المؤلف د. عبد الله خضر حمد
الناشر دار القلم، بيروت - لبنان
الطبعة الأولى، 1438 هـ - 2017 م
عدد الأجزاء 8
عدد الصفحات: ٨٨٢
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع]
الموضوع: علوم القرأن
رقم الصفحة المقتبسة: 3 - 150
فهرس الموضوعات
- ثالثا: - مراحل جمع القرآن الكريم وترتيبه
- رابعا: - المكي والمدني
- للعلماء في معنى المكي والمدني ثلاثة اصطلاحات
- الاصطلاح الأول: باعتبار المكان
- الاصطلاح الثاني: باعتبار المخاطب
- الاصطلاح الثالث: باعتبار زمن النزول
- الطريق إلى معرفة المكي والمدني
- المنهج الأول: السماعي النقلي
- المنهج الثاني: القياس الاجتهادي
- أولا: ضوابط القرآن المكي هي
- ثانيا: مميزات القرآن المكي
- ثالثا: ضوابط القرآن المدني
- رابعا: - مميزان القرآن المدني
- وللسور المدنية مميزات، منها
- فوائد معرفة المكي والمدني
- خامسا: - أسباب النزول
- أقسام أسباب النزول
- فوائد معرفة سبب النزول
- ١- الاستعانة على فهم الآية وإزالة الإشكال عنها
- ٢ - معرفة الحكمة من تدرج التشريع
- ٣ - العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب
- سادسا: - المحكم والمتشابه في القرآن الكريم
- سابعا- الناسخ والمنسوخ في القرآن الكريم
- ثامنا: - القراءات
- القراءات لغة واصطلاحا
- نشأة القراءات
- والأحاديث المتواترة الواردة حول نزول القرآن على سبعة أحرف تدل على ذلك
- أقسام القراءات وبيان ما يقبل منها ومالا يقبل
- فوائد اختلاف القراءات
- التعريف بالقراء الأربعة عشر ورواتهم
- أولا: القراء العشرة ورواتهم
- ١ - ابن عامر
- ٢ - ابن كثير
- ٣ - عاصم
- ٤ - أبو عمرو
- ٥ - حمزة
- ٦ - نافع
- ٧ - الكسائى
- ٨ - أبو جعفر
- ٩ - يعقوب
- ١٠ - خلف
- السبب الداعى للاقتصار على القراء المشهورين
- ثانيا: القراء الأربعة تتمة الأربعة عشر
- حكم ما وراء القراءات العشر
- تاسعا: - الإسرائيليات
- عاشرا: تفسير القرآن وشرفه
- المنهج الأمثل في تفسير القرآن
- ١ - تفسير القرآن بالقرآن
- ٢ - تفسير القرآن بالسنة
- ٣ - الانتفاع بتفسير الصحابة والتابعين
- ٤ - الأخذ بمطلق اللغة
- ٥ - مراعاة السياق
- ٦ - الاهتمام بعلوم القرآن إجمالا وخاصة سبب النزول
- ٧ - اعتبار القرآن أصلا يرجع إليه
- حادي عشر: - إعجاز القرآن
- الثاني عشر: ترجمة القرآن الكريم بغير لغته
- أقسام الترجمة
- موقف العلماء من ترجمة القرآن الكريم
- أولا: الترجمة الحرفية لا تجوز وذلك
- ثانيا: الترجمة التفسيرية أو المعنوية
- الثالث عشر: فضائل القرآن
- العودة إلي الكتاب الكفاية في التفسير بالمأثور والدراية
ثالثا: - مراحل جمع القرآن الكريم وترتيبه
المراد بجمع القرآن عند العلماء أحد معنيين: أولهما الحفظ، وهذا
المعنى هو الذي ورد في قوله عز وجل في خطابه لنبيه صلى الله عليه وسلم «لا تحرك
به لسانك لتعجل به إن علينا جمعه وقرآنه فإذا قرأناه فاتبع قرآنه ثم إن علينا
بيانه» [٥].
وثانيهما: الكتابة والتدوين، أي كتابة القرآن كله مفرق
الآيات والسور، أو مرتب الآيات والسور في صحائف مجتمعة تضم السور جميعا
[٦].
(٥) : القيامة الآيات: ١٦ - ١٧ - ١٨.
(٦) : أنظر مباحث في علوم القرآن
لمناع القطان ص ١١٩ وكذلك الإتقان للسيوطي.
***
وقد اجتمع للقرآن الكريم ما لم يجتمع لغيره من الكتب السابقة فاعتمد في طريقة
نقله المشافهة والحفظ والكتابة والتدوين، وتعتبر مسألة المشافهة والحفظ وهي أولى
مراحل الجمع، من أعظم خصيصة شرفت بها الأمة الإسلامية دون سائر الملل والنحل.
جمع القرآن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم.
اعتبرت طريقة الحفظ [١] والمشافهة الوسيلة الوحيدة التي اعتمد عليها
في جمع القرآن الكريم في العهد النبوي، فالقرآن الكريم لما نزل بروعة نظمه ونقاء
ألفاظه وشدة تأثيره على العقول والمشاعر اشتد اهتمام العرب به، وخاصة الذين كانوا
من السابقين إلى الإيمان به، وكانوا يترقبون كل جديد ينزل به الوحي يجمعون بين
حفظه والعمل به، وهكذا اهتم جم غفير من الصحابة كالخلفاء الأربعة ومعاذ بن جبل
وزيد بن ثابت ... بجمع القرآن الكريم وحفظه، وكان النبي صلى الله عليه وسلم كلما
نزل عليه شيء من الوحي أمر كتبة الوحي بكتابته فورا، سماعا من فمه ثم ينتشر ما
نزل بين الناس، فكانت العلاقة بين المسلمين وكتاب ربهم هي الحفظ استنادا لما
سمعوه من في رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذه خصيصة خص الله بها الأمة
المحمدية. قال بن الجزري: «إن الاعتماد في نقل القرآن على حفظ القلوب والصدور لا
على خط المصاحف والكتب أشرف خصيصة من الله تعالى لهذه الأمة» [٢].
ومع
حرص الصحابة على مدارسة القرآن واستظهاره، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان
يشجعهم على ذلك، ويختار لهم من يعلمهم القرآن، عن عبادة بن الصامت قال: «كان
الرجل إذا هاجر دفعه النبي صلى الله عليه وسلم إلى رجل منا يعلمه القرآن، وكان
يسمع لمسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ضجة بتلاوة القرآن، حتى أمرهم رسول الله
صلى الله عليه وسلم أن يخفضوا أصواتهم لئلا يتغالطوا» [٣].
وكان
الصحابة يعرضون على رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لديهم من القرآن حفظا
وكتابة، ولم تكن الوثائق [٤] التي كتبوها في العهد النبوي مجتمعة في مصحف عام بل
عند هذا ما ليس عند ذاك، وهذا يعزى إلى اختلاف قراءات الصحابة لكون القرآن أنزل
على سبعة أحرف.
وقبض النبي عليه الصلاة والسلام والقرآن محفوظ في
الصدور ومكتوب في الصحف، مفرق الآيات والسور، أو مرتب الآيات فقط وكل سورة في
صحيفة على حدة، بالأحرف السبعة الواردة، ولم يجمع في مصحف عام، حيث كان القرآن
ينزل فيحفظه القراء ويكتبه الكتبه، ولم تدع الحاجة إلى تدوينه في مصحف واحد، لأنه
عليه الصلاة والسلام كان يترقب نزول الوحي من حين لآخر، وقد يكون منه الناسخ لشيء
نزل من قبل، وكتابة القرآن لم يكن ترتيبها بترتيب النزول بل تكتب الآية بعد
نزولها حيث يشير صلى الله عليه وسلم إلى موضع كتابتها بين آية كذا وآية كذا في
سورة كذا قال الزركشي: «وإنما لم يكتب في عهد النبي صلى الله عليه وسلم مصحف لئلا
يقضي إلى تغييره في كل وقت، فلهذا تأخرت كتابته إلى أن كمل نزول القرآن
(١)
(: المقصود به الحفظ في الصدور والسطور.
(٢) : مباحث في ع. القرآن ص
١٢٣.
(٣) : نفسه، ص ١٢١.
(٤) (: المقصود بها العسب والرقاع
واللخاف ... التي كان يدون فيها القرآن.
بموته صلى الله عليه وسلم»
[١]، وبهذا يفسر ما روي عن زيد بن ثابت قال: «قبض النبي صلى الله عليه وسلم ولم
يكن القرآن جمع في شيء» [٢].
وقال الخطابي: "إنما لم يجمع صلى الله
عليه وسلم القرآن في المصحف لما كان يترقبه من ورود ناسخ لبعض أحكامه أو تلاوته،
فلما انقضى نزوله بوفاته ألهم الله الخلفاء الراشدين ذلك، وفاء بوعده الصادق
بضمان حفظه على هذه الأمة [٣] فكان ابتداء ذلك على يد الصديق بمشورة عمر" [٤].
خلاصة
القول أن الهدف من الجمع الأول كان هو حفظ القرآن واستظهاره خشية أن يفلت منه
شيء، قال تعالى: {وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ
وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه: ١١٤] .
جمع القرآن الكريم في عهد أبي بكر الصديق -رضي الله عنه-
بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم واستقرار نصوص الوحي دعت الضرورة
إلى كتابة القرآن الكريم وترتيبه بمحضر من حفظته لاسيما بعد استشهاد كثير من
حملته وظهور حركة الردة من جهة، ومن جهة أخرى دخول الناس في دين الله أفواجا وهم
لا يعرفون من القرآن شيئا.
وبعد أن استحر القتل بالقراء في معركة
اليمامة وخشية أن يضيع القرآن أو يلتبس الأمر على المسلمين في شأن من آياته أشار
عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- على الخليفة أبو بكر الصديق بجمع القرآن وكتابته
خشية الضياع، فتردد أبو بكر في قبول ذلك خشية أن يفعل شيئا لم يفعله رسول الله
صلى الله عليه وسلم وبعد تردد شرح الله صدره لذلك، فكلف زيد بن ثابت -وهو ممن شهد
العرضة الأخيرة مع النبي صلى الله عليه وسلم- بجمع القرآن ولا يخفى ما في هذا
التكليف من مشقة قال زيد "والله لو كلفوني نقل جبل من الجبال ما كان علي أتقل مما
أمرت به من جمع القرآن" [٥].
ويتجلى جمع أبي بكر في جمع الوثائق التي
كتبها كتبة الوحي في حضرة رسول الله، بمعنى تنسيق وثائق كل سورة مرتبة آياتها على
نسق نزولها، ولا معنى لهذا الجمع الاما تم ذكره، وإطلاق وصف المصحف عليه إطلاق
مجازي القصد منه أن يكون مرجعا موثوقا به عند اختلاف الحفاظ.
ومما يجب
التنبيه إليه أن الجمع في هذه المرحلة لم يضف شيئا أو يحذفه من تلك الوثائق
الخطية التي تم تدوينها في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وإملاء منه على كتبة
وحيه الأمناء الصادقين.
وكان عمل الصديق رضي الله عنه محل إكبار
الصحابة كما قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه "أعظم الناس في المصاحف أجراً أبو
بكر رحمة الله على أبي بكر هو أول من جمع كتاب الله" [٦].
(١) مباحث
في علوم القرآن ص ١٢٥.
(٢) المصدر نفسه والصحيفة نفسها.
(٣)
(إشارة إلى قوله عز وجل: "إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون" .
(٤)
مباحث في علوم القرآن ص ١٢٥.
(٥) مباحث في علوم القرآن ص ١٢٧.
(٦)
www.al-islam.com/articles/articles.asp? fname=ALISLAM_L ١١_A
جمع القرآن في عهد عثمان بن عفان رضي الله عنه.
في عهد الخليفة عثمان بن عفان رضي الله عنه اتسعت رقعة الدولة
الإسلامية وامتد سلطانها واختلطت شعوبها، وتداخلت لغاتها وأخذ كل إقليم يلتفت حول
صحابي ليعلمه القرآن، فكان من الطبيعي أن تتعدد القراءات وتتباعد اللهجات ويقع
الاختلاف في القرآن خاصة في وجود مصاحف الصحابة التي لم يمكن ترتيبها وضبط
تلاوتها ورسمها لتباعد الأمصار الإسلامية عن المدينة، وخشي بعض الصحابة أن تتسع
دائرة الخلاف فطلبوا من الخليفة أن يوحد الناس على مصحف واحد قال حذيفة ابن
اليمان لعثمان: "يا أمير المؤمنين أدرك هذه الأمة قبل أن يختلفوا في الكتاب
اختلاف اليهود والنصارى" [١].
فأدرك عثمان عظم الأمر وقال للصحابة،
اجتمعوا يا أصحاب محمد واكتبوا للناس إماما. فأرسل إلى حفصة أن إرسل إلينا بالصحف
ننسخها في المصاحف ثم نردها إليك فأمر طائفة من الصحابة (كزيد بن ثابت، عبد الله
بن الزبير، سعيد بن العاص ... ) فنسخوها في المصاحف وقام عثمان بإرسال نسخ منها
إلى كل الأمصار [٢].
واتفق الصحابة رضي الله عنهم على هذا العمل وعدوه
من مفاخر عثمان وحسناته، من ذلك قول الإمام علي -رضي الله عنه- "لا تقولوا في
عثمان إلا خيرا فو الله ما فعل الذي فعل في المصاحف إلا على ملإ منا" [٣].
وكان
هدف عثمان من هذا الجمع هو توحيد الأمة على القراءات الصحيحة التي قرأها النبي
عليه الصلاة والسلام في العرضة الأخيرة على جبريل، وهذا ما يؤكده الباقلاني من أن
ما قصد عثمان هو جمع المسلمين على القراءات الثابتة المعروفة وإلغاء ما ليس كذلك
وأخذهم بمصحف لا تقديم فيه ولا تأخير [٤].
وهكذا عمل الخليفة عثمان
على "حمل الناس على القراءة بوجه واحد، على اختيار وقع بينه وبين من شهده من
المهاجرين والأنصار، لما خشي الفتنة عند اختلاف أهل العراق والشام في حروف
القراءات" [٥].
وبهذا قطع عثمان دائرة الفتنة وحسم مصدر الاختلاف، وحض
القرآن من أن يتطرق إليه شيء من الزيادة والتحريف على مر العصور وتعاقب
الأزمان.
رابعا: - المكي والمدني
للعلماء في معنى المكي والمدني ثلاثة اصطلاحات [٦]:
الاصطلاح الأول: باعتبار المكان:
إن المكي ما نزل بمكة ولو بعد الهجرة، والمدني ما نزل بالمدينة،
ويرد على هذا التعريف أنه غير ضابط ولا حاصر، لأنه يشمل ما نزل بغير مكة والمدينة
وضواحيها، كقوله
(١) مباحث في علوم القرآن ص ١٣٠.
(٢) أنظر
مباحث في علوم القرآن لمناع القطان وصبحي الصالحي، والإتقان للسيوطي.
(٣)
www.al-islam.com/articles/articles.asp? fname=ALISLAM_L ١١_A
(٤)
أنظر: إعجاز القرآن للباقلاني.
(٥) أنظر: مباحث في علوم القرآن ص ١٢٩
- ١٣٠.
(٦) انظر: هذه الآراء بالتفصيل في الإتقان للسيوطي - ج ١ ص ٦
وما بعدها، البرهان للزركشي - ج ٢ ص ٢٤٤ - ٢٤٥، مناهل العرفان للزرقاني - ج ١ ص
١٩٣ - ١٩٤، المدخل لدراسة القرآن لأبي شهبة - ص ٢٢١ - ٢٢٢
تعالى:
{لَوْ كَانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قَاصِداً لاتَّبَعُوك ... َ} [التوبة:
٤٢] ، فإنها نزلت بتبوك، وقوله تعالى: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ
مِنْ رُسُلِنَا ... } [الزخرف: ٤٥] ، نزلت ببيت المقدس ليلة الإسراء.
الاصطلاح الثاني: باعتبار المخاطب:
أن المكي ما وقع خطاباً لأهل مكة، والمدني ما وقع خطاباً لأهل
المدينة، ويحمل على هذا ما نقل عن ابن مسعود أنه قال: "ما كان في القرآن (يا أيها
الذين آمنوا) أنزل بالمدينة أي مدني، وما كان من القرآن بلفظ (يا أيها الناس) و
(يا بني آدم) فهو مكي، وذلك أن الإيمان كان غالباً على أهل المدينة، فخوطبوا بيا
أيها الذين آمنوا، وكذلك خطاب الكافرين بيا أيها الناس، لأن الكفر كان غالباً على
أهل مكة."
وهذا التقسيم لوحظ فيه المخاطبون، لكنه غير ضابط ولا حاصر
لجميع آيات القرآن الكريم لأمرين: -
الأمر الأول: إنه يوجد آيات مدنية
صُدِّرت بصيغة {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} مثل ما جاء في سورة النساء التي اتفق على
أنها مدنية، ولكنها تبدأ بـ {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} [النساء: ١] ، وكذلك هناك
آيات مكية صدرت بصيغة {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} [الحج: ١] ، وكذلك سورة
البقرة مدنية وفيها {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ ... } [البقرة:
٢١] ، وأيضاً ما جاء في سورة الحج المكية {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
ارْكَعُوا ... } [الحج: ٧٧] .
الأمر الثاني: يوجد سور كثيرة في القرآن
الكريم ليس فيها الخطاب بـ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} و {يَا أَيُّهَا
النَّاسُ} فعلى هذا الاعتبار فهي غير مكية ولا مدنية، مثال قوله تعالى: {يَا
أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ
... } [الأحزاب: ١] ، وقوله تعالى: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا
نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ} [المنافقين: ١] .
وعلى هذا فإن
هذا التقسيم غير ضابط ولا حاصر.
الاصطلاح الثالث: باعتبار زمن النزول:
وهو ما عليه جمهور العلماء أن المكي ما نزل قبل هجرة الرسول? إلى
المدينة، وإن كان نزوله بغير مكة، والمدني ما نزل بعد الهجرة وإن كان نزوله
بمكة.
وهذا التقسيم كما ترى لوحظ فيه زمن النزول، هو تقسيم صحيح سليم
لأنه ضابط حاصر لجميع آيات القرآن الكريم.
الطريق إلى معرفة المكي والمدني
لقد اعتمد العلماء في معرفة المكي والمدني على منهجين هما: -
المنهج الأول: السماعي النقلي:
العمدة في معرفة المكي والمدني النقل الصحيح عن الصحابة - رضي الله
عنهم - الذين شاهدوا أحوال الوحي والتنزيل، والتابعين الآخذين عنهم، ولم يرد عن
النبي? في ذلك قول، ويؤيد ذلك ما نقله السيوطي عن القاضي أبي بكر في الانتصار حيث
قال: "إنما يُرجع في معرفة المكي والمدني إلى حفظ الصحابة والتابعين ولم يرد عن
النبي? في ذلك قول، لأنه لم يؤمر به، ولم يجعل الله علم ذلك من فرائض الأمة وإن
وجب في بعض أهل العلم معرفة تاريخ الناسخ والمنسوخ، وقد يعرف ذلك بغير نص عن
الرسول?" [١].
(١) الإتقان للسيوطي - ج ١ ص ١٦.
وقد اشتهر
بمعرفة المكي والمدني من الصحابة - رضي الله عنهم - عبد الله بن مسعود - رضي الله
عنه - أنه قال: "والله الذي لا إله غيره ما نزلت سورة من كتاب الله إلا وأنا أعلم
أين نزلت، ولا نزلت آية من كتاب الله إلا وأنا أعلم فيم أنزلت، ولو أعلم أحداً
أعلم مني بكتاب الله تبلغه الإبل لركبت إليه" [١].
المنهج الثاني: القياس الاجتهادي:
عرفنا فيما مضى أن مرد العلم بالمكي والمدني هو السماع عن طريق
الصحابة والتابعين، ولكن هناك علامات وضوابط ومميزات وضعها العلماء يُعرف بها
المكي والمدني هي: -
أولاً: ضوابط القرآن المكي هي [٢]:
١ - كل سورة فيها لفظ (كلا) وقد ذكر هذا اللفظ في القرآن ثلاثاً
وثلاثين مرة في خمس عشرة سورة، كلها في النصف الأخير من القرآن، قال العماني:
"وحكمة ذلك إن نصف القرآن الأخير نزل أكثره بمكة وأكثرها جبابرة، فتكررت فيه على
وجه التهديد والتعنيف لهم والإنكار عليهم، بخلال النصف الأول، وما نزل منه في
اليهود لم يحتج إلى إيرادها فيه، لذلتهم وضعفهم" [٣].
٢ - كل سورة في
أولها حرف تهجي غير سورة البقرة وآل عمران فهما مدنيتان.
٣ - كل سورة
فيها سجدة أو مبدوءة بقسم.
٤ - كل سورة فيها تفصيل لقصص الأنبياء
وللأمم الغابرة فهي مكية سوى البقرة، وفيها ذكر - تعالى - تلك القصص لأخذ العبرة
والعظة بسنته - تعالى - في هلاك أهل الكفر والطغيان وانتصار أهل الإيمان.
٥
- كل سورة فيها قصة آدم وإبليس فهي مكية سوى البقرة.
ثانياً: مميزات القرآن المكي:
١ - الدعوة إلى أصول الإيمان الاعتقادية من الإيمان بالله واليوم
الآخر وما فيه من البعث والحشر والجزاء، والإيمان بالرسالة، وذلك لأن أهل مكة
كانوا منغمسين في الشرك والوثنية، كذلك ناقشهم بالأدلة العقلية والكونية في
عقائدهم الضالة.
٢ - محاجة المشركين ومجادلتهم وإقامة الحجة عليهم في
بطلان عبادتهم للأصنام، وبيان أنها لا تنفع ولا تضر.
٣ - إنه تحدث عن
عاداتهم القبيحة، كالقتل وسفك الدماء، ووأد البنات واستباحة الأعراض، وأكل مال
اليتيم، للفت أنظارهم إلى ما في ذلك من أخطار.
٤ - الدعوة إلى أصول
التشريعات العامة والآداب والعقائد الثابتة التي لا تتغير بتغير الزمان والمكان،
ولا سيما التي يتعلق منها بحفظ الدين والنفس والمال والعقل والنسب، وأيضاً أمرهم
بالصدق والعفاف وبر الوالدين وصلة الرحم والعفو والعدل وغير ذلك.
(١)
انظر: مناهل العرفان - الزرقاني - ج ١٢ ص ١٩٦.
(٢) الإتقان للسيوطي -
ج ١ ص ٩ بتصرف، وانظر بالتفصيل مناهل العرفان للزرقاني ج ١ ص ٢٠٢، ٢٠٣.
(٣)
نقلا عن: مناهل العرفان للزرقاني ج ١ ص ٢٠٢.
٥ - قصر أكثر آياته
وسوره، فقد سلك مع أهل مكة سبيل الإيجاز في خطابه لهم، وذلك لأنهم كانوا أهل
البلاغة والبيان، صناعتهم الكلام، فيناسبهم الإيجاز والإقلال دون الإسهاب
والإطناب.
ثالثاً: ضوابط القرآن المدني:
١ - تتميز الآيات المدنية بذكر وبيان الحدود والفرائض، وذلك لأنها
شرعت بعد إقامة المجتمع الإسلامي.
٢ - كل سورة فيها إذن بالجهاد وبيان
لأحكام الجهاد والصلح والمعاهدات فهي مدنية سوى سورة الحج.
٣ - كل
سورة فيها ذكر المنافقين فهي مدنية ما عدا سورة العنكبوت مكية الآيات الإحدى عشرة
الأولى، وذلك لأن ظاهرة النفاق بدت تظهر في المدينة.
رابعا: - مميزان القرآن المدني [١]:
وللسور المدنية مميزات، منها
١ - التحدث عن دقائق التشريع، وتفاصيل الأحكام في العبادات
والمعاملات كأحكام الصلاة والصيام والزكاة ... وكذلك البيوع والربا والسرقة
والكفارات كما في سورة البقرة والنساء والمائدة والنور، وذلك أن حياة المسلمين
بدأت تستقر وأصبح لهم كيان ودولة وسلطان.
٢ - محاجة أهل الكتاب وبيان
ضلالهم في عقائدهم، وبيان تحريفهم لكتب الله وهذا ما توضحه سورة البقرة والمائدة
والفتح.
٣ - تمتاز آيات القرآن المدني بطول المقاطع، وذلك لأنها تتحدث
عن التشريعات ومخاطبة أهل الكتاب.
فوائد معرفة المكي والمدني [٢]:
١ - معرفة المكي والمدني يساعد على تمييز الناسخ من المنسوخ فيما لو
وردت آيتان متعارضتان وإحداهما مكية والأخرى مدنية، فإننا نحكم بنسخ المدنية
للمكية لتأخرها عنها.
٢ - أنه يعين على معرفة تاريخ التشريع، والوقوف
على سنة الله الحكيمة في تشريعه، وهي التدرج في التشريعات بتقديم الأصول على
الفروع والإجمال في التفصيل، وبذلك يترتب عليه الإيمان بسمو السياسة الإسلامية في
تربية الشعوب والأفراد.
٣ - معرفة هذا العلم يزيد الثقة بهذا القرآن
العظيم، وبوصوله إلينا سالماً من التغيير والتحريف، ويدل على ذلك اهتمام المسلمين
بهذا العلم عن طريق تناقلهم لهم وما نزل من قبل الهجرة وبعدها في السفر والحضر
وفي الليل والنهار.
٤ - معرفة هذا العلم يفيد ويساعد على تفسير القرآن
الكريم، فإن معرفة مكان النزول وزمنه يعين على فهم وتفسير القرآن العظيم.
٥
- أيضاً يفيدنا في معرفة أحداث السيرة النبوية من خلال متابعة أحوال النبي? وموقف
المشركين من دعوته في العصر المكي والعصر المدني، والوقوف على الغزوات التي غزاها
الرسول? كغزوة بدر وأحد وبني قريظة والفتح وحنين وغير ذلك.
(١)
الإتقان للسيوطي - ج ١ ص ٩ بتصرف، وانظر بالتفصيل مناهل العرفان - ج ١ ص ٢٠٢ -
٢٠٣، وانظر المدخل لدراسة القرآن الكريم لأبي شهبة - ص ٢٢٨ - ٢٣٣.
(٢)
بالتفصيل مناهل العرفان - ج ١ ص ١٩٥، وانظر المدخل لدراسة القرآن الكريم، ص
٢٢٠.
٦ - تذوق أساليب القرآن المتنوعة في خطابه لخصومه والاستفادة
منها في الدعوة إلى الله، فمخاطبة الكفار يحتاج إلى الأسلوب الخطابي في العهد
المكي عن طريق التركيز على إثبات وجود الله والبعث والعقيدة، ومخاطبة أهل الكتاب
والمنافقين يحتاج إلى أسلوب الخطابة في العهد المدني عن طرق مناقشتهم في عقيدتهم
المنحرفة وبيان التحريف في كتبهم.
خامسا: - أسباب النزول
إن سبب النزول هو ما نزلت الآية أو الآيات متحدثة عنه، أو مبينة
لحكمةٍ أيام وقوعه [١]، والمعنى أنه حادثة وقعت في زمن النبي? أو سؤال وجه إليه
فنزلت الآية أو الآيات من الله - تعالى - ببيان ما يتصل بتلك الحادثة أو بجواب
هذا السؤال.
وذلك مثل حادثة خولة بنت ثعلبة، التي ظاهر منها زوجها
"أوس بن الصامت" فنزلت آيات الظهار: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي
تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ
تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ*الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ
مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إلا اللائِي
وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً
وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ * وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ
ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ
يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِير *
فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ
يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً ذَلِكَ
لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ
عَذَابٌ أَلِيمٌ} [المجادلة: ١ - ٤] .
ومثل ما حدث بين الأوس والخزرج
من خصومة، بسبب تأليب أحد اليهود العداوة بينهما، فقد نزل بحقها قوله تعالى {يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا
الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ (١٠٠) وَكَيْفَ
تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ
وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (١٠١) يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ
إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (١٠٢) وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا
وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ
أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا
وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ
يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٠٣) } [آل عمران:
١٠٠ - ١٠٣] .
ومثل ما نزل إجابة لسؤال وجه إلى النبي? قوله تعالى:
{وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا
أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلاً} [الإسراء: ٨٥] ، وقوله تعالى:
{وَيَسْأَلونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ
ذِكْراً} [الكهف: ٨٣] ، وقوله تعالى: {يَسْأَلونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ
مُرْسَاهَا} [البقرة: ١٨٥] .
ومثل ما نزل إرشاداً وهداية وتعليماً
للرسول? كما في قوله تعالى {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ
غَدًا (٢٣) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ
عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا (٢٤) } [الكهف: ٢٣ -
٢٤] ، والأمثلة كثيرة على ذلك.
وعندما نقول بأن سبب النزول هو ما نزلت
الآية أو الآيات متحدثةً عنه أو مبينةً لحكمه أيام وقوعه، فذا يعني أن هناك
ارتباطا بين وقوع الحدث والآية التي نزلت مبينة لحكم هذا أو هذه الحال، هذا احترز
به عمَّا شاع وذاع عند بعض المفسرين حينما يذكرون مثلاً سورة الفيل نزلت قصة
الفيل هل هناك ارتباط بين الحادثة والآيات؟ الجواب: لا، نقول: سبب النزول أن تكون
الآية نزلت مبينةً لحكم الحادثة، وهذه الحادثة سبقت بزمنٍ يسير نزول الآيات
حينئذٍ لا بد من ارتباطٍ بين الآيات وبين الواقع، فإذا كانت الواقعة قد خلا عليها
الدهر كقصة أصحاب الفيل
(١) أسباب النزول - الواحدي - ص ٦٦.
ثم
نزل قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ}
[الفيل: ١] . لا نقول: هذه الآيات أو هذه السورة سبب نزولها ماذا؟ قصة أصحاب
الفيل نقول: لا، قصة أصحاب الفيل تضمنت السورة بيانًا لحادثةٍ قد وقعت ومضى عليها
الزمان الطويل حينئذٍ ليس ثم ارتباط بين السورة وبين هذه القصة، إذًا ما نزلت
الآية أو الآيات متحدثةً عنه أو مبينةً لحكمه أيام وقوعه هذا فيه ردٌ على كل من
وضع أمام قصةٍ من قصص الأنبياء أو سورةٍ تضمنت حادثة سابقة ربطها بماذا؟ بتلك
الحادثة نقول: لا، جاءت هذه الآيات مبينة لحادثةٍ واقعةٍ في زمنٍ قد مضى، تحدثت
كما تتحدث الآيات عن نوحٍ مع قومه، أو عن هودٍ مع قومه، أو عن صالحٍ، أو شعيب مع
قومه هل نزلت هذه الآيات بسبب قوم نوح؟ لا، سورة نوح نقول: نزلت بسبب قوم نوح؟
الجواب: لا، وإنما تضمنت حادثة وواقعة وحكايةً لحالة أممٍ قد خلت في هذه السورة
وليس ثَمَّ ارتباط من حيث النزول، يعني لم يكن سبب نزول الآيات هو تلك الحادثة
[١].
طريق معرفة سبب النزول [٢]:
لا طريق لمعرفة أسباب النزول إلا النقل الصحيح، ولا مجال للعقل فيه
إلا بالتمحيص والترجيح، قال الواحدي: "لا يحل القول في أسباب نزول القرآن
بالرواية والسماع، إلا ممن شاهدوا التنزيل، ووقفوا على الأسباب وبحثوا عن عللها"
[٣].
وعلى هذا فإن رُوي سبب النزول عن صحابي فهو مقبول، وإن لم يعزز
برواية أخرى، لأن قول الصحابي فيما لا مجال للرأي فيه حكمه المرفوع إلى النبي.
وأما
ما روي من سبب النزول بحديث مرسل، أي سقط من سنده الصحابي وانتهى إلى التابعي،
ففي حكمه قولان:
الأول: تقبل بأربعة شروط:
١ - التصريح
بالسبب.
٢ - صحة الإسناد.
٣ - أن يكون من أئمة التفسير
الذين أخذوا عن الصحابة.
٤ - أن يعتضد برواية تابعي آخر تتوفر فيه هذه
الشروط. وهو قول السيوطي وجماعة.
الثاني: لا تُقبل لأنها في حكم
الحديث المرفوع وهو مرسل من التابعي، والمرسل لون من ألوان الحديث الضعيف
وبالتالي فهو غير مقبول، والله أعلم.
إذن لاتقبل رواية التابعي إلا
إذا صح سنده، واعتضد بمرسل آخر، وكان الراوي له من أئمة التفسير الآخذين عن
الصحابة مباشرة كمجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير.
أقسام أسباب النزول
ينقسم القرآن الكريم من حيث سبب النزول وعدمه إلى قسمين:
القسم
الأول: قسم نزل من الله ابتداء غير مرتبط بسبب من الأسباب الخاصة إنما هو لمحض
هداية الخلق إلى الحق، وإرشادهم على الأفضل في هذه الحياة، وهو كثير ظاهر في
القرآن الكريم.
القسم الثاني: قسم نزل مرتبطاً بسبب من الأسباب الخاصة
وهو موضوع البحث، وهو كثير في القرآن الكريم، مثل حديث الإفك، أو إجابة عن سؤال،
أو بيان لأمر يتعلق بحادثة معينة [٤].
(١) انظر: شرح منظومة التفسير،
الشيخ عبد العزيز الزمزمي، شرحه وعلق عليه الشيخ أحمد بن عمر الحازمي (الشريط
السادس) .
(٢) مناهل العرفان - الزرقاني - ج ١ ص ١٠٦.
(٣)
المدخل لدراسة القرآن - ص ١٣٤ - ١٣٥، مناهل العرفان - ج ١ ص ١١٤.
(٤)
الإتقان - السيوطي - ج ١ ص ٢٩ بتصريف، مناهل العرفان - الزرقاني - ج ١ ص ١٠٦.
فوائد معرفة سبب النزول [١]:
١ - الاستعانة على فهم الآية وإزالة الإشكال عنها: مثاله:
أنه أشكل على عروة بن الزبير - رضي الله عنهما - أن يفهم فريضة
السعي بين الصفا والمروة من قوله {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ
اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ
يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ}
[البقرة: ١٨٥] ، وذلك لأن الآية نفت الجُناح، ونفي الجناح لا يدل على الفرضية،
حتى سأل خالته السيدة عائشة - رضي الله عنها - عن ذلك، فأفهمته أن نفي الجُناح
ليس نفياً للفرضية، إنما هو نفي لما وقر في أذهان المسلمين يومئذٍ من التحرج
والتأثم من السعي بين الصفا والمروة؛ لأنه من عمل الجاهلية [٢].
وقد
اختلف أهل التفسير في سبب نزول هذه الآية على أقوال [٣]:
أحدها: قالت:
عائشة-رضي الله عنها-: "أنزلت هذه الآية في الأنصار، كانوا يهلون لمناة، وكانت
مناة حذو قديد، وكانوا يتحرجون أن يطوفوا بين الصفا والمروة، فلما جاء الإسلام
سألوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك، فأنزل الله تعالى هذه الآية"
[٤].
الثاني: قال الشعبي: "أن وَثَنًا كان في الجاهلية على الصفا يسمى
(إسافًا) ، ووثنًا على المرْوة يسمى (نائلة) ، فكان أهل الجاهلية إذا طافوا
بالبيت مَسحوا الوثَنين. فلما جاء الإسلام وكُسرت الأوثان، قال المسلمون: إنّ
الصفا والمرْوة إنما كانَ يُطاف بهما من أجل الوَثنين، وليس الطواف بهما من
الشعائر! قال: فأنزل الله: إنهما من الشعائر،" فمن حَجّ البيتَ أو اعتمر فلا
جُناحَ عليه أن يطوّف بهما "[٥]."
وروي عن عامر [٦]، ويزيد [٧]، وأنس
بن مالك [٨]، وابن عمر [٩]، ومجاهد [١٠]، وابن زيد [١١]، نحو ذلك.
(١)
انظر بالتفصيل الإتقان - السيوطي - ج ١ ص ٢٩ بتصرف، وانظر المدخل لدراسة القرآن
الكريم - أ. د. محمد أبو شهبة - ص ١٣٦ - ١٣٧.
(٢) مناهل العرفان -
الزرقاني - ج ١ ص ١٠٩.
(٣) انظر: أسباب النزول للواحدي: ٤٤ - ٤٧،
والعجاب: ١/ ٤٠٦ - ٤١١.
(٤) أسباب النزول للواحدي: ٤٤ - ٤٥. وأخرجه
البخاري (فتح الباري: ٣/ ٦١٤ - ح: ١٧٩٠ ٣/ ٤٩٧ - ح: ١٦٤٣) ومسلم (٢/ ٩٢٨ - ح: ٢٦٠
٢/ ٩٢٩ - ح: ٢٦١، ٢/ ٩٣٠ - ح: ٢٦٣) والإمام مالك (الموطأ: ٢٥٧ - ح: ٨٣٥ رواية
يحيى الليثي) والإمام أحمد (الفتح الرباني: ١٨/ ٧٨ - ح: ١٧٣، ١٨/ ٧٩ - ح: ٧٤)
وأبو داود (٢/ ٤٥٣ - ح: ١٩٠١) والترمذي (٥/ ٢٠٨ - ح: ٢٩٦٥) والنسائي (جامع
الأصول: ٢/ ١٨) وابن ماجه (٢/ ٩٩٤ - ح: ٢٩٨٦) وابن جرير (٢/ ٢٩، ٣١) كلهم عن
عائشة رضي الله عنها به.
(٥) أخرجه الطبري (٢٣٣٥) : ص ٣/ ٣٣١.
(٦)
انظر: تفسير الطبري (٢٣٣٦) : ص ٣/ ٢٣١ - ٢٣٢.
(٧) انظر: تفسير الطبري
(٢٣٣٧) : ص ٣/ ٢٣٢.
(٨) انظر: تفسير الطبري (٢٣٣٨) ، و (٢٣٣٩) : ص ٣/
٢٣٢.
(٩) انظر: تفسير الطبري (٢٣٤٠) : ص ٣/ ٢٣٣.
(١٠)
انظر: تفسير الطبري (٢٣٤٣) ، و (٢٣٤٤) : ص ٣/ ٢٣٥.
(١١) انظر: تفسير
الطبري (٢٣٤٥) : ص ٣/ ٢٣٥.
وقد ذكر ابن إسحاق في كتاب السيرة أن إسافا
ونائلة كانا بشرين، فزنيا داخل الكعبة فمسخا حجرين فنصبتهما قُريش تجاه الكعبة
ليعتبر بهما الناس، فلما طال عهدهما عبدا، ثم حولا إلى الصفا والمروة، فنصبا
هنالك، فكان من طاف بالصفا والمروة يستلمهما، ولهذا يقول أبو طالب، في قصيدته
المشهورة:
وحيث ينيخ الأشعرون ركابهم ... بمفضى السيول من إساف ونائل
[١]
الثالث: وقال قتادة: "قوله: {إنّ الصفا والمرْوَة من شعائر الله}
، الآية، فكان حَيٌّ من تهامة في الجاهلية لا يسعون بينهما، فأخبرهم الله أنّ
الصفا والمروة من شعائر الله، وكانَ من سُنة إبراهيم وإسماعيلَ الطواف بينهما"
[٢].
وروي عن عائشة [٣]، نحو ذلك.
الرابع: وقال مقاتل بن
سليمان: "وذلك أن الخمس: وهم قريش، وكنانة، وخزاعة، وعامر بن صعصعة، قالوا: ليست
الصفا والمروة من شعائر الله، وكان على الصفا صنم يقال له نائلة، وعلى المروة صنم
يقال له يساف في الجاهلية. قالوا، إنه حرج علينا في الطواف بينهما، فكانوا لا
يطوفون بينهما فأنزل الله- عز وجل- {إن الصفا والمروة من شعائر الله} " [٤].
الخامس:
وقال ابن كثير: "قال آخرون من الأنصار: إنما أمرنا بالطواف بالبيت، ولم نؤمر
بالطواف بين الصفا والمروة، فأنزل الله تعالى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ
مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} [٥]."
السادس: قال ابن عباس: "أنه كانَ في
الجاهلية شَياطين تعزِفُ الليل أجمعَ بين الصفا والمروة، وكانت بَينهما آلهة،
فلما جاء الإسلام وظَهر، قال المسلمون: يا رَسولَ الله، لا نطوف بين الصفا
والمروة، فإنه شركٌ كنا نفعله في الجاهلية! فأنزل الله: {فلا جُناح عليه أن
يطوَّف بهما} " [٦].
ومن هذا قول الله تعالى: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ
وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ
وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [المائدة: ٩٣] ، فهذا اللفظ الكريم يدل بظاهره على أن للإنسان
أن يصلي إلى أي جهة شاء، ولا يجب عليه أن يولي وجهه شطر البيت الحرام لا في سفر
ولا في حضر، لكن إذا علم أن هذه الآية نازلة في نافلة السفر خاصة، أو فيمن صلى
باجتهاده ثم ظهر له خطأ ذلك [٧] فلا بد أن يقصرها على هذا السبب ويعلم أنه في
صلاة الفرض لا بد من التوجه قِبَل الكعبة المشرفة.
(١) السيرة النبوية
لابن إسحاق (رقم النص ٤) ط، حميد الله، المغرب.
(٢) أخرجه الطبري
(٢٣٤٩) : ص ٣/ ٢٣٦، و (٢٣٥٢) : ص ٣/ ٢٣٨.
(٣) انظر: تفسير الطبري
(٢٣٥٠) ، و (٢٣٥١) : ص ٣/ ٢٣٦ - ٢٣٧.
(٤) تفسير مقاتل بن سليمان: ١/
١٥٢.
(٥) انظر: تفسير ابن كثير: ١/ ٤٧٠.
(٦) أخرجه الطبري
(٢٣٤٢) : ص ٣/ ٢٣٤، وتفسير القرطبي: ٢/ ١٧٩، وانظر: أسباب النزول للواحدي: ٤٦،
حكاه عن السدي.
(٧) الإتقان - السيوطي - ج ١ ص ٢٩، وانظر البرهان -
الزركشي - ج ١ ص ٥٢ - ٥٣
٢ - معرفة الحكمة من تدرج التشريع
إن الشريعة الإسلامية قائمة على رعاية المصالح ودفع الضرر، خصوصاً
إذا لاحظ الإنسان تدرج التشريع في موضوع واحد، ويكفي شاهداً على ذلك تحريم الخمر،
وما نزل فيه، أيضاً تشريع الكفارات لمن حنث في اليمين.
٣ - العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب
آيات الظهار في مفتتح سورة المجادلة سببها أن أوس بن الصامت ظاهر من
زوجته خولة بنت ثعلبة والحكم الذي تضمنته هذه الآيات خاص بهما وحدهما على هذا
الرأي، أما غيرهما فيعلم بدليل آخر قياساً، وبدهي أنه لا يمكن معرفة المقصود بهذا
الحكم والقياس عليه إلا إذا علم السبب، وبدون معرفة السبب تصير الآيات معطلة
خالية الفائدة.
سادسا: - المحكم والمتشابه في القرآن الكريم
المحكم لغة: الحاء والكاف والميم أصل واحد, وهو "المنع" [١]، و
"المحكم" : ما لا يعرض فيه شبهة من حيث اللفظ، ولا من حيث المعنى "[٢]."
قال
ابن منظور: "فالمحكم من أصل حكم والمُحْكَمُ الذي لا اختلاف فيه ولا اضطراب،
أُحْكِمَ فهو مُحْكَمٌ" [٣].
قال الفيروز آبادي: "وسُورَةٌ
مُحْكَمَةٌ: غَيْرُ مَنْسوخَةٍ، والآياتُ المُحْكَماتُ مثل قوله تعالى: {قُلْ
تَعَالوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ} [الأنعام /١٥١.] ، إلى آخِرِ الآية، أو
التي أُحْكِمَتْ فلا يَحْتاجُ سامِعُها إلى تأوِيلِها لِبيانِها، كأَقاصِيصِ
الأَنْبِياءِ" [٤].
قال الزركشي: فأما (المحكم) ، فأصله لغة: المنع،
تقول: أحكمت بمعنى رددت، والحاكم لمنعه الظالم من الظلم، حكمة اللجام هي التي
تمنع الفرس من الاضطراب [٥].
وعليه، فالمحكم هو ما كان ذا دلالة
واضحة، بحيث لا يحتمل وجوهاً من المعاني.
المعنى الاصطلاحي: ذُكِرَت
للمحكم تحديدات عدّة، منها [٦]:
١ - ما أنبأ لفظه عن معناه من غير أن
ينضم إليه أمر لفظ يبيّن معناه, سواء أكان اللفظ لغوياً أم عرفياً، ولا يحتاج إلى
ضرب من ضروب التأويل.
٢ - المحكم: ما استقلّ بنفسه، ولم يفتقر إلى
غيره.
٣ - المحكمات: هي آيات واضحة المُراد، لا اختلاف فيها ولا
اضطراب.
قال ابن عباس: "قرأت المحكم على عهد رسول الله -صلى الله عليه
وسلم-" [٧]، يريد المفصل من القرآن لأنه لم ينسخ منه شيء.
(١) معجم
مقاييس اللغة، ابن فارس، ج ٢، مادّة "حكم" ، ص ٩١.
(٢) مفردات ألفاظ
القرأن، راغب الأصفهاني، مادّة "حكم" ، ص ٢٥١.
(٣) لسان العرب: (حكم)
: ٢/ ٩٥٢.
(٤) القاموس المحيط (الحكم) .
(٥) البرهان في
علوم القرآن، الزركشي: ٢/ ٦٨ وانظر: مناهل العرفان - الزرقاني: ٢/ ١٦٦
(٦)
انظر: البرهان في علوم القرآن، الزركشي: ٢/ ٦٨، ومناهل العرفان، الزرقاني: ٢/
١٦٦، والإتقان في علوم القرآن، السيوطي: ٢/ ٦، ولسان العرب ١٢/ ١٤١.
(٧)
أخرجه البخاري بسنده عن سعيد بن جبير قال: وقال ابن عباس: (ثم توفي رسول الله S
وأنا بن عشر سنين وقد قرأت المحكم) (٤٧٤٨) ٤/ ١٩٢٢.
والمتشابه لغة:
"الشين والباء والهاء أصل واحد يدلّ على تشابه الشيء وتشاكله لوناً ووصفاً ...
والمشبّهات من الأمور المشكلات، واشتبه الأمران إذا أشكلا" [١].
والْمُتَشَابِه
من القرآن: "ما أُشكِلَ تفسيره لمشابهته بغيره, إمّا من حيث اللَّفظ، وإمّا من
حيث المعنى" [٢].
قال الفيروز آبادي: "والمُشْتَبِهَات من الأُمور:
المُشْكِلاتُ: والمُتشابِهَاتُ: المُتَماثِلات، وأُمورٌ مُشْتَبِهَةٌ
ومُشَبَّهَةٌ، كَمُعْظَّمَةٍ: مُشْكِلَةٌ. والشُّبْهَةُ، بالضم: الالْتَبِاس،
والمِثْلُ. وشُبِّهَ عليه الأَمْرُ تَشْبيهاً: لُبِّسَ عليه" [٣].
قال
ابن منظور: "وشَبَّهَ عليه: خَلَّطَ عليه الأَمر حتى اشْتَبَه بغيره" [٤].
قال
الخليل: "والشبه ضرب من النحاس، يلقى عليه دواء فيصفر، وسمي شبها لأنه شبه
بالذهب، وفي فلان شبة من فلان أي شبيهه، وتقول: شبهت هذا بهذا، وأشبه فلان فلانا،
وأشبه الشيء الشيء ماثله، والمشبهات من الأمور المشكلات، تشابه الشيئان أشبه كل
منهما الآخر حتى التبسا، وشبه فلان علي إذا خلط، واشتبه الأمر" [٥].
قال
الزركشي: "أما المتشابه فأصله أن يشتبه اللفظ في الظاهر مع اختلاف المعاني، ويقال
للغامض متشابه لأن جهة الشبه فيه، والمتشابه مثل المشكل لأنه أشكل ودخل في شكل
غير شكله" [٦].
المعنى الاصطلاحي: ذُكِرَت للمتشابه تحديدات عدّة،
منها [٧]:
١ - ما كان المراد به لا يُعرَف بظاهره، بل يحتاج إلى دليل,
وهو ما كان محتملاً لأمور كثيرة أو أمرين، ولا يجوز أن يكون الجميع مراداً, فإنّه
من باب المتشابه.
٢ - المتشابه: ما لا يستقلّ بنفسه إلا بردّه إلى
غيره.
٣ - الآيات المتشابهة: هي آيات ظاهرها ليس مُراداً، ومُرادها
الواقعي الذي هو تأويلها لا يعلمه إلا الله والراسخون في العلم، ويجب الإيمان
بها، والتوقّف عن اتّباعها، والامتناع عن العمل بها ... والآيات المتشابهة منجهة
المدلول والمُراد ترجع للآيات المحكمة، وبمعرفة المحكمات يُعرَف معناها الواقعي
... فالمتشابه هو الآية التي لا استقلال لها في إفادة مدلولها، ويظهر بواسطة
الردّ إلى المحكمات، لا أنّه ما لا سبيل إلى فهم مدلوله.
(١) معجم
مقاييس اللغة، م. س، ج ٣، مادّة "شبه" ، ص ٢٤٣.
(٢) مفردات ألفاظ
القرآن، م. س، مادّة "شبه" ، ص ٤٤٣.
(٣) القاموس المحيط (ش)
(الشِّبْهُ) .
(٤) لسان العرب (شبه) : ٤/ ٢١٩٠.
(٥) كتاب
العين، الفراهيدي: أبو عبد الرحمن الخليل بن أحمد، تحقيق د. مهدي المخزومي ود.
إبراهيم السامرائي، نشر دار ومكتبة الهلال ٣/ ٤٠٤، والمعجم الوسيط، مجمع اللغة
العربية، نشر دار المعارف، ط ٣، ١/ ٤٩٠.
(٦) البرهان، الزركشي: ٢/
٦٩.
(٧) انظر: البرهان في علوم القرآن، ج ٢، ص ٦٩ - ٧١, الإتقان في
علوم القرآن، ج ٢، ص ٥ - ٧، مناهل العرفان في علوم القرآن، ج ٢، ص ٢١٥ - ٢١٩.
ورد
في كتاب النهاية في غريب الحديث والأثر بأن المُتَشَابه: ما لم يُتَلَقَّ معناه
من لَفْظِه، وهو على ضربين: أحدُهُما إذا رُدَّ إلى المُحْكَم عُرِف معناه،
والآخر ما لا سبيل إلى معرفة حقيقته. فالمُتَتَبِّع له مُبْتَغ لِلْفتنَة، لأنه
لا يكادُ ينتهي إلى شيءٍ تسكن نَفْسُه إليه "[١]."
وفي حديث حذيفة
[٢]: وذكر فتنةً فقال: "تُشَبِّهُ مُقْبِلَةً وتُبَيِّنُ مُدْبِرَةً" [٣]، قال
شمر [٤]: "معناه أَنَّ الفتنة إِذا أَقْبلت شَبَّهَتْ على القوم وأَرَتْهُم أنهم
على الحق حتى يدخلوا فيها ويَرْكَبُوا منها ما لا يحل، فإِذا أَدْبرت وانقضت بانَ
أَمرها، فعَلِمَ مَنْ دخل فيها إِنه كان على الخطأ" [٥].
وقد اختلف
العلماء في وجود المتشابهات في القرآن الكريم، وفيه قولان:
أحدهما:
أنه لا وجود للمتشابهات في القرآن، لأن القرآن كتاب هداية عامّة لكلّ الناس.
ودليهم
قوله تعالى: {هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ} [آل
عمران: ١٣٨] ، وقال تعالى: {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ
مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} [هود: ١] ، فلا وجود فيه لآيٍ متشابهة بالذات،
وأمّا التعبير بالتشابه في آيِ القرآن, فهو بمعنى التشابه بالنسبة إلى أُولئك
الزائغين الذين يحاولون تحريف الكلِم عن مواضعه.
والثاني: القول بوجود
المتشابهات في القرآن: إذ يشتمل القرآن الكريم على آيات متشابهات, كما هو مشتمل
على آيات محكَمات، لقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ
مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} [آل
عمران: ٧] ، فيشتمل على تقسيم آيات القرآن إلى المحكم والمتشابه.
والراجح
هو القول الثاني، إذ أن المراد بالإحكام في قوله: {مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ
هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} [آل عمران: ٧] ، غير الإحكام
الذي وُصِفَ به جميع الكتاب في قوله تعالى: {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ
ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} [هود: ١] ، وكذا المراد بالتشابه
فيه غير التشابه الذي وُصِفَ به جميع الكتاب في قوله تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ
أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا} [الزمر: ٢٣] . والله أعلم.
سابعا- الناسخ والمنسوخ في القرآن الكريم
يعد الناسخ والمنسوخ في القرآن من المسائل التي كثر فيها الجدل بين
المؤيدين والمعارضين، فيعرض البحث تعريف هذا الفن ومنشأه وأدلة القائلين به
وأنواعه وشروطه.
ويتناول البحث حجج المعارضين التي تدحض النسخ أساسا
وشكلا ثم يعرض بعض القضايا التي ذُكرت في الآيات الشريفة وادعى البعض أنها
منسوخة. ويتم تفنيدها من خلال حجج معارضي النسخ ويتبين أن كل قضية من تلك القضايا
يمكن معالجتها علي حدة وان كل آية شريفة تعبر عن قضية مختلفة أو أنها متناسجة مع
بعضها البعض. يستتبع ذلك تأمل في دلالات نسخ الآية بما يتعلق بقضية تطور الإنسان
عندما يقرأ الإنسان آيات الله في الأفاق وفي نفسه. وبقدر صدق الإنسان في قراءته
لآيات الله، يكتب بالله في نسخة كتابه ويثبت الفعل الحسن ويمحو منها السيئ ليأخذ
كتابه بيمينه فيكون بذلك آية ومثل أفضل من قديمه. إن نسخ الآية لجديد أفضل هو
تعبير عما هو أفضل للإنسان فلا ينبغي التشبث بالألفاظ ونسيان ما فيها من دلالات.
ويعرض الباحث رؤيته في تلك القضايا التي تتعلق بما يجب أن يكون عليه الإنسان.
فجميع القضايا المذكورة في القرآن ليست بمنأى عن الإنسان فجميعها وجوه للحقيقة
لتشخص للإنسان داءه وتصف دواءه فمن أحصى منها شيئاً ارتقى.
(١)
النهاية في غريب الحديث والأثر (شبه) . ٢/ ٤٤٢
(٢) حذيفة بن اليَمان
حليف الأنصار، صحابي جليل من السابقين. أنظر: تقريب التهذيب ١/ ١٥٤
(٣)
وتمامه عن حذيفة قال: (إياك والفتن لا يشخص لها أحد فوالله ما شخص منها أحد إلا
نسفته كما ينسف السيل الدمن، إنها مشبهة مقبلة حتى يقول الجاهل هذه تشبه مقبلة
وتتبين مدبرة، فإذا رأيتموها فاجتمعوا في بيوتكم واكسروا سيوفكم وقطعوا أوتاركم
وغطوا وجوهكم) قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. المستدرك على
الصحيحين، ٤/ ٤٩٥.
(٤) لعله شِمْرُ بنُ عَطِيَّة الأسَدِي الكَاهِلِي
الكُوْفِي. وقال النَّسائي: ثقة. وذكره ابنُ حِبَّان في كتاب «الثِّقات». تهذيب
الكمال - المزي ترجمة (٣١٠١) قال ابن حجر: صدوق، من السادسة. تقريب التهذيب: ١/
٢٦٨.
(٥) أنظر: غريب الحديث (حكم) . ١/ ٤١٩.
لقد اهتم
المفسرون، وعلماء القرآن منذ القدم بالناسخ والمنسوخ حتى ألًفوا في ذلك مصنفات
كثيرة منهم أبو عبيد القاسم بن سلام، وأبو داود السجستاني، وأبو جعفر النحاس،
وابن الأنبا ري، ومكي بن أبي طالب القيسي، وابن العربي وآخرون [١].
وقيل
أن بدء التدوين فيه يرجع إلى القرن الثاني الهجري، وكتب فيه: أبو محمد عبد الله
بن عبد الرحمن الأصمعي، ، وكان الصحابة وعلى رأسهم الإمام علي (عليه السلام) يرون
أن معرفة الناسخ والمنسوخ شرطا في أهلية المفسر للتفسير والمحدث للحديث.
قال
الأئمة: "ولا يجوز لأحد أن يفسر كتاب الله إلا بعد أن يعرف منه الناسخ والمنسوخ،
وقد قال علي بن أبي طالب لقاص: أتعرف الناسخ والمنسوخ؟ قال: الله أعلم، قال هلكت
وأهلكت" [٢].
وللمفسرين في الآيات المنسوخة آراء مختلفة تداخلت مع
غيرها واشتبهت على كثير منهم. فظن بعض منهم أنه نسخ، ولو تمعنوا جيدا لوجدوها أنه
ليس بنسخ، قال الزركشي: "إنما نسأ وتأخير، أو مجمل أُخِر بيان لوقت الحاجة، أو
خطاب قد حال بينه وبين أوَله خطاب آخر غيره، أو مخصوص من عموم، أو حكم عام لخاص،
أو لمداخلة معنى في معنى، وأنواع الخطاب كثيرة فظنوا ذلك نسخا وليس به ..."
[٣].
وللناسخ والمنسوخ الدور الكبير في استنباط الأحكام الشرعية، إذ
به يعرف الحكم الثابت الباقي الذي يعمل به عن الحكم الزائل المتروك.
تعريف
النسخ
النسخ لغة: رفع شيء وإثبات غيره مكانه، أو تحويل شيء إلى غيره،
ومنه نسخ الكتاب ومنه: أمر كان يعمل به من قبل ثم ينسخ بحادث غيره ٠٠ وكل شيء خلف
شيئا فقد انتسخه، فيقال: انتسخت الشمس الظل، والشيب الشباب ٠٠ ومنه نسخ الكتاب
[٤].
وقيل النسخ في اللغة يطلق على معنيين [٥]:
الأول:
بمعنى الإزالة ومنه قوله تعالى {فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ
ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آَيَاتِهِ} (الحج: ٥٢) ، تقول العرب: نسخت الشمس الظل، أي
أزالته حلت محله.
والثاني: نقل الشيء من كان إلى مكان دون تغير، ومنه
نسخ الكتاب أي تكتب كتابا عن كتاب حرفا بحرف وكلمة بكلمة.
وبمعنى
التبديل، ومنه قوله تعالى {وَإِذَا بَدَّلْنَا آَيَةً مَكَانَ آَيَةٍ} [النحل:
١٠١] .
وبمعنى التحويل، كتناسخ المواريث، بمعنى تحويل الميراث من واحد
إلى واحد.
وبمعنى النقل من موضع إلى موضع، ومنه نسخت الكتاب، إذ نقلت
ما فيه حاكيا للفظه وخطه [٦].
والنسخ في الشرع (الاصطلاح) : - أجمع
العلماء والمفسرون وكل من بحث في علوم القرآن أنً اختصاص النسخ في العلوم
القرآنية هو إبطال حكم آية قرآنية بآية قرآنية أخرى.
فقيل النسخ في
الشرع: "إزالة ما كان ثابتا بنص شرعي، سواء عمل به أم لم يعمل به" [٧].
وعرفه
الراغب بأنه: "إزالة مثل الحكم الثابت بالشرع بشرع آخر مع التراخي" [٨].
وهناك
تعريف للنسخ في اصطلاح الشريعة جامع مانع وكل التعاريف التي قيلت تنصب فيه هو
"رفع الحكم الشرعي بدليل شرعي متأخر عنه" [٩].
وهذا المعنى الشرعي
يتصل بالمعنى اللغوي الأول للنسخ [١٠].
أهمية النسخ في التفسير
من أساسات علوم التفسير علم الناسخ والمنسوخ وهو من العلوم التي لا
يقوم إلا بها وكذلك لا يمكن معرفة الأحكام الشرعية المستنبطة وتفسير تعارض النصوص
إلا بمعرفته، ولذلك أفرد له علماء أصول التفسير وعلماء أصول الفقه مصنفات قديما
وحديثا.
قال القرطبي: "معرفة هذا الباب أكيدة، وفائدته كبيرة، لا
يستغنى عنه معرفته العلماء ولا ينكره إلا الجهلة أنصاف المتعلمين، لما يترتب عليه
من النوازل في الأحكام ومعرفة الحلال والحرام روى البختري قال: دخل علي رضي الله
عنه المسجد، فإذا رجل يخوف الناس، قال: ما هذا؟ قالوا: رجل يذكر الناس. فقال: ليس
برجل يذكر الناس، لكنه يقول: أنا فلان بن فلان اعرفوني. فأرسل إليه فقال: أتعرف
الناسخ من المنسوخ؟ فقال: لا، قال: فاخرج من مسجدنا ولا تذكر فيه، وفي رواية:
أعلمت الناسخ والمنسوخ؟ قال: لا، قال: هلكت وأهلكت. ومثله عن ابن عباس رضي الله
عنهما" [١١].
اهتم العلماء والمفسرون والباحثون منذ القدم بموضع
الناسخ والمنسوخ، وهي من الأمور التي يسر الله تعالى بها على المؤمنين وقت تنزيل
القرآن في تطبيق الأحكام والوقوف على الناسخ والمنسوخ في القرآن الكريم من الأمور
الواجب معرفتها عند كل من يريد أن
(١) انظر: الإتقان / السيوطي / ٣/
٥١.
(٢) البرهان / الزركشي / ٢/ ٣٤.
(٣) المصدر نفسه:
والصحيفة نفسها.
(٤) معجم مقاييس اللغة، مادة نسخ.
(٥)
لسان العرب، ابن منظور: مادة (نسخ.٩
(٦) الإتقان: ٣/ ٥١.
(٧)
المصباح المنير، أحمد بن محمد الفيومي، مادة (نسخ) ص ٦٠٢.
(٨) مقدمة
جامع التفاسير، الراغب: ص ٨٢.
(٩) انظر: النسخ في القرآن، مصطفى زيد:
١/ ١٠٥ ظ، الإحكام في أصول الأحكام/ الآمدي ٣/ ٩٨، الوجيز في أصول الفقه، عبد
الكريم زيدان ص ٩٣٢.
(١٠) الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه، مكي ابن أبي
طالب: ص ٤٣.
(١١) الجامع لأحكام القرآن، القرطبي: ٢/ ٦٢.
يتصدى
للتفسير القرآني، إذ يدخل في تحديد المراد من النصوص القرآنية وهذا ما أكده
العلماء وقالوا "لا يجوز لأحد أن يفسر كتاب الله إلا بعد أن يعرف من الناسخ
والمنسوخ وقد رويت كثير من الأخبار عن الصحابة" [١].
ومن الكثيرين
الذين بحثوا في الناسخ والمنسوخ أكدوا على أهمية هذا العلم في فهم مراد الله
تعالى من نصوص القرآن الكريم وهو يعد علما من الواجب على العالم معرفته حتى يكون
بحثه في هذا العلم رصينا وموافقا لما أمر به سبحانه وتعالى.
يقول مكي
بن أبي طالب بهذا الخصوص: "وأن من أكد ما عني أهل العلم والقرآن بفهمه، وحفظه
والنظر فيه من علوم القرآن وسارعوا إلى البحث عن فهمه وعلم أصوله، علم ناسخ
القرآن ومنسوخه فهو علم لا يسع كل من تعلق بأدنى علم من علوم الديانة جهله"
[٢].
وللنسخ أهمية كبيرة في مجال العرض على القرآن الكريم فمع ثبوت
النسخ في بعض من الآيات القرآنية لا يمكن الرجوع إليها في تفسير الآيات الكريمة
الأخرى.
فالزركشي يقول في هذا الشأن: "إن العلم بالناسخ والمنسوخ عظيم
الشأن وقد صنف به جماعة كثيرون" [٣].
وقال الزرقاني: "أنه طويل الذيل،
كثير التفاريع، متشعب المسالك .. المسائل التي يتناوله دقيقة، إذن على الباحث
الذي يتناول النسخ أن يكون يقضا ودقيقا وأن يتصف بحسن الاختيار .. والنسخ يكشف
النقاب عن مسيرة التشريع الإسلامي، ويصبح الإنسان مطلعا على حكمة الله تعالى في
تربيته للخلق وسياسته للبشر وابتلائه للناس وهذا ما يدل باليقين والتواتر على أن
الرسالة الإسلامية هي من الله تعالى العزيز الحكيم .... إن معرفة الناسخ والمنسوخ
يعد ركنا مهما وعظيما في فهم الإسلام، وفي الاهتداء إلى صحيح الإسلام" [٤].
ثامنا: - القراءات
فالقرآن الكريم، كتاب الله الخالد، ومعجزة رسوله محمد صلى الله عليه
وسلم، التى لا تفنى إلى الأبد. وهو كتاب منتظم الآيات، متعاضد الكلمات، لا نفور
فيه ولا تعارض، ولا تضاد ولا تناقض، صدق كلها أخباره، عدل كلها أحكامه، وصدق الله
إذا يقول: {أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً
كثيراً} [الأنعام: ١١٥] ، هذه الآية تنفى عن القرآن الكريم التناقض فى معانيه
ومبانيه، أما من جهة المعنى، فلا تجد آية تثبت معنى تنقضه آية سواها، ولا يَرِد
على ذلك الناسخ والمنسوخ، فإن ذلك ليس من التناقض ولا من الاختلاف فى شئ، لأن
النسخ رفع لحكم، وإثبات لآخر، فالباقى إذن حكم واحد هو المحصلة النهائية، فليس
ثمت ما يعارضه، ولا يرد على ذلك أيضاً موهم الاختلاف، فإنه متناقض فى نظر من لا
نظر له، لكن عند التدبر يتم التوفيق والالتئام، ولا يرد على ذلك أيضاً الاختلاف
بين قراءاته، فهو اختلاف تلازم وتنوع، وليس اختلاف تضاد وتناقض، ولذلك فإن القراء
لم يعترض بعضهم على بعض، فالكل صحيح ما دام مستوفياً لشروطه، كما سيأتى ذلك فى
محله إن شاء الله تعالى، ولا يرد على ذلك الاختلاف حول تفسيره، أو وجوه إعرابه،
أو معانى لغاته، لأن ذلك ليس اختلاف
(١) انظر: فهم القرآن، الحارث
المحاسبي ص ٣٢٧ ظ، الناسخ والمنسوخ النحاس ص ٥٠٤ ظ، تلخيص التمهيد/ محمد هادي
معرفة: ١/ ٤١٧.
(٢) الإيضاح، مكي طالب: ٤٥ ـ ٤٦.
(٣)
البرهان / الزركشي/ ٢/ ٣٣.
(٤) مناهل العرفان في تفسير القرآن / الزر
قاني ٢/ ٦٩ ـ ٧٠.
فى القرآن، بل هو اختلاف فى كلام البشر عن القرآن،
والفرق بين القرآن والتفسير، تماماً كالفرق بين الخالق والمخلوق [١].
وقد
سئل الإمام الغزالى عن معنى قوله تعالى: (ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه
اختلافاً كثيراً) فأجاب بما صورته: الاختلاف لفظ مشترك بين معان، وليس المراد نفى
اختلاف والناس فيه، بل نفى الاختلاف عن ذات القرآن. يقال هذا كلام مختلف فيه، أى:
لا يشبه أوله آخره فى الفصاحة، إذ هو مختلف، أى: بعضه يدعو إلى الدين، وبعضه يدعو
إلى الدنيا، أو هو مختلف النظم فبعضه على وزن الشعر، وبعضه منزحف، وبعضه على
أسلوب مخصوص فى الجزالة، وبعضه على أسلوب يخالفه، وكلام الله منزه عن هذه
الاختلافات، فإنه على منهاج واحد فى النظم مناسب أوله آخره، وعلى مرتبة واحدة فى
غاية الفصاحة، فليس يشتمل على الغث والسمين، ومسوق لمعنى واحد، وهو دعوة الخلق
إلى الله تعالى، وصرفهم عن الدنيا إلى الدين [٢].
وقريب من هذا ما نقل
عن ابن مسعود رضى الله عنه: "لا تنازعوا فى القرآن فإنه لا يختلف ولا يتلاشى، ولا
ينفد لكثرة الرد، وإنه شريعة الإسلام وحدوده وفرائضه، ولو كان شئ من الحرفين -أى
القراءتين - ينهى عن شئ يأمر به الآخر، كان ذلك الاختلاف، ولكنه جامع ذلك كله لا
تختلف فيه الحدود ولا الفرائض، ولا شئ من شرائع الإسلام ولقد رأيتنا نتنازع عند
رسول - صلى الله عليه وسلم -، فيأمرنا فنقرأ فيخبرنا أن كلنا محسن ... .."
[٣].
ومن الأسباب التى كانت وراء هذه الآراء الكثيرة المتناثرة فى كتب
التفسير، ولاسيّما المعنيّ منها بالتفسير المأثور والسبب المختار هو "اختلاف
القراءات" إذ أن اختلاف القراءات كان سبباً فى اختلاف المفسرين حول بيان المعنى
المقصود من النص القرآنى، وعليه قام العلماء بوضع ضوابط وقواعد كلية تساعد على
حسم هذا الخلاف، والوصول إلى المعنى الراجح.
القراءات لغة واصطلاحا
القراءات: جمع قراءة، والقراءة فى اللغة مصدر قرأ، وفى الاصطلاح:
مذهب من مذاهب النطق فى القرآن، يذهب إليه إمام من الأئمة مخالفاً به غيره، سواء
أكانت هذه المخالفة فى نطق الحروف، أو فى نطق هيئاتها [٤].
وعلم
القراءات: هو علم يعرف به كيفية النطق بالكلمات القرآنية، وطريق أدائها اتفاقاً
واختلافاً، مع عزو كل وجه لناقله. فموضوع علم القراءات إذن، كلمات القرآن الكريم
من حيث أحوال النطق بها، وكيفية أدائها [٥].
نشأة القراءات
إن الزمن الذى نشأت فيه القراءات القرآنية، هو زمن نزول القرآن
الكريم نفسه، ضرورة أن هذه القراءات، قرآن نزل من عند الله فلم تكن من اجتهاد
أحد، بل هى وحى أوحاه الله تعالى إلى نبيه صلى الله عليه وسلم، وقد نقلها عنه
أصحابه الكرام - رضى الله عنهم - حتى وصلت إلى الأئمة القراء، فوضعوا أصولها،
وقعدوا قواعدها، فى ضوء ما وصل إليهم، منقولاً عن النبى -صلى الله عليه وسلم -
وعلى ذلك، فالمعول عليه فى القراءات، إنما هو التلقى بطريق التواتر، جمع عن جمع
يؤمن عدم تواطؤهم على الكذب، وصولاً إلى النبى صلى الله عليه وسلم. أو التلقى عن
طريق نقل الثقة عن الثقة وصولاً كذلك إلى النبى صلى الله عليه وسلم، ويضاف إلى
هذا القيد قيدان آخران سيذكران فى محلهما عند الحديث عن شروط القراءة الصحيحة، أو
ضوابط قبول القراءة.
وانطلاقاً من ذلك وبناءً عليه، فإن إضافة هذه
القراءات إلى أفراد معينين، هم القراء الذين قرأوا بها، ليس لأنهم هم الذين
أنشأوها أو اجتهدوا فى تأليفها، بل هم حلقة فى سلسلة من الرجال الثقات الذين رووا
هذه الروايات ونقلوها عن أسلافهم، انتهاءً بالنبى صلى الله عليه وسلم، الذى تلقى
هذه القراءات وحياً عن ربه - جل وعلا. وإنما نسبت القراءات إلى القراء لأنهم هم
الذين اعتنوا بها وضبطوها ووضعوا لها القواعد والأصول.
أما سبب اختلاف
القراءات، ذلك أن الصحابة - رضى الله عنهم - كانوا من قبائل عديدة، وأماكن
مختلفة، وكما هو معروف أنه كما تختلف العادات والطباع باختلاف البيئات، فهكذا
اللغة أيضاً، إذ تنفرد كل بيئة ببعض الألفاظ التى قد لا تتوارد على لهجات بيئات
أخرى، مع أن هذه البيئات جميعها تنضوى داخل إطار لغة واحدة، وهكذا كان الأمر،
الصحابة عرب خلص بيد أن اختلاف قبائلهم ومواطنهم أدى إلى انفراد كل قبيلة ببعض
الألفاظ التى قد لا تعرفها القبائل الأخرى مع أن الجميع عرب، والقرآن الكريم جاء
يخاطب الجميع، لذلك راعى القرآن الكريم هذا الأمر، فجاءت قراءاته المتعددة موائمة
لمجموع من يتلقون القرآن، فالتيسير على الأمة، والتهوين عليها هو السبب فى تعدد
القراءات.
- والأحاديث المتواترة الواردة حول نزول القرآن على سبعة أحرف تدل على
ذلك:
- جاء فى الصحيحين: عن ابن عباس رضى الله عنهما - أن رسول الله -
صلى الله عليه وسلم - قال: "أقرأنى جبريل على حرف فراجعته، فلم أزل أستزيده
ويزيدنى حتى انتهى إلى سبعة أحرف" [٦]، وزاد مسلم: "قال ابن شهاب: بلغنى أن تلك
السبعة فى الأمر الذى يكون واحداً لا يختلف فى حلال ولا حرام" [٧].
-
وأخرج مسلم بسنده عن أبى بن كعب، أن النبى - صلى الله عليه وسلم - كان عند أَضَاة
بنى غفار [٨] قال: "فأتاه جبريل - عليه السلام - فقال: إن الله يأمرك أن تقرأ
أمتك القرآن على حرف، فقال: أسأل الله معافاته ومغفرته، وإن أمتى لا تطيق ذلك، ثم
أتاه الثانية فقال: إن الله يأمرك أن تقرأ أمتك القرآن على حرفين، فقال: أسأل
الله معافاته ومغفرته، وإن أمتى لا تطيق ذلك، ثم جاء الثالثة فقال: إن الله يأمرك
أن تقرأ أمتك القرآن على ثلاثة أحرف، فقال: أسأل الله"
(١) بين
القراءات والتفسيرتأصيل وتطبيق، أ ٠ د/أحمد سعد الخطيب، أستاذ التفسير وعلوم
القرآن بجامعة الأزهر (بحث منشور بتصرف بسيط) .
(٢) انظر: البرهان فى
علوم القرآن ١/ ٤٦، معترك الأقران ١/ ٩
(٣) أخرجه الطبري (١٨) : ص ١/
٢٨. إسناده ضعيف جدا.
(٤) المهذب فى القراءات العشر ١/ ٦
(٥)
المهذب فى القراءات العشر: ١/ ٦
(٦) انظر صحيح البخارى، كتاب فضائل
القرآن، باب أنزل القرآن على سبعة أحرف
(٧) انظر: صحيح مسلم، كتاب
صلاة المسفرين، باب بيان أن القرآن أنزل على سبعة أحرف
(٨) مستنقع ماء
كالغدير، كان بموضع بالمدينة نزل عنده بنو غفار فنسب إليهم
معافاته
ومغفرته، وإن أمتى لا تطيق ذلك، ثم جاءه الرابعة فقال: إن الله يأمرك أن تقرأ
أمتك القرآن على سبعة أحرف. فأيما حرف قرأوا عليه فقد أصابوا "[١]."
والأحاديث
الواردة فى هذا المقام كثيرة، لكنى أكتفى بما ذكرت، والمزيد فى مظانه، ويؤخذ من
ذلك ما يلى:
١ - إن الأحرف السبعة جميعها قرآن نزل من عند الله، لا
مجال للاجتهاد فيها.
٢ - أن السبب فى هذه التوسعة هو التهوين على
الأمة، والتيسير عليها فى قراءة القرآن الكريم.
أقسام القراءات وبيان ما يقبل منها ومالا يقبل
نقل السيوطى عن ابن الجرزى أن أنواع القراءات ستة:
الأول:
المتواتر: وهو ما نقله جمع لا يمكن تواطؤهم على الكذب، عن مثلهم إلى منتهاه، حتى
يبلغوا به النبى - صلى الله عليه وسلم -، ومثاله ما اتفقت الطرق على نقله عن
السبعة - أو غيرهم - وهذا هو الغالب فى القراءات.
الثانى: المشهور:
وهو ما صح سنده بأن رواه العدل الضابط عن مثله، وهكذا ووافق العربية ولو بوجه،
ووافق رسم المصحف العثمانى، واشتهر عند القراء فلم يعدوه من الغلط ولا من الشذوذ،
إلا أنه لم يبلغ درجة المتواتر. ومثاله ما اختلفت الطرق فى نقله عن السبعة، فرواه
بعض الرواة عنهم دون بعض، وقد ذكر كثيراً من هذا النوع الدانى فى التيسير
والشاطبى فى الشاطبية، وغيرهما. وهذان النوعان، هما اللذان يقرأ بهما، مع وجوب
اعتقادهما ولا يجوز إنكار شئ منهما.
الثالث: ما صح سنده، وخالف الرسم
أو العربية، أو لم يشتهر الاشتهار المذكور، وهذا النوع لا يقرأ به ولا يجب
اعتقاده، ومثاله قراءة (متكئين على رفارف خضر وعباقرى حسان) وقراءة (لقد جاءكم
رسول من أنفَسِكم) بفتح الفاء.
الرابع: الشاذ، وهو ما لم يصح سنده،
قراءة ابن السَّميفع (فاليوم ننحيك ببدنك) بالحاء المهملة (لتكون لمن خَلَفك آية)
بفتح اللام من كلمة (خَلَفك) .
الخامس: الموضوع، وهو ما نسب إلى قائله
من غير أصل، مثل القراءات التى جمعها محمد بن جعفر الخزاعى، ونسبها إلى أبى
حنيفة.
السادس: ما يشبه المدرج من أنواع الحديث، وهو ما زيد فى
القراءات على وجه التفسير، كقراءة سعد بن أبى وقاص (وله أخ أو أخت من أم) بزيادة
لفظ (من أم) .
قال ابن الجزرى: "وربما كانوا يدخلون التفسير فى
القراءات إيضاحاً وبياناً، لأنهم محققون لما تلقوه عن النبى - صلى الله عليه وسلم
- قرآناً، فهم آمنون من الالتباس، وربما كان بعضهم يكتبه معه" [٢].
ومن
خلال هذا النقل خلصنا إلى أن النوعين الأولين هما اللذان يقرأ بهما وأما غيرهما،
فلا. والنوع الأول، وهو المتواتر مقطوع بقرآنيته بلا نزاع. وأما النوع الثانى وهو
المشهور
(١) انظر صحيح مسلم، كتاب صلاة المسافرين، باب بيان أن القرآن
على سبعة أحرف
(٢) انظر الإتقان ١/ ٧٩، مناهل العرفان ١/ ٤٢٩، وما
بعدها
الذى اتفقت فيه الضوابط الثلاثة المذكورة، وهى صحة السند،
وموافقة اللغة العربية ولو بوجه، وموافقة الرسم العثمانى ولو احتمالاً، أقول:
هذا
النوع لم يوافق عليه بعض العلماء، بل اشترطوا التواتر دون صحة السند - أى لم
يكتفوا بصحة السند- جاء فى الإتقان تعليقاً على ذلك.
وهذا مما لا يخفى
ما فيه، فإن التواتر إذا ثبت، لا يحتاج فيه إلى الركنين الأخيرين من العربية
والرسم، إذ ما ثبت من أحرف الخلاف متواتراً عن النبى - صلى الله عليه وسلم - وجب
قبوله والقطع بكونه قرآناً سواء وافق الرسم أو لا. ا. هـ [١]
ومن ثم
قال بعض العلماء تعليقاً على هذا الرأى فى محاولة لتقريب وجهة النظر حول قبول هذه
القراءة، أو عدم قبولها، قال: إن هذا القسم - يعنى الذى استجمع الأركان الثلاثة
المذكورة - يتنوع إلى نوعين:
الأول: ضرب أو نوع، استفاض نقله وتلقته
الأمة بالقبول، وهو يلحق بالمتواتر من حيث قبوله والعمل بمقتضاه، لأنه وإن كان من
قبيل الآحاد إلا أنه احتفت به قرائن جعلته يفيد العلم لا الظن.
قال
صاحب المناهل: إن ركن الصحة فى ضابط القرآن المشهور، لا يراد بالصحة فيه مطلق
صحة، بل المراد صحة ممتازة، تصل بالقراءة إلى حد الاستفاضة والشهرة، وتلقى الأمة
لها بالقبول حتى يكون هذا الركن بقرينة الركنين الآخرين فى قوة التواتر الذى لابد
منه فى تحقق القرآنية [٢].
والنوع الثانى: وهو ما لم تتلقه الأمة
بالقبول ولم يستفض، وهذا فيه خلاف بين العلماء، من حيث قبوله، والقراءة به، أو
عدم ذلك والأكثرون على قبوله [٣].
أوجه الاختلاف بين القراءات
الثابتة
سبق أن علمنا بأن القراءات مرجعها النقل الثابت عن النبى -صلى
الله عليه وسلم - ولذلك، لم يكن الاختلاف بينها على سبيل التضاد فى المعانى، بل
القراءة إما مؤكدة لغيرها، أو موضحة، أو مضيفة إليها معنى جديداً، فتكون كل قراءة
بالنسبة للأخرى، بمنزلة الآية مع الآية، وكما أن الاختلاف بين هذه القراءات لم
يكن على سبيل التضاد فى المعانى، فإنه كذلك لم يكن على سبيل التباين فى الألفاظ،
وقد حصر بعضهم أوجه الاختلاف بين القراءات فى الوجوه الآتية:
الأول:
الاختلاف فى شكل آخر الكلمات، أو بنيتها، مما يجعلها جميعاً فى دائرة العربية
الفصحى، بل أفصح هذه اللغة، المتسقة فى ألفاظها، وتآخى عباراتها، ورنة موسيقاها،
والتواؤم بين ألفاظها ومعانيها.
الثاني: الاختلاف فى المد فى الحروف،
من حيث الطول والقصر، وكون المد لازماً أو غير لازم، وكل ذلك مع التآخى فى النطق
فى القراءة الواحدة، فكل قراءة متناسقة فى ألفاظها من حيث البنية للكلمة، ومن حيث
طول المد أو قصره.
(١) الإتقان: ١/ ٧٨
(٢) انظر مناهل
العرفان: ١/ ٤٧٠
(٣) انظر: مناهل العرفان: ١/ ٤٦٧، الرقاءات القرآنية
- تاريخ وتعريف ص ٦٦
الثالث: الاختلاف من حيث الإمالة، أو عدمها فى
الحروف، كالوقوف بالإمالة فى التاء المربوطة، أو عدم الإمالة فيها.
الرابع:
الاختلاف من حيث النقط ومن حيث شكل البنية فى مثل قوله تعالى: (يا أيها الذين
آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا) (الحجرات: ٦) حيث قرئ متواتراً كذلك (فتثبتوا)
ومع ذلك فالقراءتان متلاقتيان فى المعنى، فالأولى طالبت بالتبين المطلق، والأخرى
بينت طريق التبين، وهو التثبت بتحرى الإثبات.
الخامس: زيادة بعض
الحروف فى قراءة، ونقصها فى أخرى، مثل قراءة ابن عامر - وهو أحد القراء السبعة-
(قالوا اتخذ الله ولدا) [البقرة: ١١٦] بدون (واو) قبل (قالوا) بينما قرأ غيره
بالواو هكذا (وقالوا اتخذ الله ولدا) (البقرة: ١١٦) ، ومثل ذلك قراءة ابن كثير -
وهو أحد القراء السبعة كذلك - (تجرى من تحتها الأنهار) بزيادة (من) بينما قرأ
غيره (تجرى تحتها الأنهار) [التوبة: ١٠٠] .
وتجدر الإشارة بأن المصاحف
العثمانية - وعددها ستة أو سبعة - أثبت فيها كل ما يحتمله الرسم بطريقة واحدة
[١]، وأما ما لا يحتمله الرسم كالزيادة والنقصان فى حالتنا هذه، فإنه كان يثبت فى
بعض المصاحف بقراءة، وفى بعضها بقراءة أخرى.
وقد قال القرطبى فى ذلك:
"وما وجد بين هؤلاء القراء السبعة من الاختلاف فى حروف يزيدها بعضهم، وينقصها
بعضهم، فذلك لأن كلاً منهم اعتمد على ما بلغه فى مصحفه ورواه، إذ كان عثمان كتب
تلك المواضع فى بعض النسخ، ولم يكتبها فى بعض، إشعاراً بأن كل ذلك صحيح، وأن
القراءة بكل منها جائزة" [٢].
فوائد اختلاف القراءات
مسألة اختلاف القراءات وتعددها، كانت ولا زالت محل اهتمام العلماء،
ومن اهتمامهم بها بحثهم عن الحكم والفوائد المترتبة عليها، وهى عديدة نذكر الآن
بعضاً منها، فأقول - وبالله التوفيق-: إن من الحكم المترتبة على اختلاف القراءات
ما يلى: -
١ - التيسير على الأمة الإسلامية، ونخص منها الأمة العربية
التى شوفهت بالقرآن، فقد نزل القرآن الكريم باللسان العربى، والعرب يومئذٍ قبائل
كثيرة، مختلفة اللهجات، فراعى القرآن الكريم ذلك، فيما تختلف فيه لهجات هذه
القبائل، فأنزل فيه - أى بين قراءاته - ما يواكب هذه القبائل -على تعددها - دفعاً
للمشقة عنهم، وبذلاً لليسر والتهوين عليهم.
٢ - الجمع بين حكمين
مختلفين مثل قوله تعالى: (فاعتزلوا النساء فى المحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن)
(البقرة: ٢٢٢) ، حيث قرئ (يطهرن) بتخفيف الطاء وتشديدها، ومجوع القراءتين يفيد أن
الحائض، لا يجوز أن يقربها زوجها إلا إذا طهرت بأمرين: أ- انقطاع الدم، ب-
الاغتسال.
٣ - الدلالة على حكمين شرعيين فى حالين مختلفين، ومثال ذلك
قوله تعالى: (فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برءوسكم وأرجلكم إلى
الكعبين) [المائدة: ٦] إذ قرئ (وأرجلكم)
(١) أعنى طريقة واحدة تجمع
القراءات الواردة فى الكلمة مثل قوله تعالى: {ملك يوم الدين} فإن كلمة {ملك} كتبت
بهذه الطريقة لتشمل قراءتى {مالك} و {ملك} وهكذا كلمة {فتبينوا} الحجرات: ٦ ٠ حيث
كتبت هكذا لتشمل قراءتى {فتثبتوا} و {فتبينوا} حيث كان الرسم خاليا من النقط
والشكل ٠ ـ
(٢) انظر: القرطبى ١/ ٤٧، كتاب المعجزة الكبرى ص ٤٨ - ٥٠
بتصرف ٠
بالنصب عطفاً على (وجوهكم) وهى تقتضى غسل الأرجل، لعطفها على
مغسول وهى الوجوه. وقرئ (وأرجِلكم) بالجر عطفاً على (رءوسكم) وهذه القراءة تقتضى
مسح الأرجل، لعطفها على ممسوح وهو الرءوس. وفى ذلك إقرار لحكم المسح على
الخفين.
٤ - دفع توهم ما ليس مراداً: ومثال ذلك قوله تعالى: (يا أيها
الذين آمنوا إذا نودى للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله) [الجمعة: ٩] ،
إذ قرئ (فامضوا إلى ذكر الله) ، وفى ذلك دفع لتوهم وجوب السرعة فى المشى إلى صلاة
الجمعة المفهوم من القراءة الأولى، حيث بينت القراءة الثانية أن المراد مجرد
الذهاب [١].
٥ - إظهار كمال الإعجاز بغاية الإيجاز، حيث إن كل قراءة
مع الأخرى بمنزلة الآية مع الآية، وذلك من دلائل الإعجاز فى القرآن الكريم، حيث
دلت كل قراءة على ما تدل عليه آية مستقلة.
٦ - اتصال سند هذه القراءات
علامة على اتصال الأمة بالسند الإلهى، فإن قراءة اللفظ الواحد بقراءات مختلفة، مع
اتحاد خطه وخلوه من النقط والشكل، إنما يتوقف على السماع والتلقى والرواية، بل
بعد نقط المصحف وشكله، لأن الألفاظ إنما نقطت وشكلت فى المصحف على وجه واحد فقط،
وباقى الأوجه متوقف على السند والرواية إلى يومنا هذا. وفى ذلك منقبة عظيمة لهذه
الأمة المحمدية بسبب إسنادها كتاب ربها، واتصال هذا السند بالسند الإلهى، فكان
ذلك تخصيصاً بالفضل لهذه الأمة [٢].
٧ - فى تعدد القراءات تعظيم لأجر
الأمة فى حفظها والعناية بجمعها ونقلها بأمانة إلى غيرهم، ونقلها بضبطها مع كمال
العناية بهذا الضبط إلى الحد الذى حاز الإعجاب [٣].
التعريف بالقراء الأربعة عشر ورواتهم
أولاً: القراء العشرة ورواتهم:
القراء جمع قارئ، اسم فاعل من قرأ، والمراد به فى اصطلاح أهل الفن:
الإمام الذى تنسب إليه قراءة [٤]، والمراد بقولنا العشرة: القراء الذين تنسب
إليهم القراءات العشر التى وصفها العلماء بأنها متواترة جميعها، وتشمل القراءات
السبع وتواترها مجمع عليه ثم الثلاث تتمة العشر، وقد حقق العلماء كونها متواترة
كما ذكر فى ثنايا هذا البحث فى غير ما موضع.
والقراء السبعة هم:
١ - ابن عامر [٥]
واسمه عبدالله بن عامر بن يزيد بن تميم بن ربيعة بن عامر بن عبدالله
اليحصبى. ولد سنة إحدى وعشرين من الهجرة وقيل سنة ثمان وعشرين منها وتوفى سنة
ثمان عشرة ومائة من الهجرة النبوية المباركة، وهو تابعى جليل لقى واثلة بن الأسقع
والنعمان بن بشير وقد أخذ
(١) انظر: مناهل العرفان ١/ ١٤٧، ١٤٨
(٢)
انظر: جواهر البين فى علوم القرآن د ٠ محمد العسال ص ٩٤ ٠
(٣) انظر:
دراسات فى علوم القرآن د ٠ محمد بكر إسماعيل
(٤) القارئ المبتدئ من
أفرد إلى ثلاث روايات، والمتوسط إلى أربع أو خمس، والمنتهى من عرف من القراءات
أكثرها واشهرها.
(٥) ترجمته فى غاية النهاية - ١/ ٤٠٤ لابن الجوزى،
معرفة القراء الكبار للذهبى - ١/ ٨٢، البحث والاستقراء فى تراجم القراء -ص ٣٠،
وأنظر أيضاً: مناهل العرفان -١/ ٤٥٦، وقد أخطأ صاحب إعراب القرآن الكريم وبيانه
٣/ ٢٤٣ فترجم له على أنه الصحابى الجليل عقبة بن عامر.
عن المغيرة بن
أبى شهاب المخزومى عن عثمان بن عفان عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم.
وقيل:
إنه قرأ على عثمان - رضى الله عنه - مباشرة بلا واسطة، وقد أخذ عنه أهل الشام
قراءته واشتهر برواية قراءته:
أ- هشام وهو أبو الوليد بن عمار بن نصير
السليمى الدمشقى. ت [٢٤٥ هـ] [١]
ب- ابن ذكوان وهو أبو محمد عبدالله
بن أحمد بن بشير بن ذكوان القرشى الدمشقى ت [٢٤٢ هـ] [٢]، ورواية هذين لقراءة ابن
عامر هى بالواسطة.
وقد قال صاحب الشاطبية فى ابن عامر وراوييه:
وأما
دمشق الشام دار ابن عامر ... فتلك بعبدالله طابت محللا
هشام وعبدالله
وهو انتسابه ... لذكوان بالإسناد عنه تنقلا
٢ - ابن كثير [٣]
هو أبو محمد أو أبو معبد عبدالله بن كثير الدارى، ولد بمكة سنة خمس
وأربعين للهجرة، وتوفى سنة عشرين ومائة. تابعى جليل وإمام فى القراءة، لقى من
الصحابة عبدالله بن الزبير وأبا أيوب الأنصارى، وأنس بن مالك. وقد كان رحمه الله
إمام الناس بمكة لم ينازع فى ذلك، ولذلك روى عنه الخليل بن أحمد ونقل عنه.
روى
ابن كثير عن مجاهد عن ابن عباس عن أبى بن كعب عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم
-، وقرأ على عبدالله بن السائب المخزومى، وقرأ عبدالله هذا على أبى ابن كعب، وعمر
بن الخطاب، وقرأ كلاهما على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقد اشتهر
بالرواية عنه بواسطة أصحابه:
أ- البزِّى: وهو أبو الحسن أحمد بن محمد
بن عبدالله بن القاسم ابن أبى بزة [٤]
ب- وقنبل: وهو محمد بن
عبدالرحمن بن خالد المخزومى المكى ت [٢٩١ هـ] [٥]، وقد لقب بقنبل لشدته، فالقنبل
هو الغلام الحادُّ الرأس الخفيف الروح.
وقد قال صاحب الشاطبية فيه وفى
راوييه:
ومكة عبدالله فيها مقامه ... هو ابن كثير كاثر القوم
مُعتلا
روى أحمد البزِّى له ومحمد ... على سند وهو الملقب قنبلا
(١)
غاية النهاية - ٢/ ٣٥٥، معرفة القراء - ١/ ١٩٥.
(٢) غاية النهاية - ١/
٤٠٤، معرفة القراء - ١/ ١٩٨.
(٣) ترجمته فى غاية النهاية ٢/ ٣٣٠،
ومعرفة القراء ١/ ٨٦، البحث بالاستقراء - ص ١٥، وأنظر: مناهل العرفان ١/ ٤٥٧.
(٤)
ت سنة [٢٥٠] - أنظر غاية النهاية - ١/ ١٤٦.
(٥) غاية النهاية - ٢/
١٦٥، معرفة القراء - ١/ ٢٣٠.
(٦) ترجمته فى غاية النهاية ١/ ٣٤٦،
ومعرفة القراء ١/ ٨٨، البحث بالاستقراء - ص ٤٠، ٤١، وأنظر: مناهل العرفان ١/ ٤٥٨.
٣ - عاصم [٦]
هو عاصم بن أبى النجود الأسدى، توفى سنة سبع وعشرين ومائة، كان
قارئاً متقناً، آية فى التحرير والإتقان والفصاحة.
قال عبدالله بن
أحمد: سألت أبى عن عاصم فقال: رجل صالح خير ثقة، فسألته: أى القراء أحب إليك؟
قال: قراءة أهل المدينة، فإن لم تكن فقراءة عاصم.
وقد أخذ عاصم قراءته
عن ثلاثة من الصحابة هم على بن أبى طالب، وعبدالله بن مسعود، وأبى ين كعب. فقرأ
عاصم على أبى عبدالرحمن عبدالله بن حبيب السلمىّ معلم الحسن والحسين وأبو
عبدالرحمن قرأ على على بن أبى طالب عن النبى -صلى الله عليه وسلم.
وقرأ
كذلك على أبى عبدالرحمن السلمى وزر بن حبيش الأسدى على على أيضاً. وقرأ عليهما
ومعهما أبو عمرو الشيبانى ثلاثتهم على عبدالله بن مسعود.
وقرأ قراءة
أبى بن كعب بطريق واحد هو طريق أبى عبدالرحمن السلمىّ وراوياه هما:
أ-
شعبة: وهو أبو بكر بن عياش الأسدى. ت سنة [١٩٣ هـ] [١]
ب- حفص: وهو
أبو عمرو حفص بن سليمان بن المغيرة البزار، كان ربيب عاصم تربى فى حجره، وتعلم
منه، لذا كان أدق إتقاناً من شعبة. ت [١٨٠ هـ] [٢]
وقد قال صاحب
الشاطبية فى عاصم وراوييه:
وبالكوفة الغراء منهم ثلاثة ... أذاعوا فقد
ضاعت شذى وقرنفلا
فأما أبو بكر وعاصم اسمه ... فشعبة راويه المبرز
أفضلا
وذاك ابن عيّاش أبو بكر الرضا ... وحفص وبالإتقان كان مفضّلا
٤ - أبو عمرو [٣]
هو أبو عمرو زبان بن العلاء البصرى، كان مولده سنة ثمان وستين من
الهجرة المباركة، وهو من أعلم الناس بالقراءة، وكان والده قد أخذه مغه حينما هرب
من الحجاج إلى كثير من البلدان، وقد قرأ القرآن بمكة والمدينة، وقرأ أيضاً
بالكوفة والبصرة على جماعات كثيرة، وليس من علماء القراءات من هو أكثر شيوخاً
منه، ومرجع ذلك إلى كثرة تنقله إلى أماكن عديدة، حيث لم يستقر فى مكان واحد.
جاء
فى التهذيب عن أبى معاوية الأزهرى: كان أعلم الناس بوجوه القراءات وألفاظ العرب
ونوادر كلامهم وفصيح أشعارهم [٤].
وقد أخذ أبو عمرو قراءته عن ثلاثة
من الصحابة هم:
١ - عمر بن الخطاب: من طريق أبى جعفر يزيد بن القعقاع
والحسن البصرى عن حطّان وأبى العالية عن عمر بن الخطاب.
٢ - وعلى بن
أبى طالب: أخذها عنه من ست طرق.
٣ - وأبى بن كعب: أخذها عنه من أحد
عشر طريقاً.
وكانت وفاته رحمه الله سنة أربع وخمسين من الهجرة
المباركة وراوياه هما:
(١) غاية النهاية - ١/ ٣٢٥، معرفة القراء - ١/
١٣٤.
(٢) غاية النهاية - ١/ ٣٢٥، معرفة القراء - ١/ ١٣٤.
(٣)
ترجمته فى غاية النهاية -١/ ٢٨٨، معرفة القراء - ١/ ١٠٠، وأنظر: مناهل العرفان -
١/ ٤٥٩.
(٤) تهذيب التهذيب لابن حجر العسقلانى - ٢/ ١٧٨.
١
- الدورى: وهو أبو عمرو حفص بن عمر المقرى الضرير، ولقب بالدورى نسبة إلى الدور
وهو موضع بالجانب الشرقى من بغداد. ت [٢٤٦] [١]
٢ - السوسى: وهو أبو
شعيب صالح بن زياد وكان ثقة ضابطات [٢٦١] [٢]
وقد قال صاحب
الشاطبية:
وأما الإمام المازنى صريحهم ... أبو عمرو البصرى فوالده
العلا
أفاض على يحيى اليزيد سيبه ... فأصبح بالعذب الفرات معللا
أبو
عمرو الدورى وصالحهم أبو ... شعيب هو السوسى عنه تقبلا
٥ - حمزة [٣]
هو حمزة بن حبيب بن عمارة بن إسماعيل الكوفى التيمى، ولد سنة ثمانين
من الهجرة، وتوفى سنة ست وخمسين ومائة، وقد أخذ القراءة عن أبى محمد سليمان بن
مهران الأعمش عن يحيى بن وثاب عن زر بن حبيش عن عثمان وعلى وابن مسعود عن الرسول
- صلى الله عليه وسلم. قال له الإمام أبو حنيفة: شيئان غلبتنا عليهما لسنا ننازعك
فيها القرآن والفرائض.
وراوياه هما:
١ - خلف: وهو أبو محمد
الأسدى بن هشام بن ثعلب البزار البغدادى. ت [٢٢٩] [٤]
٢ - خلاد: وهو
أبو عيسى خلاد بن خالد الأحول الصيرفى. ت [٢٢٠] [٥]
قال صاحب
الشاطبية:
وحمزة ما أزكاه من متورع ... إماماً صبوراً للقرآن مرتلا
روى
خلف عنه وخلاد الذى ... رواه سليم متقناً ومحصلا
٦ - نافع [٦]
هو أبو رُوَيْم نافع بن عبدالرحمن بن أبى نعيم المدنى. ولد سنة
سبعين من الهجرة، وتوفى سنة تسع وستين ومائة.
قيل: إنه كان إذا قرأ
القرآن كانت تشم منه رائحة المسك، وقد أخذ القراءة عن أبى جعفر القارئ وعن سبعين
من التابعين عن عبدالله بن عباس وأبى هريرة عن أبى بن كعب عن رسول الله - صلى
الله عليه وسلم - وقد انتهت إليه رياسة الإقراء بالمدينة المنورة.
قال
سعيد بن منصور: سمعت مالك بن أنس- رضى الله عنه - يقول: قراءة أهل المدينة سنة،
قيل له: يعنى قراءة نافع؟ قال: نعم. وأما راوياه فهما:
أ- قالون: وهو
أبو موسى عيسى بن ميناء بن وردان النحوى. ت [٢٢٠] ، وقالون هذا لقبه ومعناه
بالرومية الجيد ولقب به لجودة قراءته [٧]
(١) غاية النهاية - ١/ ٢٥٥،
معرفة القراء - ١/ ١٩١.
(٢) غاية النهاية - ١/ ٣٣٢، معرفة القراء - ١/
١٩٣.
(٣) ترجمته فى غاية النهاية - ١/ ٢٦١، ومعرفة القراء - ١/ ١١١،
والبحث والاستقراء -ص ٤٦.
(٤) غاية النهاية - ١/ ٢٧٢، ومعرفة القراء -
١/ ٢٠٨ وخلف هذا أحد الثلاثة تتمة العشرة.
(٥) غاية النهاية - ١/ ٢٧٤،
ومعرفة القراء - ١/ ٢١٠.
(٦) ترجمته فى غاية النهاية - ٢/ ٣٣٠، معرفة
القراء - ١/ ١٠٧، البحث والاستقراء - ص ٧.
(٧) غاية النهاية - ١/ ٦١٥،
معرفة القراء - ١/ ١٥٥.
ب- ورش: وهو عثمان بن سعيد المصرى، وورش هذا
لقبه ومعناه شديد البياض، رحل إلى المدينة فقرأ على نافع ثم عاد إلى مصر. ت [١٩٧]
[١]
قال صاحب الشاطبية:
فأما الكريم السر فى الطيب نافع
... فذاك الذى اختار المدينة منزلا
وقالون عيسى ثم عثمان ورشهم ...
بصحبته المجد الرفيع تأشَّلا
٧ - الكسائى [٢]
هو على بن حمزة بن عبدالله بن بهمن بن فيروز الأسدى النحوى، توفى
سنة تسع وثمانين ومائة، وقد لقب بالكسائى لأنه كان محرماً فى كساء، وقيل: لأنه
كان يلبس كساء له طابع خاص مميز، وكان يجلس فى مجلس حمزة، وكان حمزة يقول: اعرضوا
على صاحب الكساء أى اعرضوا عليه الرأى. قال الأهوازى: وهذا القول أشبه بالصواب
[٣].
قال عنه أبو بكر الأنبارى: اجتمعت فى الكسائى أمور، كان أعلم
الناس بالنحو وأوحدهم بالغريب، وكان أوحد الناس بالقرآن، فكانوا يكثرون عليه، حتى
يضطر أن يجلس على الكرسى ويتلو القرآن من أوله إلى آخره، وهم يسمعون منه ويضبطون
عنه [٤].
أخذ عن أربعة من الصحابة قراءته وهم:
عثمان بن
عفان، وعلى بن أبى طالب، وعبدالله بن مسعود، وأبى بن كعب عن النبى - صلى الله
عليه وسلم - وقد أخذ عن هؤلاء الصحابة بخمسة عشر طريقاً.
وراوياه
هما:
أ- أبو الحارث: وهو الليث بن خالد المروزى، كان من أجل أصحاب
الكسائى، ثقة وضبطاً. ت [٢٤٠] [٥]
ب- الدورى: وهو أبو عمر حفص بن عمر
الدورى، وقد مر الحديث عنه فهو أحد راويى أبى عمرو.
قال صاحب
الشاطبية:
وأما على فالكسائى نعته ... لما كان فى الإحرام تسربلا
روى
ليثهم عنه أبو الحارث الرضا ... حفص هو الدورى وفى الذكر قد خلا
وإلى
هنا نكون قد انتهينا من الترجمة الموجزة للقراء السبعة المجمع على تواتر قراءتهم،
وقد عرفنا بإيجاز كذلك براويى كل واحد منهم، ثم ننتقل بعد ذلك إلى التعريف
بالثلاثة تتمة العشرة الذين حقق العلماء تواتر قراءتهم كذلك، ونعرف موجزين
برواتهم أيضاً
(١) غاية النهاية ١/ ٥٠٢، معرفة القراء - ١/ ١٥٢.
(٢)
ترجمته فى غاية النهاية - ١/ ٥٣٥، معرفة القراء - ١/ ١٢٠، البحث والاستقراء - ص
٥٣.
(٣) البحث والاستقراء ص ٥٣.
(٤) مناهل العرفان - ١/
٤٦٢.
(٥) غاية النهاية - ٢/ ٣٤، معرفة القراء - ١/ ٢١١.
(٦)
ترجمته فى غاية النهاية - ٢/ ٣٨٢، وأنظر: مناهل العرفان - ١/ ٤٦٣.
٨ - أبو جعفر [٦]
هو: يزيد بن القعقاع أبو جعفر المخزومى المدنى القارئ ت [١٣٠ هـ]
تابعى جليل القدر، تام الضبط، رفيع المنزلة أخذ قراءته عن عبدالله ابن عباس وأبى
هريرة عن أبى بن كعب عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم.
وراوياه
هما:
أ- ابن وردان: وهو أبو موسى عيسى بن وردان الخداء المدنى، من
أصحاب نافع فى القراءة على أبى جعفر وكان مقرئاً ضابطاً ثقة ت [١٦٠ هـ]
ب-
ابن جماز: [١] وهو أبو الربيع سليمان بن مسلم بن جماز ت [١٧٠ هـ]
٩ - يعقوب [٢]
هو يعقوب بن إسحاق بن زيد بن عبدالله بن إسحاق أبو محمد الحضرمى،
أحد القراء العشرة وإمام أهل البصرة، انتهت إليه رياسة القراءة بعد أبى عمر
الدانى توفى سنة خمس ومائتين.
قرأ على أبى المنذر سلام بن سليمان
الطويل وقرأ سلام هذا على عاصم وعلى أبى عمرو.
وراوياه هما:
أ-
روح: [٣] وهو أبو الحسن روح بن عبدالمؤمن بن عبدة الهذلى النحوى ت [٢٣٤]
ب-
رويس: [٤] وهو أبو عبدالله محمد بن المتوكل اللؤلؤى البصرى ت [٢٣٨]
١٠ - خلف [٥]
هو أبو محمد خلف بن هشام ابن ثعلب بن خلف بن ثعلب الأسدى أحد القراء
العشرة، وأحد راويى حمزة كما مر ت [٢٢٩] ، قرأ على سليم عن حمزة، وعلى يعقوب بن
خليفة الأعشى، وعلى أبى زيد سعيد بن اوس الأنصارى صاحب الفضل الضبى، وعلى أبن
العطار وهم أخذوا عن عاصم.
وراوياه هما:
أ- أبو يعقوب [٦]
إسحاق بن إبراهيم بن عثمان المروزى ت [٢٨٦] هـ.
ب- أبو الحسن [٧]
إدريس عبدالكريم الحداد البغدادى ت [٢٩٢] هـ.
وبعد، فهؤلاء هم القراء
العشرة ورواتهم الذين تلقت الأمة قراءتهم بالقبول، وقد قلت سابقاً: إن المحققين
من العلماء قد حكموا بتواترها جميعاً بما فيها القراءات الثلاث المتممة للعشر،
ومن ثم يلزم قبولها جميعاً، ولا يجوز رد شى منها. والله أعلم.
وقد
اعترض بعضهم على تواتر هذه القراءات بحجة أن الأسانيد إلى هؤلاء الأئمة القراء
وأسانيدهم هم إلى النبى - صلى الله عليه وسلم - هى آحاد ولا تبلغ حد التواتر.
ويجاب
عن ذلك بان انحصار الأسانيد المذكورة فى طائفة لا يمنع مجئ القراءات عن غيرهم،
وإنما نسبت القراءات إلى الأئمة ومن ذكر فى أسانيدهم، والأسانيد إليهم،
لتصديهم
(١) غاية النهاية - ١/ ٣١٥.
(٢) غاية النهاية - ٢/
٣٨٦، ومعرفة القراء - ١/ ١٥٧.
(٣) غاية النهاية - ١/ ٣١٥.
(٤)
غاية النهاية - ١/ ٢٧٢، معرفة القراء - ١/ ٢١٨.
(٥) غاية النهاية - ١/
٢٧٢، معرفة القراء - ١/ ٢٠٨.
(٦) غاية النهاية - ١/ ١٥٥.
(٧)
غاية النهاية - ١/ ١٥٤.
لضبط الحروف وحفظ شيوخهم فيها، ومع كل واحد
منهم فى طبقته ما يبلغها عدد التواتر، لأن القرآن قد تلقاه من أهل كل بلد بقراءة
إمامهم الجم الغفير عن مثلهم، وكذلك دائماً مع تلقى الأمة لقراءة كل منهم
بالقبول.
قال السخاوى: "ولا يقدح فى تواتر القراءات السبع [١] إذا
أسندت من طريق الآحاد، كما لو قلت: أخبرنى فلان عن فلان أنه رأى مدينة سمرقند -
مثلاً - وقد عُلم وجودها بطريق التواتر لم يقدح ذلك فيما سبق من العلم بها"
[٢].
وهذا التواتر المذكور شامل للأصول والفرش وهذا هو الذى عليه
المحققون [٣].
والمراد بالأصول الأحكام الكلية المطردة الجارية فى كل
ما تحقق فيه شرط ذلك الحكم كالمد والقصر والإظهار والإدغام والإقلاب وغيرها،
والمراد بالفرش ما يذكر فى السورة من كيفية قراءة كل كلمة قرآنية مختلف فيها بين
القراء مع عزو كل قراءة إلى صاحبها، ويسمى فرش الحروف وسماه بعضهم بالفروع مقابلة
للأصول وذلك كاختلافهم فى قراءة "يخدعون، ننسخ، ننشزها، فتبينوا" وهذا هو الذى
يؤثر فى المعنى دون الأول.
السبب الداعى للاقتصار على القراء المشهورين
قال الدمياطى: "ليعلم أن السبب الداعى إلى أخذ القراءة عن القراء
المشهورين دون غيرهم، أنه لما كثر الاختلاف فيما يحتمله رسم المصاحف العثمانية
التى وجه بها عثمان - رضى الله عنه - إلى الأمصار، وحبس بالمدينة واحداً وأمسك
لنفسه واحداً الذى يقال له: الإمام، فصار أهل الأهواء والبدع يقرأون بما لا يحل
تلاوته وفاقاً لبدعتهم، أجمع رأى المسلمين أن يتفقوا على قراءات أئمة ثقات تجردوا
للاعتناء بشأن القرآن العظيم، فاختاروا من كل مصر وجه إليه مصحف - اختاروا - أئمة
مشهورين بالثقة والأمانة فى النقل وحسن الدراية وكمال العلم أفنوا عمرهم فى
القراءة والإقراء، واشتهر أمرهم، وأجمع أهل مصرهم على عدالتهم ولم تخرج قراءتهم
عن خط وصحفهم، ثم إن القراء الموصوفين بما ذكر بعد ذلك تفرقوا فى البلاد وخلفهم
الأئمة لذلك ميزاناً يرجع إليه وهو السند والرسم والعربية" [٤]
يقصد
بذلك الضوابط الثلاثة الموضوعة لقبول القراءة والمذكورة فى هذا البحث فى مواضع
متعددة. ومن خلال هذا النقل النفيس عن الدمياطى نتيقن من أن انحصار أخذ القراءة
عن هؤلاء الأئمة المشهورين لا يعنى بحال من الأحوال ألا يكون أحد عليماً
بالقراءات سواهم.
ثانياً: القراء الأربعة تتمة الأربعة عشر
١ - أبو الحسن البصرى [٥]
هو الإمام أبو سعيد الحسن بن الحسن يسار البصرى، تابعى جليل، ولد فى
خلافة عمر سنة إحدى وعشرين، وتوفى سنة عشر ومائة من الهجرة المباركة.
لقى
من الصحابة على بن أبى طالب وأم سلمة أم المؤمنين - رضى الله عنها - وأخذ عن سمرة
بن جندب، يُشهد له بالورع والزهد، وكان إماماً فى القراءات والتفسير والفقه وغير
ذلك من العلوم الإسلامية.
(١) قلت: بل العشر على التحقيق.
(٢)
نقله القاسمى فى مقدمة محاسن التأويل - ١/ ٣٠٤.
(٣) إتحاف فضلاء البشر
- ص ٩.
(٤) إتحاف فضلاء البشر - ص ٧، ٨.
(٥) معرفة القراء
١/ ٦٥، سير أعلام النبلاء ٤/ ٥٦٣.
٢ - ابن محيصن [١]
هو أبو عبدالله بن عبدالرحمن بن محيصن السهمى المكى توفى سنة ثلاث
وعشرين ومائة. شهد له بالعلم فى الأثر والعربية والقراءات فهو مقرئ أهل مكة مع
ابن كثير.
٣ - يحيى اليزيدى [٢]
هو أبو محمد بن المبارك بن المغيرة اليزيدى المتوفى سنة اثنتين
ومائتين كان فصيحاً مفوهاً، إماماً فى اللغة والأدب والقراءات، وهو أمثل أصحاب
أبى عمرو، وقد قام بعده بالقراءة ففاق نظراءه.
٤ - الأعمش [٣]
هو أبو محمد سليمان بن مهران الأعمش الأسدى المتوفى سنة ثمان
وأربعين ومائة، وكان إماماً فى القراءات، لا يلحن فى كلامه، لقى من الصحابة
عبدالله بن أبى أوفى، وأنس بن مالك - رضى الله عنهما. لكن لم يثبت له سماع من
أحدهما، وكان شعبة يقول عنه: المصحف المصحف لصدقه.
حكم ما وراء القراءات العشر
اختلف العلماء فيما زاد عن العشر من القراءات هل يحكم عليه جميعاً
بحكم واحد أم لا؟
فاتجه فريق منهم إلى أن جميع القراءات الأربع عشرة
صحيحة هكذا بإطلاق الحكم بالصحة.
واتجه فريق آخر إلى أن الأربع
الزائدة على العشر شاذة، هكذا بإطلاق الحكم بالشذوذ كذلك [٤].
وتوسط
بين هذين الفريقين فريق ثالث، نظروا إلى القراءات لا من حيث أعدادها ولا أشخاصها،
ولكن من حيث هى قواعد ومبادئ وضوابط، ويعنون ضوابط القراءة المقبولة الثلاثة
وهى:
١ - صحة السند.
٢ - موافقة اللغة ولو بوجه.
٣
- موافقة أحد المصاحف العثمانية ولو احتمالاً.
فحيث تحققت هذه الضوابط
فى قراءة فهى صحيحة مقبولة، وإلا كانت مردودة أو شاذة بقطع النظر عمن نسبت إليه
هذه القراءة.
من صور اختلاف المعنى والتفسير بسبب القراءات وضوابط
الخروج منه
أولا: - الخلاف بين قراءة متواترة وأخرى شاذة
قد
ترد أحياناً آية بقراءتين، إحداهما متواترة، والأخرى شاذة، فيختلف تفسيرها عند
المفسرين بسبب ذلك، حيث يفسرها بعضهم، معتمداً على القراءة المتواترة، بينما
ينحاز بعضهم إلى القراءة الشاذة، فيقع التعارض، أو الخلاف.
(١) غاية
النهاية - ٢/ ١٦٧.
(٢) غاية النهاية - ٢/ ٣٧٥.
(٣) غاية
النهاية - ١/ ٣١٥، معرفة القراء - ١/ ٩٤.
(٤) قال الدمياطى: أخذنا عن
شيوخنا أن الأربعة - بعد العشرة - وهم ابن محيصن واليزيدى والحسن والأعمش قراءتهم
شاذة اتفاقاً. أنظر: الإتحاف - ص ٩.
والقاعدة الحاسمة للخروج من هذا
الخلاف: القراءة المتواترة هى الأصل، لأنها قرآن مقطوع به، فلا تقوى على معارضتها
قراءة شاذة، ولايخفى بأن التواتر أقوى طرق الإثبات، ولذلك فإنه يفيد اليقين
والقطع، والمتواتر: هو ما رواه جمع عن جمع تحيل العادة تواطؤهم على الكذب، وأما
القراءة الشاذة فهى التى اختل فيها ركن من أركان القراءة الصحيحة التى سبق ذكرها
وهى:
١ - صحة السند.
٢ - موافقة اللغة العربية، ولو
بوجه.
٣ - موافقة أحد المصاحف العثمانية، ولو احتمالاً.
فمتى
اختل ركن من هذه الأركان، فهى القراءة الشاذة.
وقيل: الشاذ هو ما صح
سنده، وخالف الرسم والعربية مخالفة تضر، أو لم تشتهر عند القراء. [١] وقد يطلق
الشاذ ويراد به كل ما لا يقرأ به من أنواع القراءات.
وقولنا فى
القاعدة: "فلا تقوى على معارضتها قراءة شاذة" يخرج ما إذا كانت الشاذة، مؤيدة
للمتواترة، فإنه يجوز ذكرها على سبيل الاستشهاد والبيان للقراءة المتواترة [٢]،
وكون القراءة الشاذة، لا تقوى على معارضة المتواترة، مما لا يمارى فيه، بل إن
كثيراً من الأصوليين، لم يعتبرها حجة حتى فى مقام عدم المعارضة.
تاسعا: - الإسرائيليات
هي القصص والأخبار اليهودية والنصرانية التي تسربت إلى المجتمع
الإسلامي عن طريق من أسلم من أهل الكتاب حقيقة أو تظاهر بالدخول في الإسلام وسميت
بالإسرائيليات لتغليب اللون اليهودي فيها حيث إن أكثرها جاء عن اليهود ولتخالطهم
بالمسلمين في المجتمع المدني أكثر من النصارى ولأن النصارى يُعتبروا تبعاً
لليهود، لذلك سميت بالإسرائيليات.
وقد بدأ اليهود بالدس منذ الأيام
الأولى لدخول الإسلام في المدينة المنورة فأدخلوا ثقافتهم وثقافات أخرى وظهر أثر
هذه الثقافات في العقلية المسلمة مع بقاء الروايات الإسرائيلية هي الظاهرة وخاصة
فيما يتعلق بتفسير القرآن الكريم.
وكانت الثقافة اليهودية تتمثل في
التوراة وبما تحويه من الأسفار الموسوية وتسمى بالعهد القديم وهذه حُرفت وتمّ
فيها التغيير والتبديل والقرآن الكريم يشهد بذلك قال تعالى: {يُحَرِّفُونَ
الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ} [المائدة: ١٣] .
وكان لليهود بجانب
التوراة سنن ونصائح وشروح لم تؤخذ عن موسى - عليه السلام - بطريق الكتابة وإنما
أُخذت بطريق المشافهة إلا أنها حُرفت بالزيادة عليها والنقص منها، مثلها مثل
التوراة في ذلك، قال تعالى: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ
بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ
ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ
مِمَّا يَكْسِبُونَ} [البقرة: ٧٩] ، ثم دونت مع الزمن وعرفت بالتلمود، وكان يوجد
بجانب ذلك الكثير من الأدب والقصص والتاريخ والتشريع والأساطير اليهودية.
(١)
التحبير للسيوطى: ص ٦٩.
(٢) أنظر: أضواء البيان: ١/ ٧، معترك الأقران
- ١/ ١٢٧، ١٢٨.
أما النصارى فتتمثل ثقافتهم في الأناجيل المعتبرة
عندهم ورسائل الرسل وتسمى جميعاً بالعهد الجديد، أما الكتاب المقدس فهو يعني
عندهم التوراة والإنجيل ويسمى بالعهد القديم والعهد الجديد.
أسباب دخول الإسرائيليات في المجتمع الإسلامي
١ - لقد تناول القرآن الكريم العديد من قصص الأنبياء والأمم السابقة
والحوادث التي مرّت في الأزمنة الغابرة بصورة من الإيجاز مع التركيز على جانب
الموعظة والعبرة من ذلك القصص دون أن يذكر التفاصيل ودقائق القصة، والنفس البشرية
تميل دائماً إلى معرفة التفاصيل ودقائق تتعلق بالقصص القرآني، لذلك عندما سألوا
أهل الكتاب فأجابوهم بما هو موجود في التوراة والإنجيل.
٢ - إسلام
العديد من أهل الكتاب ودخول في الدين الإسلامي ساهم مساهمة حقيقية في إدخال
الكثير من الروايات الإسرائيلية إلى المجتمع الإسلامي وخاصة أنه? أمر بالحديث
عنهم فقال: "بلغوا عني ولو آية وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج" أي حدثوا عنهم بما
يتفق وحدود الشريعة الإسلامية وضمن الشروط الواجبة في الأخذ عن أهل الكتاب.
ومرت
فترة على المجتمع الإسلامي دخل فيها كثير من المرويات الإسرائيلية دون التقيد
بالقيود التي وضعها الإسلام فتسرب الضعيف والمكذوب والمخالف لشرعنا الإسلامي
وغيره وخاصة في أواخر عهد التابعين.
حكم الإسرائيليات
يأخذ ما ورد عن أهل الكتاب من إسرائيليات حكماً من الأحكام الثلاثة
الآتية: -
١ - إن كانت الرواية عن أهل الكتاب مصدقة لما عندنا فنصدقها
ونأخذها للاستئناس لا للاستدلال ونعتبرها من الثقافة الإسلامية.
٢ -
وإن كانت الرواية الإسرائيلية تُكذب ما عندنا فنكذبها ونضرب بها عرض الحائط لأنها
مخالفة لما جاء في شريعتنا الإسلامية.
٣ - أما إذا كانت الرواية
الإسرائيلية لا توافق ولا تعارض ما عندنا فنتوقف حينئذٍ فلا نصدقها ولا نكذبها
خوفاً من أن نصدق بكذب وباطل ولا نكذبها خوفاً من أن نكذب بصدق وحق عملاً بقول
الرسول-صلى الله عليه وسلم-: "لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم وقولوا آمنا
بالله وما أنزل إلينا" [١].
عاشرا: تفسير القرآن وشرفه
التفسير كشف معاني القرآن وبيان المراد منه وهو أجل العلوم الشرعية
وأشرف صناعة يتعاطاها الإنسان وأرفعها قدرا وهو أشرف العلوم موضوعا وغرضا وحاجة
إليه لأن موضوعه كلام الله الذي هو ينبوع كل حكمة ومعدن كل فضيلة، ولأن الغرض منه
هو الاعتصام بالعروة الوثقى والوصول إلى السعادة الحقيقية وإنما اشتدت الحاجة
إليه لأن كل كمال ديني أو دنيوي لا بد وأن يكون موافقا للشرع وموافقته تتوقف على
العلم بكتاب الله تعالى ويجب أن يعلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بين للأمة
معاني القرآن كما بين ألفاظه كما قال تعالى: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ
إِلَيْهِمْ}
(١) فتح الباري - ج ٨ ص ١٢٠.
[النحل: ٤٤]
وكانوا إذا تعلموا عشر آيات من النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يتجاوزوها حتى
يعلموا ما فيها من العلم والعمل قالوا: فتعلمنا القرآن والعلم والعمل جميعا.
والعادة
تمنع من أن يقرأ قوم كتابا في فن من الفنون كالطب والحساب ولا يعرفون معناه، فكيف
بكلام الله الذي هو عصمتهم وبه نجاتهم وسعادتهم وقيام دينهم ودنياهم، وعن سعيد بن
جبيرن قال: "من قرأ القرآن ثم لم يفسره كان كالأعمى أو الأعرابي" [١]، وحاجة
المسلم ماسة إلى فهم القرآن الذي هو حبل الله المتين والذكر الحكيم والصراط
المستقيم.
ومن المعلوم أن كل كلام فالمقصود منه فهم معانيه دون مجرد
ألفاظه، فالقرآن أولى بذلك [٢].
وقال القرطبي: "ينبغي له أن يتعلم
أحكام القرآن فيفهم عن الله مراده وما فرض عليه فينتفع بما يقرأ ويعمل بما يتلو،
فما أقبح بحامل القرآن أن يتلو فرائضه وأحكامه وهو لا يفهم معنى ما يتلوه، فكيف
يعمل بما لا يفهم معناه، ما أقبح أن يسأل عن فقه ما يتلوه وهو لا يدريه، فما مثل
من هذه حالته إلا كمثل الحمار يحمل أسفارا" [٣] وقد ذم الله من هذه حاله بقوله:
{وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ
إِلا يَظُنُّونَ} [البقرة: ٧٨] .
وأقرب التفاسير تناولا: تفسير
الجلالين، حيث يذكر معنى الكلمة وأسباب النزول والقراءات باختصار، إلا أنه قد
يخطئ في تفسير صفات الله تعالى مثل المجيء والنزول وغيرهما حيث يفسرها على طريقة
الأشاعرة، ومن أراد التوسع والتحقيق فعليه بتفسير الإمام ابن كثير فإنه تفسير
سلفي ممتاز، وتفسير ابن سعدي [٤] ثم تفسير الطبري، والقرطبي، فإنهما من أمهات
التفاسير الصحيحة المعتبرة، وكذلك تفسير البغوي وابن الجوزي وفتح القدير
للشوكاني، وحاشية الجمل على الجلالين فإنه مجموع من عدة تفاسير، وأيسر التفاسير
للجزائري.
المنهج الأمثل في تفسير القرآن
إن منهج القرآن الكريم يُقرر أن الفهم السليم هو غاية كل مسلم، وهو
الثمرة العلمية المرجوة من تدبره، كما أن الثمرة العلمية هي الالتزام بأحكامه
وتوجيهاته إيماناً وعملاً ودعوة.
والذي يساعد على الفهم الصحيح للقرآن
هو حسن تفسيره بما يبين مقاصده، ويوضح معانيه، ويكشف اللثام عما فيه من كنوز
وأسرار ويفتح مغالقه للعقول والقلوب.
إن المنهج الأمثل في تفسير
القرآن يقوم على أصول راسخة وخطوات معلومة ومعالم مرسومة يجب مراعاتها والالتزام
بها حتى تتضح من خلال إتباع المفسر الخطوات التالية: -
١ - تفسير القرآن بالقرآن
أول هذه المعالم هو تفسير القرآن بالقرآن وذلك لأن القرآن الكريم
يصدق بعضه بعضاً، ويفسر بعضه بعضاً، وذلك فما أُجمل في موضع فُصّل في موضع آخر
وما جاء عاماً في سياق خُصِّص في سياق آخر.
(١) أخرجه الطبري (٨٧) : ص
١/ ٨١.
(٢) ينظر: مقدمة أصول التفسير لابن تيمية ٦، ٧.
(٣)
تفسير القرطبي (١/ ٢١)
(٤) فإنه تفسير سلفي عصري واضح جلي يعني
بالمعاني والأحكام.
٢ - تفسير القرآن بالسنة
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في مقدمته في أصول التفسير: "إن أصح طرق
التفسير يُفسّر القرآن بالقرآن، فما أجمل في مكان فإنه قد يفسر في موضع آخر، وما
اختصر في مكان فقد بُسط في موضع آخر، فإن أعياك ذلك فعليك بالسنة، فإنها شارحة
للقرآن موضحة له" [١].
وقد فسر الرسول -صلى الله عليه وسلم- {كَلِمَةً
طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ} [إبراهيم: ٢٤] بأنها النخلة.
وكما
فسر الزيادة {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس: ٢٦] ، بأنها
النظر إلى وجه الله الكريم.
وقال الزركشي: "لطالب التفسير مآخذ كثيرة
أمهاتها أربعة: الأول: النقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا هو الطراز
الأول، ولكن يجب الحذر من الضعيف فيه والموضوع؛ فإنه كثير. وإن سواد الأوراق سواد
في القلب" [٢].
٣ - الانتفاع بتفسير الصحابة والتابعين
الصحابة هم تلاميذ المدرسة النبوية، تربوا في حجر الرسول? وسمعوا
منه وشاهدوا التنزيل، هذا مع كونهم أصحاب اللغة والبيان، فإذا صح عنهم التفسير
أخذنا به خاصة إن أجمعوا عليه، وإن اختلفوا فقد أتاحوا لنا أن نتخير من بين
آرائهم ما نراه أقرب إلى السداد.
قال ابن تيمية: "إذا لم تجد التفسير
في القرآن ولا في السنة، رجعت في ذلك إلى أقوال الصحابة فإنهم أدرى بذلك لما
شاهدوه من القرائن والأحوال التي اختصوا بها ولِمَا هم عليه من الفهم التام
والعلم الصحيح ولا سيما علماؤهم وكبراؤهم وكالأئمة الأربعة والخلفاء الراشدين
والأئمة المهديين، وعبد الله بن مسعود الذي قال: والذي لا إله غيره ما نزلت آية
من كتاب الله إلا وأنا أعلم أين نزلت، وفيم نزلت، وكان الرجل منهم إذا تعلّم عشر
آيات، لم يجاوزهن حتى يعرف معانيهن والعمل بهن، وهذا حبر الأمة عبد الله بن عباس،
ترجمان القرآن ببركة دعاء رسول الله-صلى الله عليه وسلم- اللهم فقهه في الدين
وعلَّمه التأويل" [٣].
قال الزركشي: "الثاني: الأخذ بقول الصحابي؛ فإن
تفسيره عندهم بمنزلة المرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، كما قاله الحاكم في
تفسيره ... إلى أن قال: وفي الرجوع إلى أقوال التابعين روايتان عن أحمد، واختار
ابن عقيل المنع، وحكوه عن شعبة، لكن عمل المفسرين على خلافه، وقد حكوا في كتبهم
أقوالهم ... وغالب أقوالهم تلقوها من الصحابة، ولعل اختلاف الرواية عن أحمد إنما
هو فيما كان من أقوالهم وآرائهم" [٤].
٤ - الأخذ بمطلق اللغة
إن القرآن نزل {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشعراء: ١٩٥ [، فيجب
أن يُفسر اللفظ بحسب ما تدل عليه اللغة العربية واستعمالاتها وما يوافق قواعدها
ويناسب بلاغة القرآن المعجز، هذا مع أن الألفاظ منها ما جاء على سبيل المجاز
ومنها ما هو مشترك يدل على أكثر من معنى،
(١) مقدمة في أصول التفسير:
٩٣.
(٢) البرهان: ١٥٦.
(٣) مقدمة في أصول التفسير: ٩٤.
(٤)
البرهان في علوم القرآن: ١/ ١٥٦ - ١٦٠.
وينبغي أن يعلم أن الأصل حمل
الكلام على الحقيقة، ولا يعدل عنها إلى المجاز إلا بقرينة (تدل دلالة معتبرة على
المعنى) ، ومما يعين المفسر للقرآن على حسن الفهم أن يتتبع الكلمة القرآنية في
مواردها المختلفة في القرآن حتى يتبين له حقيقة معناها مثل كلمة (عين) لها عدة
معانٍ حسب موقعها في الجملة، تأتي بمعنى عين الماء - والجاسوس - والعين المبصرة،
فكل مفردة في القرآن تؤدي معنى تام حسب السياق الذي وضعت فيه.
٥ - مراعاة السياق
ومن الضوابط الهامة في حسن فهم القرآن وصحة تفسيره مراعاة سياق
الآية في موقعها من السورة وسياق الجملة في موقعها من الآية، فيجب أن تُربط الآية
بالسياق الذي وردت فيه ولا تُقطع عما قبلها وما بعدها.
فالكلمة
الواحدة قد ترد في القرآن لعدة معانٍ مختلفة وإنما يتحدد المعنى المراد منها في
كل موقع بالسياق، والمقصود بالسياق ما قبل الكلمة وما بعدها فمثلاً: كلمة الكتاب
تأتي بمعنى القرآن، وتأتي بمعنى النص القرآني، وتأتي بمعنى اللوح المحفوظ.
وكذلك
معنى كلمة (آية) تأتي بمعنى العلامة أو الآية المنزلة أو المعجزة والآية الدالة
على صدق رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، والسياق هو الذي يحدد المعنى المراد من
كلمة آية.
٦ - الاهتمام بعلوم القرآن إجمالاً وخاصة سبب النزول:
من المعالم المهمة في فهم القرآن وتفسيره ملاحظة أسباب النزول فمن
المقرر لدى العلماء أن القرآن نزل على قسمين: قسم نزل ابتداء بدون سبب خاص، وإنما
لتوضيح معنى الهداية في حياة الناس وقسم نزل لسبب خاص وهذا القسم الأخير هو الذي
يبحث عن سبب نزوله، لأن معرفة الأسباب والملابسات المحيطة بالنص تساعد على فهم
المراد منه، يقول ابن دقيق العيد: بيان سبب النزول طريق قوي في فهم معاني القرآن.
٧ - اعتبار القرآن أصلاً يرجع إليه:
إن الله تبارك وتعالى أنزل القرآن الكريم ليكون متبوعاً لا تابعاً
وينبغي على من يريد فهم القرآن وتفسيره أن يتحرر من اعتقاداته وأفكاره وأهوائه،
بل يجب أن يكون موقفه من القرآن موقف المتلقي الذي يهتدي بهداه، وينظر إليه على
أنه الأصل الذي يرجع إليه [١].
حادي عشر: - إعجاز القرآن
الإعجاز لغة: أصله التأخر عن الشيء، وهو ضد القدرة، بمعنى الضعف،
يقال: أعجزه الأمر إذا حاوله فلم يستطعه ولم تتسع له قدرته وجهده [٢] يقول تعالى:
وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ [سبأ: ٥] .
(١) انظر
هذا الموضوع بالتفصيل في كتاب: كيف نتعامل مع القرآن الكريم - أ. د. يوسف
القرضاوي من ص ٢٥٠ - ٣٠٠.
(٢) لسان العرب لابن منظور - ح ٧/ ٢٣٦.
الإعجاز
اصطلاحاً: كون القرآن الكريم أمراً خارقاً للعادة لم يستطع أحداً معارضته برغم
تصدي الناس له [١]، أو هو ضعف القدرة الإنسانية في محاولة المعجزة، ثم استمرار
هذا الضعف على تراخي الزمن [٢].
أ- الإعجاز البياني
يعدّ الإعجاز البياني من أعظم وجوه الإعجاز لأنه ينتظم في القرآن
كله، فلا تخلو منه سورة على قصرها أو على طولها، بل هو في كل آية من آيات القرآن
الكريم، وقد تحدث العلماء والمفسرون عن الإعجاز القرآني قديماً وحديثاً حيث أجمع
هؤلاء أن القرآن الكريم معجزة بيانية تحدى الله بها العرب وغيرهم فثبت عجز البشر
جميعاً أمام إعجازه [٣]، وقد سجل القرآن الكريم هذه الحقيقة بقوله: {قُلْ لَئِنِ
اجْتَمَعَتِ الْأِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ
لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً} [الإسراء
٨٨] .
والاعجاز البياني هو بيان القرآن وفصاحته وبلاغته، وفي أسلوبه
المتميز عن باقي أساليب العرب حيث جاء القرآن الكريم بأفصح الألفاظ في أحسن نظوم
التأليف، متضمناً أصح المعاني، كذلك ترتيب ألفاظ القرآن الكريم في آياته وجمله،
ثم ترتيب هذه الجمل للآيات في السورة [٤].
ويمثل الإعجاز البياني في
حروف القرآن وأصواتها، والكلمات ومخارجها [٥]، يقول ابن عطية: "وكتاب الله تعالى
لو نزعت منه لفظة في أدير لسان العرب على لفظة غيرها لم يوجد" [٦].
وكذلك
يمثل الإعجاز البياني في طريقة التعبير التي انفرد بها القرآن الكريم، وأيضاً
يتمثل في وجود الفاصلة القرآنية التي تعني مناسبة ختم الآية لما سبق [٧].
ونزل
القرآن الكريم على العرب وكانوا أصحاب وأرباب البلاغة والبيان وذلك لأنهم تميزوا
بسلامة السليقة وسرعة البديهة، فعندما تحداهم القرآن على أن يأتوا بمثله لم
يستطيعوا ووقفوا عاجزين حائرين لا يستطيعون ذلك على الرغم من أن القرآن الكريم
نزل باللغة التي يعرفونها ويتكلمون بها، لذا نجد أن القرآن تحداهم أن يأتوا بمثل
القرآن، يقول تعالى {فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ}
[الطور: ٣٤] .
ثم تحداهم أن يأتوا بعشر سور فقال تعالى: {أَمْ
يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ
وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}
[هود: ١٣ - ١٤] .
فلما عجزوا تحداهم أن يأتوا بسورة واحدة قال تعالى:
{أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ
اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [يونس: ٣٨] .
ثم
أخيراً تحداهم أن يأتوا بسورة تشبه القرآن فقال سبحانه وتعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ
فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ
مِثْلِهِ} [البقرة: ٢٣ - ٢٤] [٨].
ب- الإعجاز التشريعي
- التشريع لغة: مصدر شرّع: بمعنى سنَّ، وقد سمي ما شرع الله لعباده
شريعة كالصلاة والصوم والزكاة والحج وغير ذلك [٩].
- التشريع
اصطلاحاً: هو شرعة الله لعباده من أحكام اعتقادية أو عملية أو خُلقية [١٠].
-
الإعجاز التشريعي: هو سمو التشريعات القرآنية وشمولها وكمالها إلى الحد الذي تعجز
عنه كل القوانين البشرية مهما بلغت على أن تأتي بمثل تشريعات القرآن الكريم
[١١].
أو هو عجز البشر محاكاة التشريع القرآني، وإداراكهم كل ما فيه
من أسرار تشريعية [١٢].
ومن نماذج من الإعجاز التشريعي
١ - في العبادات: الوضوء والتيمم والغسل: أمر الله سبحانه وتعالى
المسلمين بالوضوء عند القيام إلى الصلاة، وجعل الوضوء شرطاً للصلاة، فإذا لم
يتمكنوا من استعمال الماء فعليهم بالتيمم قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ } [المائدة: ٦] .
وتشير الآية
إلى الحكمة من هذا التشريع يقول تعالى: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ
عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ } [المائدة: ٦] .
إن اشتراط الاغتسال للجنب هو
تطهيره وليتم نعمته عليه، وحتى يشكره على نعمه الكثيرة، والحكمة من الوضوء
والتيمم والغسل ليس النظافة فحسب بل العبادة [١٣]، يقول سيد قطب: "يبدو أن حكمة
الوضوء أو الغسل ليست هي مجرد النظافة، وإلا فإن البديل من أحدهما أو من كليهما
لا يحقق هذه الحكمة فلا بد إذن من حكمة أخرى للوضوء أو الغسل تكون متحققة"
كذلك
في التيمم، وأما حكمة الاغتسال من الجنابة {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً
فَاطَّهَّرُوا ... } ] المائدة: ٦]، فهي حركة عملية عن معنى نفسي، إن الإنسان
عندما يقضي شهوته فإنه يحقق حاجة فطرية ونفسية أصيلة في كيانه، ثم إن كل جزء من
أعضاء جسمه متلذذ من قضاء الشهوة ويشارك في هذه العملية الجنسية، لذا كان
الاغتسال شكر لله الذي يسر له قضاء شهوته، شكر لله، لأن كل جزء شارك في الاستمتاع
والتلذذ عند قضاء الشهوة، لذلك ختمت الآية بقوله: {ولعلكم تشكرون} "[١٤]."
٢
- في المعاملات: تحريم الربا: حرم الله الربا في آيات صريحة وأعلن الحرب على
المرابين، وتوعد بمحق الربا يقول تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا
اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا
(١) فكرة الإعجاز - نعيم
الحمصي - ص ٩.
(٢) إعجاز القرآن للرافعي - ص ١٣٩.
(٣)
مباحث في إعجاز القرآن الكريم- ص ١٦٥ بتصرف، أ. د. مصطفى مسلم ص ١٥٤.
(٤)
موجز في إعجاز القرآن - المرجع السابق ص ١٥٤.
(٥) موجز في إعجاز
القرآن - أ. د. مصطفى مسلم ص ١٥٤.
(٦) فكرة الإعجاز - نعيم الحمص - ص
٩٥.
(٧) إعجاز القرآن - د. فضل عباس - ص ٦٥ وما بعدها.
(٨)
إعجاز القرآن - د. فضل عباس - ص ٣١ - ٣٢.
(٩) لسان العرب - ح ٣/
٢٣٨.
(١٠) التشريع الإسلامي - مصادره وأدواته - د. سفيان إسماعيل - ص
٧.
(١١) الإعجاز التشريعي في معالجة مشكلة الفقر - ص ٦.
(١٢)
القرآن وإعجازه - ص ١٠٢.
(١٣) مباحث في إعجاز القرآن - أ. د. مصطفى
السباعي - ص ١٥٥.
(١٤) في ظلال القرآن، سيد قطب: ٥/ ٢٢٥٢١.
[البقرة:
٢٧٨ - ٢٧٩] على الرغم أن الربا هو السمة البارزة للاقتصاد العالمي المعاصر،
وقاعدة التعامل الاقتصادي بين الدول، إلا أن التشريع الإسلامي هو الحق والصواب في
تحريم الربا ومحاربته وتحريمه .... ، فالربا بلاء وآفة، يدمر الاقتصاد ويقطع
الروابط، ويوقع العداوة والبغضاء بين الناس، والربا يقضي على إنسانية الإنسان
وقلبه ودينه وإيمانه، والمرابون مصاصي الدماء والأموال [١].
يقول سيد
قطب: "إن النظام الربوي نظام معيب من الوجهة الاقتصادية البحتة ..." [٢].
٣
- في الحدود: شرع الله تبارك وتعالى الحدود حتى يعيش الإنسان المسلم وغير المسلم
أميناً على نفسه وماله وعرضه وعقله، لذلك حرم على المسلم قتل أخيه المسلم، يقول
تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلا خَطَأً } [النساء:
٩٢] . فإذا اعتقد القاتل بأنه سيُقتل فإنه لا يقدم على القتل، وكذلك عندما حرّم
السرقة، فإنه حفظ للناس أموالهم، فعندما يعتقد المؤمن أنه إذا سرق سوف تقطع يده،
فإنه لا يسرق وبذلك حفظ للناس أموالهم. وكذلك عندما شرع عقوبة الزنا مائة جلدة
لغير المتزوج كما قال تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي .... } [النور: ٢] ،
والرجم حتى الموت للمتزوج رجلاً كان أو أنثى.
وكذلك عندما شرع عقوبة
الخمر الجلد ثمانين جلدة ليحفظ العقل [٣]، يقول الرسول? : "إذا شرب إنسان الخمر
فاجلدوه ثمانين جلدة، إذا شرب سكر، وإذا سكر هذى، وإذا هذى افترى، وحد المفتري
ثمانون" [٤].
يقول الأستاذ رشيد رضا: "يشتمل القرآن الكريم على العلوم
الإلهية وأصول القواعد الدينية، وأحكام العبادات، وقوانين الفضائل والآداب وقواعد
التشريع السياسي والمدني والاجتماعي الموافقة لكل زمان ومكان، وبذلك يفضل على كل
ما سبقه من الكتب السماوية والشرائع الأرضية والآداب الفلسفية" [٥].
ت- الإعجاز العلمي
لقد حث الإسلام على العلم والتعلم، فآيات القرآن الأولى في النزول
تأمر باستخدام القلم وتشجع على القراءة وذلك لما للقلم والقراءة من أهمية في حياة
الأمم والشعوب. قال تعالى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ
الْأِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ
بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْأِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق: ١ - ٥] .
الأمة
الإسلامية منوط بها قيادة البشرية بأسرها في جميع مناحي الحياة، لذلك ينبغي أن
تتصدر الأمم والشعوب في مجال العلم والإيمان والأخلاق حتى تصل إلى ذلك المركز
القيادي الذي أُعدّت له.
لذلك جاءت التوجيهات القرآنية في العديد من
الآيات تشجع الأمة كل الأمة على العلم والبحث والتحري عن المجهول في هذا الكون
الفسيح. قال تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا
يَعْلَمُون} [الزمر: ٩] .
وجعل الحق تبارك وتعالى شهادة العلماء مع
شهادته وشهادة الملائكة الملائكة في الإقرار بالوحدانية لله في الألوهية
والربوبية، قال تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ
وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ
الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [آلأ عمران: ١٨] ، وأمر -صلى الله عليه وسلم- بطلب العلم
النافع للبشرية وشجع على تحصيله، قال -صلى الله عليه وسلم-: "طلب العلم فريضة على
كل مسلم ومسلمة" ، وجاء عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال سمعت رسول الله -صلى
الله عليه وسلم- يقول: "من سلك طريقاً يبتغي فيه علماً سهَّل الله له طريقاً إلى
الجنة" [٦].
والاعجاز العلمي: هو ما يتعلق بإشارة القرآن في كثير من
آياته إلى حقائق علمية ثابتة كشف عنها العلم الحديث، ووافقت أحدث ما انتهى إليه
الكشف العلمي في هذا العصر، مع أنها كانت مجهولة في عصرة النبوة وما بعده لقرون
عديدة [٧].
وقد ذكر د. عبد السلام تعريفاً فقال: "تلك الموافقة بين
المكتشفات الحديثة للسنن الإلهية، وبين ما أشار إليه القرآن مع تمام المطابقة
بينهما" [٨].
ب- الضوابط العلمية المنهجية للإعجاز العلمي:
١
- اعتقاد أن القرآن كتاب هداية وإرشاد أولاً وليس كتاب علوم وكونيات.
٢
- عدم الإفراط والتفريط عند النظر في الآيات الكونية، والاكتفاء بالحقائق العلمية
في الاستدلال وعدم الاستدلال بالنظريات والفرضيات العلمية.
٣ - الوقوف
على مرونة الأسلوب القرآني في توضيح المضامين العلمية بحيث يحتمل ذلك الأسلوب
وجوهاً من التأويل.
٤ - عدم حصر دلالة الآية القرآنية على الحقيقة
الواحدة، بل إبقاء الآية مفتوحة الدلالة بحيث تحتمل كل ما يتفق مع معناها.
٥
- اليقين باستحالة التصادم بين الحقائق القرآنية والحقائق العلمية.
٦
- اتباع المنهج القرآني في طلب المعرفة من خلال النظر في الآيات الربانية في
الكون والنفس والآفاق والتعرف على سنن الله في هذا الوجود.
٧ -
الإعجاز العلمي يُثبت عالمية رسالة القرآن الكريم، وذلك لأن القرآن يدعو الناس في
كل عصر لدين الله [٩].
أمثلة على الإشارات العلمية في القرآن:
أ-
قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَاراً
كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا
الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزاً حَكِيماً} [النساء: ٥٦] ، هذه الآية
فيها من التهديد والوعيد
(١) مباحث في إعجاز القرآن - أ. د. مصطفى
السباعي - ص ١٦٢.
(٢) الظلال ح ٥/ ٢٢٥٢.
(٣) الإعجاز
القرآني في تشريع الحدود.
(٤) الموطأ للإمام مالك - ح ٢/ ٦٤٢ كتاب
الأشربة باب حد الخمر - ص ٢٥.
(٥) تفسير المنار - ح ١/ ٢٠٦، ٢٠٧.
(٦)
رواه الترمذي (جزء من حديث طويل) وقال عنه: حديث حسن.
(٧) انظر ثقافة
الداعية للقرضاوي - ص ١٥.
(٨) الإعجاز العلمي في القرآن الكريم - ص
١٤.
(٩) انظر هذه الضوابط بالتفصيل - الإعجاز العلمي - د. عبد السلام
اللوح - ص ١٦٢ - ١٦٥.
بعذاب أليم للكافرين يوم القيامة وجاء هذا
العذاب في صورة تعذيب للجلود، فلماذا اختار الله سبحانه التعبير بعذاب الجلود دون
غيره من ألوان العذاب، إن في ذلك لحكمة حيث استطاع العلم التوصل إلى وجود أوعية
ناقلة للإحساس وهي تحت الجلد مباشرة وتصل على خمسة عشر نوعاً كل نوع له وظيفته
وطبيعته، لهذا فإن الألم الذي يحصل لجسم الإنسان يذوقه كل الجسم.
ب
قال تعالى: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ
لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً
كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء} [الأنعام: ١٢٥] ، بفضل الطيران والبالونات
استطاع الإنسان التعرف على ظاهرة طبيعية وهي نقص أوكسجين الهواء في طبقات الجو
العليا حيث إن الصاعد يشعر بصعوبة وضيق في التنفس والآية القرآنية صرحت بهذه
الظاهرة منذ زمن بعيد، وهذا يدعونا إلى الإيمان الراسخ بأن ما جاء به محمدٌ إن هو
إلا وحي يوحى علمه شديد القوى [١].
ت- قال تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ
يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ
الرَّضَاعَةَ} [البقرة: ٢٢٣] ، فالرضاعة أوجبها الله سبحانه على الأم لأطفالها
حفاظاً على الأطفال من الناحية الجسدية والنفسية والعقلية فقد تحدث الطب الحديث
عن مقارنة بين الإرضاع الطبيعي والحليب الصناعي وذكر الآتي: -
١ - أن
مميزات اللبن الطبيعي أنه يتناسب من يوم لآخر عند الأم مع حاجة الطفل على مدار
العامين الذي يرضع فيها الطفل.
٢ - أما الإرضاع الصناعي فهو ثابت
التركيز ولا يتناسب مع نمو الطفل، لذلك أشار الأطباء إلى أهمية إرضاع الطفل من
أمه وخاصة في الأيام الأولى من ولادته لأن اللبن في هذه الفترة يحتوي على عناصر
ومواد لها دخل كبير في تكوين المناعة من الأمراض عند الطفل.
٣ - إن
حليب الأم لا يحتاج إلى تعقيم ولا تعلق به الجراثيم بينما الحليب الصناعي فهو
عرضة من خلال أي إساءة في استعمال الأدوات.
٤ - لبن الأم أسهل في
الهضم على الطفل من اللبن الصناعي حيث إن اللبن الصناعي يحتاج هضمه من ثلاث إلى
أربع ساعات [٢].
هذا بالإضافة لهذه الأنواع من الإعجاز يوجد أنواع
أخرى منها: الإعجاز التاريخي، والإعجاز الأخلاقي، والإعجاز النفسي والروحي،
والإعجاز التربوي، والإعجاز بأخبار الغيب والمستقبل وغير ذلك [٣].
فيمكن
القول بأن أوجه إعجاز القرآن هي:
١ - النظم البديع المخالف لكل نظم
معهود في لسان العرب.
٢ - الأسلوب العجيب المخالف لجميع الأساليب
العربية.
(١) انظر روح الدين الإسلامي - ص ٥٤، وانظر بالتفصيل أمثلة
متنوعة - الإعجاز العلمي - د. عبد السلام اللوح - ص ١٦٦ - ٢٣٤.
(٢)
انظر لمحات في إعجاز القرآن - ص ٤٤ - ٤٥.
(٣) إعجاز القرآن - أ. د.
فضل عباس - ص ٢٥٠.
٣ - الجزالة التي لا يمكن لمخلوق أن يأتي
بمثلها.
٤ - التشريع الدقيق الكامل الذي يفي بحاجات البشر.
٥
- الإخبار عن المغيبات الماضية والمستقبلة، التي لا تعرف إلا بالوحي.
٦
- الوفاء بكل ما أخبر عنه القرآن من وعد ووعيد.
٧ - عجز المخلوقين عن
أن يأتوا بمثله.
٨ - كونه محفوظًا من الزيادة والنقصان ومن التبديل
والتغيير {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}
[الحجر: ٩] .
٩ - تيسيره للحفظ {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ
لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} [القمر: ١٧] .
١٠ - تأثيره في قلوب
الأتباع والأعداء حتى قال قائلهم [١]، «والله إن له لحلاوة وإن عليه لطلاوة وإن
أسفله لمغدق وإن أعلاه لمثمر وإنه ليعلو وما يعلى عليه وما تقوله بشر».
١١
- كونه لا يمله قارئه ولا سامعه على كثرة الترديد بخلاف سائر الكلام [٢].
والقرآن
أولاً وآخرًا هو الذي صير العرب رعاة الشاء والغنم ساسة شعوب وقادة أمم، وهذا
وحده إعجاز، والقرآن الكريم هو أساس الدين ومصدر التشريع وحجة الله البالغة في كل
عصر ومصر، بلغه رسول الله لأمته امتثالاً لأمر ربه واحتوى القرآن على الأمر
الصريح بوجوب اتباعه والعمل بما تضمنه من الأحكام في غير موضع وبغير أسلوب
{اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} [الأعراف: ٣] {اتْلُ مَا
أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ} [العنكبوت: ٤٥] .
كما وقد احتوى
القرآن الكريم على كثير من نواحي الحياة المختلفة من ذلك ما يأتي:
١ -
العقائد التي يجب الإيمان بها في الله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر
خيره وشره، وهي الحد الفاصل بين الإيمان والكفر.
٢ - الإرشاد إلى
النظر والتفكر في ملكوت السموات والأرض وما خلق الله من شيء لتعرف أسرار الله في
كونه وإبداعه في خلقه فتمتلئ القلوب إيمانا بعظمته عن نظر واستدلال لا عن تقليد
ومجاورة.
٣ - قصص الأولين أفرادا وأمما، فقد ورد في القرآن كثير من
القصص الذي يثير الاعتبار والاتعاظ ويرشد إلى سنن الله في خلقه نجاة للصالحين
وهلاكا للمفسدين.
٤ - الأخلاق الفاضلة التي تهذب النفوس وتصلح من شأن
الفرد والجماعة كالصبر والصدق والوفاء وأداء الأمانة مع التحذير من الأخلاق
السيئة التي تودي بمعاني الحياة الإنسانية الفاضلة وتسبب لها الشقاء كالكذب
والخيانة وإخلاف الوعد ونقض العهد.
٥ - العبادات على اختلاف أنواعها
من صلاة وزكاة وصوم وحج وجهاد وجاء في ذلك ما يقرب من مائة وأربعين آية.
٦
- نظام الأسرة كأحكام الزواج والطلاق وما يتبعها من مهر ونفقة وحضانة ورضاع ونسب
وعدة ووصية وإرث، وجاء في ذلك ما يقرب من سبعين آية.
(١) هو: الوليد
بن المغيرة المخزومي، انظر: "شعب الإيمان" للبيهقي (١٣٤) ، و "تفسير البغوي" (٢/
٦٣٢) .
(٢) التبيان في علوم القرآن للصابوني (١٠٣) وانظر: البيان في
إعجاز القرآن ومقدمة تفسير ابن جزي (١/ ٢٣) .
٧ - أحكام المعاملات
المالية كالبيع والإجارة والرهن والمداينة والتجارة، جاء في ذلك ما يقرب من سبعين
آية أيضا.
٨ - أحكام الجنايات والحدود والسرقة والزنا والقذف ومحاربة
الله في أرضه وجاء في ذلك ما يقرب من ثلاثين آية.
٩ - أحكام الحرب
والسلم وما يتبع ذلك من جهاد وغنيمة وأسر وعهود وجزية.
١٠ - نظام
الحكم فيما يجب على الحكام من الشورى والعدل والمساواة والحكم بما أنزل الله وما
يجب على الناس لهم من طاعة.
١١ - تنظيم الحياة الاجتماعية في علاقة
الأغنياء بالفقراء فيما يحقق العدل الاجتماعي بين الناس، ولم يتفق العلماء على
عدد آيات الأحكام وقيل إنها: خمس مائة آية أو قريب منها [١] والله سبحانه وتعالى
أعلم.
وقد قال - صلى الله عليه وسلم - «إنها ستكون فتنة» قيل: وما
المخرج منها يا رسول الله؟ قال: «كتاب الله فيه نبأ ما قبلكم وخبر ما بعدكم وحكم
ما بينكم» [٢]، وورد في الحديث ما معناه: أن القرآن اشتمل على ذكر الحلال والحرام
والمحكم والمتشابه والأمثال، فأحلوا حلاله وحرموا حرامه، وعملوا بمحكمه وآمنوا
بمتشابهه واعتبروا بأمثاله، وقال بعضهم: اشتمل القرآن على تسعة أشياء [٣]:
فقال:
لا إنما القرآن تسعة أحرف ... سأنبئكما في بيت شعر بلا خلل
حلال حرام
محكم متشابه ... بشير نذير عظة قصة مثل
وأصل علوم القرآن ثلاثة: توحيد
وتذكير وأحكام، فالتوحيد يدخل فيه معرفة المخلوقات ومعرفة الخالق بأسمائه وصفاته
وأفعاله، والتذكير منه الوعد والوعيد والجنة والنار.
والأحكام منها
التكاليف كلها وتبيين المنافع والمضار والأمر والنهي والندب، ولهذا كانت الفاتحة
أم القرآن لأن فيها الأقسام الثلاثة، وسورة الإخلاص ثلثه لأن فيها أحد الأقسام
وهو التوحيد [٤].
وقال ابن جزي في مقدمة تفسيره: "معاني القرآن
سبعة:"
١ - علم الربوبية، ومنه إثبات وجود الباري جل جلاله
والاستدلال
عليه بمخلوقاته.
٢ - والنبوة وإثبات نبوة الأنبياء عليهم السلام على
العموم وإثبات نبوة نبينا محمد على الخصوص وإثبات الكتب التي أنزلها الله عليهم
ووجود الملائكة الذين كانوا وسائط بين الله وبينهم.
٣ - المعاد: وهو
إثبات الحشر وذكر ما في الآخرة من الحساب والجزاء وصحائف الأعمال وكثرة الأهوال
والجنة والنار.
(١) تاريخ التشريع والفقه الإسلامي للشيخ مناع خليل
القطان «(٦٧، ٦٨)».
(٢) أخرجه الترمذي (٢٩٠٦) : ص ٥/ ٢٢,.
(٣)
نقلا عن: فضائل القرآن، عبد الله بن جار الله بن إبراهيم آل جار الله: ٣٢.
(٤)
«مختصر الإتقان في علوم القرآن» (٩٦ - ٩٨) .
٤ - الأحكام: وهي الأوامر
والنواهي وتنقسم خمسة أنواع، واجب ومندوب وحرام ومكروه ومباح، ومنها ما يتعلق
بالأبدان كالصلاة والصيام، وما يتعلق بالأموال كالزكاة وما يتعلق بالقلوب
كالإخلاص والخوف والرجاء وغير ذلك.
٥ - الوعد: ومنه وعد بخير الدنيا
كالنصر على الأعداء والحياة الطيبة والأمن والاستقرار ومنه وعد بخير الآخرة
كأوصاف الجنة ونعيمها.
٦ - الوعيد: ومنه تخويف بالعقاب في الدنيا
كالخوف والمرض والجوع ونقص الأموال والأنفس والثمرات، ومنه وعيد، بعقاب الآخرة
كعذاب القبر، وأهوال يوم القيامة، وشدة الحساب، ودخول النار، وتأمل القرآن تجد
الوعد مقرونا بالوعيد كقوله: {إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ
الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} [الانفطار: ١٣، ١٤] ليبعث على الخوف والرجاء.
٧
- القصص: وذكر أخبار الأنبياء مع قومهم وماجرى لهم من نجاة المصدقين وهلاك
المكذبين ليعتبر اللاحقون بالسابقين فلا يعملون مثل عملهم فيصيبهم ما أصابهم
"[١]."
الثاني عشر: ترجمة القرآن الكريم بغير لغته
تطلق الترجمة في اللغة على: نقل الكلام من لغة إلى أخرى، جاء في
لسان العرب: الترجمان بالضم والفتح هو الذي يترجم الكلام أي ينقله إلى لغة أخرى
[٢].
والترجمة اصطلاحاً: تفسير الكلام وبيان معناه بلغة أخرى، قال
الجوهري: "وقد ترجمه وترجم عنه إذا فسر كلامه بلسان آخر" [٣].
أقسام الترجمة [٤]:
تنقسم الترجمة إلى قسمين: -
أولاً: الترجمة الحرفية:
وهي نقل الكلام من لغة إلى أخرى مع مراعاة الموافقة في النظم
والترتيب، والمحافظة على جميع معاني الأصل المترجم.
ثانياً: الترجمة المعنوية والتفسيرية:
وتعني شرح الكلام وبيان معناه بلغة أخرى بدون مراعاة لنظم الأصل
وترتيبه، وبدون المحافظة على جميع معاني الأصل المترجم.
موقف العلماء من ترجمة القرآن الكريم
أولاً: الترجمة الحرفية لا تجوز وذلك:
لا يمكن ترجمة القرآن ترجمة تماثله في دقة تعبيره وعلو أسلوبه وجمال
سبكه وإحكام نظمه وتقوم مقامه في إعجازه وتحقيق جميع مقاصده من إفادة الأحكام
والآداب والإبانة عن العبر والمعاني الأصلية والثانوية ونحو ذلك مما هو من خواص
مزاياه المستمدة من كمال
(١) التسهيل لعلوم التنزيل (١/ ٩) .
(٢)
لسان العرب لابن منظور - ج ١٦ ص ١٤٠.
(٣) القاموس المحيط - ج ٨ ص
٢١١.
(٤) التفسير والمفسرون للذهبي - ج ١ ص ٢٤.
بلاغته
وفصاحته ومن حاول ذلك فمثله كمثل من يحاول أن يصعد إلى السماء بلا أجهزة ولا سلم
أو يحاول أن يطير في الجو بلا أجنحة ولا آلات.
لأن القرآن الكريم
أنزله الله على العرب وهم أرباب اللغة والبيان فلم يستطيعوا أن يأتوا بسورة من
مثله، وهذا دليل واضح على إعجازه، فلو تُرجم القرآن ترجمة حرفية لضاعت خواص
القرآن البلاغية ولنزل عن مرتبته المعجزة إلى مرتبة تدخل تحت طوق البشر والدليل
على ذلك إذا أراد المترجم أن يترجم قوله تعالى ترجمة حرفية: {وَلَا تَجْعَلْ
يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ
مَلُومًا مَحْسُورًا} [الإسراء: ٢٩] ، أتى المترجم بكلام يدل على النهي عن ربط
اليد في العنق وعن مدها غاية المد، مع مراعاة الترتيب في الأصل، ولكن هذه الترجمة
لا توضح المقصد والمعنى الحقيقي لهذه الآية الكريمة، وعلى هذا: فالترجمة الحرفية
لا يمكن أن تقوم مقام الأصل في تحصيل كل ما يقصد منه لما يترتب عليها من ضياع هذا
الغرض.
ثانياً: الترجمة التفسيرية أو المعنوية:
أجازها العلماء وذلك لأن المترجم إذا أراد أن يترجم هذه الآية ترجمة
تفسيرية، فإنه يأتي بالنهي عن التبذير والتقتير في أبشع صورة منفرة فتأتي منها
بعبارة تدل على هذا النهي المراد في أسلوب يترك في نفس المترجم لهم أكثر الأثر في
استبشاع التقتير والتبذير دون رعاية الأصل في نظم وترتيب الآية.
إذن
يمكن أن يعبر العالم عما فهمه من معاني القرآن حسب وسعه وطاقته بلغة أخرى ليبين
لأهلها ما ما أدركه فكره من هداية القرآن وما استنبطه من أحكامه أو وقف عليه من
عبره ومواعظه لكن لا يعتبر شرحه لتلك غير اللغة العربية قرآناً ولا ينزل منزلته
من جميع النواحي، بل هو نظير تفسير القرآن باللغة العربية في تقريب المعاني
والمساعدة على الاعتبار واستنباط الأحكام، ولا يسمى ذلك التفسير قرآناً، وعلى هذا
يجوز للجنب والكفار مس ترجمة معاني القرآن بغير اللغة العربية، كما يجوز مسهم
تفسيره باللغة العربية.
شروط الترجمة
أولاً: أن تكون الترجمة على شاكلة التفسير، لا يعول عليها إلا إذا
كانت معتمدة على علوم اللغة، وعلوم القرآن.
ثانياً: معرفة المترجم
لأوضاع اللغتين لغة الأصل ولغة الترجمة.
ثالثاً: معرفة أساليب وخصائص
اللغتين.
رابعاً: وفاء الترجمة بجميع معاني الأصل ومقاصده.
خامساً:
أن يكتب القرآن أولاً، ثم يؤتى بعده بتفسيره، ثم يتبع هذا بترجمته التفسيرية حتى
لا يتوهم متوهم أن هذه الترجمة ترجمة حرفية للقرآن
سادساً: أن يكون
المترجم بعيداً عن الميل إلى عقيدة زائفة تخالف ما جاء به القرآن، وهذا شرط في
المفسر أيضاً.
ملاحظة: إن الكتابة للآيات بالحروف اللاتينية أو
الإنجليزية التي تبقي الكلام القرآني كما هو لا يدخل في موضوع الترجمة وإنما هو
كتابة خطية بحروف غير عربية.
الثالث عشر: فضائل القرآن
إن قراءة القرآن وتلاوته عبادة من العبادات مثلها مثل سائر
العبادات، وهي من الذكر يؤجر القارئ على قرأته له، ولذلك حثنا رسول الله صلى الله
عليه وسلم على تلاوته ودلنا على عظيم أجره، وكثرة القراءة للقرآن تولد عند المسلم
الذي يَستمتع بقراءته لذة بتلاوته، وراحة نفسية واطمئنان في القلب، قال تعالى:
{الَّذِينَ آَمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ
اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد: ٢٨] ، وبتكرار القراءة بتلذذ فإن القارئ
سوف يحاول أن يفهم ما يقرأ من القرآن بوعي وبصيرة .. فإذا فهم ما يقرؤه بوعي
وبصيرة فإنه لاشك سوف يدخل إلى محراب التفكر والتدبر، ويبدأ بالتدبر لآيات الله
في القرآن وعندها يكون عمل بمقتضاها عن علم ووعي وبصيرة.
وللقرآن صفات
عظيمة يعجز البشر عن حصرها، ولكن منها الصفات الآتية [١]:
١ - كتاب
عام للعالمين: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ
لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} [الفرقان: ١] .
٢ - المعجزة العظمى، الذي
تحدَّى الله به الإنس والجن على أن يأتوا بمثله، أو بعشر سور من مثله، أو سورة
واحدة، فعجزوا مجتمعين ومتفرقين عن الإتيان بشيء من ذلك، قال الله {قُلْ لَئِنِ
اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ
لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الإسراء:
٨٨] ، وقوله تعالى {أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لَا يُؤْمِنُونَ (٣٣)
فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ (٣٤) } [الطور: ٣٣ -
٣٤] ، وبعد هذا التحدّي عجزوا أن يأتوا بمثله، فمدَّ لهم في الحبل وتحدَّاهم بعشر
سور مثله: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ
مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ
صَادِقِينَ} [هود: ١٣] ، فعجزوا، فأرخى لهم في الحبل، وتحدّاهم بسورة مثله، قال
الله تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ
وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}
[يونس: ٣٨] .
وقد سمع هذا التحدِّي من سمع القرآن وعرفه الخاص والعام،
ولم يتقدم أحد على أن يأتي بسورة مثله من حين بعث النبي - صلى الله عليه وسلم -
إلى هذا اليوم [٢] وإلى قيام الساعة، والقرآن يشتمل على آلاف المعجزات؛ لأنه مائة
وأربع عشرة سورة، وقد وقع التحدي بسورة واحدة، وأقصر سورة في القرآن سورة الكوثر،
وهي ثلاث آيات قصار، والقرآن يزيد بالاتفاق على ستة آلاف آية ومائتي آية، ومقدار
سورة الكوثر من آيات أو آية طويلة على ترتيب كلماتها له حكم السورة الواحدة، ويقع
بذلك التحدي والإعجاز؛ ولهذا كان القرآن يُغني عن جميع المعجزات الحسِّية
والمعنوية؛ لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، وإعجازه في وجوه كثيرة:
الإعجاز البلاغي والبياني، والإخبار عن الغيوب بأنواعها، والإعجاز التشريعي،
والإعجاز العلمي الحديث؛ ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم: "ما من الأنبياء
نبي إلا أُعطي من الآيات على ما مثله آمن البشر،"
(١) ينظر: عظمة
القرآن وتعظيمه وأثره في النفوس في ضوء الكتاب والسنة، د. سعيد بن علي بن وهف
القحطاني (كتاب منشور في الشبكة الالكترونية) . (بتصرف بسيط) .
(٢)
انظر: الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح لابن تيمية، ٤/ ٧١ - ٧٧، والبداية
والنهاية لابن كثير، ٦/ ٩٥.
وإنما كان الذي أُتيته وحياً أوحاه الله
إليَّ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة "[١]."
٣ - هدى
للمتقين: {الم (١) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (٢)
} [البقرة: ١ - ٢] .
٤ - هدى للناس جميعاً {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي
أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى
وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ
مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ
بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ
وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}
[البقرة: ١٨٥] .
٥ - يهدي للتي هي أقوم: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ
يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ
يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا (٩) وَأَنَّ الَّذِينَ
لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (١٠) }
[الإسراء: ٩ - ١٠] .
٦ - روحٌ وحياةٌ: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا
إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا
الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ
عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى: ٥٢] .
٧
- نور: يهدي به الله من يشاء من عباده: {وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي
بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا} [الشورى: ٥٢] ، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ
جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا
(١٧٤) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ
فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا
(١٧٥) } [النساء: ١٧٤ - ١٧٥] .
٨ - فرقان: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ
الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} [الفرقان: ١]
.
٩ - شفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين: {يَا أَيُّهَا
النَّاسُ قَدْ جَاءتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِّمَا فِي
الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِين} [يونس: ٥٧] ، {وَنُنَزِّلُ مِنَ
الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ
الظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَارًا} [الإسراء: ٨٢] ، {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا
هُدًى وَشِفَاء وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ
عَلَيْهِمْ عَمًى أُوْلَئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيد} [فصلت: ٤٤] .
١٠
- القرآن تبيانٌ لكل شيء: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ
شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِين} [النحل: ٨٩] .
١١
- لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه: {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيز * لا
يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ
حَكِيمٍ حَمِيد} [فصلت: ١] .
١٢ - تكفَّل الله بحفظه: {إِنَّا نَحْنُ
نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُون} [الحجر: ٩] .
١٣ -
كتابٌ واضحٌ مبين: {قَدْ جَاءكُم مِّنَ الله نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِين * يَهْدِي
بِهِ الله مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُم مِّنِ
الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ
مُّسْتَقِيم} [المائدة: ١٦] .
١٤ - أُحْكِمَتْ آياته: {الَر كِتَابٌ
أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِير} [٢].
١٥
- فُصِّلت آياته: {كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِّقَوْمٍ
يَعْلَمُون * بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُون}
[فصلت: ٢ - ٤] .
١٦ - تذكرةٌ لمن يخشى: مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ
الْقُرْآنَ لِتَشْقَى * إِلاَّ تَذْكِرَةً لِّمَن يَخْشَى * تَنزِيلاً
مِّمَّنْ
(١) متفق عليه: البخاري، كتاب فضائل القرآن، باب كيف نزل
الوحي، برقم ٤٩٨١، ومسلم، كتاب الإيمان، باب وجوب الإيمان برسالة نبينا محمد -
صلى الله عليه وسلم - إلى جميع الناس، برقم ١٥٢.
(٢) سورة هود، الآية:
١.
خَلَقَ الأَرْضَ وَالسَّمَوَاتِ الْعُلَى [طه: ٢ - ٤] .
١٧
- ما تَنَزَّلت به الشياطين: {وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِين * وَمَا
يَنبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُون * إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُون}
[الشعراء: ٢٠٩ - ٢١٢] .
١٨ - آياتٌ بيِّناتٌ في صدور أهل العلم: {بَلْ
هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} [العنكبوت: ٤٩]
.
١٩ - ذِكْرٌ وقرآنٌ مبين: {إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ
مُّبِين * لِيُنذِرَ مَن كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِين}
[يس: ٦٩ - ٧٠] .
٢٠ - أحسن الحديث: {الله نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ
كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ
يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ الله
ذَلِكَ هُدَى الله يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاء وَمَن يُضْلِلْ الله فَمَا لَهُ مِنْ
هَاد} [الزمر: ٢٣] .
٢١ - عليٌّ حكيم: {وَإِنَّهُ فِي أُمِّ
الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيم} [الزخرف: ٤] .
٢٢ - بصائرُ
للناس: {هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّقَوْمِ يُوقِنُون}
[الجاثية: ٢٠] .
٢٣ - قرآنٌ مجيدٌ: {وَالْقُرْآنِ الْمَجِيد} [ق: ٢]
.
٢٤ - قرآنٌ كريمٌ: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيم*فِي كِتَابٍ مَّكْنُون
* لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُون*تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِين}
[الواقعة: ٧٧ - ٨٠] .
٢٥ - لو أنزله الله على الجبال لخشعت، وتصدَّعت
من خشيته تعالى: {لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ
خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ الله وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا
لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُون} [الحشر: ٢١] .
٢٦ - يهدي إلى
الحقِّ وإلى طريقٍ مستقيم، ومصدِّقٌ لما بين يديه: {قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا
سَمِعْنَا كِتَابًا أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ
يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُّسْتَقِيم} [الأحقاف: ٣٠] .
٢٧
- يهدي إلى الرُّشد: {إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا*يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ
فَآمَنَّا بِهِ} الجن: ١ - ٢].
٢٨ - في لوحٍ محفوظ: {بَلْ هُوَ
قُرْآنٌ مَّجِيد * فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظ} [البروج: ٢١ - ٢٢] .
٢٩ -
القرآن وصيَّة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقد أوصى به في عدة أحاديث منها
الأحاديث الآتية:
الحديث الأول: حديث عبد الله بن أبي أوفى - رضي الله
عنه -، فقد سُئل: هل أوصى رسول لله - صلى الله عليه وسلم -؛ قال: "أوصى بكتاب
الله - عز وجل -" [١].
والمراد بالوصية بكتاب الله: حفظه حِسَّاً
ومعنىً، فيُكرم، ويُصان، ويُتّبع ما فيه، فَيُعمل بأوامره، ويجتنب نواهيه، ويداوم
على تلاوته، وتعلُّمه، وتعليمه، ونحو ذلك [٢].
الحديث الثاني: حديث
جابر رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا في صفة حجة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وفيه أن
النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في خطبته في عرفات: "... وقد تركت فيكم ما لن
تضلُّوا بعده إن اعتصمتم به: كتاب الله، وأنتم تُسألون عني فماذا أنتم قائلون؟"
قالوا: نشهد أنك قد بلغت، وأديت ونصحت، فقال بأصبعه السبابة يرفعها إلى
(١)
متفق عليه: البخاري، كتاب الوصايا، باب الوصايا، برقم ٢٧٤٠، ومسلم، كتاب الوصية،
باب ترك الوصية لمن ليس له شيء يوصي فيه، برقم ١٦٣٤.
(٢) فتح الباري،
لابن حجر، ٩/ ٦٧.
السماء وينكتها إلى الناس: "اللهم اشهد، اللهم اشهد،
اللهم اشهد ..." [١].
الحديث الثالث: حديث ابن عباس رضي الله عنهما:
أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خطب الناس في حجة الوداع فقال: "إن الشيطان
قد يئس أن يعبد بأرضكم، ولكن رضي أن يُطاع فيما سوى ذلك مما تحاقرون من أعمالكم
فاحذروا، إني قد تركت فيكم ما إن اعتصمتم به فلن تضلُّوا أبداً: كتاب الله وسنة
نبيه ..." [٢].
الحديث الرابع: حديث زيد بن أرقم - رضي الله عنه - أن
النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لهم في غدير خم [بين مكة والمدينة] [٣]، وفيه:
"... وأنا تارك فيكم ثقلين: أولهما كتاب الله فيه الهدى والنور [هو حبل الله من
اتبعه كان على الهدى، ومن تركه كان على الضلالة] فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به"
، فحث على كتاب الله، ورغَّب فيه ... "[٤]."
الحديث الخامس: حديث أبي
ذر - رضي الله عنه -، قال: قلت: يا رسول الله أوصني قال: "أوصيك بتقوى الله؛ فإنه
رأس الأمر كلِّه" ، "قلت: يا رسول الله زدني، قال:" عليك بتلاوة القرآن وذكر
الله؛ فإنه نورٌ لك في الأرض وذخرٌ لك في السماء "[٥]."
فقد جاءت هذه
الأحاديث تدل على أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أوصى بكتاب الله تعالى في
عِدَّةِ مواقف: في خطبة عرفات، وفي خطبة أيام منى، وفي خطبته في غدير خم بين مكة
والمدينة، وعند موته - صلى الله عليه وسلم -، وهذا يدل على أهمية كتاب الله - عز
وجل -.
٣٠ - والقرآن العظيم: من ابتغى الهُدى من غيره أضلّه الله، وهو
حبل الله المتين، ونوره المبين، والذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم، وهو الذي لا
تزيغ به الأهواء، ولا تلتبس به الألسنة، ولا تتشعَّب معه الآراء، ولا يشبع منه
العلماء، ولا يملّه الأتقياء، ولا يخلق على كثرة الردِّ، ولا تنقضي عجائبه، من
عَلِم علمه سبق، ومن قال به صدق، ومن حكم به عدل، ومن عمل به أُجِر، ومن دعا إليه
هُدِيَ إلى صراط مستقيم [٦].
٣١ - وقد وردت أحاديث كثيرة تبين فضل
القرآن على سائر كلام البشر، وهو كلام الله فمنها:
من فضائل القرآن
أنه يشفع يوم القيامة لمن قرأه وعمل به في الدنيا، قال - صلى الله عليه وسلم -
"اقرءوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعا لأصحابه" [٧].
وقال - صلى
الله عليه وسلم: "يُؤْتَى بِالْقُرْآنِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَأَهْلِهِ الَّذِينَ
كَانُوا يَعْمَلُونَ بِهِ تَقْدُمُهُ سُورَةُ الْبَقَرَةِ وَآلُ عِمْرَانَ،
تُحَاجَّانِ عَنْ صَاحِبِهِمَا" [٨].
وخير الناس هم الذين تعلموا
القرآن وعلموه لوجه الله قال - صلى الله عليه وسلم: "خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ
القُرْآنَ وَعَلَّمَهُ" [٩].
وعن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه
وسلم - قال: "يجيء القرآن يوم القيامة يقول: يا رب حله، فيلبس تاج الكرامة، ثم
يقول: يا رب زده فيلبس حلة الكرامة ثم يقول: يا رب ارض عنه فيرضى عنه، فيقال:
اقرأ وارق فيزاد بكل آية حسنة" [١٠].
وعن علي رضي الله عنه قال: قال
رسول الله - صلى الله عليه وسلم: «من قرأ القرآن فاستظهره فأحل حلاله وحرم حرامه؛
أدخله الله به الجنة وشفعه في عشرة من أهل بيته كلهم قد وجبت لهم النار» [١١].
عن
سهل بن معاذ الجهني أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «من قرأ القرآن
وعمل به ألبس والداه تاجا يوم القيامة ضوءه أحسن من ضوء الشمس في بيوت الدنيا فما
ظنكم بالذي عمل بهذا» [١٢].
وروى البخاري عَنْ عَائِشَةَ: عَنْ
النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَثَلُ الَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ
وَهُوَ حَافِظٌ لَهُ مَعَ السَّفَرَةِ الْكِرَامِ الْبَرَرَةِ وَمَثَلُ الَّذِي
يَقْرَأُ وَهُوَ يَتَعَاهَدُهُ وَهُوَ عَلَيْهِ شَدِيدٌ فَلَهُ أَجْرَانِ"
[١٣].
وعن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الماهر
بالقرآن مع السفرة الكرام البررة والذي يقرأ القرآن ويتتعتع فيه وهو عليه شاق له
أجران" [١٤].
وروى النسائي وابن ماجة والحاكم بإسناد صحيح عن أنس رضي
الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إِنَّ لِلَّهِ أَهْلِينَ مِنْ
النَّاسِ" ، قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ: مَنْ هُمْ؟ قَالَ: "هُمْ أَهْلُ
الْقُرْآنِ أَهْلُ اللَّهِ وَخَاصَّتُهُ" [١٥].
وعَنِ ابْنِ عُمَرَ،
قَالَ: سُئِلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: مَنْ أَحْسَنُ النَّاسِ صَوْتًا
بِالْقُرْآنِ؟ قَالَ: "مَنْ إِذَا سَمِعْتَ قِرَاءَتَهُ رَأَيْتَ أَنَّهُ
يَخْشَ"
(١) مسلم، كتاب الحج، باب حجة النبي - صلى الله عليه وسلم -،
برقم ١٢١٨.
(٢) الحاكم، ١/ ٩٣، وصححه ووافقه الذهبي، وصححه الألباني
في صحيح الترغيب والترهيب، ١/ ١٢٤، وفي الأحاديث الصحيحة، برقم ٤٧٢.
(٣)
اسم لفيضة على ثلاثة أميال من الجحفة، غدير يقال له: غدير خم. [شرح النووي على
صحيح مسلم] .
(٤) مسلم، كتاب فضائل الصحابة - رضي الله عنهم -، باب من
فضائل علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -، برقم ٢٤٠٨.
(٥) ابن حبان في
صحيحه مطولاً، برقم ٣٦١، ٢/ ٧٨، وحسنه الألباني لغيره في صحيح الترغيب والترهيب،
٢/ ١٦٤، برقم ١٤٢٢.
(٦) انظر: الترمذي، برقم ٢٩٠٦، وكل ما جاء في هذا
الأثر فمعناه صحيح حتى ولو لم يأتِ في حديث، لكن المعنى تدل عليه عموم الأدلة من
الكتاب والسنة.
(٧) صحيح مسلم (١/ ٥٥٣) برقم (٨٠٤)
(٨)
رَوَاه مُسْلِم (١/ ٨٠٥) ، والتِّرمِذِي (٥/ ٢٨٨٣)
(٩) رَوَاه
البُخَارِي (٦/ ٥٠٢٧) ، وأَبُو دَاوُد (٢/ ١٤٥٢) .
(١٠) صحيح الجامع
(٨٠٣٠) (حديث حسن) .
(١١) أخرجه الترمذي، ومعنى استظهره، حفظه عن ظهر
قلب.
(١٢) أخرجه أبو داود والحاكم وقال: صحيح الإسناد.
(١٣)
البخاري، ٤/ ١٨٨٢ رقم ٤٦٥٣.
(١٤) مسلم ١/ ٥٤٩ رقم ٧٩٨.
(١٥)
ابن ماجة ١/ ٧٨ رقم ٢١٥. قال عنه الشيخ الألباني في صحيح الترغيب والترهيب: صحيح.
المستدرك ١/ ٧٤٣ رقم ٢٠٤٦.
الفصل الثاني
أولا: - أنواع
التفسير
التفسير لغة واصطلاحا
تدور معاني التفسير في اللغة
حول الكشف، والإيضاح، والبيان للشيء.
قال ابن فارس [١]: "(فَسَرَ)
الفاء، والسين، والراء كلمة واحدة تدلُّ على بيانِ شيءٍ وإيضاحِه" [٢].
وقال
ابن منظور [٣]: "(فسر) الفَسْرُ: البيان، فَسَر الشيءَ يفسِرُه بالكَسر
وتَفْسُرُه بالضم فَسْراً وفَسَّرَهُ: أَبانه ... وقوله عز وجل: {وَرَتَّلْنَاهُ
تَرْتِيلًا} [الفرقان: ٣٢] ، الفَسْرُ: كشف المُغَطّى والتَّفْسير كَشف المُراد
عن اللفظ المُشْكِل، واسْتَفْسَرْتُه كذا، أَي سأَلته أَن يُفَسِّره لي" [٤].
وعُرِّف
التفسير بأنه: "الاستبانة، والكشف، والعبارة عن الشيء بلفظ أسهل وأيسر من لفظ
الأصل" [٥].
وخلاصة القول أن معنى التفسير في اللغة: هو البيان،
والإيضاح، والكشف بلفظ أسهل وأيسر.
ويعرف الإمام الزركشي [٦]، التفسير
اصطلاحا بقوله: "التفسير: هو علم يعرف به فهم كتاب الله المنزل على نبيه محمد
-صلى الله عليه وسلم-، وبيان معانيه، واستخراج أحكامه،"
(١) هو أبو
الحسين أحمد بن فارس بن زكريا بن حبيب الرازي، ولد في قرية كرسفة، منطقة رستاق
الزهراء، كان أحد أئمة اللغة الأعلام نزيل همذان، كان من الرحالة في طلب العلم،
توفى سنة خمس وتسعين وثلاثمائة للهجرة بالري ودفن بها، انظر: سير أعلام النبلاء،
شمس الدين أبو عبدالله محمد بن أحمد الذهبي ١٧/ ١٠٣، تحقيق: مجموعة بإشراف شعيب
الأرناؤوط، مؤسسة الرسالة، (بدون) .
(٢) معجم مقاييس اللغة، أحمد بن
فارس ٤/ ٤٠٢، تحقيق: عبد السلام محمد هارون، دار الفكر، ١٣٩٩ هـ.
(٣)
هو محمد بن مكرم بن علي بن أحمد الأنصاري الأفريقي ثم المصري أبو الفضل يعرف بابن
منظور، ولد سنة ثلاثين وستمائة، بمصر وقيل في طرابلس، خدم في ديوان الآثار
بالقاهرة ثم ولي القضاء في طرابلس ثم رجع إلى مصر ومات فيها سنة إحدى عشرة
وسبعمائة وترك من مختصراته بخطه خمسمائة مجلد، انظر: الدرر الكامنة في أعيان
المائة الثامنة، لابن حجر، أبي الفضل أحمد بن علي العسقلاني الشافعي ٢/ ١٠٧، مجلس
دائرة المعارف العثمانية, حيدر أباد- الهند، ١٣٩٢ هـ - ١٩٧٢ م، ط/الثانية، تحقيق:
محمد عبد المعيد ضان.
(٤) لسان العرب، محمد بن مكرم بن منظور الأفريقي
١١/ ١٢٨، دار صادر - بيروت، ط/الأولى.
(٥) لسان العرب لابن منظور ١١/
١٢٨.
(٦) هو بدر الدين أبو عبد الله محمد بن بهادر بن عبد الله المصري
الزركشي الشافعي الإمام المصنف، ولد سنة خمس وأربعين وسبعمائة، وأخذ عن الشيخين:
جمال الدين الأسنوي، وسراج الدين البلقيني وكان رحالة في طلب العلم، وكثير
التصانيف، توفي بمصر ودفن بالقرافة، سنة أربع وتسعين وسبعمائة، انظر: الدرر
الكامنة في أعيان المائة الثامنة ١/ ٤٧٩، وشذرات الذهب في أخبار من ذهب، عبد الحي
بن أحمد ابن العماد العكري الحنبلي ٦/ ٣٣٤، تحقيق: عبد القادر الأرناؤوط، ومحمود
الأرناؤوط، دار ابن كثير- دمشق، ط/١٤٠٦ هـ.
وحِكمه، واستمداد ذلك من
علم اللغة، والنحو، والتصريف، وعلم البيان، وأصول الفقه، والقراءات، ويحتاج
لمعرفة أسباب النزول، والناسخ والمنسوخ "[١]."
ويرى الباحث أن الزركشي
أطلق الفهم ولم يبين ضوابطه، ولم يصرح بأن السنة مفسرة لا في القول، ولا في
الفعل، ولا في التقرير، وكرر بعض المعاني فالنحو والتصريف وعلم البيان كلها داخلة
في علم اللغة.
ويقول الإمام السيوطي [٢]: التفسير: "علم نزول الآيات،
وشؤونها، وأقاصيصها، والأسباب النازلة فيها، ثم ترتيب مكيها، ومدنيها، ومحكمها،
ومتشابهها وناسخها، ومنسوخها، وخاصها، وعامها، ومطلقها، ومقيدها، ومجملها،
ومفسرها، وحلالها، وحرامها، ووعدها، ووعيدها، وأمرها، ونهيها، وعِبرها، وأمثالها"
[٣]، ويبدو أن الإمام السيوطي ركز على أسباب النزول، وترتيب فروع القرآن من مدني،
ومكي، ومحكم، ومتشابه ... الخ، ولم يهتم بجانب التفسير المشتمل على الفهم
والبيان.
وعُرَّف علم التفسير أيضاً بأنه: "علم يبحث فيه عن كيفية
النطق بألفاظ القرآن، ومدلولاتها، وأحكامها، الإفرادية، ومعانيها التركيبية،
وتفسير الشيء لاحق به ومتمم له وجار مجرى بعض أجزائه، قال أهل البيان: التفسير هو
أن يكون في الكلام لبس، وخفاء فيؤتى بما يزيله ويفسره" [٤].
وهذا
التعريف ركز على القراءات بشكل جوهري لكنه أشار إلى إيضاح تلك المدلولات بشكل
إفرادي، وتركيبي، فهو قد تناول نوعين من التفسير: تفسير مفردات، وتفسير تراكيب،
وعليه فإن هذا التعريف أقرب إلى الصواب من حيث استيعاب معنى التفسير عند أهله.
وقال
أبو حيان [٥]: "التفسير: علم يُبحثُ فيه عن كيفية النطق بألفاظ القرآن،
ومدلولاتها، وأحكامها الإفرادية، والتركيبية، ومعانيها التي تحمل عليها حالة
التركيب، وتتمات لذلك" [٦].
(١) البرهان في علوم القرآن، بدر الدين
محمد بن عبد الله الزركشي ١/ ١٣، دار إحياء الكتب العربية
ط/ الأولى
١٣٧٦ هـ.
(٢) هو عبد الرحمن بن الكمال أبي بكر بن محمد بن سابق الدين
بن الفخر عثمان الخضيري الأسيوطي ولد في رجب سنة تسع وأربعين وثمانمائة، ونشأ في
القاهرة يتيما، اشتغل بالعلوم وكان علما، توفى ليلة الجمعة لتسعة عشر يوماً خلت
من جمادى الأولى سنة إحدى عشرة وتسعمائة للهجرة، وكان عمره إحدى وستين سنة، انظر:
حسن المحاضرة في تأريخ مصر والقاهرة ص ١١٠، (بدون) ، وطبقات المفسرين، أحمد بن
محمد الأدنروي ص ٣٦٥ - تحقيق: سليمان بن صالح الخزي، مكتبة العلوم والحكم-
المدينة المنورة، ط/الأولى ١٩٩٧ م.
(٣) الإتقان في علوم القرآن، جلال
الدين السيوطي ص ٤٣٥، تحقيق: سعيد المندوب، دار الفكر- لبنان ١٤١٦ هـ - ١٩٩٦
م.
(٤) كتاب الكليات لأبي البقاء أيوب بن موسى الكفومي ص ٢٦٠، تحقيق:
عدنان درويش، ومحمد المصري، مؤسسة الرسالة - بيروت- ط/ ١٤١٩ هـ.
(٥)
محمد بن يوسف بن علي بن يوسف بن حيّان، الإمام أثير الدين الأندلسي الغرناطي،
النّفزي، نحويّ عصره ولغويّه ومفسّره، ولد بمطخشارس، مدينة من حاضرة غرناطة سنة
أربع وخمسين، وستمائة للهجرة، من تصانيفه: البحر المحيط في التفسير، وغيره، توفى
سنة خمس وأربعين وسبعمائة، انظر: معجم الشيوخ، تاج الدين عبد الوهاب بن علي
السبكي ص ٤٧٢، تخريج: شمس الدين أبي عبد الله ابن سعد الصالحي الحنبلي، تحقيق:
الدكتور بشار عواد- رائد يوسف العنبكي- مصطفى إسماعيل الأعظمي، دار الغرب
الإسلامي، ط/ الأولى ٢٠٠٤ م.
(٦) البحر المحيط، محمد بن يوسف أبوحيان
الأندلسي ١/ ١٢١، تحقيق: الشيخ عادل أحمد عبد الموجود والشيخ علي معوض، دار الكتب
العلمية، لبنان - بيروت، ط/الأولى ١٤٢٢ هـ-٢٠٠١ م.
والظاهر أن أبا
حيان أورد نفس التعريف الذي سبقه، بدون زيادة، ثم قام بشرحه فقال: "فقولنا: علم
هو جنس يشمل سائر العلوم، وقولنا: يبحث فيه عن كيفية النطق بألفاظ القرآن هذا هو
علم القراءات، وقولنا: ومدلولاتها أي مدلولات تلك الألفاظ، وهذا هو علم اللغة
الذي يحتاج إليه في هذا العلم، وقولنا: وأحكامها الإفرادية، والتركيبية هذا يشمل
علم التصريف، وعلم الإعراب، وعلم البيان، وعلم البديع، وقولنا: ومعانيها التي
تحمل بها حالة التركيب: شمل بقوله التي تحمل عليها ما دلالته عليه بالحقيقة، وما
دلالته عليه بالمجاز، فإن التركيب قد يقضي بظاهره شيئاً، ويصد عن الحمل على
الظاهر صاد فيحتاج لأجل ذلك أن يحمل على الظاهر وهو المجاز، وقولنا: وتتمات لذلك،
هو معرفة النسخ، وسبب النزول وقصة توضح بعض ما انبهم في القرآن ونحو ذلك" [١].
وخلاصة
القول في تعريف التفسير اصطلاحاً: أنه علم يفهم به مراد الله في كتابه المنزل على
محمد -صلى الله عليه وسلم- من بيان لمعانيه، واستخراجٍ للحِكَم والأَحكَام عبر
علوم وضوابط حددها العلماء سيأتي بيانها في أنواع التفسير.
وهذا
التعريف تحاشى فيه الباحث من الفهم بدون ضوابط، وعن التكرار الذي انتقدناه في
تعريف الزركشي، وذِكْرِ جانبِ الفهم والبيان للألفاظ والتراكيب الذي أغفله
السيوطي، وذكر العلوم والضوابط التي حددها العلماء إيضاحاً للتعريفين الأخيرين،
والله أعلم.