أم سلمة قالت: "يا
رسول الله، لا أسمع الله ذكر النساء في الهجرة بشيء، فأنزل الله: {فَاسْتَجَابَ
لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ
أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ} ... الآية1."
وأخرج أحمد
والنَّسائي وابن جرير وابن المنذر والطبراني وابن مردويه عن أم سلمة قالت:
"قلت: يا رسول الله، ما لنا لا نُذكر في القرآن كما يُذكر الرجال؟ فلم يرعني
منه ذات يوم إلا نداؤه على المنبر وهو يقول: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ
وَالْمُسْلِمَاتِ} 2 ... إلى آخر الآية."
وأخرج الحاكم عن أم سلمة
أيضًا أنها قالت: تغزو الرجال ولا تغزو النساء، وإنما لنا نصف الميراث؟ فأنزل
الله: {وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ
لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا
اكْتَسَبْنَ} 3, الآية، وأنزل: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ} فهذه
الآيات الثلاث نزلت على سبب واحد.
1 آل عمران: 195.
2
الأحزاب: 35.
3 النساء: 32.
تقدم نزول الآية على
الحكم
يذكر "الزركشي" نوعًا يتصل بأسباب النزول يسميه: "تقدم نزول
الآية على الحكم" 1, والمثال الذي ذكره في ذلك لا يدل على أن الآية تنزل في حكم
خاص ثم لا يكون العمل بها إلا مؤخرًا، وإنما يدل على أن الآية قد تنزل بلفظ
1
انظر "البرهان" جـ1 ص32.
مجمل يحتمل أكثر من معنى ثم يُحمل تفسيرها
على أحد المعاني فيما بعد فتكون دليلًا على حكم متأخر. جاء في "البرهان" :
"واعلم أنه قد يكون النزول سابقًا على الحكم، وهذا كقوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ
مَنْ تَزَكَّى} 1 فإنه يُستدل بها على زكاة الفطر، روى البيهقي بسنده إلى ابن
عمر أنها نزلت في زكاة رمضان، ثم أسند مرفوعًا نحوه، وقال بعضهم: لا أدري ما
وجه هذا التأويل؟ لأن هذه السورة مكية، ولم يكن بمكة عيد ولا زكاة" .
وأجاب
البغوي2 في تفسيره بأنه يجوز أن يكون النزول سابقًا على الحكم، كما قال: {لا
أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ, وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ} 3, فالسورة
مكية، وظهر أثر الحل يوم فتح مكة، حتى قال عليه الصلاة والسلام: "أُحلت لي ساعة
من نهار" 4.
وكذلك نزل بمكة: {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ
الدُّبُرَ} 5, قال عمر بن الخطاب: كنت لا أدري: أي الجمع يُهزم؟ فلما كان يوم
بدر رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ
وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} .
فأنت ترى فيما ذكره صاحب البرهان أن صيغة
سبب النزول محتملة للسببية ولما تضمنته الآية من الأحكام "رَوَى البيهقي بسنده
إلى ابن عمر أنها نزلت في زكاة رمضان" ، والآيات التي ذكرها مُجْمَلة تحتمل
أكثر من معنى، أو جاءت بصيغة الإخبار عما يحدث في المستقبل {سَيُهْزَمُ
الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} .
1 الأعلى: 14.
2 هو
أبو محمد الحسن بن مسعود بن محمد البغوي، الفقيه الشافعي، صاحب كتاب "مصابيح
السٌّنَّة" في الحديث و "معالم التنزيل" في التفسير، توفي سنة 510 هجرية.
3
البلد: 1، 2.
4 من حديث في الصحيحين، والآية تحتمل ثلاثة معانٍ: أن
يكون "حل" من الحلول بالمكان والنزول به، فيكون حلوله بالبلد الأمين مناطًا
لإعظامه بالإقسام به، أو يكون "حل" من الحلال بمعنى المباح، فإنهم قد استحلوه
عليه الصلاة والسلام في هذا البلد الحرام، أو يكون المعنى: وأنت حلٌّ في
المستقبل، وهذا الرأي الأخير هو الذي يكون النزول فيه سابقًا للحكم.
5
القمر: 45.
تعدد ما نزل في شخص واحد
قد يحدث لشخص واحد
من الصحابة أكثر من واقعة، ويتنزل القرآن بشأن كل واقعة منها، فيتعدد ما نزل
بشأنه بتعدد الوقائع، ومثاله: ما رواه البخاري في كتاب "الأدب المفرد" في بر
الوالدين عن سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه- قال: "نزلت فيَّ أربع آيات من كتاب
الله عز وجل: كانت أمي حلفت ألا تأكل ولا تشرب، حتى أفارق محمدًا -صلى الله
عليه وسلم- فأنزل الله تعالى: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا
لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا
مَعْرُوفًا} 1."
والثانية: أني كنت أخذت سيفًا فأعجبني فقلت: يا
رسول الله. هب لي هذا السيف، فنزلت: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ} 2.
والثالثة:
أني كنت مرضت فأتاني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقلت: يا رسول الله. إني
أريد أن أُقَسِّمَ مالي، أفأُوصي بالنصف؟ فقال: لا، فقلت: الثلث، فسكت، فكان
الثلث بعد جائزًا 3.
والرابعة: أني شربت الخمر مع قوم من الأنصار،
فضرب رجل منهم أنفي بلحي جمل، فأتيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأنزل الله
عز وجل تحريم الخمر "."
ويُعتبر من هذا القبيل موافقات عمر رضي الله
عنه، فقد نزل الوحي موافقًا لرأيه في عدة آيات.
1 لقمان: 15.
2
الأنفال: 1.
3 نزل في الوصية قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا
حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ
وَالْأَقْرَبِينَ} [البقرة: 180] ولم يأت التصريح بنزول الآية في نص الحديث.
الاستفادة
من معرفة أسباب النزول في مجال التربية والتعليم
يعاني المربون في
مجال الحياة التعليمية كثيرًا من المتاعب في استخدام الوسائل التربوية لإثارة
انتباه الطلاب حتى تتهيأ نفوسهم للدرس في شوق يستجمع قواهم العقلية ويرغبهم في
الاستماع والمتابعة، والمرحلة التمهيدية من مراحل الدرس تحتاج إلى فطنة لماحة
تعين المدرس على اجتذاب مشاعر الطلاب لدرسه بشتى الوسائل المناسبة، كما تحتاج
إلى ممارسة طويلة تُكسبه خبرة في حسن اختيار الربط بين معلوماتهم دون تعسف
يكلفه شططًا.
وكما تهدف المرحلة التمهيدية في الدرس إلى إثارة
انتباه الطلاب واجتذاب مشاعرهم فإنها تهدف كذلك إلى التصور الكلي للموضوع، كي
يسهل على المدرس أن ينتقل بطلابه من الكلي للجزئي إلى أن يستوعب عناصر الدرس
تفصيلًا بعد أن تصوره طلابه جملة.
ومعرفة أسباب النزول هي السبيل
الأفضل لتحقيق تلك الأهداف التربوية في دراسة القرآن الكريم تلاوة وتفسيرًا.
إن
سبب النزول إما أن يكون قصة لحادثة وقعت، وإما أن يكون سؤالًا طُرِحَ على رسول
الله -صلى الله عليه وسلم- لاستكشاف حكم في موضوع، فينزل القرآن إثر الحادثة أو
السؤال، فلن يجد المدرس نفسه في حاجة لمعالجة التمهيد للدرس بشيء يبتكره
ويختاره، إذ إنه إذا ساق سبب النزول كانت قصته كافية في إثارة انتباه الطلاب،
واجتذاب مشاعرهم، واستجماع قواهم العقلية، وتهيئة نفوسهم لتقبل الدرس، وتشويقهم
للاستماع إليه، وترغيبهم في الحرص عليه، فهم يتصورون الدرس بمعرفة سبب النزول
تصورًا عامًّا بما فيه من عناصر القصة المثيرة، فتتوق نفوسهم إلى معرفة ما نزل
ملائمًا له وما يتضمنه من أسرار تشريعية وأحكام تفصيلية، تهدي الإنسانية إلى
نهج الحياة الأقوم، وصراطها المستقيم، وسبيل عزها ومجدها وسعادتها.
وعلى
المربين في مجال الحياة التربوية التعليمية الخاصة بمقاعد الدرس أو العامة في
التوجية والإرشاد أن يستفيدوا من سياق أسباب النزول في التأثير على الطلاب
الدارسين وجماهير المسترشدين، فذلك أجدى وأنفع وأهدى سبيلًا لتحقيق الأهداف
التربوية بأروع معانيها وأرقى صورها.
المناسبات بين الآيات
والسور
كما أن معرفة سبب النزول لها أثرها في فهم المعنى وتفسير
الآية، فإن معرفة المناسبة بين الآيات تساعد كذلك على حسن التأويل، ودقة الفهم،
ولذا أفرد بعض العلماء هذا المبحث بالتصنيف1.
والمناسبة في اللغة:
المقاربة، يقال فلان يناسب فلانًا أي يقرب منه ويشاكله، ومنه المناسبة في العلة
في باب القياس، وهي الوصف المقارب للحكم.
والمراد بالمناسبة هنا:
وجه الارتباط بين الجملة والجملة في الآية الواحدة أو بين الآية والآية في
الآيات المتعددة، أوبين السورة والسورة.
ولمعرفة المناسبة فائدتها
في إدراك اتساق المعاني، وإعجاز القرآن البلاغي، وإحكام بيانه، وانتظام كلامه،
وروعة أسلوبه {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ
حَكِيمٍ خَبِيرٍ} 2.
قال الزركشي: "وفائدته جعل أجزاء الكلام بعضها
آخذًا بأعناق بعض، فيقوى بذلك الارتباط، ويصير التأليف حاله حال البناء المحكم
المتلائم الأجزاء" .
1 ممن صنَّف فيه أبو جعفر أحمد بن إبراهيم بن
الزبير الأندلسي النحوي الحافظ المتوفى سنة 807 هجرية في كتاب سماه "البرهان في
مناسبة ترتيب سور القرآن" "مخطوط" ، وللشيخ برهان الدين البقاعي كتاب في هذا
سماه "نظم الدرر في تناسب الآيات والسور" وتوجد منه نسخة خطية بدار الكتب
المصرية وقد طبعته دائرة المعارف العثمانية - الهند 1389هـ، وانظر هذا المبحث
في "البرهان" للزركشي، جـ1 ص35.
2 هود: 1.
وقال القاضي
أبو بكر بن العربي: "ارتباط آي القرآن بعضها ببعض، حتى تكون كالكلمة الواحدة،
متسقة المعاني، منتظمة المباني، علم عظيم" .
ومعرفة المناسبات
والربط بين الآيات ليست أمرًا توقيفيًّا، ولكنها تعتمد على اجتهاد المفسر ومبلغ
تذوقه لإعجاز القرآن وأسراره البلاغية وأوجه بيانه الفريد، فإذا كانت المناسبة
دقيقة المعنى، منسجمة مع السياق، متفقة مع الأصول اللغوية في علوم العربية،
كانت مقبولة لطيفة.
ولا يعني هذا أن يلتمس المفسر لكل آية مناسبة،
فإن القرآن الكريم نزل مُنَجَّمًا حسب الوقائع والأحداث، وقد يدرك المفسر
ارتباط آياته وقد لا يدركها، فلا ينبغي أن يعتسف المناسبة اعتسافًا، وإلا كانت
تكلفًا ممقوتًا، قال الشيخ عز الدين بن عبد السلام1: "المناسبة علم حسن، ولكن
يُشترط في حسن ارتباط الكلام أن يقع في أمر متحد مرتبط أوله بآخره: فإن وقع على
أسباب مختلفة لم يُشترط فيه ارتباط أحدهما بالآخر" ثم قال: "ومن ربط بين ذلك
فهو متكلف بما لا يقدر عليه إلا برباط ركيك يصان عنه حسن الحديث فضلًا عن
أحسنه، فإن القرآن نزل في نيف وعشرين سنة في أحكام مختلفة، ولأسباب مختلفة، وما
كان كذلك لا يتأتى ربط بعضه ببعض" .
وقد عُنِيَ بعض المفسرين ببيان
المناسبة بين الجمل، أو بين الآيات، أو بين السور2 واستنبطوا وجوه ارتباط
دقيقة.
فالجملة قد تكون تأكيدًا لما قبلها، أوبيانًا، أو تفسيرًا،
أو اعتراضًا تذييليًّا - ولهذا أمثلته الكثيرة.
1 هو عبد العزيز بن
عبد السلام المشهور بالعز، كان عالمًا مجاهدًا ورعًا، توفي سنة 660 هجرية.
2
وجه الارتباط بين السور مبني على أن ترتيب السور توقيفي، وقد اختلف العلماء في
ذلك كما سيأتي.
وللآية تعلقها بما قبلها على وجه من وجوه الارتباط
يجمع بينها، كالمقابلة بين صفات المؤمنين وصفات المشركين، ووعيد هؤلاء ووعد
أولئك، وذكر آيات الرحمة بعد آيات العذاب، وآيات الترغيب بعد آيات الترهيب،
وآيات التوحيد والتنزيه بعد الآيات الكونية ... وهكذا.
وقد تكون
المناسبة في مراعاة حال المخاطَبين كقوله تعالى: {أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى
الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ, وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ, وَإِلَى
الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ, وَإِلَى الأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ} 1, فجمع بين
الإبل والسماء والجبال مراعاة لما جرى عليه الإلف والعادة بالنسبة إلى
المخاطَبين في البادية، حيث يعتمدون في معايشهم على الإبل، فتنصرف عنايتهم
إليها، ولا يتأتى لهم ذلك إلا بالماء الذي ينبت المرعى وترده الإبل، وهذا يكون
بنزول المطر، وهو سبب تقلب وجوههم في السماء، ثم لا بد لهم من مأوى يتحصنون به
ولا شيء أمنع كالجبال، وهم يطلبون الكلأ والماء فيرحلون من أرض ويهبطون أخرى،
ويتنقلون من مرعًى أجدب إلى مرعًى أخصب، فإذا سمع أهل البادية هذه الآيات خالطت
شغاف قلوبهم بما هو حاضر لا يغيب عن أذهانهم.
وقد تكون المناسبة بين
السورة والسورة، كافتتاح سورة "الأنعام" بالحمد: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي
خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} 2, فإنه
مناسب لختام سورة "المائدة" في الفصل بين العباد ومجازاتهم: {إِنْ
تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ
الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} 3.. إلى آخر السورة، كما قال سبحانه: {وَقُضِيَ
بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} 4،
وكافتتاح سورة "الحديد" بالتسبيح: {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} 5, فإنه مناسب
1
الغاشية: 17-20.
2 الأنعام: 1.
3 المائدة: 118.
4
الزمر: 75.
5 الحديد: 1.
لختام سورة "الواقعة" من الأمر
به: {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} 1, وكارتباط سورة {لِإِيلافِ
قُرَيْشٍ} 2, بسورة "الفيل" فإن هلاك أصحاب الفيل كانت عاقبته تمكين قريش من
رحلتيها شتاء وصيفًا، حتى قال الأخفش: اتصالها بها من باب قوله تعالى:
{فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا} 3.
وقد
تكون المناسبة بين فواتح السور وخواتمها.. ومن ذلك ما في سورة "القصص" فقد بدأت
بقصة موسى عليه السلام، وبيان مبدأ أمره ونصره، ثم ما كان منه عندما وجد رجلين
يقتتلان.
وحكى الله دعاءه: {قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ
فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ} 4، ثم ختم الله السورة بتسلية رسولنا
-صلى الله عليه وسلم- بخروجه من مكة والوعد بعودته إليها، ونهيه عن أن يكون
ظهيرًا للكافرين: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى
مَعَادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ
مُبِينٍ، وَمَا كُنتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلاَّ
رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِلْكَافِرِينَ} 5..
ومن
تتبع كتب التفسير وجد كثيرًا من وجوه المناسبات.
1 الواقعة: 96.
2
سورة قريش.
3 القصص: 8.
4 القصص: 17.
5
القصص: 85، 86.
نزول القرآن
مدخل
7- نزول القرآن:
أنزل الله القرآن على رسولنا محمد
-صلى الله عليه وسلم- لهداية البشرية، فكان نزوله حدثًا جللًا يؤذن بمكانته لدى
أهل السماء وأهل الأرض، فإنزاله الأول في ليلة القدر أشعر العالم العُلوي من
ملائكة الله بشرف الأمة المحمدية التي أكرمها الله بهذه الرسالة الجديدة لتكون
خير أمة أخرجت للناس، وتنزيله الثاني مفرَّقًا على خلاف المعهود في إنزال الكتب
السماوية قبله آثار الدهشة التي حملت القوم على المماراة فيه، حتى أسفر لهم صبح
الحقيقة فيما وراء ذلك من أسرار الحكمة الإلهية، فلم يكن الرسول -صلى الله عليه
وسلم- ليتلقى الرسالة العظمى جملة واحدة ويُقنع بها القوم مع ما هم عليه من
صَلَفٍ وعِناد، فكان الوحي يتنزل عليه تباعًا تثبيتًا لقلبه، وتسلية له،
وتدرجًا مع الأحداث والوقائع حتى أكمل الله الدين، وأتم النعمة.
نزول
القرآن جملة
يقول الله تعالى في كتابه العزيز: {شَهْرُ رَمَضَانَ
الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى
وَالْفُرْقَانِ} 1.
ويقول: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ
الْقَدْرِ} 2.
ويقول: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ
مُبَارَكَةٍ} 3.
ولا تعارض بين هذه الآيات الثلاث، فالليلة المباركة
هي ليلة القدر من شهر رمضان، إنما يتعارض ظاهرها مع الواقع العملي في حياة رسول
الله -صلى الله عليه وسلم- حيث نزل القرآن عليه في ثلاث وعشرين سنة.. وللعلماء
في هذا مذهبان أساسيان:
1 البقرة: 185.
2 القدر: 1.
3
الدخان: 3.
1- المذهب الأول: وهو الذي قال به ابن عباس وجماعة وعليه
جمهور العلماء: أن المراد بنزول القرآن في تلك الآيات الثلاث نزوله جملة واحدة
إلى بيت العزة من السماء الدنيا تعظيمًا لشأنه عند ملائكته، ثم نزل بعد ذلك
مُنَجَّمًا على رسولنا محمد -صلى الله عليه وسلم- في ثلاث وعشرين سنة1 حسب
الوقائع والأحداث منذ بعثته إلى أن توفي صلوات الله وسلامه عليه، حيث أقام في
مكة بعد البعثة ثلاث عشرة سنة، وبالمدينة بعد الهجرة عشر سنوات: فعن ابن عباس
قال: "بُعِثَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لأربعين سنة، فمكث بمكة ثلاث عشرة
سنة يُوحى إليه، ثم أُمِرَ بالهجرة عشر سنين، ومات وهو ابن ثلاث وستين" 2.
وهذا
المذهب هو الذي جاءت به الأخبار الصحيحة عن ابن عباس في عدة روايات:
أ-
عن ابن عباس قال: "أُنزل القرآن جملة واحدة إلى السماء الدنيا ليلة القدر. ثم
أُنزل بعد ذلك في عشرين سنة, ثم قرأ: {وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا
جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا} 3.. {وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ
لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا} 4.."
ب-
وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "فُصِلَ القرآن من الذكر فوُضِعَ في بيت
العزة من السماء الدنيا، فجعل جبريل ينزل به على النبي, صلى الله عليه وسلم"
5.
جـ- وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "أُنزل القرآن جملة
واحدة إلى سماء الدنيا، وكان بمواقع النجوم، وكان الله يُنزله على رسوله -صلى
الله عليه وسلم- بعضه في إثر بعض" 6.
1 وقدَّر بعض العلماء مدة نزول
القرآن بعشرين سنة، وبعضهم بخمس وعشرين سنة لاختلافهم في مدة إقامته, صلى الله
عليه وسلم -بعد البعثة- بمكة، أكانت ثلاث عشرة سنة، أم عشر سنين، أم خمس عشرة
سنة؟ مع اتفاقهم على أن إقامته بالمدينة بعد الهجرة عشر سنوات - والصواب الأول
- انظر "الإتقان" جـ1 ص39.
2 رواه البخاري.
3 الفرقان:
33.
4 رواه الحاكم والبيهقي والنَّسائي [والآية من سورة الإسراء:
106] .
5 رواه الحاكم.
6 رواه الحاكم والبيهقي.
د-
وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "أُنزل القرآن في ليلة القدر في شهر رمضان
إلى سماء الدنيا جملة واحدة، ثم أُنزل نُجومًا" 1.
2- المذهب
الثاني: وهو الذي رُوِيَ عن الشعبي2: أن المراد بنزول القرآن في الآيات الثلاث
ابتداء نزوله على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقد ابتدأ نزوله في ليلة
القدر في شهر رمضان، وهي الليلة المباركة، ثم تتابع نزوله بعد ذلك متدرجًا مع
الوقائع والأحداث في قرابة ثلاث وعشرين سنة، فليس للقرآن سوى نزول واحد هو
نزوله مُنَجَّمًا على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لأن هذا هو الذي جاء به
القرآن: {وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ
وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا} 3, وجادل فيه المشركون الذين نُقِلَ إليهم نزول
الكتب السماوية السابقة جملة واحدة: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا
نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ
فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً, وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ
جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا} 4. ولا يظهر للبشر مزية لشهر
رمضان وليلة القدر التي هي الليلة المباركة إلا إذا كان المراد بالآيات الثلاث
نزول القرآن على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهذا يوافق ما جاء في قوله
تعالى بغزوة بدر: {وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ
يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} 5. وقد
كانت غزوة بدر في رمضان. ويؤيد هذا ما عليه المحققون في حديث بدء الوحي، عن
عائشة قالت: "أول ما بُدئ به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من الوحي الرؤيا
الصادقة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فَلَق الصبح، ثم حُبِّبَ إليه
الخلاء فكان يأتي حِراء فيتحنث فيه الليالي ذوات العدد ويتزود لذلك، ثم يرجع
إلى خديجة -رضي الله عنها- فتزوده لمثلها، حتى فاجأه الحق وهو في غار حِراء.
فجاءه المَلَكُ فيه فقال: اقرأ، قال رسول الله, صلى الله عليه وسلم:" فقلت: ما
أنا بقارئ
1 رواه الطبراني.
2 الشعبي: هو عامر بن
شراحبيل، من كبار التابعين -وأكبر شيوخ أبي حنيفة- كان إمامًا في الحديث
والفقة، وتوفي سنة 109 هجرية.
3 الإسراء: 106.
4
الفرقان: 32، 33.
5 الأنفال: 41.
فأخذني فغطَّنِي حتى
بلغ مني الجَهْد ثم أرسلني "فقال: اقرأ، فقلت:" ما أنا بقارئ، فغَطَّنِي
الثانية حتى بلغ مني الجَهْد ثم أرسلني "فقال: اقرأ، فقلت:" ما أنا بقارئ،
فغَطَّنِي الثالثة حتى بلغ مني الجَهْد ثم أرسلني فقال: {اقْرَأْ بِاسْمِ
رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} .. حتى بلغ: {مَا لَمْ يَعْلَمْ} "1. فإن المحققين من
الشراح على أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- نُبِئ أولًا بالرؤيا في شهر مولده
شهر ربيع الأول، ثم كانت مدتها ستة أشهر، ثم أُوِحي إليه يقظة في شهر رمضان بـ"
اقرأ "وبهذا تتآزر النصوص على معنًى واحد."
3- وهناك مذهب ثالث: يرى
أن القرآن أُنزل إلى السماء الدنيا في ثلاث وعشرين ليلة قدر2 في كل ليلة منها
ما يُقَدِّرُ الله إنزاله في كل السنة، وهذا القدر الذي ينزل في ليلة القدر إلى
السماء الدنيا لسنة كاملة ينزل بعد ذلك مُنَجَّمًا على رسول الله -صلى الله
عليه وسلم- في جميع السنة.
وهذا المذهب اجتهاد من بعض المفسرين، ولا
دليل عليه.
أما المذهب الثاني الذي رُوِيَ عن الشعبي فأدلته -مع
صحتها والتسليم بها- لا تتعارض مع المذهب الأول الذي رُوِيَ عن ابن عباس. فيكون
نزول القرآن جملة وابتداء نزوله مفرقًا في ليلة القدر من شهر رمضان، وهي الليلة
المباركة.
فالراجح أن القرآن الكريم له تنزلان:
الأول:
نزوله جملة واحدة في ليلة القدر إلى بيت العزة من السماء الدنيا.
والثاني:
نزوله من السماء الدنيا إلى الأرض مفرقًا في ثلاث وعشرين سنة.
وقد
نقل القرطبي عن مقاتل بن حيان حكاية الإجماع على نزول القرآن جملة واحدة من
اللَّوْحِ المحفوظ إلى بيت العزة في السماء الدنيا. ونفى ابن عباس التعارض بين
الآيات الثلاث في نزول القرآن والواقع العملي في حياة الرسول -صلى الله عليه
وسلم- بنزول القرآن في ثلاث وعشرين سنة بغير شهر رمضان: عن ابن عباس:
1
رواه البخاري ومسلم وغيرهما [والآيات من سورة العلق: 1-5] .
2 أو
عشرين، أو خمس وعشرين ليلة قدر، بناء على الخلاف السابق في مدة إقامته بمكة.
"أنه
سأله عطية بن الأسود فقال: أوقع في قلبي الشك قوله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ
الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} 1، وقوله: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي
لَيْلَةِ الْقَدْرِ} 2, وهذا أنزل في شوال، وفي ذي القعدة، وفي ذي الحجة، وفي
المحرم وصفر وشهر ربيع، فقال ابن عباس: إنه أُنزل في رمضان في ليلة القدر جملة
واحدة ثم أُنزل على مواقع النجوم3 رَسْلًا4 في الشهور والأيام" 5.
وأشار
بعض العلماء إلى حكمة ذلك في تعظيم شأن القرآن، وتشريف المنزَّل عليه، قال
السيوطي: "قيل: السر في إنزاله جملة إلى السماء تفخيم أمره وأمر من نزل عليه،
وذلك بإعلام سكان السموات السبع أن هذا آخر الكتب المنزلة على خاتم الرسل لأشرف
الأمم قد قربناه إليهم لينزله عليهم. ولولا أن الحكمة الإلهية اقتضت وصوله
إليهم مُنَجَّمًا بحسب الوقائع لهبط به إلى الأرض جملة كسائر الكتب المنزَّلة
قبله، ولكن الله باين بينه وبينها، فجعل له الأمرين: إنزاله جملة، ثم إنزاله
مفرقًا، تشريفًا للمُنَزَّل عليه" . وقال السخاوي في جمال القراء: "في نزوله
إلى السماء جملة تكريم بني آدم وتعظيم شأنه عند الملائكة وتعريفهم عناية الله
بهم، ورحمته لهم، ولهذا المعنى أمر سبعين ألفًا من الملائكة أن تُشَيِّع سورة
الأنعام6، وزاد سبحانه في هذا المعنى بأن أمر جبريل بإملائه على السَّفَرَةِ
الكرام، وإنساخهم إياه، وتلاوتهم له" 7.
1 البقرة: 185.
2
القدر: 1.
3 على مواقع النجوم: أي على مثل مساقطها في نزوله مفرقًا
يتلو بعضه بعضًا.
4 رَسْلًا: أي على تُؤدَة ورِفق.
5
أخرجه ابن مردويه والبيهقي في الأسماء والصفات.
6 المشيَّع من
القرآن: ما نزل منه محفوفًا بالملائكة. أخرج الطبراني وأبو عبيد في فضائل
القرآن، عن ابن عباس قال: "نزلت سورة الأنعام بمكة ليلًا جملة حولها سبعون ألف
مَلَك يجأرون بالتسبيح" .
7 انظر "الإتقان" جـ1 ص40، 41.
4-
ومن العلماء مَن يرى أن القرآن نزل أولًا جملة إلى اللَّوح المحفوظ مستدلًَا
بقوله تعالى: {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيد فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} 1.. ثم نزل من
اللَّوح المحفوظ جملة كذلك إلى بيت العزة، ثم نزل مفرقًا، فهذه تنزلات
ثلاثة.
وهذا لا يتعارض مع ما سبق أن رجحناه، فالقرآن الكريم مثبت في
اللَّوح المحفوظ شأن سائر المغيبات المثبتة فيه، والقرآن الكريم نزل جملة من
اللَّوح المحفوظ إلى بيت العزة من السماء الدنيا -كما رُوِيَ عن ابن عباس- في
ليلة القدر، والقرآن الكريم بدأ نزوله مُنَجَّمًا -كما يرى الشعبي- على رسول
الله -صلى الله عليه وسلم- في الليلة المباركة ليلة القدر من شهر رمضان، إذ لا
مانع يمنع من نزوله جملة، ومن ابتداء نزوله على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
مفرَّقًا في ليلة واحدة، وبهذا ينتفي التعارض بين الأقوال كلها إذا استثنينا
المذهب الاجتهادي الثالث الذي لا دليل له.
1 البروج: 21، 22.
نزول
القرآن مُنَجَّمًا:
يقول تعالى في التنزيل: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ
رَبِّ الْعَالَمِينَ, نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ, عَلَى قَلْبِكَ
لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ, بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} 1.
ويقول:
{قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ
الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} 2.
ويقول:
{تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} 3.
ويقول:
{وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا
بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِه} 4.
1 الشعراء: 192-195.
2
النحل: 102.
3 الجاثية: 2.
4 البقرة: 23.
ويقول:
{قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ
بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى
لِلْمُؤْمِنِينَ} 1.
فهذه الآيات ناطقة بأن القرآن الكريم كلام الله
بألفاظه العربية، وأن جبريل نزل به على قلب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأن
هذا النزول غير النزول الأول إلى سماء الدنيا, فالمراد به نزوله مُنَجَّمًا،
ويدل التعبير بلفظ التنزيل دون الإنزال على أن المقصود النزول على سبيل التدرج
والتنجيم، فإن علماء اللغة يُفَرِّقون بين الإنزال والتنزيل، فالتنزيل لما نزل
مفرقًا، والإنزال أعم2.
وقد نزل القرآن مُنَجَّمًا في ثلاث وعشرين
سنة منها ثلاث عشرة بمكة على الرأي الراجح، وعشر بالمدينة، وجاء التصريح بنزوله
مفرَّقًا في قوله تعالى: {وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ
عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا} 3, أي جعلنا نزوله مفرقًا كي تقرأه
على الناس على مهل وتثبت، ونزَّلناه تنزيلًا بحسب الوقائع والأحداث.
أما
الكتب السماوية الأخرى -كالتوراة والإنجيل والزبور- فكان نزولها جملة، ولم تنزل
مفرقة، يدل على هذا قوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ
عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ
وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا} 4, فهذه الآية دليل على أن الكتب السماوية السابقة
نزلت جملة، وهو ما عليه جمهور العلماء، ولو كان نزولها مفرقًا لما كان هناك ما
يدعو الكفار إلى التعجب من نزول القرآن مُنَجَّمًا، فمعنى قولهم: {لَوْلا
نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً} : هَلَّا أُنزل عليه القرآن
دفعة واحدة كسائر الكتب؟ وماله أُنزل على التَّنْجِيمِ؟ ولم أُنزل مفرقًا؟ ولم
يرد الله عليهم بأن هذه سُنته في إنزال الكتب السماوية كلها كما رد عليهم في
قولهم: {وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي
الْأَسْوَاقِ} 5, بقوله: وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ
1 البقرة:
97.
2 انظر: مفردات الراغب.
3 الإسراء: 106.
4
الفرقان: 32.
5 الفرقان: 7.
الْمُرْسَلِينَ إِلَّا
إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ 1، وكما رد
عليهم في قولهم: {أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا} 2, بقوله: {قُلْ لَوْ
كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا
عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا} 3, وقوله: {وَمَا أَرْسَلْنَا
قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ} 4, بل أجابهم الله تعالى ببيان
وجه الحكمة في تنزيل القرآن مُنَجَّمًا بقوله: {كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ
فُؤَادَكَ} أي كذلك أنزل مفرَّقًا لحكمة هي: تقوية قلب رسول الله
{وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا} أي قدرناه آية بعد آية بعضه إثر بعض، أو بيناه
تبيينًا، فإن إنزاله مفرقًا حسب الحوادث أقرب إلى الحفظ والفهم وذلك من أعظم
أسباب التثبيت.
والذي استقرئ من الأحاديث الصحيحة أن القرآن كان
ينزل بحسب الحاجة خمس آيات وعشر آيات وأكثر وأقل، وقد صح نزول العشر آيات في
قصة الإفك جملة، وصح نزول عشر آيات في أول المؤمنين جملة، وصح نزول: {غَيْرُ
أُولِي الضَّرَرِ} وحدها وهي بعض آية "5."
1 الفرقان: 20.
2
الإسراء: 94.
3 الإسراء: 95.
4 الأنبياء: 7.
5
نقل هذا السيوطي عن "مكي بن أبي طالب" المتوفى سنة 368 هجرية، في كتاب له يسمى
"الناسخ والمنسوخ" انظر "الإتقان" جـ1 ص42- [والآية من سورة النساء: 95] .
حكمة
نزول القرآن منجما
مدخل
حكمة نزول القرآن مُنَجَّمًا:
نستطيع
أن نستخلص حكمة نزول القرآن الكريم مُنَجَّمًا من النصوص الواردة في ذلك.
ونجملها فيما يأتي:
1- الحكمة الأولى: تثبيت فؤاد رسول الله, صلى
الله عليه وسلم.
لقد وجه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- دعوته إلى
الناس، فوجد منهم نفورًا وقسوة، وتصدى له قوم غلاظ الأكباد فُطِروا على الجفوة،
وجُبِلوا على العناد,
يتعرضون له بصنوف الأذى والعنت، مع رغبته
الصادقة في إبلاغهم الخير الذي يحمله إليهم، حتى قال الله فيه: {فَلَعَلَّكَ
بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ
أَسَفًا} 1. فكان الوحي يتنزل على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فترة بعد
فترة، بما يثبِّت قلبه على الحق، ويُشْحذ عزمه للمضي قدمًا في طريق دعوته، لا
يبالي بظلمات الجهالة التي يواجهها من قومه. فإنها سحابة صيف عما قريب
تنقشع.
يبيِّن الله له سُنته في الأنبياء السابقين الذين كُذِّبوا
وأُوذوا فصبروا حتى جاءهم نصر الله، وأن قومه لم يكذبوه إلا علوًّا واستكبارًا،
فيجد عليه الصلاة والسلام في ذلك السٌّنَّة الإلهية في موكب النبوة عبر التاريخ
التي يتأسى بها تسلية له إزاء أذى قومه، وتكذيبهم له، وإعراضهم عنه {قَدْ
نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا
يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ,
وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا
وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا} 2، {فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ
رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ
الْمُنِيرِ} 3.
ويأمره القرآن بالصبر كما صبر الرسل من قبله:
{فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} 4..
ويطمئن
نفسه بما تكفل الله به من كفايته أمر المكذِّبين: {وَاصْبِرْ عَلَى مَا
يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا, وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ
أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا} 5..
وهذا هو ما جاء في
حكمة قصص الأنبياء بالقرآن: {وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ
الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ} 6..
1 الكهف: 6.
2
الأنعام: 33، 34.
3 آل عمران: 184.
4 الأحقاف: 35.
5
المزمل: 10، 11.
6 هود: 120.
وكلما اشتد ألم رسول الله
-صلى الله عليه وسلم- لتكذيب قومه، وداخله الحزن لأذاهم نزل القرآن دعمًا
وتسلية له، يهدد المكذِّبين بأن الله يعلم أحوالهم، وسيجازيهم على ما كان منهم:
{فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا
يُعْلِنُونَ} 1، {وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ
جَمِيعًا هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} 2.
كما يبشره الله تعالى
بآيات المنعة والغلبة والنصر: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} 3،
{وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا} 4، {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ
أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} 5.
وهكذا كانت آيات
القرآن تتنزل على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تباعًا تسلية له بعد تسلية،
وعزاء بعد عزاء، حتى لا يأخذ منه الحزن مأخذه ولا يستبد به الأسى، ولا يجد
اليأس إلى نفسه سبيلًا، فله في قصص الأنبياء أسوة، وفي مصير المكذِّبين سلوى،
وفي العدة بالنصر بُشرى، وكلما عرض له شيء من الحزن بمقتضى الطبع البشري تكررت
التسلية، فثبت قلبه على دعوته، واطمأن إلى النصر.
وهذه الحكمة هي
التي رد الله بها على اعتراض الكفار في تنجيم القرآن بقوله تعالى: {َذَلِكَ
لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا} 6.
قال أبو
شامة7: "فإن قيل: ما السر في نزوله مُنَجَّمًا؟ وهَلَّا أُنزل كسائر الكتب
جملة؟ قلنا: هذا سؤال قد تولى الله جوابه، فقال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ
كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً} 8.. يعنون:
كما أُنزل على من قبله من الرسل، فأجابهم تعالى بقوله: {كَذَلِكَ} أي أنزلناه
مفرَّقًا {لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ} أي لنقوي به قلبك، فإن الوحي إذا
كان"
1 يس: 76.
2 يونس: 65.
3 المائدة:
67.
4 الفتح: 3.
5 المجادلة: 21.
6 الفرقان:
32.
7 أبو شامة: هو عبد الرحمن بن إسماعيل المقدسي، الفقيه الشافعي،
له "الوجيز إلى علوم تتعلق بالقرآن العزيز" و "شرح على الشاطبية" المشهورة في
القراءات, توفي سنة 665 هجرية.
8 الفرقان: 32.
يتجدد في
كل حادثة كان أقوى للقلب، وأشد عناية بالمرسَل إليه، ويستلزم ذلك كثرة نزول
المَلَك إليه، وتجدد العهد به وبما معه من الرسالة الواردة من ذلك الجناب
العزيز، فيحدث له من السرور ما تقصر عنه العبارة، ولهذا كان أجود ما يكون في
رمضان لكثرة لقياه جبريل "1."
1 انظر "الإتقان" جـ1 ص41.
2-
الحكمة الثانية: التحدي والإعجاز.
فالمشركون تمادوا في غيهم،
وبالغوا في عُتوِّهم، وكانوا يسألون أسئلة تعجيز وتحد يمتحنون بها رسول الله
-صلى الله عليه وسلم- في نبوته، ويسوقون له من ذلك كل عجيب من باطلهم، كعلم
الساعة: {يَسْأَلونَكَ عَنِ السَّاعَةِ} 1، واستعجال العذاب:
{وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ} 2, فيتنزل القرآن بما يبين وجه الحق لهم،
وبما هو أوضح معنى في مؤدى أسئلتهم، كما قال تعالى: {وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ
إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا} 3, أي ولا يأتونك بسؤال
عجيب من أسئلتهم الباطلة إلا أتيناك نحن بالجواب الحق، وبما هو أحسن معنًى من
تلك الأسئلة التي هي مَثل في البطلان.
وحيث عجبوا من نزول القرآن
مُنَجَّمًا بيَّن الله لهم الحق في ذلك، فإن تحديهم به مفرقًا مع عجزهم عن
الإتيان بمثله أدخل في الإعجاز، وأبلغ في الحجة من أن ينزل جملة ويقال لهم:
جيئوا بمثله، ولهذا جاءت الآية عقب اعتراضهم: {لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ
الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً} أي لا يأتونك بصفة عجيبة يطلبونها كنزول القرآن
جملة إلا أعطيناك من الأحوال ما يحق لك في حكمتنا وبما هو أبين معنًى في
إعجازهم، وذلك بنزوله مفرقًا، ويشير إلى هذه الحكمة ما جاء ببعض الروايات في
حديث ابن عباس عن نزول القرآن: "فكان المشركون إذا أحدثوا شيئًا أحدث الله لهم
جوابًا" 4.
1 الأعراف: 187.
2 الحج: 47.
3
الفرقان: 33.
4 أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن عباس.
3-
الحكمة الثالثة: تيسير حفظه وفهمه.
لقد نزل القرآن الكريم على أمة
أمية لا تعرف القراءة والكتابة، سجلها ذاكرة حافظة، ليس لها دراية بالكتابة
والتدوين حتى تكتب وتدوِّن، ثم تحفظ وتفهم: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي
الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ
وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي
ضَلالٍ مُبِينٍ} 1، {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ
الْأُمِّيَّ} 2, فما كان للأمة الأمية أن تحفظ القرآن كله بيسر لو نزل جملة
واحدة، وأن تفهم معانيه وتتدبر آياته، فكان نزوله مفرقًا خير عون لها على حفظه
في صدورها وفهم آياته، كلما نزلت الآية أو الآيات حفظها الصحابة، وتدبروا
معانيها، ووقفوا عند أحكامها، واستمر هذا منهجًا للتعليم في حياة التابعين, عن
أبي نضرة قال: "كان أبو سعيد الخدري يعلمنا القرآن خمس آيات بالغداة، وخمس آيات
بالعَشي، ويخبر أن جبريل نزل بالقرآن خمس آيات خمس آيات" 3، وعن خالد بن دينار
قال: "قال لنا أبو العالية: تعلموا القرآن خمس آيات خمس آيات، فإن النبي -صلى
الله عليه وسلم- كان يأخذه من جبريل خمسًا خمسًا" 4.
وعن عمر قال:
"تعلموا القرآن خمس آيات خمس آيات، فإن جبريل كان ينزل بالقرآن على النبي -صلى
الله عليه وسلم- خمسًا خمسًا" 5.
1 الجمعة: 2.
2
الأعراف: 157.
3 أخرجه ابن عساكر.
4 أخرجه البيهقي.
5
أخرجه البيهقي في شعب الإيمان.
4- الحكمة الرابعة: مسايرة الحوادث
والتدرج في التشريع.
فما كان الناس ليسلس قيادهم طفرة للدين الجديد
لولا أن القرآن عالجهم بحكمه، وأعطاهم من دوائه الناجع جرعات يستطبون بها من
الفساد والرذيلة، وكلما حدثت حادثة بينهم نزل الحكم فيها يُجلِّي لهم صبحها
ويرشدهم إلى الهدى، ويضع لهم أصول التشريع حسب المقتضيات أصلًا بعد آخر فكان
هذا طبًّا لقلوبهم.
لقد كان القرآن الكريم بادئ ذي بدء يتناول أصول
الإيمان بالله تعالى وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وما فيه من بعث وحساب
وجزاء وجنة ونار، ويقيم على ذلك الحجج والبراهين حتى يستأصل من نفوس المشركين
العقائد الوثنية ويغرس فيها عقيدة الإسلام.
وكان يأمر بمحاسن
الأخلاق التي تزكو بها النفس ويستقيم عوجها، وينهى عن الفحشاء والمنكر ليقتلع
جذور الفساد والشر. ويبيِّن قواعد الحلال والحرام التي يقوم عليها صرح الدين،
وترسو دعائمه في المطاعم والمشارب والأموال والأعراض والدماء.
ثم
تدرج التشريع بالأمة في علاج ما تأصل في النفوس من أمراض اجتماعية. بعد أن شرع
لهم من فرائض الدين وأركان الإسلام ما يجعل قلوبهم عامرة بالإيمان، خالصة لله،
تعبده وحده لا شريك له.
كما كان القرآن يتنزل وفق الحوادث التي تمر
بالمسلمين في جهادهم الطويل لإعلاء كلمة الله.
ولهذا كله أدلته من
نصوص القرآن الكريم إذا تتبعنا مكيه ومدنيه وقواعد تشريعه.
ففي مكة
شُرعت الصلاة، وشُرع الأصل العام للزكاة مقارنًا بالربا: {فَآتِ ذَا الْقُرْبَى
حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ
يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ, وَمَا آتَيْتُمْ
مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَا فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ
وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ
الْمُضْعِفُونَ} 1.
ونزلت سورة الأنعام -وهي مكية- تبيِّن أصول
الإيمان، وأدلة التوحيد، وتندد بالشرك والمشركين، وتوضح ما يحل وما يحرم من
المطاعم، وتدعو إلى صيانة حرمات الأموال والدماء والأعراض: قُلْ تَعَالَوْا
أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ
1 الروم: 38، 39.
عَلَيْكُمْ
أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شيئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلا تَقْتُلُوا
أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا
الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ
الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ
لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ, وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي
هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ
بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ
فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ
وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ 1.
ثم نزل بعد ذلك تفصيل
هذه الأحكام.
فأصول المعاملات المدنية نزلت بمكة، ولكن تفصيل
أحكامها نزل بالمدينة كآية المداينة وآيات تحريم الربا.
وأسس
العلاقات الأسرية نزلت بمكة، أما بيان حقوق كل من الزوجين، وواجبات الحياة
الزوجية، وما يترتب على ذلك من استمرار العشرة أو انفصامها بالطلاق، أو
انتهائها بالموت ثم الإرث، أما بيان هذا فقد جاء في التشريع المدني.
وأصل
الزنا حُرم بمكة: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ
سَبِيلًا} 2, ولكن العقوبات المترتبة عليه نزلت بالمدينة.
وأصل حرمة
الدماء نزل بمكة: {وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا
بِالْحَقِّ} 3, ولكن تفصيل عقوباتها في الاعتداء على النفس والأطراف تزل
بالمدينة.
وأوضح مثال لذلك التدرج في التشريع: تحريم الخمر.
فقد
نزل قوله تعالى: {وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ
مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ
يَعْقِلُونَ} 4, في مقام
1 الأنعام: 151، 152.
2
الإسراء: 32.
3 الإسراء: 33.
4 النحل: 67.
الامتنان
بنعمه سبحانه - وإذا كان المراد بالسُّكْر ما يُسْكِر من الخمر، وبالرزق ما
يؤكل من هاتين الشجرتين كالتمر والزبيب - وهذا ما عليه جمهور المفسرين - فإن
وصف الرزق بأنه حسن دون وصف السُّكْر يُشعر بمدح الرزق والثناء عليه وحده دون
السُّكْر.
ثم نزل قوله تعالى: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْخَمْرِ
وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ
وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} 1, فقارنت الآية بين منافع الخمر
فيما يصدر عن شربها من طرب ونشوة أو يترتب على الاتجار بها من ربح، ومضارها في
إثم تعاطيها وما ينشأ عنه من ضرر في الجسم، وفساد في العقل، وضياع للمال وإثارة
لبواعث الفجور والعصيان، ونفَّرت الآية منها بترجيح المضار على المنافع.
ثم
نزل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ
وَأَنْتُمْ سُكَارَى} 2, فاقتضى هذا الامتناع عن شرب الخمر في الأوقات التي
يستمر تأثيرها إلى وقت الصلاة، حيث جاء النهي عن قربان الصلاة في حال السُّكْر
حتى يزول عنهم أثره ويعلموا ما يقولونه في صلاتهم.
ثم نزل قوله
تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ
وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ
تُفْلِحُونَ إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ
الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ
ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ} 3. فكان هذا
تحريمًا قاطعًا للخمر في الأوقات كلها:
ويوضح هذه الحكمة ما رُوِي
عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: إنما نزل أول ما نزل منه سورة من المُفصَّل
فيها ذكر الجنة والنار، حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام نزل الحلال والحرام، ولو
نزل أول شيء: "لا تشربوا الخمر" لقالوا: لا ندع الخمر أبدًا، ولو نزل: "لا
تزنوا" لقالوا: "لا ندع الزنا أبدًا" 4.
1 البقرة: 219.
2
النساء: 43.
3 المائدة: 90، 91.
4 أخرجه البخاري.
وهكذا
كان التدرج في تربية الأمة وفق ما يمر بها من أحداث، فقد استشار رسول الله -صلى
الله عليه وسلم- صحابته في أسرى بدر، فقال عمر: اضرب أعناقهم، وقال أبو بكر:
أرى أن تعفو عنهم وأن تقبل منهم الفداء، وأخذ رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
برأي أبي بكر، فنزل قوله تعالى: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ
أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ
يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ, لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ
سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} 1.
وأعجب
المسلمون بكثرتهم يوم حنين حتى قال رجل: لن نُغْلَب من قلة، فتلقوا درسًا
قاسيًا في ذلك، ونزل قوله تعالى: {لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ
كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ
عَنْكُمْ شيئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ
وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ, ثُمَّ أَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ
وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ
كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ, ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ
ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} 2.
ولما توفي
عبد الله بن أُبَيٍّ -رأس المنافقين- "دُعي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
للصلاة عليه، فقام عليه، فلما وقف قال عمر: أعلى عدو الله عبد الله بن أُبَي
القائل كذا وكذا، والقائل كذا وكذا؟ يُعَدِّد أيامه. ورسول الله -صلى الله عليه
وسلم- يبتسم، ثم قال له:" إني قد خُيرت، قد قيل لي: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ
لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ
يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} 3, فلو أعلم أني إن زدت على السبعين غُفر له لزدت
عليها "ثم صلى عليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومشى معه حتى قام على قبره
حتى فُرِغ منه، قال عمر: فعجبت لي ولجرأتي على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
والله ورسوله أعلم، فوالله ما كان إلا يسيرًا حتى نزلت هاتان الآيتان: وَلا
تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ
إِنَّهُمْ كَفَرُوا"
1 من حديث أخرجه أحمد عن أنس [والآيتان من سورة
الأنفال: 67، 68] .
2 أخرجه البيهقي في الدلائل [والآيات من سورة
التوبة: 25-27] .
3 التوبة: 80.
بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ
وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ, وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ
إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ
أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ فما صلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على
منافق بعد حتى قبضه الله عز وجل "1."
وحين تخلَّف نفر من المؤمنين
الصادقين في غزوة تبوك، وأقاموا بالمدينة، ولم يجد رسول الله -صلى الله عليه
وسلم- لديهم عذرًا هجرهم وقاطعهم حتى ضاقوا ذرعًا بالحياة ثم نزل القرآن لقبول
توبتهم: {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ
وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا
كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ
رَءُوفٌ رَحِيمٌ, وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا
ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ
وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ
عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} 2. ويشير
إلى هذا ما رُوِي عن ابن عباس في نزول القرآن: "ونزَّله جبريل بجواب كلام
العباد وأعمالهم" 3.
1 أخرجه البخاري وأحمد والنَّسائي والترمذي
وابن ماجه وغيرهم [والآيتان من سورة التوبة: 84، 58] .
2 من حديث
طويل أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما، والثلاثة هم: كعب بن مالك، وهلال بن أمية،
ومرارة بن الربيع، وكلهم من الأنصار [والآيتان من سورة التوبة: 117، 118] .
3
أخرجه الطبراني والبزَّار عن ابن عباس، وأخرجه ابن أبي حاتم من وجه آخر.
5-
الحكمة الخامسة: الدلالة القاطعة على أن القرآن الكريم تنزيل من حكيم حميد.
إن
هذا القرآن الذي نزل مُنَجَّمًا على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في أكثر من
عشرين عامًا تنزل الآية أو الآيات على فترات من الزمن يقرؤه الإنسان ويتلو سوره
فيجده محكم النسج، دقيق السبك، مترابط المعاني، رصين الأسلوب، متناسق الآيات
والسور، كأنه عقد فريد نظمت حباته بما لم يُعهد له مثيل في كلام البشر:
{كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} 1.
ولو
1 هود: 1.
كان هذا القرآن من كلام البَشر قيل في
مناسبات متعددة، ووقائع متتالية، وأحداث متعاقبة، لوقع فيه التفكك والانفصام،
واستعصى أن يكون بينه التوافق والانسجام: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ
اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا} 1.
فأحاديث رسول
الله, صلى الله عليه وسلم -وهي في ذروة الفصاحة والبلاغة بعد القرآن الكريم- لا
تنتظم حباتها في كتاب واحد سلس العبارة يأخذ بعضه برقاب بعض في وحدة وترابط
بمثل ما عليه القرآن الكريم أو ما يدانيه اتساقًا وانسجامًا. فكيف بكلام سائر
البشر وأحاديثهم: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ
يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ
بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} 2.
1 النساء: 82.
2 انظر
هذه الحكمة في مناهل العرفان للزرقاني جـ1 ص54 [والآية من سورة الإسراء: 88]
.
الاستفادة من نزول القرآن مُنَجَّمًا في التربية والتعليم:
تعتمد
العملية التعليمية على أمرين أساسيين: مراعاة المستوى الذهني للطلاب. وتنمية
قدراتهم العقلية والنفسية والجسمية بما يوجهها وجهة سديدة إلى الخير
والرشاد.
ونحن نلحظ في حكمة نزول القرآن مُنَجَّمًا ما يفيدنا في
مراعاة هذين الأمرين على النحو الذي ذكرناه آنفًا، فإن نزول القرآن الكريم تدرج
في تربية الأمة الإسلامية تدرجًا فطريًّا لإصلاح النفس البشرية، واستقامة
سلوكها، وبناء شخصيتها، وتكامل كيانها، حتى استوت على سوقها، وآتت أكلها الطيب
بإذن ربها لخير الإنسانية كافة.
وكان تنجيم القرآن خير عون لها على
حفظه وفهمه ومدارسته وتدبر معانيه، والعمل بما فيه.
وبين نزول
القرآن في مطلع الوحي بالقراءة والتعليم بأداة الكتابة: {اقْرَأْ بِاسْمِ
رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ, خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ, اقْرَأْ وَرَبُّكَ
الأَكْرَمُ, الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ, عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ
يَعْلَمْ} 1, ونزول آيات الربا والمواريث في نظام المال، أو نزول آيات القتال
في المفاصلة التامة بين الإسلام والشرك - بين ذاك وهذا مراحل تربوية كثيرة لها
أساليبها التي تلائم مستوى المجتمع الإسلامي في تدرجه من الضعف إلى القوة، ومن
القوة إلى شدة البأس.
والمنهج الدراسي الذي لا يُراعى فيه المستوى
الذهني للطلاب في كل مرحلة من مراحل التعليم وبناء جزئيات العلوم على كلياتها
والانتقال من الإجمال إلى التفصيل، أو لا يراعي تنمية جوانب الشخصية العقلية
والنفسية والجسمية منهج فاشل لا تجني منه الأمة ثمرة علمية سوى الجمود
والتخلف.
والمدرس الذي لا يعطي طلابه القدر المناسب من المادة
العلمية فيُثْقِل كاهلهم ويحملهم ما لا يطيقون حفظًا أو فهمًا أو يحدثهم بما لا
يدركون، أو لا يراعي حالهم في علاج ما يعرض لهم من شذوذ خُلُقي أو يفشو من
عادات سيئة، فيقسو ويتعسف، ويأخذ الأمر دون أناة وروية، وتدرج وحكمة - المدرس
الذي يفعل ذلك مدرس فاشل كذلك. يُحوِّل العملية التعليمية إلى متاهات موحشة،
ويجعل غرف الدراسة قاعات منفرة.
وقِسْ على هذا الكتاب المدرسي،
فالكتاب الذي لا تنتظم موضوعاته وفصوله، ولا تتدرج معلوماته من السهل إلى
الصعب، ولا تترتب جزئياته ترتيبًا محكمًا منسقًا، ولا يكون أسلوبه واضحًا في
أداء المعنى المقصود، كتاب ينفر الطالب من قراءته، ويحرمه من الاستفادة منه.
والهَدْي
الإلهي في حكمة نزول القرآن مُنَجَّمًا هو الأسوة الحسنة في صياغة مناهج
التعليم, والأخذ بأمثل الطرق في الأساليب التربوية بقاعة الدرس، وتأليف الكتاب
المدرسي.
1 العلق: 1-5.
جمع القرآن وترتيبه
مدخل
8- جمع القرآن وترتيبه:
يُطلق جمع القرآن ويُراد به
عند العلماء أحد معنيين.. المعنى الأولى: جمعه بمعنى حفظه، وجماع القرآن:
حفاظه، وهذا المعنى هو الذي ورد في قوله تعالى في خطابه لنبيه -صلى الله عليه
وسلم- وقد كان يحرِّك شفتيه ولسانه بالقرآن إذا نزل عليه قبل فراغ جبريل من
قراءة الوحي حرصًا على أن يحفظه: {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ
بِهِ, إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ, فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ
قُرْآنَهُ, ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} 1, عن ابن عباس قال: "كان رسول
الله -صلى الله عليه وسلم- يعالج من التنزيل شدة، فكان يحرِّك به لسانه وشفتيه
مخافة أن ينفلت منه، يريد أن يحفظه، فأنزل الله: {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ
لِتَعْجَلَ بِهِ, إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} قال: يقول إن علينا أن
نجمعه في صدرك ثم نقرأه: {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ} يقول: إذا أنزلناه عليك:
{فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} فاستمع له وأنصت {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} أن
نبينه بلسانك. وفي لفظ: علينا أن نقرأه، فكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
بعد ذلك إذا أتاه جبريل أطرق -وفي لفظ: استمع- فإذا ذهب قرأه كما وعد
الله2."
المعنى الثاني: جمع القرآن بمعنى كتابته كله، مفرَّق الآيات
والسور، أو مرتب الآيات فقط، وكل سورة، في صحيفة على حدة، أو مرتب الآيات
والسور في صحائف مجتمعة تضم السور جميعًا وقد رُتِّب إحداها بعد الأخرى.
1
القيامة: 16-19.
2 أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما عن ابن عباس.
1-
"أ" جمع القرآن بمعنى حفظه على عهد النبي, صلى الله عليه وسلم:
كان
رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مولعًا بالوحي، يترقب نزوله عليه بشوق، فيحفظه
ويفهمه، مصداقًا لوعد الله: {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} 1, فكان
بذلك
1 القيامة: 17.
أول الحُفَّاظ، ولصحابته فيه الأسوة
الحسنة، شغفًا بأصل الدين ومصدر الرسالة، وقد نزل القرآن في بضع وعشرين سنة،
فربما نزلت الآية المفردة، وربما نزلت آيات عدة إلى عشر، وكلما نزلت آية حُفِظت
في الصدور، ووعتها القلوب، والأمة العربية كانت بسجيتها قوية الذاكرة، تستعيض
عن أميتها في كتابة أخبارها وأشعارها وأنسابها بسجل صدورها.
وقد
أورد البخاري في صحيحه بثلاث روايات سبعة من الحفَّاظ، هم: عبد الله بن مسعود،
وسالم بن معقل مولى أبي حذيفة، ومعاذ بن جبل، وأُبَيُّ بن كعب، وزيد بن ثابت،
وأبو زيد بن السكن، وأبو الدرداء.
1- عن عبد الله بن عمرو بن العاص
قال: "سمعتُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول:" خذوا القرآن من أربعة: من
عبد الله بن مسعود، وسالم، ومعاذ، وأُبَيِّ بن كعب "1, وهؤلاء الأربعة: اثنان
من المهاجرين هما: عبد الله بن مسعود وسالم، واثنان من الأنصار هما: معاذ
وأُبَي."
2- وعن قتادة قال: "سألت أنس بن مالك: مَن جمع القرآن على
عهد رسول الله, صلى الله عليه وسلم؟ فقال: أربعة، كلهم من الأنصار: أُبَي بن
كعب، ومعاذ بن جبل، وزيد بن ثابت، وأبو زيد، قلت: مَن أبو زيد؟ قال: أحد
عمومتي" 2.
3- ورُوِي من طريق ثابت عن أنس كذلك قال: "مات النبي
-صلى الله عليه وسلم- ولم يجمع القرآن غير أربعة: أبو الدرداء، ومعاذ بن جبل،
وزيد بن ثابت، وأبو زيد" 3.
وأبو زيد المذكور في هذه الأحاديث جاء
بيانه فيما نقله ابن حجر بإسناد على شرط البخاري عن أنس: أن أبا زيد الذي جمع
القرآن اسمه: قيس بن السكن، قال: وكان رجلًا منا من بني عدي بن النجار أحد
عمومتي، ومات ولم يدع عقبًا ونحن ورثناه.
1 رواه البخاري.
2
رواه البخاري.
3 رواه البخاري.
وبين ابن حجر في ترجمة
سعيد بن عبيد أنه من الحفاظ، وأنه كان يُلقَّب بالقارئ1.
وذكر هؤلاء
الحفاظ السبعة. أو الثمانية، لا يعني الحصر، فإن النصوص الواردة في كتب السير
والسُّنن تدل على أن الصحابة كانوا يتنافسون في حفظ القرآن، ويُحَفِّظونه
أزواجهم وأولادهم. ويقرءون به في صلواتهم بجوف الليل، حتى يُسمع لهم دوي كدوي
النحل، وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يمر على بيوت الأنصار، ويستمع إلى
ندى أصواتهم بالقراءة في بيوتهم، عن أبي موسى الأشعري: أن رسول الله -صلى الله
عليه وسلم- قال له: "لو رأيتني البارحة وأنا أستمع لقراءتك؟ لقد أُعْطِيتَ
مزمارًا من مزامير داود" 2.
وعن عبد الله بن عمرو قال: جمعتُ
القرآن، فقرأتُ به كل ليلة، فبلغ النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: "اقرأه في
شهر" 3.
وعن أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله,
صلى الله عليه وسلم: "إني لأعرف رفقة الأشعريين بالليل حين يدخلون، وأعرف
منازلهم من أصواتهم بالقرآن بالليل، وإن كنت لم أر منازلهم حين نزلوا بالنهار"
4.
ومع حرص الصحابة على مدارسة القرآن واستظهاره فإن رسول الله -صلى
الله عليه وسلم- كان يشجعهم على ذلك، ويختار لهم مَن يعلمهم القرآن، عن عبادة
بن الصامت قال: "كان الرجل إذا هاجر دفعه النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى رجل
منا يعلمه القرآن، وكان يُسْمَعُ لمسجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ضجة
بتلاوة القرآن، حتى أمرهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يخفضوا أصواتهم
لئلا يتغالطوا" 5.
1 الإصابة، جـ2 ص28.
2 رواه البخاري،
وفي رواية لمسلم بزيادة: "فقلت: لو علمتُ والله يا رسول الله أنك تسمع لقراءتي
لحبَّرته لك تحبيرًا" .
3 أخرجه النَّسائي بسند صحيح.
4
رواه البخاري ومسلم.
5 مناهل العرفان للزرقاني، جـ1 ص234.
فهذا
الحصر للسبعة المذكورين من البخاري بالروايات الثلاث الآنفة الذكر محمول على أن
هؤلاء هم الذين جمعوا القرآن كله في صدورهم، وعرضوه على النبي -صلى الله عليه
وسلم- واتصلت بنا أسانيدهم، أما غيرهم من حفظة القرآن -وهم كثر- فلم يتوافر
فيهم هذه الأمور كلها، لا سيما وأن الصحابة تفرقوا في الأمصار، وحفظ بعضهم عن
بعض، ويكفي دليلًا على ذلك أن الذين قُتلوا في بئر مَعونة من الصحابة كان يُقال
لهم القُرَّاء، وكانوا سبعين رجلًا كما في الصحيح، قال القرطبي: "قد قُتِلَ يوم
اليمامة سبعون من القرَّاء وقُتل في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- ببئر معونة
مثل هذا العدد" وهذا هو ما فهمه العلماء وأوَّلوا به الأحاديث الدالة على حصر
الحُفَّاظ في السبعة المذكورين، قال الماوردي1 معلقًا على رواية أنس: "لم يجمع
القرآن غير أربعة" : "لا يلزم من قول أنس: لم يجمعه غيرهم أن يكون الواقع في
نفس الأمر كذلك, لأن التقدير أنه لا يعلم أن سواهم جمعه، وإلا فكيف الإحاطة
بذلك مع كثرة الصحابة وتفرقهم في البلاد وهذا لا يتم إلا إن كان لقي كل واحد
منهم على انفراده، وأخبره عن نفسه أنه لم يكمل له جمع في عهد النبي -صلى الله
عليه وسلم- وهذا في غاية البعد في العادة، وإذا كان المرجع إلى ما في علمه لم
يلزم أن يكون الواقع كذلك، وليس من شرط التواتر أن يحفظ كل فرد جميعه، بل إذا
حفظ الكل الكل ولو على التوزيع كفى" 2.
والماوردي بهذا ينفى
الشُّبْه التي توهم قلة عدد الحفَّاظ بأسلوب مقنع، ويبيِّن الاحتمالات الممكنة
لصيغة الحصر في حديث أنس بيانًا شافيًا.
وقد ذكر أبو عبيد3 في كتاب
"القراءات" القرَّاء من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم-
1 هو أبو
الحسن علي بن حبيب الشافعي، صاحب كتاب "الأحكام السلطانية" وكتاب "أدب الدنيا
والدين" توفي سنة 450 هجرية.
2 يرد الماوردي بالفقرة الأخيرة على
الملاحدة الذين يتمسكون برواية أنس الدالة على الحصر في أن القرآن غير متواتر،
ونضيف إلى رد الماوردي عليهم أنه بجانب الحفظ كانت الكتابة كما سيأتي، وانظر
"الإتقان" جـ1 ص72.
3 أبو عبيد: هو القاسم بن سلام الهروي الأزدي
الخزاعي، من أئمة الحديث واللغة، صاحب كتاب "الأموال" المشهور، توفي سنة 224
هجرية.
فعدَّ من المهاجرين: الخلفاء الأربعة، وطلحة، وسعدًا, وابن
مسعود، وحذيفة، وسالمًا، وأبا هريرة، وعبد الله بن السائب، والعبادلة1، وعائشة،
وحفصة، وأم سلمة. ومن الأنصار: عبادة بن الصامت. ومعاذًا الذي يُكنَّى أبا
حليمة، ومجمع بن جارية، وفضالة بن عبيد، ومسلمة بن مخلد، وصرَّح بأن بعضهم إنما
كمَّله بعد النبي, صلى الله عليه وسلم2.
وذكر الحافظ الذهبي3 في
"طبقات القرَّاء" أن هذا العدد من القرَّاء هم الذين عرضوه على النبي -صلى الله
عليه وسلم- واتصلت بنا أسانيدهم، وأما مَن جمعه منهم ولم يتصل بنا سندهم
فكثير.
ومن هذه النصوص يتبين لنا أن حفظة القرآن في عهد الرسول -صلى
الله عليه وسلم- كانوا جمعًا غفيرًا، فإن الاعتماد على الحفظ في النقل من خصائص
هذه الأمة، قال ابن الجزري4 شيخ القرَّاء في عصره: "إن الاعتماد في نقل القرآن
على حفظ القلوب والصدور، لا على خط المصاحف والكتب أشرف خصيصة من الله تعالى
لهذه الأمة" .
1 العبادلة الأربعة المشهورون بالإفتاء هم: عبد الله
بن عباس، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن
الزبير.
2 انظر الإتقان جـ1 ص72.
3 اسمه محمد بن أحمد بن
عثمان من كبار المحدِّثين في القرن الثامن، توفي سنة 748 هجرية.
4
هو محمد بن محمد الشهير بابن الجزري، صاحب كتاب "النشر في القراءات العشر" توفي
سنة 833 هجرية.
ب- جمع القرآن بمعنى كتابته على عهد الرسول, صلى
الله عليه وسلم:
اتخذ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كتَّابًا
للوحي من أجلَّاء الصحابة. كعلي، ومعاوية، وأُبَي بن كعب، وزيد بن ثابت، تنزل
الآية فيأمرهم بكتابتها، ويرشدهم إلى موضعها من سورتها، حتى تُظاهِر الكتابة في
السطور، الجمع في الصدور.
كما كان بعض الصحابة يكتبون ما ينزل من
القرآن ابتداء من أنفسهم، دون أن يأمرهم النبي -صلى الله عليه وسلم- فيخطونه في
العسب، واللِّخاف، والكرانيف، والرقاع، والأقتاب، وقطع الأديم، والأكتاف1، عن
زيد بن ثابت قال: "كنا عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نُؤلِّف القرآن من
الرقاع" 2.
وهذا يدل على مدى المشقة التي كان يتحملها الصحابة في
كتابة القرآن، حيث لم تتيسر لهم أدوات الكتابة إلا بهذه الوسائل، فأضافوا
الكتابة إلى الحفظ.
وكان جبريل يعارض رسول الله -صلى الله عليه
وسلم- بالقرآن كل سنة في ليالي رمضان، عن عبد الله بن عباس, رضي الله عنهما:
"كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أجود الناس وكان أجود ما يكون في رمضان
حين يلقاه جبريل، وكان يلقاه جبريل في كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن، فلرسول
الله -صلى الله عليه وسلم- حين يلقاه جبريل أجود بالخير من الريح المرسلة"
3.
وكان الصحابة يعرضون على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما
لديهم من القرآن حفظًا وكتابة كذلك.
ولم تكن هذه الكتابة في عهد
النبي -صلى الله عليه وسلم- مجتمعة في مصحف عام، بل عند هذا ما ليس عند ذاك،
وقد نقل العلماء أن نفرًا منهم: علي بن أبي طالب، ومعاذ بن جبل، وأُبَي بن كعب،
وزيد بن ثابت، وعبد الله بن مسعود - قد
1 العسب: جمع عسيب، وهو جريد
النخل، كانوا يكشطون الخوص ويكتبون في الطرف العريض، واللِّخاف: جمع لخفة، وهي
صفائح الحجارة، والكرانيف: جمع كرنافة، وهي أصول السعف الغلاظ، والرقاع: جمع
رقعة، وقد تكون من جلد أو رق، والأقتاب: جمع قتب، وهو الخشب الذي يوضع على ظهر
البعير ليُركب عليه، والأكتاف: جمع كتف، وهو العظم الذي للبعير أو الشاة، كانوا
إذا جف كتبوا عليه.
2 أخرجه الحاكم في المستدرك بسند على شرط
الشيخين، نؤلِّف القرآن: أي نجمعه: لترتيب آياته.
3 متفق عليه.
جمعوا
القرآن كله على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وذكر العلماء أن زيد بن
ثابت كان عرضه متأخرًا عن الجميع.
وقُبِضَ رسول الله -صلى الله عليه
وسلم- والقرآن محفوظ في الصدور، ومكتوب في الصحف على نحو ما سبق، مفرَّق الآيات
والسور، أو مرتب الآيات فقط وكل سورة في صحيفة على حدة، بالأحرف السبعة
الواردة1، ولم يُجمع في مصحف عام، حيث كان الوحي يتنزل تباعًا فيحفظه القراء،
ويكتبه الكتبة، ولم تدع الحاجة إلى تدوينه في مصحف واحد، لأنه عليه الصلاة
والسلام كان يترقب نزول الوحي من حين لآخر، وقد يكون منه الناسخ لشيء نزل من
قبل، وكتابة القرآن لم يكن ترتيبها بترتيب النزول بل تُكتب الآية بعد نزولها
حيث يشير -صلى الله عليه وسلم- إلى موضع كتابتها بين آية كذا وآية كذا في سورة
كذا، ولو جُمع القرآن كله بين دفتي مصحف واحد لأدى هذا إلى التغيير كلما نزل
شيء من الوحي, قال الزركشي: "وإنما لم يُكتب في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم-
مصحف لئلا يُفضي إلى تغييره في كل وقت، فلهذا تأخرت كتابته إلى أن كمل نزول
القرآن بموته, صلى الله عليه وسلم" وبهذا يُفسَّر ما رُوِيَ عن زيد بن ثابت،
قال: "قُبِضَ النبي -صلى الله عليه وسلم- ولم يكن القرآن جُمع في شيء" أي لم
يكن جُمع مرتب الآيات والسور في مصحف واحد، قال الخطابي: "إنما لم يجمع -صلى
الله عليه وسلم- القرآن في المصحف لما كان يترقبه من ورود ناسخ لبعض أحكامه أو
تلاوته، فلما انقضى نزوله بوفاته ألهم الله الخلفاء الراشدين ذلك، وفاء بوعده
الصادق بضمان حفظه على هذه الأمة2 فكان ابتداء ذلك على يد الصديق بمشورة عمر"
3.
ويسمى هذا الجمع في عهد النبي, صلى الله عليه وسلم:
أ-
حفظًا،
ب- وكتابة: "الجمع الأول" .
1 سيأتي بيان الأحرف
السبعة.
2 إشارة إلى قوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا
الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9] .
3 انظر الإتقان
جـ1 ص57.
2- جمع القرآن في عهد أبي بكر, رضي الله عنه:
قام
أبو بكر بأمر الإسلام بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وواجهته أحداث جسام
في ارتداد جمهرة العرب، فجهَّز الجيوش وأوفدها لحروب المرتدين، وكانت غزوة أهل
اليمامة سنة اثنتي عشرة للهجرة تضم عددًا كبيرًا من الصحابة القرَّاء، فاستشهد
في هذه الغزوة سبعون قارئًا من الصحابة، فهال ذلك عمر بن الخطاب، ودخل على أبي
بكر -رضي الله عنه- وأشار عليه بجمع القرآن وكتابته خشية الضياع، فإن القتل قد
استحر1 يوم اليمامة بالقرَّاء - ويُخشى إن استحر بهم في المواطن الأخرى أن يضيع
القرآن ويُنْسَى، فنفر أبو بكر من هذه المقالة وكبر عليه أن يفعل ما لم يفعله
رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وظل عمر يراوده حتى شرح الله صدر أبي بكر لهذا
الأمر، ثم أرسل إلى زيد بن ثابت لمكانته في القراءة والكتابة والفهم والعقل،
وشهوده العرضة الأخيرة، وقصَّ عليه قول عمر - فنفر زيد من ذلك كما نفر أبو بكر
من قبل، وتراجعا حتى طابت نفس زيد للكتابة، وبدأ زيد بن ثابت في مهمته الشاقة
معتمدًا على المحفوظ في صدور القرَّاء، والمكتوب لدى الكتبة، وبقيت تلك الصحف
عند أبي بكر، حتى إذا توفي سنة ثلاث عشرة للهجرة صارت بعده إلى عمر، وظلت عنده
حتى مات - ثم كانت عند حفصة ابنته صدرًا من ولاية عثمان حتى طلبها عثمان من
حفصة.
عن زيد بن ثابت قال: "أرسل إليَّ أبو بكر مقتل أهل اليمامة،
فإذا عمر بن الخطاب عنده، فقال أبو بكر: إن عمر أتاني فقال: إن القتل قد استحر
يوم اليمامة بقرًّاء القرآن، وإني أخشى أن يستحر القتل بالقرَّاء في المواطن
فيذهب كثير من القرآن، وإني أريد أن تأمر بجمع القرآن، فقلت لعمر: كيف نفعل
شيئًا لم يفعله رسول الله, صلى الله عليه وسلم؟ قال: عمر: هو والله خير، فلم
يزل يراجعني حتى شرح الله صدري لذلك، ورأيت في ذلك الذي رأى عمر - قال زيد:
قال: أبو بكر: إنك شاب عاقل لا نتهمك، وقد كنت تكتب الوحي لرسول الله -صلى الله
عليه وسلم-"
1 استحر: اشتد.
فتتبع القرآن فاجمعه، فوالله
لو كلفوني نقل جبل من الجبال ما كان أثقل مما أمرني به من جمع القرآن، قلت: كيف
تفعلان شيئًا لم يفعله رسول الله, صلى الله عليه وسلم؟ قال: هو والله خير، فلم
يزل أبو بكر يراجعني حتى شرح الله صدري للذي شرح الله له صدر أبي بكر وعمر،
فتتبعت القرآن أجمعه من العسب واللِّخاف وصدور الرجال، ووجدتُ آخر سورة التوبة
مع أبي خزيمة الأنصاري، لم أجدها مع غيره {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ
أَنْفُسِكُمْ} 1, حتى خاتمة براءة، فكانت الصحف عند أبي بكر حتى توفاه الله، ثم
عند عمر حياته، ثم عند حفصة بنت عمر "2."
وقد راعى زيد بن ثابت
نهاية التثبت، فكان لا يكتفي بالحفظ دون الكتابة، وقوله في الحديث: "ووجدت آخر
سورة التوبة مع أبي خزيمة الأنصاري لم أجدها مع غيره" لا ينافي هذا، ولا يعني
أنها ليست متواترة، وإنما المراد أنه لم يجدها مكتوبة عند غيره، وكان زيد
يحفظها، وكان كثير من الصحابة يحفظونها كذلك، لأن زيدًا كان يعتمد على الحفظ
والكتابة معًا، فكانت هذه الآية محفوظة عند كثير منهم، ويشهدون بأنها كُتِبت،
ولكنها لم توجد مكتوبة إلا عند أبي خزيمة الأنصاري.
أخرج ابن أبي
داود3 من طريق يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب قال: "قدم عمر فقال: مَن كان تلقى من
رسول الله -صلى الله عليه وسلم- شيئًا من القرآن فليأت به، وكانوا يكتبون ذلك
في الصحف والألواح والعسب، وكان لا يقبل من أحد شيئًا حتى يشهد شهيدان" وهذا
يدل على أن زيدًا كان لا يكتفي بمجرد وجدانه مكتوبًا حتى يشهد به مَن تلقَّاه
سماعًا، مع كون زيد كان يحفظ، فكان يفعل ذلك مبالغة من الاحتياط، وأخرج ابن أبي
داود أيضًا من طريق هشام بن عروة
1 التوبة: 128.
2 أخرجه
البخاري.
3 هو عبد الله بن سليمان بن الأشعث الأزدي السجستاني، من
كبار حفَّاظ الحديث، له من الكتب: المصاحف، والمسند، والسُّنن، والتفسير،
والقراءات، والناسخ والمنسوخ - انظر الأعلام للزركلي، جـ4 ص224.
عن
أبيه: أن أبا بكر قال لعمر ولزيد: اقعدا على باب المسجد فمن جاءكما بشاهدين على
شيء من كتاب الله فاكتباه "ورجاله ثقات مع انقطاعه، قال ابن حجر:" وكأن المراد
بالشاهدين: الحفظ والكتاب "وقال السخاوي1 في" جمال القراء ":" والمراد أنهما
يشهدان على أن ذلك المكتوب كُتِب بين يدي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أو
المراد أنهما يشهدان على أن ذلك من الوجوه التي نزل بها القرآن "قال أبو شامة:"
وكان غرضهم أن لا يُكتب إلا من عين ما كُتِبَ بين يدي النبي -صلى الله عليه
وسلم- لا من مجرد الحفظ، ولذلك قال في آخر سورة التوبة: "لم أجدها مع غيره" أي
لم أجدها مكتوبة مع غيره لأنه كان لا يكتفي بالحفظ دون الكتابة "2."
وقد
عرفنا أن القرآن كان مكتوبًا من قبل في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- ولكنه
كان مفرَّقًا في الرقاع والأكتاف والعسب. فأمر أبو بكر بجمعه في مصحف واحد مرتب
الآيات والسور وأن تكون كتابته غاية من التثبيت مشتملة على الأحرف السبعة التي
نزل بها القرآن، فكان أبو بكر -رضي الله عنه- أول مَن جمع القرآن بهذه الصفة في
مصحف، وإن وُجِدَت مصاحف فردية عند بعض الصحابة، كمصحف علي، ومصحف أُبَي، ومصحف
ابن مسعود، فإنها لم تكن على هذا النحو، ولم تنل حظها من التحري والدقة، والجمع
والترتيب، والاقتصار على ما لم تُنسخ تلاوته، والإجماع عليها، بمثل ما نال مصحف
أبي بكر، فهذه الخصائص تميَّز بها جمع أبي بكر للقرآن، ويرى بعض العلماء أن
تسمية القرآن بالمصحف نشأت منذ ذلك الحين في عهد أبي بكر بهذا الجمع، وعن علي
قال: "أعظم الناس أجرًا في المصاحف أبو بكر، رحمة الله على أبي بكر، هو أول مَن
جمع كتاب الله" .
وهذا الجمع هو المسمى بالجمع الثاني.
1
هو علي بن محمد بن عبد الصمد المشهور بالسخاوي، له منظومة في القراءات تعرف
بالسخاوية، توفي سنة 643 هجرية.
2 انظر الإتقان جـ1 ص58.
3-
جمع القرآن في عهد عثمان, رضي الله عنه:
اتسعت الفتوحات الإسلامية،
وتفرَّق القرَّاء في الأمصار، وأخذ أهل كل مِصر عمن وفد إليهم قراءته، ووجوه
القراءة التي يؤدون بها القرآن مختلفة باختلاف الأحرف التي نزل عليها، فكانوا
إذا ضمهم مجمع أو موطن من مواطن الغزو عجب البعض من وجوه هذا الاختلاف، وقد
يقنع بأنها جميعًا مسندة إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولكن هذا لا يحول
دون تسرب الشك للناشئة التي لم تدرك الرسول، فيدور الكلام حول فصيحها وأفصحها،
وذلك يؤدي إلى الملاحاة إن استفاض أمره ومردوا عليه، ثم إلى اللجاج والتأثيم،
وتلك فتنة لا بد لها من علاج.
فلما كانت غزوة "أرمينية" وغزوة
"أذربيجان" من أهل العراق، كان فيمن غزاهما "حذيفة بن اليمان" فرأى اختلافًا
كثيرًا في وجوه القراءة، وبعض ذلك مشوب باللحن، مع إلف كل لقراءته، ووقوفه
عندها، ومماراته مخالفة لغيره، وتكفير بعضهم الآخر، حينئذ فزع إلى عثمان -رضي
الله عنه- وأخبره بما رأى، وكان عثمان قد نمى إليه أن شيئًا من ذلك الخلاف يحدث
لمن يُقرئون الصبية، فينشأ هؤلاء وبينهم من الاختلاف ما بينهم، فأكبر الصحابة
هذا الأمر مخافة أن ينجم عنه التحريف والتبديل، وأجمعوا أمرهم أن ينسخوا الصحف
الأولى التي كانت عند أبي بكر، ويجمعوا الناس عليها بالقراءات الثابتة على حرف
واحد، فأرسل عثمان إلى حفصة، فأرسلت إليه بتلك الصحف، ثم أرسل إلى زيد بن ثابت
الأنصاري، وإلى عبد الله بن الزبير، وسعيد بن العاص، وعبد الرحمن بن الحارث بن
هشام القرشيين، فأمرهم أن ينسخوها في المصاحف، وأن يُكتب ما اختلف فيه زيد مع
رهط القرشيين الثلاثة بلسان قريش فإنه نزل بلسانهم.
عن أنس: "أن
حذيفة بن اليمان قَدِمَ على عثمان، وكان يغازي أهل الشام في أرمينية وأذربيجان
مع أهل العراق، فأفزع حذيفة اختلافهم في القراءة،"
فقال لعثمان،
أدرك الأمة قبل أن يختلفوا اختلاف اليهود والنصارى، فأرسل إلى حفصة أن أرسلي
إلينا الصحف ننسخها في المصاحف ثم نردها إليكِ، فأرسلت بها حفصة إلى عثمان،
فأمر زيد بن ثابت، وعبد الله بن الزبير، وسعيد بن العاص، وعبد الرحمن بن الحارث
بن هشام، فنسخوها في المصاحف، وقال عثمان للرهط القرشيين الثلاثة: إذا اختلفتم
أنتم وزيد بن ثابت في شيء من القرآن فاكتبوه بلسان قريش فإنه إنما نزل بلسانهم،
ففعلوا حتى إذا نسخوا الصحف في المصاحف رد عثمان الصحف إلى حفصة، وأرسل إلى كل
أفق بمصحف مما نسخوا، وأمر بما سواه من القرآن في كل صحيفة أو مصحف أن يُحرق،
قال زيد: آية من الأحزاب حين نسخنا المصحف قد كنت أسمع رسول الله -صلى الله
عليه وسلم- يقرأ بها، فالتمسناها فوجدناها مع خزيمة بن ثابت الأنصاري: {مِنَ
الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} 1, فألحقناها
في سورتها في المصحف2.
ودلت الآثار على أن الاختلاف في وجوه القراءة
لم يفزع منه حذيفة بن اليمان وحده، بل شاركه غيره من الصحابة في ذلك، عن ابن
جرير قال: "حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا ابن علية، قال: حدثنا أيوب، عن
أبي قلابة، قال: لما كان في خلافة عثمان جعل المعلم يُعلِّم قراءة الرجل،
والمعلم يُعلِّم قراءة الرجل. فجعل الغلمان يلتقون فيختلفون، حتى ارتفع ذلك إلى
المعلِّمين -قال أيوب: فلا أعلمه إلا قال- حتى كفر بعضهم بقراءة بعض، فبلغ ذلك
عثمان. فقام خطيبًا فقال:" أنتم عندي تختلفون فيه وتلحنون، فمن نأى عني من أهل
الأمصار أشد فيه اختلافًا وأشد لحنًا، اجتمعوا يا أصحاب محمد فاكتبوا للناس
إمامًا "قال أبو قلابة: فحدثني أنس بن مالك قال: كنت فيمن يُمْلَى عليهم، قال:
فربما اختلفوا في الآية فيذكرون الرجل قد تلقاها من رسول الله -صلى الله عليه
وسلم- ولعله أن يكون غائبًا في بعض البوادي، فيكتبون ما قبلها وما"
1
الأحزاب: 23.
2 رواه البخاري.
بعدها، ويدعون موضعها، حتى
يجيء أو يرسل إليه، فلما فرغ من المصحف كتب عثمان إلى أهل الأمصار: إني قد صنعت
كذا وكذا، ومحوت ما عندي، فامحوا ما عندكم1.
وأخرج ابن أشتة2 من
طريق أيوب عن أبي قلابة مثله، وذكر ابن حجر في الفتح أن ابن داود أخرجه في
المصاحف من طريق أبي قلابة.
وعن سويد بن غفلة قال: "قال علي: لا
تقولوا في عثمان إلا خيرًا، فوالله ما فعل الذي فعل في المصحف إلا عن ملأ منا.
قال: ما تقولون في هذه القراءة؟ قد بلغني أن بعضهم يقول: إن قراءتي خير من
قراءتك، وهذا يكاد يكون كفرًا، قلنا: فما ترى؟ قال: أرى أن يُجْمع الناس على
مصحف واحد فلا تكون فرقة ولا اختلاف، قلنا: فنِعْمَ ما رأيت" 3.
وهذا
يدل على أن ما صنعه عثمان قد أجمع عليه الصحابة، كُتِبت مصاحف على حرف واحد من
الأحرف السبعة التي نزل بها القرآن، ليجتمع الناس على قراءة واحدة، ورد عثمان
الصحف إلى حفصة، وبعث إلى كل أفق بمصحف من المصاحف. واحتبس بالمدينة واحدًا هو
مصحفه الذي يسمى الإمام. وتسميته بذلك لما جاء في بعض الروايات السابقة من
قوله: "اجتمعوا يا أصحاب محمد فاكتبوا للناس إمامًا" وأمر أن يُحرق ما عدا ذلك
من صحيفة أو مصحف، وتلقت الأمة ذلك بالطاعة، وتركت القراءة بالأحرف الستة
الأخرى، ولا ضير في ذلك. فإن القراءة بالأحرف السبعة ليست واجبة، ولو أوجب رسول
الله -صلى الله عليه وسلم- على الأمة القراءة بها جميعًا لوجب نقل كل حرف منها
نقلًا
1 انظر الجزء الأول من تفسير الطبري، تحقيق وتخريج الأخوين
محمد محمد شاكر وأحمد محمد شاكر طبعة دار المعارف 61، 62.
2 هو محمد
بن عبد الله بن محمد بن أشتة، من المحققين الثقات، الذين اشتغلوا بعلوم القرآن،
توفي سنة 360 هجرية.
3 أخرجه ابن أبي داود بسند صحيح.
متواترًا
تقوم به الحجة ولكنهم لم يفعلوا ذلك فدل هذا على أن القراءة بها من باب الرخصة.
وأن الواجب هو تواتر النقل ببعض هذه الأحرف السبعة. وهذا هو ما كان.
قال
ابن جرير فيما فعله عثمان: "وجمعهم على مصحف واحد، وحرف واحد، وخرق ما عدا
المصحف الذي جمعهم عليه، وعزم على كل مَن كان عنده مصحف" مخالف "المصحف الذي
جمعهم عليه، أن يحرقه1، فاستوثقت له الأمة على ذلك بالطاعة، ورأت أن فيما فعل
من ذلك الرشد والهداية، فتركت القراءة بالأحرف الستة التي عزم عليها إمامها
العادل في تركها، طاعة منها له، نظرًا منها لأنفسها ولمن بعدها من سائر أهل
ملتها، حتى درست من الأمة معرفتها، وتعفت آثارها، فلا سبيل لأحد اليوم إلى
القراءة بها، لدثورها وعفو آثارها، وتتابع المسلمين على رفض القراءة بها، من
غير جحود منها صحتها وصحة شيء منها، ولكن نظرًا منها لأنفسها ولسائر أهل دينها،
فلا قراءة للمسلمين اليوم إلا بالحرف الواحد الذي اختاره لهم إمامهم الشفيق
الناصح، دون ما عداه من الأحرف الستة الباقية."
فإن قال بعض من ضعفت
معرفته: وكيف جاز لهم ترك قراءة أقرأهموها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
وأمرهم بقراءتها؟
قيل: إن أمره إياهم بذلك لم يكن أمر إيجاب وفرض،
وإنما كان أمر إباحة ورخصة، لأن القراءة بها لو كانت فرضًا عليهم لوجب أن يكون
العلم بكل حرف من تلك الأحرف السبعة، عند من يقوم بنقله الحجة، ويقطع خبره
العذر، ويزيل الشك من قَرَأَةِ2 الأمة، وفي تركهم نقل ذلك كذلك أوضح الدليل على
أنهم
1 انظر هذا النص في تفسير ابن جرير الطبري جـ1 ص64، 65، وفي
التعليق، قال ابن حجر في الفتح 9: 18 في شرح حديث البخاري: "في رواية الأكثر"
أن يخرق "بالخاء المعجمة، وللمروزي بالمهملة، ورواه الأصيلي بالوجهين، والمعجمة
أثبت" وخرق الكتاب أو الثوب: شققه ومزقه.
2 "مِن قَرَأَةِ الأمة"
القَرَأَةُ: جمع قارئ.
كانوا في القراءة بها مخيرين، بعد أن يكون في
نقلة القرآن من الأمة من تجب بنقله الحجة ببعض تلك الأحرف السبعة.
وإذ
كان ذلك كذلك، لم يكن القوم بتركهم نقل جميع القراءات السبع، تاركين ما كان
عليهم نقله، بل كان الواجب عليهم من الفعل ما فعلوا، إذ كان الذي فعلوا من ذلك،
كان هو النظر للإسلام وأهله، فكان القيام بفعل الواجب عليهم، بهم أولى من فعل
ما لو فعلوه، كانوا إلى الجناية على الإسلام وأهله أقرب منهم إلى السلامة، من
ذلك "."
الفرق بين جمع أبي بكر وجمع عثمان
يتبين من
النصوص أن جمع أبي بكر يختلف عن جمع عثمان في الباعث والكيفية.
فالباعث
لدى أبي بكر -رضي الله عنه- لجمع القرآن خشية ذهابه بذهاب حملته، حين استحر
القتل بالقرَّاء.
والباعث لدى عثمان -رضي الله عنه- كثرة الاختلاف
في وجوه القراءة، حين شاهد هذا الاختلاف في الأمصار وخطَّأ بعضهم بعضًا.
وجمع
أبي بكر للقرآن كان نقلًا لما كان مفرَّقًا في الرِّقاع والأكتاف والعسب.
وجمعًا له في مصحف واحد مرتب الآيات والسور. مقتصرًا على ما لم تُنسخ تلاوته،
مشتملًا على الأحرف السبعة التي نزل بها القرآن.
وجمع عثمان للقرآن
كان نسخًا له على حرف واحد من الحروف السبعة، حتى يجمع المسلمين على مصحف واحد.
وحرف واحد يقرءون به دون ما عداه من الأحرف الستة الأخرى. قال ابن التين وغيره:
"الفرق بين جمع أبي بكر وجمع"
عثمان، أن جمع أبي بكر كان لخشية أن
يذهب من القرآن شيء بذهاب حملته، لأنه لم يكن مجموعًا في موضع واحد، فجمعه في
صحائف، مرتبًا لآيات سوره على ما وقفهم عليه النبي -صلى الله عليه وسلم- وجمع
عثمان كان لما كثر الاختلاف في وجوه القراءة حتى قرءوه بلغاتهم على اتساع
اللغات فأدى ذلك بعضهم إلى تخطئة بعضه, فخشى من تفاقم الأمر في ذلك, فنسخ تلك
الصحف في مصحف واحد مرتبًا لسوره، واقتصر من سائر اللغات على لغة قريش، محتجًّا
بأنه نزل بلغتهم، وإن كان قد وسع في قراءته بلغة غيرهم رفعًا للحرج والمشقة في
ابتداء الأمر، فرأى أن الحاجة إلى ذلك قد انتهت، فاقتصر على لغة واحدة "وقال
الحارث المحاسبي:" المشهور عند الناس أن جامع القرآن عثمان، وليس كذلك، إنما
حمل عثمان الناس على القراءة بوجه واحد، على اختيار وقع بينه وبين من شهده من
المهاجرين والأنصار، لما خشي الفتنة عند اختلاف أهل العراق والشام في حروف
القراءات، فأما قبل ذلك فقد كانت المصاحف بوجوه من القراءات المطلقات على
الحروف السبعة التي أُنزل بها القرآن فأما السابق إلى جمع الجملة فهو الصديق
"1."
وبهذا قطع عثمان دابر الفتنة، وحسم مادة الخلاف، وحصَّن القرآن
من أن يتطرق إليه شيء من الزيادة والتحريف على مر العصور وتعاقب الأزمان.
وقد
اختلف العلماء في عدد المصاحف التي أرسل بها عثمان إلى الآفاق.
أ-
فقيل: كان عددها سبعة. أرسلت إلى: مكة، والشام, والبصرة، والكوفة، واليمن،
والبحرين، والمدينة. قال ابن أبي داود: سمعتُ أبا حاتم السجستاني يقول: كتب
سبعة مصاحف، فأرسل إلى مكة، وإلى الشام، وإلى اليمن، وإلى البحرين، وإلى
البصرة، وإلى الكوفة، وحبس بالمدينة واحدًا.
1 انظر "الإتقان" جـ1
ص59، 60.
ب- وقيل: كان عددها أربعة، العراقي، والشامي، والمصري،
والمصحف الإمام، أو الكوفي، والبصري، والشامي، والمصحف الإمام. قال أبو عمرو
الداني في المقنع1: "أكثر العلماء على أن عثمان لما كتب المصاحف جعلها أربع
نسخ، وبعث إلى كل ناحية واحدة: الكوفة، والبصرة، والشام، وترك واحدًا عنده"
.
جـ- وقيل: كان عددها خمسة، وذهب السيوطي إلى أن هذا هو
المشهور.
أما الصحف التي رُدَّت إلى حفصة فقد ظلت عندها حتى ماتت.
ثم غُسلت غسلًا2 وقيل أخذها مروان بن الحكم وأحرقها.
والمصاحف التي
كتبها عثمان لا يكاد يوجد منها مصحف واحد اليوم. والذي يُرْوَى عن ابن كثير3 في
كتابه "فضائل القرآن" أنه رأى واحدًا منها بجامع دمشق بالشام، في رق يظنه من
جلود الإبل، ويُرْوَى أن هذا المصحف الشامي نُقِلَ إلى إنجلترا بعد أن ظل في
حوزة قياصرة الروس في دار الكتب في لينينجراد فترة، وقيل إنه احترق في مسجد
دمشق سنة. 131 هجرية.
وجمع عثمان للقرآن هو المسمى بالجمع الثالث،
وكان سنة 25 هجرية.
1 هو عثمان بن سعيد، من أئمة القرَّاء، له من
الكتب: "التيسير في القراءات السبع" و "المقنع في رسم القرآن" و "المحكم في نقط
المصاحف" توفي سنة 444 هجرية.
2 تفسير الطبري جـ1 ص61.
3
عماد الدين أبو الفداء، إسماعيل بن عمر بن كثير، صاحب "تفسير القرآن" ، و
"البداية والنهاية في التاريخ" توفي سنة 774 هجرية.
شُبَه
مردودة:
هناك شُبَه يثيرها أهل الأهواء لتوهين الثقة بالقرآن،
والتشكيك في دقة جمعه، ونحن نورد أهمها ونرد عليها:
1- قالوا: إن
الآثار قد دلت على أن القرآن قد سقط منه شيء لم يُكتب في المصاحف التي بأيدينا
اليوم:
أ- عن عائشة قالت: سمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رجلًا
يقرأ في المسجد فقال: "يرحمه الله، لقد أذكرني كذا وكذا آية من سورة كذا" ، وفي
رواية: "أسقطتهن من آية كذا وكذا" ، وفي رواية: "كنت أنسيتها" 1.
ويجاب
عن هذا بأن تذكير الرسول -صلى الله عليه وسلم- بآية أو آيات قد أنسيها أو
أسقطها نسيانًا لا يشكك في جمع القرآن، فإن الرواية التي جاء فيها التعبير
بالإسقاط تفسرها الرواية الأخرى: "كنت أنسيتها" وهذا يدل على أن المراد
بإسقاطها نسيانها، كما يدل عليه لفظ "أذكرني" والنسيان جائز على رسول الله -صلى
الله عليه وسلم- فيما لا يخل بالتبليغ، وكانت هذه الآيات قد حفظها رسول الله،
واستكتبها كتاب الوحي، وحفظها الصحابة في صدورهم، وبلغ حفظها وكتابتها مبلغ
التواتر, فنسيان الرسول -صلى الله عليه وسلم- لها بعد ذلك لا يؤثر في دقة جمع
القرآن, وهذا هو غاية ما يدل عليه الحديث. ولذا كانت قراءة هذا الرجل -وهو أحد
الحفظة الذين يبلغ عددهم حد التواتر- مذكرة لرسول الله, صلى الله عليه وسلم:
"لقد أذكرني كذا وكذا آية" .
ب- وقال تعالى في سورة الأعلى:
{سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسَى، إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ} 2, والاستثناء يدل على
أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أُنْسِي بعض الآيات.
1 الحديث في
الصحيحين بألفاظ متقاربة.
2 الأعلى: 6، 7.
ويُجاب عن ذلك
بأن الله تعالى قد وعد رسوله بإقراء القرآن وحفظه، وأمَّنه من النسيان في قوله:
{سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسَى} ولما كانت الآية توهم لزوم ذلك، والله تعالى فاعل
مختار: {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} 1, جاء الاستثناء
{إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ} للدلالة على أن هذا الإخبار بإقراء الرسول القرآن
وتأمينه من النسيان ليس خارجًا عن إرادته تعالى، فإنه سبحانه لا يعجزه شيء،
يقول الشيخ محمد عبده في تفسير الآية: "ولما كان الوعد على وجه التأبيد
واللزوم، ربما يوهم أن قدرة الله لا تتسع غيره، وأن ذلك خارج عن إرادته جل
شأنه، جاء بالاستثناء في قوله: {إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ} فإنه إذا أراد أن
ينسيك شيئًا لم يعجزه ذلك، فالقصد هو نفي النسيان رأسًا، وقالوا: إن ذلك كما
يقول الرجل لصاحبه:" أنت سهيمي فيما أملك إلا ما شاء الله "لا يقصد استثناء
شيء، وهو من استعمال القلة في معنى النفي، وعلى ذلك جاء الاستثناء، في قوله
تعالى في سورة هود: {وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ
فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ
عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} 2, أي غير مقطوع، فالاستثناء في مثل هذا للتنبيه على
أن ذلك التأبيد والتخليد، بكرم من الله وسعة جوده، لا بتحتيم عليه وإيجاب، وأنه
لو أراد أن يسلب ما وهب لم يمنعه من ذلك مانع."
وما ورد من أنه -صلى
الله عليه وسلم- نسي شيئًا كان يذكره، فذلك إن صح، فهو في غير ما أنزل الله من
الكتاب والأحكام التي أُمِرَ بتبليغها، وكل ما يقال غير ذلك فهو من مدخلات
الملحدين، التي جازت على عقول المغفلين، فلوَّثوا بها ما طهَّره الله، فلا يليق
بمن يعرف قدر صاحب الشريعة -صلى الله عليه وسلم- ويؤمن بكتاب الله أن يتعلق
بشيء من ذلك "."
1 الأنبياء: 23.
2 هود: 108.
2-
وقالوا: إن في القرآن ما ليس منه، واستدلوا على ذلك بما رُوِيَ من أن ابن مسعود
أنكر أن المعوذتين من القرآن.
ويُجاب عن ذلك بأن ما نُقِلَ عن ابن
مسعود -رضي الله عنه- لم يصح، وهو مخالف لإجماع الأمة، قال النووي في شرح
المهذب: "وأجمع المسلمون على أن المعوذتين والفاتحة من القرآن، وأن من جحد
شيئًا منها كفر، وما نُقِلَ عن ابن مسعود باطل ليس بصحيح" ، وقال ابن حزم: "هذا
كذب على ابن مسعود وموضوع" .
وعلى فرض صحته، فالذي يُحتمل: أن ابن
مسعود لم يسمع المعوذتين من النبي -صلى الله عليه وسلم- فتوقف في أمرهما.
وإنكار
ابن مسعود لا ينقض إجماع الأمة على أن المعوذتين من القرآن المتواتر.
ومثل
هذا يُجاب به على ما قيل من أن مصحف ابن مسعود قد أسقطت منه الفاتحة، فإن
الفاتحة هي أم القرآن، ولا تخفى قرآنيتها على أحد.
3- ويزعم نفر من
غلاة الشيعة أن أبا بكر وعمر وعثمان حرَّفوا القرآن، وأسقطوا بعض آياته وسوره،
فحرفوا لفظ: {أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ} 1, والأصل: "أئمة هي أزكى من
أئمتكم" ، وأسقطوا من سورة "الأحزاب" آيات فضائل أهل البيت وقد كانت في طولها
مثل سورة "الأنعام" ، وأسقطوا سورة الولاية بتمامها من القرآن.
ويُجاب
عن ذلك بأن هذه الأقوال أباطيل لا سند لها، ودعاوي لا بيِّنة عليها، والكلام
فيها حمق وسفاهة، وقد تبرأ بعض علماء الشيعة من هذا السخف،
1 النحل:
92.
والمنقول عن علي -رضي الله عنه- الذي يدَّعون التشيع له،
يناقضه، ويدل على انعقاد الإجماع بتواتر القرآن الذي بين دفتي المصحف، فقد
أُثِرَ عنه أنه قال في جمع أبي بكر: "أعظم الناس أجرًا في المصاحف أبو بكر،
رحمة الله على أبي بكر، هو أول من جمع كتاب الله" ، وقال في جمع عثمان: "يا
معشر الناس، اتقوا الله، وإياكم والغلو في عثمان وقولكم: حرَّاق مصاحف، فوالله
ما حرقها إلا عن ملأ منا أصحاب رسول الله, صلى الله عليه وسلم" ، وقال: "لو كنت
الوالي وقت عثمان لفعلت في المصاحف مثل الذي فعل عثمان" .
فهذا الذي
أُثِرَ عن علي نفسه يقطع السٌّنَّة أولئك المفترين الذين يزعمون نُصرته فيهرفون
بما لا يعرفون تشيعًا له، وهو منهم براء1.
1 انظر "مناهل العرفان"
جـ1 ص464.
ترتيب الآيات والسور
ترتيب الآيات
القرآن
سور وآيات منها القصار والطوال، والآية: هي الجملة من كلام الله المندرجة في
سورة من القرآن، والسورة: هي الجملة من آيات القرآن ذات المطلع والمقطع. وترتيب
الآيات في القرآن الكريم توقيفي عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وحكى بعضهم
الإجماع على ذلك: منهم: الزركشي في "البرهان" ، وأبو جعفر بن الزبير1 في
"مناسباته" إذ يقول: "ترتيب الآيات في سورها واقع بتوقيفه -صلى الله عليه وسلم-
وأمره من غير خلاف بين المسلمين" وجزم السيوطي بذلك فقال: "الإجماع والنصوص
المترادفة على أن ترتيب الآيات توقيفي لا شبهة في ذلك" فقد كان جبريل يتنزل
بالآيات على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ويرشده إلى موضعها من السورة أو
الآيات التي نزلت قبل، فيأمر الرسول كتبة الوحي بكتابتها في موضعها ويقول لهم:
ضعوا هذه الآيات في السورة التي يُذكر فيها كذا أو كذا، أو ضعوا آية كذا في
موضع كذا، كما بلَّغها أصحابه كذلك، عن عثمان بن أبي العاص قال: "كنت جالسًا
عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذ شَخَصَ ببصره ثم صوَّبه، ثم قال: أتاني
جبريل فأمرني أن أضع هذه الآية هذا الموضع من هذه السورة: {إِنَّ اللَّهَ
يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى} 2 ... إلى
آخرها" 3.
ووقف عثمان في جمع القرآن عند موضع كل آية من سورتها في
القرآن، ولو كانت منسوخة الحكم. لا يغيرها. وهذا يدل على أن كتابتها بهذا
الترتيب توقيفية، عن ابن الزبير قال: "قلت لعثمان: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ
مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا} 4, قد نسختها الآية الآخرى، فلم تكتبها"
1
هو أحمد بن إبراهيم بن الزبير الأندلسي، كان من النحاة الحفَّاظ، توفي سنة 807
هجرية.
2 النحل: 90.
3 أخرجه أحمد بإسناد حسن.
4
البقرة: 240.
أو تدعها؟ 1 قال: "يابن أخي، لا أُغَيِّر شيئًا من
مكانه" 2.
وجاءت الأحاديث الدالة على فضل آيات من سور بعينها،
ويستلزم هذا أن يكون ترتيبها توقيفيًّا. إذ لو جاز تغييرها لما صدقت عليها
الأحاديث، عن أبي الدرداء مرفوعًا: "من حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف عُصِمَ
من الدجال" وفي لفظ: "من قرأ العشر الأواخر من سورة الكهف ..." 3, كما جاءت
الأحاديث الدالة على آية بعينها في موضعها، عن عمر قال: ما سألت النبي -صلى
الله عليه وسلم- عن شيء أكثر مما سألته عن الكلالة، حتى طعن بأصبعه في صدري
وقال: "تكفيك آية الصيف التي في آخر سورة النساء" 4.
وثبتت قراءة
رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لسور عديدة بترتيب آياتها في الصلاة، أو في
خطبة الجمعة، كسورة البقرة وآل عمران والنساء، وصح أنه قرأ "الأعراف" في
المغرب، وأنه كان يقرأ في صبح الجمعة: {الم، تَنزِيلُ الْكِتَابِ لا رَيْبَ}
"السجدة" 5، و {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ} "الدهر" 6 وكان يقرأ سورة "ق"
في الخطبة، ويقرأ "الجمعة" و "المنافقون" في صلاة الجمعة.
وكان
جبريل يعارض رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالقرآن كل عام مرة في رمضان،
وعارضه في العام الأخير من حياته مرتين، وكان ذلك العرض على الترتيب المعروف
الآن.
وبهذا يكون ترتيب آيات القرآن كما هو في المصحف المتداول في
أيدينا توقيفيًّا، لا مراء في ذلك، قال السيوطي بعد أن ذكر أحاديث السور
المخصوصة: "تدل قراءته -صلى الله عليه وسلم- لها بمشهد من الصحابة على أن ترتيب
آياتها توقيفي وما كان الصحابة ليرتبوا ترتيبًا سمعوا النبي -صلى الله عليه
وسلم- يقرأ على خلافه، فبلغ ذلك مبلغ التواتر" 7.
1 أي لماذا تثبتها
بالكتابة أو تتركها مكتوبة وأنت تعلم أنها منسوخة؟
2 أخرجه
البخاري.
3 رواه مسلم.
4 رواه مسلم.
5 أي
سورة السجدة.
6 أي سورة الإنسان.
7 انظر الإتقان جـ1
ص61.
- ترتيب السور:
اختلف العلماء في ترتيب السور:
أ-
فقيل: إنه توقيفي، تولاه النبي -صلى الله عليه وسلم- كما أخبر به جبريل عن أمر
ربه، فكان القرآن على عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- مرتب السور، كما كان مرتب
الآيات على هذا الترتيب الذي لدينا اليوم، وهو ترتيب مصحف عثمان الذي لم يتنازع
أحد من الصحابة فيه مما يدل على عدم المخالفة والإجماع عليه.
ويؤيد
هذا الرأي: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قرأ بعض السور مرتبة في صلاته،
رَوَى ابن أبي شيبة: أنه عليه الصلاة والسلام كان يجمع المفصَّل في ركعة،
ورَوَى البخاري عن ابن مسعود أنه قال في بني إسرائيل والكهف ومريم وطه
والأنبياء: "إنهن من العتاق الأُوَل، وهن من تِلادى" فذكرها نسقًا كما استقر
ترتيبها.
ورُوي من طريق ابن وهب عن سليمان بن بلال قال: "سمعت ربيعة
يسأل: لم قُدِّمت البقرة وآل عمران وقد نزل قبلهما بضع وثمانون سورة مكية،
وإنما أنزلتا بالمدينة؟ فقال: قُدِّمتا وأُلِّف القرآن على علم ممن أَلَّفه به،
ثم قال: فهذا مما يُنْتَهى إليه ولا يُسأل عنه" 1.
وقال ابن الحصار:
"ترتيب السور ووضع الآيات مواضعها إنما كان بالوحي، كان رسول الله -صلى الله
عليه وسلم- يقول: ضعوا آية كذا في موضع كذا، وقد حصل اليقين من النقل المتواتر
بهذا الترتيب من تلاوة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومما أجمع الصحابة على
وضعه هكذا في المصحف" 2.
ب- وقيل: إن ترتيب السور باجتهاد من
الصحابة بدليل اختلاف مصاحفهم في الترتيب.
1 أخرجه ابن أشته في كتاب
"المصاحف" والمراد بالتأليف: الجمع.
2 انظر الإتقان جـ1 ص62.
فمصحف
"علي" كان مرتبًا على النزول، أوله: اقرأ، ثم المدثر، ثم ن والقلم، ثم المزمل
وهكذا ... إلى آخر المكي والمدني.
وكان أول مصحف ابن مسعود: البقرة،
ثم النساء، ثم آل عمران.
وأول مصحف أُبَي: الفاتحة، ثم البقرة، ثم
النساء، ثم آل عمران.
وقد رَوَى ابن عباس قال: "قلت لعثمان: ما
حملكم على أن عمدتم إلى الأنفال وهي من المثاني، وإلى براءة وهي من المئين،
فقرنتم بينهما. ولم تكتبوا بينهما سطر: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ
الرَّحِيمِ} ووضعتموها في السبع الطوال، فقال: كان رسول الله -صلى الله عليه
وسلم- تنزل عليه السور ذوات العدد، فكان إذا أنزل عليه شيء دعا بعض من يكتب
فيقول: ضعوا هذه الآية في السورة التي فيها كذا وكذا، وكانت الأنفال من أوائل
ما نزل بالمدينة، وكانت براءة من آخر القرآن نزولًا، وكانت قصتها شبيهة بقصتها
فظننت أنها منها، فقُبِض رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولم يبيِّن لنا أنها
منها، فمن أجل ذلك قرنت بينهما، ولم أكتب بينهما سطر {بِسْمِ اللَّهِ
الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ووضعتها في السبع الطوال" 1.
جـ- وقيل: إن
بعض السور ترتيبه توقيفي وبعضها باجتهاد الصحابة: حيث ورد ما يدل على ترتيب بعض
السور في عهد النبوة، فقد ورد ما يدل على ترتيب السبع الطوال والحواميم
والمفصَّل في حياته عليه الصلاة والسلام.
ورُوِيَ أن رسول الله -صلى
الله عليه وسلم- قال: "اقرءوا الزهراوين: البقرة وآل عمران" 2.
ورُوِيَ:
"أنه كان إذا أوى إلى فراشه كل ليلة جمع كفيه ثم نفث فيهما، فقرأ: {قُلْ هُوَ
اللَّهُ أَحَدٌ} و" المعوذتين "3."
وقال ابن حجر: "ترتيب بعض السور
على بعضها أو معظمها لا يمتنع أن يكون توقيفيًّا" واستدل على ذلك بحديث حذيفة
الثقفي حيث جاء فيه: "فقال"
1 أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي
والنَّسائي وابن حبان والحاكم.
2 رواه مسلم.
3 رواه
البخاري.
لنا رسول الله, صلى الله عليه وسلم: "طرأ عليَّ حزب من
القرآن فأردت أن لا أخرج حتى أقضيه" ، فسألنا أصحاب رسول الله -صلى الله عليه
وسلم- قلنا: كيف تُحزِّبون القرآن، قالوا: نُحزِّبه ثلاث سور، وخمس سور، وسبع
سور، وتسع سور، وإحدى عشرة، وثلاث عشرة، وحزب المفصَّل من "ق" حتى نختم1، قال
ابن حجر: فهذا يدل على أن ترتيب السور على ما هو في المصحف الآن كان على عهد
رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ويحتمل أن الذي كان مرتبًا حينئذ حزب
المفصَّل خاصة بخلاف ما عداه "."
وإذا ناقشنا هذه الآراء الثلاثة
يتبين لنا:
أن الرأي الثاني الذي يرى أن ترتيب السور باجتهاد
الصحابة لم يستند إلى دليل يُعتمد عليه.
فاجتهاد بعض الصحابة في
ترتيب مصاحفهم الخاصة كان اختيارًا منهم قبل أن يُجمع القرآن جمعًا مرتبًا،
فلما جُمِع في عهد عثمان بترتيب الآيات والسور على حرف واحد واجتمعت الأمة على
ذلك تركوا مصاحفهم، ولو كان الترتيب اجتهاديًّا لتمسكوا بها.
وحديث
سورتي: الأنفال والتوبة الذي رُوِيَ عن ابن عباس يدور إسناده في كل رواياته على
"يزيد الفارسي" الذي يذكره البخاري في الضعفاء، وفيه تشكيك في إثبات البسملة في
أوائل السور. كأن عثمان كان يثبتها برأيه وينفيها برأيه. ولذا قال فيه الشيخ
أحمد شاكر في تعليقه عليه بمسند الإمام أحمد: "إنه حديث لا أصل له" . وغاية ما
فيه أنه يدل على عدم الترتيب بين هاتين السورتين فقط2.
1 أخرجه أحمد
وأبو داود، وانظر "الإتقان" جـ1 ص63.
2 وحُكي أن البسملة ثابتة
لبراءة في مصحف ابن مسعود، وفي المستدرك للحاكم أن علي بن أبي طالب سُئِل: لِم
لمْ تُكتب في براءة: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ؟ قال: لأنها
أمان. وبراءة نزلت بالسيف.
أما الرأي الثالث الذي يرى أن بعض السور
ترتيبها توقيفي، وبعضها ترتيبه اجتهادي. فإن أدلته ترتكز على ذكر النصوص الدالة
على ما هو توقيفي. أما القسم الاجتهادي فإنه لا يستند إلى دليل يدل على أن
ترتيبه اجتهادي. إذ إن ثبوت التوقيفي بأدلته لا يعني أن ما سواه اجتهادي. مع
أنه قليل جدًّا.
وبهذا يترجح أن ترتيب السور توقيفي كترتيب الآيات.
قال أبو بكر بن الأنباري: "أنزل الله القرآن كله إلى سماء الدنيا، ثم فرَّقه في
بضع وعشرين، فكانت السورة تنزل لأمر يحدث، والآية جوابًا لمستخبِر، ويوقف جبريل
النبي -صلى الله عليه وسلم- على موضع الآية والسورة، فاتساق السور كاتساق
الآيات والحروف كله عن النبي -صلى الله عليه وسلم- فمن قدَّم سورة أو أخرها فقد
أفسد نظم القرآن" وقال الكرماني في "البرهان" : "ترتيب السور هكذا هو عند الله
في اللَّوح المحفوظ على هذا الترتيب، وعليه كان -صلى الله عليه وسلم- يعرض على
جبريل كل سنة ما كان يجتمع عنده منه. وعرضه عليه في السٌّنَّة التي توفي فيها
مرتين. وكان آخر الآيات نزولًا: {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى
اللَّهِ} 1, فأمره جبريل أن يضعها بين آيتي الربا والدَّيْن" 2.
ومال
السيوطي إلى ما ذهب إليه البيهقي قال: "كان القرآن على عهد النبي -صلى الله
عليه وسلم- مرتبًا سوره وآياته على هذا الترتيب إلا الأنفال وبراءة لحديث
عثمان" .
1 البقرة: 281.
2 انظر "الإتقان" جـ1 ص62.
سور
القرآن وآياته
سور القرآن أقسام أربعة: 1- الطوال. 2- والمئين. 3-
والمثاني. 4- والمفصَّل.. نوجز أرجح الآراء فيها.
1- فالطوال: سبع:
البقرة، وآل عمران، والنساء، والمائدة، والأنعام، والأعراف، والسابعة، قيل: هي
الأنفال وبراءة معًا لعدم الفصل بينهما بالبسملة. وقيل: هي يونس.
2-
المئون: التي تزيد آياتها على مائة أو تقاربها.
3- والمثاني: هي
التي تليها في عدد الآيات، سميت بذلك لأنها تُثنَّى في القراءة وتُكرَّر أكثر
من الطوال والمئين.
4- والمفصَّل: قيل: من أول سورة "ق" ، وقيل: من
أول "الحجرات" ، وقيل غير ذلك، وأقسامه ثلاثة، طواله، وأوساطه، وقصاره.
فطواله:
من "ق" أو "الحجرات" إلى "عم" أو "البروج" ، وأوساطه: من "عم" أو "البروج" إلى
"الضحى" أو إلى "لم يكن" ، وقصاره: من "الضحى" أو "لم يكن" إلى آخر القرآن. على
خلاف في ذلك.
وتسميته بالمفصَّل لكثرة الفصل بين سوره بالبسملة.
وتعداد
السور: مائة وأربع عشرة سورة، وقيل: وثلاث عشرة بجعل الأنفال وبراءة سورة
واحدة.
أما تعداد الآيات فستة آلاف ومائتا آية، واختلفوا فيما زاد
عن ذلك.
وأطول الآيات آية الدَّيْن، وأطول السور سورة البقرة.
وهذه
التجزئة تيسر على الناس الحفظ، وتحملهم على الدراسة، وتشعر القارئ لسورة من
السور بأنه قد أخذ قسطاً وافيًا وطائفة مستقلة من أصول دينه وأحكام شريعته.
الرسم
العثماني
سبق الحديث عن جمع القرآن في عهد عثمان -رضي الله عنه- وقد
اتبع زيد بن ثابت والثلاثة القرشيون معه طريقة خاصة في الكتابة ارتضاها لهم
عثمان، ويسمي العلماء هذه الطريقة "بالرسم العثماني للمصحف" نسبة إليه، واختلف
العلماء في حكمه.
1- فذهب بعضهم إلى أن هذا الرسم العثماني للقرآن
توقيفي يجب الأخذ به في كتابة القرآن، وبالغوا في تقديسه، ونسبوا التوقيف فيه
إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فذكروا أنه قال لمعاوية, أحد كتبة الوحي: "ألق
الدواة، وحرِّف القلم، وانصب الياء، وفرِّق السين، ولا تعوِّر الميم، وحسِّن
الله، ومد الرحمن، وجوِّد الرحيم، وضع قلمك على أذنك اليسرى، فإنه أذكر لك"
ونقل ابن المبارك عن شيخه عبد العزيز الدباغ أنه قال له: "ما للصحابة ولا
لغيرهم في رسم القرآن ولا شعرة واحدة، وإنما هو توقيف من النبي وهو الذي أمرهم
أن يكتبوه على الهيئة المعروفة بزيادة الألف ونقصانها لأسرار لا تهتدى إليها
العقول، وهو سر من الأسرار خص الله به كتابه العزيز دون سائر الكتب السماوية.
وكما أن نظم القرآن معجز فرسمه أيضًا معجز" .
والتمسوا لذلك الرسم
أسرارًا تجعل للرسم العثماني دلالة على معان خفية دقيقة، كزيادة "الياء" في
كتابة كلمة "أيد" من قوله تعالى: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ} 1, إذ
كتبت هكذا "بأييد" وذلك للإيماء إلى تعظيم قوة الله التي بنى بها السماء. وأنها
لا تشبهها قوة على حد القاعدة المشهورة، وهي: زيادة المبنى تدل على زيادة
المعنى2.
وهذا الرأي لم يرد فيه شيء عن رسول الله -صلى الله عليه
وسلم- حتى يكون الرسم توقيفيًّا، وإنما اصطلح الكتبة على هذا الرسم في زمن
عثمان برضًا منه، وجعل لهم ضابطًا لذلك بقوله للرهط القرشيين الثلاثة: "إذا
اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء من القرآن فاكتبوه بلسان قريش، فإنه إنما نزل
بلسانهم" وحين اختلفوا في كتابة "التابوت" فقال زيد: "التابوه" وقال النفر
القرشيون: "التابوت" وترافعوا إلى عثمان قال: "اكتبوا "التابوت" فإنما أُنزل
القرآن على لسان قريش".
1 الذاريات: 47.
2 انظر "مناهل
العرفان" للزرقاني جـ2 ص370 وما بعدها.
2- وذهب كثير من العلماء إلى
أن الرسم العثماني ليس توقيفيًّا عن النبي -صلى الله عليه وسلم- ولكنه اصطلاح
ارتضاه عثمان، وتلقته الأمة بالقبول، فيجب التزامه والأخذ به، ولا تجوز
مخالفته. قال أشهب: "سُئل مالك: هل يُكتب المصحف على ما أحدثه الناس من الهجاء؟
قال: لا، إلا على الكتبة الأولى" رواه أبو عمرو الداني في "المقنع" ثم قال:
"ولا مخالف له من علماء الأمة" ، وقال في موضع آخر: سُئل مالك عن الحروف في
القرآن مثل الواو والألف، أترى أن تُغيَّر من المصحف إذا وُجِدا فيه كذلك قال:
لا، قال أبو عمرو: يعني الواو والألف المزيدتين في الرسم المعدومتين في اللفظ
نحو "أولوا" وقال الإمام أحمد: "تحرم مخالفة خط مصحف عثمان في واو أو ياء أو
ألف أو غير ذلك" 1.
3- وذهب جماعة إلى أن الرسم العثماني اصطلاحي،
ولا مانع من مخالفته! إذا اصطلح الناس على رسم خاص للإملاء وأصبح شائعًا بينهم.
قال القاضي أبو بكر الباقلاني في كتابه "الانتصار" : "وأما الكتابة فلم يفرض
الله على الأمة فيها شيئًا. أولم يأخذ على كتَّاب القرآن وخُطَّاط المصاحف
رسمًا بعينه دون غيره أوجبه عليهم وترك ما عداه، إذ وجوب ذلك لا يُدرك إلا
بالسمع والتوقيف، وليس في نصوص الكتاب ولا مفهومه أن رسم القرآن وضبطه لا يجوز
إلا على وجه مخصوص وحدٍّ محدود لا يجوز تجاوزه، ولا في نص السٌّنَّة ما يوجب
ذلك ويدل عليه، ولا في إجماع الأمة ما يوجب ذلك، ولا دلت عليه القياسات
الشرعية، بل السٌّنَّة دلت على جواز رسمه بأي وجه سهل، لأن رسول الله -صلى الله
عليه وسلم- كان يأمر برسمه ولم يبيِّن لهم وجهًا معينًا ولا نهى أحدًا عن
كتابته. ولذلك اختلفت خطوط المصاحف، فمنهم من كان يكتب الكلمة على مخرج اللفظ،
ومنهم من كان يزيد وينقص لعلمه بأن ذلك اصطلاح، وأن الناس لا يخفى عليهم الحال،
ولأجل هذا بعينه جاز أن يُكتب بالحروف الكوفية والخط"
1 انظر
"الإتقان" جـ2 ص167، و "البرهان" للزركشي جـ1 ص379.
الأول، وأن
يُجعل الكلام على صورة الكاف، وأن تُعوَّج الألفات، وأن يُكتب على غير هذه
الوجوه، وجاز أن يكتب المصحف بالخط والهجاء القديمين، وجاز أن يُكتب بالخطوط
والهجاء المحدَثة، وجاز أن يُكتب بين ذلك، وإذا كانت خطوط المصحف وكثير من
حروفها مختلفة متغايرة الصورة، وكان الناس قد أجازوا أن يكتب كل واحد منهم بما
هو عادته، وما هو أسهل وأشهر وأولى. من غير تأثيم ولا تناكر، عُلِمَ أنه لم
يؤخذ في ذلك على الناس حد محدود مخصوص، كما أُخِذَ عليهم في القراءة، والسبب في
ذلك أن الخطوط إنما هي علامات ورسوم تجري مجرى الإشارات والعقود والرموز. فكل
رسم دال على الكلمة مقيد لوجه قراءتها تجب صحته وتصويب الكاتب به على أية صورة
كانت.. وبالجملة فكل من ادعى أنه يجب على الناس رسم مخصوص وجب عليه أن يقيم
الحجة على دعواه، وأنَّى له ذلك "."
وانطلاقًا من هذا الرأي يدعو
بعض الناس اليوم إلى كتابة القرآن الكريم وفق القواعد الإملائية الشائعة
المصطلح عليها، حتى تسهل قراءته على القارئين من الطلاب والدارسين، ولا يشعر
الطالب في أثناء قراءته للقرآن باختلاف رسمه عن الرسم الإملائي الاصطلاحي الذي
يدرسه.
والذي أراه أن الرأي الثاني هو الرأي الراجح، وأنه يجب كتابة
القرآن بالرسم العثماني المعهود في المصحف.
فهو الرسم الاصطلاحي
الذي توارثته الأمة منذ عهد عثمان -رضي الله عنه- والحفاظ عليه ضمان قوي لصيانة
القرآن من التغيير والتبديل في حروفه، ولو أبيحت كتابته بالاصطلاح الإملائي لكل
عصر لأدى هذا إلى تغيير خط المصحف من عصر لآخر، بل إن قواعد الإملاء نفسها
تختلف فيها وجهات النظر في العصر الواحد، وتتفاوت في بعض الكلمات من بلد
لآخر.
واختلاف الخطوط الذي يذكره القاضي أبو بكر الباقلاني شيء
والرسم الإملائي شيء آخر، فاختلاف الخط تغير في صورة الحرف لا في رسم
الكلمة.
وحجة تيسير القراءة على الطلاب والدارسين بانتفاء التعارض
بين رسم القرآن والرسم الإملائي الاصطلاحي لا تكون مبررًا للتغيير الذي يؤدي
إلى التهاون في تحري الدقة بكتابة القرآن.
والذي يعتاد القراءة في
المصحف يألف ذلك ويفهم الفوارق الإملائية بالإشارات الموضوعة على الكلمات،
والذين يمارسون هذا في الحياة التعليمية أو مع أبنائهم يدركون أن الصعوبة التي
توجد في القراءة بالمصحف أول الأمر تتحول بالمران بعد فترة قصيرة إلى سهولة
تامة.
قال البيهقي في شُعب الإيمان: "من يكتب مصحفًا فينبغي أن
يحافظ على الهجاء الذي كتبوا به تلك المصاحف، ولا يخالفهم فيه، ولا يُغيِّر مما
كتبوه شيئًا، فإنهم كانوا أكثر علمًا وأصدق قلبًا ولسانًا، وأعظم أمانة منا،
فلا ينبغي أن نظن بأنفسنا استدراكًا عليهم" 1.
1 انظر "الإتقان" جـ2
ص167.
تحسين الرسم العثماني
كانت المصاحف العثمانية خالية من النقط والشكل، اعتمادًا على السليقة
العربية السليمة التي لا تحتاج إلى الشكل بالحركات ولا إلى الإعجام بالنقط،
فلما تطرق إلى اللِّسان العربي الفساد بكثرة الاختلاط أحس أولو الأمر بضرورة
تحسين كتابة المصحف بالشكل والنقط وغيرهما مما يساعد على القراءة الصحيحة.
واختلف
العلماء في أول جهد بُذِل في ذلك السبيل.
فيرى كثير منهم أن أول من
فعل ذلك أبو الأسود الدؤلي الذي يُنسب إليه وضع ضوابط للعربية بأمر علي بن أبي
طالب، ويُرْوَى في ذلك أنه سمع قارئًا يقرأ قوله تعالى: {أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ
مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ} 1, فقرأها بجر
1 التوبة: 3.
اللام
من كلمة "رسوله" فأفزع هذا اللحن أبا الأسود وقال: عز وجه الله أن يبرأ من
رسوله، ثم ذهب إلى زياد والي البصرة وقال له: قد أجبتك إلى ما سألت، وكان زياد
قد سأله أن يجعل للناس علامات يعرفون بها كتاب الله، فتباطأ في الجواب حتى راعه
هذا الحادث، وهنا جد جده، وانتهى به اجتهاده إلى أن جعل علامة الفتحة نقطة فوق
الحرف، وجعل علامة الكسرة نقطة أسفله، وجعل علامة الضمة نقطة بين أجزاء الحرف،
وجعل علامة السكون نقطتين.
ويذكر السيوطي في "الإتقان" أن أبا
الأسود الدؤلي أول من فعل ذلك بأمر عبد الملك بن مروان لا بأمر زياد، حيث ظل
الناس يقرءون في مصحف عثمان بضعًا وأربعين سنة. حتى خلافة عبد الملك حين كثرت
التصحيفات وانتشرت في العراق ففكر الولاة في النقط والتشكيل.
وهناك
روايات أخرى تنسب هذا الفعل إلى آخرين. منهم: الحسن البصري، ويحيى بن يعمر،
ونصر بن عاصم الليثي، وأبو الأسود الدؤلي هو الذي اشتهر عنه ذلك، وربما كان
للآخرين المذكورين جهود أخرى بُذلت في تحسين الرسم وتيسيره.
وقد
تدرج تحسين رسم المصحف، فكان الشكل في الصدر الأول نقطًا، فالفتحة نقطة على أول
الحرف، والضمة على آخره، والكسرة تحت أوله.
ثم كان الضبط بالحركات
المأخوذة من الحروف، وهو الذي أخرجه الخليل، فالفتح شكلة مستطيلة فوق الحرف،
والكسر كذلك تحته، والضم واو صغرى فوقه، والتنوين زيادة مثلها، وتُكتب الألف
المحذوفة والمبدل منها في محلها حمراء، والهمزة المحذوفة تُكتب همزة بلا حرف
حمراء أيضًا، وعلى النون والتنوين قبل الباء علامة الإقلاب حمراء، وقبل الحلق
سكون، وتعرى عند الإدغام والإخفاء، ويسكن كل مسكن، ويعرى المدغم ويشدد ما بعده
إلا الطاء قبل التاء فيكتب عليها السكون نحو "فرطْت" 1.
1 انظر
"الإتقان" جـ2 ص171.
ثم كان القرن الثالث الهجري فجاد رسم المصحف
وتحسن، وتنافس الناس في اختيار الخطوط الجميلة وابتكار العلامات المميِّزة،
فجعلوا للحرف المشدد علامة كالقوس، ولألف الوصل جرة فوقها أو تحتها أو وسطها.
على حسب ما قبلها من فتحة أو كسرة أو ضمة.
ثم تدرج الناس بعد ذلك في
وضع أسماء السور وعدد الآيات، والرموز التي تشير إلى رءوس الآي، وعلامات الوقف
اللازم "م" والممنوع "لا" والجائز جوازًا مستوى الطرفين "ج" والجائز مع كون
الوصل أولى "صلي" والجائز مع كون الوقف أولى "قلي" وتعانق الوقف بحيث إذا وقف
على أحد الموضعين لا يصح الوقف على الآخر "" والتجزئة، والتحزيب، إلى غير ذلك
من وجوه التحسين.
وكان العلماء في بداية الأمر يكرهون ذلك خوفًا من
وقوع زيادة في القرآن مستندين إلى قول ابن مسعود: "جرِّدوا القرآن ولا تخلطوه
بشيء" ، ويفرِّق بعضهم بين النقط الجائز. والأعشار والفواتح التي لا تجوز. قال
الحليمي: "تُكره كتابة الأعشار والأخماس، وأسماء السور وعدد الآيات فيه لقول
ابن مسعود:" جرِّدوا القرآن "وأما النقط فيجوز، لأنه ليس له صورة فيتوَّهم
لأجلها ما ليس بقرآن قرآنًا. وإنما هي دلالات على هيئة المقروء فلا يضر إثباتها
لمن يحتاج إليها" .
ثم انتهى الأمر في ذلك إلى الإباحة والاستحباب،
أخرج ابن أبي داود عن الحسن وابن سيرين أنهما قالا: "لا بأس بنقط المصاحف" ،
وأخرج عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن: أنه قال: "لا بأس بشكله" ، وقال النووي:
"نقط المصحف وشكله مستحب لأنه صيانة له من اللحن والتحريف" 1.
وقد
وصلت العناية بتحسين رسم المصحف اليوم ذروتها في الخط العربي.
1
انظر "الإتقان" جـ2 ص171.
الفواصل ورءوس الآي
تميز
القرآن الكريم بمنهج فريد في فواصله ورءوس آياته، ونعني بالفاصلة: الكلام
المنفصل مما بعده، وقد يكون رأس آية وقد لا يكون، وتقع الفاصلة عند نهاية
المقطع الخطابي، سميت بذلك لأن الكلام ينفصل عندها.
ونعني برأس
الآية: نهايتها التي توضع بعدها علامة الفصل بين آية وآية، ولهذا قالوا1: "كل
رأس آية فاصلة، وليس كل فاصلة رأس آية، فالفاصلة تعم النوعين، وتجمع الضربين" ،
لأن رأس كل آية يفصل بينها وبين ما بعدها.
ومثل هذا قد يُسمى في
كلام الناس سجعًا على النحو المعروف في علم البديع، ولكن كثيرًا من العلماء2 لا
يطلق هذا الوصف على القرآن الكريم سُمُوًّا به عن كلام الأدباء، وعبارات
الأنبياء، وأسلوب البلغاء وفرَّقوا بين الفواصل والسجع، بأن الفواصل في القرآن:
هي التي تتبع المعاني ولا تكون مقصودة لذاتها.
أما السجع: فهو الذى
يُقصد في نفسه ثم يحيل المعنى عليه، لأنه: موالاة الكلام على وزن واحد، ورد
القاضي أبو بكر الباقلاني على من أثبت السجع في القرآن فقال: "وهذا الذي
يزعمونه غير صحيح، ولو كان القرآن سجعًا لكان غير خارج عن أساليب كلامهم، ولو
كان داخلًا فيها لم يقع بذلك إعجاز، ولو جاز أن يُقال: هو سجع مُعجز لجاز لهم
أن يقولوا: شِعر معجز، وكيف؟ والسجع مما كانت كهان العرب تألفه، ونفيه من
القرآن أجدر بأن يكون حجة من نفى الشعر، لأن الكهانة تخالف النبوات بخلاف
الشِّعر. وما توَّهموا أنه سجع"
1 انظر "البرهان" للزركشي جـ1
ص53.
2 على رأس هؤلاء "الرماني" في كتاب "إعجاز القرآن" والقاضي أبو
بكر الباقلاني في كتاب "إعجاز القرآن" كذلك.
باطل1، لأن مجيئه على
صورته لا يقتضي كونه هو، لأن السجع من الكلام يتبع المعنى فيه اللفظ الذي
يؤدَّى بالسجع، وليس كذلك ما اتفق مما هو في معنى السجع من القرآن، لأن اللفظ
وقع فيه تابعًا للمعنى، وفرق بين أن ينتظم الكلام في نفسه بألفاظه التي تؤدِّي
المعنى المقصود فيه، وبين أن يكون المعنى منتظمًا دون اللفظ "2."
والذي
أراه أنه إذا كان المراد بالسجع مراعاة موالاة الكلام على وزن واحد دون مراعاة
المعنى فإن هذا تكلف ممقوت في كلام الناس فضلًا عن كلام الله. أما إذا رُوعيت
المعاني وجاء الاتفاق في الوزن تابعًا لها دون تكلف فهذا ضرب من ضروب البلاغة،
قد يأتي في القرآن كما يأتي في غيره. وإذا سمينا هذا في القرآن بالفواصل دون
السجع فذلك لتلافي إطلاق السجع على القرآن بالمعنى الأول.
والفواصل
في القرآن الكريم أنواع:
أ- فمنها الفواصل المتماثلة كقوله تعالى:
{وَالطُّورِ, وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ, فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ, وَالْبَيْتِ
الْمَعْمُورِ} 3, وقوله تعالى: {وَالْفَجْرِ, وَلَيَالٍ عَشْرٍ, وَالشَّفْعِ
وَالْوَتْرِ, وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ} 4، وقوله تعالى: {فَلا أُقْسِمُ
بِالْخُنَّسِ, الْجَوَارِ الْكُنَّسِ, وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ, وَالصُّبْحِ
إِذَا تَنَفَّسَ} 5.
ب- ومنها الفواصل المتقاربة في الحروف، كقوله
تعالى: {الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ, مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} 6, للتقارب بين الميم
والنون في المقطع، وقوله:
1 أقوى ما استدل به الذين يثبتون السجع في
القرآن أن موسى أفضل من هارون، ولما كان السجع بالألف اللينة قيل في موضع:
{قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى} [طه: 70] ، ولما كانت الفواصل في
موضع آخر بالواو والنون قيل: {رَبِّ مُوسَى وهَارُونَ} [الشعراء: 48] وأجيب بأن
التقديم والتأخير لإعادة القصة الواحدة بألفاظ مختلفة تؤدي معنًى واحدًا، وليس
للسجع.
2 البرهان، للزركشي جـ1 ص58.
3 الطور: 1-4.
4
الفجر: 1-4.
5 التكوير: 15-18.
6 الفاتحة: 3، 4.
{ق
وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ, بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ
فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ} 1, بتقارب مقطعي الدال
والباء2.
جـ- ومنها المتوازي: وهو أن تتفق الكلمتان في الوزن وحروف
السجع، كقوله تعالى: {فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ, وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ}
3.
د- ومنها المتوازن، وهو أن يُراعى في مقاطع الكلام الوزن فقط
كقوله تعالى: {وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ, وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ} 4.
وقد
يُراعى في الفواصل زيادة حرف كقوله تعالى: {وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ
الظُّنُونَا} 5, بإلحاق ألف، لأن مقاطع فواصل هذه السورة ألفات منقلبة عن تنوين
في الوقف، فزيد على النون ألف لتساوي المقاطع. وتناسب نهايات الفواصل، أو حذف
حرف، كقوله تعالى: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ} 6, بحذف الياء، لأن مقاطع
الفواصل السابقة واللاحقة بالراء، أو تأخير ما حقه التقديم لنكتة بلاغية أخرى
كتشويق النفس إلى الفاعل في قوله تعالى: {فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً
مُوسَى} 7, لأن الأصل في الكلام أن يتصل الفعل بفاعله ويؤخر المفعول، لكن أخَّر
الفاعل هنا وهو "موسى" للنكتة البلاغية السابقة على رعاية الفاصلة.
1
سورة ق: 1، 2.
2 هذا لا يسمى سجعًا عند القائلين بإطلاق السجع في
القرآن، لأن السجع ما تماثلت حروفه.
3 الغاشية: 13، 14.
4
الغاشية: 15، 16.
5 الأحزاب: 10.
6 الفجر: 4.
7
طه: 67.
نزول القرآن على سبعة أحرف
مدخل
9- نزول القرآن على سبعة أحرف:
لقد كان للعرب لهجات
شتى تنبع من طبيعة فطرتهم في جرسها وأصواتها وحروفها تعرضت لها كتب الأدب
بالبيان والمقارنة، فكل قبيلة لها من اللحن في كثير من الكلمات ما ليس للآخرين،
إلا أن قريشًا من بين العرب قد تهيأت لها عوامل جعلت للغتها الصدارة بين فروع
العربية الأخرى من جوار البيت وسقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام والإشراف على
التجارة، فأنزلها العرب جميعًا لهذه الخصائص وغيرها منزلة الأب للغاتهم، فكان
طبيعيًّا أن يتنزل القرآن بلغة قريش على الرسول القرشي تأليفًا للعرب وتحقيقًا
لإعجاز القرآن حين يسقط في أيديهم أن يأتوا بمثله أو بسورة منه.
وإذا
كان العرب تتفاوت لهجاتهم في المعنى الواحد بوجه من وجوه التفاوت فالقرآن الذي
أوحى الله به لرسوله محمد -صلى الله عليه وسلم- يكمل له معنى الإعجاز إذا كان
مستجمعًا بحروفه وأوجه قراءته للخالص منها، وذلك مما ييسر عليهم القراءة والحفظ
والفهم.
ونصوص السٌّنَّة قد تواترت بأحاديث نزول القرآن على سبعة
أحرف، ومن ذلك:
عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أنه قال: "قال رسول
الله, صلى الله عليه وسلم:" أقرأني جبريل على حرف فراجعته، فلم أزل أستزيده
ويزيدني حتى انتهى إلى سبعة أحرف "1."
وعن أُبَيِّ بن كعب: "أن
النبي -صلى الله عليه وسلم- كان عند أضاة2 بني غفار، قال: فأتاه جبريل فقال: إن
الله يأمرك أن تُقرئ أمتك القرآن على حرف. فقال:" أسال الله معافاته ومغفرته،
وإن أمتي لا تطيق ذلك "، ثم أتاه الثانية فقال: إن الله يأمرك أن تُقرئ أمتك
القرآن على حرفين - فقال:" أسأل الله معافاته
1 أخرجه البخاري ومسلم
وغيرهما.
2 الأضاة: الغدير.
ومغفرته، وإن أمتي لا تطيق
ذلك "، ثم جاءه الثالثة فقال: إن الله يأمرك أن تُقرئ أمتك القرآن على ثلاثة
أحرف، فقال:" أسأل الله معافاته ومغفرته، وإن أمتي لا تطيق ذلك "، ثم جاءه
الرابعة فقال: إن الله يأمرك أن تُقرئ أمتك القرآن على سبعة أحرف، فأيما حرف
قرءوا عليه فقد أصابوا" 1.
وعن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قال:
"سمعت هشام بن حكيم يقرأ سورة الفرقان في حياة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
فاستمعت لقراءته، فإذا هو يقرؤها على حروف كثيرة لم يُقرئنيها رسول الله -صلى
الله عليه وسلم- فكدت أساوره في الصلاة، فانتظرته حتى سلَّم، ثم لببته بردائه
فقلت: من أقرأك هذه السورة؟ قال: أقرأنيها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قلت
له: كذبت، فوالله إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أقرأني هذه السورة التي
سمعتك تقرؤها، فانطلقت أقوده إلى رسول الله، فقلت: يا رسول الله. إني سمعت هذا
يقرأ بسورة الفرقان على حروف لم تُقرئنيها، وأنت أقرأتني سورة الفرقان, فقال
رسول الله, صلى الله عليه وسلم:" أ َرْسِله يا عمر, اقرأ يا هشام ", فقرأ هذه
القراءة التي سمعته يقرؤها، فقال رسول الله, صلى الله عليه وسلم:" هكذا
أُنْزِلت "، ثم قال رسول الله, صلى الله عليه وسلم:" اقرأ يا عمر "، فقرأت
القراءة التي أقرأني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال رسول الله, صلى الله
عليه وسلم:" هكذا أُنْزِلت "، ثم قال رسول الله, صلى الله عليه وسلم:" إن هذا
القرآن أُنْزل على سبعة أحرف، فاقرءوا ما تيسَّر منها "2."
والأحاديث
في ذلك مستفيضة استقرأ معظمها ابن جرير في مقدمة تفسيره، وذكر السيوطي أنها
رويت عن واحد وعشرين صحابيًّا، وقد نصَّ أبو عبيد القاسم بن سلام على تواتر
حديث نزول القرآن على سبعة أحرف3.
واختلف العلماء في تفسير هذه
الأحرف اختلافًا كثيرًا. حتى قال ابن حبان:
1 رواه مسلم.
2
رواه البخاري ومسلم وأبو داود والنَّسائي والترمذي وأحمد وابن جرير.
3
انظر "الإتقان" جـ1 ص41.
اختلاف العلماء في المراد بها الترجيح
بينها
"اختلف أهل العلم في معنى الأحرف السبعة على خمسة وثلاثين
قولًا" 1, وأكثر هذه الآراء متداخل، ونحن نورد هنا ما هو ذو بال منها:
أ-
ذهب أكثر العلماء إلى أن المراد بالأحرف السبعة سبع لغات من لغات العرب في
المعنى الواحد، على معنى أنه حيث تختلف لغات العرب في التعبير عن معنًى من
المعاني يأتي القرآن مُنَزَّلًا بألفاظ على قدر هذه اللغات لهذا المعنى الواحد،
وحيث لا يكون هناك اختلاف فإنه يأتي بلفظ واحد أو أكثر.
واختلفوا في
تحديد اللغات السبع.
فقيل: هي لغات: قريش، وهذيل، وثقيف، وهوازن،
وكنانة، وتميم، واليمن.
وقال أبو حاتم السجستاني: نزل بلغة قريش،
وهذيل، وتميم، والأزد، وربيعة، وهوازن، وسعد بن بكر.
ورُوِيَ غير
ذلك2.
ب- وقال قوم: إن المراد بالأحرف السبعة سبع لغات من لغات
العرب نزل عليها القرآن، على معنى أنه في جملته لا يخرج في كلماته عن سبع لغات
هي أفصح لغاتهم، فأكثره بلغة قريش، ومنه ما هو بلغة هذيل، أو ثقيف، أو هوازن،
أو كنانة، أو تميم، أو اليمن، فهو يشتمل في مجموعه على اللغات السبع.
وهذا
الرأي يختلف عن سابقه، لأنه يعني أن الأحرف السبعة إنما هي أحرف سبعة متفرقة في
سور القرآن، لا أنها لغات مختلفة في كلمة واحدة باتفاق المعاني.
1
وقال السيوطي: اختُلِفَ في معنى هذا الحديث على نحو أربعين قولًا، جـ1 ص45.
2
انظر "الإتقان" جـ1 ص47.
قال أبو عبيد: "ليس المراد أن كل كلمة
تُقرأ على سبع لغات، بل اللغات السبع مفرَّقة فيه، فبعضه بلغة قريش، وبعضه بلغة
هذيل، وبعضه بلغة هوازن، وبعضه بلغة اليمن، وغيرهم، قال: وبعض اللغات أسعد به
من بعض وأكثر نصيبًا" 1.
جـ- وذكر بعضهم أن المراد بالأحرف السبعة
أوجه سبعة: من الأمر، والنهي، والوعد، والوعيد، والجدل، والقصص، والمثل. أو من:
الأمر، والنهي، والحلال، والحرام، والمُحْكم، والمتشابه، والأمثال.
عن
ابن مسعود عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "كان الكتاب الأول ينزل من باب
واحد، وعلى حرف واحد، ونزل القرآن من سبعة أبواب، على سبعة أحرف: زجر، وأمر،
وحلال، وحرام، ومُحْكم، ومتشابه، وأمثال" 2.
د- وذهب جماعة إلى أن
المراد بالأحرف السبعة، وجوه التغاير السبعة التي يقع فيها الاختلاف، وهي:
1-
اختلاف الأسماء بالإفراد، والتذكير وفروعهما: "التثنية، والجمع, والتأنيث"
كقوله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ} 3,
قرئ "لأماناتهم" بالجمع، وقرئ "لأمانتهم" بالإفراد.. ورسمها في الصحف
"لأَمَنَتِهِمْ" يحتمل القراءتين، لخلوها من الألف الساكنة، ومآل الوجهين في
المعنى الواحد، فيراد بالجمع الاستغراق الدال على الجنسية، ويراد بالإفراد
الجنس الدال على معنى الكثرة، أي جنس الأمانة، وتحت هذا جزئيات كثيرة.
2-
الاختلاف في وجوه الإعراب، كقوله تعالى: {مَا هَذَا بَشَرًا} 4, قرأ الجمهور
بالنصب، على أن "ما" عاملة عمل "ليس" وهي لغة أهل الحجاز وبها نزل القرآن، وقرأ
ابن مسعود: "مَا هَذَا بَشَرٌ" بالرفع، على لغة بني تميم، فإنهم لا يعملون "ما"
عمل "ليس" وكقوله:
1 انظر "الإتقان" جـ1 ص47.
2 أخرجه
الحاكم والبيهقي.
3 المؤمنون: 8.
4 يوسف: 31.
{فَتَلَقَّى
آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ} 1 - "برفع" آدم "وجر" كلمات "" - وقُرِئ بنصب
"آدم" ورفع "كلمات" : "فَتَلَقَّى آدَمَ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٌ" .
3-
الاختلاف في التصريف: كقوله تعالى: {فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ
أَسْفَارِنَا} 2, قُرِئ بنصب "ربَّنا" على أنه منادى مضاف، و "بَاعِد" بصيغة
الأمر، وقُرِئ "ربُّنا" بالرفع، و "باعَد" بفتح العين، على أنه فعل ماض، وقُرِئ
"بعِّد" بفتح العين مشددة مع رفع "ربُّنا" أيضًا.
ومن ذلك ما يكون
بتغيير حرف، مثل "يعلمون، وتعلمون" بالياء والتاء، و "الصراط" و "السراط" في
قوله تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} 3.
4- الاختلاف
بالتقديم والتأخير، إما في الحرف، كقوله تعالى: {أَفَلَمْ يَيْأَسِ} 4 وقُرِئ
"أفلم يأيس" وإما في الكلمة كقوله تعالى: {فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ} 5,
بالبناء للفاعل في الأول، وللمفعول في الثاني، وقُرِئ بالعكس، أي بالبناء
للمفعول في الأول، وللفاعل في الثاني.
أما قراءة "وجاءت سكرة الحق
بالموت" بدلًا من قوله تعالى: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ} 6,
فقراءة أحادية أو شاذة، لم تبلغ درجة التواتر.
5- الاختلاف
بالإبدال: سواء أكان إبدال حرف بحرف. كقوله تعالى: {وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ
كَيْفَ نُنْشِزُهَا} 7, قُرِئ بالزاي المعجمة مع ضم النون، وقُرِئ بالراء
المهملة مع فتح النون، أو إبدال لفظ بلفظ، كقوله تعالى: {كَالْعِهْنِ
المَنْفُوش} 8, قرأ ابن مسعود وغيره "كالصوف المنفوش" ، وقد يكون هذا الإبدال
مع التقارب في المخارج كقوله تعالى: {وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ} 9, قُرِئ "طلع" ومخرج
الحاء والعين واحد، فهما من حروف الحلق.
1 البقرة: 37.
2
سبأ: 19.
3 الفاتحة: 6.
4 الرعد: 31.
5
التوبة: 111.
6 سورة ق: 19.
7 البقرة: 259.
8
القارعة: 5.
9 الواقعة: 29.
6- الاختلاف بالزيادة
والنقص: فالزيادة كقوله تعالى: {وَأعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ
تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} 1, قُرِئ "من تحتها الأنهار" بزيادة "من" وهما قراءتان
متواترتان، والنقصان كقوله تعالى: "قالوا اتخذ الله ولدًا" بدون واو، وقراءة
الجمهور {وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا} 2, وبالواو. وقد يمثل للزيادة في
قراءة الآحاد، بقراءة ابن عباس: "وكان أمامهم ملك يأخذ كل سفينة صالحة غصبًا"
بزيادة "صالحة" وإبدال كلمة "أمام" بكلمة "وراء" وقراءة الجمهور: {وَكَانَ
وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا} 3, كما يمثل للنقصان
بقراءة "والذكر والأنثى" بدلًا من قوله تعالى: {وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ
وَالْأُنْثَى} 4.
7- اختلاف اللهجات بالتفخيم والترقيق، والفتح
والإمالة، والإظهار والإدغام، والهمز والتسهيل، والإشمام ونحو ذلك، كالإمالة
وعدمها في مثل قوله تعالى: {وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى} 5, قُرِئ بإمالة
"أتى" و "موسى" وترقيق الراء في قوله: {خَبِيرًا بَصِيرًا} 6, وتفخيم اللام في
"الطلاق" وتسهيل الهمزة في قوله: {قَدْ أَفْلَحَ} 7, وإشمام الغين ضمة مع الكسر
في قوله تعالى: {وَغِيضَ الْمَاءُ} 8 وهكذا.
هـ- وذهب بعضهم إلى أن
العدد سبعة لا مفهوم له، وإنما هو رمز إلى ما أَلِفَه العرب من معنى الكمال في
هذا العدد، فهو إشارة إلى القرآن في لغته وتركيبه كأنه حدود وأبواب لكلام العرب
كله مع بلوغه الذروة في الكمال، فلفظ السبعة يطلق على إرادة الكثرة والكمال في
الآحاد، كما يُطلق السبعون في العشرات، والسبعمائة في المائتين، ولا يُراد
العدد المعيَّن9.
1 التوبة: 100.
2 البقرة: 116.
3
الكهف: 79.
4 الليل: 3.
5 طه: 9.
6 الإسراء:
17.
7 المؤمنون: 1.
8 هود: 44.
9 انظر
"الإتقان" جـ1 ص45.
و وقال جماعة: إن المراد بالأحرف السبعة،
القراءات السبع.
والراجح من هذه الآراء جميعًا هو الرأي الأول، وأن
المراد بالأحرف السبعة سبع لغات من لغات العرب في المعنى الواحد. نحو: أَقْبِل
وتعال، وهلم، وعَجِّل، وأسرع، فهي ألفاظ مختلفة لمعنى واحد، وإليه ذهب سفيان بن
عيينة، وابن جرير، وابن وهب، وخلائق، ونسبه ابن عبد البر لأكثر العلماء ويدل له
ما جاء في حديث أبي بكرة: "أن جبريل قال: يا محمد، اقرأ القرآن على حرف، فقال
ميكائيل: استزده، فقال: على حرفين, حتى بلغ ستة أو سبعة أحرف، فقال: كلها شاف
كاف، ما لم يختم آية عذاب بآية رحمة، أو آية رحمة بآية عذاب، كقولك: هلم وتعالى
وأَقْبِل واذهب وأسرع وعَجِّل" 1, قال ابن عبد البر: "إنما أراد بهذا ضرب المثل
للحروف التي نزل القرآن عليها، وأنها معان متفق مفهومها، مختلف مسوعها، لا يكون
في شيء منها معنى وضده، ولا وجه يخالف معنى وجه خلافًا ينفيه ويضاده، كالرحمة
التي هي خلاف العذاب" 2.
ويؤيده أحاديث كثيرة:
"قرأ رجل
عند عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- فغيَّر عليه، فقال: لقد قرأت على رسول الله
-صلى الله عليه وسلم- فلم يُغيِّر علي، قال: فاختصما عند النبي -صلى الله عليه
وسلم- فقال: يا رسول الله، ألم تُقرئني آية كذا وكذا؟ قال: بلى! قال: فوقع في
صدر عمر شيء، فعرف النبي -صلى الله عليه وسلم- ذلك في وجهه، قال: فضرب صدره
وقال:" ابعد شيطانًا "-قالها ثلاثًا- ثم قال:" يا عمر، إن القرآن كله صواب ما
لم تجعل رحمة عذابًا أو عذابًا رحمة "3."
وعن بسر بن سعيد: "أن أبا
جهيم الأنصاري أخبره: أن رجلين اختلفا في آية من القرآن، فقال هذا: تلقيتها من
رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقال الآخر: تلقيتها من"
1 أخرجه
أحمد والطبراني، بإسناد جيد، وهذا اللفظ لأحمد.
2 انظر "الإتقان"
جـ1 ص47.
3 أخرجه أحمد بإسناد رجاله ثقات، وأخرجه الطبري.
رسول
الله -صلى الله عليه وسلم- فسألا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عنها، فقال
رسول الله, صلى الله عليه وسلم: "إن القرآن نزل على سبعة أحرف، فلا تماروا في
القرآن، فإن المراء فيه كفر" 1.
وعن الأعمش قال: "قرأ أنس هذه
الآية:" إن ناشئة الليل هي أشد وطأ وأصوب قيلًا "2، فقال له بعض القوم: يا أبا
حمزة، إنما هي" وأقوم "فقال: أقوم وأصوب وأهيأ واحد" 3.
وعن محمد بن
سيرين قال: نُبِّئت أن جبرائيل وميكائيل أتيا النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال
له جبرائيل: اقرأ القرآن على حرفين، فقال له ميكائيل: استزده، قال: حتى بلغ
سبعة أحرف، قال محمد: "لا تختلف في حلال ولا حرام، ولا أمر ولا نهي هو كقولك:
تعال، وهلم، وأقبل" ، قال: وفي قراءتنا: {إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً
وَاحِدَةً} 4, في قراءة ابن مسعود: "إن كانت إلا زقية واحدة" 5.
ويُجاب
عن الرأي الثاني "ب" الذي يرى أن المراد بالأحرف السبعة سبع لغات من لغات العرب
نزل عليها القرآن, على معنى أنه في جملته لا يخرج في كلماته عنها فهو يشتمل في
مجموعه عليها - بأن لغات العرب أكثر من سبع، وبأن عمر بن الخطاب وهشام بن حكيم
كلاهما قرشي من لغة واحدة، وقبيلة واحدة، وقد اختلفت قراءتهما. ومحال أن ينكر
عليه عمر لغته، فدل ذلك على أن المراد بالأحرف السبعة غير ما يقصدونه، ولا يكون
هذا إلا باختلاف الألفاظ في معنى واحد، وهو ما نرجحه.
قال ابن جرير
الطبري بعد أن ساق الأدلة، مبطلًا هذا الرأي: "بل الأحرف السبعة التي نزل بها
القرآن، هن لغات سبع في حرف واحد، وكلمة واحدة،"
1 رواه أحمد في
"المسند" ورواه الطبري، ونقله ابن كثير في "الفضائل" والهيثمي في "مجمع
الزوائد" . وقال: رجاله رجال الصحيح.
2 المزمل: 6 بلفظ "وأقوم" .
3
رواه الطبري، وأبو يعلى، والبزَّار، ورجاله رجال الصحيح.
4 يس: 29،
53.
5 رواه الطبري، ومحمد -هو ابن سيرين التابعي- فالحديث مرسل.
باختلاف
الألفاظ واتفاق المعاني, كقول القائل: هلم، وأَقْبِل، وتعال، وإليَّ، وقصدي،
ونحوي، وقُرْبي، ونحو ذلك، مما تختلف فيه الألفاظ بضروب من المنطق وتتفق فيه
المعاني، وإن اختلفت بالبيان به الألسن، كالذي روينا آنفًا عن رسول الله -صلى
الله عليه وسلم- وعمن روينا ذلك عنه من الصحابة، أن ذلك بمنزلة قولك: "هلم
وتعال وأَقْبِل" ، وقوله: "ما ينظرون إلا زقية" و "إلا صيحة" .
وأجاب
الطبري عن تساؤل مفتَرَض: ففي أي كتاب الله نجد حرفًا واحدًا مقروءًا بلغات سبع
مختلفات الألفاظ متفقات المعنى؟ أجاب: بأننا لم ندع أن ذلك موجود اليوم وعن
تساؤل مفترض آخر: فما بال الأحرف الأخر الستة غير موجودة؟ - بأن الأمة أُمِرَت
بحفظ القرآن, وخُيِّرت في قراءته وحفظه بأي تلك الأحرف السبعة شاءت كما
أُمِرَت، ثم دعت الحاجة إلى التزام القراءة بحرف واحد مخافة الفتنة في زمن
عثمان، ثم اجتمع أمر الأمة على ذلك، وهي معصومة من الضلالة1.
ويُجاب
عن الرأي الثالث "جـ" الذي يرى أن المراد بالأحرف السبعة سبعة أوجه: من الأمر،
والنهي والحلال، والحرام، والمُحْكم، والمتشابه، والأمثال - بأن ظاهر الأحاديث
يدل على أن المراد بالأحرف السبعة أن الكلمة تقرأ على وجهين أو ثلاثة إلى سبعة
توسعة للأمة، والشيء الواحد لا يكون حلالًا وحرامًا في آية واحدة، والتوسعة لم
تقع في تحريم حلال، ولا تحليل حرام، ولا في تغيير شيء من المعاني المذكورة.
والذي
ثبت في الأحاديث السابقة أن الصحابة الذين اختلفوا في القراءة احتكموا إلى
النبي -صلى الله عليه وسلم- فاستقرأ كل رجل منهم، ثم صوب جميعهم في قراءتهم على
اختلافها، حتى ارتاب بعضهم لتصويبه إياهم، فقال صلى الله عليه وسلم للذي ارتاب
منهم عند تصويبه جميعهم: "إن الله أمرني أن أقرأ على سبعة أحرف" .
1
انظر "تفسير الطبري" جـ1 ص57 وما بعدها.
"ومعلوم أن تماريهم فيما
تماروا فيه من ذلك، لو كان تماريًا واختلافًا فيما دلت عليه تلاواتهم من
التحليل والتحريم والوعد والوعيد وما أشبه ذلك، لكان مستحيلًا أن يصوِّب
جميعهم، ويأمر كل قارئ منهم أن يلزم قراءته في ذلك على النحو الذي هو عليه، لأن
ذلك لو جاز أن يكون صحيحًا وجب أن يكون الله جل ثناؤه قد أمر بفعل شيء بعينه
وفَرَضَه، في تلاوة من دلت تلاوته على فَرْضه, ونهى عن فعل ذلك الشيء بعينه
وزَجَر عنه, في تلاوة الذي دلت تلاوته على النهي والزجر عنه, وأباح وأطلق فعل
ذلك الشيء بعينه، وجعل لمن شاء من عباده أن يفعله فعله. ولمن شاء منهم أن يتركه
تركه، في تلاوة من دلت تلاوته على التخيير."
وذلك من قائله -إن
قاله- إثبات ما قد نفى الله جل ثناؤه عن تنزيله ومحكم كتابه فقال: {أَفَلا
يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا
فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا} 1.
وفي نفي الله جل ثناؤه ذلك عن محكم
كتابه أوضح الدليل على أنه لم ينزل كتابه على لسان محمد -صلى الله عليه وسلم-
إلا بحكم واحد متفق في جميع خلقه لا بأحكام فيهم مختلفة "2."
ويُجاب
عن الرأي الرابع "د" الذي يرى أن المراد بالأحرف السبعة وجوه التغاير التي يقع
فيها الاختلاف3؛ بأن هذا وإن كان شائعًا مقبولًا لكنه لا ينهض أمام أدلة الأول
التي جاء التصريح فيها باختلاف الألفاظ مع اتفاق المعنى، وبعض وجوه التغاير
والاختلاف التي يذكرونها ورد بقراءات الآحاد، ولا خلاف في أن كل ما هو قرآن يجب
أن يكون متواترًا، وأكثرها يرجع إلى
1 النساء: 82.
2
تفسير الطبري: جـ1 ص48، 49.
3 هذا الرأي هو أقوى الآراء بعد الرأي
الذي اخترناه، وإليه ذهب "الرازي" وانتصر له من المتأخرين الشيخ محمد بخيت
المطيعي، والشيخ محمد عبد العظيم الزرقاني.
شكل الكلمة أو كيفية
الأداء مما لا يقع به التغاير في اللفظ، كاختلاف في الإعراب, أو التصريف، أو
التفخيم والترقيق والفتح والإمالة والإظهار والإدغام والإشمام فهذا ليس من
الاختلاف الذي يتنوَّع في اللفظ والمعنى، لأن هذه الصفات المتنوعة في أدائه لا
تخرجه عن أن يكون لفظًا واحدًا.
وأصحاب هذا الرأي يرون أن المصاحف
العثمانية قد اشتملت على الأحرف السبعة كلها، بمعنى أنها مشتملة على ما يحتمله
رسمها من هذه الأحرف، فآية: {وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ
رَاعُونَ} 1. التي تُقرأ بصيغة الجمع وتُقرأ بصيغة الإفراد جاءت في الرسم
العثماني {لأَمَنَتِهِمْ} -موصولة وعليها ألف صغيرة- وآية: {فَقَالُوا رَبَّنَا
بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا} 2, جاءت في الرسم العثماني {بَعِدْ} - موصولة
كذلك وعليها ألف صغيرة، وهكذا..
وهذا لا يسلم لهم في كل وجه من وجوه
الاختلاف التي يذكرونها.
كالاختلاف بالزيادة والنقص، في مثل قوله
تعالى: {وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ} 3. وقُرِئ:
"من تحتها الأنهار" بزيادة "من" وقوله: {وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى}
4، وقُرِئ: "والذكر والأنثى" بنقص "ما خلق" .
والاختلاف بالتقديم
والتأخير في مثل قوله تعالى: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ} 5,
وقُرِئ: "وجاءت سكرت الحق بالموت" .. والاختلاف بالإبدال في مثل قوله تعالى:
{وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ} 6, وقُرِئ: "وتكون الجبال
كالصوف المنفوش" .
ولو كانت هذه الأحرف تشتمل عليها المصاحف
العثمانية لما كان مصحف عثمان حاسمًا للنزاع في اختلاف القراءات، إنما كان حسم
هذا النزاع بجمع الناس على حرف واحد من الأحرف السبعة التي نزل بها القرآن،
ولولا هذا لظل
1 المؤمنون: 8.
2 سبأ: 19.
3
التوبة: 10.
4 الليل: 3.
5 سورة ق: 19.
6
القارعة: 5.
الاختلاف في القراءة قائمًا، ولما كان هناك فرق بين جمع
عثمان وجمع أبي بكر. والذي دلت عليه الآثار أن جمع عثمان -رضي الله عنه- للقرآن
كان نسخًا له على حرف واحد من الحروف السبعة حتى يجمع المسلمين على مصحف واحد،
حيث رأى أن القراءة بالأحرف السبعة كانت لرفع الحرج والمشقة في بداية الأمر.
وقد انتهت الحاجة إلى ذلك، وترجح عليها حسم مادة الاختلاف في القراءة، بجمع
الناس على حرف واحد، ووافقه الصحابة على ذلك. فكان إجماعًا. ولم يحتج الصحابة
في أيام أبي بكر وعمر إلى جمع القرآن على وجه ما جمعه عثمان، لأنه لم يحدث في
أيامهما من الخلاف فيه ما حدث في زمن عثمان، وبهذا يكون عثمان قد وُفِّقَ لأمر
عظيم. رفع الاختلاف، وجمع الكلمة، وأراح الأمة.
ويُجاب عن الرأي
الخامس "هـ" الذي يرى أن العدد سبعة لا مفهوم له, بأن الأحاديث تدل بنصها على
حقيقة العدد وانحصاره: "أقرأني جبريل على حرف، فراجعته، فلم أزل استزيده
ويزيدني حتى انتهى إلى سبعة أحرف" 1، "وإن ربي أرسل إليَّ أن اقرأ القرآن على
حرف، فرددت عليه أن هوِّن على أمتي, فأرسل إليَّ أن اقرأ على سبعة أحرف" 2.
فهذا يدل على حقيقة العدد المعيَّن المحصور في سبعة.
ويُجاب عن
الرأي السادس "و" الذي يرى أن المراد بالأحرف السبعة القراءات السبع, بأن
القرآن غير القراءات، فالقرآن: هو الوحي المنزَّل على محمد -صلى الله عليه
وسلم- للبيان والإعجاز، والقراءات: هي اختلاف في كيفية النطق بألفاظ الوحي، من
تخفيف أو تثقيل أو مد أو نحو ذلك، قال أبو شامة: "ظن قوم أن القراءات السبع
الموجودة الآن هي التي أريدت في الحديث، وهو خلاف إجماع أهل العلم قاطبة، وإنما
يظن ذلك بعض أهل الجهل" 3.
1 أخرجه البخاري ومسلم.
2
أخرجه مسلم.
3 انظر "الإتقان" جـ1 ص80.
وقال الطبري:
"وأما ما كان من اختلاف القراءة في رفع حرف وجره ونصبه وتسكين حرف وتحريكه ونقل
حرف إلى آخر مع اتفاق الصورة، فمن معنى قول النبي, صلى الله عليه وسلم:" أُمرت
أن أقرأ القرآن على سبعة أحرف "بمعزل، لأنه معلوم أنه لا حرف من حروف القرآن
مما اختلفت القراءة في قراءته بهذا المعنى يوجب المراء به كفر المماري به في
قول أحد من علماء الأمة، وقد أوجب عليه الصلاة والسلام بالمراء فيه الكفر، من
الوجه الذي تنازع فيه المتنازعون إليه، وتظاهرت عنه بذلك الرواية" .
ولعل
الذي أوقعهم في هذا الخطأ الاتفاق في العدد سبعة، فالتبس عليهم الأمر. قال ابن
عمار: "لقد فعل مسبع هذه السبعة ما لا ينبغي له، وأشكل الأمر على العامة
بإيهامه كل من قل نظره أن هذه القراءات هي المذكورة في الخبر، وليته إذ اقتصر
نقص على السبعة أو زاد ليزيل الشُّبهة" .
وبهذه المناقشة يتبين لنا
أن الرأي الأول "أ" الذي يرى أن المراد بالأحرف السبعة سبع لغات من لغات العرب
في المعنى الواحد هو الذي يتفق مع ظاهر النصوص، وتسانده الأدلة الصحيحة.
عن
أُبَيِّ بن كعب قال: قال لي رسول الله، صلى الله عليه وسلم: "إن الله أمرني أن
أقرأ القرآن على حرف واحد، فقلت: رب خفف عن أمتي، فأمرني، قال: اقرأ على حرفين،
فقلت: رب خفف عن أمتي، فأمرني أن أقرأه على سبعة أحرف من سبعة أبواب الجنة،
كلها شاف كاف" 1.
قال الطبري: "والسبعة الأحرف: هو ما قلنا من أنه
الألسن السبعة، والأبواب السبعة من الجنة هي المعاني التي فيها، من الأمر
والنهي والترغيب والترهيب والقصص والمثل، التي إذا عمل بها العامل، وانتهى إلى
حدودها"
1 رواه مسلم والطبري.
المنتهى، استوجب به الجنة،
وليس -والحمد لله في قول من قال ذلك من المتقدمين- خلافٌ لشيء مما قلناه
"ومعنى:" كلها شاف كاف "كما قال جل ثناؤه في صفة القرآن: {يَا أَيُّهَا
النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي
الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} 1.. جعله الله للمؤمنين شفاء،
يستشفون بمواعظه من الأدواء العارضة لصدورهم من وساوس الشيطان وخطراته، فيكفيهم
ويغنيهم عن كل ما عداه من المواعظ ببيان آياته" 2.
1 يونس: 57.
2
انظر الطبري جـ1 ص47, 67.
حكمة نزول القرآن على سبعة أحرف
تتلخص
حكمة نزول القرآن على سبعة أحرف في أمور:
1- تيسير القراءة والحفظ
على قوم أميين، لكل قبيل منهم لسان ولا عهد لهم بحفظ الشرائع، فضلًا عن أن يكون
ذلك مما ألفوه -وهذه الحكمة نصت عليها الأحاديث في عبارات:
عن
أُبَيٍّ قال: "لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل عند أحجار المراء فقال:
إني بُعثت إلى أمة أميين، منهم الغلام والخادم والشيخ العاس والعجوز، فقال
جبريل: فليقرءوا القرآن على سبعة أحرف" 1، "إن الله أمرني أن أقرأ القرآن على
حرف، فقلت: اللهم رب خفف عن أمتي" , "إن الله يأمرك أن تُقرئ أمتك القرآن على
حرف" ، قال: "أسأل الله معافاته ومغفرته، وإن أمتي لا تطيق ذلك" .
2-
إعجاز القرآن للفطرة اللغوية عند العرب, فتعدد مناحي التأليف
1 رواه
أحمد وأبو داود والترمذي والطبري بإسناد صحيح، وأحجار المراء: موضع بقباء، وعسا
الشيخ: كبر وأسن وضعف.
الصوتي للقرآن تَعدُّدًا يكافئ الفروع
اللسانية التي عليها فطرة اللغة في العرب حتى يستطيع كل عربي أن يوقع بأحرفه
وكلماته على لحنه الفطري ولهجة قومه مع بقاء الإعجاز الذي تحدى به الرسول العرب
ومع اليأس من معارضته لا يكون إعجازًا للسان دون آخر، وإنما يكون إعجازًا
للفطرة اللغوية نفسها عند العرب.
3- إعجاز القرآن في معانيه وأحكامه
-فإن تقلب الصور اللفظية في بعض الأحرف والكلمات يتهيأ معه استنباط الأحكام
التي تجعل القرآن ملائمًا لكل عصر- ولهذا احتج الفقهاء في الاستنباط والاجتهاد
بقراءات الأحرف السبعة.
القراءات والقراء
مدخل
10- القراءات والقرَّاء:
القراءات: جمع
قراءة، مصدر قرأ في اللغة، ولكنها في الاصطلاح العلمي: مذهب من مذاهب النطق في
القرآن يذهب به إمام من الأئمة القرَّاء مذهبًا يخالف غيره.
وهي
ثابتة بأسانيدها إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ويرجع عهد القرَّاء الذين
أقاموا الناس على طرائقهم في التلاوة إلى عهد الصحابة، فقد اشتهر بالإقراء
منهم: أُبَي, وعلي، وزيد بن ثابت، وابن مسعود، وأبو موسى الأشعري، وغيرهم،
وعنهم أخذ كثير من الصحابة والتابعين في الأمصار، وكلهم يسند إلى رسول الله,
صلى الله عليه وسلم.
وقد ذكر الذهبي في "طبقات القرَّاء" أن
المشتهرين بإقراء القرآن من الصحابة سبعة: عثمان، وعلي، وأُبَي، وزيد بن ثابت،
وأبو الدرداء، وابن مسعود، وأبو موسى الأشعري، قال: وقد قرأ على "أُبَي" جماعة
من الصحابة، منهم: أبو هريرة، وابن عباس، وعبد الله بن السائب، وأخذ ابن عباس
عن زيد أيضًا.
وأخذ عن هؤلاء الصحابة خلق كثير من التابعين في كل
مصر من الأمصار.
كان منهم "بالمدينة" : ابن المسيب، وعروة، وسالم،
وعمر بن عبد العزيز، وسليمان وعطاء ابنا يسار، ومعاذ بن الحارث المعروف بمعاذ
القارئ، وعبد الرحمن بن هرمز الأعرج، وابن شهاب الزهري، ومسلم بن جندب، وزيد بن
أسلم.
وكان منهم "بمكة" : عبيد بن عمير، وعطاء بن أبي رباح، وطاوس،
ومجاهد، وعكرمة، وابن أبي مليكة.
وكان منهم "بالكوفة" : علقمة،
والأسود، ومسروق، وعبيدة، وعمرو بن شرحبيل، والحارث بن قيس، وعمرو بن ميمون،
وأبو عبد الرحمن السلمي، وسعيد بن جبير، والنخعي، والشعبي.
وكان
منهم "بالبصرة" : أبو عالية، وأبو رجاء، ونصر بن عاصم، ويحيى بن يعمر، والحسن،
وابن سيرين، وقتادة.
وكان منهم "بالشام" : المغيرة بن أبي شهاب
المخزومي، صاحب عثمان، وخليفة بن سعد، صاحب أبي الدرداء.
وفي عهد
التابعين على رأس المائة الأولى تجرد قوم واعتنوا بضبط القراءة عناية تامة، حين
دعت الحاجة إلى ذلك، وجعلوها عِلمًا كما فعلوا بعلوم الشريعة الأخرى، وصاروا
أئمة يُقتدى بهم ويُرْحل إليهم. واشتهر منهم, ومن الطبقة التي تلتهم الأئمة
السبعة الذين تُنسب إليهم القراءات إلى اليوم، فكان منهم "بالمدينة" : أبو جعفر
يزيد بن القعقاع، ثم نافع بن عبد الرحمن، وكان منهم "بمكة" : عبد الله بن كثير،
وحميد بن قيس الأعرج، وكان منهم "بالكوفة" : عاصم بن أبي النجود، وسليمان
الأعمش، ثم حمزة، ثم الكسائي، وكان منهم "بالبصرة" : عبد الله بن أبي إسحاق،
وعيسى بن عمرو، وأبو عمرو بن العلاء، وعاصم الجحدري، ثم يعقوب الحضرمي، وكان
منهم "بالشام" : عبد الله بن عامر، وإسماعيل بن عبد الله بن المهاجر، ثم يحيى
بن الحارث، ثم شريح بن يزيد الحضرمي.
والأئمة السبعة الذين اشتهروا
من هؤلاء في الآفاق هم: أبو عمرو، ونافع، وعاصم، وحمزة، والكسائي، وابن عامر،
وابن كثير1.
والقراءات: غير الأحرف السبعة -على أصح الآراء- وإن
أوهم التوافق العددي الوحدة بينهما، لأن القراءات مذاهب أئمة، وهي باقية
إجماعًا يقرأ بها الناس، ومنشؤها اختلاف في اللهجات وكيفية النطق وطرق الأداء
من تفخيم،
1 انظر "الإتقان" جـ1 ص72، 73.
وترقيق،
وإمالة، وإدغام، وإظهار، وإشباع، ومد، وقصر، وتشديد، وتخفيف ... إلخ، وجميعها
في حرف واحد هو حرف قريش.
أما الأحرف السبعة فهي بخلاف ذلك على نحو
ما سبق لك، وقد انتهى الأمر بها إلى ما كانت عليه العرضة الأخيرة حين اتسعت
الفتوحات، ولم يعد للاختلاف في الأحرف وجه خشية الفتنة والفساد، فحمل الصحابة
الناس في عهد عثمان على حرف واحد هو حرف قريش وكتبوا به المصاحف كما تقدم.
كثرة
القرَّاء والسبب في الاقتصار على السبعة:
قراءات أولئك السبع هي
المتفق عليها، وقد اختار العلماء من أئمة القراءة غيرهم ثلاثة صحت قراءتهم
وتواترت، وهم: أبو جعفر يزيد بن القعقاع المدني، ويعقوب بن إسحاق الحضرمي، وخلف
بن هشام، وهؤلاء وأولئك هم أصحاب القراءات العشر. وما عداها فشاذ، كقراءة:
اليزيدي، والحسن, والأعمش، وابن جبير، وغيرهم. ولا تخلو إحدى القراءات العشر
حتى السبع المشهورة من شواذ. فإن فيها من ذلك أشياء، واختيار القرَّاء السبع
إنما هو للعلماء المتأخرين في المائة الثالثة، وإلا فقد كان الأئمة الموثوق
بعلمهم كثيرين، وكان الناس على رأس المائتين بالبصرة على قراءة ابن عمرو,
ويعقوب، وبالكوفة على قراءة حمزة وعاصم، وبالشام على قراءة ابن عامر، وبمكة على
قراءة ابن كثير، وبالمدينة على قراءة نافع، وكان هؤلاء هم السبعة. فلما كان على
رأس المائة الثالثة أثبت أبو بكر بن مجاهد1 اسم الكسائي، وحذف منهم اسم
يعقوب.
قال السيوطي: "أول من صنف في القراءات أبو عبيد القاسم بن
سلام، ثم أحمد بن جبير الكوفي، ثم إسماعيل بن إسحاق المالكي صاحب قالون، ثم"
1
مقرئ أهل العراق، وممن ألفوا في هذا الفن، وكان من المتقنين، توفي سنة 324
هجرية.
أبو جعفر بن جرير الطبري، ثم أبو بكر محمد بن أحمد بن عمر
الدجوني، ثم أبو بكر بن مجاهد، ثم قام الناس في عصره وبعده بالتأليف في أنواعها
جامعًا ومفردًا، وموجزًا ومسهبًا، وأئمة القراءات لا تُحصى، وقد صنف طبقاتهم
حافظ الإسلام أبو عبد الله الذهبي، ثم حافظ القرَّاء أبو الخير بن الجزري
"1."
وقال الإمام ابن الجزري في "النشر" : "أول إمام معتبر جَمع
القراءات في كتابٍ أبو عبيد القاسم بن سلام، وجعلهم فيما أحسب خمسة وعشرين
قارئًَا، مع هؤلاء السبعة، وتوفي سنة" 224هـ "ثم قال: وكان في أثره أبو بكر
أحمد بن موسى بن العباس بن مجاهد أول من اقتصر على قراءات هؤلاء السبعة فقط،
وتوفي سنة" 324هـ "ثم قال: وإنما أطلنا في هذا الفصل لما بلغنا عن بعض من لا
علم له أن القراءات الصحيحة هي التي عن هؤلاء السبعة، بل غلب على كثير من
الجهال أن القراءات الصحيحة هي التي في الشاطبية والتيسير" 2.
والسبب
في الاقتصار على السبعة مع أنه في أئمة القرَّاء مَن هو أجلُّ منهم قدرًا أو
مثلهم إلى عدد أكثر من السبعة، هو أن الرواة عن الأئمة كانوا كثيرًا جدًّا,
فلما تقاصرت الهمم اقتصروا مما يوافق خط المصحف على ما يسهل حفظه وتنضبط
القراءة به، فنظروا إلى من اشتهر بالثقة والأمانة، وطول العمر في ملازمة
القراءة والاتفاق على الأخذ عنه فأفردوا من كل مصر إمامًا واحدًا.
1
"الإتقان" ، ص73.
2 نقل ابن حجر في "الفتح" هذا، وأثبته الشيخ أحمد
شاكر في تعليقه على "تفسير الطبري" جـ1 ص65 هامش، وابن الجزري: هو محمد بن محمد
بن محمد، أبو الخير شمس الدين الشهير بابن الجزري، شيخ القرَّاء في زمانه، من
أشهر كتبه: "النشر في القراءات العشر" توفي سنة 833 هجرية, والشاطبية: هي
المنظومة المنسوبة إلى الإمام أبي محمد القاسم الشاطبي المتوفى سنة 590 هجرية،
نظم فيها كتاب "التيسير" في 1173 بيتًا، وسماها "حرز الأماني ووجه التهاني في
القراءات السبع المثاني" ، وكتاب "التيسير في القراءات السبع" لأبي عمرو
الداني، من أئمة القرَّاء، توفي سنة 444 هجرية.
ولم يتركوا مع ذلك
نقل ما كان عليه الأئمة غير هؤلاء من القراءات ولا القراءة بها، كقراءة يعقوب
الحضرمي، وأبي جعفر المدني، وشيبة بن نصاع، وغيرهم.
وقد أسهم
المؤلفون في القراءات في الاقتصار على عدد معين. لأنهم إذ يؤلفون مقتصرين على
عدد مخصوص من أئمة القرَّاء يكون ذلك من دواعي شهرتهم وإن كان غيرهم أجلُّ منهم
قدرًا، فيتوهم الناس بعد أن هؤلاء الذين اقتصر التأليف على قراءاتهم هم الأئمة
المعتبرون في القراءات. وقد صنف ابن جبر المكي كتابًا في القراءات فاقتصر على
خمسة، اختار من كل مصر إمامًا، وإنما اقتصر على ذلك لأن المصاحف التي أرسلها
عثمان كانت خمسة إلى هذه الأمصار. ويقال: إنه وَجَّه سبعة، هذه الخمسة ومصحفًا
إلى اليمن، ومصحفًا إلى البحرين. لكن لما لم يُسمع لهذين المصحفين خبر وأراد
ابن مجاهد وغيره مراعاة عدد المصاحف استبدلوا من مصحف البحرين ومصحف اليمن
قارئين كمل بهما العدد؛ ولذا قال العلماء: إن التمسك بقراءة سبعة من القرَّاء
دون غيرهم ليس فيه أثر ولا سُنَّة. وإنما هو من جمع بعض المتأخرين فانتشر، فلو
أن ابن مجاهد مثلًا كتب عن غير هؤلاء السبعة بالإضافة إليهم لاشتهروا. قال أبو
بكر بن العربي: "ليست هذه السبعة متعينة للجواز حتى لا يجوز غيرها كقراءة أبي
جعفر وشيبة والأعمش ونحوهم، فإن هؤلاء مثلهم أو فوقهم" وكذا قال غير واحد من
أئمة القراء، وقال أبو حيان: "ليس في كتاب ابن مجاهد ومن تبعه من القراءات
المشهورة إلا النزر اليسير، فهذا أبو عمرو بن العلاء اشتهر عنه سبعة عشر
راويًا، ثم ساق أسماءهم، واقتصر في كتاب ابن مجاهد على اليزيدي, واشتهر عن
اليزيدي عشرة أنفس. فكيف يقتصر على السوسي, والدوري، وليس لهما مزية على
غيرهما، لأن الجميع مشتركون في الضبط والإتقان والاشتراك في الأخذ. قال: ولا
أعرف لهذا سببًا إلا ما قضى من نقص العلم" 1.
1 انظر "الإتقان" جـ1
ص80، 81.
أنواع القراءات وحكمها وضوابطها
ذكر بعض
العلماء أن القراءات: متواترة، وآحاد، وشاذة، وجعلوا المتواتر السبع، والآحاد
الثلاث المتممة لعشرها، ثم ما يكون من قراءات الصحابة، وما بقي فهو شاذ. وقيل:
العشر متواترة. وقيل: المعتمد في ذلك الضوابط سواء أكانت القراءة من القراءات
السبع، أو العشر، أوغيرها. قال أبو شامة في "المرشد الوجيز" : "لا ينبغي أن
يغتر بكل قراءة تُعْزَى إلى أحد السبعة ويُطلق عليها لفظ الصحة وأنها أُنْزَلت
هكذا إلا إذا دخلت في ذلك الضابط، وحينئذ لا ينفرد بنقلها مُصنِّف عن غيره، ولا
يختص ذلك بنقلها عنهم، بل إن نُقلت عن غيرهم من القرَّاء فذلك لا يخرجها عن
الصحة -فإن الاعتماد على استجماع تلك الأوصاف لا على من تُنسب إليه، فإن
القراءة المنسوبة إلى كل قارئ من السبعة وغيرهم منقسمة إلى المُجْمَع عليه
والشاذ، غير أن هؤلاء السبعة لشهرتهم وكثرة الصحيح المُجْمَع عليه في قراءتهم
تركن النفس إلى ما نُقِل عنهم فوق ما يُنقل عن غيرهم" 1.
والقياس
عندهم في ضوابط القراءة الصحيحة ما يأتي:
1- موافقة القراءة للعربية
بوجه من الوجوه: سواء أكان أفصح أم فصيحًا، لأن القراءة سُنَّة متبعة يلزم
قبولها والمصير إليها بالإسناد لا بالرأي.
2 وأن توافق القراءة أحد
المصاحف العثمانية ولو احتمالًا: لأن الصحابة في كتابة المصاحف العثمانية
اجتهدوا في الرسم على حسب ما عرفوا من لغات القراءة، فكتبوا "الصراط" مثلًا في
قوله تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} 2, "بالصاد" المبدَّلة
بالسين - وعدلوا عن "السين" التي هي الأصل، لتكون قراءة "السين" "السراط" وإن
خالفت الرسم من
1 انظر "الإتقان" جـ1 ص57.
2 الفاتحة:
6.
وجه، فقد أتت على الأصل اللغوي المعروف، فيعتدلان، وتكون قراءة
الإشمام محتملة لذلك.
والمراد بالموافقة الاحتمالية ما يكون من نحو
هذا، كقراءة: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} 1, فإن لفظة "مالك" كُتبت في جميع
المصاحف بحذف الألف، فتقرأ "مَلِكِ" وهي توافق الرسم تحقيقًا، وتقرأ "مالك" وهي
توافقه احتمالًا وهكذا. في غير ذلك من الأمثلة.
ومثال ما يوافق
اختلاف القراءات الرسم تحقيقًا: {تَعْلَمُونَ} بالتاء والياء، و {يَغْفِرْ
لَكُمْ} بالياء والنون، ونحو ذلك، مما يدل تجرده عن النقط والشكل في حذفه
وإثباته على فضل عظيم للصحابة -رضي الله عنهم- في علم الهجاء خاصة، وفهم ثاقب
في تحقيق كل علم.
ولا يشترط في القراءة الصحيحة أن تكون موافقة
لجميع المصاحف، ويكفي الموافقة لما ثبت في بعضها، وذلك كقراءة ابن عامر:
"وبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ" 2, بإثبات الباء فيهما، فإن ذلك ثابت في المصحف
الشامي.
3- وأن تكون القراءة مع ذلك صحيحة الإسناد: لأن القراءة
سُنَّة متبعة يُعتمد فيها على سلامة النقل وصحة الرواية، وكثيرًا ما ينكر أهل
العربية قراءة من القراءات لخروجها عن القياس، أو لضعفها في اللغة، ولا يحفل
أئمة القرَّاء بإنكارهم شيئًا.
تلك هي ضوابط القراءة الصحيحة، فإن
اجتمعت الأركان الثلاثة:
1- موافقة العربية. 2- ورسم المصحف.
3-
وصحة السند، فهي القراءة الصحيحة، ومتى اختل ركن منها أو أكثر أُطْلِقَ عليها
أنها ضعيفة، أو شاذة، أو باطلة.
1 الفاتحة: 4.
2 آل
عمران: 184، بدون الباء في الكلمتين.
ومن عجب أن يذهب بعض النحاة
بعد ذلك إلى تخطئة القراءة الصحيحة التي تتوافر فيها تلك الضوابط لمجرد
مخالفتها لقواعدهم النحوية التي يقيسون عليها صحة اللغة، فإنه ينبغي أن نجعل
القراءة الصحيحة, حَكَمًا على القواعد اللغوية والنحوية. لا أن نجعل هذه
القواعد حَكَمًا على القرآن. إذ القرآن هو المصدر الأول الأصيل لاقتباس قواعد
اللغة، والقرآن يعتمد على صحة النقل والرواية فيما استند إليه القُرَّاء. على
أي وجه من وجوه اللغة. قال ابن الجزري معلقًا على الشرط الأول من ضوابط القراءة
الصحيحة: "فقولنا, في الضابط:" ولو بوجه "نريد به وجهًا من وجوه النحو، وسواء
أكان أفصح أم فصيحًا، مُجْمَعًا عليه أم مختلفًا فيه اختلافًا لا يضر مثله، إذا
كانت القراءة مما شاع وذاع وتلقاه الأئمة بالإسناد الصحيح، إذ هو الأصل الأعظم،
والركن الأقوم، وكم من قراءة أنكرها بعض أهل النحو أو كثير منهم ولم يُعْتَبر
إنكارهم، كإسكان" بارئكم "و" يأمركم "وخفض:" والأرحام "ونصب" ليجزي قومًا ".
والفصل بين المضافين في:" قتل أولادهم شركائهم "وغير ذلك1" .
وقال
أبو عمرو الداني: "وأئمة القرَّاء لا تعمل في شيء من حروف القرآن على الأفشى في
اللغة والأقيس في العربية، بل على الأثبت في الأثر والأصح في النقل، وإذا ثبتت
الرواية لم يردها قياس عربية ولا فشو لغة، لأن القراءة سُنَّة متبعة، يلزم
قبولها والمصير إليها" .
وعن زيد بن ثابت قال: "القراءة سُنَّة
متبعة" 2. قال البيهقي: "أراد أن اتباع من قبلنا في الحروف سُنَّة متبعة، لا
يجوز مخالفة المصحف الذي هو إمام، ولا مخالفة القراءات التي هي مشهورة، وإن كان
غير ذلك سائغًا في اللغة" .
1 انظر "الإتقان" جـ1 ص75, وراجع كتب
التفسير في هذه الآيات: {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ
وَالْأَرْحَامَ} [النساء: 1] , {لِِيَجْزِيَ قَوْمًا بِمَا كَانُوا
يَكْسِبُونَ} [الجاثية: 14] , {وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ
الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ} [الأنعام: 137] .
2
أخرجه سعيد بن منصور في سننه.
واستخلص بعض العلماء أنواع القراءات
فجعلها ستة أنواع:
الأول- المتواتر: وهو مانقله جمع لا يمكن تواطؤهم
على الكذب عن مثلهم إلى منتهاه, وهذا هو الغالب في القراءات.
الثاني-
المشهور: وهو ما صح سنده ولم يبلغ درجة المتواتر، ووافق العربية والرسم، واشتهر
عند القرَّاء فلم يعدوه من الغلط، ولا من الشذوذ, وذكر العلماء في هذا النوع
أنه يُقرأ به.
الثالث- الآحاد: وهو ما صح سنده، وخالف الرسم، أو
العربية، أو لم يشتهر الاشتهار المذكور. وهذا لا يُقرأ به، ومن أمثلته ما رُوِي
عن أبي بكرة: "أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قرأ:" متكئين على رفارف خضر
وعباقري حسان "1. وما رُوِي عن ابن عباس أنه قرأ: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ
مِنْ أَنْفُسِكُمْ} 2 - بفتح الفاء" .
الرابع- الشاذ: وهو ما لم يصح
سنده. كقراءة "ملك يوم الدين" 3, بصيغة الماضي. ونصب "يوم" .
الخامس-
الموضوع: وهو ما لا أصل له.
السادس- المدرج: وهو ما زيد في القراءات
على وجه التفسير, كقراءة ابن عباس: "ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلًا من ربكم في
مواسم الحج، فإذا أفضتم من عرفات" 4, فقوله: "في مواسم الحج" تفسير مدرج في
الآية.
والأنواع الأربعة الأخيرة لا يُقرأ بها.
1 أخرجه
الحاكم, [والآية من سورة الرحمن: 76] بلفظ: {مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ
خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ} .
2 أخرجه الحاكم , [والآية من سورة
التوبة: 128] .
3 الفاتحة: 4.
4 أخرجها البخارى, [والآية
من سورة البقرة: 198] بدون عبارة: "في مواسم الحج" .
والجمهور على
أن القراءات السبع متواترة، وأن غير المتواتر المشهور لا تجوز القراءة به في
الصلاة ولا في غيرها: قال "النووي" في "شرح المهذب" : "لا تجوز القراءة في
الصلاة ولا غيرها بالقراءة الشاذة، لأنها ليست قرآنًا، لأن القرآن لا يثبت إلا
بالتواتر والقراءة الشاذة ليست متواترة، ومن قال غيره فغالط أو جاهل، فلو خالف
وقرأ بالشاذ أنكر عليه قراءته في الصلاة وغيرها، وقد اتفق فقهاء بغداد على
استتابة من قرأ بالشواذ، ونقل ابن عبد البر إجماع المسلمين على أنه لا يجوز
القراءة بالشواذ، ولا يُصلَّى خلف مَن يقرأ بها" .
فوائد الاختلاف في القراءات الصحيحة
مدخل
فوائد الاختلاف في القراءات الصحيحة
ولاختلاف القراءات
الصحيحة فوائد منها:
1- الدلالة على صيانة كتاب الله وحفظه من
التبديل والتحريف مع كونه على هذا الأوجه الكثيرة.
2- التخفيف عن
الأمة وتسهيل القراءة عليها.
3- إعجاز القرآن في إيجازه، حيث تدل كل
قراءة على حكم شرعي دون تكرر اللفظ كقراءة: {وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ
وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} 1, بالنصب والخفض في "وأرجلكم" ففي قراءة
النصب بيان لحكم غسل الرجل، حيث يكون العطف على معمول فعل الغسل: {فَاغْسِلُوا
وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} وقراءة الجر بيان لحكم المسح
على الخفين عند وجود ما يقتضيه، حيث يكون العطف على معمول فعل المسح
{وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ} فنستفيد الحكمين من غير تطويل،
وهذا من معاني الإعجاز في الإيجاز بالقرآن.
4- بيان ما يُحتمل أن
يكون مُجملًا في قراءة أخرى كقراءة: "يطهرن" في قوله تعالى: {وَلا
تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} 2, قُرِئ بالتشديد والتخفيف، فقراءة التشديد
مبينة لمعنى قراءة التخفيف، عند الجمهور، فالحائض لا يحل وطؤها لزوجها بالطهر
من الحيض، أي بانقطاع الدم، حتى تتطهر بالماء, وقراءة: "فامضوا إلى ذكر الله"
فإنها تبيِّن أن المراد بقراءة "فاسعوا" الذهاب لا المشي السريع في قوله تعالى:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ
الْجُمُعَةِ فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} 3, وقراءة "والسارق والسارقة
فاقطعوا أيمانهما" 4 بدلًا من "أيديهما"
1 المائدة: 6.
2
البقرة: 222.
3 الجمعة: 9.
4 المائدة: 38 بلفظ "أيديهما"
.
فقد بينت ما يُقطع, وقراءة: "وله أخ أو أخت من أم فلكل واحد منهما
السدس" 1, فقد بيَّنت أن المراد الإخوة لأم، ولذا قال العلماء: "باختلاف
القراءات يظهر الاختلاف في الأحكام" .
قال أبو عبيد في "فضائل
القرآن" : المقصد من القراءة الشاذة تفسير القراءة المشهورة وتبيين معانيها،
كقراءة عائشة وحفصة: "والصلاة الوسطى صلاة العصر" 2، وقراءة ابن مسعود:
"فاقطعوا أيمانهما" ، وقراءة جابر: "فإن الله من بعد إكراههن لهن غفور رحيم" 3
... قال: "فهذه الحروف وما شاكلها قد صارت مفسِّرة للقرآن، وقد كان يُروى مثل
هذا عن التابعين في التفسير فيُستحسن، فكيف إذا رُوِي عن كبار الصحابة، ثم صار
في نفس القراءة، فهو أكثر من التفسير وأقوى، فأدنى ما يُستنبط من هذه الحروف
معرفة صحة التأويل" 4.
والقرَّاء السبعة المشهورون الذين ذكرهم أبو
بكر بن مجاهد وخصَّهم بالذكر لما اشتهروا به عنده من الضبط والأمانة وطول العمر
في ملازمة القراءة واتفاق الآراء على الأخذ عنهم هم:
1- أبو عمرو بن
العلاء شيخ الرواة: وهو زيان بن العلاء بن عمار المازني البصري، وقيل اسمه
يحيى، وقيل اسمه كنيته، وتوفي بالكوفة سنة أربع وخمسين ومائة "154هـ"
وراوياه:
الدوري، والسوسي، فأما الدوري: فهو أبو عمر حفص بن عمر بن
عبد العزيز الدوري النحوي، والدور: موضع ببغداد، توفي سنة ست وأربعين ومائتين
"246هـ" .
1 النساء: 12 بدون عبارة: "من أم" .
2 البقرة:
238 بدون عبارة: "صلاة العصر" .
3 النور: 33 بدون عبارة: "لهن" .
4
انظر "الإتقان" جـ1 ص82.
وأما السوسي: فهو أبو شعيب صالح بن زياد بن
عبد الله السوسي، توفي سنة إحدى وستين ومائتين "261هـ" .
2- ابن
كثير: هو عبد الله بن كثير المكي، وهو من التابعين، وتوفي بمكة سنة عشرين ومائة
"120هـ" وراوياه:
البزي، وقنبل، أما البزي: فهو أحمد بن محمد بن عبد
الله بن أبي بزة المؤذن المكي، ويكنى أبا الحسن، وتوفي بمكة سنة خمسين ومائتين
"250هـ" .
وأما قنبل: فهو محمد بن عبد الرحمن بن محمد بن خالد بن
سعيد المكي المخزومي، ويكنى أبا عمرو، ويلقب قنبلًا، ويقال: هم أهل البيت بمكة،
يعرفون بالقنابلة، وتوفي بمكة سنة إحدى وتسعين ومائتين "291هـ" .
3-
نافع المدني: هو أبو رويم نافع بن عبد الرحمن بن أبي نعيم الليثي، أصله من
أصفهان، وتوفي بالمدينة سنة تسع وستين ومائة "169هـ" وراوياه:
قالون:
وورش، أما قالون: فهو عيسى بن منيا "بالمد والقصر" المدني معلم العربية، ويكنى
أبا موسى، وقالون لقب له أيضًا، يُروى أن نافعًا لقَّبه به لجودة قراءته لأن
"قالون" بلسان الروم "جيد" . وتوفي بالمدينة سنة عشرين ومائتين "220هـ" .
وأما
ورش: فهو عثمان بن سعيد المصري، ويكنى أبا سعيد، وورش لقب له، لقب به فيما يقال
لشدة بياضه، وتوفي بمصر سنة سبع وتسعين ومائة "197هـ" .
4- ابن عامر
الشامي: هو عبد الله بن عامر اليحصبي قاضي دمشق في خلافة الوليد بن عبد الملك.
ويكنى أبا عمران، وهو من التابعين، وتوفي بدمشق سنة ثمان عشرة ومائة "118هـ"
وراوياه:
هشام، وابن ذكوان، فأما هشام: فهو هشام بن عمار بن نصير
القاضي الدمشقي، ويكنى أبا الوليد، وتوفي بها سنة خمس وأربعين ومائتين "245هـ"
.
وأما ابن ذكوان: فهو عبد الله بن أحمد بن بشير بن ذكوان القرشي
الدمشقي، ويكنى أبا عمرو، ولد سنة ثلاث وسبعين ومائة "173هـ" وتوفي بدمشق سنة
اثنتين وأربعين ومائتين "242هـ" .
5- عاصم الكوفي: هو عاصم بن أبي
النجود، ويقال له ابن بهدلة، أبو بكر، وهو من التابعين، وتوفي بالكوفة سنة ثمان
وعشرين ومائة "128هـ" وراوياه:
شعبة، وحفص، فأما شعبة، فهو أبو بكر
شعبة بن عباس بن سالم الكوفي، وتوفي بالكوفة سنة ثلاث وتسعين ومائة "193هـ"
.
وأما حفص: فهو حفص بن سليمان بن المغيرة البزاز الكوفي، ويكنى أبا
عمرو، وكان ثقة، قال ابن معين: هو أقرأ من أبي بكر، وتوفي سنة ثمانين ومائة
"180هـ" .
6- حمزة الكوفي: هو حمزة بن حبيب بن عمارة الزيات الفرضي
التيمي، ويكنى أبا عمارة وتوفي بحلوان في خلافة أبي جعفر المنصور سنة ست وخمسين
ومائة "156هـ" وراوياه:
خلف، وخلاد، فأما خلف: فهو خلف بن هشام
البزاز، ويكنى أبا محمد توفي ببغداد سنة تسع وعشرين ومائتين "229هـ" .
وأما
خلاد، فهو خلاد بن خالد، ويقال ابن خليد، الصيرفي الكوفي، ويكنى أبا عيسى،
وتوفي بها سنة عشرين ومائتين "220هـ" .
7- الكسائي الكوفي: هو علي
بن حمزة إمام النحاة الكوفيين، ويكنى أبا الحسن، وقيل له "الكسائي" من أجل أنه
أحرم في كساء, توفي بـ "رنبوية" قرية من قرى الري حين توجه إلى خراسان مع
الرشيد سنة تسع وثمانين ومائة "189هـ" وراوياه:
أبو الحارث، وحفص
الدوري: فأما أبو الحارث فهو الليث بن خالد البغدادي، توفي سنة أربعين ومائتين
"240هـ" .
وأما حفص الدوري: فهو الراوى عن أبي عمرو، وقد سبق
ذكره.
أما الثلاثة تكملة العشرة فهم:
8- أبو جعفر
المدني: هو يزيد بن القعقاع، وتوفي بالمدينة سنة ثمان وعشرين ومائة "128هـ" -
وقيل: "132هـ" , وراوياه:
ابن وردان: وابن جماز: فأما ابن وردان:
فهو أبو الحارث عيسى بن وردان المدني، وتوفي بالمدينة في حدود الستين ومائة
"160هـ" .
وأما ابن جماز: فهو أبو الربيع سليمان بن مسلم بن جماز
المدني، توفي بها بُعَيْد السبعين ومائة "170هـ" .
9- يعقوب البصري:
هو أبو محمد يعقوب بن إسحاق بن زيد الحضرمي، وتوفي بالبصرة سنة خمس ومائتين
"205هـ" - وقيل "185هـ" - وراوياه:
رويس، وروح، فأما رويس: فهو أبو
عبد الله محمد بن المتوكل اللؤلؤي البصري، ورويس لقب له، وتوفي بالبصرة سنة
ثمان وثلاثين ومائتين "238هـ" .
وأما روح: فهو أبو الحسن روح بن عبد
المؤمن البصري النحوي، وتوفي سنة أربع أو خمس وثلاثين ومائتين "234هـ" - أو
"235هـ" .
10- خلف: هو أبو محمد خلف بن هشام بن ثعلب البزار
البغدادي وتوفي سنة تسع وعشرين ومائتين "229هـ" - وقيل: لم يوقف على تاريخ
وفاته - وراوياه:
إسحاق، وإدريس، أما إسحاق: فهو أبو يعقوب إسحاق بن
إبراهيم بن عثمان الوراق المروزي ثم البغدادي، توفي سنة ست وثمانين ومائتين
"286هـ" .
وأما إدريس: فهو أبو الحسن إدريس بن عبد الكريم البغدادي
الحداد، توفي يوم الأضحى سنة اثنتين وتسعين ومائتين "292هـ" .
ويزيد
بعضهم أربع قراءات على هاتيك العشر، وهن:
1- قراءة الحسن البصري،
مولى الأنصار، أحد كبار التابعين المشهورين بالزهد، توفي سنة 110 هجرية.
2-
وقراءة محمد بن عبد الرحمن المعروف بابن محيصن، توفي سنة 123 هجرية، وكان شيخًا
لأبي عمرو.
3- وقراءة يحيى بن المبارك اليزيدي النحوي، من بغداد،
أخذ عن أبي عمرو وحمزة، وكان شيخًا للدوري والسوسي. توفي سنة 202 هجرية.
4-
وقراءة أبي الفرج محمد بن أحمد الشنبوذي، توفي سنة 388 هجرية.
الوقف
والابتداء 1:
لمعرفة الوقف والابتداء أهمية كبرى في كيفية أداء
القرآن حفاظًا على سلامة معاني الآيات. وبُعدًا عن اللَّبس والوقوع في الخطأ.
وهذا يحتاج إلى دراية بعلوم العربية، وعلم القراءات، وتفسير القرآن، حتى لا
يفسد المعنى. ولهذا أمثلته:
فيجب الوقف مثلًا على قوله تعالى:
{وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا} 2, ثم يبتدئ: {قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا
شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ} 3, لئلا يتوهم أن قوله: "قيمًا" صفة لقوله "عوجًا" إذ
العوج لا يكون قيمًا.
وعلى ما آخره هاء سكت في مثل قوله تعالى: {يَا
لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ, وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ} 4, وقوله:
{مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ, هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ} 5, فإنك في غير
القرآن تثبت هذه الهاء إذا وقفت، وتحذفها إذا وصلت، وهي مكتوبة في المصحف بـ
"الهاء" ، فلا يوصل، لأنه يلزم في حكم العربية إسقاط "الهاء" في الوصل.
فإثباتها إذا وصلت مخالفة للعربية، وحذفها مخالفة للمصحف، وفي الوقف عليها
اتباع للمصحف والعربية معًا. وجواز الوصل بـ "الهاء" إنما يكون على نية
الوقف.
ويجب الوقف مثلًا على قوله: {وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ} 6،
ثم يبتدئ: {إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا} 6, كي يستقيم المعنى، لأنه إذا
وصل أوهم هذا أن القول الذي يحزنه هو قولهم: {إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ
جَمِيعًا} وليس كذلك.
ولا شك أن معرفة الوقف والابتداء لها فائدتها
في فهم المعاني وتدبر
1 أفرده بالتأليف جماعة، منهم: ابن النحاس،
وابن عباد، والداني، وانظر "البرهان" للزركشي جـ1 ص342.
2 الكهف:
1.
3 الكهف: 2.
4 الحاقة: 25، 26.
5 الحاقة:
28، 29.
6 يونس: 65.
الأحكام، عن ابن عمر قال: "لقد عشنا
برهة من دهرنا وإن أحدنا ليؤتى الإيمان قبل القرآن، ولقد رأينا اليوم رجالًا
يؤتى أحدهم القرآن قبل الإيمان، فيقرأ ما بين فاتحته إلى خاتمته، ما يدري ما
آمره ولا زاجره، ولا ما ينبغي أن يوقف عنده، وكل حرف منه ينادي: أنا رسول الله
إليك لتعمل بي. وتتعظ بمواعظي" 1.
1 انظر هامش "البرهان" جـ1
ص342.
أقسام الوقف
اختلف العلماء في أقسام الوقف:
فقيل:
ينقسم الوقف إلى ثمانية أضرب: تام، وشبيه به، وناقص، وشبيه به، وحسن، وشبيه به،
وقبيح، وشبيه به.
وقيل: ينقسم إلى ثلاثة: تام، وجائز، وقبيح.
وقيل:
ينقسم إلى قسمين: تام، وقبيح.
والمشهور أنه ينقسم إلى أربعة أقسام:
تام مختار، وكاف جائز، وحسن مفهوم، وقبيح متروك.
1- فالتام: هو الذي
لا يتعلق بشيء مما بعده، وأكثر ما يوجد عند رءوس الآي، كقوله تعالى:
{وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} 1, ثم يبتدئ: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} 2،
وقد يوجد قبل انقضاء الفاصلة، كقوله تعالى: {وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا
أَذِلَّةً} 3, حيث انتهى بهذا كلام بلقيس، ثم قال تعالى: {وَكَذَلِكَ
يَفْعَلُونَ} 4, وهو رأس الآية.
2- والكافي الجائز: هو الذي يكون
اللفظ فيه منقطعًا، ويكون المعنى متصلًا. ومن أمثلته: كل رأس آية بعدها لام كي:
كقوله تعالى: {إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ, لِيُنْذِرَ مَنْ
كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ} 5.
1
البقرة: 5.
2 البقرة: 6.
3 النمل: 34.
4
النمل: 34.
5 يس: 69، 70.
3- والحسن: هو الذي يحسن الوقف
عليه ولا يحسن الابتداء بما بعده لتعلقه به في اللفظ والمعنى كقوله تعالى:
{الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ, الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} 1.
4-
والقبيح: هو الذي لا يفهم منه المراد، كالوقوف على قوله تعالى {لَقَدْ كَفَرَ
الَّذِينَ قَالُوا} 2, والابتداء بقوله: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ
مَرْيَمَ} 3؛ لأن المعنى على الابتداء يكون كفرًا، ونظيره قوله تعالى: {لَقَدْ
كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ} 4, فلا يقف على
"قالوا" وهكذا..
1 الفاتحة: 2، 3.
2 المائدة: 17، 72.
3
المائدة: 17، 72.
4 المائدة: 73.
التجويد وآداب التلاوة
مدخل
التجويد وآداب التلاوة
كان عبد الله بن
مسعود -رضي الله عنه- قارئًا ندي الصوت، يجيد تلاوة القرآن، وللتلاوة الجيدة
أثرها لدى القارئ والمستمع في فهم معاني القرآن وإدراك أسرار إعجازه، في خشوع
وضراعة، وقد قال صلى الله عليه وسلم فيه: "من أحب أن يقرأ القرآن غضًّا كما
أُنْزل فليقرأه على قراءة ابن أم عبد" يعني ابن مسعود، وذلك لما أعطيه من حسن
الصوت وتجويد القرآن.
وللعلماء قديمًا وحديثًا عناية بتلاوة القرآن
حتى يكون النطق صحيحًا، ويُعرف هذا عندهم بتجويد القرآن، وأفرده جماعة بالتصنيف
نظمًا ونثرًا، وعرَّفوا التجويد بأنه: "إعطاء الحروف حقوقها وترتيبها، ورد
الحرف إلى مخرجه وأصله، وتلطيف النطق به على كمال هيئته من غير إسراف ولا تعسف
ولا إفراط ولا تكلف" .
والتجويد وإن كان صناعة علمية لها قواعدها
التي تعتمد على إخراج الحروف من مخارجها مع مراعاة صلة كل حرف بما قبله وما
بعده في كيفية الأداء فإنه لا يُكتسب بالدراسة بقدر ما يُكتسب بالممارسة
والمران ومحاكاة من يجيد القراءة، قال ابن الجزري: "ولا أعلم لبلوغ النهاية في
التجويد مثل رياضة الألسن والتكرار على اللفظ المتلقى من فم المحسن، وقاعدته
ترجع إلى كيفية الوقف والإمالة والإدغام وإحكام الهمز والترقيق والتفخيم ومخارج
الحروف" 1.
وقد عدَّ العلماء القراءة بغير تجويد لحنًا، واللحن: خلل
يطرأ على الألفاظ، ومنه الجلي والخفي، فالجلي: هو الذي يخل باللفظ إخلالًا
ظاهرًا يشترك في معرفته علماء القراءة وغيرهم، وذلك كالخطأ الإعرابي أو الصرفي،
والخفي: هو الذي يخل باللفظ إخلالًا يختص بمعرفته علماء القراءة وأئمة الأداء
الذين تلقوه من أفواه العلماء وضبطوه من ألفاظ الأداء.
1 انظر
"الإتقان" جـ1 ص100.
والمبالغة في التجويد إلى حد الإفراط والتكلف
ليست أقل من اللحن، لأنها زيادة للحروف في غير موضعها، كأولئك الذين يقرءون
القرآن اليوم بنغم شجي يتردد فيه الصوت تردد الوقع الموسيقي والعزف على آلات
الطرب، وقد نبَّه العلماء على ما ابتدعه الناس من ذلك بما يسمى: بـ: الترعيد،
أو الترقيص، أو التطريب، أو التحزين، أو الترديد، ونقل ذلك السيوطي في الإتقان،
وعبَّر عنه الرافعي في "إعجاز القرآن" بقوله: "ومما ابتُدِع في القراءة والأداء
هذا التلحين الذي بقي إلى اليوم يتناقله المفتونة قلوبهم وقلوب من يعجبهم
شأنهم، ويقرءون به على ما يشبه الإيقاع، وهو الغناء! ... ومن أنواعه عندهم في
أقسام النغم" الترعيد "وهو أن يرعد القارئ صوته، قالوا: كأنه يرعد من البرد أو
الألم.. و" الترقيص "وهو أن يروم السكوت على الساكن ثم ينقر مع الحركة كأنه في
عدْو أو هرولة، و" التطريب "وهو أن يترنم بالقرآن ويتنغم به فيمد في سير مواضع
المد، ويزيد في المد إن أصاب موضعه، و" التحزين "وهو أن يأتي القراءة على وجه
حزين يكاد يبكي مع خشوع وخضوع، ثم" الترديد "وهو رد الجماعة على القارئ في ختام
قراءته بلحن وافد على وجه من تلك الوجوه."
وإنما كانت القراءة
تحقيقًا وهو إعطاء كل حرف حقه على مقتضى ما قرره العلماء مع ترتيل وتؤدة أو
حدرًا وهو إدراج القراءة وسرعتها مع مراعاة شروط الأداء الصحيحة أو تدويرًا وهو
التوسط بين التحقيق والحدر "."
وقراءة القرآن سُنَّة من سُنن
الإسلام، والإكثار منها مستحب حتى يكون المسلم حي القلب مستنير الفؤاد بما يقرأ
من كتاب الله، عن ابن عمر قال: قال رسول الله, صلى الله عليه وسلم: "لا حسد إلا
في اثنتين: رجل آتاه الله مالًا فهو ينفقه في آناء الليل وآناء النهار، ورجل
آتاه الله القرآن فهو يقوم به آناء الليل وآناء النهار" 1.
1 أخرجه
البخاري ومسلم.
والتلاوة مع إخلاص النية وحسن القصد عبادة يؤجر
عليها المسلم، عن ابن مسعود: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "من قرأ
حرفًا من كتاب الله فله به حسنة، والحسنة بعشر أمثالها" 1, وجاء في حديث أبي
أمامة: "اقرءوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعًا لأصحابه" 2.
وكان
السلف رضوان الله عليهم يحافظون على تلاوة القرآن, ومنهم من كان يختم في اليوم
والليلة، ومنهم من كان يختم في أكثر، عن عبد الله بن عمرو قال: قال لي رسول
الله, صلى الله عليه وسلم: "اقرأ القرآن في شهر، قلت: إني أجد قوة، قال: اقرأه
في عشر، قلت: إني أجد قوة، قال: اقرأه في سبع ولا تزد على ذلك" 3.
وحذَّر
رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من نسيان القرآن، فقال: "تعاهدوا القرآن،
فوالذي نفس محمد بيده لهو أشد تفلتًا من الإبل في عقلها" 4.
والأمر
في كثرة القراءة وختم القرآن يختلف باختلاف الأشخاص لاختلاف قدراتهم، وتفاوت
المصالح العامة التي تُناط بهم. قال النووي في "الأذكار" : "المختار أن ذلك
مختلف باختلاف الأشخاص، فمن كان يظهر له بدقيق الفكر لطائف ومعارف فليقتصر على
قدر يحصل له معه كمال فهم ما يقرأ، وكذلك من كان مشغولًا بنشر العلم أو فصل
الحكومات أو غير ذلك من مهمات الدين والمصالح العامة، فليقتصر على قدر لا يحصل
بسببه إخلال بما هو مرصد له، ولا فوات كماله، وإن لم يكن من هؤلاء المذكورين
فليُكثر ما أمكنه من غير خروج إلى حد الملل أو الهذرمة في القراءة" .
1
رواه الترمذي.
2 أخرجه مسلم.
3 رواه البخاري ومسلم.
4
رواه البخاري ومسلم.
آداب التلاوة
ويستحب لقارئ
القرآن:
1- أن يكون على وضوء، لأن ذلك من أفضل الذكر. وإن كانت
القراءة للمُحدِث جائزة.
2- وأن يكون في مكان نظيف طاهر, مراعاة
لجلال القراءة.
3- وأن يقرأ بخشوع وسكينة ووقار.
4- وأن
يستاك قبل البدء في القراءة.
5- وأن يتعوَّذ في بدايتها، لقوله
تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ
الرَّجِيمِ} 1، وأوجب الاستعاذة بعض العلماء.
6- وأن يحافظ على
البسملة في مطلع كل سورة سوى "براءة" لأنها آية على الرأي الراجح.
7-
وأن تكون قراءته ترتيلًا، يعطي الحروف حقها من المد والإدغام، قال تعالى:
{وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا} 2، وعن أنس أنه سُئل عن قراءة رسول الله
-صلى الله عليه وسلم- فقال: "كانت مدًّا، ثم قرأ: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ
الرَّحِيمِ} يمد الله، ويمد الرحمن، ويمد الرحيم" 3، وعن ابن مسعود: "أن رجلًا
قال له: إني أقرأ المفصَّل في ركعة واحدة، فقال: أهذًّا كهذِّ الشعر؟ 4، إن
قومًا يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم، ولكن إذا وقع في القلب فرسخ فيه نفع" 5
, وقال الزركشي في "البرهان" : "كمال الترتيل تفخيم ألفاظه، والإبانة عن حروفه،
وأن لا يُدغم حرف في حرف، وقيل: هذا أقله، وأكمله أن يقرأه على منازله، فإن قرأ
تهديدًا لفظ به لفظ التهديد، أو تعظيمًا لفظ به على التعظيم" .
1
النحل: 98.
2 المزمل: 4.
3 رواه البخاري.
4
الهذ، والهذذ: سرعة القراءة.
5 أخرجه البخاري ومسلم.
8-
وأن يتدبر ما يقرأ، لأن هذا هو المقصود الأعظم، والمطلوب الأهم. وذلك بأن يُشغل
قلبه بالتفكير في معنى ما يقرأ، ويتجاوب مع كل آية بمشاعره وعواطفه، دعاء
واستغفارًا، ورحمة، وعذابًا. قال تعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ
مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ} 1، وعن حذيفة قال: "صليتُ مع النبي -صلى
الله عليه وسلم- ذات ليلة، فافتتح البقرة فقرأها، ثم النساء فقرأها، ثم آل
عمران فقرأها، يقرأ مترسلًا، إذا مر بآية فيها تسبيح سبَّح، وإذا مر بسؤال سأل،
وإذا مر بتعوذ تعوَّذ" 2.
9- أن يتأثر بآيات القرآن وعدًا ووعيدًا،
فيحزن ويبكي لآيات الوعيد فزعًا ورهبة وهولًا، قال تعالى: {وَيَخِرُّونَ
لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا} 3، وفي حديث ابن مسعود قال:
"قال لي رسول الله, صلى الله عليه وسلم:" اقرأ عليَّ القرآن ". قلت: يا رسول
الله، أقرأ عليك وعليك أُنزل؟ قال:" نعم.. إني أحب أن أسمعه من غيري "، فقرأت
سورة النساء حتى أتيت إلى هذه الآية: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ
أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا} 4, قال:" حسبك
الآن. فالتفتُّ فإذا عيناه تذرفان "5, قال في شرح المهذب: وطريقه في تحصيل
البكاء أن يتأمل ما يقرأ من التهديد والوعيد الشديد والمواثيق والعهود، ثم يفكر
في تقصيره فيها فإن لم يحضره عند ذلك حزن وبكاء فليبك على فقد ذلك فإنه من
المصائب."
ورَوَى ابن ماجه عن أنس قال: قال رسول الله, صلى الله
عليه وسلم: "يخرج قوم في آخر الزمان -أو في هذه الأمة- يقرءون القرآن لا يجاوز
تراقيهم -أو حلوقهم- إذا رأيتموهم -أو إذا لقيتموهم- فاقتلوهم" .
10-
وأن يُحسِّن صوته بالقراءة، فإن القرآن زينة للصوت، والصوت الحسن أوقع في
النفس، وفي الحديث: "زيِّنوا القرآن بأصواتكم" 6.
1 سورة ص: 29.
2
أخرجه مسلم.
3 الإسراء: 109.
4 النساء: 41.
5
أخرجه البخاري وغيره.
6 رواه ابن حبان وغيره.
11- وأن
يجهر بالقراءة حيث يكون الجهر أفضل. لما فيه من إيقاظ القلب، وتجديد النشاط،
وانصراف السمع إلى القراءة، وتعدي نفعها إلى السامعين، واستجماع المشاعر
للتفكير والنظر والتدبر. أما إذا خشي بذلك الرياء، أو كان فيه أذًى للناس
كإيذاء المصلين فإن الإسرار يكون أفضل، قال, صلى الله عليه وسلم: "ما أَذِن
الله لشيء ما أَذِن لنبي حسن الصوت يتغنى بالقرآن يجهر به" 1.
12-
واختلفوا في القراءة في المصحف والقراءة على ظهر قلب، أيهما أفضل؟ على ثلاثة
أقوال2:
أحدها: أن القراءة في المصحف أفضل، لأن النظر فيه عبادة،
فتجتمع القراءة والنظر.
وثانيها: أن القراءة على ظهر القلب أفضل،
لأنها أدعى إلى حسن التدبر، وهو الذي اختاره العز بن عبد السلام وقال: "قيل:
القراءة في المصحف أفضل، لأنه يجمع فعل الجارحتين: وهما اللسان والعين، والأجر
على قدر المشقة، وهذا باطل، لأن المقصود من القراءة التدبر، لقوله تعالى:
{لِّيَدَّبَّرُواُ آيَاِتِه} 3, والعادة تشهد أن النظر في المصحف يخل بهذا
المقصود فكان مرجوحًا" .
وثالثها: أن الأمر يختلف باختلاف الأحوال،
فإن كان القارئ من حفظه يحصل له من التدبر والتفكر وجمع القلب أكثر مما يحصل له
من المصحف, فالقراءة من الحفظ أفضل، وإن استويا فمن المصحف أفضل.
1
أخرجه البخاري ومسلم.
2 انظر "البرهان" للزركشي جـ1 ص461.
3
سورة ص: 29.
تعلُّم القرآن والأجرة عليه:
تعليم القرآن
فرض كفاية، وحفظه واجب على الأمة، حتى لا ينقطع عدد التواتر فيه حفظًا، ولا
يتطرق إليه التبديل والتحريف، فإن قام بذلك قوم سقط عن الباقين، وإلا أثموا
بأسرهم، وفي حديث عثمان: "خيركم من تعلم القرآن وعلمه" 1.
وسبيل
تعلمه حفظ آيات يتلوها آيات، وهذا هو المعروف اليوم في وسائل التربية الحديثة،
أن يحفظ الدارس شيئًا قليلًا، ثم يتبعه بقليل آخر، ثم يضم هذا إلى ذاك، وهكذا.
عن أبي العالية قال: "تعلَّموا القرآن خمس آيات خمس آيات، فإن النبي -صلى الله
عليه وسلم- كان يأخذه من جبريل عليه السلام خمسًا خمسًا" .
وقد
اختلف العلماء في جواز أخذ الأجر على تعليم القرآن، ورجح المحققون الجواز،
لقوله, صلى الله عليه وسلم: "إن أحق ما أخذتم عليه أجرًا كتاب الله" 2، وقوله:
"زوجتكها بما معك من القرآن" 3.
وقسَّم بعض العلماء تعليم القرآن
تقسيمًا جيدًا للحالات المختلفة، وبينوا حكم كل حالة منها: قال أبو الليث في
كتاب "البستان" 4: "التعليم على ثلاثة أوجه: أحدها للحسبة ولا يأخذ به عوضًا،
والثاني أن يعلِّم بالأجرة، والثالث أن يعلِّم بغير شرط فإذا أهدي إليه
قبل."
1 رواه البخاري.
2 رواه البخاري في كتاب "الطب" من
حديث ابن عباس.
3 رواه الشيخان في باب النكاح.
4 هو أبو
الليث نصر بن محمد السمرقندي المتوفى سنة 375 هجرية، وكتابه "بستان العارفين"
في الأحاديث الواردة في الآداب الشرعية والخصال والأخلاق وبعض الأحكام الفرعية،
وانظر "البرهان" للزركشي جـ1 ص457.
فالأول: مأجور عليه، وهو عمل
الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.
والثاني: مختَلَف فيه، فقيل لا
يجوز، لقوله, صلى الله عليه وسلم: "بلِّغوا عني ولو آية" ، وقيل: يجوز، والأفضل
للمعلِّم أن يشارط الأجرة للحفظ وتعليم الكتابة، فإن شارط لتعليم القرآن أرجو
أنه لا بأس به، لأن المسلمين قد توارثوا ذلك واحتاجوا له.
وأما
الثالث: فيجوز في قولهم جميعًا، لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان معلِّمًا
للخلق، وكان يقبل الهدية، ولحديث اللديغ لما رقوه بالفاتحة وجعلوا له جُعلًا،
وقال النبي, صلى الله عليه وسلم: "واضربوا لي معكم فيها بسهم" 1.
1
رواه البخاري في كتاب "الطب" من حديث ابن عباس.
القواعد التي يحتاج
إليها المفسر